الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن10%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219909 / تحميل: 7012
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

الآيات

( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦) )

التّفسير

يجب الحزم في ساحة الحرب :

كما قلنا سائقا ، فإنّ الآيات السابقة كانت مقدمة لتهيئة المسلمين من أجل إصدار أمر حربي مهم ذكر في الآيات مورد البحث ، فتقول الآية :( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ ) (١) .

__________________

(١) «ضرب» مصدر مفعول مطلق لفعل مقدر ، والتقدير : اضربوا ضرب الرقاب ، كما صرّحت الآية (١٢) من سورة الأنفال بذلك إذ قالت :( فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ ) .

٣٢١

من البديهي أن «ضرب الرقاب» كناية عن القتل ، وعلى هذا فلا ضرورة لأن يبذل المقاتلون قصارى جهدهم لأداء هذا الأمر بالخصوص ، فإنّ الهدف هو دحر العدو والقضاء عليه ، ولما كان ضرب الرقاب أوضح مصداق له ، فقد أكّدت الآية عليه.

وعلى أية حال ، فإنّ هذا الحكم مرتبط بساحة القتال ، لأنّ «لقيتم» ـ من مادة اللقاء ـ تعني الحرب والقتال في مثل هذه الموارد ، وفي نفس هذه الآية قرائن عديدة تشهد لهذا المعنى كمسألة أسر الأسرى ، ولفظة الحرب ، والشهادة في سبيل الله ، والتي وردت في ذيل الآية.

وخلاصة القول : إنّ اللقاء يستعمل ـ أحيانا ـ بمعنى اللقاء بأي شكل كان ، وأحيانا بمعنى المواجهة والمجابهة في ميدان الحرب ، واستعمل في القرآن المجيد بكلا المعنيين ، والآية مورد البحث ناظرة إلى المعنى الثّاني.

ومن هنا يتّضح أنّ أولئك الذين حوّروا هذه الآية وفسّروها بأنّ الإسلام يقول : حيثما وجدتم كافرا فاقتلوه ، لم يريدوا إلّا الإساءة إلى الإسلام ، واتخاذ الآية بمعناها المحرّف حربة ضد الدين الحنيف ، محاولة منهم لتشويه صورة الإسلام الناصعة ، وإلّا فإنّ الآية صريحة في اللقاء في ساحة الحرب وميدان القتال.

من البديهي أنّ الإنسان إذا واجه عدوا شرسا في ميدان القتال ، ولم يقابله بحزم ولم يكل له الضربات القاصمة ولم يذقه حرّ سيفه ليهلكه ، فإنّه هو الذي سيهلك ، وهذا القانون منطقي تماما.

ثمّ تضيف الآية :( حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ ) .

«أثخنتموهم» من مادة ثخن ، بمعنى الغلظة والصلابة ، ولهذا تطلق على النصر والغلبة الواضحة ، والسيطرة الكاملة على العدو.

وبالرغم من أنّ أغلب المفسّرين فسّروا هذه الجملة بكثرة القتل في العدو وشدّته ، إلّا أنّ هذا المعنى لا يوجد في أصلها اللغوي ، كما قلنا ، ولكن لمّا كان دفع

٣٢٢

خطر العدو غير ممكن أحيانا إلّا بكثرة القتل فيه ، فيمكن أن تكون مسألة القتل أحد مصاديق هذه الجملة في مثل هذه الظروف ، لا أنّها معناها الأصلي(١) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ الآية المذكورة تبيّن تعليما عسكريا دقيقا ، وهو أنّه يجب أن لا يقدم على أسر الأسرى قبل تحطيم صفوف العدو والقضاء على آخر حصن لمقاومته ، لأنّ الإقدام على الأسر قد يكون سببا في تزلزل وضع المسلمين في الحرب ، وسيعوق المسلمين الاهتمام بأمر الأسرى ونقلهم إلى خلف الجبهات عن أداء واجبهم الأساسي.

وعبارة( فَشُدُّوا الْوَثاقَ ) وبملاحظة أنّ الوثاق هو الحبل ، أو كلّ ما يربط به ، يشير الى إتقان العمل في شدّ وثاق الأسرى ، لئلا يستغل الأسير فرصة يفر فيها ، ثمّ يوجّه ضربة إلى الإسلام والمسلمين.

وتبيّن الجملة التالية حكم أسرى الحرب الذي يجب أن يقام بحقّهم بعد انتهاء الحرب ، فتقول :( فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً ) وعلى هذا لا يمكن قتل الأسير الحربي بعد انتهاء الحرب ، بل إنّ ولي أمر المسلمين ـ طبقا للمصلحة التي يراها ـ يطلق سراحهم مقابل عوض أحيانا ، وبلا عوض أحيانا أخرى ، وهذا العوض ـ في الحقيقة ـ نوع من الغرامة الحربية التي يجب أن يدفعها العدو.

طبعا يوجد حكم ثالث في الإسلام فيما يتعلق بهذا الموضوع ، وهو استعباد الأسرى ، إلّا أنّه ليس أمرا واجبا ، بل هو راجع إلى ولي أمر المسلمين ينفّذه عند ما يراه ضرورة في ظروف خاصة ، ولعلّه لم يرد في القرآن بصراحة لهذا السبب ، بل بيّنته الرّوايات الإسلامية فقط.

يقول فقيهنا المعروف «الفاضل المقداد» في «كنز العرفان» : إنّ ما روي عن مذهب أهل البيتعليهم‌السلام أنّ الأسير لو أسر بعد انتهاء الحرب فإنّ إمام المسلمين مخيّر بين ثلاث : إمّا إطلاقه دون شرط ، أو تحريره مقابل أخذ الفدية ، أو جعله

__________________

(١) ينقل صاحب لسان العرب عن ابن الأعرابي أنّ : أثخن : إذا غلب وقهر.

٣٢٣

عبدا ، ولا يجوز قتله بأي وجه.

ويقول في موضع آخر من كلامه : إنّ مسألة الرق استفيدت من الروايات ، لا من متن الآية(١) .

وقد وردت هذه المسألة في سائر الكتب الفقهية أيضا(٢) .

وسنشير إلى هذا المطلب في بحث الرق الذي سيأتي في ذيل هذه الآيات.

ثمّ تضيف الآية بعد ذلك :( حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ) (٣) فلا تكفوا عن القتال حتى تحطّموا قوى العدو ويصبح عاجزا عن مواجهتكم ، وعندها سيخمد لهيب الحرب.

«الأوزار» جمع وزر ، وهو الحمل الثقيل ، ويطلق أحيانا على المعاصي ، لأنّها تثقل كاهل صاحبها.

والطريف أنّ هذه الأوزار نسبت إلى الحرب في الآية ، إذ تقول :( حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ) وهذه الأحمال الثقيلة كناية عن أنواع الأسلحة والمشاكل الملقاة على عاتق المقاتلين ، والتي يواجهونها ، وهي بعهدتهم ما كانت الحرب قائمة.

لكن متى تنتهي الحرب بين الإسلام والكفر؟

سؤال أجاب عنه المفسّرون إجابات مختلفة :

فالبعض ـ كابن عباس ـ قال : حتى لا تبقى وثنية على وجه البسيطة ، وحتى يقتلع دين الشرك وتجتث جذوره.

وقال البعض الآخر : إنّ الحرب بين الإسلام والكفر قائمة حتى ينتصر المسلمون على الدجال ، وهذا القول يستند إلى حديث روي عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «والجهاد ماض مذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمّتي

__________________

(١) كنز العرفان ، المجلد ١ ، صفحة ٣٦٥.

(٢) الشرائع ، كتاب الجهاد. شرح اللمعة ، أحكام الغنيمة.

(٣) «حتى» غاية لـ (فضرب الرقاب). واحتملت احتمالات أخرى لا تستحق الاهتمام.

٣٢٤

الدجال»(١) .

البحث حول «الدجّال» بحث واسع ، لكن القدر المعلوم أنّ الدجّال رجل خدّاع ، أو رجال خدّاعون ينشطون في آخر الزمان من أجل إضلال الناس عن أصل التوحيد والحق والعدالة ، وسيقضي عليهم المهدي (عج) بقدرته العظيمة ، وعلى هذا فإنّ الحرب قائمة بين الحق والباطل ما عاش الدجّالون على وجه الأرض.

إنّ للإسلام نوعين من المحاربة مع الكفر : أحدهما الحروب المرحلية كالغزوات التي غزاها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث كانت السيوف تغمد بعد انتهاء كل غزوة. والآخر هو الحرب المستمرة ضد الشرك والكفر ، والظلم والفساد ، وهذا النوع مستمر حتى زمن اتساع حكومة العدل العالمية ، وظهورها على الأرض جميعا على يد المهدي (عج).

ثمّ تضيف الآية :( ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ ) (٢) بالصواعق السماوية ، والزلازل ، والعواصف ، والابتلاءات الأخرى ، لكن باب الاختبار وميدانه سيغلق في هذه الصورة :( وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ) .

هذه المسألة هي فلسفة الحرب ، والنكتة الأساسية في صراع الحق والباطل ، ففي هذه الحروب ستتميز صفوف المؤمنين الحقيقيين والعاملين من أجل دينهم عن المتكلمين في المجالس المتخاذلين في ساعة العسرة ، وبذلك ستتفتح براعم الاستعدادات ، وتحيا قوّة الاستقامة والرجولة ، ويتحقق الهدف الأصلي للحياة الدنيا ، وهو الابتلاء وتنمية قوّة الإيمان والقيم الإنسانية الأخرى.

إذا كان المؤمنون يتوقعون على ذواتهم وينشغلون بالحياة اليومية الرتيبة ، وفي كل مرة تطغى فيها جماعة من المشركين والظالمين يدحضهم الله سبحانه بالقوى الغيبية ، ويدمّرهم بالطرق الإعجازية ، فإنّ المجتمع سيكون خاملا ضعيفا

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ٩٨.

(٢) «ذلك» خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير : الأمر كذلك.

٣٢٥

عاجزا ، ليس له من الإسلام والإيمان إلّا اسمه.

وخلاصة القول : إنّ الله سبحانه غني عن سعينا وجهادنا من أجل تثبيت دعائم دينه ، بل نحن الذين نتربّى في ميدان جهاد الأعداء ، ونحن الذين نحتاج إلى هذا الجهاد المقدّس.

وقد ذكر هذا المعنى في آيات القرآن الأخرى بصيغ أخرى ، فنقرأ في الآية (١٤٢) من سورة آل عمران :( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) .

وجاء في الآية التي سبقتها :( وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ ) .

وتحدّثت آخر جملة من الآية مورد البحث عن الشهداء الذين قدّموا أرواحهم هدية لدينهم في هذه الحروب ، ولهم فضل كبير على المجتمع الإسلامي ، فقالت :( وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ ) .

فلن تذهب جهودهم وآلامهم وتضحياتهم سدى ، بل كلها محفوظة عند الله سبحانه ، فستبقى آثار تضحياتهم في هذه الدنيا ، وكلّ نداء (لا إله إلّا الله) يطرق سمع البشر يمثل ثمرة جهود أولئك الشهداء ، وكلّ سجدة يسجدها مسلم بين يدي الله هي من بركات تضحياتهم ، فبمساعيهم تحطّمت قيود المذلّة والعبودية ، وعزّة المسلمين ورفعتهم رهينة ما بذلوه من الأرواح والتضحيات.

هذه هي أحدى مواهب الله في شأن الشهداء.

وهناك ثلاث مواهب أخرى أضيفت في الآيات التالية :

تقول الآية أوّلا :( سَيَهْدِيهِمْ ) إلى المقامات السامية ، والفوز العظيم ، ورضوان الله تعالى.

والأخرى :( يُصْلِحُ بالَهُمْ ) فيهبهم هدوء الروح ، واطمئنان الخاطر ، والنشاط المعنوي والروحي ، والانسجام مع صفاء ملائكة الله ومعنوياتهم ، حيث يجعلهم جلساءهم وندماءهم في مجالس أنسهم ولذّتهم ، ويدعوهم إلى ضيافته في جوار

٣٢٦

رحمته.

والموهبة الأخيرة هي :( وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ ) .

قال بعض المفسّرين : إنّه تعالى لم يبيّن لهم الصفات الكلية للجنّات العلى وروضة الرضوان وحسب ، بل عرف لهم صفات قصورهم في الجنّة وعلاماتها ، بحيث أنّهم عند ما يردون الجنّة يتوجّهون إلى قصورهم مباشرة(١) .

وفسر البعض (عرّفها) بأنّها من مادة «عرف» ـ على زنة فكر ـ وهو العطر الطيب الرائحة ، أي إنّ الله سبحانه سيدخلهم الجنّة التي عطّرها جميعا استقبالا لضيوفه.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو هو الأنسب.

وقال البعض : إذا ضممنا هذه الآيات إلى آية :( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً ) (٢) ، سيتّضح أنّ المراد من إصلاح البال إحياؤهم حياة يصلحون بها للحضور عند ربّهم بانكشاف الغطاء(٣) .

* * *

بحوث

١ ـ مقام الشهداء السامي

تمرّ في تأريخ الشعوب أيام تحدق الأخطار فيها بتلك الأمم والشعوب ، ولا يمكن دفع هذه الأخطار والحفاظ على الأهداف المقدّسة العظيمة إلّا بالتضحية والفداء وتقديم القرابين الكثيرة ، وهنا يجب أن يتوجّه المؤمنون المضحّون إلى ساحات القتال ، ليحفظوا دين الحق بسفك دمائهم ، ويسمى هؤلاء الأفراد في

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ٩٨.

(٢) آل عمران ، الآية ١٦٩.

(٣) الميزان ، المجلد ١٨ ، صفحة ٢٤٤.

٣٢٧

منطق الإسلام بـ «الشهداء».

إنّ إطلاق كلمة الشهيد ـ من مادة الشهود ـ على هؤلاء ، إمّا لحضورهم في ميدان الجهاد ضد أعداء الحق ، أو لأنّهم يشاهدون ملائكة الرحمة لحظة شهادتهم ، أو لمشاهدتهم النعم العظيمة التي أعدّت لهم ، أو لحضورهم عند الله ، كما جاء في الآية الشريفة :( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (١) .

وقلّ من يصل إلى درجة الشهيد في الإسلام أولئك الشهداء الذين يذهبون ساحة الحرب بين الحق والباطل عن وعي وخلوص نيّة ، ويقدّمون آخر قطرة من دمائهم الزكية في هذا السبيل.

وتلاحظ في المصادر الإسلامية روايات عجيبة حول مقام الشهداء ، تحكي عظمة عمل الشهداء ، وقيمته الفذّة.

فتقرأ في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ فوق كلّ بر برا حتى يقتل الرجل شهيدا في سبيل الله»(٢) .

وجاء في حديث آخر روي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «المجاهدون في الله قوّاد أهل الجنّة»(٣) .

ونطالع في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام : «ما من قطرة أحبّ إلى الله من قطرة دم في سبيل الله ، أو قطرة من دموع عين في سواد الليل من خشية الله ، وما من قدم أحبّ إلى الله من خطوة إلى ذي رحم ، أو خطوة يتمّ بها زحفا في سبيل الله»(٤) .

وإذا قلبنا أوراق تأريخ الإسلام ، فسنرى الشهداء قد سجّلوا القسم الأعظم من الافتخارات ، وهم الذين قدّموا القسط الأوفر من الخدمة.

__________________

(١) آل عمران ، الآية ١٦٩.

(٢) بحار الأنوار ، المجلد ١٠٠ ، صفحة ١٥.

(٣) المصدر السابق.

(٤) بحار الأنوار ، المجلد ١٠٠ ، صفحة ١٤.

٣٢٨

وليس هذا في الأمس فقط ، فإنّ ثقافة الشهادة المصيرية اليوم ترعب العدو أيضا ، وتمزّق صفوفه ، وتمنعه من النفوذ إلى حصون الإسلام ، وتزرع اليأس في نفسه من إمكان تخطّيها ، فما أكثر بركة ثقافة الشهادة للمسلمين ، وما أشدّها على أعداء الدين.

لكن ، لا شكّ أنّ الشهادة ليست هدفا ، بل الهدف هو الإنتصار على العدو ، وحراسة دين الله والحفاظ عليه ، إلّا أنّ هؤلاء الحراس على دينهم يجب أن يكونوا على أهبّة الاستعداد ، بحيث إذا احتاج الحال بذل النفوس والدماء فإنّهم لا يتأخّرون عن بذلها ، بل يبادرون إلى البذل والتضحية والإيثار ، وهذا هو معنى كون الأمّة منجبة للشهداء ، لا أنّهم يطلبون الشهادة كهدف نهائي.

لهذا نقرأ في نهاية حديث مفصل روي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شأن مقام الشهداء أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقسم وقال : «والذي نفسي بيده ، لو كان الأنبياء في طريقهم لترجلوا لهم لمّا يرون من بهائهم ، ويشفع الرجل منهم في سبعين ألفا من أهل بيته وجيرته»(١) .

وهناك نكتة تستحق الاهتمام ، وهي أنّ للشهادة في ثقافة الإسلام معنيين مختلفين : معنى «خاص» ، وآخر «عام» واسع.

أمّا الخاص فهو القتل في سبيل الله في معركة الجهاد ، وله أحكامه الخاصة في الفقه الإسلامي ، ومن جملتها أنّ الشهيد لا يغسل ولا يكفن ، بل يدفن بثيابه ودمائه إذا توفي في ميدان المعركة!!

أمّا المعنى العام الواسع للشهادة ، فهو أن يقتل الإنسان في طريق تأدية الواجب الإلهي ، فإنّ كلّ من يرحل عن الدنيا وهو في حالة أداء هذا الواجب يعد شهيدا ، ولذلك ورد في الروايات الإسلامية أنّ عدة فئات يغادرون الدنيا وهم شهداء :

١ ـ روي عن نبي الإسلام الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا جاء الموت طالب العلم وهو على

٣٢٩

هذا الحال مات شهيدا»(١) .

٢ ـ يقول أمير المؤمنين عليعليه‌السلام : «من مات على فراشه وهو على معرفة حق ربّه ، وحق رسوله وأهل بيته ، مات شهيدا»(٢) .

٣ ـ نقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «من قتل دون ماله فهو شهيد»(٣) .

وكذلك آخرون يقتلون في طريق الحق ، أو يموتون فيه ، ومن هنا تتّضح عظمة ثقافة الإسلام هذه ، ومدى سعتها.

وننهي هذا البحث بحديث عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ، عن آبائه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أوّل من يدخل الجنّة الشهيد»(٤) .

٢ ـ أهداف القتال في الإسلام

إنّ القتال لا يعتبر في الإسلام قيمة من القيم ، بل يعتبر ضد القيم من جهة كونه باعثا على الخراب والتدمير ، وإزهاق الأنفس ، وإهدار القوى والإمكانيات التي يمكن أن تسخّر لخدمة الإنسان وسعادته ورفاهه ، ولذلك جعل في بعض الآيات القرآنية في مصاف العقوبات الإلهية ، فنرى الآية (٦٥) من سورة الأنعام تقول :( قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) .

فقد اعتبر القتال هنا بمثابة الصاعقة والزلزلة والابتلاءات الأرضية والسماوية ، ولذلك فإنّ الإسلام يمتنع عن القتال والحرب ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

أمّا إذا تعرّض وجود الأمّة للخطر ، أو أنّ أهدافه المقدّسة السامية أصبحت

__________________

(١) سفينة البحار ، المجلد الأول ، مادة شهد.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٠ ، آخر الخطبة.

(٣) سفينة البحار ، المجلد الأول ، مادة شهد.

(٤) بحار الأنوار ، المجلد ٧١ ، صفحة ٢٧٢.

٣٣٠

مهددة بالسقوط ، فإنّ القتال هنا يعتبر قيمة سامية ، ويكتسب عنوان الجهاد في سبيل الله ، ولذلك توجد في الإسلام أنواع من الجهاد : الجهاد الابتدائي ، المحرر للأمم ، والجهاد الدفاعي ، والجهاد من أجل إخماد نار الفتنة والشرك والوثنية ، وقد أوردنا تفصيلها في موضع آخر(١) .

بناء على هذا فإنّ الجهاد الإسلامي على خلاف ما يدّعيه أعداء الإسلام من أنّه يعني فرض العقيدة على الآخرين ، بل إنّ العقيدة المفروضة لا قيمة لها في الإسلام ، لكن الجهاد يتعلق بالموارد التي يشن فيها العدو الحرب ضد الأمّة الإسلامية ، أو عند ما يسلبها الحريات التي منحها الله إيّاها ، أو أنّه يريد أن يهدر حقوقها ويصادرها ، أو أنّ ظالما قد أخذ بأنفاس مظلوم فيجب على المسلمين حينئذ أن يهبوا لنصرة المظلوم ، حتى وإن أدّى الأمر إلى قتال القوم الظالمين.

وقد عكست الآيات السابقة هذا المعنى في عبارة لطيفة وجيزة ، حينما تقول :( ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ ) وعلى هذا فإنّ الحرب هي حرب بين الحق والباطل ، لا أنّها وسيلة لتكوين الدولة ، ومحاولة توسيع رقعتها ، والإغارة على أموال الآخرين ، والتسلّط وإعمال القوة والإرهاب.

ولهذا السبب ـ أيضا ـ قرأنا في الرواية التي أوردناها في تفسير هذه الآيات أنّ نار الحرب لن تخمد في المجتمع الإنساني إلّا بعد القضاء على الدجّالين ، وتطهير الأرض من دنسهم.

وهنا نكتة تستحق الانتباه ، وهي أنّ الإسلام قد أكّد على مسألة التعايش السلمي مع أتباع الأديان السماوية الأخرى ، وقد وردت في الآيات والرّوايات والفقه الإسلامي بحوث مفصلة في هذا الباب تحت عنوان (أحكام أهل الذمّة) فإذا كان الإسلام يؤيّد فرض العقيدة والإكراه عليها ، ويتوسّل بالقوة والسيف من أجل

__________________

(١) التّفسير الأمثل ، ذيل الآية ١٩٣ من سورة البقرة.

٣٣١

تحقيق أهدافه ، فأي معنى إذن لقانون أهل الذمّة والتعايش السلمي؟

٣ ـ أحكام أسرى الحرب

قلنا : يجب على المسلمين أن لا يفكروا في أسر أفراد العدو إلّا بعد هزيمة العدو الكاملة واندحاره التام ، لأنّ هذا التفكير والانشغال بالأسرى قد يتضمّن أخطارا جسيمة.

غير أنّ أسلوب الآيات ـ مورد البحث ـ يدل على وجوب الإقدام على أسر أفراد العدو بعد هزيمته ، فالآية تقول :( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ ) ثمّ تضيف :( حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ ) وعلى هذا يجب أسرهم بدل قتلهم بعد الإنتصار عليهم ، وهو أمر لا بدّ منه ، لأنّ العدو إذا ترك وشأنه فمن الممكن أن ينظم قواه مرّة أخرى ليهجم على المسلمين من جديد.

إلّا أنّ الحال يختلف بعد الأسر ، إذ يكون الأسير أمانة إلهية بيد المسلمين رغم كلّ الجرائم التي ارتكبها ، ويجب أن تراعى فيه حقوق كثيرة.

إنّ القرآن يمجد أولئك الذين آثروا الأسير على أنفسهم ، وقدّموا له طعامهم ، فيقول :( وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ) وهذه الآية ـ طبقا لرواية معروفة ـ نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ، إذ كانوا صائمين وأعطوا إفطارهم لمسكين مرّة وليتيم أخرى ، لأسير ثالثة.

وحتى الأسرى الذين يقتلون بعد الحرب استثناء ، إمّا لكونهم خطرين ، أو لارتكابهم جرائم خاصّة ، فإنّ الإسلام أمر أن يحسن إليهم قبل تنفيذ الحكم بحقّهم ، كما نرى ذلك في حديث عن عليعليه‌السلام : «إطعام الأسير والإحسان إليه حق واجب ، وإنّ قتلته من الغد»(١) .

__________________

(١) وسائل الشيعة ، المجلد ١١ ، صفحة ٦٩.

٣٣٢

والأحاديث في هذا الباب كثيرة(١) ، حتى أنّه ورد في حديث عن الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام أنّه قال : «إذا أخذت أسيرا فعجز عن المشي وليس معك محمل فأرسله ولا تقتله ، فإنّك لا تدري ما حكم الإمام فيه»(٢) .

بل ورد في التأريخ في أحوال أئمة أهل البيتعليهم‌السلام أنّهم كانوا يطعمون الأسرى من نفس الطعام الذي كانوا يتناولونه.

إلّا أنّ حكم الأسير ـ وكما قلنا في تفسير الآيات ـ بعد انتهاء الحرب أحد ثلاثة : إمّا إطلاق سراحه من دون قيد أو شرط ، أو إطلاق سراحه مقابل دفع غرامة مالية هي الفدية ، أو استرقاقه ، واختيار أحد هذه الأمور الثلاثة منوط بنظر إمام المسلمين ، فهو الذي يختار ما يراه الأصلح بعد الأخذ بنظر الإعتبار ظروف الأسرى ، ومصالح الإسلام والمسلمين من الناحية الداخلية والخارجية ، وبعد ذلك يأمر بتنفيذ ما اختاره.

بناء على هذا ، فليس لأخذ الفدية أو الاسترقاق صفة الإلزام والوجوب ، بل هما تابعان للمصالح التي يراها إمام المسلمين ، فإذا لم تكن مصلحة فيهما فله أن يغض النظر عنهما ، ويطلق سراح الأسرى دون طلب الفدية.

وقد بحثنا حول فلسفة أخذ الفدية بصورة مفصلة لدى تفسير الآية ٧٠ من سورة الأنفال.

٤ ـ الرق في الإسلام

بالرغم من أنّ مسألة «استرقاق أسرى الحرب» لم ترد في القرآن المجيد كحكم حتمي ، لكن لا يمكن إنكار ورود أحكام في القرآن فيما يتعلق بالعبيد ، وهي تثبت وجود أصل الرقية حتى في زمان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصدر الإسلام ، كالأحكام المتعلقة

__________________

(١) يراجع فروع الكافي ، المجلد ٥ ، صفحة ٣٥ ، باب الرفق بالأسير وإطعامه.

(٢) المصدر السابق.

٣٣٣

بالزواج من العبيد ، أو كونهم محرما ، أو مسألة المكاتبة (وهي اتفاق يتحرر بموجبه العبد بعد أدائه مبلغا من المال يتفق عليه) وقد وردت هذه الأحكام في آيات عديدة من القرآن في سورة النساء ، النحل ، المؤمنون ، النور ، الروم ، والأحزاب.

وهنا يعترض البعض على الإسلام بأنّه : لماذا لم يلغ هذا الدين الإلهي مسألة الرق تماما مع ما يحتويه من القيم الإنسانية السامية ، ولم يعلن تحرير كلّ العبيد من خلال إصدار حكم قطعي؟!

صحيح أنّ الإسلام أوصى كثيرا بالرقيق ، إلّا أنّ المهم هو تحريرهم بدون قيد شرط ، فلما ذا يكون الإنسان مملوكا لإنسان آخر مثله ، ويفقد الحرية التي هي أعظم عطايا الله سبحانه؟!

الجواب :

يجب القول في جملة موجزة : إنّ للإسلام برنامجا دقيقا مدروسا لتحرير العبيد ، تؤدي نهايته إلى تحرير جميع العبيد تدريجيا ، دون أن يكون لهذه الحرية ردّ فعل سلبي في المجتمع.

وقبل أن نتناول توضيح هذه الخطة الإسلامية الدقيقة ، نرى لزاما ذكر عدة نقاط كمقدمة :

١ ـ الإسلام لم يكن المبتدع للرق مطلقا ، بل إنّه لمّا ظهر كانت مسألة العبودية والرقيق قد عمّت أرجاء العالم ، وكانت معجونة بظلام المجتمعات البشرية وبوجودها ، بل استمرت مسألة الرقيق في كلّ المجتمعات حتى بعد الإسلام أيضا ، وبقيت مستمرة حتى قبل مائة عام حيث بدأت ثورة تحرير الرقيق ، حيث لم تعد مسألة الرقيق مقبولة بشكلها القديم نتيجة اختلاف نظام حياة البشر ، وتغيره عمّا كان عليه.

إنّ إلغاء العبودية بدأ من أوربا ، ثمّ اتسع في سائر الدول ومن جملتها أمريكا

٣٣٤

وآسيا.

لقد استمر الرق في إنجلترا حتى سنة ١٨٤٠ ، وفي فرنسا حتى سنة ١٨٤٨ ، وفي هولندا إلى سنة ١٨٦٣ ، وفي أمريكا إلى سنة ١٨٦٥ ، ثمّ عقد مؤتمر بروكسل فأصدر قرارا بإلغاء الرق في أنحاء العالم ، وكان ذلك سنة ١٨٩٠ ، أي قبل أقل من مائة عام.

٢ ـ تغيير شكل الرق في دنيا اليوم : صحيح أنّ الغربيين كانوا قد سبقوا إلى إلغاء الرق ، إلّا أنّنا عند ما نحقق في المسألة بدقة ، نرى أنّ الرق لم تقتلع جذوره ، بل إنّه تحور من حالة إلى أخرى أخطر وأكثر رعبا ، أي إنّه اتخذ شكل استعمار الشعوب ، واسترقاق المستعمرات ، بحيث كلما ضعف الرق الفردي قوي الاسترقاق الجماعي والاستعمار ، فإنّ الإمبراطورية البريطانية التي كانت سبّاقة إلى إلغاء الرق ، تعتبر السبّاقة أيضا في استعمار الشعوب.

إنّ الجرائم التي ارتكبها المستعمرون الغربيون طوال مدة استعمارهم لم تكن أقل من جرائم مرحلة العبودية ، بل كانت أوسع وأشدّ إجراما.

وحتى بعد تحرر المستعمرات ، فإنّ استعباد الأمم قد استمر ، لأنّ هذه الحرية كانت حرية سياسية ، أمّا الاستعمار الاقتصادي والثقافي فلا يزال حاكما في كثير من المستعمرات التي نالت حريتها ، وغيرها.

وأمّا الدول الشيوعية التي نادت قبل الجميع بإلغاء العبودية ، واتخذتها ذريعة في ثورتها ، فإنّها بالذات مبتلاة بنوع من الاسترقاق العام الذي يندى له الجبين ، فإنّ الشعوب التي تعيش في ظل هذه الدول تكون كالعبيد تماما لا يملكون من أمرهم شيئا ، ويعيّن أعضاء الحزب الشيوعي كلّ مقدراتهم وما يتعلق بشؤون حياتهم ، وإذا ما أبدى أحد وجهة نظر مخالفة فإمّا أن يرسل إلى المخيّمات الإجبارية ، أو يلقى في دهاليز السجون ، وإذا كان من العلماء فإنّه يبعث إلى دار المجانين باعتباره مختل العقل ومصابا بمرض نفسي وعصبي.

٣٣٥

والخلاصة : إنّ الرق لا يتبع الاسم ، فإنّ القبيح والمرفوض هو محتوى الرق ، ونحن نعلم أنّ مفهوم الرق قائم في الدول الاستعمارية والدول الشيوعية بأسوأ أشكاله.

والنتيجة : إنّ إلغاء الرق في العالم كان صوريا ، ولم يكن في الحقيقة إلّا تبديل للصورة والشكل الظاهري.

٣ ـ مصير الرقيق المؤلم في الماضي

لقد كان للرقيق على مرّ التاريخ مصير مؤلم جدّا ، ولنأخذ على سبيل المثال عبيد الرومان ـ باعتبارهم قوما متمدنين ـ كنموذج ، فإنّهم ـ على حدّ قول كاتب «روح القوانين» ـ كانوا تعساء بحيث لم يكونوا عبيدا لفرد ، وإنّما كانوا يعتبرون عبيدا لكل المجتمع ، وكان باستطاعة كلّ شخص أن يعذّب عبده ويؤذيه كما يحلو له دون خوف من القانون. لقد كانت حياة أولئك أسوأ من حياة الحيوانات في الواقع.

لقد كان الكثير من الرقيق يموتون في الفترة بين اصطيادهم من المستعمرات الأفريقية وحتى عرضهم في الأسواق للبيع ، وما تبقى منهم كان يتخذ وسيلة للاستغلال في العمل. وكان تجار العبيد الطامعون لا يعطونهم من الغذاء إلّا ما يبقيهم أحيآء وقادرين على العمل ، أمّا عند كبرهم وعجزهم وابتلائهم بأمراض يصعب علاجها ، فإنّهم كانوا يتركونهم وشأنهم ليسلموا الروح بشكل أليم. ولذلك كان اسم الرق يقترن بسيل من الجرائم المرعبة على مرّ التاريخ.

وباتضاح هذه النكات نعود إلى خطة الإسلام في تحريره العبيد تدريجيا ، ونتناولها بصورة مختصرة.

٤ ـ خطة الإسلام لتحرير العبيد

إنّ ما يغفل عنه غالبا هو أنّ ظاهرة سلبية إذا توغّلت في مفاصل المجتمع ،

٣٣٦

فهناك حاجة إلى فترة زمنية لاقتلاع جذورها ، ولكلّ حركة غير مدروسة ردّ فعل سلبي ، تماما كما إذا ابتلي إنسان بمرض خطير ، وقد استفحل هذا المرض في بدنه ، أو من اعتاد على تناول المخدرات لعشرات السنين حتى تطبع على هذه الطبيعة المستهجنة ، ففي هذه الموارد يجب الاعتماد على برامج زمنية لعلاجه قد تطول وقد تقصر.

ونقول بأسلوب أكثر صراحة : لو أنّ الإسلام كان قد أصدر أمرا عاما بتحرير كل العبيد ، فربّما كان الضرر أكثر ، وقد يهلك منهم عدد أكثر ، لأنّ الرقيق كانوا يشكلون نصف المجتمع أحيانا ، وليس لهم عمل مستقل يتكسبون به ، ولا دار أو ملجأ ، أو وسيلة ما لإدامة الحياة.

إنّ هؤلاء لو تحرّروا في ساعة معينة من يوم معين فستظهر على الساحة فجأة جماعة عظيمة عاطلة عن العمل ، وعندها ستكون حياتهم مهددة وربّما أدّى إلى إرباك نظام المجتمع ، وعند ما يلح عليه الحرمان فسيجد نفسه مضطرا إلى الهجوم على ممتلكات الآخرين ، فتنشب الصراعات والاشتباكات ونزف الدماء.

هنا ندرك الغاية من التحرير التدريجي ، وذلك ليستوعبهم المجتمع ولا يشمئز منهم ، وحينئذ سوف لا تتعرض أرواحهم للخطر ، كما لا يتهدد أمن المجتمع ، وقد اتبع الإسلام هذا البرنامج الدقيق تماما.

إنّ تطبيق وترجمة هذا البرنامج الإنساني على أرض الواقع العملي له قواعد كثيرة نذكر هنا رؤوس نقاطها بصورة موجزة وكفهرس ، أمّا تفصيلها فيحتاج إلى كتاب مستقل :

المادة الأولى : غلق مصادر الرق

لقد كان للرق على طول التاريخ أسباب كثيرة ، فلم يقتصر الاستبعاد على أسرى الحرب ، والمدينين الذين يعجزون عن أداء ديونهم ، حيث كانت القوّة

٣٣٧

والغلبة تبيح الاسترقاق والاستعباد ، بل إنّ الدولة القوية كانت ترسل فرق من جيوشها وهم مدجّجون بأنواع الأسلحة إلى الدول الأفريقية المتخلفة وأمثالها ، ليأسروا شعوب تلك الدول جماعات جماعات ، ثمّ يرسلونهم بواسطة السفن إلى أسواق بلدان آسيا وأوربا.

لقد منع الإسلام كلّ هذه المسائل ، ووقف حائلا دونها ، ولم يبح الاسترقاق إلّا في مورد واحد ، وهو أسرى الحرب ، وحتى هذا لم يكن يتصف بالوجوب والإلزام ، بل إنّ الإسلام قد أجاز ـ وكما قلنا في تفسير الآيات المذكورة ـ إطلاق سراح الأسرى مقابل فدية يؤدّونها تبعا لمصلحة الإسلام والمسلمين.

ولم تكن في تلك الأيام سجون يسجن فيها أسرى الحرب حتى يتبيّن وضعهم وماذا يجب فعله معهم ، بل كان الطريق الوحيد هو تقسيمهم بين العوائل ، والاحتفاظ بهم كرقيق.

من البديهي أنّ هذه الظروف إذا تغيّرت فلا دليل على أنّ إمام المسلمين ملزم بأن يرضى برق الأسرى ، بل هو قادر على تحريرهم إمّا منّا أو فداء ، لأنّ الإسلام خيّر الإمام المسلمين في هذا الأمر ، كي يقدم على اختيار الأصلح من خلال مراعاة المصلحة ، وبهذا فإنّ مصادر الرق الجديدة قد أغلقت في الإسلام.

المادة الثانية : فتح نافذة الحرية

لقد وضع الإسلام برنامجا واسعا لتحرير العبيد ، بحيث أنّ المسلمين لو عملوا بموجبه فإنّ كلّ العبيد كانوا سيتحررون في مدة وجيزة وبصورة تدريجية ، وكان المجتمع سيستوعبهم ويؤمّن لهم ما يحتاجونه من اللوازم الحياتية ، من عمل ومسكن وغير ذلك.

وإليك رؤوس نقاط هذا البرنامج :

٣٣٨

أ ـ إنّ أحد الموارد الثمانية لصرف الزكاة في الإسلام شراء العبيد وعتقهم(١) ، وبهذا فقد خصصت ميزانية دائمية في بيت المال لتنفيذ هذا الأمر ، وهي مستمرة حتى إعتاق العبيد جميعا.

ب ـ ولتكميل هذا المطلب وضع الإسلام أحكاما يستطيع العبيد من خلالها أن يعقدوا اتفاقيات مع مالكيهم ، على أن يؤدّوا إليهم مبلغا من المال يتفق عليه مقابل الحصول على حريتهم. وقد جاء في الفقه الإسلامي فصل في هذا الباب تحت عنوان المكاتبة(٢) .

ج ـ إنّ عتق العبيد يعتبر أحد أهم العبادات والأعمال الصالحة في الإسلام ، وقد كان أئمة أهل البيتعليهم‌السلام من السابقين في هذا المضمار ، حتى كتبوا في أحوال عليعليه‌السلام أنّه أعتق ألف مملوك من كد يده(٣) .

د ـ لقد كان أئمة أهل البيتعليهم‌السلام يعتقون العبيد لأدنى عذر ليكونوا قدوة للآخرين ، حتى أنّ أحد غلمان الإمام الباقرعليه‌السلام عمل عملا صالحا ، فقال له الإمام : «اذهب فأنت حر ، فإنّي أكره أن أستخدم رجلا من أهل الجنّة»(٤) .

وجاء في أحوال الإمام السجاد علي بن الحسينعليه‌السلام ، أنّ جارية كانت تسكب عليه الماء ، فسقط الإبريق من يدها فشجّه ، فرفع رأسه إليها ، فقالت :( وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ ) ، قال : «قد كظمت غيظي» قالت :( وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ ) ، قال : «عفا الله عنك» ، قالت :( وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) قال : «فاذهبي فأنت حرّة لوجه الله»(٥) .

ه ـ ورد في بعض الرّوايات الإسلامية أنّ العبيد يتحرّرون تلقائيا بعد مرور سبع سنين ، ففي رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «من كان مؤمنا فقد عتق بعد سبع سنين ،

__________________

(١) التوبة ، الآية ٦٠.

(٢) كان لنا بحث مفصل حول المكاتبة وأحكامها الرائعة في ذيل الآية (٣٤) من سورة النور.

(٣) بحار الأنوار ، المجلد ٤١ ، صفحة ٤٣.

(٤) الوسائل ، المجلد ١٦ ، صفحة ٣٢.

(٥) نور الثقلين ، المجلد ١ ، ص ٣٩٠.

٣٣٩

أعتقه صاحبه أم لم يعتقه ، ولا يحل خدمة من كان مؤمنا بعد سبع سنين»(١) .

وروي في هذا الباب حديث من النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : «ما زال جبرئيل يوصيني بالمملوك حتى ظننت أنّه سيضرب له أجلا يعتق فيه»(٢) .

و ـ إذا كان العبد مشتركا بين اثنين ، وأعتق أحدهما نصيبه ، وجب عليه شراء نصيب شريكه وأعتقا العبد(٣) .

وإذا أعتق مالك العبد بعضه سرت الحرية إلى باقيه فيعتق جميعه(٤) .

ز ـ إذا ملك إنسان أباه ، أو أمّه ، أو أجداده ، أو أبناءه ، أو عمّه ، أو عمّته ، أو خاله ، أو خالته ، أو أخاه ، أو أخته ، أو ابن أخيه ، أو ابن أخته ، فإنّهم يعتقون فورا.

ح ـ إذا استولد المالك جاريته فلا يجوز بيعها ، وتعتق من سهم ولدها من الميراث. وقد كان هذا الأمر سببا في عتق الكثير من العبيد ، لأنّ الجواري كن بمنزلة زوجات مالكيهن ، وكان لهن أولاد منهم.

ط ـ لقد جعل عتق العبيد كفارة لكثير من الذنوب من الإسلام ، ككفارة القتل الخطأ ، وكفارة ترك الصوم عمدا ، وكفارة اليمين ، وغيرها.

ي ـ إذا عاقب المالك عبده ببعض العقوبات الشديدة ، فإنّ العبد ينعتق تلقائيا(٥) .

المادة الثالثة : إحياء شخصية الرقيق

عند ما كان العبيد يطوون مسيرهم نحو الحرية طبقا لبرنامج الإسلام الدقيق ، أقدم الإسلام على خطوات واسعة لإحياء حقوقهم وشخصيتهم الإنسانية ، حتى أنّه

__________________

(١) وسائل الشيعة ، المجلد ١٦ ، صفحة ٣٦.

(٢) المصدر السابق ، صفحة ٣٧.

(٣) الشرائع ، كتاب العتق ، وسائل الشيعة ، المجلد ١٦ ، صفحة ٢١.

(٤) الشرائع ، كتاب العتق.

(٥) وسائل الشيعة ، المجلد ١٦ ، صفحة ٢٦.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

( سورة الكوثر مكّيّة و هي ثلاث آيات)

( سورة الكوثر الآيات ١ - ٣)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ( ١ ) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ( ٢ ) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ( ٣ )

( بيان‏)

امتنان على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإعطائه الكوثر و تطييب لنفسه الشريفة بأنّ شانئه هو الأبتر، و هي أقصر سورة في القرآن و قد اختلفت الروايات في كون السورة مكّيّة أو مدنيّة، و الظاهر أنّها مكّيّة، و ذكر بعضهم أنّها نزلت مرّتين جمعاً بين الروايات.

قوله تعالى: ( إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ) قال في المجمع، الكوثر فوعل و هو الشي‏ء الّذي من شأنه الكثرة، و الكوثر الخير الكثير، انتهى.

و قد اختلفت أقوالهم في تفسير الكوثر اختلافاً عجيباً فقيل: هو الخير الكثير، و قيل نهر في الجنّة، و قيل: حوض النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجنّة أو في المحشر، و قيل: أولاده و قيل: أصحابه و أشياعهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى يوم القيامة، و قيل: علماء اُمّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قيل القرآن و فضائله كثيرة، و قيل النبوّة و قيل: تيسير القرآن و تخفيف الشرائع و قيل: الإسلام و قيل التوحيد، و قيل: العلم و الحكمة، و قيل: فضائلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قيل المقام المحمود، و قيل: هو نور قلبهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى غير ذلك ممّا قيل، و قد نقل عن بعضهم أنّه أنهى الأقوال إلى ستّة و عشرين.

و قد استند في القولين الأوّلين إلى بعض الروايات، و باقي الأقوال لا تخلو من تحكّم و كيفما كان فقوله في آخر السورة:( إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) - و ظاهر الأبتر هو المنقطع نسله و ظاهر الجملة أنّها من قبيل قصر القلب - أنّ كثرة ذرّيّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي

٥٢١

المرادة وحدها بالكوثر الّذي اُعطيه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو المراد بها الخير الكثير و كثرة الذرّيّة مرادة في ضمن الخير الكثير و لو لا ذلك لكان تحقيق الكلام بقوله:( إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) خالياً عن الفائدة.

و قد استفاضت الروايات أنّ السورة إنّما نزلت فيمن عابهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالبتر بعد ما مات ابناه القاسم و عبدالله، و بذلك يندفع ما قيل: إنّ مراد الشانئ بقوله:( الْأَبْتَرُ ) المنقطع عن قومه أو المنقطع عن الخير فردّ الله عليه بأنّه هو المنقطع من كلّ خير.

و لما في قوله:( إِنَّا أَعْطَيْناكَ ) من الامتنان عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جي‏ء بلفظ المتكلّم مع الغير الدالّ على العظمة، و لما فيه من تطييب نفسه الشريفة اُكّدت الجملة بإنّ و عبّر بلفظ الإعطاء الظاهر في التمليك.

و الجملة لا تخلو من دلالة على أنّ ولد فاطمةعليها‌السلام ذرّيّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و هذا في نفسه من ملاحم القرآن الكريم فقد كثّر الله تعالى نسله بعده كثرة لا يعادلهم فيها أيّ نسل آخر مع ما نزل عليهم من النوائب و أفنى جموعهم من المقاتل الذريعة.

قوله تعالى: ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ ) ظاهر السياق في تفريع الأمر بالصلاة و النحر على الامتنان في قوله:( إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ) أنّه من شكر النعمة و المعنى إذا مننّا عليك بإعطاء الكوثر فاشكر لهذه النعمة بالصلاة و النحر.

و المراد بالنحر على ما رواه الفريقان عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عن عليّعليه‌السلام و روته الشيعة عن الصادقعليه‌السلام و غيره من الأئمّة هو رفع اليدين في تكبير الصلاة إلى النحر.

و قيل: معنى الآية صلّ لربّك صلاة العيد و انحر البدن، و قيل: يعني صلّ لربّك و استو قائماً عند رفع رأسك من الركوع و قيل غير ذلك.

قوله تعالى: ( إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) الشانئ هو المبغض و الأبتر من لا عقب له و هذا الشانئ هو العاص بن وائل.

و قيل: المراد بالأبتر المنقطع عن الخير أو المنقطع عن قومه، و قد عرفت أنّ

٥٢٢

روايات سبب نزول السورة لا تلائمه و ستجي‏ء.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج البخاريّ و ابن جرير و الحاكم من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس أنّه قال: الكوثر الخير الّذي أعطاه إيّاه قال أبوبشر قلت لسعيد بن جبير فإنّ ناساً يزعمون أنّه نهر في الجنّة قال: النهر الّذي في الجنّة من الخير الّذي أعطاه الله إيّاه.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و الحاكم و ابن مردويه و البيهقيّ في سننه عن عليّ بن أبي طالب قال: لمّا نزلت هذه السورة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ) قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجبريل: ما هذه النحيرة الّتي أمرني بها ربّي؟ قال: إنّها ليست بنحيرة و لكن يأمرك إذا تحرّمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبّرت و إذا ركعت و إذا رفعت رأسك من الركوع فإنّها صلاتنا و صلاة الملائكة الّذين في السماوات السبع، و إنّ لكلّ شي‏ء زينة و زينة الصلاة رفع اليدين عند كلّ تكبيرة.

قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رفع اليدين من الاستكانة الّتي قال الله:( فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَ ما يَتَضَرَّعُونَ‏ ) .

أقول: و رواه في المجمع، عن المقاتل عن الأصبغ بن نباتة عنهعليه‌السلام ثمّ قال: أورده الثعلبيّ و الواحديّ في تفسيرهما، و قال أيضاً: إنّ جميع عترته الطاهرة رووا عنهعليه‌السلام : أنّ معنى النحر رفع اليدين إلى النحر في الصلاة.

و فيه، أخرج ابن جرير عن أبي جعفر في قوله:( فَصَلِّ لِرَبِّكَ ) قال: الصلاة( وَ انْحَرْ ) قال يرفع يديه أوّل ما يكبّر في الافتتاح.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله:( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ ) قال: إنّ الله أوحى إلى رسوله أن ارفع يديك حذاء نحرك إذا كبّرت للصلاة فذاك النحر.

٥٢٣

و في المجمع، في الآية عن عمر بن يزيد قال سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول في قوله:( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ ) هو رفع يديك حذاء وجهك.

أقول: ثمّ قال: و روى عنه عبدالله بن سنان مثله، و روي أيضاً قريباً منه عن جميل عنهعليه‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن سعد و ابن عساكر من طريق الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عبّاس قال: كان أكبر ولد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القاسم ثمّ زينب ثمّ عبدالله ثمّ اُمّ كلثوم ثمّ فاطمة ثمّ رقيّة فمات القاسم و هو أوّل ميّت من ولده بمكّة ثمّ مات عبدالله فقال العاص بن وائل السهميّ قد انقطع نسله فهو أبتر فأنزل الله( إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) .

و فيه، أخرج الزبير بن بكار و ابن عساكر عن جعفر بن محمّد عن أبيه قال: توفّي القاسم بن رسول الله بمكّة فمرّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو آت من جنازته على العاص بن وائل و ابنه عمرو فقال حين رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي لأشنؤه فقال العاص بن وائل: لا جرم لقد أصبح أبتر فأنزل الله( إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) .

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدّيّ قال: كانت قريش تقول - إذا مات ذكور الرجل - بتر فلان فلمّا مات ولد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال العاص بن وائل: بتر و الأبتر الفرد.

أقول: و في بعض الآثار أنّ الشانئ هو الوليد بن المغيرة، و في بعضها أبوجهل و في بعضها عقبة بن أبي معيط، و في بعضها كعب بن الأشرف، و المعتمد ما تقدّم.

و يؤيّده ما في الاحتجاج الطبرسيّ، عن الحسن بن عليّعليهما‌السلام : في حديث يخاطب فيه عمرو بن العاصي: و إنّك ولدت على فراش مشترك فتحاكمت فيك رجال قريش منهم أبوسفيان بن حرب و الوليد بن المغيرة و عثمان بن الحارث و النضر بن الحارث بن كلدة و العاص بن وائل كلّهم يزعم أنّك ابنه فغلبهم عليك من بين قريش ألأمهم حسباً

٥٢٤

و أخبثهم منصباً و أعظمهم بغية.

ثمّ قمت خطيباً و قلت: أنا شانئ محمّد و قال العاص بن وائل: إنّ محمّداً رجل أبتر لا ولد له قد مات انقطع ذكره فأنزل الله تبارك و تعالى:( إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) . الحديث.

و في تفسير القمّيّ:( إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ) قال: الكوثر نهر في الجنّة أعطى الله محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عوضاً عن ابنه إبراهيم.

أقول: الخبر على إرساله و إضماره معارض لسائر الروايات و تفسير الكوثر بنهر في الجنّة لا ينافي التفسير بالخير الكثير كما تقدّم في خبر ابن جبير.

٥٢٥

( سورة الكافرون مكّيّة و هي ست آيات)

( سورة الكافرون الآيات ١ - ٦)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ( ١ ) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ( ٢ ) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ( ٣ ) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ( ٤ ) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ( ٥ ) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ( ٦ )

( بيان‏)

فيها أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يظهر للكفّار براءته من دينهم و يخبرهم بامتناعهم من دينه فلا دينه يتعدّاه إليهم و لا دينهم يتعدّاهم إليه فلا يعبد ما يعبدون أبداً و لا يعبدون ما يعبد أبداً فلييأسوا من أيّ نوع من المداهنة و المساهلة.

و اختلفوا في كون السورة مكّيّة أو مدنيّة، و الظاهر من سياقها أنّها مكّيّة.

قوله تعالى: ( قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ) الظاهر أنّ هؤلاء قوم معهودون لا كلّ كافر و يدلّ على ذلك أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخاطبهم ببراءته من دينهم و امتناعهم من دينه.

قوله تعالى: ( لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ) الآية إلى آخر السورة مقول القول، و المراد بما تعبدون الأصنام الّتي كانوا يعبدونها، و مفعول( تَعْبُدُونَ ) ضمير راجع إلى الموصول محذوف لدلالة الكلام عليه و لرعاية الفواصل، و كذا مفاعيل الأفعال التالية:( أَعْبُدُ ) و( عَبَدْتُّمْ ) و( أَعْبُدُ ) .

و قوله:( لا أَعْبُدُ ) نفي استقباليّ فإنّ( لا ) لنفي الاستقبال كما أنّ( ما ) لنفي الحال، و المعنى لا أعبد أبداً ما تعبدونه اليوم من الأصنام.

٥٢٦

قوله تعالى: ( وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ ) نفي استقباليّ أيضاً لعبادتهم ما يعبدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو إخبار عن امتناعهم عن الدخول في دين التوحيد في مستقبل الأمر.

و بانضمام الأمر الّذي في مفتتح الكلام تفيد الآيتان أنّ الله سبحانه أمرني بالدوام على عبادته و أن اُخبركم أنّكم لا تعبدونه أبداً فلا يقع بيني و بينكم اشتراك في الدين أبداً.

فالآية في معنى قوله تعالى:( لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى‏ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) يس: ٧، و قوله:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) البقرة: ٦.

و كان من حقّ الكلام أن يقال: و لا أنتم عابدون من أعبد. لكن قيل: ما أعبد ليطابق ما في قوله:( لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ) .

قوله تعالى: ( وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ ) تكرار لمضمون الجملتين السابقتين لزيادة التأكيد، كقوله:( كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) التكاثر: ٤ و قوله:( فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ) المدّثّر: ٢٠.

و قيل: إنّ( ما ) في( ما عَبَدْتُّمْ ) و( ما أَعْبُدُ ) مصدرية لا موصولة و المعنى و لا أنا عابد عبادتكم و لا أنتم عابدون عبادتي أي لا اُشارككم و لا تشاركونني لا في المعبود و لا في العبادة فمعبودي هو الله و معبودكم الوثن و عبادتي ما شرعه الله لي و عبادتكم ما ابتدعتموه جهلاً و افتراء، و على هذا فالآيتان غير مسوقتين للتأكيد، و لا يخلو من بعد و سيأتي في البحث الروائيّ التالي وجه آخر للتكرار لطيف.

قوله تعالى: ( لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ ) تأكيد بحسب المعنى لما تقدّم من نفي الاشتراك، و اللّام للاختصاص أي دينكم و هو عبادة الأصنام يختصّ بكم و لا يتعدّاكم إليّ و ديني يختصّ بي و لا يتعدّاني إليكم و لا محلّ لتوهّم دلالة الآية على إباحة أخذ كلّ بما يرتضيه من الدين و لا أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يتعرض لدينهم بعد ذلك فالدعوة الحقّة الّتي يتضمّنها القرآن تدفع ذلك أساساً.

٥٢٧

و قيل: الدين في الآية بمعنى الجزاء و المعنى لكم جزاؤكم و لي جزائي، و قيل: إنّ هناك مضافاً محذوفاً و التقدير لكم جزاء دينكم و لي جزاء ديني، و الوجهان بعيدان عن الفهم.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن الأنباريّ في المصاحف عن سعيد بن ميناء مولى أبي البختريّ قال: لقي الوليد بن المغيرة و العاص بن وائل و الأسود بن المطّلب و اُميّة بن خلف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: يا محمّد هلمّ فلنعبد ما تعبد و تعبد ما نعبد و لنشترك نحن و أنت في أمرنا كلّه فإن كان الّذي نحن عليه أصحّ من الّذي أنت عليه كنت قد أخذت منه حظاً و إن كان الّذي أنت عليه أصحّ من الّذي نحن عليه كنّا قد أخذنا منه حظاً فأنزل الله( قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ) حتّى انقضت السورة.

أقول: و روى الشيخ في الأمالي، بإسناده عن ميناء عن غير واحد من أصحابه قريباً منه.

و في تفسير القمّيّ، عن أبيه عن ابن أبي عمير قال: سأل أبوشاكر أباجعفر الأحول عن قول الله:( قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ ) فهل يتكلّم الحكيم بمثل هذا القول، و يكرّر مرّة بعد مرّة؟ فلم يكن عند أبي جعفر الأحول في ذلك جواب.

فدخل المدينة فسأل أباعبداللهعليه‌السلام عن ذلك فقال: كان سبب نزولها و تكرارها أنّ قريشاً قالت لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تعبد آلهتنا سنة و نعبد إلهك سنة و تعبد آلهتنا سنة و نعبد إلهك سنة فأجابهم الله بمثل ما قالوا فقال فيما قالوا: تعبد آلهتنا سنة:( قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ) ، و فيما قالوا: نعبد إلهك سنة:( وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ

٥٢٨

ما أَعْبُدُ ) ، و فيما قالوا: تعبد آلهتنا سنة:( وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ ) و فيما قالوا: نعبد إلهك سنة:( وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ ) .

قال: فرجع أبو جعفر الأحول إلى أبي شاكر فأخبره بذلك فقال أبو شاكر: هذا حملته الإبل من الحجاز.

أقول: مفاد التكرار في كلام قريش الاستمرار على عبادة آلهتهم سنة و عبادة الله تعالى سنة.

٥٢٩

( سورة النصر مدنيّة و هي ثلاث آيات)

( سورة النصر الآيات ١ - ٣)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ( ١ ) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا ( ٢ ) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ( ٣ )

( بيان‏)

وعد لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنصر و الفتح و أنّه سيرى الناس يدخلون في الإسلام فوجاً بعد فوج و أمره بالتسبيح حينئذ و التحميد و الاستغفار، و السورة مدنيّة نزلت بعد صلح الحديبيّة و قبل فتح مكّة على ما سنستظهر.

قوله تعالى: ( إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَ الْفَتْحُ ) ظهور( إذا ) المصدّرة بها الآية في الاستقبال يستدعي أن يكون مضمون الآية إخباراً بتحقّق أمر لم يتحقّق بعد، و إذا كان المخبر به هو النصر و الفتح و ذلك ممّا تقرّ به عين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو وعد جميل و بشرى لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يكون من ملاحم القرآن الكريم.

و ليس المراد بالنصر و الفتح جنسهما حتّى يصدقاً على جميع المواقف الّتي أيّد الله فيها نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أعدائه و أظهر دينه على دينهم كما في حروبه و مغازيه و إيمان الأنصار و أهل اليمن كما قبل إذ لا يلائمه قوله بعد:( وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً ) .

و ليس المراد بذلك أيضاً صلح الحديبيّة الّذي سمّاه الله تعالى فتحاً إذ قال:( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ) الفتح: ١- لعدم انطباق الآية الثانية بمضمونها عليه.

و أوضح ما يقبل الانطباق عليه النصر و الفتح المذكوران في الآية هو فتح مكّة

٥٣٠

الّذي هو اُمّ فتوحاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في زمن حياته و النصر الباهر الّذي انهدم به بنيان الشرك في جزيرة العرب.

و يؤيّده وعد النصر الّذي في الآيات النازلة في الحديبيّة( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَ يَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً ) الفتح: ٣ فإنّ من القريب جدّاً أن يكون ما في الآيات وعداً بنصر عزيز يرتبط بفتح الحديبيّة و هو نصره تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قريش حتّى فتح مكّة بعد مضيّ سنتين من فتح الحديبيّة.

و هذا الّذي ذكر أقرب من حمل الآية على إجابة أهل اليمن الدعوة الحقّة و دخولهم في الإسلام من غير قتال، فالأقرب إلى الاعتبار كون المراد بالنصر و الفتح نصره تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قريش و فتح مكّة، و أن تكون السورة نازلة بعد صلح الحديبيّة و نزول سورة الفتح و قبل فتح مكّة.

قوله تعالى: ( وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً ) قال الراغب: الفوج الجماعة المارّة المسرعة، و جمعه أفواج. انتهى. فمعنى دخول الناس في دين الله أفواجاً دخولهم فيه جماعة بعد جماعة، و المراد بدين الله الإسلام قال تعالى:( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ ) آل عمران: ١٩.

قوله تعالى: ( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً ) لمّا كان هذا النصر و الفتح إذلالاً منه تعالى للشرك و إعزازاً للتوحيد و بعبارة اُخرى إبطالاً للباطل و إحقاقاً للحقّ ناسب من الجهة الاُولى تنزيهه تعالى و تسبيحه، و ناسب من الجهة الثانية - الّتي هي نعمة - الثناء عليه تعالى و حمده فلذلك أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله:( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ) .

و ههنا وجه آخر يوجّه به الأمر بالتسبيح و التحميد و الاستغفار جميعاً و هو أنّ للربّ تعالى على عبده أن يذكره بصفات كماله و يذكر نفسه بما له من النقص و الحاجة و لمّا كان في هذا الفتح فراغهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جلّ ما كان عليه من السعي في إماطة الباطل و قطع دابر الفساد أمر أن يذكره عند ذلك بجلاله و هو التسبيح و جماله

٥٣١

و هو التحميد و أن يذكره بنقص نفسه و حاجته إلى ربّه و هو طلب المغفرة و معناه فيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - و هو مغفور - سؤال إدامة المغفرة فإنّ الحاجة إلى المغفرة بقاء كالحاجة إليها حدوثاً فافهم ذلك، و بذلك يتمّ شكره لربّه تعالى و قد تقدّم(١) كلام في معنى مغفرة الذنب في الأبحاث السابقة.

و قوله:( إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً ) تعليل للأمر بالاستغفار لا يخلو من تشويق و تأكيد.

( بحث روائي‏)

في المجمع، عن مقاتل: لمّا نزلت هذه السورة قرأهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أصحابه ففرحوا و استبشروا و سمعها العبّاس فبكى فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يبكيك يا عمّ؟ قال: أظنّ أنّه قد نعيت إليك نفسك يا رسول الله فقال: إنّه لكما تقول فعاش بعدها سنتين ما رئي بعدها ضاحكاً مستبشراً.

أقول: و روي هذا المعنى في عدّة روايات بألفاظ مختلفة و قيل في وجه دلالتها أنّ سياقها يلوّح إلى فراغهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا عليه من السعي و المجاهدة و تمام أمره، و عند الكمال يرقب الزوال.

و فيه، عن اُمّ سلمة قالت: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالآخرة لا يقوم و لا يقعد و لا يجي‏ء و لا يذهب إلّا قال: سبحان الله و بحمده استغفر الله و أتوب إليه فسألناه عن ذلك فقال: إنّي اُمرت بها ثمّ قرأ( إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَ الْفَتْحُ ) .

أقول: و في هذا المعنى غير واحد من الروايات مع اختلاف مّا فيما كان يقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في العيون، بإسناده إلى الحسين بن خالد قال: قال الرضاعليه‌السلام سمعت أبي يحدّث عن أبيهعليهما‌السلام : إنّ أوّل سورة نزلت( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ) و آخر سورة نزلت( إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ ) .

____________________

(١) في آخر الجزء السادس من الكتاب.

٥٣٢

أقول: لعلّ المراد به أنّها آخر سورة نزلت تامّة كما قيل.

و في المجمع، في قصّة فتح مكّة: لمّا صالح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قريشاً عام الحديبيّة كان في أشراطهم أنّه من أحبّ أن يدخل في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل فيه فدخلت خزاعة في عقد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و دخلت بنو بكر في عقد قريش، و كان بين القبيلتين شرّ قديم.

ثمّ وقعت فيما بعد بين بني بكر و خزاعة مقاتلة و رفدت قريش بني بكر بالسلاح و قاتل معهم من قريش من قاتل باللّيل مستخفياً، و كان ممّن أعان بني بكر على خزاعة بنفسه عكرمة بن أبي جهل و سهيل بن عمرو.

فركب عمرو بن سالم الخزاعيّ حتّى قدم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة و كان ذلك ممّا هاج فتح مكّة فوقف عليه و هو في المسجد بين ظهراني القوم و قال:

لا هم إني ناشد(١) محمدا

حلف أبينا و أبيه الأتلدا(٢)

إن قريشا أخلفوك الموعدا

و نقضوا ميثاقك المؤكدا

و قتلونا ركعا و سجدا

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حسبك يا عمرو ثمّ قام فدخل دار ميمونة و قال: اسكبي لي ماء فجعل يغتسل و هو يقول: لا نصرت إن لم أنصر بني كعب و هم رهط عمرو بن سالم ثمّ خرج بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة حتّى قدموا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبروه بما اُصيب منهم و مظاهرة قريش بني بكر عليهم ثمّ انصرفوا راجعين إلى مكّة و قد كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال للناس: كأنّكم بأبي سفيان قد جاء ليشدّد العقد و يزيد في المدّة و سيلقى بديل بن ورقاء فلقوا أبا سفيان بعسفان و قد بعثته قريش إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليشدّد العقد.

فلمّا لقي أبوسفيان بديلاً قال: من أين أقبلت يا بديل قال: سرت في هذا الساحل و في بطن هذا الوادي قال: ما أتيت محمّداً؟ قال: لا فلمّا راح بديل إلى مكّة قال

____________________

(١) الناشد: الطالب و المذكر.

(٢) الأتلد: القديم.

٥٣٣

أبوسفيان: لئن كان جاء من المدينة لقد علّف بها النوى فعمد إلى مبرك ناقته و أخذ من بعرها ففتّه فرأى فيها النوى فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمّداً.

ثمّ خرج أبوسفيان حتّى قدم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا محمّد احقن دم قومك و أجر بين قريش و زدنا في المدّة فقال: أ غدرتم يا أباسفيان؟ قال: لا فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فنحن على ما كنّا عليه فخرج فلقي أبابكر فقال: أجر بين قريش قال: ويحك و أحد يجير على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ ثمّ لقي عمر بن الخطّاب فقال له مثل ذلك ثمّ خرج فدخل على اُمّ حبيبة فذهب ليجلس على الفراش فأهوت إلى الفراش فطوته فقال: يا بنيّة أ رغبت بهذا الفراش عنّي؟ فقالت: نعم هذا فراش رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كنت لتجلس عليه و أنت رجس مشرك.

ثمّ خرج فدخل على فاطمةعليها‌السلام فقال يا بنت سيّد العرب تجيرين بين قريش و تزيدين في المدّة فتكونين أكرم سيّدة في الناس؟ فقالت: جواري جوار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . قال: أ تأمرين ابنيك أن يجيرا بين الناس؟ قالت: و الله ما بلغ ابناي أن يجيرا بين الناس و ما يجير على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحد فقال: يا أباالحسن إنّي أرى الاُمور قد اشتدّت عليّ فانصحني فقال عليّعليه‌السلام : إنّك شيخ قريش فقم على باب المسجد و أجر بين قريش ثمّ الحقّ بأرضك قال: و ترى ذلك مغنياً عنّي شيئاً؟ قال: لا و الله ما أظنّ ذلك و لكن لا أجد لك غير ذلك فقام أبوسفيان في المسجد فقال: يا أيّها الناس إنّي قد أجرت بين قريش ثمّ ركب بعيره فانطلق.

فلمّا قدم على قريش قالوا: ما وراءك؟ فأخبرهم بالقصّة فقالوا: و الله إن زاد عليّ بن أبي طالب على أن لعب بك فما يغني عنّا ما قلت؟ قال: لا و الله ما وجدت غير ذلك.

قال: فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجهاز لحرب مكّة و أمر الناس بالتهيئة و قال: اللّهمّ خذ العيون و الأخبار عن قريش حتّى نبغتها في بلادها، و كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش فأتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخبر من السماء فبعث علياًعليه‌السلام و الزبير حتّى أخذاً كتابه

٥٣٤

من المرأة و قد مضت هذه القصّة في سورة الممتحنة.

ثمّ استخلف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا ذرّ الغفاريّ و خرج عامداً إلى مكّة لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان في عشرة آلاف من المسلمين و نحو من أربعمائة فارس و لم يتخلّف من المهاجرين و الأنصار عنه أحد.

و قد كان أبوسفيان بن الحارث بن عبدالمطّلب و عبدالله بن اُميّة بن المغيرة قد لقيا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنيق العقاب فيما بين مكّة و المدينة فالتمسا الدخول عليه فلم يأذن لهما فكلّمته اُمّ سلمة فيهما فقالت: يا رسول الله ابن عمّك و ابن عمّتك و صهرك قال لا حاجة لي فيهما أمّا ابن عمّي فهتك عرضي، و أمّا ابن عمّتي و صهري فهو الّذي قال لي بمكّة ما قال فلمّا خرج الخبر إليهما بذلك و مع أبي سفيان بنيّ له قال: و الله ليأذننّ لي أو لآخذنّ بيد بنيّ هذا ثمّ لنذهبنّ في الأرض حتّى نموت عطشاً و جوعاً فلمّا بلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رقّ لهما فأذن لهما فدخلاً عليه فأسلما.

فلمّا نزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ الظهران و قد غمّت الأخبار عن قريش فلا يأتيهم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خبر خرج في تلك الليلة أبوسفيان بن حرب و حكيم بن حزام و بديل بن ورقاء يتجسّسون الأخبار و قد قال العبّاس ليلتئذ: يا سوء صباح قريش و الله لئن بغتها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بلادها فدخل مكّة عنوة أنّه لهلاك قريش إلى آخر الدهر فخرج على بغلة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قال: أخرج إلى الأراك لعلّي أرى حطّاباً أو صاحب لبن أو داخلاً يدخل مكّة فيخبرهم بمكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيأتونه فيستأمنونه.

قال العبّاس فوالله إنّي لأطوف في الأراك ألتمس ما خرجت له إذ سمعت صوت أبي سفيان و حكيم بن حزام و بديل بن ورقاء و سمعت أباسفيان يقول: و الله ما رأيت كالليلة قطّ نيراناً فقال بديل: هذه نيران خزاعة فقال أبوسفيان: خزاعة الأم من ذلك قال: فعرفت صوته فقلت: يا أبا حنظلة يعني أباسفيان فقال: أبوالفضل؟ فقلت: نعم قال: لبّيك فداك أبي و اُمّي ما وراءك؟ فقلت: هذا رسول الله وراءك قد جاء بما لا قبل لكم به بعشرة آلاف من المسلمين.

قال: فما تأمرني؟ قلت: تركب عجز هذه البغلة فاستأمن لك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٥٣٥

فوالله لئن ظفر بك ليضربنّ عنقك فردفني فخرجت أركض به بغلة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكلّما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا: هذا عمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على بغلة رسول الله حتّى مررت بنار عمر بن الخطّاب فقال يعني عمر: يا أباسفيان الحمد لله الّذي أمكن منك بغير عهد و لا عقد ثمّ اشتدّ نحو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ركضت البغلة حتّى اقتحمت باب القبّة و سبقت عمر بما يسبق به الدابّة البطيئة الرجل البطي‏ء.

فدخل عمر فقال: يا رسول الله هذا أبوسفيان عدوّ الله قد أمكن الله منه بغير عهد و لا عقد فدعني أضرب عنقه فقلت: يا رسول الله إنّي قد أجرته ثمّ إنّي جلست إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أخذت برأسه و قلت: و الله لا يناجيه اليوم أحد دوني فلمّا أكثر فيه عمر قلت: مهلاً يا عمر فوالله ما يصنع هذا الرجل إلّا أنّه رجل من آل بني عبد مناف و لو كان من عديّ بن كعب ما قلت هذا قال: مهلاً يا عبّاس لإسلامك يوم أسلمت كان أحبّ إليّ من إسلام الخطاب لو أسلم فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اذهب فقد آمنّاه حتّى تغدو به عليّ في الغداة.

قال: فلمّا أصبح غدوت به على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا رآه قال: ويحك يا أباسفيان أ لم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلّا الله؟ فقال: بأبي أنت و اُمّي ما أوصلك و أكرمك و أرحمك و أحلمك و الله لقد ظننت أن لو كان معه إله لأغنى يوم بدر و يوم اُحد فقال: ويحك يا أباسفيان أ لم يأن لك أن تعلم أنّي رسول الله؟ فقال: بأبي أنت و اُمّي أمّا هذه فإنّ في النفس منها شيئاً قال العبّاس: فقلت له: ويحك اشهد بشهادة الحقّ قبل أن يضرب عنقك فتشهّد.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للعبّاس: انصرف يا عبّاس فاحبسه عند مضيق الوادي حتّى يمرّ عليه جنود الله قال: فحبسته عند خطم(١) الجبل بمضيق الوادي و مرّ عليه القبائل قبيلة قبيلة و هو يقول: من هؤلاء؟ و أقول: أسلم و جهينة و فلان حتّى مرّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الكتيبة الخضراء من المهاجرين و الأنصار في الحديد لا يرى منهم إلّا الحدق فقال: من هؤلاء يا أباالفضل؟ قلت: هذا رسول الله في المهاجرين و الأنصار فقال: يا أباالفضل

____________________

(١) خطم الجبل: أنفه.

٥٣٦

لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً، فقلت: ويحك أنّها النبوّة فقال: نعم إذاً.

و جاء حكيم بن حزام و بديل بن ورقاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أسلما و بايعاه فلمّا بايعاه بعثهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين يديه إلى قريش يدعوانهم إلى الإسلام و قال: من دخل دار أبي سفيان و هي بأعلى مكّة فهو آمن، و من دخل دار حكيم و هي بأسفل مكّة فهو آمن، و من أغلق بابه و كفّ يده فهو آمن.

و لمّا خرج أبوسفيان و حكيم من عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عامدين إلى مكّة بعث في أثرهما الزبير بن العوّام و أمّره على خيل المهاجرين و أمره أن يغرز رايته بأعلى مكّة بالحجون و قال له: لا تبرح حتّى آتيك ثمّ دخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة و ضربت هناك خيمته، و بعث سعد بن عبادة في كتيبة الأنصار في مقدّمته، و بعث الخالد بن الوليد فيمن كان أسلم من قضاعة و بني سليم و أمره أن يدخل أسفل مكّة و يغرز رايته دون البيوت.

و أمرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جميعاً أن يكفّوا أيديهم و لا يقاتلوا إلّا من قاتلهم، و أمرهم بقتل أربعة نفر عبدالله بن سعد بن أبي سرح و الحويرث بن نفيل و ابن خطل و مقبس بن ضبابة و أمرهم بقتل قينتين كانتا تغنّيان بهجاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قال: اقتلوهم و إن وجدتموهم متعلّقين بأستار الكعبة فقتل عليّعليه‌السلام الحويرث بن نفيل و إحدى القينتين و أفلتت الاُخرى، و قتل مقبس بن ضبابة في السوق، و أدرك ابن خطل و هو متعلّق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث و عمّار بن ياسر فسبق سعيد عمّاراً فقتله.

قال: و سعى أبوسفيان إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أخذ غرزه أي ركابه فقبّله ثمّ قال: بأبي أنت و اُمّي أ ما تسمع ما يقول سعد إنّه يقول:

اليوم يوم الملحمة

اليوم تسبى الحرمة

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّعليه‌السلام : أدركه و خذ الراية منه و كن أنت الّذي يدخل بها و أدخلها إدخالاً رفيقاً فأخذها عليّعليه‌السلام و أدخلها كما أمر.

و لمّا دخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة دخل صناديد قريش الكعبة و هم يظنّون أنّ السيف لا يرفع عنهم و أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و وقف قائماً على باب الكعبة فقال: لا إله

٥٣٧

إلّا الله وحده وحده أنجز وعده و نصر عبده و هزم الأحزاب وحده ألا إنّ كلّ مال أو مأثرة و دم يدّعى فهو تحت قدمي هاتين إلّا سدانة الكعبة و سقاية الحاجّ فإنهما مردودتان إلى أهليهما، ألا إنّ مكّة محرّمة بتحريم الله لم تحلّ لأحد كان قبلي و لم تحلّ لي إلّا ساعة من نهار و هي محرّمة إلى أن تقوم الساعة لا يختلى خلاها، و لا يقطع شجرها و لا ينفر صيدها، و لا تحلّ لقطتها إلّا لمنشد.

ثمّ قال: ألا لبئس جيران النبيّ كنتم لقد كذّبتم و طردتم و أخرجتم و آذيتم ثمّ ما رضيتم حتّى جئتموني في بلادي تقاتلونني فاذهبوا فأنتم الطلقاء فخرج القوم فكأنّما اُنشروا من القبور و دخلوا في الإسلام، و كان الله سبحانه أمكنه من رقابهم عنوة فكانوا له فيئا فلذلك سمّي أهل مكّة الطلقاء.

و جاء ابن الزبعري إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أسلم و قال:

يا رسول الإله إن لساني

راتق ما فتقت إذ أنا بور(١)

إذ أباري(٢) الشيطان في سنن(٣)

الغي و من مال ميله مثبور

آمن اللحم و العظام لربي

ثم نفسي الشهيد أنت النذير

قال: و عن ابن مسعود قال: دخل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الفتح و حول البيت ثلاثمائة و ستون صنما فجعل يطعنها بعود في يده و يقول:( جاءَ الْحَقُّ وَ ما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَ ما يُعِيدُ جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ) .

و عن ابن عبّاس قال: لمّا قدم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مكّة أبى أن يدخل البيت و فيه الآلهة فأمر بها فاُخرجت و صورة إبراهيم و إسماعيلعليهما‌السلام و في أيديهما الأزلام فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاتلهم الله أمّا و الله لقد علموا أنّهما لم يستقسما بها قطّ.

أقول: و الروايات حول قصّة الفتح كثيرة من أراد استقصاءها فعليه بكتب السير و جوامع الأخبار و ما تقدّم كالملخّص منها.

____________________

(١) البور: الهالك.

(٢) المباراة: المباهاة.

(٣) السنن: وسط الطريق.

٥٣٨

( سورة تبّت مكّيّة و هي خمس آيات)

( سورة المسد الآيات ١ - ٥)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ( ١ ) مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ( ٢ ) سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ( ٣ ) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ( ٤ ) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ ( ٥ )

( بيان‏)

وعيد شديد لأبي لهب بهلاك نفسه و عمله و بنار جهنّم و لامرأته، و السورة مكّيّة.

قوله تعالى: ( تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ ) التبّ و التباب هو الخسران و الهلاك على ما ذكره الجوهريّ، و دوام الخسران على ما ذكره الراغب، و قيل: الخيبة، و قيل الخلوّ من كلّ خير و المعاني - كما قيل - متقاربة فيد الإنسان هي عضوه الّذي يتوصّل به إلى تحصيل مقاصده و ينسب إليه جلّ أعماله، و تباب يديه خسرانهما فيما تكتسبانه من عمل و إن شئت فقل: بطلان أعماله الّتي يعملها بهما من حيث عدم انتهائها إلى غرض مطلوب و عدم انتفاعه بشي‏ء منها و تباب نفسه خسرانها في نفسها بحرمانها من سعادة دائمة و هو هلاكها المؤبّد.

فقوله:( تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ ) أي أبولهب، دعاء عليه بهلاك نفسه و بطلان ما كان يأتيه من الأعمال لإطفاء نور النبوّة أو قضاء منه تعالى بذلك.

و أبولهب هذا هو أبولهب بن عبدالمطّلب عمّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان شديد المعاداة للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مصرّاً في تكذيبه مبالغاً في إيذائه بما يستطيعه من قول و فعل و هو الّذي قال للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تبّاً لك لمّا دعاهم إلى الإسلام لأوّل مرة فنزلت السورة و ردّ الله التباب عليه.

٥٣٩

و ذكر بعضهم أنّ أبالهب اسمه و إن كان في صورة الكنية، و قيل: اسمه عبدالعزّى و قيل: عبد مناف و أحسن ما قيل في ذكره في الآية بكنيته لا باسمه أنّ في ذلك تهكّماً به لأنّ أبالهب يشعر بالنسبة إلى لهب النار كما يقال أبوالخير و أبوالفضل و أبوالشرّ في النسبة إلى الخير و الفضل و الشرّ فلمّا قيل:( سَيَصْلى‏ ناراً ذاتَ لَهَبٍ ) فهم منه أنّ قوله:( تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ ) في معنى قولنا: تبّت يدا جهنّمي يلازم لهبها.

و قيل: لم يذكر باسمه و هو عبد العزّى لأنّ عزّى اسم صنم فكره أن يعدّ بحسب اللفظ عبداً لغير الله و هو عبد الله و إن كان الاسم إنّما يقصد به المسمّى.

قوله تعالى: ( ما أَغْنى‏ عَنْهُ مالُهُ وَ ما كَسَبَ ) ما الاُولى نافية و ما الثانية موصولة و معنى( ما كَسَبَ ) الّذي كسبه بأعماله و هو أثر أعماله أو مصدريّة و المعنى كسبه بيديه و هو عمله، و المعنى ما أغنى عنه عمله.

و معنى الآية على أيّ حال لم يدفع عنه ماله و لا عمله - أو أثر عمله - تباب نفسه و يديه الّذي كتب عليه أو دعي عليه.

قوله تعالى: ( سَيَصْلى‏ ناراً ذاتَ لَهَبٍ ) أي سيدخل ناراً ذات لهب و هي نار جهنّم الخالدة، و في تنكير لهب تفخيم له و تهويل.

قوله تعالى: ( وَ امْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) عطف على ضمير الفاعل المستكنّ في( سَيَصْلى) و التقدير: و ستصلى امرأته إلخ و( حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) بالنصب وصف مقطوع عن الوصفيّة للذمّ أي أذمّ حمّالة الحطب، و قيل: حال من( امْرَأَتُهُ ) و هو معنى لطيف على ما سيأتي.

قوله تعالى: ( فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ) المسد حبل مفتول من الليف، و الجملة حال ثانية من امرأته.

و الظاهر أنّ المراد بالآيتين أنّها ستتمثل في النار الّتي تصلاها يوم القيامة في هيئتها الّتي كانت تتلبّس بها في الدنيا و هي أنّها كانت تحمل أغصان الشوك و غيرها تطرحها بالليل في طريق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تؤذيه بذلك فتعذّب بالنار و هي تحمل الحطب و في

٥٤٠

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568