الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 568
المشاهدات: 212175
تحميل: 6375


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 212175 / تحميل: 6375
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 20

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( سورة الكوثر مكّيّة و هي ثلاث آيات)

( سورة الكوثر الآيات 1 - 3)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ( 1 ) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ( 2 ) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ( 3 )

( بيان‏)

امتنان على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإعطائه الكوثر و تطييب لنفسه الشريفة بأنّ شانئه هو الأبتر، و هي أقصر سورة في القرآن و قد اختلفت الروايات في كون السورة مكّيّة أو مدنيّة، و الظاهر أنّها مكّيّة، و ذكر بعضهم أنّها نزلت مرّتين جمعاً بين الروايات.

قوله تعالى: ( إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ) قال في المجمع، الكوثر فوعل و هو الشي‏ء الّذي من شأنه الكثرة، و الكوثر الخير الكثير، انتهى.

و قد اختلفت أقوالهم في تفسير الكوثر اختلافاً عجيباً فقيل: هو الخير الكثير، و قيل نهر في الجنّة، و قيل: حوض النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجنّة أو في المحشر، و قيل: أولاده و قيل: أصحابه و أشياعهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى يوم القيامة، و قيل: علماء اُمّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قيل القرآن و فضائله كثيرة، و قيل النبوّة و قيل: تيسير القرآن و تخفيف الشرائع و قيل: الإسلام و قيل التوحيد، و قيل: العلم و الحكمة، و قيل: فضائلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قيل المقام المحمود، و قيل: هو نور قلبهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى غير ذلك ممّا قيل، و قد نقل عن بعضهم أنّه أنهى الأقوال إلى ستّة و عشرين.

و قد استند في القولين الأوّلين إلى بعض الروايات، و باقي الأقوال لا تخلو من تحكّم و كيفما كان فقوله في آخر السورة:( إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) - و ظاهر الأبتر هو المنقطع نسله و ظاهر الجملة أنّها من قبيل قصر القلب - أنّ كثرة ذرّيّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي

٥٢١

المرادة وحدها بالكوثر الّذي اُعطيه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو المراد بها الخير الكثير و كثرة الذرّيّة مرادة في ضمن الخير الكثير و لو لا ذلك لكان تحقيق الكلام بقوله:( إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) خالياً عن الفائدة.

و قد استفاضت الروايات أنّ السورة إنّما نزلت فيمن عابهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالبتر بعد ما مات ابناه القاسم و عبدالله، و بذلك يندفع ما قيل: إنّ مراد الشانئ بقوله:( الْأَبْتَرُ ) المنقطع عن قومه أو المنقطع عن الخير فردّ الله عليه بأنّه هو المنقطع من كلّ خير.

و لما في قوله:( إِنَّا أَعْطَيْناكَ ) من الامتنان عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جي‏ء بلفظ المتكلّم مع الغير الدالّ على العظمة، و لما فيه من تطييب نفسه الشريفة اُكّدت الجملة بإنّ و عبّر بلفظ الإعطاء الظاهر في التمليك.

و الجملة لا تخلو من دلالة على أنّ ولد فاطمةعليها‌السلام ذرّيّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و هذا في نفسه من ملاحم القرآن الكريم فقد كثّر الله تعالى نسله بعده كثرة لا يعادلهم فيها أيّ نسل آخر مع ما نزل عليهم من النوائب و أفنى جموعهم من المقاتل الذريعة.

قوله تعالى: ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ ) ظاهر السياق في تفريع الأمر بالصلاة و النحر على الامتنان في قوله:( إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ) أنّه من شكر النعمة و المعنى إذا مننّا عليك بإعطاء الكوثر فاشكر لهذه النعمة بالصلاة و النحر.

و المراد بالنحر على ما رواه الفريقان عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عن عليّعليه‌السلام و روته الشيعة عن الصادقعليه‌السلام و غيره من الأئمّة هو رفع اليدين في تكبير الصلاة إلى النحر.

و قيل: معنى الآية صلّ لربّك صلاة العيد و انحر البدن، و قيل: يعني صلّ لربّك و استو قائماً عند رفع رأسك من الركوع و قيل غير ذلك.

قوله تعالى: ( إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) الشانئ هو المبغض و الأبتر من لا عقب له و هذا الشانئ هو العاص بن وائل.

و قيل: المراد بالأبتر المنقطع عن الخير أو المنقطع عن قومه، و قد عرفت أنّ

٥٢٢

روايات سبب نزول السورة لا تلائمه و ستجي‏ء.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج البخاريّ و ابن جرير و الحاكم من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس أنّه قال: الكوثر الخير الّذي أعطاه إيّاه قال أبوبشر قلت لسعيد بن جبير فإنّ ناساً يزعمون أنّه نهر في الجنّة قال: النهر الّذي في الجنّة من الخير الّذي أعطاه الله إيّاه.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و الحاكم و ابن مردويه و البيهقيّ في سننه عن عليّ بن أبي طالب قال: لمّا نزلت هذه السورة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ) قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجبريل: ما هذه النحيرة الّتي أمرني بها ربّي؟ قال: إنّها ليست بنحيرة و لكن يأمرك إذا تحرّمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبّرت و إذا ركعت و إذا رفعت رأسك من الركوع فإنّها صلاتنا و صلاة الملائكة الّذين في السماوات السبع، و إنّ لكلّ شي‏ء زينة و زينة الصلاة رفع اليدين عند كلّ تكبيرة.

قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رفع اليدين من الاستكانة الّتي قال الله:( فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَ ما يَتَضَرَّعُونَ‏ ) .

أقول: و رواه في المجمع، عن المقاتل عن الأصبغ بن نباتة عنهعليه‌السلام ثمّ قال: أورده الثعلبيّ و الواحديّ في تفسيرهما، و قال أيضاً: إنّ جميع عترته الطاهرة رووا عنهعليه‌السلام : أنّ معنى النحر رفع اليدين إلى النحر في الصلاة.

و فيه، أخرج ابن جرير عن أبي جعفر في قوله:( فَصَلِّ لِرَبِّكَ ) قال: الصلاة( وَ انْحَرْ ) قال يرفع يديه أوّل ما يكبّر في الافتتاح.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله:( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ ) قال: إنّ الله أوحى إلى رسوله أن ارفع يديك حذاء نحرك إذا كبّرت للصلاة فذاك النحر.

٥٢٣

و في المجمع، في الآية عن عمر بن يزيد قال سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول في قوله:( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ ) هو رفع يديك حذاء وجهك.

أقول: ثمّ قال: و روى عنه عبدالله بن سنان مثله، و روي أيضاً قريباً منه عن جميل عنهعليه‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن سعد و ابن عساكر من طريق الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عبّاس قال: كان أكبر ولد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القاسم ثمّ زينب ثمّ عبدالله ثمّ اُمّ كلثوم ثمّ فاطمة ثمّ رقيّة فمات القاسم و هو أوّل ميّت من ولده بمكّة ثمّ مات عبدالله فقال العاص بن وائل السهميّ قد انقطع نسله فهو أبتر فأنزل الله( إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) .

و فيه، أخرج الزبير بن بكار و ابن عساكر عن جعفر بن محمّد عن أبيه قال: توفّي القاسم بن رسول الله بمكّة فمرّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو آت من جنازته على العاص بن وائل و ابنه عمرو فقال حين رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي لأشنؤه فقال العاص بن وائل: لا جرم لقد أصبح أبتر فأنزل الله( إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) .

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدّيّ قال: كانت قريش تقول - إذا مات ذكور الرجل - بتر فلان فلمّا مات ولد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال العاص بن وائل: بتر و الأبتر الفرد.

أقول: و في بعض الآثار أنّ الشانئ هو الوليد بن المغيرة، و في بعضها أبوجهل و في بعضها عقبة بن أبي معيط، و في بعضها كعب بن الأشرف، و المعتمد ما تقدّم.

و يؤيّده ما في الاحتجاج الطبرسيّ، عن الحسن بن عليّعليهما‌السلام : في حديث يخاطب فيه عمرو بن العاصي: و إنّك ولدت على فراش مشترك فتحاكمت فيك رجال قريش منهم أبوسفيان بن حرب و الوليد بن المغيرة و عثمان بن الحارث و النضر بن الحارث بن كلدة و العاص بن وائل كلّهم يزعم أنّك ابنه فغلبهم عليك من بين قريش ألأمهم حسباً

٥٢٤

و أخبثهم منصباً و أعظمهم بغية.

ثمّ قمت خطيباً و قلت: أنا شانئ محمّد و قال العاص بن وائل: إنّ محمّداً رجل أبتر لا ولد له قد مات انقطع ذكره فأنزل الله تبارك و تعالى:( إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) . الحديث.

و في تفسير القمّيّ:( إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ) قال: الكوثر نهر في الجنّة أعطى الله محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عوضاً عن ابنه إبراهيم.

أقول: الخبر على إرساله و إضماره معارض لسائر الروايات و تفسير الكوثر بنهر في الجنّة لا ينافي التفسير بالخير الكثير كما تقدّم في خبر ابن جبير.

٥٢٥

( سورة الكافرون مكّيّة و هي ست آيات)

( سورة الكافرون الآيات 1 - 6)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ( 1 ) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ( 2 ) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ( 3 ) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ( 4 ) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ( 5 ) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ( 6 )

( بيان‏)

فيها أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يظهر للكفّار براءته من دينهم و يخبرهم بامتناعهم من دينه فلا دينه يتعدّاه إليهم و لا دينهم يتعدّاهم إليه فلا يعبد ما يعبدون أبداً و لا يعبدون ما يعبد أبداً فلييأسوا من أيّ نوع من المداهنة و المساهلة.

و اختلفوا في كون السورة مكّيّة أو مدنيّة، و الظاهر من سياقها أنّها مكّيّة.

قوله تعالى: ( قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ) الظاهر أنّ هؤلاء قوم معهودون لا كلّ كافر و يدلّ على ذلك أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخاطبهم ببراءته من دينهم و امتناعهم من دينه.

قوله تعالى: ( لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ) الآية إلى آخر السورة مقول القول، و المراد بما تعبدون الأصنام الّتي كانوا يعبدونها، و مفعول( تَعْبُدُونَ ) ضمير راجع إلى الموصول محذوف لدلالة الكلام عليه و لرعاية الفواصل، و كذا مفاعيل الأفعال التالية:( أَعْبُدُ ) و( عَبَدْتُّمْ ) و( أَعْبُدُ ) .

و قوله:( لا أَعْبُدُ ) نفي استقباليّ فإنّ( لا ) لنفي الاستقبال كما أنّ( ما ) لنفي الحال، و المعنى لا أعبد أبداً ما تعبدونه اليوم من الأصنام.

٥٢٦

قوله تعالى: ( وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ ) نفي استقباليّ أيضاً لعبادتهم ما يعبدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو إخبار عن امتناعهم عن الدخول في دين التوحيد في مستقبل الأمر.

و بانضمام الأمر الّذي في مفتتح الكلام تفيد الآيتان أنّ الله سبحانه أمرني بالدوام على عبادته و أن اُخبركم أنّكم لا تعبدونه أبداً فلا يقع بيني و بينكم اشتراك في الدين أبداً.

فالآية في معنى قوله تعالى:( لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى‏ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) يس: 7، و قوله:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) البقرة: 6.

و كان من حقّ الكلام أن يقال: و لا أنتم عابدون من أعبد. لكن قيل: ما أعبد ليطابق ما في قوله:( لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ) .

قوله تعالى: ( وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ ) تكرار لمضمون الجملتين السابقتين لزيادة التأكيد، كقوله:( كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) التكاثر: 4 و قوله:( فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ) المدّثّر: 20.

و قيل: إنّ( ما ) في( ما عَبَدْتُّمْ ) و( ما أَعْبُدُ ) مصدرية لا موصولة و المعنى و لا أنا عابد عبادتكم و لا أنتم عابدون عبادتي أي لا اُشارككم و لا تشاركونني لا في المعبود و لا في العبادة فمعبودي هو الله و معبودكم الوثن و عبادتي ما شرعه الله لي و عبادتكم ما ابتدعتموه جهلاً و افتراء، و على هذا فالآيتان غير مسوقتين للتأكيد، و لا يخلو من بعد و سيأتي في البحث الروائيّ التالي وجه آخر للتكرار لطيف.

قوله تعالى: ( لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ ) تأكيد بحسب المعنى لما تقدّم من نفي الاشتراك، و اللّام للاختصاص أي دينكم و هو عبادة الأصنام يختصّ بكم و لا يتعدّاكم إليّ و ديني يختصّ بي و لا يتعدّاني إليكم و لا محلّ لتوهّم دلالة الآية على إباحة أخذ كلّ بما يرتضيه من الدين و لا أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يتعرض لدينهم بعد ذلك فالدعوة الحقّة الّتي يتضمّنها القرآن تدفع ذلك أساساً.

٥٢٧

و قيل: الدين في الآية بمعنى الجزاء و المعنى لكم جزاؤكم و لي جزائي، و قيل: إنّ هناك مضافاً محذوفاً و التقدير لكم جزاء دينكم و لي جزاء ديني، و الوجهان بعيدان عن الفهم.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن الأنباريّ في المصاحف عن سعيد بن ميناء مولى أبي البختريّ قال: لقي الوليد بن المغيرة و العاص بن وائل و الأسود بن المطّلب و اُميّة بن خلف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: يا محمّد هلمّ فلنعبد ما تعبد و تعبد ما نعبد و لنشترك نحن و أنت في أمرنا كلّه فإن كان الّذي نحن عليه أصحّ من الّذي أنت عليه كنت قد أخذت منه حظاً و إن كان الّذي أنت عليه أصحّ من الّذي نحن عليه كنّا قد أخذنا منه حظاً فأنزل الله( قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ) حتّى انقضت السورة.

أقول: و روى الشيخ في الأمالي، بإسناده عن ميناء عن غير واحد من أصحابه قريباً منه.

و في تفسير القمّيّ، عن أبيه عن ابن أبي عمير قال: سأل أبوشاكر أباجعفر الأحول عن قول الله:( قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ ) فهل يتكلّم الحكيم بمثل هذا القول، و يكرّر مرّة بعد مرّة؟ فلم يكن عند أبي جعفر الأحول في ذلك جواب.

فدخل المدينة فسأل أباعبداللهعليه‌السلام عن ذلك فقال: كان سبب نزولها و تكرارها أنّ قريشاً قالت لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تعبد آلهتنا سنة و نعبد إلهك سنة و تعبد آلهتنا سنة و نعبد إلهك سنة فأجابهم الله بمثل ما قالوا فقال فيما قالوا: تعبد آلهتنا سنة:( قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ) ، و فيما قالوا: نعبد إلهك سنة:( وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ

٥٢٨

ما أَعْبُدُ ) ، و فيما قالوا: تعبد آلهتنا سنة:( وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ ) و فيما قالوا: نعبد إلهك سنة:( وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ ) .

قال: فرجع أبو جعفر الأحول إلى أبي شاكر فأخبره بذلك فقال أبو شاكر: هذا حملته الإبل من الحجاز.

أقول: مفاد التكرار في كلام قريش الاستمرار على عبادة آلهتهم سنة و عبادة الله تعالى سنة.

٥٢٩

( سورة النصر مدنيّة و هي ثلاث آيات)

( سورة النصر الآيات 1 - 3)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ( 1 ) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا ( 2 ) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ( 3 )

( بيان‏)

وعد لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنصر و الفتح و أنّه سيرى الناس يدخلون في الإسلام فوجاً بعد فوج و أمره بالتسبيح حينئذ و التحميد و الاستغفار، و السورة مدنيّة نزلت بعد صلح الحديبيّة و قبل فتح مكّة على ما سنستظهر.

قوله تعالى: ( إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَ الْفَتْحُ ) ظهور( إذا ) المصدّرة بها الآية في الاستقبال يستدعي أن يكون مضمون الآية إخباراً بتحقّق أمر لم يتحقّق بعد، و إذا كان المخبر به هو النصر و الفتح و ذلك ممّا تقرّ به عين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو وعد جميل و بشرى لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يكون من ملاحم القرآن الكريم.

و ليس المراد بالنصر و الفتح جنسهما حتّى يصدقاً على جميع المواقف الّتي أيّد الله فيها نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أعدائه و أظهر دينه على دينهم كما في حروبه و مغازيه و إيمان الأنصار و أهل اليمن كما قبل إذ لا يلائمه قوله بعد:( وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً ) .

و ليس المراد بذلك أيضاً صلح الحديبيّة الّذي سمّاه الله تعالى فتحاً إذ قال:( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ) الفتح: 1- لعدم انطباق الآية الثانية بمضمونها عليه.

و أوضح ما يقبل الانطباق عليه النصر و الفتح المذكوران في الآية هو فتح مكّة

٥٣٠

الّذي هو اُمّ فتوحاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في زمن حياته و النصر الباهر الّذي انهدم به بنيان الشرك في جزيرة العرب.

و يؤيّده وعد النصر الّذي في الآيات النازلة في الحديبيّة( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَ يَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً ) الفتح: 3 فإنّ من القريب جدّاً أن يكون ما في الآيات وعداً بنصر عزيز يرتبط بفتح الحديبيّة و هو نصره تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قريش حتّى فتح مكّة بعد مضيّ سنتين من فتح الحديبيّة.

و هذا الّذي ذكر أقرب من حمل الآية على إجابة أهل اليمن الدعوة الحقّة و دخولهم في الإسلام من غير قتال، فالأقرب إلى الاعتبار كون المراد بالنصر و الفتح نصره تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قريش و فتح مكّة، و أن تكون السورة نازلة بعد صلح الحديبيّة و نزول سورة الفتح و قبل فتح مكّة.

قوله تعالى: ( وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً ) قال الراغب: الفوج الجماعة المارّة المسرعة، و جمعه أفواج. انتهى. فمعنى دخول الناس في دين الله أفواجاً دخولهم فيه جماعة بعد جماعة، و المراد بدين الله الإسلام قال تعالى:( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ ) آل عمران: 19.

قوله تعالى: ( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً ) لمّا كان هذا النصر و الفتح إذلالاً منه تعالى للشرك و إعزازاً للتوحيد و بعبارة اُخرى إبطالاً للباطل و إحقاقاً للحقّ ناسب من الجهة الاُولى تنزيهه تعالى و تسبيحه، و ناسب من الجهة الثانية - الّتي هي نعمة - الثناء عليه تعالى و حمده فلذلك أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله:( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ) .

و ههنا وجه آخر يوجّه به الأمر بالتسبيح و التحميد و الاستغفار جميعاً و هو أنّ للربّ تعالى على عبده أن يذكره بصفات كماله و يذكر نفسه بما له من النقص و الحاجة و لمّا كان في هذا الفتح فراغهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جلّ ما كان عليه من السعي في إماطة الباطل و قطع دابر الفساد أمر أن يذكره عند ذلك بجلاله و هو التسبيح و جماله

٥٣١

و هو التحميد و أن يذكره بنقص نفسه و حاجته إلى ربّه و هو طلب المغفرة و معناه فيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - و هو مغفور - سؤال إدامة المغفرة فإنّ الحاجة إلى المغفرة بقاء كالحاجة إليها حدوثاً فافهم ذلك، و بذلك يتمّ شكره لربّه تعالى و قد تقدّم(1) كلام في معنى مغفرة الذنب في الأبحاث السابقة.

و قوله:( إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً ) تعليل للأمر بالاستغفار لا يخلو من تشويق و تأكيد.

( بحث روائي‏)

في المجمع، عن مقاتل: لمّا نزلت هذه السورة قرأهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أصحابه ففرحوا و استبشروا و سمعها العبّاس فبكى فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يبكيك يا عمّ؟ قال: أظنّ أنّه قد نعيت إليك نفسك يا رسول الله فقال: إنّه لكما تقول فعاش بعدها سنتين ما رئي بعدها ضاحكاً مستبشراً.

أقول: و روي هذا المعنى في عدّة روايات بألفاظ مختلفة و قيل في وجه دلالتها أنّ سياقها يلوّح إلى فراغهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا عليه من السعي و المجاهدة و تمام أمره، و عند الكمال يرقب الزوال.

و فيه، عن اُمّ سلمة قالت: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالآخرة لا يقوم و لا يقعد و لا يجي‏ء و لا يذهب إلّا قال: سبحان الله و بحمده استغفر الله و أتوب إليه فسألناه عن ذلك فقال: إنّي اُمرت بها ثمّ قرأ( إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَ الْفَتْحُ ) .

أقول: و في هذا المعنى غير واحد من الروايات مع اختلاف مّا فيما كان يقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في العيون، بإسناده إلى الحسين بن خالد قال: قال الرضاعليه‌السلام سمعت أبي يحدّث عن أبيهعليهما‌السلام : إنّ أوّل سورة نزلت( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ) و آخر سورة نزلت( إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ ) .

____________________

(1) في آخر الجزء السادس من الكتاب.

٥٣٢

أقول: لعلّ المراد به أنّها آخر سورة نزلت تامّة كما قيل.

و في المجمع، في قصّة فتح مكّة: لمّا صالح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قريشاً عام الحديبيّة كان في أشراطهم أنّه من أحبّ أن يدخل في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل فيه فدخلت خزاعة في عقد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و دخلت بنو بكر في عقد قريش، و كان بين القبيلتين شرّ قديم.

ثمّ وقعت فيما بعد بين بني بكر و خزاعة مقاتلة و رفدت قريش بني بكر بالسلاح و قاتل معهم من قريش من قاتل باللّيل مستخفياً، و كان ممّن أعان بني بكر على خزاعة بنفسه عكرمة بن أبي جهل و سهيل بن عمرو.

فركب عمرو بن سالم الخزاعيّ حتّى قدم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة و كان ذلك ممّا هاج فتح مكّة فوقف عليه و هو في المسجد بين ظهراني القوم و قال:

لا هم إني ناشد(1) محمدا

حلف أبينا و أبيه الأتلدا(2)

إن قريشا أخلفوك الموعدا

و نقضوا ميثاقك المؤكدا

و قتلونا ركعا و سجدا

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حسبك يا عمرو ثمّ قام فدخل دار ميمونة و قال: اسكبي لي ماء فجعل يغتسل و هو يقول: لا نصرت إن لم أنصر بني كعب و هم رهط عمرو بن سالم ثمّ خرج بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة حتّى قدموا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبروه بما اُصيب منهم و مظاهرة قريش بني بكر عليهم ثمّ انصرفوا راجعين إلى مكّة و قد كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال للناس: كأنّكم بأبي سفيان قد جاء ليشدّد العقد و يزيد في المدّة و سيلقى بديل بن ورقاء فلقوا أبا سفيان بعسفان و قد بعثته قريش إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليشدّد العقد.

فلمّا لقي أبوسفيان بديلاً قال: من أين أقبلت يا بديل قال: سرت في هذا الساحل و في بطن هذا الوادي قال: ما أتيت محمّداً؟ قال: لا فلمّا راح بديل إلى مكّة قال

____________________

(1) الناشد: الطالب و المذكر.

(2) الأتلد: القديم.

٥٣٣

أبوسفيان: لئن كان جاء من المدينة لقد علّف بها النوى فعمد إلى مبرك ناقته و أخذ من بعرها ففتّه فرأى فيها النوى فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمّداً.

ثمّ خرج أبوسفيان حتّى قدم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا محمّد احقن دم قومك و أجر بين قريش و زدنا في المدّة فقال: أ غدرتم يا أباسفيان؟ قال: لا فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فنحن على ما كنّا عليه فخرج فلقي أبابكر فقال: أجر بين قريش قال: ويحك و أحد يجير على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ ثمّ لقي عمر بن الخطّاب فقال له مثل ذلك ثمّ خرج فدخل على اُمّ حبيبة فذهب ليجلس على الفراش فأهوت إلى الفراش فطوته فقال: يا بنيّة أ رغبت بهذا الفراش عنّي؟ فقالت: نعم هذا فراش رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كنت لتجلس عليه و أنت رجس مشرك.

ثمّ خرج فدخل على فاطمةعليها‌السلام فقال يا بنت سيّد العرب تجيرين بين قريش و تزيدين في المدّة فتكونين أكرم سيّدة في الناس؟ فقالت: جواري جوار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . قال: أ تأمرين ابنيك أن يجيرا بين الناس؟ قالت: و الله ما بلغ ابناي أن يجيرا بين الناس و ما يجير على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحد فقال: يا أباالحسن إنّي أرى الاُمور قد اشتدّت عليّ فانصحني فقال عليّعليه‌السلام : إنّك شيخ قريش فقم على باب المسجد و أجر بين قريش ثمّ الحقّ بأرضك قال: و ترى ذلك مغنياً عنّي شيئاً؟ قال: لا و الله ما أظنّ ذلك و لكن لا أجد لك غير ذلك فقام أبوسفيان في المسجد فقال: يا أيّها الناس إنّي قد أجرت بين قريش ثمّ ركب بعيره فانطلق.

فلمّا قدم على قريش قالوا: ما وراءك؟ فأخبرهم بالقصّة فقالوا: و الله إن زاد عليّ بن أبي طالب على أن لعب بك فما يغني عنّا ما قلت؟ قال: لا و الله ما وجدت غير ذلك.

قال: فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجهاز لحرب مكّة و أمر الناس بالتهيئة و قال: اللّهمّ خذ العيون و الأخبار عن قريش حتّى نبغتها في بلادها، و كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش فأتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخبر من السماء فبعث علياًعليه‌السلام و الزبير حتّى أخذاً كتابه

٥٣٤

من المرأة و قد مضت هذه القصّة في سورة الممتحنة.

ثمّ استخلف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا ذرّ الغفاريّ و خرج عامداً إلى مكّة لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان في عشرة آلاف من المسلمين و نحو من أربعمائة فارس و لم يتخلّف من المهاجرين و الأنصار عنه أحد.

و قد كان أبوسفيان بن الحارث بن عبدالمطّلب و عبدالله بن اُميّة بن المغيرة قد لقيا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنيق العقاب فيما بين مكّة و المدينة فالتمسا الدخول عليه فلم يأذن لهما فكلّمته اُمّ سلمة فيهما فقالت: يا رسول الله ابن عمّك و ابن عمّتك و صهرك قال لا حاجة لي فيهما أمّا ابن عمّي فهتك عرضي، و أمّا ابن عمّتي و صهري فهو الّذي قال لي بمكّة ما قال فلمّا خرج الخبر إليهما بذلك و مع أبي سفيان بنيّ له قال: و الله ليأذننّ لي أو لآخذنّ بيد بنيّ هذا ثمّ لنذهبنّ في الأرض حتّى نموت عطشاً و جوعاً فلمّا بلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رقّ لهما فأذن لهما فدخلاً عليه فأسلما.

فلمّا نزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ الظهران و قد غمّت الأخبار عن قريش فلا يأتيهم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خبر خرج في تلك الليلة أبوسفيان بن حرب و حكيم بن حزام و بديل بن ورقاء يتجسّسون الأخبار و قد قال العبّاس ليلتئذ: يا سوء صباح قريش و الله لئن بغتها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بلادها فدخل مكّة عنوة أنّه لهلاك قريش إلى آخر الدهر فخرج على بغلة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قال: أخرج إلى الأراك لعلّي أرى حطّاباً أو صاحب لبن أو داخلاً يدخل مكّة فيخبرهم بمكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيأتونه فيستأمنونه.

قال العبّاس فوالله إنّي لأطوف في الأراك ألتمس ما خرجت له إذ سمعت صوت أبي سفيان و حكيم بن حزام و بديل بن ورقاء و سمعت أباسفيان يقول: و الله ما رأيت كالليلة قطّ نيراناً فقال بديل: هذه نيران خزاعة فقال أبوسفيان: خزاعة الأم من ذلك قال: فعرفت صوته فقلت: يا أبا حنظلة يعني أباسفيان فقال: أبوالفضل؟ فقلت: نعم قال: لبّيك فداك أبي و اُمّي ما وراءك؟ فقلت: هذا رسول الله وراءك قد جاء بما لا قبل لكم به بعشرة آلاف من المسلمين.

قال: فما تأمرني؟ قلت: تركب عجز هذه البغلة فاستأمن لك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٥٣٥

فوالله لئن ظفر بك ليضربنّ عنقك فردفني فخرجت أركض به بغلة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكلّما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا: هذا عمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على بغلة رسول الله حتّى مررت بنار عمر بن الخطّاب فقال يعني عمر: يا أباسفيان الحمد لله الّذي أمكن منك بغير عهد و لا عقد ثمّ اشتدّ نحو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ركضت البغلة حتّى اقتحمت باب القبّة و سبقت عمر بما يسبق به الدابّة البطيئة الرجل البطي‏ء.

فدخل عمر فقال: يا رسول الله هذا أبوسفيان عدوّ الله قد أمكن الله منه بغير عهد و لا عقد فدعني أضرب عنقه فقلت: يا رسول الله إنّي قد أجرته ثمّ إنّي جلست إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أخذت برأسه و قلت: و الله لا يناجيه اليوم أحد دوني فلمّا أكثر فيه عمر قلت: مهلاً يا عمر فوالله ما يصنع هذا الرجل إلّا أنّه رجل من آل بني عبد مناف و لو كان من عديّ بن كعب ما قلت هذا قال: مهلاً يا عبّاس لإسلامك يوم أسلمت كان أحبّ إليّ من إسلام الخطاب لو أسلم فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اذهب فقد آمنّاه حتّى تغدو به عليّ في الغداة.

قال: فلمّا أصبح غدوت به على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا رآه قال: ويحك يا أباسفيان أ لم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلّا الله؟ فقال: بأبي أنت و اُمّي ما أوصلك و أكرمك و أرحمك و أحلمك و الله لقد ظننت أن لو كان معه إله لأغنى يوم بدر و يوم اُحد فقال: ويحك يا أباسفيان أ لم يأن لك أن تعلم أنّي رسول الله؟ فقال: بأبي أنت و اُمّي أمّا هذه فإنّ في النفس منها شيئاً قال العبّاس: فقلت له: ويحك اشهد بشهادة الحقّ قبل أن يضرب عنقك فتشهّد.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للعبّاس: انصرف يا عبّاس فاحبسه عند مضيق الوادي حتّى يمرّ عليه جنود الله قال: فحبسته عند خطم(1) الجبل بمضيق الوادي و مرّ عليه القبائل قبيلة قبيلة و هو يقول: من هؤلاء؟ و أقول: أسلم و جهينة و فلان حتّى مرّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الكتيبة الخضراء من المهاجرين و الأنصار في الحديد لا يرى منهم إلّا الحدق فقال: من هؤلاء يا أباالفضل؟ قلت: هذا رسول الله في المهاجرين و الأنصار فقال: يا أباالفضل

____________________

(1) خطم الجبل: أنفه.

٥٣٦

لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً، فقلت: ويحك أنّها النبوّة فقال: نعم إذاً.

و جاء حكيم بن حزام و بديل بن ورقاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أسلما و بايعاه فلمّا بايعاه بعثهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين يديه إلى قريش يدعوانهم إلى الإسلام و قال: من دخل دار أبي سفيان و هي بأعلى مكّة فهو آمن، و من دخل دار حكيم و هي بأسفل مكّة فهو آمن، و من أغلق بابه و كفّ يده فهو آمن.

و لمّا خرج أبوسفيان و حكيم من عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عامدين إلى مكّة بعث في أثرهما الزبير بن العوّام و أمّره على خيل المهاجرين و أمره أن يغرز رايته بأعلى مكّة بالحجون و قال له: لا تبرح حتّى آتيك ثمّ دخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة و ضربت هناك خيمته، و بعث سعد بن عبادة في كتيبة الأنصار في مقدّمته، و بعث الخالد بن الوليد فيمن كان أسلم من قضاعة و بني سليم و أمره أن يدخل أسفل مكّة و يغرز رايته دون البيوت.

و أمرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جميعاً أن يكفّوا أيديهم و لا يقاتلوا إلّا من قاتلهم، و أمرهم بقتل أربعة نفر عبدالله بن سعد بن أبي سرح و الحويرث بن نفيل و ابن خطل و مقبس بن ضبابة و أمرهم بقتل قينتين كانتا تغنّيان بهجاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قال: اقتلوهم و إن وجدتموهم متعلّقين بأستار الكعبة فقتل عليّعليه‌السلام الحويرث بن نفيل و إحدى القينتين و أفلتت الاُخرى، و قتل مقبس بن ضبابة في السوق، و أدرك ابن خطل و هو متعلّق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث و عمّار بن ياسر فسبق سعيد عمّاراً فقتله.

قال: و سعى أبوسفيان إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أخذ غرزه أي ركابه فقبّله ثمّ قال: بأبي أنت و اُمّي أ ما تسمع ما يقول سعد إنّه يقول:

اليوم يوم الملحمة

اليوم تسبى الحرمة

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّعليه‌السلام : أدركه و خذ الراية منه و كن أنت الّذي يدخل بها و أدخلها إدخالاً رفيقاً فأخذها عليّعليه‌السلام و أدخلها كما أمر.

و لمّا دخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة دخل صناديد قريش الكعبة و هم يظنّون أنّ السيف لا يرفع عنهم و أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و وقف قائماً على باب الكعبة فقال: لا إله

٥٣٧

إلّا الله وحده وحده أنجز وعده و نصر عبده و هزم الأحزاب وحده ألا إنّ كلّ مال أو مأثرة و دم يدّعى فهو تحت قدمي هاتين إلّا سدانة الكعبة و سقاية الحاجّ فإنهما مردودتان إلى أهليهما، ألا إنّ مكّة محرّمة بتحريم الله لم تحلّ لأحد كان قبلي و لم تحلّ لي إلّا ساعة من نهار و هي محرّمة إلى أن تقوم الساعة لا يختلى خلاها، و لا يقطع شجرها و لا ينفر صيدها، و لا تحلّ لقطتها إلّا لمنشد.

ثمّ قال: ألا لبئس جيران النبيّ كنتم لقد كذّبتم و طردتم و أخرجتم و آذيتم ثمّ ما رضيتم حتّى جئتموني في بلادي تقاتلونني فاذهبوا فأنتم الطلقاء فخرج القوم فكأنّما اُنشروا من القبور و دخلوا في الإسلام، و كان الله سبحانه أمكنه من رقابهم عنوة فكانوا له فيئا فلذلك سمّي أهل مكّة الطلقاء.

و جاء ابن الزبعري إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أسلم و قال:

يا رسول الإله إن لساني

راتق ما فتقت إذ أنا بور(1)

إذ أباري(2) الشيطان في سنن(3)

الغي و من مال ميله مثبور

آمن اللحم و العظام لربي

ثم نفسي الشهيد أنت النذير

قال: و عن ابن مسعود قال: دخل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الفتح و حول البيت ثلاثمائة و ستون صنما فجعل يطعنها بعود في يده و يقول:( جاءَ الْحَقُّ وَ ما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَ ما يُعِيدُ جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ) .

و عن ابن عبّاس قال: لمّا قدم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مكّة أبى أن يدخل البيت و فيه الآلهة فأمر بها فاُخرجت و صورة إبراهيم و إسماعيلعليهما‌السلام و في أيديهما الأزلام فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاتلهم الله أمّا و الله لقد علموا أنّهما لم يستقسما بها قطّ.

أقول: و الروايات حول قصّة الفتح كثيرة من أراد استقصاءها فعليه بكتب السير و جوامع الأخبار و ما تقدّم كالملخّص منها.

____________________

(1) البور: الهالك.

(2) المباراة: المباهاة.

(3) السنن: وسط الطريق.

٥٣٨

( سورة تبّت مكّيّة و هي خمس آيات)

( سورة المسد الآيات 1 - 5)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ( 1 ) مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ( 2 ) سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ( 3 ) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ( 4 ) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ ( 5 )

( بيان‏)

وعيد شديد لأبي لهب بهلاك نفسه و عمله و بنار جهنّم و لامرأته، و السورة مكّيّة.

قوله تعالى: ( تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ ) التبّ و التباب هو الخسران و الهلاك على ما ذكره الجوهريّ، و دوام الخسران على ما ذكره الراغب، و قيل: الخيبة، و قيل الخلوّ من كلّ خير و المعاني - كما قيل - متقاربة فيد الإنسان هي عضوه الّذي يتوصّل به إلى تحصيل مقاصده و ينسب إليه جلّ أعماله، و تباب يديه خسرانهما فيما تكتسبانه من عمل و إن شئت فقل: بطلان أعماله الّتي يعملها بهما من حيث عدم انتهائها إلى غرض مطلوب و عدم انتفاعه بشي‏ء منها و تباب نفسه خسرانها في نفسها بحرمانها من سعادة دائمة و هو هلاكها المؤبّد.

فقوله:( تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ ) أي أبولهب، دعاء عليه بهلاك نفسه و بطلان ما كان يأتيه من الأعمال لإطفاء نور النبوّة أو قضاء منه تعالى بذلك.

و أبولهب هذا هو أبولهب بن عبدالمطّلب عمّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان شديد المعاداة للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مصرّاً في تكذيبه مبالغاً في إيذائه بما يستطيعه من قول و فعل و هو الّذي قال للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تبّاً لك لمّا دعاهم إلى الإسلام لأوّل مرة فنزلت السورة و ردّ الله التباب عليه.

٥٣٩

و ذكر بعضهم أنّ أبالهب اسمه و إن كان في صورة الكنية، و قيل: اسمه عبدالعزّى و قيل: عبد مناف و أحسن ما قيل في ذكره في الآية بكنيته لا باسمه أنّ في ذلك تهكّماً به لأنّ أبالهب يشعر بالنسبة إلى لهب النار كما يقال أبوالخير و أبوالفضل و أبوالشرّ في النسبة إلى الخير و الفضل و الشرّ فلمّا قيل:( سَيَصْلى‏ ناراً ذاتَ لَهَبٍ ) فهم منه أنّ قوله:( تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ ) في معنى قولنا: تبّت يدا جهنّمي يلازم لهبها.

و قيل: لم يذكر باسمه و هو عبد العزّى لأنّ عزّى اسم صنم فكره أن يعدّ بحسب اللفظ عبداً لغير الله و هو عبد الله و إن كان الاسم إنّما يقصد به المسمّى.

قوله تعالى: ( ما أَغْنى‏ عَنْهُ مالُهُ وَ ما كَسَبَ ) ما الاُولى نافية و ما الثانية موصولة و معنى( ما كَسَبَ ) الّذي كسبه بأعماله و هو أثر أعماله أو مصدريّة و المعنى كسبه بيديه و هو عمله، و المعنى ما أغنى عنه عمله.

و معنى الآية على أيّ حال لم يدفع عنه ماله و لا عمله - أو أثر عمله - تباب نفسه و يديه الّذي كتب عليه أو دعي عليه.

قوله تعالى: ( سَيَصْلى‏ ناراً ذاتَ لَهَبٍ ) أي سيدخل ناراً ذات لهب و هي نار جهنّم الخالدة، و في تنكير لهب تفخيم له و تهويل.

قوله تعالى: ( وَ امْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) عطف على ضمير الفاعل المستكنّ في( سَيَصْلى) و التقدير: و ستصلى امرأته إلخ و( حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) بالنصب وصف مقطوع عن الوصفيّة للذمّ أي أذمّ حمّالة الحطب، و قيل: حال من( امْرَأَتُهُ ) و هو معنى لطيف على ما سيأتي.

قوله تعالى: ( فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ) المسد حبل مفتول من الليف، و الجملة حال ثانية من امرأته.

و الظاهر أنّ المراد بالآيتين أنّها ستتمثل في النار الّتي تصلاها يوم القيامة في هيئتها الّتي كانت تتلبّس بها في الدنيا و هي أنّها كانت تحمل أغصان الشوك و غيرها تطرحها بالليل في طريق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تؤذيه بذلك فتعذّب بالنار و هي تحمل الحطب و في

٥٤٠