بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٣

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة0%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 617

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

مؤلف: الشيخ محمد تقي التّستري
تصنيف:

الصفحات: 617
المشاهدات: 184935
تحميل: 6520


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 617 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 184935 / تحميل: 6520
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء 13

مؤلف:
العربية

« و في ( ثواب الأعمال ) عن الصادقعليه‌السلام من أغاث أخاه المؤمن اللهفان عند جهده فنفّس كربته و أعانه على نجاح حاجته كانت له بذلك عند اللّه اثنان و سبعون رحمة من اللّه يعجل له منها واحدة تصلح بها معيشته ، و يدخر له أحدى و سبعين رحمة لا فزاع يوم القيامة و أهوالها » و عنهعليه‌السلام من نفّس عن مؤمن كربة نفّس اللّه عنه كرب الآخرة و خرج من قبره و هو ثلج الفؤاد و من أطعمه من جوع أطعمه اللّه ثمار الجنّة ، و من سقاه شربة سقاه اللّه من الرحيق المختوم .

٥ الحكمة ( ١٠١ ) و قالعليه‌السلام :

لاَ يَسْتَقِيمُ قَضَاءُ اَلْحَوَائِجِ إِلاَّ بِثَلاَثٍ بِاسْتِصْغَارِهَا لِتَعْظُمَ وَ بِاسْتِكْتَامِهَا لِتَظْهَرَ وَ بِتَعْجِيلِهَا لِتَهْنُؤَ أقول : اما استصغارها لتعظم ففي ( كامل المبرد ) : مر يزيد بن المهلب باعرابية في خروجه من سجن عمر بن عبد العزيز يريد البصرة ، فقرته غنما فقبلها و قال لابنه معاوية ما معك من النفقة ؟ فقال : ثمانمائة دينار قال : فادفعها إليها قال له ابنه انك تريد الرجال و لا يكون الرجال إلاّ بالمال و هذه يرضيها اليسير و هي بعد لا تعرفك ، فقال ان كانت ترضى باليسير فانا لا أرضى ، إلاّ بالكثير و ان كانت هي لا تعرفني فأنا أعرف نفسي ادفعها إليها .

و زعم الأصمعي ان حربا كانت بالبادية ثم اتصلت بالبصرة فتفاقم الأمر فيها ثم مشى بين الناس بالصلح فاجتمعوا في المسجد الجامع فبعثت و أنا غلام إلى ضرار بن الفقاع من بني دارم فاستأذنت عليه فاذن لي فاذا به في شملة يخلط بزرا لعنزله حلوب .

٢٤١

فخبرته بمجتمع القوم فامهل حتى أكلت العنز ثم غسل الصفحة و صاح يا جارية غدينا فأتته بزيت و تمر فدعاني فقذرته ان آكل معه حتى إذا قضى من أكله حاجته و ثب إلى طين ملقى في الدار فغسل به يده ثم صاح يا جارية اسقينا فأتته بماء فشربه و مسح فضله على وجهه ثم قال الحمد للّه ماء الفرات بتمر البصرة بزيت الشام متى نؤدي شكر هذه النعم ، ثم قال يا جارية عليّ بردائي فأتته برداء عدني فارتدي به على تلك الشملة فتجافيت عنه استقباحا لزيه فلما دخل المسجد صلّى ركعتين ، ثم مشى إلى القوم فلم تبق حبوة إلاّ حلت إعظاما له ثم جلس فتحمل جميع ما كان بين الأحياء في ماله و انصرف .

و في ( وزراء الجهشياري ) كان الماء قد زاد في أيام الرشيد و كان الرشيد غائبا في بعض متصيداته و يحيى بن خالد مقيم ببغداد فركب يحيى و معه القوات ليفرّقهم على المواضع المخوفة من الماء يحفظونها ففرّق القوات و أمر باحكام المسنيات و صار إلى الدور فوقف ينظر إلى قوّة الماء و كثرته فقال قوم ما رأينا مثل هذا المد فقال يحيى قد رأيت مثله في سنة كان أبي قد وجّهني فيها إلى عمارة ابن حمزة في أمر رجل كان يعنى به من أهل خراسان و كانت له ضياع بالري فورد عليه كتابه يعلمه ان ضياعة تحيفت فخربت و ان نعمته قد نقصت و ان صلاح أمره في تأخيره بخراج سنة و كان مبلغه مائتي ألف درهم ليتقوى بها على عمارة ضيعته ، و يؤديه في السنة المستقبلة فلما قرأ الكتاب غمّه و بلغ منه و كان بعقب ما ألزمه المنصور من المال الذي خرج عليه فخرج به عن كلّ ما يملكه و استعان بجميع اخوانه فيه .

فقال لي يا بني من ههنا يفزع إليه في أمر هذا الرجل فقلت لا أدري ، فقال بلى عمارة بن حمزة فصر إليه و عرّفه حال الرجل فصرت إليه و قد مد دجلة و كان ينزل في الجانب الغربي فدخلت عليه و هو مضطجع على فراشه ،

٢٤٢

فأعلمته ذلك فقال قف لي غدا بباب الجسر و لم يزد على ذلك فنهضت ثقيل الرجلين و عدت إلى أبي بالخبر فقال يا بني تلك سجيته فاذا أصبحت فاغد لموعد فغدوت فوقفت بباب الجسر و قد جاءت تلك الليلة بمد عجيب قطع الجسور و انتظم الناس من الجانبين جميعا ينظرون زيادة الماء فبينا أنا واقف أقبل زورق و الموج يخفيه مرة و يظهره أخرى و الناس يقولون : « غرق غرق نجانجا » حتى دنا من الشط فاذا عمارة بن حمزة و ملاّح معه في الزورق و قد خلف دوابه و غلمانه في الموضع الذي ركب منه فلما رأيته نبل في عيني و ملأ صدري ، فنزلت فعدوت إليه و قلت جعلت فداك في مثل هذا اليوم و أخذت بيده .

فقال أعدك و اخلف يا ابن أخي اطلب لي برذونا اتكاراه فقلت له فاركب برذوني قال فأي شي‏ء تركب ؟ قلت برذون الغلام فقال هات فقدمت إليه برذوني فركبه و ركبت برذون غلامي و توجه يريد أبا عبيد اللّه و هو إذ ذاك على الخراج و المهدي ببغداد خليفة للمنصور و المنصور في بعض أسفاره فلما طلع على حاجب أبي عبيد اللّه دخل بين يديه إلى نصف الدار و دخلت معه فلما رآه أبو عبيد اللّه قام من مجلسه و أجلسه فيه و جلس بين يديه فأعلمه عمارة حال الرجل و سأله اسقاط خراجه و هو مائتا ألف درهم و اسلافه من بيت المال مائتي الف درهم يردّها في العام المقبل ، فقال : هذا لا يمكنني و لكني اؤخره بخراجه إلى العام المقبل فقال : لست أقبل غير ما سألت فقال : أبو عبيد اللّه فاقنع بدون هذا لتوجدني السبيل إلى قضاء الحاجة فأبى عمارة و تلوم أبو عبيد اللّه قليلا فنهض عمارة فأخذ أبو عبيد اللّه بكمه .

و قال اني أتحمّل ذلك من مالي فعاد لمجلسه و كتب أبو عبيد اللّه إلى عامل الخراج باسقاط خراج الرجل لسنته و الاحتساب به على أبي عبيد اللّه

٢٤٣

و اسلافه مائتي ألف درهم يرتجع منه إلى العام المقبل فأخذت الكتاب و خرجنا فقلت لو أقمت عند أخيك و لم تعبر في هذا المد فقال لا أجد بدا من العبور فصرت معه إلى الموضع و وقفت حتى عبر .

و اما استكتامها لتظهر ( ففيه ) « قال علي بن الجنيد كانت بيني و بين يحيى البرمكي مودة و أنس فكنت أعرض عليه الرقاع في الحوائج فكثرت رقاع الناس عندي و اتصل شغله فقصدته يوما و قلت له : يا سيدي قد كثرت الرقاع و امتلأ خفي و كمي فأما تطوّلت بالنظر و اما رددتها فقال لي أقم عندي حتى أفعل ما سألت فأقمت عنده و جمعت الرقاع في خفي و أكلنا و غسلنا أيدينا و قمنا إلى النوم و استحييت من اذكاره إيّاها و يأست من عرضها لأنني قد علمت نقوم فنتشاغل بالشرب فنمت أنا و دعا هو بالرقاع من خفي فوقّع في جميعها و ردها إليه و نام و انتبه فدخلت إليه في مجلس الشرب و قد أعدت آلته فيه فلم استجز ذكر الرقاع له و شربت و انصرفت بالعشي فبكر إلى أصحاب الرقاع لمّا وقفوا على اقامتي عنده فاعتذرت إليهم و ضاق صدري بهم فدعوت بالرقاع لأميّزها و اخفف منها ما ليس بمهمّ فوجدت التوقيعات في جميعها فلم يكن لي همة إلاّ تفريقها و الركوب إليه لشكره ، فلما رأيته قلت يا سيدي قد تفضّلت و قضيت حاجتي فلم علقت قلبي و لم تعرّفني حتى يتكامل سروري ،

فقال لي سبحان اللّه أردت مني أن أمنّ عليك بأن أخبرك بما لا يجوز أن يخفى عليك .

( و فيه ) قال ثمامة كان أصحابنا يقولون لم يكن يرى لجليس خالد البرمكي دار إلاّ خالد بناها له و لا ضيعة إلاّ و خالد حمله عليها و كان أوّل من سمّى المستميحين و من يقصد العمّال لطلب البرّ الزوار و كانوا قبل ذلك يسمّون السوال فقال خالد انا استقبح لهم هذا الاسم و فيهم الاحرار

٢٤٤

و الاشراف و في ذلك يقول بعض زوّاره .

حذا خالد في جوده حذو برمك

فجود له مستطرف و أثيل

و كان بنو الاعدام يدعون قبله

باسم على الاعدام فيه دليل

يسمّون بالسوال في كلّ موطن

و ان كان فيهم تافه و جليل

فسماهم الزوّار سرّا عليهم

فاستاره في المجتدين سدول

و اما تعجيلها لتهنؤ ، ففي الخبر « لكلّ شي‏ء ثمرة و ثمرة المعروف تعجيل السراح » و عن الجاحظ كتب إلى بعضهم « ان سحاب وعدك قد برقت فليكن و بلها سالما عن صواعق المطل و الاعتلال » و قال ابن حمدان : « عجل النجح فان المطل بالوعد وعيد » و قال العتبي :

لا خير في عدة ان كنت ماطلها

و للوفاء على الاخلاف تفضيل

الخير أنفعه للناس أعجله

و ليس ينفع خير فيه تطويل

و قال البحتري في خضر بن أحمد .

عجّل بالذي تنيل يداه

ان بطء النوال من تنكيده

كاد ممتاحه لسابق جدواه

يكون الاصدار قبل و روده

و في اللسان ( اكري العشاء ) اخره قال الحطيئة .

( و أكريت العشاء إلى سهيل

أو الشعرى فطال بي الاناء )

قيل : هو يطلع سحرا و ما أكل بعده فليس بعشاء يقول انتظرت معروفك حتى أيست هذا و في المعجم : « كان بالكوفة امرأة موسرة لها على الناس ديون كثيرة بالسواد فأتت ابن عبدل الشاعر و عرضت له بأنها تتزوجه إذا اقتضى لها ديونها فقام بها حتى اقتضاها ثم طالبها و كان ابن عبدل يأتي ابن بشر بن مروان بالكوفة فيسأله فيقول له : اخمسمائة العام أحبّ إليك أم ألف في قابل فيقول ألف في قابل فإذا أتاه من قابل قال له ألف في العام أحب إليك أم

٢٤٥

الفان في قابل ؟ فيقول ألفان في قابل ، فلم يزل كذلك حتى مات ابن بشر و لم يعطه شيئا فكتبت المرأة إليه :

« سيخطيك الذي حاولت منّي

فيقطع حبل و صلك من حبالي

كما اخطاك معروف ابن بشر

و كنت تعد ذلك رأس مال

ثم دخل ابن عبدل بعد على عبد الملك فقال له عبد الملك : ما أحدثت بعدي قال خطبت امرأة من قومي فردت على ببيتي شعر و ذكر له البيتين فضحك عبد الملك و قال له لحاك اللّه اذكرت بنفسك و أمر له بألفي درهم١ .

٦ الحكمة ( ٢٢٢ ) و قالعليه‌السلام :

مِنْ أَشْرَفِ أَفْعَالِ اَلْكَرِيمِ غَفْلَتُهُ عَمَّا يَعْلَمُ أقول : و نقلت ( المصرية ) ( اعمال ) بدل ( افعال ) تحريف و في بيان الجاحظ جمع محمد بن علي بن الحسينعليهم‌السلام صلاح شأن الدنيا بحذافيرها في كلمتين فقال « صلاح شأن جميع التعايش و التعاشر ملأ مكيال ثلثاه فطنة و ثلثه تغافل » قال الجاحظ : « فلم يجعلعليه‌السلام لغير الفطنة نصيبا من الخير و لا حظّا في الصلاح لأن الانسان لا يتغافل إلاّ عن شي‏ء قد فطن له و عرفه »٢ .

و في الطبري قال محمد بن أيوب بن جعفر بن سليمان كان بالبصرة رجل من بني تميم و كان شاعرا ظريفا خبيثا منكرا و كنت أنا و إلي البصرة آنس به و استحليه فقلت له : أنت شاعر ظريف و المأمون أجود من السحاب الحافل فما يمنعك منه فعمل ارجوزة و خرج إلى الشام لمّا كان المأمون هنا لك

____________________

( ١ ) معجم الادباء للحموي ١ : ٢٣٣ ٢٣٥ ، ترجمة الحكم بن عبدل .

( ٢ ) البيان و التبيان للجاحظ ١ : ٨٤ مكتبة الخانجي ، القاهرة .

٢٤٦

قال الرجل : فبينا أنا قد ركبت نجيبي و لبست مقطعاتي و أنا أروم العسكر فإذا أنا بكهل على بغل فارة ما يقرّ قراره ، فتلقاني مواجهة و أنا أردد نشيد ارجوزتي .

فقال : سلام عليكم بكلام جهوري فقلت و عليكم ، قال قف ان شئت فوقفت فتضوعت منه رائحة العنبر و المسك الأذفر فقال ما أولك ؟ قلت : رجل من مضر قال و نحن من مضر .

ثم ماذا ، قلت : من تميم ، قال : ثم قلت : من سعد قال فما أقدمك هذا البلد قلت قصدت هذا الملك الذي ما سمعت بمثله أندى راحة قال : فما الذي قصدته به ؟ قلت : شعر طيب يلذ على الأفواه ، و تقتفيه الرواة قال : فأنشدنيه فغضبت و قلت يا ركيك أخبرتك اني قصدت الخليفة بشعر قلته و تقول انشدنيه فتغافل و اللّه عنها و تطامن لها و ألغى عن جوابها .

قال : و ما الذي تأمل منه ؟ قلت ان كان على ما ذكر منه فألف دينار قال فأنا أعطيكها ان رأيت الشعر جيّدا و الكلام عذبا واضع عنك العناء و طول الترداد و متى تصل إلى الخليفة و بينك و بينه عشرة آلاف رامح و نابل قلت فلي اللّه عليك أن تفعل قال : نعم قلت : و معك الساعة مال ؟ قال : « هذا بغلي و هو خير من ألف دينار » فغضبت أيضا و عارضني نزق سعد و خفة أحلامه ، فقلت ما يساوي هذا البغل هذا النجيب ؟ قال : « فدع عنك البغل و لك اللّه على أن أعطيك الساعة ألف دينار » فأنشدته :

مأمون يا ذا المنن الشريفة

و صاحب المرتبة المنيفة

و قائد الكتيبة الكثيفة

هل لك في ارجوزة ظريفة

أظرف من فقه أبي حنيفة

لا و الذي أنت له خليفة

ما ظلمت في أرضنا ضعيفة

أميرنا مؤنة خفيفة

٢٤٧

و ما أجتبى شيئا سوى الوظيفة

فالذئب و النعجة في سقيفة

و اللص و التاجر في قطيفة

فو اللّه ما عدا ان أنشدته فاذا زهاء عشرة الآف فرس قد سدوا الافق يقولون : السلام عليك أيها الخليفة فأخذني أفكّر و نظر اليّ بتلك الحال ، فقال : لا بأس عليك أي أخي قلت جعلت فداك أتعرف لغات العرب ؟ قال : أي قلت فمن جعل منهم ( الكاف ) مقام ( القاف ) قال : حمير قلت : « لعنها اللّه و لعن من استعمل هذه اللغة بعد اليوم » فضحك و علم ما أردت أي ان مرادي بالركيك الرقيق و التفت إلى خادم إلى جانبه فقال : اعطه ما معك فأخرج إليّ كيسا فيه ثلاثة الآف دينار فقال هاك ، ثم قال : السلام عليك و مضى .

و في ( تاريخ بغداد ) ، قال أبو الصلت : أو قفني المأمون ليلة عنده فكنّا نتحدث حتى ذهب من الليل ما ذهب و أطفى‏ء السراج ، و نام القيم الذي كان يصلح السراج فدعاه فلم يجبه فأصلحه هو ثم انتبه الخادم فظننت انّه يعاقبه فقال ربما أكون في المتوضأ فيشتموني و لا يدرون اني أسمع فأعفو عنهم ،

و قال ابن البواب كان المأمون يحلم في بعض الأوقات حتى يغيظنا جلس يوما يستاك على دجلة من بغداد من وراء ستيرة و نحن قيام بين يديه فمر فلاّح و هو يقول بأعلى صوته :

« أ تظنون ان هذا المأمون ينبل في عيني و قد قتل أخاه » فو اللّه ما زاد على أن تبسّم و قال لنا ما الحيلة عندكم حتى أنبل في عين هذا الرجل الجليل١ و في السير كان صلاح الدين الأيوبي جالسا يوما و عنده جماعة فرمى بعض المماليك بعضا بسرموز فأخطأته و وقعت بالقرب من صلاح الدين فالتفت إلى

____________________

( ١ ) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ١٠ : ١٨٩ دار الفكر بيروت .

٢٤٨

الجهة الاخرى يكلّم جليسه ليتغافل عنها »١ و قال الشاعر :

« ليس الغبي بسيّد في قومه

لكن سيّد قومه المتغابي »

٧ الحكمة ( ٢٣٢ ) و قالعليه‌السلام :

مَنْ يُعْطِ بِالْيَدِ اَلْقَصِيرَةِ يُعْطَ بِالْيَدِ اَلطَّوِيلَةِ و معنى ذلك أن ما ينفقه المرء من ماله في سبيل الخير و البر و إن كان يسيرا فإن الله تعالى يجعل الجزاء عليه عظيما كثيرا و اليدان هاهنا عبارة عن النعمتين ففرق ع بين نعمة العبد و نعمة الرب تعالى ذكره بالقصيرة و الطويلة فجعل تلك قصيرة و هذه طويلة لأن نعم الله أبدا تضعف على نعم المخلوقين أضعافا كثيرة إذ كانت نعم الله أصل النعم كلها فكل نعمة إليها ترجع و منها تنزع أقول : هو نظير قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله « اليد العليا خير من اليد السفلى » نقله المصنف في مجازاته النبوية ثم قال : « هذا القول مجاز لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أراد باليد العالية يد المعطي ، و باليد السافلة يد المستعطي ، و لم يرد على الحقيقة ان هناك عاليا و سافلا و صاعدا و نازلا و انما أراد ان المعطي في الرتبة فوق الأخذ لأنّه المفضل و المحسن المجمل ، و ليس هذا في معطي الحق ، و انما هو في معطي الرفد و مسترفده ، و ليس المراد انّه خير في الدين ، بل المراد انّه خير في النفع للسائلين و انما كنى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن هاتين الحالتين باليدين ، لأن الأغلب أن يكون بهما الاعطاء و البذل و بهما القبض و الأخذ » .

____________________

( ١ ) الكامل في التاريخ لابن الأثير ١٢ : ٩٦ دار صادر بيروت .

٢٤٩

و في ( الكافي ) عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله « الأيدي ثلاثة : سائلة و منفقة و ممسكة ،

و خير الأيدي المنفقة » و عن معلى بن خنيس « خرج أبو عبد اللّهعليه‌السلام في ليلة قد رشّت و هو يريد ظلّة بني ساعدة فاتبعته فاذا هو قد سقط منه شي‏ء فقال :

« اللّهم رد علينا » فأتيته و سلمت فقال : معلى ؟ قلت نعم ، قال : « التمس لي بيدك فما وجدت فادفعه اليّ » فاذا أنا بخبز كثير منتشر ، فجعلت ادفع إليه ما أجد فاذا أنا بجراب أعجز عن حمله من خبز فقلت جعلت فداك أحمله على رأسي ، فقال لا ، أنا أولى به منك و لكن امض معي فأتينا ظلة بني ساعدة فاذا نحن بقوم نيام فجعل يدسّ الرغيف و الرغيفين تحت رؤوسهم حتى أتى على آخرهم ثم انصرفنا فقلت : جعلت فداك يعرف هؤلاء الحق ؟ فقال لو عرفوه لو اسيناهم بالدقة أي الملح ثم قالعليه‌السلام : ان اللّه تعالى لم يخلق شيئا إلاّ و له خازن يخزنه إلاّ الصدقة فان الرب تعالى يليها بنفسه ، و كان أبيعليه‌السلام إذا تصدّق بشي‏ء و أعطاه السائل ارتده منه فقبّله و شمّه ثم ردّه في يد السائل الخبر قلت : و قولهعليه‌السلام « ان اللّه تعالى » إلى قوله « في يد السائل » اشارة إلى قوله تعالى « و يأخذ الصدقات » ثم في ذيل الخبر « مر عيسىعليه‌السلام على شاطى‏ء البحر ،

فرمى بقرص من قوته في الماء فقال له بعض الحواريين يا روح اللّه لم فعلت هذا و انما هو من قوتك فقال فعلت هذا لدابة تأكله من دواب الماء و ثوابه عند اللّه عظيم .

هذا ، و كما ان قولهعليه‌السلام « من يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة » و قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله « اليد العليا خير من اليد السفلى » كناية و استعارة كقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأزواجه « اسرعكنّ لحاقا بي أطولكنّ يدا » فلم يفهمن مرادهصلى‌الله‌عليه‌وآله و ظنن انّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أراد بطول اليد الجارحة حتى ماتت أولاهن زينب بنت جحش و كانت امرأة كثيرة الصدقة و كانت صناعا تصنع بيدها و تبيعه و تتصدّق

٢٥٠

به ففهمن مرادهصلى‌الله‌عليه‌وآله و كانت أطولهن جارحة عايشة على قول الجاحظ١ و سودة على قول البلادري فروي عن الشعبي : « ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لنسائه :

« أطولكن يدا أسرعكنّ بي لحاقا » فكانت سودة أطولهنّ يدا فلما توفّيت زينب قلن صدق رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كانت زينب أطولنا يدا في الخير » .

و عن عايشة « لقد نالت زينب شرفا لا يبلغه شرف ، زوّجها اللّه نبيه و نطق بذلك كتابه ، و قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : و نحن حوله « أسرعكن لحوقا بي اطولكنّ يدا » فبشرّها بسرعة لحاقها به و انها زوجته في الجنّة .

٨ الحكمة ( ٢٥٧ ) و قالعليه‌السلام لكميل بن زياد النخعي :

يَا ؟ كُمَيْلُ ؟ مُرْ أَهْلَكَ أَنْ يَرُوحُوا فِي كَسْبِ اَلْمَكَارِمِ وَ يُدْلِجُوا فِي حَاجَةِ مَنْ هُوَ نَائِمٌ فَوَالَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ اَلْأَصْوَاتَ مَا مِنْ أَحَدٍ أَوْدَعَ قَلْباً سُرُوراً إِلاَّ وَ خَلَقَ اَللَّهُ مِنْ ذَلِكَ اَلسُّرُورِ لُطْفاً فَإِذَا نَزَلَتْ بِهِ نَائِبَةٌ جَرَى إِلَيْهَا كَالْمَاءِ فِي اِنْحِدَارِهِ حَتَّى يَطْرُدَهَا عَنْهُ كَمَا تُطْرَدُ غَرِيبَةُ اَلْإِبِلِ « يا كميل مر أهلك أن يروحوا في كسب المكارم » في ( ذيل الطبري ) « قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لسائب بن أبي السائب : ألم تكن شريكي في الجاهلية ؟ قال نعم بأبي أنت و أمي نعم الشريك كنت لا تمارى و لا تباري فقال لي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

يا سائب انظر الأخلاق الحسنة التي كنت تصنعها في الجاهلية ، فأصنعها في الاسلام اقر الضيف و احسن إلى اليتيم و اكرم الجار٢ و قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : بعثت لاتمم مكارم الأخلاق .

____________________

( ١ ) البيان و التبيان للجاحظ ٣ : ١٤٥ ، و الحديث « اسرعكنّ بي لحوقا اطولكن يدا » .

( ٢ ) ذيل المذيل للطبري ، من كتاب الطبري : ٦٠ مؤسسة الأعلمي بيروت .

٢٥١

و في ( الكافي ) عن الصادقعليه‌السلام « المكارم عشر ، فان استطعت أن تكون فيك فلتكن فانها تكون في الرجل و لا تكون في ولده و تكون في الولد و لا تكون في أبيه و تكون في العبد و لا تكون في الحر ، قيل و ما هن ؟ قال : صدق البأس ،

و صدق اللسان ، و أداء الامانة ، و صلة الرحم ، و اقراء الضيف ، و اطعام السائل ،

و المكافاة على الصنائع ، و التذمم للجار ، و التذمم للصاحب ، و رأسهن الحياء » .

و روى نوادر معيشة ( الكافي ) عن معاوية بن عمار عن الصادقعليه‌السلام لا تمانعوا قرض الخمير و الخبز و اقتباس النار فانه يجلب الرزق على أهل البيت مع ما فيه من مكارم الأخلاق .

و روي عن الصادقعليه‌السلام ان اللّه تعالى خص الأنبياء بمكارم الأخلاق فمن كانت فيه فليحمد اللّه على ذلك و الا تكن فيكم فاسألوا اللّه فيها و ذكرها عشرة اليقين و القناعة و الصبر و الشكر و الحلم و حسن الخلق ، و السخاء و الغيرة و الشجاعة و المروة و زاد في خبر صدق الحديث و اداء الامانة » .

« و يدلجوا في حاجة من هو نائم » من ( أدلج ) إذا سار من أول الليل .

« فو الذي وسع سمعه الأصوات » ( يسمع السر و أخفى ) .

« ما من أحد أودع قلبا سرورا إلاّ و خلق اللّه له من ذلك السرور لطفا » في ثواب الأعمال عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ما من عبد يدخل على أهل بيت مؤمن سرورا إلاّ خلق اللّه له من ذلك السرور خلقا يجيئه يوم القيامة كلّما مرت عليه شديدة يقول : يا ولي اللّه لا تخف فيقول له من أنت فلو ان الدنيا كانت لي ما رأيتها لك شيئا فيقول أنا السرور الذي ادخلت على آل فلان .

« فاذا نزلت به نائبة » من نوائب الدهر و مصائبه .

« جرى » ذلك اللطف .

« إليها » أي : إلى تلك النائبة .

٢٥٢

« كالماء في انحداره » أي : في سرعته .

« يطردها عنه » من ( اطردت الابل ) .

« كما تطرد غريبة الابل » في المعجم « قدم علي ابن مروان صاحب ديار بكر شاعر من المعجم يعرف بالغساني ، و كان من عادة ابن مروان إذا قدم عليه شاعر يكرمه و ينزله ، و لا يجتمع به إلى ثلاثة أيام ليستريح من سفره و يصلح شعره ثم يستدعيه و اتفق ان الغساني لم يكن أعد شيئا في سفره ثقة بقريحته فأقام ثلاثة أيام فلم يفتح عليه يعمل بيتا واحدا و علم انّه يدعى و لا يليق أن يلقى الأمير بغير مديح فأخذ قصيدة من شعر الحسن بن أسد الفارقي لم يغيّر فيها إلاّ اسمه .

و اعلم ابن مروان بذلك فغضب و قال يجي‏ء هذا العجمي فيسخر منّا ثم أمر بمكاتبة ابن اسد ، و أمر أن يكتب القصيدة بخطّه و يرسلها إليه فخرج بعض الحاضرين فانهى القضية إلى الغساني و كان هذا بآمد و كان له غلام جلد فكتب من ساعته إلى ابن اسد كتابا بأني قدمت على الأمير فارتج على قول الشعر مع قدرتي عليه فادّعيت قصيدة من شعرك استحسانا لها و عجبا بها و مدحت بها الأمير ، و لا أبعد أن تسأل عن ذلك فان سألت فرأيك الموفق في الجواب » .

فوصل غلام الغساني قبل كتاب ابن مروان ، فأجاب ابن مروان بأني لا أعرف هذه القصيدة ، و لا قائلها فلما ورد الجواب عليه عجب من ذلك و شتم الساعي و قال انما قصدكم فضيحتي بين الملوك حسدا منكم لمن احسن إليه ثم ازداد في الاحسان إلى الغساني و انصرف الغساني إلى بلاده فلم يمض على ذلك إلاّ مديدة حتى اجتمع أهل ميافارقين إلى ابن أسد و دعوه إلى أن يؤمروه عليهم و يساعدوه على العصيان و اقامة الخطبة للسلطان ملكشاه

٢٥٣

و حده اسقاط اسم ابن مروان من الخطبة فأجابهم إلى ذلك و بلغ ذلك ابن مروان فحشد له و نزل على ميافارقين فأعجزه أمرها فأنفذ إلى نظام الملك و السلطان يستمدهما فأنفذا إليه جيشا و مددا مع الغساني المذكور ، و كان قد تقدم عند نظام الملك و السلطان و صار من أعيان الدولة و صدقوا في الزحف على المدينة حتى أخذوها عنوة و قبض على ابن أسد و جي‏ء به إلى ابن مروان فأمر بقتله فقام الغساني و شدّد العناية في الشفاعة فيه فامتنع ابن مروان امتناعا شديدا من قبول شفاعته و قال : ان ما اعتمده في شق العصا يوجب أن يعاقب بالقتل .

فقال : بيني و بين هذا الرجل ما يوجب قبول شفاعتي فيه ، و أنا أتكفل به الا يجري منه بعد شي‏ء يكره فاستحيى منه و أطلقه له فاجتمع به الغساني و قال : أتعرفني ؟ قال : لا و اللّه و لكني أعرف انّك ملك من السماء من اللّه بك على بقاء مهجتي فقال له : أنا الذي ادّعيت و سترت عليّ و ما جزاء الاحسان إلاّ الاحسان ، فقال ابن أسد : ما رأيت قصيدة جحدت فنفعت صاحبها أكثر من نفعها إذا ادّعاها ، غير هذا فجزاء اللّه عن مروءتك خيرا ، و انصرف الغساني من حيث جاء .

( أيضا ) حبس أحمد بن طولون ، ابن داية فاجتمع زهاء ثلاثين رجلا ممّن يمونهم و دخلوا على بن طولون و قالوا ليس لنا أن نسأل الأمير مخالفة ما يراه في ابن داية و انما نسأله ان آثر قتله ان يقتلنا قال : و لم ؟ فقالوا لنا ثلاثون سنة ما فكّرنا في ابتياع شي‏ء ممّا احتجنا إليه و لا وقفنا بباب غيره و نحن و اللّه نرفض البقاء بعده و عجّوا بالبكاء بين يديه فقال لهم : بارك اللّه عليكم فقد كافأتم احسانه و جازيتم إنفاقه ، ثم قال : احضروه فاحضر ، فقال لهم : خذوا

٢٥٤

بيد صاحبكم و انصرفوا فخرجوا معه و انصرف إلى منزله١ .

( أيضا ) بعث ابن طولون في الساعة التي توفي فيها ابن داية المذكور بخدم فهجموا الدار ، و طالبوا بكتبه مقدرين ان يجدوا فيها كتابا من أحد ممّن ببغداد فحملوا صندوقين و قبضوا على ابنيه و صاروا بهما إلى داره و ادخلا إليه ، و عنده رجل من أشراف الطالبيّين فأمر بفتح أحد الصندوقين و ادخل خادم يده على دفتر جراياته على الاشراف و غيرهم فأخذ الدفتر بيده و تصفحه و كان جيد الاستخراج فوجد اسم الطالبي الذي عنده في الجراية فقال : كانت عليك جراية ليوسف بن داية ؟ قال : نعم أيها الأمير دخلت هذه المدينة و أنا مملق فأجري عليّ في كلّ سنة مائتي دينار اسوة بابن الأرقط و العقيقي و غيرهما .

ثم امتلأت يداي من طول الأمير فاستعفيته منها فقال لي : نشدتك اللّه الا قطعت سببا لي برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله و تدمع الطالبي فقال ابن طولون : رحم اللّه يوسف ، ثم قال لولده : انصرفوا إلى منازلكم فلا بأس عليكم فانصرفوا و لحقوا جنازة أبيهما ، و حضر ذلك العلوي و أحسن مكافأة أبيهم في خلفه٢ .

و في ( مستجاد التنوخي ) عن علي بن صالح البلخي عن بعض شيوخه عن شيبة الدمشقي ، قال كان في أيام سليمان بن عبد الملك رجل يقال له خزيمة بن بشر من بني أسد بالرقة و كانت له مروءة و نعمة حسنة و فضل و بر بالاخوان فلم يزل على تلك الحال حتى احتاج إلى اخوانه الذين كان يتفضل عليهم فواسوه حينا ثم ملّوه ، فلما لاح له تغيّرهم أتى امرأته فقال لها قد رأيت من اخواني تغيّرا و قد عزمت على لزوم بيتي إلى أن يأتيني الموت

____________________

( ١ ) معجم الادباء للحموي ٣ : ١٥٦ .

( ٢ ) المصدر نفسه ٣ : ١٥٨ ١٥٩ .

٢٥٥

و أغلق بابه عليه و أقام يتقّوت بما عنده حتى نفد و بقي حائرا في أمره و كان عكرمة الفياض الربعي و اليا على الجزيرة فبينما هو في مجلسه و عنده جماعة من أهل البلد إذ جرى ذكر خزيمة بن بشر فقال عكرمة ما حاله ؟ فقالوا صار من سوء الحال إلى أن أغلق بابه و لزم بيته فقال فما وجد مواسيا و لا مكافيا قالوا لا فأمسك .

ثم لمّا كان الليل عمد إلى أربعة آلاف دينار فجعلها في كيس ثم أمر باسراج دابته و خرج سرّا من أهله فركب و معه غلام من غلمانه يحمل المال ثم سار حتى وقف بباب خزيمة فأخذ الكيس من الغلام .

ثم أبعده و تقدّم إلى الباب فدقّه بنفسه فخرج إليه خزيمة فناوله الكيس و قال له اصلح بهذا شأنك فتناوله خزيمة فرآه ثقيلا فوضعه ثم أمسك لجام الدابة و قال له من أنت ؟ جعلت فداك قال : ما جئتك هذه الساعة و أنا أريد أن تعرفني قال خزيمة فما أقبله إلاّ و تخبرني من أنت قال أنا جابر عثرات الكرام قال زدني قال لا ثم مضى و دخل خزيمة بالكيس فقال لامرأته ابشري فقد أتى اللّه بالفرج و لو كانت فلوسا فهي كثيرة قومي فاسرجي ، قالت لا سبيل إلى السراج فبات يلمسها فيلمس خشونة الدنانير و لا يصدّق و رجع عكرمة إلى منزله فوجد امرأته قد افتقدته و سألت عنه فأخبرت بركوبه منفردا فارتابت لذلك فشقّت جيبها و لطمت خدّها فلما رآها قال لها ما دهاك ؟ قالت غدرت بابنة عمك قال و ما ذاك ؟ قالت أمير الجزيرة يخرج بعد هدأة من الليل منفردا من غلمانه في سر من أهله و اللّه ما يخرج إلاّ إلى زوجة أو سرية قال لقد علم اللّه اني ما خرجت إلى واحدة منهما قالت فخبرني فيم خرجت ؟ قال يا هذه لم أخرج في هذا الوقت و أنا أريد أن يعلم بي أحد قالت لا بد قال فاكتميه اذن قالت أفعل فأخبرها بالقصة على وجهها و ما كان من قوله و رده عليه .

٢٥٦

قال ثم أصبح خزيمة فصالح الغرماء و أصلح من حاله .

ثم تجهز يريد سليمان بن عبد الملك بفلسطين و بلا وقف ببابه دخل الحاجب فأخبره بمكانه و كان مشهور المروة و كان سليمان به عارفا فاذن له فلما دخل عليه قال ما أبطأك عنّا ؟ قال سوء الحال ، قال فبم نهضت ؟ قال : لم أعلم بعد هدأة من الليل إلاّ و رجل طرق بابي فكان منه كيت و كيت و أخبره بقصته فقال له هل تعرفه ؟ قال : لا قال : كان متنكرا إلاّ أن سمعت منه انّه جابر عثرات الكرام فتلهف سليمان على عدم معرفته و قال لو عرفنا لأعناه على معرفته .

ثم قال عليّ بقناة فأتى بها فعقد لخزيمة على الجزيرة على عمل عكرمة الفياض فخرج خزيمة إلى الجزيرة فلما قرب منها خرج عكرمة و أهل البلد للقائه فسلّم عليه .

ثم سارا جميعا إلى أن دخلا باب خزيمة إلى دار الامارة و أمر أن يؤخذ عكرمة و ان يحاسب فحوسب فوجدت عليه فضول كثيرة فطلبه بادائها قال ما هي عندي فاصنع ما أنت صانع فأمر به إلى الحبس ثم بعث إليه يطالبه فأرسل اني لست ممّن يصون ماله بعرضه فاصنع ما شئت فأمر به فكبّل بالحديد و اقام كذلك شهرا أو أكثر فأضناه ذلك و بلغ ابنة عمّه ضرّه فجزعت ثم دعت مولاة لها ذات عقل و قالت امضي الساعة إلى باب هذا الأمير فقولي عندي نصيحة فاذا طلبت منك فقولي لا أقولها إلاّ للأمير فاذا دخلت عليه فسليه ان يخليك فاذا فعل فقولي له ما كان هذا جزاء جابر عثرات الكرام منك كافأته بالحبس و الضيق و الحديد ففعلت ذلك فلما سمع خزيمة قولها قال و اسوأتاه و انّه لهو قالت نعم فأمر من وقته بدابته فاسرجت و بعث إلى رؤوس أهل البلد فجمعهم و أتى بهم إلى باب الحبس ففتح و دخل خزيمة و من معه فألفى عكرمة

٢٥٧

في قاع الحبس متغيّرا قد أضناه الضر فلما نظر إليه عكرمة و إلى الناس احشمه ذلك و نكس رأسه فأقبل خزيمة حتى أكبّ على رأسه فقبّله فرفع عكرمة رأسه إليه و قال ما أعقب هذا منك ؟ قال كريم فعلك و سوء مكافأتي قال يغفر اللّه لنا و لك .

ثم أمر الحداد ففك القيد عنه و أمر خزيمة أن يوضع في رجل نفسه فقال عكرمة تريد ماذا ؟ قال : أريد أن ينالني من الضر مثل ما نالك فقال اقسم عليك باللّه ألا تفعل فخرجا جميعا إلى أن وصل دار خزيمة فودّعه عكرمة و أراد الانصراف قال ما أنت ببارح حتى أغير من حالك و حيائي من ابنة عمك أشد من حيائي منك .

ثم أمر بالحمام فأخلي و دخلا جميعا ثم قام خزيمة فتولى خدمته بنفسه ثم خرجا فخلع عليه و حمل عليه مالا كثيرا ثم سار و معه إلى داره و استأذنه في الاعتذار إلى ابنة عمه فاذن له فاعتذر لها و تذمم من فعله ذلك ثم سأله أن يسير معه إلى سليمان فأنعم له بذلك فسارا حتى قدما عليه فدخل الحاجب فأخبره بقدوم خزيمة فراعه ذلك و قال و الي الجزيرة يقدم بغير أمرنا ما هذا إلاّ لحادث عظيم فلما دخل عليه قال له قبل أن يسلّم ما وراك يا خزيمة ؟

قال خير ، قال فما الذي أقدمك ؟ قال ظفرت بجابر عثرات الكرام فأحببت ان أسرك به لمّا رأيت من تلهفك و شوقك إلى رؤيته قال و من هو ؟ قال : عكرمة الفياض فاذن له في الدخلول فدخل فرحب به و أدناه من مجلسه و قال يا عكرمة ما كان ضرّك له إلاّ و بالا عليك .

ثم قال اكتب حوائجك كلّها في رقعة قال أو يعفيني الخليفة قال لا بد ثم دعا بدواة و قرطاس و قال اعتزل و اكتب ففعل فأمر بقضائها جميعا من ساعة و أمر له بعشرة الآف دينار و سفطين من ثياب ثم دعا بقناة و عقد له على

٢٥٨

الجزيرة و ارمينية و اذربيجان و قال له أمر خزيمة إليك ان شئت أبقيته و ان شئت عزلته قال بل أرده إلى عمله ثم انصرفا و لم يزالا عاملين لسليمان بن عبد الملك مدّة خلافته١ .

و في ( تاريخ بغداد ) ، قال أبو خليفة : كان في جوارنا رجل حدّاد فاحتاج في أمر له أن يتظلّم أيام الواثق فشخص إلى سر من رأى ثم عاد فحدّثنا انّه رفع قصته إلى الواثق فأمر برد أمره إلى ابن داود و أمر جماعة المتظلمين فحضروا فنظر في أمورهم و تشوفت لينظر في أمري و رقعتي بين يديه فأومأ اليّ بالانتظار فانتظرت حتى لم يبق أحد دعاني فقال أتعرفني فقلت لا أنكر القاضي أعزّه اللّه فقال و لكني أعرفك مضيت يوما في الكلأ فانقطعت نعلي فأعطيتني شسعا لها ، فقلت لك اني أحبوك بثواب ذلك فتكرهت قولي و قلت و ما مقدار ما فعلت امض في حفظ اللّه .

ثم قال و اللّه لا صلح زمانك كما أصلحت نعلي ثم وقع لي في ظلامتي و وهب لي خمسمائة دينار ، و قال ذرني في كلّ وقت قال أبو خليفة فرأيناه متسع الحال بعد ان كان مضيقا٢ .

و في ( الأغاني ) عن إبراهيم بن المدبر قال جاءني يوما محمد بن صالح الحسني بعد أن أطلق من حبس المتوكل فقال : اني أريد المقام عندك اليوم على خلوة لأبثك من أمري شيئا لا يصح ان يسمعه غيرنا فقلت افعل فصرفت من كان بحضرتي و خلوت معه و أمرت برد دابته و أخذ ثيابه فلما اطمأن و أكلنا و اصطبحنا قال أعلمك اني خرجت في سنة كذا و كذا و معي أصحابي على القافلة الفلانية فقاتلنا من كان فيها فهزمناهم و ملكنا القافلة فبينا أنا أحوزها

____________________

( ١ ) التوخي ، المستجاد من فعلات الأجواد : ٢٦ ٣٢ .

( ٢ ) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ٤ : ١٤٦ ترجمة أحمد بن أبي داود .

٢٥٩

و انيخ الجمال إذ طلعت عليّ امرأة من العمارية ما رأيت قط أحسن وجها منها و لا أحلى منطقا فقالت يا فتى ان رأيت أن تدعو لي بالشريف المتولي أمر هذا الجيش فقلت قد رأيته و سمع كلامك فقالت سألتك بحق اللّه و حق رسوله أنت هو ؟ فقلت نعم فقالت :

« أنا حمدونة بنت عيسى بن موسى بن أبي خالد الحري و لأبي محل من السلطان و لنا منعة ان كنت ممّن سمع بها و ان كنت لم تسمع فسل غيري و واللّه لا استأثرت عنك بشي‏ء أملكه ، و لك بذلك عهد اللّه و ميثاقه عليّ و ما أسألك إلاّ أن تصونني و تسترني و هذه ألف دينار معي لنفقتي فخذها حلالا و هذا حلي عليّ من خمسمائة دينار فخذه و ضماني ما شئت بعده اخذه لك من تجار المدينة أو مكة أو أهل الموسم فليس منهم أحد يمنعني شيئا أطلبه ،

و ادفع عني و احمني من أصحابك و من عار يلحقني » فوقع قولها من قلبي موقعا عظيما فقلت قد وهب اللّه مالك و جاهك و حالك و وهبت لك القافلة بجميع ما فيها .

ثم خرجت فناديت في أصحابي فاجتمعوا فقلت اني قد اجرت هذه القافلة و أهلها و خفرتها و حميتها و لها ذمة اللّه و ذمة رسوله و ذمتي فمن أخذ منها خيطا أو عقالا فقد أذنته بحرب فانصرفوا معي ، فلما أخذت و حبست بينا أنا ذات يوم في محبسي إذ جاءني السجّان و قال لي ان بالباب امرأتين تزعمان انهما من أهلك و قد حظر عليّ أن يدخل عليك أحد إلاّ انّهما اعطتاني دملج ذهب ان أوصلهما إليك و هاهما في الدهليز فأخرج إليهما ان شئت ففكّرت في من يجيئني في هذا البلد و أنا غريب لا أعرف أحدا ثم قلت لعلهما من ولد أبي أو بعض نساء أهلي ، فخرجت إليهما فاذا بصاحبتي فلما رأتني بكت لمّا رأت من تغيّر خلقي و ثقل حديدي ، فأقبلت عليها الاخرى فقالت أهو هو ؟ فقالت أي و اللّه

٢٦٠