الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن10%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219988 / تحميل: 7018
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

( سورة المعارج الآيات ١٩ - ٣٥)

إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ( ١٩ ) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ( ٢٠ ) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ( ٢١ ) إِلَّا الْمُصَلِّينَ ( ٢٢ ) الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ( ٢٣ ) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ ( ٢٤ ) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ( ٢٥ ) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ( ٢٦ ) وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ( ٢٧ ) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ( ٢٨ ) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ( ٢٩ ) إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ( ٣٠ ) فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ( ٣١ ) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ( ٣٢ ) وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ( ٣٣ ) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ( ٣٤ ) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ ( ٣٥ )

( بيان‏)

تشير الآيات إلى السبب الاُولي الّذي يدعو الإنسان إلى رذيلة الإدبار و التولّي و الجمع و الإيعاء الّتي تؤدّيه إلى دخول النار الخالدة الّتي هي لظى نزّاعة للشوى على ما تذكره الآيات.

و ذلك السبب صفة الهلع الّتي اقتضت الحكمة الإلهيّة أن يخلق الإنسان عليها ليهتدي بها إلى ما فيه خيره و سعادته غير أنّ الإنسان يفسدها على نفسه و يسيي‏ء

٨١

استعمالها في سبيل سعادته فتسلك به إلى هلكة دائمة إلّا الّذين آمنوا و عملوا الصالحات فهم في جنّات مكرمون.

قوله تعالى: ( إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ) الهلوع صفة مشتقّة من الهلع بفتحتين و هو شدّة الحرص، و ذكروا أيضاً أنّ الهلوع تفسّره الآيتان بعده فهو الجزوع عند الشرّ و المنوع عند الخير و هو تفسير سديد و السياق يناسبه.

و ذلك أنّ الحرص الشديد الّذي جبل عليه الإنسان ليس حرصاً منه على كلّ شي‏ء خيراً كان أو شرّاً أو نافعاً أو ضارّاً بل حرصاً على الخير و النافع و لا حرصاً على كلّ خير أو نافع سواء ارتبط به أو لم يرتبط و كان له أو لغيره بل حرصاً منه على ما يراه خيراً لنفسه أو نافعاً في سبيل الخير، و لازم هذا الحرص أن يظهر منه التزعزع و الاضطراب عند مسّ الشرّ و هو خلاف الخير و أن يمتنع عن ترك الخير عند مسّه و يؤثر نفسه على غيره إلّا أن يرى الترك أكثر خيراً و أنفع بحاله فالجزع عند مسّ الشرّ و المنع عند مسّ الخير من لوازم الهلع و شدّة الحرص.

و ليس الهلع و شدّة الحرص المجبول عليه الإنسان - و هو من فروع حبّ الذات - في حدّ نفسه من الرذائل المذمومة كيف؟ و هي الوسيلة الوحيدة الّتي تدعو الإنسان إلى بلوغ سعادته و كمال وجوده، و إنّما تكون رذيلة مذمومة إذا أساء الإنسان في تدبيرها فاستعملها فيما ينبغي و فيما لا ينبغي و بالحقّ و بغير حقّ كسائر الصفات النفسانيّة الّتي هي كريمة ما لزمت حدّ الاعتدال و إذا انحرفت إلى جانب الإفراط أو التفريط عادت رذيلة ذميمة.

فالإنسان في بدء نشأته و هو طفل يرى ما يراه خيراً لنفسه أو شرّاً لنفسه بما جهّز به من الغرائز العاطفة و هي الّتي تهواه نفسه و تشتهيه قواه من غير أن يحدّه بحدّ أو يقدّره بقدر فيجزع إذا مسّه ألم أو أيّ مكروه، و يمنع من يزاحمه فيما أمسك به بكلّ ما يقدر عليه من بكاء و نحوه.

و هو على هذه الحال حتّى إذا رزق العقل و الرشد أدرك الحقّ و الباطل و

٨٢

الخير و الشرّ و اعترفت نفسه بما أدرك و حينئذ يتبدّل عنده كثير من مصاديق الحقّ و الباطل و الخير و الشرّ فعاد كثير ممّا كان يراه خيراً لنفسه شرّاً عنده و بالعكس.

فإن أقام على ما كان عليه من اتّباع أهواء النفس و العكوف على المشتهيّات و اشتغل بها عن اتّباع الحقّ و غفل عنه، طبع على قلبه فلم يواجه حقّاً إلّا دحضه و لا ذا حقّ إلّا اضطهده و إن أدركته العناية الإلهيّة عاد ما كان عنده من الحرص على ما تهواه النفس حرصاً على الحقّ فلم يستكبر على حقّ واجهه و لا منع ذا حقّ حقّه.

فالإنسان في بادئ أمره و هو عهد الصبي قبل البلوغ و الرشد مجهّز بالحرص الشديد على الخير و هو صفة كماليّة له بحسب حاله بها ينبعث إلى جلب الخير و اتّقاء الشرّ قال تعالى:( وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) العاديات: ٨.

ثمّ إذا رزق البلوغ و الرشد زاد تجهيزاً آخر و هو العقل الّذي بها يدرك حقائق الاُمور على ما هي عليها فيدرك ما هو الاعتقاد الحقّ و ما هو الخير في العمل، و يتبدّل حرصه الشديد على الخير و كونه جزوعاً عند مسّ الشرّ و منوعاً عند مسّ الخير من الحرص الشديد على الخير الواقعي من الفزع و الخوف إذا مسّه شر اُخرويّ و هو المعصية و المسابقة إلى مغفرة ربّه إذا مسّه خير اُخرويّ و هو مواجهة الحسنة، و أمّا الشرّ و الخير الدنيويّان فإنّه لا يتعدّى فيهما ما حدّه الله له من الصبر عند المصيبة و الصبر على الطاعة و الصبر عن المعصية و هذه الصفة صفة كماليّة لهذا الإنسان.

و أمّا إذا أعرض الإنسان عمّا يدركه عقله و يعترف به فطرته و عكف على اتّباع الهوى و اعتنق الباطل و تعدّى إلى حقّ كلّ ذي حقّ و لم يقف في حرصه على الخير على حدّ فقد بدّل نعمة الله نقمة و أخذ صفة غريزيّة خلقها الله وسيلة له يتوسّل بها إلى سعادة الدنيا و الآخرة وسيلة إلى الشقوة و الهلكة تسوقه إلى الإدبار و التولّي و الجمع و الإيعاء كما في الآيات.

٨٣

و قد بان ممّا تقدّم أنّه لا ضير في نسبة هلع الإنسان في الآيات إلى الخلقة و الكلام مسوق للذمّ و قد قال تعالى:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ ) السجدة ٧، و ذلك أنّ ما يلحقه من الذمّ إنّما هو من قبل الإنسان و سوء تدبيره لا من قبله تعالى فهو كسائر نعمه تعالى على الإنسان الّتي يصيّرها نقماً بسوء اختياره.

و ذكر الزمخشريّ فراراً من الإشكال أنّ في الكلام استعارة، و المعنى أنّ الإنسان لإيثاره الجزع و المنع و تمكّنهما منه كأنّه مجبول مطبوع عليهما، و كأنّه أمر مخلوق فيه ضروريّ غير اختياريّ فالكلام موضوع على التشبيه لا لإفادة كونه مخلوقاً لله حقيقة لأنّ الكلام مسوق للذمّ و الله سبحانه لا يذمّ فعل نفسه، و من الدليل عليه استثناء المؤمنين الّذين جاهدوا أنفسهم فنجوا عن الجزع و المنع جميعاً.

و فيه أنّ الصفة مخلوقة نعمة و فضيلة و الإنسان هو الّذي يخرجها من الفضيلة إلى الرذيلة و من النعمة إلى النقمة و الذمّ راجع إلى الصفة من جهة سوء تدبيره لا من حيث إنّها فعله تعالى.

و استثناء المؤمنين ليس لأجل أنّ الصفة غير مخلوقة فيهم بل لأجل أنّهم أبقوها على كمالها و لم يبدّلوها رذيلة و نقمة.

و اُجيب أيضاً عن الاستثناء بأنّه منقطع و هو كما ترى.

قوله تعالى: ( إِلَّا الْمُصَلِّينَ ) استثناء من الإنسان الموصوف بالهلع، و في تقديم الصلاة على سائر الأعمال الصالحة المعدودة في الآيات التالية دلالة على شرفها و أنّها خير الأعمال.

على أنّ لها الأثر البارز في دفع رذيلة الهلع المذموم و قد قال تعالى:( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ ) العنكبوت: ٤٥.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ دائِمُونَ ) في إضافة الصلاة إلى الضمير دلالة على أنّهم مداومون على ما يأتون به من الصلاة كائنة ما كانت لا أنّهم دائماً في الصلاة، و فيه إشارة إلى أنّ العمل إنّما يكمل أثره بالمداومة.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ ) فسّره بعضهم

٨٤

بالزكاة المفروضة، و في الحديث عن الصادقعليه‌السلام : أنّ الحقّ المعلوم ليس من الزكاة و إنّما هو مقدار معلوم ينفقونه للفقراء، و السائل هو الفقير الّذي يسأل، و المحروم الفقير الّذي يتعفّف و لا يسأل‏ و السياق لا يخلو من تأييده فإنّ للزكاة موارد مسمّاة في قوله:( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقابِ وَ الْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ ) التوبة ٦٠ و ليست مختصّة بالسائل و المحروم على ما هو ظاهر الآية.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ) الّذي يفيده سياق عدّ الأعمال الصالحة أنّ المراد بتصديقهم يوم الدين التصديق العمليّ دون التصديق الاعتقاديّ و ذلك بأن تكون سيرتهم في الحياة سيرة من يرى أنّ ما يأتي به من عمل سيحاسب عليه فيجازي به إن خيراً فخيراً و إن شرّاً فشرّاً.

و في التعبير بقوله:( يُصَدِّقُونَ ) دلالة على الاستمرار فهو المراقبة الدائمة بذكره تعالى عند كلّ عمل يواجهونه فيأتون بما يريده و يتركون ما يكرهه.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ) أي خائفون، و الكلام في إشفاقهم من عذاب ربّهم نظير الكلام في تصديقهم بيوم الدين فهو الإشفاق العملي الظاهر من حالهم.

و لازم إشفاقهم من عذاب ربّهم مع لزومهم الأعمال الصالحة و مجاهدتهم في الله أن لا يثقوا بما يأتون به من الأعمال الصالحة و لا يأمنوا عذاب الله فإنّ الأمن لا يجامع الخوف.

و الملاك في الإشفاق من العذاب أنّ العذاب على المخالفة فلا منجى منه إلّا بالطاعة من النفس و لا ثقة بالنفس إذ لا قدرة لها في ذاتها إلّا ما أقدرها الله عليه و الله سبحانه مالك غير مملوك، قال تعالى:( قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً ) المائدة ١٧.

على أنّ الله سبحانه و إن وعد أهل الطاعة النجاة و ذكر أنّه لا يخلف الميعاد لكنّ الوعد لا يقيّد إطلاق قدرته فهو مع ذلك قادر على ما يريد و مشيّته نافذة فلا أمن بمعنى انتفاء القدرة على ما يخالف الوعد فالخوف على حاله و لذلك نرى

٨٥

أنّه تعالى يقول في ملائكته:( يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) فيصفهم بالخوف و هو يصرّح بعصمتهم، و يقول في أنبيائه:( وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ ) الأحزاب: ٣٩، و يصف المؤمنين في هذه الآية بالإشفاق و هو يعدّهم في آخر الآيات بقول جازم فيقول:( أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ) .

قوله تعالى: ( إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ) تعليل لإشفاقهم من عذاب ربّهم فيتبيّن به أنّهم مصيبون في إشفاقهم من العذاب و قد تقدّم وجهه.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ - إلى قوله -هُمُ العادُونَ ) تقدّم تفسير الآيات الثلاث في أوّل سورة المؤمنون.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ ) المتبادر من الأمانات أنواع الأمانة الّتي يؤتمنون عليها من المال و سائر ما يوصى به من نفس أو عرض و رعايتهم لها أن يحفظوها و لا يخونوها قيل: و لكثرة أنواعها جي‏ء بلفظ الجمع بخلاف العهد.

و قيل: المراد بها جميع ما كلّفهم الله من اعتقاد و عمل فتعمّ حقوق الله و حقوق الناس فلو ضيعوا شيئاً منها فقد خانوه.

و قيل: كلّ نعمة أعطاها الله عبده من الأعضاء و غيرها أمانة فمن استعمل شيئاً منها في غير ما أعطاه الله لأجله و أذن له في استعماله فقد خانه.

و ظاهر العهد عقد الإنسان مع غيره قولاً أو فعلاً على أمر و رعايته أن يحفظه و لا ينقضه من غير مجوّز.

و قيل: العهد كلّ ما التزم به الإنسان لغيره فإيمان العبد لربّه عهد منه عاهد به ربّه أن يطيعه في كلّ ما كلّفه به فلو عصاه في شي‏ء ممّا أمره به أو نهاه عنه فقد نقض عهده.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ ) الشهادة معروفة، و القيام بالشهادة عدم الاستنكاف عن تحمّلها و أداء ما تحمّل منها كما تحمّل من غير كتمان و لا تغيير، و الآيات في هذا المعنى كثيرة.

٨٦

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ ) المراد بالمحافظة على الصلاة رعاية صفات كمالها على ما ندب إليه الشرع.

قيل: و المحافظة على الصلاة غير الدوام عليها فإنّ الدوام متعلّق بنفس الصلاة و المحافظة بكيفيّتها فلا تكرار في ذكر المحافظة عليها بعد ذكر الدوام عليها.

قوله تعالى: ( أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ) الإشارة إلى المصلّين في قوله:( إِلَّا الْمُصَلِّينَ ) و تنكير جنّات للتفخيم، و( فِي جَنَّاتٍ ) خبر و( مُكْرَمُونَ ) خبر بعد خبر أو ظرف لقوله:( مُكْرَمُونَ ) .

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ:( إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ) قال: الشرّ هو الفقر و الفاقة( وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ) قال: الغنى و السعة.

و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ثمّ استثنى فقال( إِلَّا الْمُصَلِّينَ ) فوصفهم بأحسن أعمالهم( الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ دائِمُونَ ) يقول: إذا فرض على نفسه شيئاً من النوافل دام عليه.

أقول: قوله: إذا فرض على نفسه إلخ استفادعليه‌السلام هذا المعنى من إضافة الصلاة إلى ضمير( هُمْ ) و قد أشرنا إليه فيما مرّ.

و في الكافي، بإسناده إلى الفضيل بن يسار قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ ) قال: هي الفريضة. قلت:( الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ دائِمُونَ ) قال: هي النافلة.

و في المجمع: في قوله تعالى:( وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ) و روي عن أبي عبداللهعليه‌السلام أنّه قال: الحقّ المعلوم ليس من الزكاة و هو الشي‏ء الّذي تخرجه من مالك إن شئت كلّ جمعة و إن شئت كلّ يوم، و لكلّ ذي فضل فضله.

قال: و روي عنه أيضاً أنّه قال: هو أن تصل القرابة و تعطي من حرمك و تصدّق

٨٧

على من عاداك.

أقول: و روي هذا المعنى في الكافي، عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليه‌السلام بعدّة طرق و رواه في المحاسن عن أبي جعفرعليه‌السلام .

و في الكافي، بإسناده عن صفوان الجمّال عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ( لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ ) قال: المحروم المحارف الّذي قد حرم كدّ يمينه في الشراء و البيع.

قال: و في رواية اُخرى عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليه‌السلام أنّهما قالا: المحروم الرجل الّذي ليس بعقله بأس و لم يبسط له في الرزق و هو محارف.

و في المجمع: في قوله تعالى:( وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ ) روى محمّد بن الفضيل عن أبي الحسنعليه‌السلام أنّه قال: اُولئك أصحاب الخمسين صلاة من شيعتنا.

أقول: و لعلّه مبني علىّ ما ورد عنهمعليهم‌السلام أنّ تشريع النوافل اليوميّة لتتميم الفرائض.

٨٨

( سورة المعارج الآيات ٣٦ - ٤٤)

فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ( ٣٦ ) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ ( ٣٧ ) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ( ٣٨ ) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ ( ٣٩ ) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ ( ٤٠ ) عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ( ٤١ ) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ( ٤٢ ) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ ( ٤٣ ) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ( ٤٤ )

( بيان‏)

لمّا ذكر سبحانه في الفصل الأوّل من آيات السورة في ذيل ما حكى من سؤالهم العذاب أنّ لهم عذاباً واقعاً ليس له دافع و هو النار المتلظّية النزّاعة للشوى الّتي تدعو من أدبر و تولّى و جمع فأوعى.

ثم بيّن في الفصل الثاني منها الملاك في ابتلائهم بهذه الشقوة و هو أنّ الإنسان مجهّز بغريزة الهلع و حبّ خير نفسه و يؤدّيه اتّباع الهوى في استعمالها إلى الاستكبار على كلّ حقّ يواجهه فيورده ذلك النار الخالدة، و لا ينجو من ذلك إلّا الصالحون عملاً المصدّقون ليوم الدين المشفقون من عذاب ربّهم.

انعطف في هذا الفصل من الآيات - و هو الفصل الثالث - على اُولئك الكفّار كالمتعجّب من أمرهم حيث يجتمعون على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مهطعين عن اليمين و عن

٨٩

الشمال عزين مقبلين عليه بأبصارهم لا يفارقونه فخاطبهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما بالهم يحيطون بك مهطعين عليك يلازمونك؟ هل يريد كلّ امرء منهم أن يُدخل جنّة نعيم و هو كافر و قد قدّر الله سبحانه أن لا يكرم بجنّته إلّا من استثناه من المؤمنين فهل يريدون أن يسبقوا الله و يعجزوه بنقض ما حكم به و إبطال ما قدّره كلّا إنّ الله الّذي خلقهم من نطفة مهينة قادر أن يبدلهم خيراً منهم و يخلق ممّا خلقهم منه، غيرهم ممّن يعبده و يدخل جنّته.

ثمّ أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقطع خصامهم و يذرهم يخوضوا و يلعبوا حتّى يلاقوا يومهم الّذي يوعدون.

قوله تعالى: ( فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ عِزِينَ ) قال في المجمع: قال الزّجاج: المهُطع المقبل ببصره على الشي‏ء لا يزايله و ذلك من نظر العدوّ، و قال أبوعبيدة الإهطاع الإسراع، و عزين جماعات في تفرقة، واحدتهم عزّة. انتهى، و قِبلُ الشي‏ء بالكسر فالفتح الجهة الّتي تليه و الفاء في( فما ) فصيحة.

و المعنى: إذا كان الإنسان بكفره و استكباره على الحقّ مصيره إلى النار إلّا من استثني من المؤمنين فما للّذين كفروا عندك مقبلين عليك لا يرفعون عنك أبصارهم و هم جماعات متفرّقة عن يمينك و شمالك أ يطمعون أن يدخلوا الجنّة فيعجزوا الله و يسبقوه فيما قضى به أن لا يدخل الجنّة إلّا الصلحاء من المؤمنين.

قوله تعالى: ( أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ) ، الاستفهام للإنكار أي - ما هو الّذي يحملهم على أن يحتفّوا بك و يهطعوا عليك؟ - هل يحملهم على ذلك طمع كلّ منهم أن يدخل جنّة نعيم و هو كافر فلا مطمع للكافر في دخول الجنّة.

و نسب الطمع إلى كلّ امرء منهم و لم ينسب إلى جماعتهم بأن يقال: أ يطمعون أن يدخلوا إلخ كما نسب الإهطاع إلى جماعتهم فقيل: مهطعين لأنّ النافع من الطمع في السعادة و الفلاح هو الطمع القائم بنفس الفرد الباعث له إلى الإيمان و العمل الصالح دون القائم بالجماعة بما أنّها جماعة فطمع المجموع من حيث أنّه مجموع لا يكفي في سعادة كلّ واحد واحد.

٩٠

و في قوله:( أَنْ يُدْخَلَ ) مجهولاً من باب الإفعال إشارة إلى أنّ دخولهم في الجنّة ليس منوطاً باختيارهم و مشيّتهم بل لو كان فإنّما هو إلى الله سبحانه فهو الّذي يدخلهم الجنّة إن شاء و لن يدخل بما قدّر أن لا يدخلها كافر.

قيل: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلّي عند الكعبة و يقرأ القرآن فكان المشركون يجتمعون حوله حلقاً حلقاً و فرقاً يستمعون و يستهزؤن بكلامه، و يقولون إن دخل هؤلاء الجنّة كما يقول محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلندخلها قبلهم فنزلت الآيات.

و هذا القول لا يلائمه سياق الآيات الظاهر في تفرّع صنعهم ذلك على ما مرّ من حرمان الناس من دخول الجنّة إلّا من استثني من المؤمنين إذ من الضروري على هذا أنّ اجتماعهم حولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إهطاعهم عليه إنّما حملهم عليه إفراطهم في عداوته و مبالغتهم في إيذائه و إهانته، و أنّ قولهم: سندخل الجنّة قبل المؤمنين - و هم مشركون مصرّون على إنكار المعاد غير معترفين بنار و لا جنّة - إنّما كان استهزاء و تهكّما.

فلا مساغ لتفريع عملهم ذاك على ما تقدّم من حديث النار و الجنّة و السؤال - في سياق التعجيب - عن السبب الحامل لهم عليه ثمّ استفهام طمعهم في دخول الجنّة و إنكاره عليهم.

فبما تقدّم يتأيّد أن يكون المراد بالّذين كفروا في قوله:( فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا ) قوماً من المنافقين آمنوا بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ظاهراً و لازموه ثمّ كفروا بردّ بعض ما نزل عليه كما يشير إليه أمثال قوله تعالى:( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ) المنافقون ٣، و قوله:( لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ ) التوبة ٦٦، و قوله:( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ ) التوبة ٧٧.

فهؤلاء قوم كانوا قد آمنوا و دخلوا في جماعة المؤمنين و لازموا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مهطعين عليه عن اليمين و عن الشمال عزين ثمّ كفروا ببعض ما نزل إليه لا يبالون به فقرعهم الله سبحانه في هذه الآيات أنّهم لا ينتفعون بملازمته و لا لهم أن يطمعوا في دخول الجنّة فليسوا ممّن يدخلها و ليسوا بسابقين و لا معجزين.

٩١

و يؤيّده قوله الآتي:( إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى‏ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ ) إلخ على ما سنشير إليه.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ) ردع لهم عن الطمع في دخول الجنّة مع كفرهم.

و قوله:( إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ) المراد بما يعلمون النطفة فإنّ الإنسان مخلوق منها، و الكلام مرتبط بما بعده و المجموع تعليل للردع، و محصّل التعليل أنّا خلقناهم من النطفة - و هم يعلمون به - فلنا أن نذهب بهم و نخلق مكانهم قوماً آخرين يكونون خيراً منهم مؤمنين غير رادّين لشي‏ء من دين الله، و لسنا بمسبوقين حتّى يعجزنا هؤلاء الكفّار و يسبقونا فندخلهم الجنّة و ينتقض به ما قدّرنا أن لا يدخل الجنّة كافر.

و قيل:( من ) في قوله:( مِمَّا يَعْلَمُونَ ) تفيد معنى لام التعليل، و المعنى أنّا خلقناهم لأجل ما يعلمون و هو الاستكمال بالإيمان و الطاعة فمن الواجب أن يتلبّسوا بذلك حتّى ندخلهم الجنّة فكيف يطمعون في دخولها و هم كفّار؟ و إنّما علموا بذلك من طريق إخبار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و قيل:( من ) لابتداء الغاية، و المعنى: إنّا خلقناهم من نطفة قذرة لا تناسب عالم القدس و الطهارة حتّى تتطهّر بالإيمان و الطاعة و تتخلّق بأخلاق الملائكة فتدخل و أنّى لهم ذلك و هم كفّار.

و قيل: المراد بما في( مِمَّا يَعْلَمُونَ ) الجنس، و المعنى إنّا خلقناهم من جنس الآدميّين الّذين يعلمون أو من الخلق الّذين يعلمون لا من جنس الحيوانات الّتي لا تعقل و لا تفقه فالحجّة لازمة لهم تامّة عليهم، و الوجوه الثلاثة سخيفة.

قوله تعالى: ( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى‏ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) المراد بالمشارق و المغارب مشارق الشمس و مغاربها فإنّ لها في كلّ يوم من أيّام السنة الشمسيّة مشرقاً و مغرباً لا يعود إليهما إلى مثل اليوم من السنة القابلة، و من المحتمل أن يكون المراد بها مشارق جميع النجوم

٩٢

و مغاربها.

و في الآية على قصرها وجوه من الالتفات ففي قوله:( فَلا أُقْسِمُ ) التفات من التكلّم مع الغير في( إِنَّا خَلَقْناهُمْ ) إلى التكلّم وحده، و الوجه فيه تأكيد القسم بإسناده إلى الله تعالى نفسه.

و في قوله:( بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ ) التفات من التكلّم وحده إلى الغيبة، و الوجه فيه الإشارة إلى صفة من صفاته تعالى هي المبدأ في خلق الناس جيلا بعد جيلا و هي ربوبيّته للمشارق و المغارب فإنّ الشروق بعد الشروق و الغروب بعد الغروب الملازم لمرور الزمان دخلاً تامّاً في تكون الإنسان جيلا بعد جيل و سائر الحوادث الأرضيّة المقارنة له.

و في قوله:( إِنَّا لَقادِرُونَ ) التفات من الغيبة إلى التكلّم مع الغير، و الوجه فيه الإشارة إلى العظمة المناسبة لذكر القدرة، و في ذكر ربوبيّته للمشارق و المغارب إشارة إلى تعليل القدرة فإنّ الّذي ينتهي إليه تدبير الحوادث في تكوّنها لا يعجزه شي‏ء من الحوادث الّتي هي أفعاله عن شي‏ء منها و لا يمنعه شي‏ء من خلقه من أن يبدّله خيراً منه و إلّا شاركه المانع في أمر التدبير و الله سبحانه واحد لا شريك له في ربوبيّته فافهم ذلك.

و قوله:( إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى‏ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ ) ( عَلى) متعلّق بقوله:( لَقادِرُونَ ) و المفعول الأوّل لنبدّل ضمير محذوف راجع إليهم و إنّما حذف للإشارة إلى هوان أمرهم و عدم الاهتمام بهم، و( خَيْراً ) مفعوله الثاني و هو صفة اُقيمت مقام موصوفها، و التقدير إنّا لقادرون على أن نبدّلهم قوماً خيراً منهم، و خيريّتهم منهم أن يؤمنوا بالله و لا يكفروا به و يتّبعوا الحقّ و لا يردّوه.

و قوله:( وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) المراد بالسبق الغلبة على سبيل الاستعارة، و كونه تعالى مسبوقاً هو أن يمنعه خلقهم أن يذهب بهم و يأتي بدلهم بقوم خير منهم.

و سياق الآية لا يخلو من تأييد مّا لما تقدّم من كون المراد بالّذين كفروا قوماً من المنافقين دون المشركين المعاندين للدين النافين لأصل المعاد فإنّ ظاهر قوله:

٩٣

( خَيْراً مِنْهُمْ ) لا يخلو من دلالة أو إشعار بأنّ فيهم شائبة خيريّة و لله أن يبدّل خيراً منهم، و المشركون لا خير فيهم لكن هذه الطائفة من المنافقين لا يخلو تحفّظهم على ظواهر الدين ممّا آمنوا به و لم يردّوه من خير للإسلام.

فقد بان بما تقدّم أنّ قوله:( إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ) إلى آخر الآيات الثلاث تعليل للردع بقوله:( كَلَّا ) ، و أنّ محصّل مضمون الآيات الثلاث أنّهم مخلوقون من نطفة - و هم يعلمون ذلك - و هي خلقة جارية و الله الّذي هو ربّ الحوادث الجارية الّتي منها خلق الإنسان جيلاً بعد جيل و المدبّر لها قادر أن يذهب بهم و يبدّلهم خيراً منهم يعتنون بأمر الدين و يستأهلون لدخول الجنّة، و لا يمنعه خلق هؤلاء أن يبدّلهم خيراً منهم و يدخلهم الجنّة بكمال إيمانهم من غير أن يضطرّ إلى إدخال هؤلاء الجنّة فلا ينتقض تقديره أنّ الجنّة للصالحين من أهل الإيمان.

قوله تعالى: ( فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ) أمر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتركهم و ما هم فيه، و لا يلحّ عليهم بحجاج و لا يتعب نفسه فيهم بعظة، و قد سمّي ما هم عليه بالخوض و اللعب دلالة على أنّهم لا ينتفعون به انتفاعاً حقيقيّاً على ما لهم فيه من الإمعان و الإصرار كاللعب الّذي لا نفع فيه وراء الخيال فليتركوا حتّى يلاقوا اليوم الّذي يوعدون و هو يوم القيامة.

و في إضافة اليوم إليهم إشارة إلى نوع اختصاص له بهم و هو الاختصاص بعذابهم.

قوله تعالى: ( يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى‏ نُصُبٍ يُوفِضُونَ ) بيان ليومهم الّذي يوعدون و هو يوم القيامة.

و الأجداث جمع جدث و هو القبر، و سراعاً جمع سريع، و النصب ما ينصب علامة في الطريق يقصده السائرون للاهتداء به، و قيل: هو الصنم المنصوب للعبادة و هو بعيد من كلامه تعالى، و الإيفاض الإسراع و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ ) الخشوع تأثّر خاصّ في القلب عن مشاهدة العظمة و الكبرياء، و يناظره الخضوع في الجوارح، و نسبة الخشوع إلى الأبصار لظهور آثاره فيها، و الرهق غشيان الشي‏ء بقهر.

٩٤

و قوله:( ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ ) الإشارة إلى ما مرّ من أوصافه من الخروج من الأجداث سراعاً و خشوع الأبصار و رهق الذلّة.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد عن عبادة بن أنس قال: دخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسجد فقال: ما لي أراكم عزين حلقاً حلق الجاهليّة قعد رجل خلف أخيه.

أقول: و رواه عن ابن مردويه عن أبي هريرة و لفظه: خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أصحابه جلوس حلقاً حلقاً فقال: ما لي أراكم عزين‏، و روي هذا المعنى أيضاً عن جابر بن سمرة.

و في تفسير القمّيّ: و قوله:( كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ) قال: من نطفة ثمّ علقة، و قوله:( فَلا أُقْسِمُ ) أي اُقسم( بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ ) قال: مشارق الشتاء و مشارق الصيف و مغارب الشتاء و مغارب الصيف.

و في المعاني، بإسناده إلى عبدالله بن أبي حماد رفعه إلى أميرالمؤمنينعليه‌السلام قال: لها ثلاثمائة و ستّون مشرقاً و ثلاثمائة و ستّون مغرباً فيومها الّذي تشرق فيه لا تعود فيه إلّا من قابل.

و في تفسير القمّيّ: و قوله:( يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً ) قال: من القبر( كَأَنَّهُمْ إِلى‏ نُصُبٍ يُوفِضُونَ ) قال: إلى الداعي ينادون، و قوله:( تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ) قال: تصيبهم ذلّة.

٩٥

( سورة نوح مكّيّة و هي ثمان و عشرون آية)

( سورة نوح الآيات ١ - ٢٤)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ١ ) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( ٢ ) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ( ٣ ) يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٤ ) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا ( ٥ ) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا ( ٦ ) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ( ٧ ) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ( ٨ ) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ( ٩ ) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ( ١٠ ) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا ( ١١ ) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا ( ١٢ ) مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ( ١٣ ) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ( ١٤ ) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ( ١٥ ) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ( ١٦ ) وَاللهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ( ١٧ ) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ( ١٨ ) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا ( ١٩ ) لِّتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا ( ٢٠ ) قَالَ نُوحٌ رَّبِّ

٩٦

إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا ( ٢١ ) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا ( ٢٢ ) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ( ٢٣ ) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا ( ٢٤ )

( بيان‏)

تشير السورة إلى رسالة نوحعليه‌السلام إلى قومه و إجمال دعوته و عدم استجابتهم له ثمّ شكواه إلى ربّه منهم و دعائه عليهم و استغفاره لنفسه و لوالديه و لمن دخل بيته مؤمناً و للمؤمنين و المؤمنات ثمّ حلول العذاب بهم و إهلاكهم بالإغراق و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى‏ قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) ( أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ ) إلخ، تفسير لرسالته أي أوحينا إليه أن أنذر إلخ.

و في الكلام دلالة على أنّ قومه كانوا عرضة للعذاب بشركهم و معاصيهم كما يدلّ عليه ما حكي من قولهعليه‌السلام في الآية التالية:( اعْبُدُوا اللهَ وَ اتَّقُوهُ ) و ذلك أنّ الإنذار تخويف و التخويف إنّما يكون من خطر محتمل لا دافع له لو لا التحذّر، و قد أفاد قوله:( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) أنّه متوجّه إليهم غير تاركهم لو لا تحذّرهم منه.

قوله تعالى: ( قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ ) بيان لتبليغه رسالته إجمالاً بقوله:( إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) و تفصيلاً بقوله:( أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ) إلخ.

و في إضافته اليوم إلى نفسه إظهار إشفاق و رحمة أي إنّكم قومي يجمعكم و إيّاي مجتمعنا القوميّ تسوؤني ما أساءكم فلست اُريد إلّا ما فيه خيركم و سعادتكم إنّي

٩٧

لكم نذير إلخ.

و في قوله:( أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ) دعوتهم إلى توحيده تعالى في عبادته فإنّ القوم كانوا وثنيّين يعبدون الأصنام، و الوثنيّة لا تجوّز عبادة الله سبحانه لا وحده و لا مع غيره، و إنّما يعبدون أرباب الأصنام بعبادة الأصنام ليكونوا شفعاء لهم عند الله، و لو جوّزوا عبادته تعالى لعبدوه وحده فدعوتهم إلى عبادة الله دعوة لهم إلى توحيده في العبادة.

و في قوله:( وَ اتَّقُوهُ ) دعوتهم إلى اجتناب معاصيه من كبائر الإثم و صغائره و هي الشرك فما دونه، و فعل الأعمال الصالحة الّتي في تركها معصية.

و في قوله:( وَ أَطِيعُونِ ) دعوة لهم إلى طاعة نفسه المستلزم لتصديق رسالته و أخذ معالم دينهم ممّا يعبد به الله سبحانه و يستنّ به في الحياة منهعليه‌السلام ففي قوله:( اعْبُدُوا اللهَ وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ ) ندب إلى اُصول الدين الثلاثة: التوحيد المشار إليه بقوله:( اعْبُدُوا اللهَ ) و المعاد الّذي هو أساس التقوى(١) و التصديق بالنبوّة المشار إليه بالدعوة إلى الطاعة المطلقة.

قوله تعالى: ( يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) مجزوم في جواب الأمر و كلمة( مِنْ ) للتبعيض على ما هو المتبادر من السياق، و المعنى أن تعبدوه و تتّقوه و تطيعوني يغفر لكم بعض ذنوبكم و هي الذنوب الّتي قبل الإيمان: الشرك فما دونه، و أمّا الذنوب الّتي لم تقترف بعد ممّا سيستقبل فلا معنى لمغفرتها قبل تحقّقها، و لا معنى أيضاً للوعد بمغفرتها إن تحقّقت في المستقبل أو كلّما تحقّقت لاستلزام ذلك إلغاء التكاليف الدينيّة بإلغاء المجازاة على مخالفتها.

و يؤيّد ذلك ظاهر قوله تعالى:( يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) الأحقاف: ٣١، و قوله:( يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) إبراهيم: ١٠ و قوله:( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ) الأنفال: ٣٨.

____________________

(١) إذ لو لا المعاد بما فيه من الحساب و الجزاء لم يكن للتقوى الدينيّ وجه، منه.

٩٨

و أمّا قوله تعالى يخاطب المؤمنين من هذه الاُمّة:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى‏ تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ ) الصفّ: ١٢ فهو و إن كان ظاهراً في مغفرة جميع الذنوب لكن رتّبت المغفرة فيه على استمرار الإيمان و العمل الصالح و إدامتهما ما دامت الحياة فلا مغفرة فيه متعلّقة بما لم يتحقّق بعد من المعاصي و الذنوب المستقبلة و لا وعد بمغفرتها كلّما تحقّقت.

و قد مال بعضهم اعتماداً على عموم المغفرة في آية الصفّ إلى القول بأنّ المغفور بسبب الإيمان في هذه الاُمّة جميع الذنوب و في سائر الاُمم بعضها كما هو ظاهر قول نوح لاُمّته:( يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) و قول الرسل: كما في سورة إبراهيم( يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) و قول الجنّ كما في سورة الأحقاف لقومهم:( يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) .

و فيه أنّ آية الصفّ موردها غير مورد المغفرة بسبب الإيمان فقط كما أشرنا إليه. على أنّ آية الأنفال صريحة في مغفرة ما قد سلف، و المخاطب به كفّار هذه الاُمّة.

و ذهب بعضهم إلى كون( مِنْ ) في قوله:( مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) زائدة، و لم تثبت زيادة( من ) في الإثبات فهو ضعيف و مثله في الضعف قول من ذهب إلى أنّ( مِنْ ) بيانيّة، و قول من ذهب إلى أنّها لابتداء الغاية.

قوله تعالى: ( وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) تعليق تأخيرهم إلى أجل مسمّى على عبادة الله و التقوى و طاعة الرسول يدلّ على أنّ هناك أجلين أجل مسمّى يؤخّرهم الله إليه إن أجابوا الدعوة، و أجل غيره يعجّل إليهم لو بقوا على الكفر، و أنّ الأجل المسمّى أقصى الأجلين و أبعدهما.

ففي الآية وعدهم بالتأخير إلى الأجل المسمّى إن آمنوا و في قوله:( إِنَّ أَجَلَ

٩٩

اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ ) تعليل للتأخير إلى الأجل المسمّى إن آمنوا فالمراد بأجل الله إذا جاء مطلق الأجل المقضيّ المتحتّم أعمّ من الأجل المسمّى و غير المسمّى فلا رادّ لقضائه تعالى و لا معقّب لحكمه.

و المعنى: أن اعبدوا الله و اتّقوه و أطيعوني يؤخّركم الله إلى أجل مسمّى هو أقصى الأجلين فإنّكم إن لم تفعلوا ذلك جاءكم الأجل غير المسمّى بكفركم و لم تؤخّروا فإنّ أجل الله إذا جاء لا يؤخّر، ففي الكلام مضافاً إلى وعد التأخير إلى الأجل المسمّى إن آمنوا، تهديد بعذاب معجّل إن لم يؤمنوا.

و قد ظهر بما تقدّم عدم استقامة تفسير بعضهم لأجل الله بالأجل غير المسمّى و أضعف منه تفسيره بالأجل المسمّى.

و ذكر بعضهم: أنّ المراد بأجل الله يوم القيامة و الظاهر أنّه يفسّر الأجل المسمّى أيضاً بيوم القيامة فيرجع معنى الآية حينئذ إلى مثل قولنا: إن لم تؤمنوا عجّل الله إليكم بعذاب الدنيا و إن آمنتم أخّركم إلى يوم القيامة إنّه إذا جاء لا يؤخّر.

و أنت خبير بأنّه لا يلائم التبشير الّذي في قوله:( يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) .

و قوله:( لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) متعلّق بأوّل الكلام أي لو كنتم تعلمون أنّ لله أجلين و أنّ أجله إذا جاء لا يؤخّر استجبتم دعوتي و عبدتم الله و اتّقيتموه و أطعتموني هذا فمفعول( تَعْلَمُونَ ) محذوف يدلّ عليه سابق الكلام.

و قيل: إنّ( تَعْلَمُونَ ) منزّل منزلة الفعل اللازم، و جواب لو متعلّق بأوّل الكلام، و المعنى: لو كنتم من أهل العلم لاستجبتم دعوتي و آمنتم، أو متعلّق بآخر الكلام، و المعنى: لو كنتم من أهل العلم لعلمتم أنّ أجل الله إذا جاء لا يؤخّر.

قوله تعالى: ( قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَ نَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً ) القائل هو نوحعليه‌السلام و الّذي دعا إليه هو عبادة الله و تقواه و طاعة رسوله، و الدعاء ليلاً و نهاراً كناية عن دوامه من غير فتور و لا توان.

و قوله:( فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً ) أي من إجابة دعوتي فالمراد بالفرار التمرّد و التأبّي عن القبول استعارة، و إسناد زيادة الفرار إلى دعائه لما فيه من شائبة

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

بين يدي محاوراته مع عثمان

لقد قرأنا في الجزء الثاني من الحلقة الأولى من هذه الموسوعة كثيراً من أخبار ابن عباس في أيام عثمان ، ولمّا كان حال عثمان غير خفيّ في التاريخ ، بالرغم من موضوعات زادت في تشويهه بأكاذيب أموية ، لكنها لم تصنع شيئاً ، فبقيت حال عثمان كما هي معلومة نسباً وحسباً وصحبةً ومصاهرةً وحكومةً وممارسةً وضلوعاً وإنصياعاً لبني أمية ، ما سببّت نقمة الناس عليه ، لأمور صدرت منه ومنهم ما كان ينبغى لمثله في سنّه وشأنه أن تنسب إليه فيؤاخذ عليها حتى أودت بحياته ، فكان كما قال عنه الدكتور طه حسين في كتابه ( الفتنة الكبرى ) :

( فأمّا عثمان فمهما يكن إعتذار أهل السنة والمعتزلة عنه ، فإنّه قد أسرف وترك عمّاله يسرفون في العُنف بالرعية ، ضرباً ونفياً وحبساً ، وهو نفسه قد ضرب أو أمر بضرب رجلين من أعلام أصحاب النبيّ ، فضرب عمار بن ياسر حتى أصابه الفتق ، وأمر من أخرج عبد الله بن مسعود من مسجد النبيّ إخراجاً عنيفاً ، حتى كسر بعض أضلاعه ).

وقال أيضاً : ( فهذه السياسة العنيفة التي تسلط الخليفة وعماله على أبشار الناس وأشعارهم وعلى أمنهم وحريتهم ليست من سيرة النبيّ ولا من سيرة الشيخين في شيء ).

١٤١

وقال أيضاً : ( والسياسة المالية التي أصطنعها عثمان منذ نهض بالخلافة كلّها موضوع النقمة والإنكار من أكثر الذين عاصروا عثمان ، ومن أكثر الرواة والمؤرخين ).

وقال أيضاً : ( ولو سار عثمان في الأموال العامّة سيرة عمر فلم ينفق المال إلاّ بحقه ، لجنّب نفسه وجنّب المسلمين شراً عظيماً ، ولكان من الممكن أن ينشئ الإسلام للإنسانية نظاماً سياسياً وإجتماعياً صالحاً يجنبّها كثيراً من الإضطراب الذي اضطرت إليه ، والفساد الذي تورطت فيه )(1) .

أقول : وعلى نحو ما مرّ من أقوال طه حسين نجد أقوال آخرين من الباحثين المحدثين ، ولا بدع لو التقت أراؤهم في نقد أفعاله وأختلفت أقوالهم في توجيه سياسته والتي رأوها جميعاً سياسية أموية رعناء جلبت له وللأمة كثيراً من الشر ، وكثرّت عليه أسباب النقمة ، بداية من المسلمين الصحابة في المدينة ، وسرعان ما أستطار شررها إلى بقية الأمصار ، فكثرت وفود الساخطين من العراق ومصر وغيرهما والتقوا بالصحابة فتفاقم الخطب.

وكانت شدّة المحنة والمعاناة عندما فزع الثوار إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يشكون حالهم ، فيسارع هو إلى عثمان ناصحاً في محاولات إصلاح بين الطرفين ، لكن عثمان لم يستجب للنصح ، بل وزاد في تعقيد الأمور إتهامه الإمام عليه السلام ما دام كثير من الثوار اتخذوه لجأً ، يرجون إغاثتهم

____________________

(1) الفتنة الكبرى 1 / 190 ـ 198.

١٤٢

من سوء أفعال عثمان وبطانته ، وكلّما دافع الإمام عليه السلام عن عثمان بالحسنى إزداد تصلّب الساخطين ، فآثر الإعتزال ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ، غير أنّ عثمان وبتحريض من بني أمية كان يزداد غضباً وحنقاً عليه ، ممّا أضطر العباس بن عبد المطلب ومن بعده ابنه عبد الله حبر الأمة القيام بمحاولات إصلاحية أيضاً ولتهدئة الخواطر ، عسى أن تهدأ الفورة وتسكن الثورة ، ولم تنجح تلك المساعي ، لأنّ عثمان كان إذن شرّ يسمع لما يقوله له مروان وبني أمية.

ومع كثرة الشواهد على المساعي الإصلاحية التي بذلها الإمام عليه السلام وعمه العباس وابنه عبد الله ، كان عثمان يتهمهم في النصح ، مع أنّه لو أنصفهم لوجدهم أحرص الناس عليه وأرعى ذماماً له للقرابة النسبية منه ، وهذا ما سنقرأ بعضاً منه في مواقف العباس وابنه عبد الله بن عباس في إصلاح ذات البين ، لكن عثمان ـ كما قلناـ كان مغلوباً على أمره من قبل بني أمية ، وفي قلوبهم جميعاً من الحقد والشنآن على بني هاشم عموماً وعلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام خصوصاً ، ممّا طغى على لسان عثمان ، فأظهرته فلتات اللسان عن بعض ما يضمره الجنان من الحقد والشنآن ، فيقول للإمام عليه السلام مغاضباً وعاتباً : ( ما ذنبي إليك إذا لم تحبّك قريش وقد قتلت منهم سبعين ترد آنافهم الماء قبل شفاهم ) ، وفي لفظ آخر : ( كأن أعناقهم أباريق فضة ) ، ونحو هذا. ولقد همّ مرّة ـ وربما أكثر ـ بأن ينفي الإمام عليه السلام من المدينة كما صنع مع أبي ذر ، كما ستأتي الإشارة إليه في مواقف العباس الإصلاحية والإستصلاحية.

١٤٣

وإلآن إلى قراءة بعضها ، ولنبدأ بما رواه الطبري في تاريخه :

( بسند عن حمران بن أبان ، قال : أرسلني عثمان إلى العباس بعدما بويع فدعوته له ، فقال : مالك تعبدتني ـ ( تبعّدتني ظ )؟ قال : لم أكن قط أحوج إليك مني اليوم. قال ـ العباس ـ : الزم خمساً لا تنازعك الأمة خزائمها ما لزمتها. قال : وما هي؟ قال : الصبر عن القتل ، والتحبب ، والصفح ، والمدارات ، وكتمان السر )(1) .

ولكن عثمان لم يلتزم بنصيحة العباس ، بل استمر على حاله ، فاتسع الخرق على الراقع ، حتى عجز العباس من رأب الصدع ، مع ما كان فيه من حنكة رأي وجودة تدبير ، حتى قيل له داهية قريش ، ولمّا رأى تسافل الحال ونذر الشر بدت تلوح في الأفق ، فصار يدعو ربّه أن يسبق به أجله قبل وقوع الكارثة التي بدت بوادرها تنذر بشر مستطير فإستجاب له ربّه ، فما كانت إلاّ جمعة حتى لقي ربّه.

أمّا عن مواقفه في نصيحة عثمان في كفّ أذاه عن الإمام عليه السلام وعن الأمّة فهي متعددة ، أذكر بعضها :

فمنها ما ذكر ابن أبي الحديد في شرح النهج ، قال :

( روى الزبير بن بكار في كتابه الموفقيات ، عن عبد الله بن عباس ، قال : ما سمعت من أبي شيئاً قط في أمر عثمان يلومه فيه ولا يعذره ، ولا سألته عن شيء من ذلك مخافة أن أهجم منه على ما لا يوافقه ، فأنا عنده

____________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 400 ط دار المعارف بمصر.

١٤٤

ليلة ونحن نتعشى إذ قيل هذا أمير المؤمنين عثمان بالباب ، فقال : أئذنوا له ، فدخل فأوسع له على فراشه وأصاب من العشاء معه ، فلمّا رفع قام من كان هناك وثبتّ أنا.

فحمد الله عثمان وأثنى عليه ، ثمّ قال : أمّا بعد يا خال فإنّي قد جئتك أستعذرك من ابن أخيك عليّ سبّني ، وشهر أمري ، وقطع رحمي ، وطعن في ديني ، وإنّي أعوذ بالله منكم يا بني عبد المطلب ، إن كان لكم حقّ تزعمون أنّكم غُلبتم عليه فقد تركتموه في يدي مَن فعل ذلك بكم ، وأنا أقرب إليكم رحماً منه ، وما لمت منكم أحداً إلاّ عليّاً ، ولقد دعيت أن أبسط عليه فتركته لله والرحم وأنا أخاف أن لا يتركني فلا أتركه.

قال ابن عباس : فحمد أبي الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : أمّا بعد يا بن أختي فإن كنت لا تحمد عليّاً لنفسك فإنّي لا أحمدك لعليّ ، وما عليّ وحده قال فيك ، بل غيره ، فلو أنّك اتهمت نفسك للناس أتهم الناس أنفسهم لك ، ولو أنّك نزلت ممّا رقيت وأرتقوا ممّا نزلوا فأخذت منهم وأخذوا منك ما كان بذلك بأس.

قال عثمان : فذلك إليك يا خال وأنت بيني وبينهم.

قال : أفأذكر لهم ذلك عنك؟

قال : نعم ، وأنصرف.

فما لبثنا أن قيل : هذا أمير المؤمنين قد رجع بالباب ، قال أبي : أئذنوا له ، فدخل فقام قائماً ولم يجلس وقال : لا تعجل يا خال حتى أوذنك. فنظرنا فإذا مروان بن الحكم كان جالساً بالباب ينتظره حتى خرج فهو

١٤٥

الذي ثناه عن رأيه الأوّل.

فأقبل عليَّ أبي وقال : يا بني ما إلى هذا من أمره شيء. ثمّ قال : يا بني أملك عليك لسانك حتى ترى ما لابدّ منه. ثمّ رفع يديه فقال : اللّهمّ اسبق بي ما لا خير لي في إدراكه ، فما مرّت جمعة حتى مات رحمه الله )(1) .

ومنها ما رواه البلاذري في ( أنساب الأشراف ) ، بإسناده عن صهيب مولى العباس ، قال :

( إنّ العباس قال لعثمان : أذكرّك الله في أمر ابن عمك وابن خالك وصهرك ، وصاحبك مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد بلغني أنّك تريد أن تقوم به وبأصحابه.

فقال : أوّل ما أجيبك به أنّي قد شفعتك ، إنّ عليّاً لو شاء لم يكن أحد عندي إلاّ دونه ، ولكن أبى إلاّ رأيه. ثم قال لعليّ مثل قوله لعثمان.

فقال عليّ : لو أمرني عثمان أن أخرج من داري لخرجت )(2) .

وهذا رواه ابن عساكر أيضاً في ( تاريخ مدينة دمشق ) ، بسنده عن صهيب مولى العباس ، وجاء في آخر قول الإمام عليه السلام : ( فأمّا أداهن أن لا

____________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 397.

وهذه الواقعة غير التي سبقتها وان عاصرتها زماناً ففي الاُولى كانت الشكوى في دار عثمان والعباس حاضر عنده. أمّا هذه فهي في دار العباس وعثمان حاضر عنده ، ولا مانع من تعدّدهما إذا عرفنا تخبّط السياسة يومئذ في معالجة مشاكل الناس وأستحواذ مروان على عثمان في تدبير أُموره.

(2) أنساب الأشراف 1 / 498 ـ 499.

١٤٦

يقام بكتاب الله فلم أكن لأفعل )(1) .

وجاء الخبر في ( التعديل والتجريح ) مسنداً عن سهيل مولى العباس يقول : ( أرسلني العباس إلى عثمان أدعوه ، فأتاه فقال : أفلح الوجه أبا الفضل ، قال : ووجهك يا أمير المؤمنين. قال : عليّ ابن عمك وابن عمتك وصهرك وأخوك في دينك وصاحبك مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبلغني أنّك تريد أن تقوم به وبأصحابه. فقال : لو شاء عليّ ما كان دونه أحد ، ثم أرسلني إلى عليّ ، فقال : إنّ عثمان ابن عمك وابن عمتك وأخوك في دينك وصاحبك مع رسول صلى الله عليه وآله وسلم وولي بيعتك ، فقال : لو أمرتني أن أخرج من داري لفعلت )(2) .

ومنها ما رواه البلاذري وغيره ، واللفظ له قال :

( حدثني عباس بن هشام ، عن أبيه ، عمّن حدثه ، عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عباس : إنّ عثمان شكا عليّاً إلى العباس فقال له : يا خال إنّ عليّاً قد قطع رحمي ، وألّب الناس عليَّ ، والله لئن كنتم يا بني عبد المطلب أقررتم هذا الأمر في أيدي بني تيمّ وعدي ، فبنو عبد مناف أحق أن لا تنازعوهم فيه ولا تحسدوهم عليه.

قال عبد الله بن العباس : فأطرق أبي طويلاً ، ثم قال : يا بن أخت لئن كنت لا تحمد عليّاً فما نحمدك له ، وأن حقك في القرابة والإمامة للحق الذي لا يُدفع ولا يجحد ، فلو رقيت فيما تطأطأ ، أو تطأطأت فيما رقي ،

____________________

(1) تاريخ مدينة دمشق 39 / 264 ط دار الفكر بيروت.

(2) التعديل والتجريح 3 / 1007.

١٤٧

تقاربتهما ، وكان ذلك أوصل وأجمل.

قال : قد صيّرت الأمر عن ذلك إليك ، فقرّب الأمر بيننا.

قال : فلمّا خرجنا من عنده دخل عليه مروان فأزاله عن رأيه ، فما لبثنا أن جاء أبي رسول عثمان بالرجوع إليه ، فلمّا رجع ، قال : يا خال أحبّ أن تؤخر النظر في الأمر الذي ألقيت إليك حتى أرى من رأي.

فخرج أبي من عنده ثم التفت إلى فقال : يا بني ليس إلى هذا الرجل من أمره شيء ، ثم قال : اللهم أسبق بي الفتن ، ولا تبقني إلى ما لا خير لي في البقاء إليه ، فما كانت جمعة حتى هلك )(1) .

ويبدو لي تعدّد الوقائع مع تقارب الزمان بينهما ، ففي الرواية الأولى كانت الشكاة في دار العباس وقد أتاه عثمان بنفسه ليلة وأصاب معه من عشائه ثم نفث شكاته ، وفي الرواية الثانية التي رواها البلاذري بسنده عن ابن عباس أنّ التشاكي كان في دار عثمان ، وفي خبر التعديل والتجريح أنّ العباس أرسل مولاه سهيل فاستدعى عثمان إلى بيته ونصحه باستعمال الرفق واللين مع عليّ عليه السلام ، وفي كلّ الروايات قرأنا طرحاً إستصلاحياً يكاد النجاح حليفه ، لكن صراحة استحواذ مروان على عثمان في تخبطه السياسي فلم يدع مجالاً للعباس ولا لغيره أن يصلح بينه وبين الناس لمعالجة المشاكل العالقة يومئذ.

ويبدو لي أنّ العباس يأس من إصلاح ما أفسده بنو أمية من أمر

____________________

(1) أنساب الأشراف 1 / ق4 / 498 ـ 499.

١٤٨

عثمان ، وتوقع المزيد من طوارق الحدثان تجتاح المجتمع الإسلامي في المدينة وغيرها ، ولذلك دعا أن يسبقها أجله ، فمرض فكان العوّاد يعودونه ، فكان آخر نصائحه لعثمان حين دخل عليه في مرضه الذي مات فيه :

( فقال ـ عثمان ـ : أوصني بما ينفعني ( الله ) به.

فقال : إلزم ثلاث خصال خواص تصيب بها ثلاث عوام ، فالخواص : ترك مصانعة الناس في الحق ، وسلامة القلب ، وحفظ اللسان ، تُصب بها سُرور الرعية ، وسلامة الدين ، ورضا الربّ )(1) .

ولشدّة اهتمامه بوحدة كلمة المسلمين وصلاح ذات البين كانت وصاياه لعثمان ، وكذلك كانت وصيته للإمام أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً ، وهي آخر وصية صدرت منه ، تكشف عن بُعد نظر في قراءة المستقبل المظلم الذي ستنتصر فيه قوى الشر على وحدة الخير ، ويكون عليّ عليه السلام ضحيتها ، لذلك كانت نظرة العباس تفيض بالألم على ما أصاب بني هاشم من تحديات وإحباطات سابقاً ، مضافاً إلى ما سيلاقونه لاحقاً من عقبات ومعادات من أعدائهم مع خذلان من أنصارهم ، إلاّ من رحم الله فحفظ فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقليلٌ ما هم.

كلّ هذا كان عند العباس بثاقب نظره رؤيا العين ، فهو إذ يوصي الإمام عليه السلام بتجنب المواجهة مع عثمان خشية عليه من أن يعصب به كلّ

____________________

(1) أخبار الدولة العباسية / 21.

١٤٩

الإضطغان القرشي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للدماء التي أُريقت في سبيل الإسلام ، من قريش وغيرهم ، والعباس كان يعرف كراهية قريش لبني هاشم منذ عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد مرّت بنا شواهد على ذلك.

والآن إلى قراءة وصيته لابن أخيه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام :

وصية العباس للإمام عليه السلام :

لقد سبق ذكر الوصية عند ذكر وفاة العباس ، إلاّ أنّ ثمة تفاوت وتعقيب وتذنيب اقتضى ذكرها ثانياً.

قال ابن أبي الحديد : ( قرأت في كتاب صنفه أبو حيان التوحيدي في تقريظ الجاحظ ، قال : نقلت من خط الصولي : قال الجاحظ : إنّ العباس بن عبد المطلب أوصى عليّ بن أبي طالب عليه السلام في علته التي مات فيها ، فقال : أي بُنيّ إنّي مشفٍ على الظعن عن الدنيا إلى الله الذي فاقتي إلى عفوه وتجاوزه أكثر من حاجتي إلى ما أنصحك فيه وأشير عليك به ، ولكن العِرق نبوض ، والرحم عروض ، وإذا قضيت حق العمومة فلا أبالي بعد ، إنّ هذا الرجل ـ يعني عثمان ـ قد جاءني مراراً بحديثك ، وناظرني ملايناً ومخاشناً في أمرك ، ولم أجد عليك إلاّ مثل ما أجد منك عليه ، ولا رأيت منه لك إلاّ مثل ما أجد منك له ، ولست تؤتى من قلّة علم ولكن من قلّة قبول ، ومع هذا كلّه فالرأي الذي أودّعك به أن تمسك عنه لسانك ويدك ، وهمزك وغمزك ، فإنّه لا يبدؤك ما لم تبدؤه ، ولا يجيبك عما لم يبلغه ،

١٥٠

وأنت المتجني وهو المتأني ، وأنت العائب وهو الصامت ، فإن قلت : كيف هذا وقد جلس مجلساً أنا به أحق ، فقد قاربت ولكن ذاك بما كسبت يداك ، ونكص عنه عقباك ، لأنّك بالأمس الأدنى هرولتَ إليهم ، تظن أنّهم يُحلّون جيدك ويُختمّون أصبعك ، ويطأون عقبك ، ويرون الرشد بك ، ويقولون لا بد لنا منك ، ولا معدل لنا عنك ، وكان هذا من هفواتك الكُبر ، وهناتك التي ليس لك منها عذر ، والآن بعد ما ثللت عرشك بيدك ، ونبذت رأي عمك في البيداء ، يتدهده(1) في السافياء(2) ، خذ بأحزم ممّا يتوضح به وجه الأمر ، لا تشارّ هذا الرجل ولا تماره ، ولا يبلغه عنك ما يحنقه عليك ، فإنّه إن كاشفك أصاب أنصاراً ، وإن كاشفته لم تر إلا ضِراراً ، ولم تستلج إلاّ عثاراً ، واعرف مَن هو بالشام له ، وَمَن ههنا حوله ، ومن يطيع أمره ويمتثل قوله ، ولا تغترر بناس يطيفون بك ، ويدّعون الحنوّ عليك والحبّ لك ، فإنّهم بين مولى جاهل ، وصاحب متمنّ ، وجليس يرعى العين ويبتدر المحضر ، ولو ظن الناس بك ما تظن بنفسك لكان الأمر لك والزمام في يدك ، ولكن هذا حديث يوم مرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فات ، ثم حرم الكلام فيه حين مات ، فعليك الآن بالعزوف عن شيء عرضك له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يتم ، وتصدّيت له مرّة بعد مرّة فلم يستقم ، ومن ساور الدهر غُلِب ، ومن حرص على ممنوع تعب ، فعلى ذلك فقد أوصيت عبد الله بطاعتك ، وبعثته على متابعتك ، وأوجرته محبتك ، ووجدت عنده من ذلك ظني به لك ، لا

____________________

(1) يتدهده : يتدحرج.

(2) السافياء : الريح التي تحمل التراب.

١٥١

توتر قوسك إلاّ بعد الثقة بها ، وإذا أعجبتك فأنظر إلى سيتها ، ثم لا تفوّق إلاّ بعد العلم ، ولا تغرق في النزع إلاّ لتصيب ، وأنظر لا تطرف يمينك عينَك ، ولا تجنِ شمالك شينك ، ودّعني بآيات من آخر سورة الكهف(1) ، وقم إذا بدا لك )(2) .

تعقيب ابن أبي الحديد على الوصية :

قال ابن أبي الحديد بعد ذكره الوصية المتقدمة : ( قلت : الناس يستحسنون رأي العباس لعليّ عليه السلام في أن لا يدخل في أصحاب الشورى ، وأمّا أنّا فانّي أستحسنه إن قصد به معنى ، ولا أستحسنه إن قصد به معنى آخر ، وذلك لأنّه إن أجري بهذا الرأي إلى ترفّعه عليهم وعلوّ قدره عن أن يكون مماثلاً لهم ، أو أجري به إلى زهده في الإمارة ورغبته عن الولاية ، فكلّ هذا رأي حسن وصوابه ، وإن كان منزعه في ذلك إلى أنّك إن تركت الدخول معهم وانفردت بنفسك في دارك أو خرجت عن المدينة إلى بعض أموالك فإنّهم يطلبونك ويضربون إليك آباط الإبل حتى يولّوك الخلافة ، وهذا هو الظاهر من كلامه ، فليس هذا الرأي عندي بمستحسن ،

____________________

(1) هي قوله تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً _ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً _ قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً _ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا ً) الكهف / 107 ـ 110.

(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 3 / 282 ط مصر الاُولى.

١٥٢

لأنّه لو فعل لولّوا عثمان أو واحداً منهم غيره ، ولم يكن عندهم من الرغبة إليه عليه السلام ما يبعثهم على طلبه ، بل كان تأخره عنهم قرّة أعينهم ، وواقعاً بإيثارهم ، فإنّ قريشاً كلّها كانت تبغضه أشد البغض ، ولو عمّر عمر نوح وتوصل إلى الخلافة بجميع أنواع التوصل كالزهد فيها تارة ، والمناشدة بفضائله تارة ، وبما فعله في ابتداء الأمر من إخراج زوجته وأطفاله ليلاً إلى بيوت الأنصار ، وبما اعتمده إذ ذاك من تخلّفه في بيته واظهار أنّه قد عكف على جمع القرآن ، وبسائر أنواع الحيل فيها لم تحصل له إلاّ بتجريد السيف كما فعله في آخر الأمر.

ولست ألوم العرب لا سيما قريشاً في بغضها له وانحرافها عنه ، فإنّه وترها وسفك دماءها ، وكشف القناع في منابذتها ، ونفوس العرب وأكبادها كما تعلم ، وليس الإسلام بمانع من بقاء الأحقاد في النفوس ، كما نشاهد اليوم عياناً ، والناس كالناس الأول ، والطبائع واحدة ، فأحسب أنّك كنت من سنتين أو ثلاث جاهلياً أو من بعض الروم وقد قتل واحد من المسلمين ابنك أو أخاك ثم أسلمت ، أكان اسلامك يُذهب عنك ما تجده من بغض ذلك القاتل وشنآنه ، كلا إنّ ذلك لغير ذاهب ، هذا إذا كان الإسلام صحيحاً والعقيدة محققة لا كإسلام كثير من العرب ، فبعضهم تقليداً ، وبعضهم للطمع والكسب ، وبعضهم خوفاً من السيف ، وبعضهم على طريق الحمية والإنتصار ، أو لعداوة قوم آخرين من أضداد الإسلام وأعدائه.

١٥٣

واعلم أنّ كلّ دم أراقه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسيف عليّ عليه السلام وبسيف غيره ، فإنّ العرب بعد وفاته عليه السلام عصبت تلك الدماء بعليّ بن أبي طالب عليه السلام وحده ، لأنّه لم يكن في رهطه مَن يستحق في شرعهم وسنتهم وعادتهم أن يعصب به تلك الدماء إلاّ بعليّ وحده ، وهذه عادة العرب إذا قتل منها قتلى طالبت بتلك الدماء القاتل ، فإن مات أو تعذرت عليها مطالبته طالبت بها أمثل الناس من أهله. لمّا قتل قوم من بني تميم أخاً لعمرو بن هند ، قال بعض أعدائه يحرض عمراً عليهم :

من مبلغ عمراً بأن المرء لم يخلق صُباره

وحوادث الأيام لايبقى لها إلاّ لحجاره

ها إنّ عجزة أمه بالسفح أسفل من أواره

تسفي الرياح خلال كشيحه وقد سلبوا أزاره

فاقتل زرارة لا أرى في القوم أمثل من زرارة

أن يقتل زرارة بن عدس رئيس بني تميم ، ولم يكن قاتلاً أخا الملك ولا حاضراً قتله. ومن نظر في أيام العرب ووقائعها ومقاتلها عرف ما ذكرناه )(1) .

____________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 3 / 283 ط الأولى بمصر.

١٥٤

محاورات ابن عباس مع عثمان

بين يدي المحاورة الأولى :

نذكر ما روى الواقدي في كتاب ( الشورى ) عن ابن عباس رحمه الله قال :

( شهدت عتاب عثمان لعليّ عليه السلام يوماً فقال له في بعض ما قاله : نشدتك الله أن تفتح للفرقة باباً ، فلعهدي بك وأنت تطيع عتيقاً وابن الخطاب طاعتك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولستُ بدون واحد منهما ، وأنا أمسّ بك رحماً وأقرب إليك صهراً ، فإن كنت تزعم أنّ هذا الأمر جعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لك ، فقد رأيناك حين توفي نازعت ثمّ أقررت ، فإن كانا لم يركبا من الأمر جَداً فكيف أذعنت لهما بالبيعة وبخعت بالطاعة ، وإن كانا أحسنا فيما وليّا ولم أقصر عنهما في ديني وحسبي وقرابتي فكن لي كما كنت لهما.

فقال عليّ عليه السلام : أمّا الفرقة ، فمعاذ الله أن أفتح لها باباً وأسهّل إليها سبيلاً ، ولكني أنهاك عمّا ينهاك الله ورسوله عنه ، وأهديك إلى رشدك.

وأمّا عتيق وابن الخطاب ، فإن كانا أخذا ما جعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لي فأنت أعلم بذلك والمسلمون ، وما لي ولهذا الأمر وقد تركته منذ حين. فأمّا أن لا يكون حقي بل المسلمون فيه شرع ، فقد أصاب السهم الثغرة ،

١٥٥

وأمّا أن يكون حقي دونهم ، فقد تركته لهم طبت به نفساً ، ونفضت يدي عنه استصلاحاً.

وأمّا التسوية بينك وبينهما ، فلست كأحدهما ، إنّهما وليا هذا الأمر فطلقا أنفسهما وأهلهما عنه ، وعُمتَ فيه وقومك عوم السابح في اللجة ، فارجع إلى الله أبا عمرو وأنظر هل بقي من عمرك إلاّ كظمء الحمار ، فحتى متى وإلى متى؟ ألا تنهى سفهاء بني أمية عن أعراض المسلمين وأبشارهم وأموالهم؟ والله لو ظلم عامل من عمالك حيث تغرب الشمس لكان أثمه مشتركاً بينه وبينك.

قال ابن عباس : فقال عثمان : لك العتبى ، وافعل وأعزل من عمالي كلّ من تكرهه ويكرهه المسلمون.

ثمّ أفترقا ، فصدّه مروان بن الحكم عن ذلك ، وقال : يجتريء عليك الناس فلا تعزل أحداً منهم )(1) .

المحاورة الثانية :

روى الزبير بن بكار في كتاب ( الموفقيات ) بسنده عن ابن عباس S قال : ( صليت العصر يوماً ثمّ خرجت ، فإذا أنا بعثمان في أيام خلافته في بعض أزقة المدينة وحده ، فأتيته إجلالاً وتوقيراً لمكانه ، فقال لي : هل رأيت عليّاً؟

____________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 398 ط مصر الأولى.

١٥٦

قلت : خلّفته في المسجد ، فإن لم يكن الآن فيه فهو في منزله.

قال : أمّا منزله فليس فيه ، فابغه لنا في المسجد ، فتوجهنا إلى المسجد ، وإذا عليّ عليه السلام يخرج منه.

ـ قال ابن عباس : وقد كنت أمس ذلك اليوم عند عليّ فذكر عثمان وتجرّمه عليه ، وقال : أما والله يا بن عباس إنّ من دوائه لقطع كلامه وترك لقائه. فقلت له : يرحمك الله كيف لك بهذا ، فإن تركته ثمّ أرسل إليك فما أنت صانع؟ قال : أعتلّ وأعتلّ فمن يضرّني؟ قال : لا أحدـ

قال ابن عباس : فلمّا تراءينا له وهو خارج من المسجد ظهر منه من الالتفات والطلب للإنصراف ما أستبان لعثمان ، فنظر إليّ عثمان ، وقال : يا ابن عباس أما ترى ابن خالنا يكره لقاءنا؟

فقلت : ولِمَ وحقك ألزم وهو بالفضل أعلم.

فلمّا تقاربا رماه عثمان بالسلام فردّ عليه. فقال عثمان : إن تدخل فإياك أردنا ، وإن تمض فإياك طلبنا. فقال عليّ : أيّ ذلك أحببت. قال : تدخل ، فدخلا وأخذ عثمان بيده فأهوى به إلى القبلة فقصر عنها وجلس قبالتها ، فجلس عثمان إلى جانبه ، فنكصت عنهما ، فدعواني جميعاً فأتيتهما.

فحمد الله عثمان وأثنى عليه وصلّى على رسوله ، ثمّ قال : أمّا بعد يا ابنّي خاليّ وابنيّ عمّي فإذ جمعتكما في النداء فأستجمعكما في الشكاية على رضائي عن أحدكما ووجدي على الآخر ، إنّي أستعذركما من أنفسكما وأسألكما فياتكما وأستوهبكما رجعتكما ، فوالله لو غالبني الناس

١٥٧

ما أنتصرت إلاّ بكما ، ولو تهضّموني ما تعززت إلاّ بعزّكما ، ولقد طال هذا الأمر بيننا حتى تخوّفت أن يجوز قدره ويعظم الخطر فيه. ولقد هاجني العدو عليكما وأغراني بكما ، فمنعني الله والرحم ممّا أراد ، وقد خلونا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلى جانب قبره ، وقد أحببت أن تظهرا لي رأيكما وما تنطويان لي عليه وتصدقا ، فإنّ الصدق أنجى وأسلم ، وأستغفر الله لي ولكما.

قال ابن عباس : فأطرق عليّ عليه السلام وأطرقت معه طويلاً. أمّا أنا فأجللته أن أتكلّم قبله ، وأمّا هو فأراد أن أجيب عنّي وعنه ؛ ثمّ قلت له : أتتكلم أم أتكلم أنا عنك؟ قال : بل تكلم عني وعنك.

فحمدت الله وأثنيت عليه ، وصلّيت على رسوله ، ثمّ قلت : أمّا بعد يا ابن عمنا وعمتنا ، فقد سمعنا كلامك لنا وخلطك في الشكاية بيننا على رضاك ـ زعمت ـ عن أحدنا ووجدك على الآخر ، وسنفعل في ذلك فنذمّك ونحمدك ، اقتداء منك بفعلك فينا ، فإنا نذمّ مثل تهمتك إيانا على ما اتهمتنا عليه بلا ثقة إلاّ ظنّاً ، ونحمد منك غير ذلك من مخالفتك عشيرتك ، ثمّ نستعذرك من نفسك استعذارك إيانا من أنفسنا ، ونستوهبك فياتك استيهابك إيانا فيأتنا ، ونسألك رجعتك مسألتك إيانا رجعتنا ، فإنّا معاً أيّما حمدت وذممت منّا كمثلك في أمر نفسك ، ليس بيننا فرق ولا إختلاف ، بل كلانا شريك صاحبه في رأيه وقوله ، فوالله ما تعلمنا غير معذّرين فيما بيننا وبينك ، ولا تعرفنا غير قانتين عليك ولا تجدنا غير راجعين إليك ،

١٥٨

فنحن نسألك من نفسك مثل ما سألتنا من أنفسنا.

وأمّا قولك : لو غالبني الناس ما أنتصرت إلاّ بكما ، أو تهضّموني ما تعزّزت إلاّ بعزّكما ، فأين بنا وبك عن ذلك ونحن وأنت كما قال أخو كنانة :

بدا بحتر ما رام نال وإن يرم

نخض دونه غمرا من الغر رائمه

لنا ولهم منا ومنهم على العدى

مراتب عزّ مصعدات سلالمه

وأمّا قولك في هيج العدو إياك وإغرائه لك بنا ، فوالله ما أتاك العدو من ذلك شيئاً إلاّ وقد أتانا بأعظم منه ، فمنعناه ما أراد ما منعك من مراقبة الله والرحم ، وما أبقيت أنت ونحن إلاّ على أدياننا وأعراضنا ومروآتنا ، ولقد لعمري طال بنا وبك هذا الأمر حتى تخوّفنا منه على أنفسنا وراقبنا منه ما راقبت.

وأمّا مساءلتك إيانا عن رأينا فيك وما ننطوي عليه لك ، فإنّا نخبرك أنّ ذلك إلى ما تحبّ لا يعلم واحد منّا من صاحبه إلاّ ذلك ، ولا يقبل منه غيره ، وكلانا ضامن على صاحبه ذلك وكفيل به ، وقد برّأت أحدنا وزكّيته وأنطقت الآخر وأسكته ، وليس السقيم منّا ممّا كرهت بأنطق من البري فيما ذكرت ، ولا البري منّا ممّا سخطت بأظهر من السقيم فيما وصفت ، فإمّا جمعتنا في الرضا وإمّا جمعتنا في السخط ، لنجازيك بمثل ما تفعل بنا في ذلك مكايلة الصاع بالصاع ، فقد أعلمناك رأينا وأظهرنا لك ذات أنفسنا

١٥٩

وصدقناك ، والصدق ـ كما ذكرت ـ أنجى وأسلم ، فأجب إلى ما دعوت إليه ، وأجلل عن النقص والغدر مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وموضع قبره ، وأصدق تنج وتسلم ، ونستغفر الله لنا ولك.

قال ابن عباس : فنظر إليّ عليّ عليه السلام نظر هيبة ، وقال : دعه حتى يبلغ رضاه فيما هو فيه. فوالله لو ظهرت له قلوبنا وبدت له سرائرنا حتى رآها بعينه كما يسمع الخبر عنها بإذنه ما زال متجرّماً منتقماً ، والله ما أنا ملقى على وضمة ، وإنّي لمانع ما وراء ظهري ، وانّ هذا الكلام لمخالفة منه وسوء عشرة.

فقال عثمان : مهلاً أبا حسن فوالله إنّك لتعلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصفني بغير ذلك يوم يقول وأنت عنده : إنّ من أصحابي لقوماً سالمين لهم وانّ عثمان لمنهم ، إنّه لأحسنهم بهم ظنّاً ، وأنصحهم لهم حبّاً.

فقال عليّ عليه السلام : فصدّق قوله صلى الله عليه وآله وسلم بفعلك ، وخالف ما أنت الآن عليه ، فقد قيل لك ما سمعت وهو كاف إن قبلت.

قال عثمان : تثق يا أبا الحسن؟

قال : نعم أثق ولا أظنك فاعلاً.

قال عثمان : قد وثقت وأنت ممن لا يخفر صاحبه ولا يكذّب لقيله.

قال ابن عباس : فأخذت بأيديهما حتى تصافحا وتصالحا وتمازحا ، ونهضت عنهما فتشاورا وتآمرا وتذاكرا ، ثمّ افترقا ، فوالله ما مرّت ثالثة حتى

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568