الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن10%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219929 / تحميل: 7014
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

( سورة المعارج الآيات ١٩ - ٣٥)

إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ( ١٩ ) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ( ٢٠ ) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ( ٢١ ) إِلَّا الْمُصَلِّينَ ( ٢٢ ) الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ( ٢٣ ) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ ( ٢٤ ) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ( ٢٥ ) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ( ٢٦ ) وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ( ٢٧ ) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ( ٢٨ ) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ( ٢٩ ) إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ( ٣٠ ) فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ( ٣١ ) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ( ٣٢ ) وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ( ٣٣ ) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ( ٣٤ ) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ ( ٣٥ )

( بيان‏)

تشير الآيات إلى السبب الاُولي الّذي يدعو الإنسان إلى رذيلة الإدبار و التولّي و الجمع و الإيعاء الّتي تؤدّيه إلى دخول النار الخالدة الّتي هي لظى نزّاعة للشوى على ما تذكره الآيات.

و ذلك السبب صفة الهلع الّتي اقتضت الحكمة الإلهيّة أن يخلق الإنسان عليها ليهتدي بها إلى ما فيه خيره و سعادته غير أنّ الإنسان يفسدها على نفسه و يسيي‏ء

٨١

استعمالها في سبيل سعادته فتسلك به إلى هلكة دائمة إلّا الّذين آمنوا و عملوا الصالحات فهم في جنّات مكرمون.

قوله تعالى: ( إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ) الهلوع صفة مشتقّة من الهلع بفتحتين و هو شدّة الحرص، و ذكروا أيضاً أنّ الهلوع تفسّره الآيتان بعده فهو الجزوع عند الشرّ و المنوع عند الخير و هو تفسير سديد و السياق يناسبه.

و ذلك أنّ الحرص الشديد الّذي جبل عليه الإنسان ليس حرصاً منه على كلّ شي‏ء خيراً كان أو شرّاً أو نافعاً أو ضارّاً بل حرصاً على الخير و النافع و لا حرصاً على كلّ خير أو نافع سواء ارتبط به أو لم يرتبط و كان له أو لغيره بل حرصاً منه على ما يراه خيراً لنفسه أو نافعاً في سبيل الخير، و لازم هذا الحرص أن يظهر منه التزعزع و الاضطراب عند مسّ الشرّ و هو خلاف الخير و أن يمتنع عن ترك الخير عند مسّه و يؤثر نفسه على غيره إلّا أن يرى الترك أكثر خيراً و أنفع بحاله فالجزع عند مسّ الشرّ و المنع عند مسّ الخير من لوازم الهلع و شدّة الحرص.

و ليس الهلع و شدّة الحرص المجبول عليه الإنسان - و هو من فروع حبّ الذات - في حدّ نفسه من الرذائل المذمومة كيف؟ و هي الوسيلة الوحيدة الّتي تدعو الإنسان إلى بلوغ سعادته و كمال وجوده، و إنّما تكون رذيلة مذمومة إذا أساء الإنسان في تدبيرها فاستعملها فيما ينبغي و فيما لا ينبغي و بالحقّ و بغير حقّ كسائر الصفات النفسانيّة الّتي هي كريمة ما لزمت حدّ الاعتدال و إذا انحرفت إلى جانب الإفراط أو التفريط عادت رذيلة ذميمة.

فالإنسان في بدء نشأته و هو طفل يرى ما يراه خيراً لنفسه أو شرّاً لنفسه بما جهّز به من الغرائز العاطفة و هي الّتي تهواه نفسه و تشتهيه قواه من غير أن يحدّه بحدّ أو يقدّره بقدر فيجزع إذا مسّه ألم أو أيّ مكروه، و يمنع من يزاحمه فيما أمسك به بكلّ ما يقدر عليه من بكاء و نحوه.

و هو على هذه الحال حتّى إذا رزق العقل و الرشد أدرك الحقّ و الباطل و

٨٢

الخير و الشرّ و اعترفت نفسه بما أدرك و حينئذ يتبدّل عنده كثير من مصاديق الحقّ و الباطل و الخير و الشرّ فعاد كثير ممّا كان يراه خيراً لنفسه شرّاً عنده و بالعكس.

فإن أقام على ما كان عليه من اتّباع أهواء النفس و العكوف على المشتهيّات و اشتغل بها عن اتّباع الحقّ و غفل عنه، طبع على قلبه فلم يواجه حقّاً إلّا دحضه و لا ذا حقّ إلّا اضطهده و إن أدركته العناية الإلهيّة عاد ما كان عنده من الحرص على ما تهواه النفس حرصاً على الحقّ فلم يستكبر على حقّ واجهه و لا منع ذا حقّ حقّه.

فالإنسان في بادئ أمره و هو عهد الصبي قبل البلوغ و الرشد مجهّز بالحرص الشديد على الخير و هو صفة كماليّة له بحسب حاله بها ينبعث إلى جلب الخير و اتّقاء الشرّ قال تعالى:( وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) العاديات: ٨.

ثمّ إذا رزق البلوغ و الرشد زاد تجهيزاً آخر و هو العقل الّذي بها يدرك حقائق الاُمور على ما هي عليها فيدرك ما هو الاعتقاد الحقّ و ما هو الخير في العمل، و يتبدّل حرصه الشديد على الخير و كونه جزوعاً عند مسّ الشرّ و منوعاً عند مسّ الخير من الحرص الشديد على الخير الواقعي من الفزع و الخوف إذا مسّه شر اُخرويّ و هو المعصية و المسابقة إلى مغفرة ربّه إذا مسّه خير اُخرويّ و هو مواجهة الحسنة، و أمّا الشرّ و الخير الدنيويّان فإنّه لا يتعدّى فيهما ما حدّه الله له من الصبر عند المصيبة و الصبر على الطاعة و الصبر عن المعصية و هذه الصفة صفة كماليّة لهذا الإنسان.

و أمّا إذا أعرض الإنسان عمّا يدركه عقله و يعترف به فطرته و عكف على اتّباع الهوى و اعتنق الباطل و تعدّى إلى حقّ كلّ ذي حقّ و لم يقف في حرصه على الخير على حدّ فقد بدّل نعمة الله نقمة و أخذ صفة غريزيّة خلقها الله وسيلة له يتوسّل بها إلى سعادة الدنيا و الآخرة وسيلة إلى الشقوة و الهلكة تسوقه إلى الإدبار و التولّي و الجمع و الإيعاء كما في الآيات.

٨٣

و قد بان ممّا تقدّم أنّه لا ضير في نسبة هلع الإنسان في الآيات إلى الخلقة و الكلام مسوق للذمّ و قد قال تعالى:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ ) السجدة ٧، و ذلك أنّ ما يلحقه من الذمّ إنّما هو من قبل الإنسان و سوء تدبيره لا من قبله تعالى فهو كسائر نعمه تعالى على الإنسان الّتي يصيّرها نقماً بسوء اختياره.

و ذكر الزمخشريّ فراراً من الإشكال أنّ في الكلام استعارة، و المعنى أنّ الإنسان لإيثاره الجزع و المنع و تمكّنهما منه كأنّه مجبول مطبوع عليهما، و كأنّه أمر مخلوق فيه ضروريّ غير اختياريّ فالكلام موضوع على التشبيه لا لإفادة كونه مخلوقاً لله حقيقة لأنّ الكلام مسوق للذمّ و الله سبحانه لا يذمّ فعل نفسه، و من الدليل عليه استثناء المؤمنين الّذين جاهدوا أنفسهم فنجوا عن الجزع و المنع جميعاً.

و فيه أنّ الصفة مخلوقة نعمة و فضيلة و الإنسان هو الّذي يخرجها من الفضيلة إلى الرذيلة و من النعمة إلى النقمة و الذمّ راجع إلى الصفة من جهة سوء تدبيره لا من حيث إنّها فعله تعالى.

و استثناء المؤمنين ليس لأجل أنّ الصفة غير مخلوقة فيهم بل لأجل أنّهم أبقوها على كمالها و لم يبدّلوها رذيلة و نقمة.

و اُجيب أيضاً عن الاستثناء بأنّه منقطع و هو كما ترى.

قوله تعالى: ( إِلَّا الْمُصَلِّينَ ) استثناء من الإنسان الموصوف بالهلع، و في تقديم الصلاة على سائر الأعمال الصالحة المعدودة في الآيات التالية دلالة على شرفها و أنّها خير الأعمال.

على أنّ لها الأثر البارز في دفع رذيلة الهلع المذموم و قد قال تعالى:( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ ) العنكبوت: ٤٥.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ دائِمُونَ ) في إضافة الصلاة إلى الضمير دلالة على أنّهم مداومون على ما يأتون به من الصلاة كائنة ما كانت لا أنّهم دائماً في الصلاة، و فيه إشارة إلى أنّ العمل إنّما يكمل أثره بالمداومة.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ ) فسّره بعضهم

٨٤

بالزكاة المفروضة، و في الحديث عن الصادقعليه‌السلام : أنّ الحقّ المعلوم ليس من الزكاة و إنّما هو مقدار معلوم ينفقونه للفقراء، و السائل هو الفقير الّذي يسأل، و المحروم الفقير الّذي يتعفّف و لا يسأل‏ و السياق لا يخلو من تأييده فإنّ للزكاة موارد مسمّاة في قوله:( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقابِ وَ الْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ ) التوبة ٦٠ و ليست مختصّة بالسائل و المحروم على ما هو ظاهر الآية.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ) الّذي يفيده سياق عدّ الأعمال الصالحة أنّ المراد بتصديقهم يوم الدين التصديق العمليّ دون التصديق الاعتقاديّ و ذلك بأن تكون سيرتهم في الحياة سيرة من يرى أنّ ما يأتي به من عمل سيحاسب عليه فيجازي به إن خيراً فخيراً و إن شرّاً فشرّاً.

و في التعبير بقوله:( يُصَدِّقُونَ ) دلالة على الاستمرار فهو المراقبة الدائمة بذكره تعالى عند كلّ عمل يواجهونه فيأتون بما يريده و يتركون ما يكرهه.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ) أي خائفون، و الكلام في إشفاقهم من عذاب ربّهم نظير الكلام في تصديقهم بيوم الدين فهو الإشفاق العملي الظاهر من حالهم.

و لازم إشفاقهم من عذاب ربّهم مع لزومهم الأعمال الصالحة و مجاهدتهم في الله أن لا يثقوا بما يأتون به من الأعمال الصالحة و لا يأمنوا عذاب الله فإنّ الأمن لا يجامع الخوف.

و الملاك في الإشفاق من العذاب أنّ العذاب على المخالفة فلا منجى منه إلّا بالطاعة من النفس و لا ثقة بالنفس إذ لا قدرة لها في ذاتها إلّا ما أقدرها الله عليه و الله سبحانه مالك غير مملوك، قال تعالى:( قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً ) المائدة ١٧.

على أنّ الله سبحانه و إن وعد أهل الطاعة النجاة و ذكر أنّه لا يخلف الميعاد لكنّ الوعد لا يقيّد إطلاق قدرته فهو مع ذلك قادر على ما يريد و مشيّته نافذة فلا أمن بمعنى انتفاء القدرة على ما يخالف الوعد فالخوف على حاله و لذلك نرى

٨٥

أنّه تعالى يقول في ملائكته:( يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) فيصفهم بالخوف و هو يصرّح بعصمتهم، و يقول في أنبيائه:( وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ ) الأحزاب: ٣٩، و يصف المؤمنين في هذه الآية بالإشفاق و هو يعدّهم في آخر الآيات بقول جازم فيقول:( أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ) .

قوله تعالى: ( إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ) تعليل لإشفاقهم من عذاب ربّهم فيتبيّن به أنّهم مصيبون في إشفاقهم من العذاب و قد تقدّم وجهه.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ - إلى قوله -هُمُ العادُونَ ) تقدّم تفسير الآيات الثلاث في أوّل سورة المؤمنون.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ ) المتبادر من الأمانات أنواع الأمانة الّتي يؤتمنون عليها من المال و سائر ما يوصى به من نفس أو عرض و رعايتهم لها أن يحفظوها و لا يخونوها قيل: و لكثرة أنواعها جي‏ء بلفظ الجمع بخلاف العهد.

و قيل: المراد بها جميع ما كلّفهم الله من اعتقاد و عمل فتعمّ حقوق الله و حقوق الناس فلو ضيعوا شيئاً منها فقد خانوه.

و قيل: كلّ نعمة أعطاها الله عبده من الأعضاء و غيرها أمانة فمن استعمل شيئاً منها في غير ما أعطاه الله لأجله و أذن له في استعماله فقد خانه.

و ظاهر العهد عقد الإنسان مع غيره قولاً أو فعلاً على أمر و رعايته أن يحفظه و لا ينقضه من غير مجوّز.

و قيل: العهد كلّ ما التزم به الإنسان لغيره فإيمان العبد لربّه عهد منه عاهد به ربّه أن يطيعه في كلّ ما كلّفه به فلو عصاه في شي‏ء ممّا أمره به أو نهاه عنه فقد نقض عهده.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ ) الشهادة معروفة، و القيام بالشهادة عدم الاستنكاف عن تحمّلها و أداء ما تحمّل منها كما تحمّل من غير كتمان و لا تغيير، و الآيات في هذا المعنى كثيرة.

٨٦

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ ) المراد بالمحافظة على الصلاة رعاية صفات كمالها على ما ندب إليه الشرع.

قيل: و المحافظة على الصلاة غير الدوام عليها فإنّ الدوام متعلّق بنفس الصلاة و المحافظة بكيفيّتها فلا تكرار في ذكر المحافظة عليها بعد ذكر الدوام عليها.

قوله تعالى: ( أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ) الإشارة إلى المصلّين في قوله:( إِلَّا الْمُصَلِّينَ ) و تنكير جنّات للتفخيم، و( فِي جَنَّاتٍ ) خبر و( مُكْرَمُونَ ) خبر بعد خبر أو ظرف لقوله:( مُكْرَمُونَ ) .

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ:( إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ) قال: الشرّ هو الفقر و الفاقة( وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ) قال: الغنى و السعة.

و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ثمّ استثنى فقال( إِلَّا الْمُصَلِّينَ ) فوصفهم بأحسن أعمالهم( الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ دائِمُونَ ) يقول: إذا فرض على نفسه شيئاً من النوافل دام عليه.

أقول: قوله: إذا فرض على نفسه إلخ استفادعليه‌السلام هذا المعنى من إضافة الصلاة إلى ضمير( هُمْ ) و قد أشرنا إليه فيما مرّ.

و في الكافي، بإسناده إلى الفضيل بن يسار قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ ) قال: هي الفريضة. قلت:( الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ دائِمُونَ ) قال: هي النافلة.

و في المجمع: في قوله تعالى:( وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ) و روي عن أبي عبداللهعليه‌السلام أنّه قال: الحقّ المعلوم ليس من الزكاة و هو الشي‏ء الّذي تخرجه من مالك إن شئت كلّ جمعة و إن شئت كلّ يوم، و لكلّ ذي فضل فضله.

قال: و روي عنه أيضاً أنّه قال: هو أن تصل القرابة و تعطي من حرمك و تصدّق

٨٧

على من عاداك.

أقول: و روي هذا المعنى في الكافي، عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليه‌السلام بعدّة طرق و رواه في المحاسن عن أبي جعفرعليه‌السلام .

و في الكافي، بإسناده عن صفوان الجمّال عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ( لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ ) قال: المحروم المحارف الّذي قد حرم كدّ يمينه في الشراء و البيع.

قال: و في رواية اُخرى عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليه‌السلام أنّهما قالا: المحروم الرجل الّذي ليس بعقله بأس و لم يبسط له في الرزق و هو محارف.

و في المجمع: في قوله تعالى:( وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ ) روى محمّد بن الفضيل عن أبي الحسنعليه‌السلام أنّه قال: اُولئك أصحاب الخمسين صلاة من شيعتنا.

أقول: و لعلّه مبني علىّ ما ورد عنهمعليهم‌السلام أنّ تشريع النوافل اليوميّة لتتميم الفرائض.

٨٨

( سورة المعارج الآيات ٣٦ - ٤٤)

فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ( ٣٦ ) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ ( ٣٧ ) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ( ٣٨ ) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ ( ٣٩ ) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ ( ٤٠ ) عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ( ٤١ ) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ( ٤٢ ) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ ( ٤٣ ) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ( ٤٤ )

( بيان‏)

لمّا ذكر سبحانه في الفصل الأوّل من آيات السورة في ذيل ما حكى من سؤالهم العذاب أنّ لهم عذاباً واقعاً ليس له دافع و هو النار المتلظّية النزّاعة للشوى الّتي تدعو من أدبر و تولّى و جمع فأوعى.

ثم بيّن في الفصل الثاني منها الملاك في ابتلائهم بهذه الشقوة و هو أنّ الإنسان مجهّز بغريزة الهلع و حبّ خير نفسه و يؤدّيه اتّباع الهوى في استعمالها إلى الاستكبار على كلّ حقّ يواجهه فيورده ذلك النار الخالدة، و لا ينجو من ذلك إلّا الصالحون عملاً المصدّقون ليوم الدين المشفقون من عذاب ربّهم.

انعطف في هذا الفصل من الآيات - و هو الفصل الثالث - على اُولئك الكفّار كالمتعجّب من أمرهم حيث يجتمعون على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مهطعين عن اليمين و عن

٨٩

الشمال عزين مقبلين عليه بأبصارهم لا يفارقونه فخاطبهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما بالهم يحيطون بك مهطعين عليك يلازمونك؟ هل يريد كلّ امرء منهم أن يُدخل جنّة نعيم و هو كافر و قد قدّر الله سبحانه أن لا يكرم بجنّته إلّا من استثناه من المؤمنين فهل يريدون أن يسبقوا الله و يعجزوه بنقض ما حكم به و إبطال ما قدّره كلّا إنّ الله الّذي خلقهم من نطفة مهينة قادر أن يبدلهم خيراً منهم و يخلق ممّا خلقهم منه، غيرهم ممّن يعبده و يدخل جنّته.

ثمّ أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقطع خصامهم و يذرهم يخوضوا و يلعبوا حتّى يلاقوا يومهم الّذي يوعدون.

قوله تعالى: ( فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ عِزِينَ ) قال في المجمع: قال الزّجاج: المهُطع المقبل ببصره على الشي‏ء لا يزايله و ذلك من نظر العدوّ، و قال أبوعبيدة الإهطاع الإسراع، و عزين جماعات في تفرقة، واحدتهم عزّة. انتهى، و قِبلُ الشي‏ء بالكسر فالفتح الجهة الّتي تليه و الفاء في( فما ) فصيحة.

و المعنى: إذا كان الإنسان بكفره و استكباره على الحقّ مصيره إلى النار إلّا من استثني من المؤمنين فما للّذين كفروا عندك مقبلين عليك لا يرفعون عنك أبصارهم و هم جماعات متفرّقة عن يمينك و شمالك أ يطمعون أن يدخلوا الجنّة فيعجزوا الله و يسبقوه فيما قضى به أن لا يدخل الجنّة إلّا الصلحاء من المؤمنين.

قوله تعالى: ( أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ) ، الاستفهام للإنكار أي - ما هو الّذي يحملهم على أن يحتفّوا بك و يهطعوا عليك؟ - هل يحملهم على ذلك طمع كلّ منهم أن يدخل جنّة نعيم و هو كافر فلا مطمع للكافر في دخول الجنّة.

و نسب الطمع إلى كلّ امرء منهم و لم ينسب إلى جماعتهم بأن يقال: أ يطمعون أن يدخلوا إلخ كما نسب الإهطاع إلى جماعتهم فقيل: مهطعين لأنّ النافع من الطمع في السعادة و الفلاح هو الطمع القائم بنفس الفرد الباعث له إلى الإيمان و العمل الصالح دون القائم بالجماعة بما أنّها جماعة فطمع المجموع من حيث أنّه مجموع لا يكفي في سعادة كلّ واحد واحد.

٩٠

و في قوله:( أَنْ يُدْخَلَ ) مجهولاً من باب الإفعال إشارة إلى أنّ دخولهم في الجنّة ليس منوطاً باختيارهم و مشيّتهم بل لو كان فإنّما هو إلى الله سبحانه فهو الّذي يدخلهم الجنّة إن شاء و لن يدخل بما قدّر أن لا يدخلها كافر.

قيل: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلّي عند الكعبة و يقرأ القرآن فكان المشركون يجتمعون حوله حلقاً حلقاً و فرقاً يستمعون و يستهزؤن بكلامه، و يقولون إن دخل هؤلاء الجنّة كما يقول محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلندخلها قبلهم فنزلت الآيات.

و هذا القول لا يلائمه سياق الآيات الظاهر في تفرّع صنعهم ذلك على ما مرّ من حرمان الناس من دخول الجنّة إلّا من استثني من المؤمنين إذ من الضروري على هذا أنّ اجتماعهم حولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إهطاعهم عليه إنّما حملهم عليه إفراطهم في عداوته و مبالغتهم في إيذائه و إهانته، و أنّ قولهم: سندخل الجنّة قبل المؤمنين - و هم مشركون مصرّون على إنكار المعاد غير معترفين بنار و لا جنّة - إنّما كان استهزاء و تهكّما.

فلا مساغ لتفريع عملهم ذاك على ما تقدّم من حديث النار و الجنّة و السؤال - في سياق التعجيب - عن السبب الحامل لهم عليه ثمّ استفهام طمعهم في دخول الجنّة و إنكاره عليهم.

فبما تقدّم يتأيّد أن يكون المراد بالّذين كفروا في قوله:( فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا ) قوماً من المنافقين آمنوا بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ظاهراً و لازموه ثمّ كفروا بردّ بعض ما نزل عليه كما يشير إليه أمثال قوله تعالى:( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ) المنافقون ٣، و قوله:( لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ ) التوبة ٦٦، و قوله:( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ ) التوبة ٧٧.

فهؤلاء قوم كانوا قد آمنوا و دخلوا في جماعة المؤمنين و لازموا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مهطعين عليه عن اليمين و عن الشمال عزين ثمّ كفروا ببعض ما نزل إليه لا يبالون به فقرعهم الله سبحانه في هذه الآيات أنّهم لا ينتفعون بملازمته و لا لهم أن يطمعوا في دخول الجنّة فليسوا ممّن يدخلها و ليسوا بسابقين و لا معجزين.

٩١

و يؤيّده قوله الآتي:( إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى‏ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ ) إلخ على ما سنشير إليه.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ) ردع لهم عن الطمع في دخول الجنّة مع كفرهم.

و قوله:( إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ) المراد بما يعلمون النطفة فإنّ الإنسان مخلوق منها، و الكلام مرتبط بما بعده و المجموع تعليل للردع، و محصّل التعليل أنّا خلقناهم من النطفة - و هم يعلمون به - فلنا أن نذهب بهم و نخلق مكانهم قوماً آخرين يكونون خيراً منهم مؤمنين غير رادّين لشي‏ء من دين الله، و لسنا بمسبوقين حتّى يعجزنا هؤلاء الكفّار و يسبقونا فندخلهم الجنّة و ينتقض به ما قدّرنا أن لا يدخل الجنّة كافر.

و قيل:( من ) في قوله:( مِمَّا يَعْلَمُونَ ) تفيد معنى لام التعليل، و المعنى أنّا خلقناهم لأجل ما يعلمون و هو الاستكمال بالإيمان و الطاعة فمن الواجب أن يتلبّسوا بذلك حتّى ندخلهم الجنّة فكيف يطمعون في دخولها و هم كفّار؟ و إنّما علموا بذلك من طريق إخبار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و قيل:( من ) لابتداء الغاية، و المعنى: إنّا خلقناهم من نطفة قذرة لا تناسب عالم القدس و الطهارة حتّى تتطهّر بالإيمان و الطاعة و تتخلّق بأخلاق الملائكة فتدخل و أنّى لهم ذلك و هم كفّار.

و قيل: المراد بما في( مِمَّا يَعْلَمُونَ ) الجنس، و المعنى إنّا خلقناهم من جنس الآدميّين الّذين يعلمون أو من الخلق الّذين يعلمون لا من جنس الحيوانات الّتي لا تعقل و لا تفقه فالحجّة لازمة لهم تامّة عليهم، و الوجوه الثلاثة سخيفة.

قوله تعالى: ( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى‏ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) المراد بالمشارق و المغارب مشارق الشمس و مغاربها فإنّ لها في كلّ يوم من أيّام السنة الشمسيّة مشرقاً و مغرباً لا يعود إليهما إلى مثل اليوم من السنة القابلة، و من المحتمل أن يكون المراد بها مشارق جميع النجوم

٩٢

و مغاربها.

و في الآية على قصرها وجوه من الالتفات ففي قوله:( فَلا أُقْسِمُ ) التفات من التكلّم مع الغير في( إِنَّا خَلَقْناهُمْ ) إلى التكلّم وحده، و الوجه فيه تأكيد القسم بإسناده إلى الله تعالى نفسه.

و في قوله:( بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ ) التفات من التكلّم وحده إلى الغيبة، و الوجه فيه الإشارة إلى صفة من صفاته تعالى هي المبدأ في خلق الناس جيلا بعد جيلا و هي ربوبيّته للمشارق و المغارب فإنّ الشروق بعد الشروق و الغروب بعد الغروب الملازم لمرور الزمان دخلاً تامّاً في تكون الإنسان جيلا بعد جيل و سائر الحوادث الأرضيّة المقارنة له.

و في قوله:( إِنَّا لَقادِرُونَ ) التفات من الغيبة إلى التكلّم مع الغير، و الوجه فيه الإشارة إلى العظمة المناسبة لذكر القدرة، و في ذكر ربوبيّته للمشارق و المغارب إشارة إلى تعليل القدرة فإنّ الّذي ينتهي إليه تدبير الحوادث في تكوّنها لا يعجزه شي‏ء من الحوادث الّتي هي أفعاله عن شي‏ء منها و لا يمنعه شي‏ء من خلقه من أن يبدّله خيراً منه و إلّا شاركه المانع في أمر التدبير و الله سبحانه واحد لا شريك له في ربوبيّته فافهم ذلك.

و قوله:( إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى‏ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ ) ( عَلى) متعلّق بقوله:( لَقادِرُونَ ) و المفعول الأوّل لنبدّل ضمير محذوف راجع إليهم و إنّما حذف للإشارة إلى هوان أمرهم و عدم الاهتمام بهم، و( خَيْراً ) مفعوله الثاني و هو صفة اُقيمت مقام موصوفها، و التقدير إنّا لقادرون على أن نبدّلهم قوماً خيراً منهم، و خيريّتهم منهم أن يؤمنوا بالله و لا يكفروا به و يتّبعوا الحقّ و لا يردّوه.

و قوله:( وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) المراد بالسبق الغلبة على سبيل الاستعارة، و كونه تعالى مسبوقاً هو أن يمنعه خلقهم أن يذهب بهم و يأتي بدلهم بقوم خير منهم.

و سياق الآية لا يخلو من تأييد مّا لما تقدّم من كون المراد بالّذين كفروا قوماً من المنافقين دون المشركين المعاندين للدين النافين لأصل المعاد فإنّ ظاهر قوله:

٩٣

( خَيْراً مِنْهُمْ ) لا يخلو من دلالة أو إشعار بأنّ فيهم شائبة خيريّة و لله أن يبدّل خيراً منهم، و المشركون لا خير فيهم لكن هذه الطائفة من المنافقين لا يخلو تحفّظهم على ظواهر الدين ممّا آمنوا به و لم يردّوه من خير للإسلام.

فقد بان بما تقدّم أنّ قوله:( إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ) إلى آخر الآيات الثلاث تعليل للردع بقوله:( كَلَّا ) ، و أنّ محصّل مضمون الآيات الثلاث أنّهم مخلوقون من نطفة - و هم يعلمون ذلك - و هي خلقة جارية و الله الّذي هو ربّ الحوادث الجارية الّتي منها خلق الإنسان جيلاً بعد جيل و المدبّر لها قادر أن يذهب بهم و يبدّلهم خيراً منهم يعتنون بأمر الدين و يستأهلون لدخول الجنّة، و لا يمنعه خلق هؤلاء أن يبدّلهم خيراً منهم و يدخلهم الجنّة بكمال إيمانهم من غير أن يضطرّ إلى إدخال هؤلاء الجنّة فلا ينتقض تقديره أنّ الجنّة للصالحين من أهل الإيمان.

قوله تعالى: ( فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ) أمر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتركهم و ما هم فيه، و لا يلحّ عليهم بحجاج و لا يتعب نفسه فيهم بعظة، و قد سمّي ما هم عليه بالخوض و اللعب دلالة على أنّهم لا ينتفعون به انتفاعاً حقيقيّاً على ما لهم فيه من الإمعان و الإصرار كاللعب الّذي لا نفع فيه وراء الخيال فليتركوا حتّى يلاقوا اليوم الّذي يوعدون و هو يوم القيامة.

و في إضافة اليوم إليهم إشارة إلى نوع اختصاص له بهم و هو الاختصاص بعذابهم.

قوله تعالى: ( يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى‏ نُصُبٍ يُوفِضُونَ ) بيان ليومهم الّذي يوعدون و هو يوم القيامة.

و الأجداث جمع جدث و هو القبر، و سراعاً جمع سريع، و النصب ما ينصب علامة في الطريق يقصده السائرون للاهتداء به، و قيل: هو الصنم المنصوب للعبادة و هو بعيد من كلامه تعالى، و الإيفاض الإسراع و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ ) الخشوع تأثّر خاصّ في القلب عن مشاهدة العظمة و الكبرياء، و يناظره الخضوع في الجوارح، و نسبة الخشوع إلى الأبصار لظهور آثاره فيها، و الرهق غشيان الشي‏ء بقهر.

٩٤

و قوله:( ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ ) الإشارة إلى ما مرّ من أوصافه من الخروج من الأجداث سراعاً و خشوع الأبصار و رهق الذلّة.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد عن عبادة بن أنس قال: دخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسجد فقال: ما لي أراكم عزين حلقاً حلق الجاهليّة قعد رجل خلف أخيه.

أقول: و رواه عن ابن مردويه عن أبي هريرة و لفظه: خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أصحابه جلوس حلقاً حلقاً فقال: ما لي أراكم عزين‏، و روي هذا المعنى أيضاً عن جابر بن سمرة.

و في تفسير القمّيّ: و قوله:( كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ) قال: من نطفة ثمّ علقة، و قوله:( فَلا أُقْسِمُ ) أي اُقسم( بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ ) قال: مشارق الشتاء و مشارق الصيف و مغارب الشتاء و مغارب الصيف.

و في المعاني، بإسناده إلى عبدالله بن أبي حماد رفعه إلى أميرالمؤمنينعليه‌السلام قال: لها ثلاثمائة و ستّون مشرقاً و ثلاثمائة و ستّون مغرباً فيومها الّذي تشرق فيه لا تعود فيه إلّا من قابل.

و في تفسير القمّيّ: و قوله:( يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً ) قال: من القبر( كَأَنَّهُمْ إِلى‏ نُصُبٍ يُوفِضُونَ ) قال: إلى الداعي ينادون، و قوله:( تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ) قال: تصيبهم ذلّة.

٩٥

( سورة نوح مكّيّة و هي ثمان و عشرون آية)

( سورة نوح الآيات ١ - ٢٤)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ١ ) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( ٢ ) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ( ٣ ) يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٤ ) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا ( ٥ ) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا ( ٦ ) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ( ٧ ) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ( ٨ ) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ( ٩ ) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ( ١٠ ) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا ( ١١ ) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا ( ١٢ ) مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ( ١٣ ) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ( ١٤ ) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ( ١٥ ) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ( ١٦ ) وَاللهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ( ١٧ ) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ( ١٨ ) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا ( ١٩ ) لِّتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا ( ٢٠ ) قَالَ نُوحٌ رَّبِّ

٩٦

إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا ( ٢١ ) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا ( ٢٢ ) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ( ٢٣ ) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا ( ٢٤ )

( بيان‏)

تشير السورة إلى رسالة نوحعليه‌السلام إلى قومه و إجمال دعوته و عدم استجابتهم له ثمّ شكواه إلى ربّه منهم و دعائه عليهم و استغفاره لنفسه و لوالديه و لمن دخل بيته مؤمناً و للمؤمنين و المؤمنات ثمّ حلول العذاب بهم و إهلاكهم بالإغراق و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى‏ قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) ( أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ ) إلخ، تفسير لرسالته أي أوحينا إليه أن أنذر إلخ.

و في الكلام دلالة على أنّ قومه كانوا عرضة للعذاب بشركهم و معاصيهم كما يدلّ عليه ما حكي من قولهعليه‌السلام في الآية التالية:( اعْبُدُوا اللهَ وَ اتَّقُوهُ ) و ذلك أنّ الإنذار تخويف و التخويف إنّما يكون من خطر محتمل لا دافع له لو لا التحذّر، و قد أفاد قوله:( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) أنّه متوجّه إليهم غير تاركهم لو لا تحذّرهم منه.

قوله تعالى: ( قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ ) بيان لتبليغه رسالته إجمالاً بقوله:( إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) و تفصيلاً بقوله:( أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ) إلخ.

و في إضافته اليوم إلى نفسه إظهار إشفاق و رحمة أي إنّكم قومي يجمعكم و إيّاي مجتمعنا القوميّ تسوؤني ما أساءكم فلست اُريد إلّا ما فيه خيركم و سعادتكم إنّي

٩٧

لكم نذير إلخ.

و في قوله:( أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ) دعوتهم إلى توحيده تعالى في عبادته فإنّ القوم كانوا وثنيّين يعبدون الأصنام، و الوثنيّة لا تجوّز عبادة الله سبحانه لا وحده و لا مع غيره، و إنّما يعبدون أرباب الأصنام بعبادة الأصنام ليكونوا شفعاء لهم عند الله، و لو جوّزوا عبادته تعالى لعبدوه وحده فدعوتهم إلى عبادة الله دعوة لهم إلى توحيده في العبادة.

و في قوله:( وَ اتَّقُوهُ ) دعوتهم إلى اجتناب معاصيه من كبائر الإثم و صغائره و هي الشرك فما دونه، و فعل الأعمال الصالحة الّتي في تركها معصية.

و في قوله:( وَ أَطِيعُونِ ) دعوة لهم إلى طاعة نفسه المستلزم لتصديق رسالته و أخذ معالم دينهم ممّا يعبد به الله سبحانه و يستنّ به في الحياة منهعليه‌السلام ففي قوله:( اعْبُدُوا اللهَ وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ ) ندب إلى اُصول الدين الثلاثة: التوحيد المشار إليه بقوله:( اعْبُدُوا اللهَ ) و المعاد الّذي هو أساس التقوى(١) و التصديق بالنبوّة المشار إليه بالدعوة إلى الطاعة المطلقة.

قوله تعالى: ( يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) مجزوم في جواب الأمر و كلمة( مِنْ ) للتبعيض على ما هو المتبادر من السياق، و المعنى أن تعبدوه و تتّقوه و تطيعوني يغفر لكم بعض ذنوبكم و هي الذنوب الّتي قبل الإيمان: الشرك فما دونه، و أمّا الذنوب الّتي لم تقترف بعد ممّا سيستقبل فلا معنى لمغفرتها قبل تحقّقها، و لا معنى أيضاً للوعد بمغفرتها إن تحقّقت في المستقبل أو كلّما تحقّقت لاستلزام ذلك إلغاء التكاليف الدينيّة بإلغاء المجازاة على مخالفتها.

و يؤيّد ذلك ظاهر قوله تعالى:( يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) الأحقاف: ٣١، و قوله:( يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) إبراهيم: ١٠ و قوله:( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ) الأنفال: ٣٨.

____________________

(١) إذ لو لا المعاد بما فيه من الحساب و الجزاء لم يكن للتقوى الدينيّ وجه، منه.

٩٨

و أمّا قوله تعالى يخاطب المؤمنين من هذه الاُمّة:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى‏ تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ ) الصفّ: ١٢ فهو و إن كان ظاهراً في مغفرة جميع الذنوب لكن رتّبت المغفرة فيه على استمرار الإيمان و العمل الصالح و إدامتهما ما دامت الحياة فلا مغفرة فيه متعلّقة بما لم يتحقّق بعد من المعاصي و الذنوب المستقبلة و لا وعد بمغفرتها كلّما تحقّقت.

و قد مال بعضهم اعتماداً على عموم المغفرة في آية الصفّ إلى القول بأنّ المغفور بسبب الإيمان في هذه الاُمّة جميع الذنوب و في سائر الاُمم بعضها كما هو ظاهر قول نوح لاُمّته:( يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) و قول الرسل: كما في سورة إبراهيم( يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) و قول الجنّ كما في سورة الأحقاف لقومهم:( يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) .

و فيه أنّ آية الصفّ موردها غير مورد المغفرة بسبب الإيمان فقط كما أشرنا إليه. على أنّ آية الأنفال صريحة في مغفرة ما قد سلف، و المخاطب به كفّار هذه الاُمّة.

و ذهب بعضهم إلى كون( مِنْ ) في قوله:( مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) زائدة، و لم تثبت زيادة( من ) في الإثبات فهو ضعيف و مثله في الضعف قول من ذهب إلى أنّ( مِنْ ) بيانيّة، و قول من ذهب إلى أنّها لابتداء الغاية.

قوله تعالى: ( وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) تعليق تأخيرهم إلى أجل مسمّى على عبادة الله و التقوى و طاعة الرسول يدلّ على أنّ هناك أجلين أجل مسمّى يؤخّرهم الله إليه إن أجابوا الدعوة، و أجل غيره يعجّل إليهم لو بقوا على الكفر، و أنّ الأجل المسمّى أقصى الأجلين و أبعدهما.

ففي الآية وعدهم بالتأخير إلى الأجل المسمّى إن آمنوا و في قوله:( إِنَّ أَجَلَ

٩٩

اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ ) تعليل للتأخير إلى الأجل المسمّى إن آمنوا فالمراد بأجل الله إذا جاء مطلق الأجل المقضيّ المتحتّم أعمّ من الأجل المسمّى و غير المسمّى فلا رادّ لقضائه تعالى و لا معقّب لحكمه.

و المعنى: أن اعبدوا الله و اتّقوه و أطيعوني يؤخّركم الله إلى أجل مسمّى هو أقصى الأجلين فإنّكم إن لم تفعلوا ذلك جاءكم الأجل غير المسمّى بكفركم و لم تؤخّروا فإنّ أجل الله إذا جاء لا يؤخّر، ففي الكلام مضافاً إلى وعد التأخير إلى الأجل المسمّى إن آمنوا، تهديد بعذاب معجّل إن لم يؤمنوا.

و قد ظهر بما تقدّم عدم استقامة تفسير بعضهم لأجل الله بالأجل غير المسمّى و أضعف منه تفسيره بالأجل المسمّى.

و ذكر بعضهم: أنّ المراد بأجل الله يوم القيامة و الظاهر أنّه يفسّر الأجل المسمّى أيضاً بيوم القيامة فيرجع معنى الآية حينئذ إلى مثل قولنا: إن لم تؤمنوا عجّل الله إليكم بعذاب الدنيا و إن آمنتم أخّركم إلى يوم القيامة إنّه إذا جاء لا يؤخّر.

و أنت خبير بأنّه لا يلائم التبشير الّذي في قوله:( يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) .

و قوله:( لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) متعلّق بأوّل الكلام أي لو كنتم تعلمون أنّ لله أجلين و أنّ أجله إذا جاء لا يؤخّر استجبتم دعوتي و عبدتم الله و اتّقيتموه و أطعتموني هذا فمفعول( تَعْلَمُونَ ) محذوف يدلّ عليه سابق الكلام.

و قيل: إنّ( تَعْلَمُونَ ) منزّل منزلة الفعل اللازم، و جواب لو متعلّق بأوّل الكلام، و المعنى: لو كنتم من أهل العلم لاستجبتم دعوتي و آمنتم، أو متعلّق بآخر الكلام، و المعنى: لو كنتم من أهل العلم لعلمتم أنّ أجل الله إذا جاء لا يؤخّر.

قوله تعالى: ( قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَ نَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً ) القائل هو نوحعليه‌السلام و الّذي دعا إليه هو عبادة الله و تقواه و طاعة رسوله، و الدعاء ليلاً و نهاراً كناية عن دوامه من غير فتور و لا توان.

و قوله:( فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً ) أي من إجابة دعوتي فالمراد بالفرار التمرّد و التأبّي عن القبول استعارة، و إسناد زيادة الفرار إلى دعائه لما فيه من شائبة

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

هذا.. ولسوف نرى أن أحمد أمين المصري يأخذ برأي ابن القفطي هذا. لكنه ينظر فيه إلى خصوص أئمة أهل البيتعليه‌السلام ، كما سيأتي بيانه، وبيان مدى خلطه وفساده في الفصل التالي.

وفيه دلالة على أن الفضل كان مخدوعاً، وعلى أن المأمون لم يكن مخلصاً فيما أقدم عليه..

د ـ : إنه لا بد لنا من الإشارة هنا إلى أن أكثر ثورات العلويين، التي قامت ضد المأمون ـ قبل البيعة للرضاعليه‌السلام طبعاً ـ كانت من بني الحسن، وبالتحديد من أولئك الذين يتخذون نحلة الزيدية، فأراد المأمون أن يقف في وجههم، ويقضي عليهم، وعلى نحلتهم تلك نهائياً، وإلى الأبد، فأقدم على ما أقدم عليه من البيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد.

هذا.. وقد كانت نحلة الزيدية هذه ـ شائعة في تلك الفترة، وكانت تزداد قوة يوماً عن يوم، وكان للقائمين بها نفوذ واسع، وكلمة مسموعة، حتى إن المهدي قد استوزر يعقوب بن داوود، وهو زيدي، وآخاه، وفوضه جمع أمور الخلافة(١) .

وعلى حد تعبير الشبراوي: (.. فولاه الوزارة، وصارت الأوامر كلها بيديه، واستقل يعقوب حتى حسده جميع أقرانه..)(٢) .

____________

(١) البداية والنهاية ج ١٠ / ١٤٧، وغيره من كتب التاريخ، فراجع فصل: مصدر الخطر على العباسيين.

(٢) الإتحاف بحب الأشراف ص ١١٢.

٢٠١

بل كان: (لا ينفذ للمهدي كتاب إلى عامل، فيجوز، حتى يكتب يعقوب إلى أمينه وثقته بإنفاذه.)(١) .

وقد بلغ من نفوذ يعقوب هذا.. أن قال فيه بشار بن برد أبياته المشهورة، التي قدمناها، والتي يقول فيها: (إن الخليفة يعقوب ابن داوود).

وقد سعي بيعقوب هذا إلى المهدي: وقيل له: (.. إن الشرق والغرب في يد يعقوب، وأصحابه، وإنما يكفيه أن يكتب إليهم ؛ فيثوروا، في يوم واحد، فيأخذوا الدنيا)(٢) .

وذلك لأنه قد: (أرسل يعقوب هذا إلى الزيدية، وأتى بهم من كل أوب، وولاهم من أمور الخلافة في المشرق والمغرب كل جليل، وعمل نفيس، والدنيا كلها في يديه..)(٣) .

وإذا ما عرفنا أن معاوني يعقوب إنما كانوا هم: متفقهة الكوفة، والبصرة، وأهل الشام(٤) .. فإننا نعرف أن الاتجاه الزيدي سوف يؤثر كثيراً، وكثيراً جداً على الثقافة العامة، والاتجاهات الفكرية في ذلك العصر ـ كما حدث ذلك فعلاً.. حتى لقد صرح ابن النديم بأن:

(أكثر علماء المحدثين إلا قليلاً منهم، وكذلك قوم من الفقهاء، مثل: سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة كانوا من الشيعة الزيدية.)(٥) وقد صرح المؤرخون أيضاً: بأن أصحاب الحديث جميعهم، قد

____________

(١) الطبري ج ١٠ / ٤٨٦، والكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٠، ومرآة الجنان ج ١ / ٤١٨.

(٢) الكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٦، ٦٧.

(٣) الطبري ج ١٠ / ٥٠٨، طبع ليدن، والوزراء والكتاب للجهشياري ص ١٥٨، والكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٦.

(٤) الطبري، طبع ليدن ج ١٠ / ٤٨٦.

(٥) الفهرست لابن النديم ص ٢٥٣.

٢٠٢

خرجوا مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، أو أفتوا بالخروج معه(١) .

وعلى كل حال.. فإن ما يهمنا بيانه هنا: هو أن المأمون كان يريد

____________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٣٧٧، وغيرها من الصفحات، وغيرها من الكتب. ويرى بعض أهل التحقيق: أن المقصود هو جميع أصحاب الحديث في الكوفة. ولكن الظاهر أن المراد: الجميع مطلقاً، كما يظهر من مراجعة مقاتل الطالبيين وغيره.

والأمر الذي تجدر الإشارة إليه هنا: هو أن فرقة من الزيدية، وفرقة من أصحاب الحديث، قد قالوا بالإمامة على النحو الذي يقول به الشيعة الإمامية، عندما جعل المأمون (الرضا)عليه‌السلام ولياً لعهده. لكنهم بعد وفاة الرضاعليه‌السلام رجعوا عن ذلك: قال النوبختي في فرق الشيعة ص ٨٦:

(.. وفرقة منهم تسمى (المحدثة) كانوا من أهل الإرجاء، وأصحاب الحديث، فدخلوا في القول بإمامة موسى بن جعفر، وبعده بإمامة علي بن موسى، وصاروا شيعة، رغبة في الدنيا وتصنعاً. فلما توفي علي بن موسىعليه‌السلام رجعوا إلى ما كانوا عليه.

وفرقة كانت من الزيدية الأقوياء، والبصراء، فدخلوا في إمامة علي بن موسىعليه‌السلام ، عندما أظهر المأمون فضله، وعقد بيعته، تصنعاً للدنيا، واستكانوا الناس بذلك دهراً. فلما توفي علي بن موسىعليه‌السلام رجعوا إلى قومهم من الزيدية.) وقد تقدم قول الشيبي: إنه قد التف حول الرضاعليه‌السلام (المرجئة، وأهل الحديث، والزيدية، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته..) وغير ذلك. والذي نريد أن نقوله هنا هو: أن (الإرجاء دين الملوك) على حد تعبير المأمون (على ما نقله عنه في ضحى الإسلام ج ٣ / ٣٢٦)، نقلاً عن طيفور في تاريخ بغداد.

وفي البداية والنهاية ج ١٠ / ٢٧٦: أن المأمون قال للنضر بن شميل: ما الإرجاء؟. قال: (دين يوافق الملوك، يصيبون به من دنياهم، وينقصون به من دينهم) قال: صدقت الخ. وليراجع كتاب بغداد ص ٥١، وعمدة القول بالإرجاء (القديم) هو: المغالاة في الشيخين، والتوقف في الصهرين، فالإرجاء والتشيع، وخصوصاً القول بإمامة موسى بن جعفر، وولده علي الرضا على طرفي نقيض ومن هنا كانت المساجلة الشعرية بين المأمون المظهر لحب علي وولده، وابن شكلة المرجي، يقول المأمون معرضا بابن شكلة:

إذا المرجي سرك أن تراه

يموت لحينه من قبل موته

فـجدد عـنده ذكرى علي

وصل على النبي وآل بيته

أما ابن شكلة فيقول معرضاً بالمأمون:

إذا الشيعي جمجم في مقال

فسرك أن يبوح بذات نفسه

فصل على النبي وصاحبيه

وزيـريه وجاريه برمسه

٢٠٣

= راجع: مروج الذهب ج ٣ / ٤١٧، والكنى والألقاب ج ١ / ٣٣١، وبعد هذا. فإنه لمن غرائب الأمور حقاً، الانتقال دفعة واحدة من القول بالإرجاء إلى التشيع، بل إلى الرفض (وهو الغلو في التشيع حسب مصطلحهم، والذي يتمثل بالقول بإمامة الأئمة الاثني عشرعليهم‌السلام ) وأغرب من ذلك العودة إلى الإرجاء بعد موت علي الرضاعليه‌السلام .

وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى تأثير السياسة والمال في هؤلاء الذين أخذوا على عاتقهم ـ بادعائهم ـ مسؤولية الحفاظ على الدين والذود عن العقيدة، فإنهم كانوا في غاية الانحطاط الديني، يتلونون ـ طمعاً بالمال والشهرة ـ ألواناً، حتى إن ذلك يحملهم على القول بعقيدة، ثم القول بضدها، ثم الرجوع إلى المقالة الأولى، إذا رأوا أن الحاكم يرغب في ذلك، ويميل إليه، ولهذا أسموا بـ‍ (الحشوية) يعني: أتباع وحشو الملوك، وأذناب كل من غلب، ويقال لهم أيضاً (وهم في الحقيقة أهل الحديث): (الحشوية، والنابتة، والغثاء، والغثر) على ما في كتاب: تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص ٨٠.

وراجع أيضاً فرق الشيعة، ورسالة الجاحظ في بني أمية، وغير ذلك.

بل لقد أطلق عليهم المأمون نفسه لفظ (الحشوية) في مناقشته المشهورة للفقهاء والعلماء المذكور في العقد الفريد والبحار، وعيون أخبار الرضا وغير ذلك. وقال عنهم الزمخشري في مقام استعراضه للمذاهب والنحل، ومعتنقيها:

وإن قلت من أهل الحديث وحزبه

يـقولون تيس ليس يدري ويفهم

ويقابل كلمة (الحشوية) كلمة (الرافضة) التي شاع إطلاقها على الشيعة الإمامية.

ومعناها في الأصل: جند تركوا قائدهم. فحيث إن الشيعة لم يكونوا قائلين بإمامة أولئك المتغلبين، سموهم ب‍ـ (الرافضة) ولذا جاء في تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٦١: أن معاوية كتب إلى عمرو بن العاص:

 (أما بعد. فإنه قد كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك، فقد سقط إلينا مروان في رافضة أهل البصرة الخ..). ومثل ذلك ما في وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص ٣٤، فالمراد بكلمة رافضة هنا هو ذلك المعنى اللغوي الذي أشرنا إليه، فسمي الشيعة بالرافضة، لأنهم ـ كما قلنا ـ رفضوا الانقياد لأولئك الحكام المتغلبين.

٢٠٤

= يقول السيد الحميري على ما جاء في ديوانه وغيره ـ يهجو البعض:

أبـوك ابن سارق عنز النبي

وأمـك بـنت أبـي جحدر

ونحن على رغمك الرافضون

لأهـل الـضلالة والـمنكر

ولكن قد جاء في الطبري، مطبعة الاستقامة ج ٦ ص ٤٩٨، والبداية والنهاية ج ٩ ص ٣٣٠، ومقدمة ابن خلدون ص ١٩٨، ومقالات الإسلاميين ج ١ ص ١٣٠، وغاية الاختصار ص ١٣٤: أن سبب تسمية الشيعة بـ‍ (الرافضة) هو أنهم عندما تركوا نصرة زيد بن علي في سنة ١٢٢ ه‍. قال لهم زيد: رفضتموني، رفضكم الله، وهذا كذب راج على بعض الشيعة أيضاً حيث ذكروا وذكر الطبري في نفس الصفحة المشار إليها آنفاً: أن التسمية كانت من المغيرة بن سعيد، لما رفضته الشيعة.. وكانت قضيته سنة ١١٩ ه‍.

ولكن الحقيقة هي أن التسمية بالرافضة كانت قبل سنتي ١٢٢ ه‍ و ١١٩ ه‍. فقد جاء في المحاسن للبرقي ص ١١٩ طبع النجف، باب الرافضة: أن الشيعة كانوا يشكون إلى الباقر المتوفى سنة ١١٤ أن الولاة قد استحلوا دماءهم وأموالهم باسم: (الرافضة) الخ.

وجاء في ميزان الاعتدال طبع سنة ١٩٦٣ م. ج ٢ ص ٥٨٤ بعد ذكره لإسناد طويل أن الشعبي المتوفى سنة ١٠٤ ه‍. قال لأحدهم: (ائتني بشيعي صغير، أخرج لك منه رافضياً كبيراً).

وفي كتاب: روض الأخبار المنتخب من ربيع الأبرار ص ٤٠، أن الشعبي قال: (أحبب آل محمد ولا تكن رافضياً، وأثبت وعيد الله، ولا تكن مرجئياً.). بل لدينا ما يدل على أن تسمية الشيعة بـ‍ (الرافضة) كان قبل سنة المئة، فقد جاء في المحاسن والمساوي للبيهقي ص ٢١٢، طبع دار صادر وأمالي السيد المرتضى ج ١ ص ٦٨ هامش: أن لما أنشد الفرزدق أبياته المشهورة في الإمام زين العابدين، المتوفى سنة ٩٥ ه‍ قال عبد الملك بن مروان المتوفى سنة ٨٦ ه‍ للفرزدق: (أرافضي أنت يا فرزدق؟!). وعلى كل حال: فإن ذلك كله قد كان قبل قضيتي زيد والمغيرة ابن سعيد بزمان بعيد.

٢٠٥

أن يقضي على الزيدية، ويكسر شوكتهم بالبيعة للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد، ولهذا نرى أنه قد طبق اللقب، الذي طالما دعا إليه الزيدية، واعترف به العباسيون، بل ودعوا إليه في بدء دعوتهم ودولتهم، ألا وهو لقب: (الرضا من آل محمد)، طبقه على علي ابن موسىعليه‌السلام ، فسماه: (الرضا من آل محمد)(١) . فأصبحت بذلك حجته قوية على الزيدية، بل لم يعد لهم حجة أصلاً. وأصبح يستطيع أن ينام قرير العين، إذ قد أصبح (الرضا من آل محمد) موجوداً، فالدعوة إلى غيره ستكون لا معنى لها البتة. ولسوف تكون مرفوضة من الناس جملة وتفصيلا. وكان ذلك بطبيعة الحال السبب الرئيسي في إضعاف الزيدية، وكسر شوكتهم، وشل حركتهم.

والذي ساهم إلى حد كبير في إضعافهم، وشل حركتهم، هو اختياره الإمامعليه‌السلام بالذات، حيث إنه الرجل الذي لا يمكن لأحد كائناً من كان أن ينكر فضله، وعلمه، وتقواه، وسائر صفاته ومزاياه، التي لم تكن لأحد في زمانه على الإطلاق، فليس لهم بعد طريق للاعتراض عليه: بأن الذي اختاره لولاية عهده، والخلافة من بعده، ليس أهلاً لما أهله له. ولو أنهم ادعوا ذلك لما صدقهم أحد، ولكانت الدائرة حينئذ في ذلك عليهم، والخسران لهم دون غيرهم.

____________

(١) راجع: الفخري في الآداب السلطانية، ص ٢١٧، وضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٤، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٧، والطبري، وابن الأثير، والقلقشندي وأبو الفرج. والمفيد وكل من تعرض من المؤرخين لولاية العهد. بل لقد صرح نفس المأمون بذلك في وثيقة ولاية العهد، وهذا يكفي في المقام.. ولقد قال دعبل:

أيا عجباً منهم يسمونك الرضا

ويـلقاك منهم كلحة وغضون

وهناك نصوص أخرى مفادها: أنه سمي الرضا، لرضا أعدائه، وأوليائه به، وعزى الشيبي في كتابه: الصلة بين التصوف والتشيع ص ١٣٨: عزا رضا أعدائه به إلى قوة شخصيتهعليه‌السلام .. أما نحن فنقول: إنه ليس من اليسير أبداً، أن تنال شخصية رضا كل أحد، حتى أعدائها. اللهم إلا إذا كان هناك سر إلهي، اختصت به تلك الشخصية، دون غيرها من سائر بني الإنسان..

٢٠٦

فذلكة لا بد منها:

هذا.. ولا يسعنا هنا إلا أن نشير إلى أن المأمون، لم يخترع أسلوباً جديداً للتصدي للزيدية، والحد من نفوذهم، وكسر شوكتهم، ببيعته للرضاعليه‌السلام ، إذ أنه كان قد استوحى هذه الفكرة من سلفة المهدي، الذي كان قد استوزر يعقوب بن داوود الزيدي، ليحد من نشاط الزيدية، ويكسر شوكتهم. وكان قد نجح في ذلك إلى حد ما: إذ لا يحدثنا التاريخ عن تحركات زيدية خطيرة ضد المهدي، بعد استيزاره ليعقوب، وتقريبه للزيدية، كتلك الأحداث التي حدثت ضد المنصور، وخصوصاً ثورة محمد وإبراهيم ابني عبد الله. كما يلاحظ أن تقريب العباسيين للزيدية في عصر المهدي، وتسليطهم على شؤون الدولة وإداراتها، لم يؤثر في الوضع العام أثراً يخشاه العباسيون، وذلك بلا شك مما يشجع المأمون على الإقدام على ما كان قد عقد العزم عليه، بجنان ثابت وإرادة راسخة.

يضاف إلى ذلك: أن سهولة إبعاد العباسيين لهم عن مراكز القوة، ومناصب الحكم على يد المهدي نفسه، الذي نكب يعقوب بن داوود، الوزير الزيدي، حيث لم تصاحبه ردة فعل، ولا نتج عنه أية حادثة تذكر ضد العباسيين، لا حقيرة، ولا خطيرة.. هو الذي شجع المأمون على أن يستوحي نفس الفكرة، ويلعب نفس اللعبة، ويتبع نفس طريقة المهدي. في مواجهتهم، وكسر شوكتهم، بالبيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد بعده. وعلى كل حال، فإن هذا أسلوب قديم اتبعه العباسيون في دعوتهم الأولى أيضاً، حيث بايعوا للعلويين، وأظهروا أن الدعوة لهم وباسمهم..

ثم كانت النتيجة هي ما يعلمه كل أحد، حيث انقلبوا عليهم يوسعونهم قتلاً وعسفاً، وتشريداً عندما خافوهم. فلم يعودوا بحاجة إليهم.

ه‍ ـ : أضف إلى ذلك ما تقدم أن المأمون كان يعلم قبل أي شخص آخر بطبيعة العلاقات التي كانت قائمة بين الأئمةعليهم‌السلام ، وبين الزيدية، حيث إنها كانت على درجة من السوء والتدهور. وكان عدم التفاهم، والانسجام فيما بينهم واضحاً للعيان..

٢٠٧

حتى لقد شكى الأئمةعليهم‌السلام منهم، وصرحوا: بأن الناس قد نصبوا العداوة لشيعتهم، أما الزيدية فقد نصبوا العداوة لهم أنفسهم(١) ، وفي الكافي رواية مفادها: إنه عليه‌السلام قال إنهم قبل أن يصلوا إلى الحكم كانوا لا يطيعونهم فكيف تكون حالهم معهم لو أنهم وصلوا إلى الحكم وتبوءوا كرسي الرئاسة.

وقد رأينا: أن عبد الله بن الحسن، عندما جاء يعرض على الإمام الصادقعليه‌السلام كتاب أبي سلمة، الذي يدعوه فيه للقدوم إلى الكوفة، لتكون الدعوة له، وباسمه، فنهاه الإمامعليه‌السلام عن ذلك ـ رأيناه ـ ينازع الإمام الصادق الكلام، حتى قال له:

____________

(١) راجع: الوافي للفيض ج ١ ص ١٤٣، باب: الناصب ومجالسته.

هذا. ولا يمنع ذلك ما ورد عنهم عليهم‌السلام من أن خروج الزيدية وغيرهم على الحكام يدرؤا به عنهم، وعن شيعتهم: فقد جاء في السرائر قسم المستطرفات ص ٤٧٦ أنه: (ذكر بين يدي أبي عبد الله من خرج من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال عليه‌السلام : ((لا أزال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد ..)) إلخ وذلك لأن اصطدامهم مع الحكام كان يصرف أنظار الحكام إليهم، ويفسح المجال أمام أهل البيت وشيعتهم إلى حد ما. ولم يكن هناك مجال لاتهام الأئمة وشيعتهم بالتواطؤ معهم، مع ما كان يراه الحكام من عدم الانسجام الظاهر بين الأئمة وبين الزيدية، وغيرهم من الثائرين وسلبية كل فريق منهما تجاه الآخر..

وأخيراً.. فلا بد لنا هنا من الإشارة إلى أن ثورات العلويين، سواء على الحكم الأموي، أو الحكم العباسي، قد ساهمت في أن يبقى حق العلويين في الحكم متحفظاً بقوته وحيويته في ضمير الأمة، ووجدانها. ولم تؤثر عليه حملات القمع والتضليل، التي كان الحكم القائم آنذاك يمارسها ضدهم، وضد هذا الحق الثابت لأهل البيتعليهم‌السلام بالنص.

٢٠٨

(والله، ما يمنعك من ذلك إلا الحسد) إلخ وقد انصرف عبد الله آخر الأمر مغضباً(١) .

ورأينا أيضاً أنه في موقف آخر له مع الإمام الصادقعليه‌السلام يتهمه بنفس هذه التهمة، ويصمه بعين هذه الوصمة، وذلك عندما أرادوا البيعة لولده محمد، وأبدى الإمامعليه‌السلام رأيه في ذلك. ذلك الرأي الذي كشفت الأيام عن صحته وسداده(٢) .

بل لقد كان عيسى بن زيد يقول لمحمد بن عبد الله: (.. من خالفك من آل أبي طالب، فأمكني أضرب عنقه.)(٣) وقد تجرأ عيسى هذا أيضاً على الإمام الصادق بكلام لا نحب ذكره.

وأما موقف محمد بن عبد الله نفسه مع الإمام الصادقعليه‌السلام ، فأشهر من أن يذكر، حيث إنه سجن الإمامعليه‌السلام ، واستصفى أمواله، وأسمعه كلاماً قاسياً، لا يليق بمقام الإمام وسنه(٤) .

إلى آخر ما هنالك مما يدل على كرههم، وحقدهم على الأئمةعليهم‌السلام . أو بالأحرى حسدهم لهم..

____________

(١) راجع: مروج الذهب ج ٣ ص ٣٥٤، ٣٥٥، وغيره من المصادر.

(٢) الصواعق المحرقة ص ١٢١، وينابيع المودة للحنفي ص ٣٣٢، ٣٦١، ومقاتل الطالبيين ص ٢٥٥، ٢٥٦، ٢٧٠، وغير ذلك.. وفي هذا الأخير: أن عبد الله ابن الحسن لم يرض باستدعاء الإمام، ولا وافق عليه، عندما أرادوا البيعة لولده محمد، وبعد أن أقنعوه، وحضر الإمام، جرى بينهما ما جرى.

(٣) قاموس الرجال ج ٧ ص ٢٧٠.

(٤) قاموس الرجال ج ٧ ص ٢٧٠، و ج ٨ ص ٢٤٢، ٢٤٣ والبحار ج ٤٧ ص ٢٨٤، ٢٥٨.

٢٠٩

والمأمون.. كان يعلم بذلك كله، ويدركه كل الإدراك، ولهذا فإننا لا نستبعد أنه ـ وهو الداهية الدهياء ـ قد أراد أيضاً في جملة ما أراد: أن يوقع الفتنة بين آل علي أنفسهم. أي: بين الأئمة، والمتشيعين لهم، وبين الزيدية، ويقف هو في موقف المتفرج المتربص حتى إذا أضعف كل واحد من الفريقين الفريق الآخر، ولم يعد فيهما بقية.. انقض هو عليهما، وقضى عليهما بأهون سبيل.

بل إن بعض الباحثين يرى: أنه أراد من لعبته هذه: (.. ضرباً للثائرين العلويين من إخوة علي بن موسى بأخيهم.)(١) .

ولو أننا استبعدنا كل ذلك، فلا أقل ـ كما قلنا ـ من أن حجته أصبحت قوية على الزيدية، وعلى كل من يدعو إلى (الرضا من آل محمد)، ولم يعد يخشى أحداً منهم، بعد أن أصبح (الرضا من آل محمد) موجوداً.

الهدف التاسع:

كما أنه ببيعته للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد، وقبول الإمامعليه‌السلام بذلك.. يكون قد حصل على اعتراف من العلويين، على أعلى مستوى بشرعية الخلافة العباسية، ولقد صرح المأمون بأن ذلك، كان من جملة أهدافه، حيث قال: (.. فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا..) وسنتكلم حول تصريحات المأمون هذه بنوع من التفصيل في فصل: مع بعض خطط المأمون، وغيره إن شاء الله تعالى.

نعود إلى القول: إن تصريح المأمون هذا يعطينا: أن قبول الإمام بأن يكون ولي عهد المأمون، إنما يعني بالنسبة للمأمون: أن الإمام يكون قد أقر بأن الخلافة ليست له دون غيره، ولا في العلويين دون غيرهم، وأنه كما يمكن أن يكون هو جديراً بها، وأهلا لها، وكذلك غيره يمكن أن يكون كذلك. وليتمكن المأمون بذلك من محاربة العلويين بنفس السلاح الذي بأيديهم، وليصير ـ من ثم ـ من الصعب استجابة الناس لهم، إذا دعوا لأية ثورة ضد حكم اعترفوا هم بشرعيته، وأيدوه، وتعاونوا معه من قبل، وعلى أعلى مستوى ومن أعظم شخصية فيهم.

____________

(١) هو الدكتور كامل مصطفى الشيبي في كتابه: الصلاة بين التصوف والتشيع ص ٢١٩.

٢١٠

بل لقد كان يريد أن يحصل من العلويين على اعتراف بأن الحكم حق للعباسيين فقط. أما هم، فليس لهم فيه أدنى نصيب، وما فعله المأمون من إسناد ولاية العهد لواحد منهم، ما كان إلا تفضلاً وكرماً، ومن أجل أن يجمع شمل البيتين العلوي والعباسي، وتصفو القلوب ويمحو ما كان من أمر الرشيد وغيره من أسلافه مع العلويين.

ولقد حاول المأمون أن ينتزع من الإمام اعترافا بأن الخلافة حق للعباسيين، شفاهاً أيضاً فكانت النتيجة عكس ما أراد المأمون، وذلك عندما عرض بالمن على الإمام بأن جعله ولي عهده، فأجابه الإمامعليه‌السلام : بأن هذا الأمر لم يزده في النعمة شيئاً، وأنه وهو في المدينة كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب.

كما أن المأمون قد قال لحميد بن مهران، وجمع من العباسيين: (.. وليعتقد فيه المفتونون به، بأنه ليس مما ادعى في قليل، ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا دونه.) ولسوف يأتي الكلام عن هذه التصريحات إن شاء الله كما قلنا.

وبعد.. فإنه لا يكون من المبالغة في شيء لو قلنا: إن حصول المأمون على اعتراف من العلويين، ومن الإمام الرضاعليه‌السلام خاصة، بشرعية خلافته، وخلافة، بني أبيه أخطر على العلويين من الأسلوب الذي انتهجه أسلافه من أمويين وعباسيين ضدهم،: من قتلهم، وتشريدهم، وسلب أموالهم، إلى غير ذلك مما هو معروف ومشهور.

الهدف العاشر:

يضاف إلى ذلك، أنه يكون قد حصل على اعتراف ضمني من الإمام بشرعية تصرفاته، طيلة فترة ولاية العهد، وليعطي الناس ـ من ثم ـ الصورة التي يريدها عن الحكم والحاكم، وليؤكد للملأ أجمع: أن الحاكم هذا هو سلوكه، وهذه هي تصرفاته: من كان، ومهما كان، وإذن فليس لهم بعد حق في أن يتطلعوا إلى حكومة أحد على أن بها شيئاً جديداً، ولا أن ينظروا إلى جهة على أنها يمكن أن يكون بها المنقذ لهم، والمخرج من الظلمات إلى النور، حتى ولو كانت تلك الجهة هي آل بيت نبيهم، فإنه من الطبيعي أن يتبع السياسيون أساليب، ويتكلموا بأشياء كثيرة، ينسبونها بمجرد وصولهم إلى الحكم، وتسلمهم لازمة السلطة، فإن تلك لا تعدو كونها تكتيكات، ووعودا انتخابية، يحتاجون إليها في ظروف معينة، ثم يستغنون عنها.. كما كانت الحال في وعود المأمون، التي أشرنا إليها فيما تقدم.

٢١١

وهكذا.. فيكون سكوت الإمام في فترة ولاية العهد، عن تصرفات الهيئة الحاكمة، دالا على رضاه بها، ويعتبر إمضاء لها.. وبعد هذا.

فلا يجب أن يكون من العسير على الناس أن يتصوروا طبيعة وماهية حكم الإمام، وكل من يقدر له أن يصل الحكم والسلطان، سواء من العلويين، أو من غيرهم.

وإذا كانت الصورة واحدة، والجوهر واحد، والاختلاف إنما هو فقط في الاسم والعنوان، فليس لهم بعد حق، أو على الأقل ما الداعي لهم، لأن يطلبوا حكماً أفضل، أو حكاماً أعدل، فإنه طلب لغير موجود، وسعي وراء مفقود.

الهدف الحادي عشر:

هذا.. وبعد أن يكون المأمون قد حصل على كل ما قدمناه، وحقن دماء العباسيين، واستوثقت له الممالك، ولم يعد هناك ما يعكر صفو حياته(١) ، وقوي مركزه، وارتفع بالخلافة من الحضيض المهين، الذي أوصلها إليه أسلافه إلى أوج العظمة، والتمكن والمجد. وأعطاها من القوة والمنعة، ووهبها من الحياة في ضمير الأمة ووجدانها ما هي بأمس الحاجة إليه.. ولتتمكن من ثم من الصمود في وجه أية عاصفة، وإخماد أية ثورة، ومقاومة كل الأنواء، وذلك هو حلمه الكبير، الذي طالما جهد في تحقيقه إنه بعد أن يكون قد حصل على كل ذلك وسواه مما قدمناه:

____________

(١) لقد صرح الذهبي في الجزء الأول من كتابه (العبر) بأنه في سنة ٢٠٠ ه‍. استوثقت الممالك للمأمون. وهذه هي نفس السنة التي أتي فيها بالإمامعليه‌السلام من المدينة إلى مرو.. ولكن اليافعي في مرآة الجنان ج ٢ ص ٨: قد جعل ذلك في سنة ٢٠٣: أي في السنة التي تخلص فيها المأمون من الإمام الرضاعليه‌السلام بواسطة السم الذي دسه إليه.. وفي اليعقوبي ج ٢ ص ٤٥٢ طبع صادر: أنه في السنة التي غادر فيها المأمون خراسان: (لم تبق ناحية من نواحي خراسان يخاف خلافها).

٢١٢

يكون قد أفسح لنظام حكمه المجال ـ تلقائيا ـ لتصفية حساباته مع خصومه، أياً كانوا. وبأي وسيلة كانت، وبهدوء، وراحة فكر واطمئنان إن اقتضى الأمر ذلك.

كما أنه يكون قد مهد الطريق لتنفيذ الجزء الثاني ـ ولعله الأهم ـ من خطته الجهنمية، بعيداً عن الشبهات، ودون أن يتعرض لتهمة أحد، أو شك من أحد..

ألا وهو: القضاء على العلويين بالقضاء على أعظم شخصية فيهم. وليكون بذلك قد قضى نهائياً، وإلى الأبد، على أكبر مصدر للخطر، يمكن أن يتهدده، ويتهدد خلافته ومركزه.

إنه يريد زعزعة ثقة الناس بهم، واستئصال تعاطفهم معهم، وليحوله ـ إن استطاع ـ إلى كره ومقت، بالطرق التي لا تمس العواطف والمشاعر، ولا تثير الكثير من الشكوك والشبهات.

يظهر ذلك في محاولاته إسقاط الإمام إجتماعياً، والوضع منه قليلاً قليلاً، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر، وليدبر فيه في نهاية الأمر بما يحسم عنه مواد بلائه.. كما صرح لحميد بن مهران، وجمع من العباسيين، وسنتكلم بنوع من التفصيل عن محاولات المأمون هذه، التي باءت كلها بالفشل الذريع، وعادت عليه بالخسران، لأن الإمامعليه‌السلام كان قد أحبطها عليه، بل لقد كان لها من النتائج العكسية بالنسبة إليه ما جعله يتعجل بتصفية الإمام جسديا، بعد أن أشرف هو منهعليه‌السلام على الهلاك.. بالطريقة التي حسب أنها سوف لا تثير الكثير من الشكوك والشبهات.

ملاحظة لا بد منها:

ومن الأمور الجديرة بالملاحظة هنا: أن المأمون كان يقدر أن مجرد جعل ولاية العهد للإمام، سوف يكون كافيا لتحطيمه إجتماعياً، وإسقاطه نهائياً من أعين الناس، حيث يظهر لهم بالعمل ـ لا بالقول: أن الإمام رجل دنيا فقط، وأن تظاهره بالزهد والتقوى ما هو إلا طلاء زائف، لا واقع له، ولا حقيقة وراءه. ولسوف تكون النتيجة هي تشويه سمعة الإمامعليه‌السلام ، وزعزعة ثقة الناس به، وذلك بسبب الفارق الكبير بالسن، بين الخليفة الفعلي، وبين ولي عهده، إذ إن ولي العهد لا يكبر الخليفة الفعلي بسنتين، أو ثلاثة، أو خمسة، لا.. بل أكثر من ذلك بكثير، إنه يكبره بـ‍(٢٢) سنة،

٢١٣

وإنه لمن الأمور غير الطبيعية أبداً: أن يقبل ولاية العهد، وهو يكبر الخليفة الفعلي بهذا المقدار الكبير من السنين، ولسوف يكون قبوله لها ـ مع هذا الفارق بينهما ـ موجبا لجعله عرضة لشكوك الناس، وظنونهم، ولسوف يتسبب بوضع علامات استفهام كبيرة حوله.. كما كان الحال، بالنسبة لسؤال محمد بن عرفة، وكلام الريان المتقدم.. ولسوف يفسر(١) ذلك من أولئك الذين لا يدركون حقيقة ما يجري، وما يحدث، ـ وما أكثرهم ـ بتفسيرات تنسجم مع رغائب المأمون، وأهدافه. لأنهم سوف يرون أن زهدهعليه‌السلام بالدنيا، ليس إلا ستاراً تختفي وراءه مطامعه فيها، وحبه المستميت لها، حتى إنه ليطمع أن يعيش إلى ما بعد الخليفة الفعلي، الذي هو أصغر من ولده، ويصل إلى الحكم.. وباختصار نقول:

إنه يريد أن: (.. يعتقد فيه المفتونون به بأنه: ليس ما ادعى في قليل ولا كثير.) حسبما صرح به هو نفسه.. وعلى حد قول الإمام نفسه، الذي كان يدرك خطة المأمون هذه: (.. أن يقول الناس: إن علي بن موسى، لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعا بالخلافة؟!.). كما سيأتي.

____________

(١) ولكنا، مع ذلك نجد: أن قسما من أصحاب الرضاعليه‌السلام ، ممن كانوا يراقبون الأحداث بوعي ودراية، كانوا يدركون نوايا المأمون وأهدافه هذه ففي البحار ج ٤٩ ص ٢٩٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٩: أنه قد سئل أبو الصلت: (كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا مع إكرامه ومحبته له، وما جعل له من ولاية العهد بعده؟! فقال: إن المأمون كان يكرمه ويحبه لمعرفته بفضله، وجعل له ولاية العهد من بعده، ليري الناس أنه راغب في الدنيا، فلما لم يظهر منه إلا ما ازداد به فضلاً عندهم، ومحلاً في نفوسهم، جلب عليه إلخ.).

٢١٤

وعن الريان قال: دخلت على الرضا، فقلت: يا ابن رسول الله، إن الناس يقولون: إنك قبلت ولاية العهد، مع إظهارك الزهد في الدنيا؟!، فقالعليه‌السلام :((قد علم الله كراهتي..)) (١) وقد أشرنا إلى سؤال محمد بن عرفة، وكلام الريان فيما تقدم.

وعلى أي شيء يبكي المأمون، ومن أجل أي شيء يشقى ويتعب، ويسهر الليالي، ويتحمل المشاق.. إلا على هذا.. إن هذا هو أجل أمنياته وأغلاها.

سؤال وجوابه:

قد يدور بخلد القارئ أن ما ذكرناه هنا: فيما يتعلق بالفارق الكبير بالسن، ينافي ما تقدم من أن المأمون كان يريد الحصول على قاعدة شعبية، والارتفاع بالخلافة من الحضيض الخ.

ولكن الحقيقة هي:

أنه لا منافاة هناك.. ويمكن للمأمون أن يقصد كل ذلك من البيعة، لأن مقدار التفاوت بالسن بين الإمامعليه‌السلام والمأمون، لم يكن مما يعرفه الكثيرون، ولا مما يلتفت إليه عوام الناس في بادئ الأمر، لأنهم يأخذون الأمور على ظواهرها، ولا يتنبهون إلى مثل ذلك، إلا بعد تنبيه وتذكير، فللوهلة الأولى تجوز عليهم الخدعة، ويقدرون خطوة المأمون هذه، وتنتعش الآمال في نفوسهم بالحياة الهنيئة السعيدة، تحت ظلم حكم بدا أنه يتخذ العدل ديدنا، والإنصاف طريقة..

____________

(١) علل الشرايع ص ٢٣٨، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٠، وأمالي الصدوق ص ٤٤، ٤٥.

٢١٥

ثم.. وبعد أن يجند المأمون أجهزة إعلامه، من أجل تسميم الأفكار، يجد أن نفوس الناس مهيأة ومستعدة لتقبل ما يلقى إليها. ويكون لديه ـ باعتقاده ـ من الحجج ما يكفي لإسقاط الإمام، وزعزعة ثقة الناس به. ولا يؤثر ذلك بعد ذلك على الحكم، فإن الحكم يكون قد استنفذ أغراضه من البيعة. وحصل على ما يريد الحصول عليه منها.. هذا ولا بد لنا هنا من ملاحظة أن المأمون وأجهزة إعلامه كانوا في مقابل وصم الإمام بالرغبة بالدنيا والتفاني في سبيلها.. يشيعون بين الناس عن المأمون عكس ذلك تمام، فيطلب المأمون من وزيره أن يشيع عنه الزهد، والورع والتقوى(١) .. وأنه لا يريد مما أقدم عليه الأخير الأمة ومصلحتها، حيث قد اختار لولاية عهده أفضل رجل قدر عليه، رغم أن ذلك الرجل هو من ذلك البيت الذي لا يجهل أحد موقفه من حكم العباسيين، وموقف العباسيين منه كما يتضح ذلك من وثيقة ولاية العهد، وغيرها.

رأي الناس فيمن يتصدى للحكم:

لعل من الواضح أن كثيراً من الناس كانوا يرون ـ في تلك الفترة من الزمن ـ لقصر نظرهم، وقلة معرفتهم: أن هناك منافاة بين الزهد والورع، والتقوى، وبين المنصب، وأنهما لا يتفقان، ولا يجتمعان.

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٤ ص ٢٦١.

٢١٦

وقد رأينا الكثيرين يمتنعون على تولي المناصب للحكام، لما يرونه من المنافاة المشار إليها.

ولعل سر فهمهم هذا: هو أنهم كانوا قد اعتادوا من الحكام التجاوز على الحقوق، والدماء، والأموال، وعلى أحكام الدين، والنواميس الإنسانية، بشكل عام. والزهد والورع لا يتلائم مع ذلك كله، ولا ينسجم معه.

ولكن الحقيقة هي: أن لا منافاة بينهما أبداً، فإن الحكم إذا كان وسيلة لإيصال الخير إلى الآخرين، ورفع الظلم عنهم، وإشاعة العدل، إقامة شريعة الله تعالى، فيجب السعي إليه، والعمل من أجله، وفي سبيله.. بل إذا لزم من ترك السعي إليه، تضييع الحقوق، وانهيار صرح العدل، والخروج على أحكام الدين، فإن ترك السعي هذا، يكون هو المنافي للزهد والورع والتقوى..

ولقد قاد النبيعليه‌السلام الأمة، وقبله قادها سليمان بن داوود، وغيره، وبعده الإمام علي بن أبي طالب، وولده الحسن، ثم الحسين، وهكذا..

وحال هؤلاء في الزهد والورع، لا يحتاج إلى مزيد بيان، وإقامة برهان، بل لم يكن على ظهرها أزهد، ولا أتقى، ولا أفضل، ولا أورع منهم، عدوهم يعرف منهم ذلك تماماً كما يعرفه منهم صديقهم. فعدا عن الأنبياء الذين كانوا القمة في الورع والزهد والتقوى، نرى الإمام عليعليه‌السلام قمة في ذلك أيضاً، وقد رقع مدرعته حتى استحيا من راقعها، وكان راقعها هو ولده (الإمام الحسنعليه‌السلام )(١) . وكان يصلي في بيت المال ركعتين شكراً لله، بعد فراغ المال منه. وكان يقول:((إليك عني يا دنيا غري غيري، أبي تعرضت؟!..)) الخ وهو الذي قال فيه عدوه معاوية: (لو كان له بيتان: بيت من تبر، وآخر من تبن، لأنفق تبره قبل تبنه.). إلى غير ذلك مما لا مجال لنا لتتبعه واستقصائه..

____________

(١) راجع: الدرة النجفية ص ٣٠٣، طبعة حجرية.

٢١٧

العلويون يدركون نوايا المأمون:

إن نوايا المأمون تجاه العلويين، ومحاولاته لإسقاطهم إجتماعياً، وابتزازهم سياسياً.. حتى إذا أخفق في ذلك راح يختلهم واحداً فواحداً، كلما واتاه الظرف، وسنحت له الفرصة.. لم يكن العلويون يجهلونها، بل كانوا يدركونها كل الإدراك، ولم تكن تخدعهم تلك الشعارات والأساليب المبهرجة. وحسبنا هنا أن نذكر في مقام التدليل على هذا: أن المأمون كتب لعبد الله بن موسى، بعد وفاة الرضا، يعده بأنه يجعله ولي عهده، ويقول له: (ما ظننت أن أحداً من آل أبي طالب يخافني بعد ما عملته بالرضا).

فأجابه عبد الله يقول: (وصل إلي كتابك، وفهمته، تختلني فيه عن نفسي مثل القانص، وتحتال علي حيلة المغتال، القاصد لسفك دمي. وعجبت من بذلك العهد، ولايته لي بعدك، كأنك تظن: أنه لم يبلغني ما فعلته بالرضا؟! ففي أي شيء ظننت أني أرغب من ذلك؟ أفي الملك الذي غرتك حلاوته؟!.

إلى أن يقول: أم في العنب المسموم الذي قتلت به الرضا؟!).

ويقول له أيضاً ـ والظاهر أنه نص آخر للرسالة ـ: (هبني لا ثأر لي عندك، وعند آبائك المستحلين لدمائنا الآخذين حقنا، الذين جاهروا في أمرنا، فحذرناهم. وكنت ألطف حيلة منهم، بما استعملته من الرضا بنا، والتستر لمحننا، تختل واحداً،

____________

(١) ترجمة الإمام عليعليه‌السلام من تاريخ ابن عساكر بتحقيق المحمودي ج ٣ ص ٥٨ ـ ٦٠.

٢١٨

فواحداً منا الخ..)(١) .

ولا بد من ملاحظة: منافاة وعده هذا لعبد الله بن موسى بأن يجعل له ولاية العهد.. للرسالة التي أرسلها إلى العباسيين في بغداد، فور وفاة الرضاعليه‌السلام ، ويعدهم فيها بأن يجعل ولاية العهد فيهم، وسنشير إلى رسالته لهم في فصل: مع بعض خطط المأمون إن شاء الله وعلى كل حال.. فإننا نستطيع أن نفهم من هذه الرسالة التي لعبد الله بن موسى أموراً، نشير إلى بعضها:

أولاً: إن المأمون كان قد جعل ولاية العهد وسيلة لختل الشخصيات التي كان يخشاها، والغدر بها، إذ إن من المقبول والطبيعي ـ كما يرى البعض ـ أن يكون ولي العهد هو الذي يتآمر، ويدبر للتخلص من الخليفة الفعلي، ليختصر المسافة، ويصل إلى الحكم، الذي ينتظر الوصول إليه، والحصول عليه بفارغ الصبر. وليس من الطبيعي، ولا من المقبول أن يتآمر الخليفة على ولي عهده، إلا إذا كان يريد أن يجعل الخلافة لمن هو أعز عليه منه، وهذا ما نفاه المأمون عن نفسه في أكثر من مناسبة.

وهكذا.. فإن النتيجة تكون: أن الخليفة الفعلي يكون آخر من يتهم في ولي العهد، إذا ما راح ضحية التآمر والاغتيال، وعرف الناس ذلك. وهذا بلا شك من جملة ما كان يريده المأمون، ويسعى إليه.

ثانياً: إن المأمون رغم الصعوبات التي واجهها في فترة تولية الرضاعليه‌السلام العهد.. يبدو أنه كان يعتبر نفسه منتصراً وناجحاً في لعبته تلك، ولذلك نرى أنه قد حاول تكرار نفس اللعبة مع عبد الله بن موسى. ولكن يقظة هذا الأخير، الذي كانت ظروفه تختلف عن ظروف الإمامعليه‌السلام قد فوتت عليه الفرصة، وأعادته. بخفي حنين.

____________

(١) مقاتل الطالبيين للأصفهاني ص ٦٢٨، إلى ص ٦٣١، وسنورد الرسالة في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله.

٢١٩

كما أننا لا نستبعد أن المأمون قد أراد بالإضافة إلى ذلك التستر على غدره بالرضاعليه‌السلام ، بعد أن كان قد افتضح واشتهر، رغم محاولاته الجادة للتستر والكتمان.

ثالثاً: ما تقدمت الإشارة إليه من أن إكرامه للعلويين، والرضا بهم، والتستر لمحنهم، ما كان منه إلا ضمن خطة مرسومة، وإلا سياسة منه ودهاء، من أجل أن يأمن العلويون جانبه، ويطمئنوا إليه، كما يدل عليه قوله لعبد الله بن موسى: (ما ظننت أحداً من آل أبي طالب يخافني بعد ما عملته بالرضا) وقد قدمنا أنه أشار إلى ذلك أيضاً في كتابه للعباسيين، فلا نعيد..

رابعاً: أنه لم يستطع أن يخفي عن العلويين ـ كما لم يستطع أن يخفي عن غيرهم ـ غدره بالإمام الرضاعليه‌السلام ، وسمه له بالعنب، وكذلك غدره بغيره من العلويين. وسر ذلك واضح، فإن جميع الدلائل والشواهد كانت متوفرة على ذلك، كما سيأتي بيان جانب من ذلك في فصول هذا الكتاب بنوع من التفصيل.

موقف الإمام في مواجهة مؤامرات المأمون:

لقد رأينا كيف أن المأمون أراد من لعبته تلك، التغلب على المشاكل التي كان يواجهها، والاستفادة في تقوية دعائم خلافته، وخلافة العباسيين بشكل عام.. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هو موقف الإمامعليه‌السلام نفسه من لعبة المأمون تلك، وخططه، وأهدافه؟، وهل أفسح المجال للمأمون ليحقق كل ما يريد تحقيقه، ويصل إلى ما

كان يريد الوصول إليه؟.. وهل كانت لديه خطط من نوع معين، وأهداف معينة كان يسعى من أجل الوصول إليها، والحصول عليها؟!.

الحقيقة هي: أن الإمامعليه‌السلام قد استطاع، بما اتبعه من خطة حكيمة، وسلوك مثالي: أن يضيع على المأمون كافة الفرص، ويجعله يبوء بالخيبة والخسران، ويمنى بالفشل الذريع، حتى لقد أشرف المأمون منه على الهلاك، وبدا الارتباك واضحاً في كل تصرفاته، وأقواله، وأفعاله..

وسيأتي في الفصول الآتية في القسمين: الثالث، والرابع بيان بعض ما يتعلق بذلك إن شاء الله.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568