الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 568
المشاهدات: 211996
تحميل: 6364


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 211996 / تحميل: 6364
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 20

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( بيان‏)

فيها تذييل لما تقدّم من الوعيد لمكذّبي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تسجيل العذاب عليهم في الآخرة إذ المتّقون في جنّات النعيم، و تثبيت أنّهم و المتّقون لا يستوون بحجّة قاطعة فليس لهم أن يرجوا كرامة من الله و هم مجرمون فما يجدونه من نعم الدنيا استدراج و إملاء.

و فيها تأكيد أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر لحكم ربّه.

قوله تعالى: ( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) بشرى و بيان لحال المتّقين في الآخرة قبال ما بيّن من حال المكذّبين فيها.

و في قوله:( عِنْدَ رَبِّهِمْ ) دون أن يقال: عند الله إشارة إلى رابطة التدبير و الرحمة بينهم و بينه سبحانه و أنّ لهم ذلك قبال قصرهم الربوبيّة فيه تعالى و إخلاصهم العبوديّة له.

و إضافة الجنّات إلى النعيم و هو النعمة للإشارة إلى أنّ ما فيها من شي‏ء نعمة لا تشوبها نقمة و لذّة لا يخالطها ألم، و سيجي‏ء إن شاء الله في تفسير قوله تعالى:( ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) التكاثر: 8، أنّ المراد بالنعيم الولاية.

قوله تعالى: ( أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ) تحتمل الآية في بادئ النظر أن تكون مسوقة حجّة على المعاد كقوله تعالى:( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) ص: 28، و قد تقدّم تفسيره.

و أن تكون ردّاً على قول من قال منهم للمؤمنين: لو كان هناك بعث و إعادة لكنّا منعّمين كما في الدنيا و قد حكى سبحانه ذلك عن قائلهم:( وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى‏ رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) حم السجدة: 50.

ظاهر سياق الآيات التالية الّتي تردّ عليهم الحكم بالتساوي هو الاحتمال الثاني، و هو الّذي رووه أنّ المشركين لمّا سمعوا حديث البعث و المعاد قالوا: إن صحّ ما

٤١

يقوله محمّد و الّذين آمنوا معه لم تكن حالنا إلّا أفضل من حالهم كما في الدنيا و لا أقلّ من أن تتساوى حالنا و حالهم.

غير أنّه يرد عليه أنّ الآية لو سيقت لردّ قولهم، سنساويهم في الآخرة أو نزيد عليهم كما في الدنيا، كان مقتضى التطابق بين الردّ و المردود أن يقال: أ فنجعل المجرمين كالمسلمين و قد عكس.

و التدبّر في السياق يعطي أنّ الآية مسوقة لردّ دعواهم التساوي لكن لا من جهة نفي مساواتهم على إجرامهم للمسلمين بل تزيد على ذلك بالإشارة إلى أنّ كرامة المسلمين تأبى أن يساويهم المجرمون كأنّه قيل: إنّ قولكم: سنتساوى نحن و المسلمون باطل فإنّ الله لا يرضى أن يجعل المسلمين بما لهم من الكرامة عنده كالمجرمين و أنتم مجرمون.

فالآية تقيم الحجّة على عدم تساوي الفريقين من جهة منافاته لكرامة المسلمين عليه تعالى لا من جهة منافاة مساواة المجرمين للمسلمين عدله تعالى.

و المراد بالإسلام تسليم الأمر لله فلا يتّبع إلّا ما أراده سبحانه من فعل أو ترك يقابله الاجرام و هو اكتساب السيّئة و عدم التسليم.

و الآية و ما بعدها إلى قوله:( أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ) في مقام الردّ لحكمهم بتساوي المجرمين و المسلمين حالاً يوم القيامة تورد محتملات هذا الحكم من حيث منشائه في صور استفهامات إنكارية و تردّها.

و تقرير الحجّة: أنّ كون المجرمين كالمسلمين يوم القيامة على ما حكموا به إمّا أن يكون من الله تعالى موهبة و رحمة و إمّا أن لا يكون منه.

و الأوّل إمّا أن يدلّ عليه دليل العقل و لا دليل عليه كذلك و ذلك قوله:( ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) .

و إمّا أن يدلّ عليه النقل و ليس كذلك و هو قوله:( أَمْ لَكُمْ كِتابٌ ) إلخ، و إمّا أن يكون لا لدلالة عقل أو نقل بل عن مشافهة بينهم و بين الله سبحانه عاهدوه و

٤٢

واثقوه على أن يسوّي بينهما و ليس كذلك فهذه ثلاثة احتمالات.

و إمّا أن لا يكون من الله فإمّا أن يكون حكمهم بالتساوي حكماً جدّيّاً أو لا يكون فإن كان جدّيّاً فإمّا أن يكون التساوي الّذي يحكمون به مستنداً إلى أنفسهم بأن يكون لهم قدرة على أن يصيروا يوم القيامة كالمسلمين حالاً و إن لم يشإ الله ذلك و ليس كذلك و هو قوله:( سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ ) أو يكون القائم بهذا الأمر المتصدّي له شركاؤهم و لا شركاء و هو قوله:( أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ ) إلخ.

و إمّا أن يكون ذلك لأنّ الغيب عندهم و الاُمور الّتي ستستقبل الناس قدرها و قضاؤها منوطان بمشيّتهم تكون و تقع كيف يكتبون فكتبوا لأنفسهم المساواة مع المسلمين، و ليس كذلك و لا سبيل لهم إلى الغيب و ذلك قوله:( أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ) و هذه ثلاثة احتمالات.

و إن لم يكن حكمهم بالمساواة حكماً جدّيّاً بل إنّما تفوّهوا بهذا القول تخلّصاً و فراراً من اتّباعك على دعوتك لأنّك تسألهم أجراً على رسالتك و هدايتك لهم إلى الحقّ فهم مثقلون من غرامته، و ليس كذلك، و هو قوله:( أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ) و هذا سابع الاحتمالات.

هذا ما يعطيه التدبّر في الآيات في وجه ضبط ما فيها من الترديد و قد ذكروا في وجه الضبط غير ذلك من أراد الوقوف عليه فليراجع المطوّلات.

فقوله:( ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) مسوق للتعجّب من حكمهم بكون المجرمين يوم القيامة كالمسلمين، و هو إشارة إلى تأبّي العقل عن تجويز التساوي، و محصّله نفي حكم العقل بذلك إذ معناه: أيّ شي‏ء حصل لكم من اختلال الفكر و فساد الرأي حتّى حكمتم بذلك.؟

قوله تعالى: ( أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ ) إشارة إلى انتفاء الحجّة على حكمهم بالتساوي من جهة السمع كما أنّ الآية السابقة كانت

٤٣

إشارة إلى انتفائها من جهة العقل.

و المراد بالكتاب الكتاب السماويّ النازل من عندالله و هو حجّة، و درس الكتاب قراءته، و التخيّر الاختيار، و قوله:( إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ ) في مقام المفعول لتدرسون و الاستفهام إنكاريّ.

و المعنى: بل أ لكم كتاب سماويّ تقرؤن فيه إنّ لكم في الآخرة - أو مطلقاً - لما تختارونه فاخترتم السعادة و الجنّة.

قوله تعالى: ( أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ ) إشارة إلى انتفاء أن يملكوا الحكم بعهد و يمين شفاهيّ لهم على الله سبحانه.

و الأيمان جمع يمين و هو القسم، و البلوغ هو الانتهاء في الكمال فالأيمان البالغة هي المؤكّدة نهاية التوكيد، و قوله:( إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ ) على هذا ظرف مستقرّ متعلّق بمقدّر و التقدير: أم لكم علينا أيمان كائنة إلى يوم القيامة مؤكّدة نهاية التوكيد، إلخ.

و يمكن أن يكون( إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ ) متعلّقاً ببالغة و المراد ببلوغ الأيمان انطباقها على امتداد الزمان حتّى ينتهي إلى يوم القيامة.

و قد فسّروا الإيمان بالعهود و المواثيق فيكون من باب إطلاق اللازم و إرادة الملزوم كناية، و احتمل أن يكون من باب إطلاق الجزء و إرادة الكلّ.

و قوله:( إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ ) جواب القسم و هو المعاهد عليه، و الاستفهام للإنكار.

و المعنى: بل أ لكم علينا عهود أقسمنا فيها إقساماً مؤكّداً إلى يوم القيامة إنّا سلّمنا لكم أنّ لكم لما تحكمون به.

قوله تعالى: ( سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ ) إعراض عن خطابهم و التفات إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتوجيه الخطاب لسقوطهم عن درجة استحقاق الخطاب و لذلك أورد بقية السؤالات و هي مسائل أربع في سياق الغيبة أوّلها قوله:( سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ ) و الزعيم القائم بالأمر المتصدّي له، و الاستفهام إنكاريّ.

٤٤

و المعنى: سل المشركين أيّهم قائم بأمر التسوية الّذي يدّعونه أي إذا ثبت أنّ الله لا يسوّي بين الفريقين لعدم دليل يدلّ عليه فهل الّذي يقوم بهذا الأمر و يتصدّاه هو منهم؟ فأيّهم هو؟ و من الواضح بطلانه لا يتفوّه به إلّا مصاب في عقله.

قوله تعالى: ( أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ ) ردّ لهم على تقدير أن يكون حكمهم بالتساوي مبنيّاً على دعواهم أنّ لهم آلهة يشاركون الله سبحانه في الربوبيّة سيشفعون لهم عندالله فيجعلهم كالمسلمين و الاستفهام إنكاريّ يفيد نفي الشركاء.

و قوله:( فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ ) إلخ، كناية عن انتفاء الشركاء يفيد تأكيد ما في قوله:( أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ ) من النفي.

و قيل: المراد بالشركاء شركاؤهم في هذا القول، و المعنى: أم لهم شركاء يشاركونهم في هذا القول و يذهبون مذهبهم فليأتوا بهم إن كانوا صادقين.

و أنت خبير بأنّ هذا المعنى لا يقطع الخصام.

و قيل: المراد بالشركاء الشهداء و المعنى: أم لهم شهداء على هذا القول فليأتوا بهم إن كانوا صادقين.

و هو تفسير بما لا دليل عليه من جهة اللفظ. على أنّه مستدرك لأنّ هؤلاء الشهداء شهداء على كتاب من عندالله أو وعد بعهد و يمين و قد ردّ كلا الاحتمالين فيما تقدّم.

و قيل: المراد بالشركاء شركاء الاُلوهيّة على ما يزعمون لكنّ المعنىّ من إتيانهم بهم إتيانهم بهم يوم القيامة ليشهدوا لهم أو ليشفعوا لهم عند الله سبحانه.

و أنت خبير بأنّ هذا المعنى أيضاً لا يقطع الخصام.

قوله تعالى: ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ - إلى قوله -وَ هُمْ سالِمُونَ ) يوم ظرف متعلّق بمحذوف كاذكر و نحوه، و الكشف عن الساق تمثيل في اشتداد الأمر اشتداداً بالغاً لما أنّهم كانوا يشمّرون عن سوقهم إذا اشتدّ الأمر للعمل أو للفرار قال في الكشّاف: فمعنى( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ ) في معنى يوم يشتدّ الأمر و يتفاقم، و لا كشف ثمّ و لا ساق كما تقول للأقطع الشحيح: يده مغلولة و لا يد

٤٥

ثمّ و لا غلّ و إنّما هو مثل في البخل انتهى.

و الآية و ما بعدها إلى تمام خمس آيات اعتراض وقع في البين بمناسبة ذكر شركائهم الّذين يزعمون أنّهم سيسعدونهم لو كان هناك بعث و حساب فذكر سبحانه أن لا شركاء لله و لا شفاعة و إنّما يحرز الإنسان سعادة الآخرة بالسجود أي الخضوع لله سبحانه بتوحيد الربوبيّة في الدنيا حتّى يحمل معه صفة الخضوع فيسعد بها يوم القيامة.

و هؤلاء المكذّبون المجرمون لم يسجدوا لله في الدنيا فلا يستطيعون السجود في الآخرة فلا يسعدون و لا تتساوى حالهم و حال المسلمين فيها البتّة بل الله سبحانه يعاملهم في الدنيا لاستكبارهم عن سجوده معاملة الاستدراج و الإملاء حتّى يتمّ لهم شقاؤهم فيردّوا العذاب الأليم في الآخرة.

فقوله:( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ ) معناه اذكر يوم يشتدّ عليهم الأمر و يدعون إلى السجود لله خضوعاً فلا يستطيعون لاستقرار ملكة الاستكبار في سرائرهم و اليوم تبلى السرائر(1) .

و قوله:( خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ) حالان من نائب فاعل يدعون أي حال كون أبصارهم خاشعة و حال كونهم يغشاهم الذلّة بقهر، و نسبة الخشوع إلى الأبصار لظهور أثره فيها.

و قوله:( وَ قَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَ هُمْ سالِمُونَ ) المراد بالسلامة سلامتهم من الآفات و العاهات الّتي لحقت نفوسهم بسبب الاستكبار عن الحقّ فسلبتها التمكّن من إجابة الحقّ أو المراد مطلق استطاعتهم منه في الدنيا.

و المعنى: و قد كانوا في الدنيا يدعون إلى السجود لله و هم سالمون متمكّنون منه أقوى تمكّن فلا يجيبون إليه.

و قيل: المراد بالسجود الصلاة و هو كما ترى.

قوله تعالى: ( فَذَرْنِي وَ مَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ ) المراد بهذا الحديث القرآن الكريم و قوله:( فَذَرْنِي وَ مَنْ يُكَذِّبُ ) إلخ، كناية عن أنّه يكفيهم وحده و هو غير

____________________

(1) الطارق الآية 9.

٤٦

تاركهم و فيه نوع تسلية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تهديد للمشركين.

قوله تعالى: ( سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ) استئناف فيه بيان كيفيّة أخذه تعالى لهم و تعذيبه إيّاهم المفهوم من قوله:( فَذَرْنِي ) إلخ.

و الاستدراج هو استنزالهم درجة فدرجة حتّى يتمّ لهم الشقاء فيقعوا في ورطة الهلاك و ذلك بأن يؤتيهم الله نعمة بعد نعمة و كلّما اُوتوا نعمة اشتغلوا بها و فرّطوا في شكرها و زادوا نسياناً له و ابتعدوا عن ذكره.

فالاستدراج إيتاؤهم النعمة بعد النعمة الموجب لنزولهم درجة بعد درجة و اقترابهم من ورطة الهلاك، و كونه من حيث لا يعلمون إنّما هو لكونه من طريق النعمة الّتي يحسبونها خيراً و سعادة لا شرّ فيها و لا شقاء.

قوله تعالى: ( وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) الإملاء الإمهال، و الكيد ضرب من الاحتيال، و المتين القويّ.

و المعنى: و اُمهلهم حتّى يتوسّعوا في نعمنا بالمعاصي كما يشاؤن إنّ كيدي قويّ.

و النكتة في الالتفات الّذي في( سَنَسْتَدْرِجُهُمْ ) عن التكلّم وحده إلى التكلّم مع الغير الدلالة على العظمة و أنّ هناك موكّلين على هذه النعم الّتي تصبّ عليهم صبّا، و الالتفات في قوله:( وَ أُمْلِي لَهُمْ ) عن التكلّم مع الغير إلى التكلّم وحده لأنّ الإملاء تأخير في الأجل و لم ينسب أمر الأجل في القرآن إلى غير الله سبحانه قال تعالى:( ثُمَّ قَضى‏ أَجَلًا وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ) الأنعام: 2.

قوله تعالى: ( أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ) المغرم الغرامة، و الإثقال تحميل الثقل، و الجملة معطوفة على قوله:( أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ ) إلخ.

و المعنى: أم تسأل هؤلاء المجرمين - الّذين يحكمون بتساوي المجرمين و المسلمين يوم القيامة - أجراً على دعوتك فهم من غرامة تحملها عليهم مثقلون فيواجهونك بمثل هذا القول تخلّصاً من الغرامة دون أن يكون ذلك منهم قولاً جدّيّاً.

قوله تعالى: ( أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ) ظاهر السياق أن يكون المراد بالغيب غيب الأشياء الّذي منه تنزل الاُمور بقدر محدود فتستقرّ في منصّة الظهور، و المراد

٤٧

بالكتابة على هذا هو التقدير و القضاء، و المراد بكون الغيب عندهم تسلّطهم عليه و ملكهم له.

فالمعنى: أم بيدهم أمر القدر و القضاء فهم يقضون كما شاؤا فيقضون لأنفسهم أن يساووا المسلمين يوم القيامة.

و قيل: المراد بكون الغيب عندهم علمهم بصحّة ما حكموا به و الكتابة على ظاهر معناه و المعنى: أم عندهم علم بصحّة ما يدّعونه اختصّوا به و لا يعلمه غيرهم فهم يكتبونه و يتوارثونه و ينبغي أن يبرزوه.

و هو بعيد بل مستدرك و الاحتمالات الاُخر المذكورة مغنية عنه.

و إنّما اُخّر ذكر هذا الاحتمال عن غيره حتّى عن قوله:( أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً ) مع أنّ مقتضى الظاهر أن يتقدّم عليه، لكونه أضعف الاحتمالات و أبعدها.

قوله تعالى: ( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى‏ وَ هُوَ مَكْظُومٌ ) صاحب الحوت يونس النبيّعليه‌السلام و المكظوم من كظم الغيظ إذا تجرّعه و لذا فسّر بالمختنق بالغمّ حيث لا يجد لغيظه شفاء، و نهيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أن يكون كيونسعليه‌السلام و هو في زمن النداء مملوء بالغمّ نهي عن السبب المؤدّي إلى نظير هذا الابتلاء و هو ضيق الصدر و الاستعجال بالعذاب.

و المعنى: فاصبر لقاء ربّك أن يستدرجهم و يملئ لهم و لا تستعجل لهم العذاب لكفرهم و لا تكن كيونس فتكون مثله و هو مملوء غمّاً أو غيظاً ينادي بالتسبيح و الاعتراف بالظلم أي فاصبر و احذر أن تبتلي بما يشبه ابتلاءه، و نداؤه قوله في بطن الحوت:( لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) كما في سورة الأنبياء.

و قيل: اللّام في( لِحُكْمِ رَبِّكَ ) بمعنى إلى و فيه تهديد لقومه و وعيد لهم أن سيحكم الله بينه و بينهم، و الوجه المتقدّم أنسب لسياق الآيات السابقة.

قوله تعالى: ( لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَ هُوَ مَذْمُومٌ ) في مقام التعليل للنهي السابق:( لا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ ) و التدارك الإدراك و اللحوق، و فسّرت

٤٨

النعمة بقبول التوبة، و النبذ الطرح، و العراء الأرض غير المستورة بسقف أو نبات، و الذمّ مقابل المدح.

و المعنى: لو لا أن أدركته و لحقت به نعمة من ربّه و هو أنّ الله قبل توبته لطرح بالأرض العراء و هو مذموم بما فعل.

لا يقال: إنّ الآية تنافي قوله تعالى:( فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) الصافّات: 144، فإنّ مدلوله أنّ مقتضى عمله أن يلبث في بطنه إلى يوم القيامة و مقتضى هذه الآية أنّ مقتضاه أن يطرح في الأرض العراء مذموماً و هما تبعتان متنافيتان لا تجتمعان.

فإنّه يقال: الآيتان تحكيان عن مقتضيين مختلفين لكلّ منهما أثر على حدّة فآية الصافّات تذكر أنهعليه‌السلام كان مداوماً للتسبيح مستمرّاً عليه طول حياته قبل ابتلائه - و هو قوله: كان من المسبّحين - و لو لا ذلك للبث في بطنه إلى يوم القيامة، و الآية الّتي نحن فيها تدلّ على أنّ النعمة و هو قبول توبته في بطن الحوت شملته فلم ينبذ بالعراء مذموماً.

فمجموع الآيتين يدلّ على أنّ ذهابه مغاضباً كان يقتضي أن يلبث في بطنه إلى يوم القيامة فمنع عنه دوام تسبيحه قبل التقامه و بعده، و قدّر أن ينبذ بالعراء و كان مقتضى عمله أنّ ينبذ مذموماً فمنع من ذلك تدارك نعمة ربّه له فنبذ غير مذموم بل اجتباه الله و جعله من الصالحين فلا منافاة بين الآيتين.

و قد تكرّر في مباحثنا السابقة أنّ حقيقة النعمة الولاية و على ذلك يتعيّن لقوله:( لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) معنى آخر.

قوله تعالى: ( فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) تقدّم توضيح معنى الاجتباء و الصلاح في مباحثنا المتقدّمة.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ ) إن مخفّفة من الثقيلة، و الزلق هو الزلل، و الإزلاق الإزلال و هو الصرع كناية عن القتل و الإهلاك.

٤٩

و المعنى: أنّه قارب الّذين كفروا أن يصرعوك بأبصارهم لمّا سمعوا الذكر.

و المراد بإزلاقه بالأبصار و صرعة بها - على ما عليه عامّة المفسّرين - الإصابة بالأعين، و هو نوع من التأثير النفسانيّ لا دليل على نفيه عقلاً و ربّما شوهد من الموارد ما يقبل الانطباق عليه، و قد وردت في الروايات فلا موجب لإنكاره.

و قيل: المعنى أنّهم ينظرون إليك إذا سمعوا منك الذكر الّذي هو القرآن نظراً مليئاً بالعداوة و البغضاء يكادون يقتلونك بحديد نظرهم.

قوله تعالى: ( وَ يَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَ ما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ) رميهم له بالجنون عند ما سمعوا الذكر دليل على أنّ مرادهم به رمي القرآن بأنّه من إلقاء الشياطين، و لذا ردّ قولهم بأنّ القرآن ليس إلّا ذكراً للعالمين.

و قد ردّ قولهم:( إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ) في أوّل السورة بقوله:( ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ) و به ينطبق خاتمة السورة على فاتحتها.

( بحث روائي)

في المعاني، بإسناده عن الحسين بن سعيد عن أبي الحسنعليه‌السلام في قوله عزّوجلّ:( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ ) قال: حجاب من نور يكشف فيقع المؤمنون سجّداً و تدمج أصلاب المنافقين فلا يستطيعون السجود.

و فيه، بإسناده عن عبيد بن زرارة عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله عزّوجلّ:( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ ) قال: كشف إزاره عن ساقه فقال: سبحان ربّي الأعلى.

أقول: قال الصدوق بعد نقل الحديث: قوله: سبحان ربّي الأعلى تنزيه الله سبحانه أن يكون له ساق. انتهى. و في هذا المعنى رواية اُخرى عن الحلبي عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

و فيه، بإسناده عن معلّى بن خنيس قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : ما يعني بقوله:

٥٠

( وَ قَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَ هُمْ سالِمُونَ ) قال: و هم مستطيعون.

و في الدرّ المنثور، أخرج البخاريّ و ابن المنذر و ابن مردويه عن أبي سعيد: سمعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: يكشف ربّنا عن ساقه فيسجد له كلّ مؤمن و مؤمنة، و يبقى من كان يسجد في الدنيا رياء و سمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً.

و فيه، أخرج ابن مندة في الردّ على الجهمية عن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ ) قال: يكشف الله عن ساقه.

و فيه، أخرج إسحاق بن راهويه في مسنده و عبد بن حميد و ابن أبي الدنيا و الطبراني و الآجريّ في الشريعة و الدارقطنيّ في الرؤية و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه و البيهقي في البعث عن عبدالله بن مسعود عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: يجمع الله الناس يوم القيامة و ينزل الله في ظلل من الغمام فينادي منادياً أيّها الناس أ لم ترضوا من ربّكم( الّذي) خلقكم و صوّركم و رزقكم أن يولّي كلّ إنسان منكم ما كان يعبد في الدنيا و يتولّى؟ أ ليس ذلك من ربّكم عدلاً؟ قالوا: بلى.

قال: فينطلق كلّ إنسان منكم إلى ما كان يعبد في الدنيا و يتمثّل لهم ما كانوا يعبدون في الدنيا فيتمثّل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى، و يتمثّل لمن كان يعبد عزيزاً شيطان عزيز حتّى يمثّل لهم الشجرة و العود و الحجر.

و يبقى أهل الإسلام جثوماً فيتمثّل لهم الربّ عزّوجلّ فيقول لهم: ما لكم لم تنطلقوا كما انطلق الناس؟ فيقولون: إنّ لنا ربّاً ما رأيناه بعد فيقول: فبم تعرفون ربّكم إن رأيتموه؟ قالوا: بيننا و بينه علامة إن رأيناه عرفناه؟ قال: و ما هي؟ قالوا: يكشف عن ساق.

فيكشف عند ذلك عن ساق فيخرّ كلّ من كان يسجد طائعاً ساجداً و يبقى قوم ظهورهم كصياصي البقر يريدون السجود فلا يستطيعون. الحديث.

أقول: و الروايات الثلاث مبنيّة على التشبيه المخالف للبراهين العقليّة و نصّ الكتاب العزيز فهي مطروحة أو مؤوّلة.

و في الكافي، بإسناده عن سفيان بن السمط قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : إنّ الله

٥١

إذا أراد بعبد خيراً فأذنب ذنباً أتبعه بنقمة و ذكّره الاستغفار، فإذا أراد بعبد شرّاً فأذنب ذنباً أتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار و يتمادى بها، و هو قول الله عزّوجلّ:( سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ) بالنعم و المعاصي.

أقول: و قد تقدّم بعض روايات الاستدراج في ذيل قوله تعالى:( سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ) الآية 182 من سورة الأعراف.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( إِذْ نادى‏ وَ هُوَ مَكْظُومٌ ) في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : يقول: مغموم.

و فيه،: في قوله تعالى:( لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) قال: النعمة الرحمة.

و فيه،: في قوله تعالى:( لَنُبِذَ بِالْعَراءِ ) قال: الموضع الّذي لا سقف له.

و في الدرّ المنثور في قوله تعالى:( وَ إِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) أخرج البخاري عن ابن عبّاس أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: العين حقّ.

و فيه، أخرج أبونعيم في الحلية عن جابر أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: العين تدخل الرجل القبر و الجمل القدر.

أقول: و هناك روايات تطبق الآيات السابقة على الولاية و هي من الجري دون التفسير و لذلك لم نوردها.

٥٢

( سورة الحاقّة مكّيّة و هي اثنتان و خمسون آية)

( سورة الحاقّة الآيات 1 - 12)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَاقَّةُ ( 1 ) مَا الْحَاقَّةُ ( 2 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ( 3 ) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ ( 4 ) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ( 5 ) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ( 6 ) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ( 7 ) فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ ( 8 ) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ ( 9 ) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً ( 10 ) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ( 11 ) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ( 12 )

( بيان‏)

السورة تذكر الحاقّة و هي القيامة و قد سمّتها أيضاً بالقارعة و الواقعة.

و قد ساقت الكلام فيها في فصول ثلاثة: فصل تذكر فيه إجمالاً الاُمم الّذين كذّبوا بها فأخذهم الله أخذة رابية، و فصل تصف فيه الحاقّة و انقسام الناس فيها إلى أصحاب اليمين و أصحاب الشمال و اختلاف حالهم بالسعادة و الشقاء، و فصل تؤكّد فيه صدق القرآن في إنبائه بها و أنّه حقّ اليقين، و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَ ما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ ) المراد بالحاقّة القيامة الكبرى سمّيت بها لثبوتها ثبوتاً لا مردّ له و لا ريب فيه، من حقّ الشي‏ء بمعنى ثبت و تقرّر تقرّراً واقعياً.

٥٣

و( مَا ) في( مَا الْحَاقَّةُ ) استفهاميّة تفيد تفخيم أمرها، و لذلك بعينه وضع الظاهر موضع الضمير و لم يقل: ما هي، و الجملة الاستفهاميّة خبر الحاقّة.

فقوله:( الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ ) مسوق لتفخيم أمر القيامة يفيد تفخيم أمرها و إعظام حقيقتها إفادة بعد إفادة.

و قوله:( وَ ما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ ) خطاب بنفي العلم بحقيقة اليوم و هذا التعبير كناية عن كمال أهمّيّة الشي‏ء و بلوغه الغاية في الفخامة و لعلّ هذا هو المراد ممّا نقل عن ابن عبّاس: أنّ ما في القرآن من قوله تعالى:( ما أَدْراكَ ) فقد أدراه و ما فيه من قوله:( ما يُدْرِيكَ ) فقد طوى عنه، يعني أنّ( ما أَدْراكَ ) كناية و( ما يُدْرِيكَ ) تصريح.

قوله تعالى: ( كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَ عادٌ بِالْقارِعَةِ ) المراد بالقارعة القيامة و سمّيت بها لأنّها تقرع و تدكّ السماوات و الأرض بتبديلها و الجبال بتسييرها و الشمس بتكويرها و القمر بخسفها و الكواكب بنثرها و الأشياء كلّها بقهرها على ما نطقت به الآيات، و كان مقتضى الظاهر أن يقال: كذّبت ثمود و عاد بها فوضع القارعة موضع الضمير لتأكيد تفخيم أمرها.

و هذه الآية و ما يتلوها إلى تمام تسع آيات و إن كانت مسوقة للإشارة إلى إجمال قصص قوم نوح و عاد و ثمود و فرعون و من قبله و المؤتفكات و إهلاكهم لكنّها في الحقيقة بيان للحاقّه ببعض أوصافها و هو أنّ الله أهلك أمماً كثيرة بالتكذيب بها فهي في الحقيقة جواب للسؤال بما الاستفهاميّة كما أنّ قوله:( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ ) إلخ، جواب آخر.

و محصّل المعنى: هي القارعة الّتي كذّبت بها ثمود و عاد و فرعون و من قبله و المؤتفكات و قوم نوح فأخذهم الله أخذة رابية و أهلكهم بعذاب الاستئصال.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ) بيان تفصيليّ لأثر تكذيبهم بالقارعة، و المراد بالطاغية الصيحة أو الرجفة أو الصاعقة على اختلاف ظاهر تعبير

٥٤

القرآن في سبب هلاكهم في قصّتهم قال تعالى:( وَ أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ ) هود: 67، و قال أيضاً:( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ) الأعراف: 87، و قال أيضاً:( فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ ) حم السجدة: 17.

و قيل: الطاغية مصدر كالطغيان و الطغوى و المعنى: فأمّا ثمود فاُهلكوا بسبب طغيانهم، و يؤيّده قوله تعالى:( كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها ) الشمس: 11.

و أوّل الوجهين أنسب لسياق الآيات التالية حيث سيقت لبيان كيفيّة إهلاكهم من الإهلاك بالريح أو الأخذ الرابي أو طغيان الماء فليكن هلاك ثمود بالطاغية ناظراً إلى كيفيّة إهلاكهم.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ ) الصرصر الريح الباردة الشديدة الهبوب، و عاتية من العتوّ بمعنى الطغيان و الابتعاد من الطاعة و الملاءمة.

قوله تعالى: ( سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى‏ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ ) تسخيرها عليهم تسليطها عليهم، و الحسوم جمع حاسم كشهود جمع شاهد من الحسم بمعنى تكرار الكيّ مرّات متتالية، و هي صفة لسبع أي سبع ليال و ثمانية أيّام متتالية متتابعة و صرعى جمع صريع و أعجاز جمع عجز بالفتح فالضمّ آخر الشي‏ء، و خاوية الخالية الجوف الملقاة و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( فَهَلْ تَرى‏ لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ ) أي من نفس باقية، و الجملة كناية عن استيعاب الهلاك لهم جميعاً، و قيل: الباقية مصدر بمعنى البقاء و قد اُريد به البقيّة و ما قدّمناه من المعنى أقرب.

قوله تعالى: ( وَ جاءَ فِرْعَوْنُ وَ مَنْ قَبْلَهُ وَ الْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ ) المراد بفرعون فرعون موسى، و بمن قبله الاُمم المتقدّمة عليه زماناً من المكذّبين، و بالمؤتفكات قرى قوم لوط و الجماعة القاطنة بها، و( خاطئة ) مصدر بمعنى الخطاء و المراد بالمجي‏ء بالخاطئة إخطاء طريق العبوديّة، و الباقي ظاهر.

٥٥

قوله تعالى: ( فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً ) ضمير( فَعَصَوْا ) لفرعون و من قبله و المؤتفكات، و المراد بالرسول جنسه، و الرابية الزائدة من ربا يربو ربوة إذا زاد، و المراد بالأخذة الرابية العقوبة الشديدة و قيل: العقوبة الزائدة على سائر العقوبات و قيل: الخارقة للعادة.

قوله تعالى: ( إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ ) إشارة إلى طوفان نوح و الجارية السفينة، و عدّ المخاطبين محمولين في سفينة نوح و المحمول في الحقيقة أسلافهم لكون الجميع نوعاً واحداً ينسب حال البعض منه إلى الكلّ و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) تعليل لحملهم في السفينة فضمير( لِنَجْعَلَها ) للحمل باعتبار أنّه فعله أي فعلنا بكم تلك الفعلة لنجعلها لكم أمراً تتذكّرون به و عبرة تعتبرون بها و موعظة تتّعظون بها.

و قوله:( وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) الوعي جعل الشي‏ء في الوعاء، و المراد بوعي الاُذن لها تقريرها في النفس و حفظها فيها لترتّب عليها فائدتها و هي التذكّر و الاتّعاظ.

و في الآية بجملتيها إشارة إلى الهداية الربوبيّة بكلا قسميها أعني الهداية بمعنى إراءة الطريق و الهداية بمعنى الإيصال إلى المطلوب.

توضيح ذلك أنّ من السنّة الربوبيّة العامّة الجارية في الكون هداية كلّ نوع من أنواع الخليقة إلى كماله اللّائق به بحسب وجوده الخاصّ بتجهيزه بما يسوقه نحو غايته كما يدلّ عليه قوله تعالى:( الَّذِي أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى‏ ) طه: 50، و قوله:( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) الأعلى: 3، و قد تقدّم توضيح ذلك في تفسير سورتي طه و الأعلى و غيرهما.

و الإنسان يشارك سائر الأنواع المادّيّة في أنّ له استكمالاً تكوينيّاً و سلوكاً وجوديّاً نحو كماله الوجوديّ بالهداية الربوبيّة الّتي تسوقه نحو غايته المطلوبة و يختصّ من بينها بالاستكمال التشريعيّ فإنّ للنفس الإنسانيّة استكمالاً من

٥٦

طريق أفعالها الاختياريّة بما يلحقها من الأوصاف و النعوت و تتلبّس به من الملكات و الأحوال في الحياة الدنيا و هي غاية وجود الإنسان الّتي تعيش بها عيشة سعيدة مؤبّدة.

و هذا هو السبب الداعي إلى تشريع السنّة الدينيّة بإرسال الرسل و إنزال الكتب و الهداية إليها( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) النساء: 165، و قد تقدّم تفصيله في أبحاث النبوّة في الجزء الثاني من الكتاب و غيره، و هذه هداية بمعنى إراءة الطريق و إعلام الصراط المستقيم الّذي لا يسع الإنسان إلّا أن يسلكه، قال تعالى:( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً ) الدهر: 3، فإن لزم الصراط و سلكه حيّ بحياة طيّبة سعيدة و إن تركه و أعرض عنه هلك بشقاء دائم و تمّت عليه الحجّة على أيّ حال، قال تعالى:( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى‏ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) الأنفال: 42.

إذا تقرّر هذا تبيّن أنّ من سنّة الربوبيّة هداية الناس إلى سعادة حياتهم بإراءة الطريق الموصل إليها، و إليها الإشارة بقوله:( لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً ) فإنّ التذكرة لا تستوجب التذكّر ممّن ذكّر بها بل ربّما أثّرت و ربّما تخلّفت.

و من سنّة الربوبيّة هداية الأشياء إلى كمالاتها بمعنى إنهائها و إيصالها إليها بتحريكها و سوقها نحوه، و إليها الإشارة بقوله:( وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) فإنّ الوعي المذكور من مصاديق الاهتداء بالهداية الربوبيّة و إنّما لم ينسب تعالى الوعي إلى نفسه كما نسب التذكرة إلى نفسه لأنّ المطلوب بالتذكرة إتمام الحجّة و هو من الله و أمّا الوعي فإنّه و إن كان منسوباً إليه كما أنّه منسوب إلى الإنسان لكنّ السياق سياق الدعوة و بيان الأجر و المثوبة على إجابة الدعوة و الأجر و المثوبة من آثار الوعي بما أنّه فعل للإنسان منسوب إليه لا بما أنّه منسوب إلى الله تعالى.

و يظهر من الآية الكريمة أنّ للحوادث الخارجيّة تأثيراً في أعمال الإنسان كما يظهر من مثل قوله:( وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ

٥٧

السَّماءِ وَ الْأَرْضِ ) الأعراف: 96 أنّ لأعمال الإنسان تأثيراً في الحوادث الخارجيّة و قد تقدّم بعض الكلام فيه.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن المنذر عن ابن جريح في قوله:( لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً ) قال: لاُمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و كم من سفينة قد هلكت و أثر قد ذهب يعني ما بقي من السفينة حتى أدركته اُمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرأوه كانت ألواحها ترى على الجوديّ.

أقول: و تقدّم ما يؤيّد ذلك في قصّة نوح في تفسير سورة هود.

و فيه، أخرج سعيد بن منصور و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن مكحول قال: لمّا نزلت( وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سألت ربّي أن يجعلها اُذن عليّ. قال مكحول: فكان عليّ يقول: ما سمعت عن رسول الله شيئاً فنسيته.

و فيه، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و الواحديّ و ابن مردويه و ابن عساكر و ابن النجاري عن بردة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ: إنّ الله أمرني أن اُدنيك و لا اُقصيك و أن اُعلّمك و أن تعي و حقّ لك أن تعي فنزلت هذه الآية( وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) .

و فيه، أخرج أبونعيم في الحلية عن عليّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عليّ إنّ الله أمرني أن اُدنيك و اُعلّمك لتعي فاُنزلت هذه الآية( وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) فأنت اُذن واعية لعلمي.

أقول: و روي هذا المعنى في تفسير البرهان، عن سعد بن عبدالله بإسناده عن أبي عبداللهعليه‌السلام ، و عن الكلينيّ بإسناده عنهعليه‌السلام ، و عن ابن بابويه بإسناده عن جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام .

٥٨

و رواه أيضاً عن ابن شهرآشوب عن حلية الأولياء عن عمر بن عليّ، و عن الواحديّ في أسباب النزول عن بريدة، و عن أبي القاسم بن حبيب في تفسيره عن زرّ بن حبيش عن عليّعليه‌السلام .

و قد روي في غاية المرام، من طرق الفريقين ستّة عشر حديثاً في ذلك و قال في البرهان إنّ محمّد بن العبّاس روى فيه ثلاثين حديثاً من طرق العامّة و الخاصّة.

٥٩

( سورة الحاقّة الآيات 13 - 37)

فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ ( 13 ) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ( 14 ) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ( 15 ) وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ( 16 ) وَالْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَائِهَا هَا هَا هَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ( 17 ) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ ( 18 ) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ( 19 ) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ( 20 ) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ( 21 ) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ( 22 ) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ( 23 ) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ( 24 ) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ( 25 ) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ( 26 ) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ( 27 ) مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ( 28 ) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ( 29 ) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ( 30 ) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ( 31 ) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ( 32 ) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ ( 33 ) وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ ( 34 ) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ ( 35 ) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ( 36 ) لَّا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ ( 37 )

٦٠