فتح الأبواب بين ذوي الألباب وبين رب الأرباب

فتح الأبواب بين ذوي الألباب وبين رب الأرباب15%

فتح الأبواب بين ذوي الألباب وبين رب الأرباب مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 364

فتح الأبواب بين ذوي الألباب وبين رب الأرباب
  • البداية
  • السابق
  • 364 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 69651 / تحميل: 9513
الحجم الحجم الحجم
فتح الأبواب بين ذوي الألباب وبين رب الأرباب

فتح الأبواب بين ذوي الألباب وبين رب الأرباب

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وهذه النظرية اختارها ابن البطريق (ت ٥٣٣ ـ ٦٠٠ هـ)(١) ، ووافقه عليها غيره .

وإذا ثبت أنّ معنى المولى هو الأولى بالشيء ، يكون ذلك هو المراد من آية الولاية ؛ لأنّه المعنى الوحداني والأصل للفظ الولي ، وتختلف الموارد بحسبها ، فيكون مفاد آية الولاية مفاد قوله تعالى :( النّبِيّ أَوْلَى‏ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) (٢) ، الأولى بالتصرّف ، ويشهد لذلك ما نقله ابن منظور في لسان العرب ، عن ابن الأثر قوله : ( وكأن الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل ، وما لم يجتمع ذلك فيها لم ينطلق عليه اسم الوالي )(٣) ، وقريب من هذا المعنى ما ذكره بعض اللغويين في معاجمهم اللغوية .

الاستدلال على المستوى القرآني :

إنّ الآية المباركة :( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا ) تضمّنت دلالات وافرة لإثبات المطلوب ، ومراعاة للاختصار نكتفي بالإشارة المفهمة لبعض منها :

١ – إنّ صيغة التعبير في الآية الشريفة جعلت الولاية بمعنى واحد ، حيث قال :( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ و ) فلو كانت ولاية الله تعالى تختلف عن ولاية( الّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) لكان الأنسب في التعبير أن تفرد بالذكر ولاية أخرى للمؤمنين ؛ لكي تحول

ـــــــــــــ

(١) عمدة عيون الأخبار ، ابن البطريق : ص ١١٤ ـ ١١٥ .

(٢) الأحزاب : ٦ .

(٣) لسان العرب : ابن منظور : ج ١٥ ص ٤٠٧ ؛ النهاية في غريب الحديث ، ابن الأثير : ج ٥ ص ٢٢٧ .

٦١

دون وقوع الالتباس ، نظير قوله تعالى :( قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (١) ، فكرّر لفظ الإيمان في الموضعين ؛ بسبب تكرّر معنى الإيمان وتغايره فيهما .

إذن لابد أن تكون الولاية في الآية المباركة بمعنى واحد في جميع الموارد التي ذكرت فيها ، وهي الأصالة لله تعالى ، وبالتبع لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وللذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون .

وولاية الله تعالى في الآية المباركة ولاية عامّة وشاملة لولاية التصرف ، والتدبير ، والنصرة وغيرها ، قال تعالى حكاية عن نبيّه يوسفعليه‌السلام :( أنت وليّي في الدّنيا والآخرة ) (٢) ، وقال عزّ وجلّ :( فَمَا لَهُ مِن وَلِيّ مِن بَعْدِهِ ) (٣) ، وغيرها من الآيات الدالة على ذلك .

٢ ـ إنّ الولاية التي هي بالأصل لله عزّ وجلّ جعلها لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتبع ، فلرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الولاية العامّة على الأمة ، من الحكم فيهم ، والقضاء في جميع شؤونهم ، وعلى الأمة التسليم والطاعة المطلقة بلا ضيق أو حرج ، كما في قوله تعالى :( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ ) (٤) ، وقوله تعالى :( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (٥) .

خصوصاً وإنّنا لا نجد القرآن يعدّ النبي ناصراً للمؤمنين ولا في آية واحدة .

ـــــــــــــ

(١) التوبة : ٦١ .

(٢) يوسف : ١٠١ .

(٣) الشورى : ٤٤ .

(٤) النساء : ٥٩ .

(٥) الأحزاب : ٣٦ .

٦٢

وهذا المعنى من الولاية الثابتة لله تعالى ورسوله ، عُطفت عليه ولاية :( الذين آمنوا ) ، وهذا يعني أنّ الولاية في الجميع واحدة ؛ لوحدة السياق وهي ثابتة لله عزّ وجلّ بالأصالة ، ولرسوله وللذين آمنوا بالتبع والتفضّل والامتنان .

إذن الولاية الثابتة في الآية لعليعليه‌السلام هي ولاية التصرّف ، وإنّ معنى الولي في الآية تعني الأولى بالتصرّف ، وممّا يؤكّد ذلك مجيء لفظ ( وليّكم ) مفرداً ونسب إلى الجميع بمعنى واحد ، والوجه الذي ذكره المفسّرون لذلك هو أنّ الولاية ذات معنى واحد ، لله تعالى أصالة ولغيره بالتبع .

الاستدلال على المستوى الروائي :

هناك عدّة من القرائن والشواهد الروائية لإثبات المطلوب :

أوّلاً : لو كانت الولاية الثابتة لعلي بن أبي طالبعليه‌السلام بمعنى النصرة ، لما وجد فيها مزيد عناية ومزيّة ومدح لعليعليه‌السلام ؛ لأنّها موجودة بين جميع المؤمنين :( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضَهُمْ أَولِياءُ بَعْضٍ ) (١) ، وعليعليه‌السلام كان متصفاً بهذه المحبّة والنصرة للمؤمنين منذ أن رضع ثدي الإيمان مع صنوه المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولكن لو أمعنّا النظر في الروايات الواردة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقيب

ـــــــــــــ

(١) التوبة : ٧١ .

٦٣

نزول آية الولاية ، لوجدنا أنها تثبت مويّة ومنقبة عظيمة لعليعليه‌السلام ، ففي الرواية أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال بعد نزول الآية :( الحمد لله الذي أتمّ لعلي نعمه ، وهيّأ لعلي بفضل الله إيّاه ) (١) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد نزول الآية أيضاً :( مَن كنت مولاه فعلي مولاه ، اللّهمّ والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ) (٢) ، إذاً في الآية الكريمة مزيد عناية تفترق عن تولّي المؤمنين بعضهم لبعض ، وليس تلك المزيّة العظيمة إلاّ ولاية التصرّف والإمرة .

ثانياً : إنّ الولاية التي خصّها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليعليه‌السلام يوم غدير خم ، هي ولاية تدبير وتصرّف ؛ لأنّها نفس ولاية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا ما نلمسه من كيفية إعلان الولاية من قِبلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث قال :( ألست أولى بكم من أنفسكم ) ، وهذه الولاية ـ التي هي ولاية تصرّف ـ هي نفسها الولاية التي تثبتها الآية الشريفة :( إنّما وليّكم ... ) لعليعليه‌السلام .

من هنا نجد أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقّب ـ بعد نزول آية الولاية في حقّ عليعليه‌السلام ـ بقوله :( مَن كنت مولاه فعلي مولاه اللّهم والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ) ،

ـــــــــــــ

(١) الدر المنثور ، السيوطي : ج ٣ ص ١٠٦ .

(٢) مسند أحمد : ج ١ ص ٨٤ ، ص ١١٨ ، ص ١١٩ ، ص ١٥٢ ، ص ٣٣١ ، ج ٤ ص ٢٨١ ، ص ٣٧٠ ، ص ٣٧٢ ، ج ٥ ص ٣٤٧ ، ص ٣٦٦ ، ص ٣٧٠ ، سنن ابن ماجه : ج ١ ، ص ٤٣ ح ١١٦ ؛ الترمذي : ج ٥ ص ٢٩٧ ؛ المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٠٩ ـ ١١٦ ، ص ١٣٤ ، ص ٣٧١ ، ص ٥٣٣ ؛ مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٧ ص ١٧ ، ج ٩ ص ١٠٤ ـ ص ١٠٨ ص ١٦٤ ؛ وقال فيه : ( عن سعيد بن وهب رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ) ؛ فتح الباري : ج ٧ ص ٦١؛ وقال فيه : ( فقد أخرجه الترمذي والنسائي وهو كثير الطرق جداً ، وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد ، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان ) ؛ صحيح ابن حبان : ج ١٥ ص ٣٧٦ وما بعد ، وغير ذلك من المصادر الكثيرة جداً ؛ فراجع .

٦٤

وهذا يكشف عن كون الولاية ولاية تصرّف ، لا سيّما إذا أخذنا بنظر الاعتبار ذلك الحشد المتنوع من الروايات الذي يؤكّد على علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، ويقرن طاعته بطاعة الله ورسوله ، كل ذلك يكشف عن أن ولايتهعليه‌السلام هي ولاية التصرّف ، وأنّه الأولى بالتصرّف ؛ لذا قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حق عليعليه‌السلام :( مَن أطاعني فقد أطاع الله ، ومَن عصاني فقد عصى الله ، ومَن أطاعك فقد أطاعني ، ومَن عصاك فقد عصاني ) ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(١) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( مَن يريد أن يحيا حياتي ويموت موتي ويسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي ؛ فليتولّ علي بن أبي طالب فإنّه لن يخرجكم من هدى ولن يدخلكم في ضلالة ) ، قال الحاكم أيضاً : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(٢) .

وعن عبد الرحمان بن عثمان قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو آخذ بضبع علي بن أبي طالب ، وهو يقول : (هذا أمير البررة ، قاتل الفجرة ، منصور مَن نصره مخذول مَن خذله ، ثم مدّ بها صوته ) ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(٣) .

وغيرها الكثير من الروايات التي تشاركها بالمضمون ذاته .

ثالثاً : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب من الله تعالى أن يشدّ عضده بأخيه

ـــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج٣ ص ١٢٨ ، تاريخ مدينة دمشق : ابن عساكر : ٤٢ : ص ٣٠٧ .

(٢) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٢٨ ـ ١٢٩ .

(٣) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٢٩ .

٦٥

عليعليه‌السلام ، كما شدّ الله تعالى عضد موسىعليه‌السلام بأخيه هارونعليه‌السلام ، فنزلت الآية :( إنّما وليّكم ) بشرى لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بجعل عليعليه‌السلام وليّاً وخليفة من بعده ، وهذا يدلل على أنّ الولاية لعليعليه‌السلام لم تكن مجرّد نصرة ومحبّة ، بل كانت ولاية أولوية بالأمر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما هو الحال في هارونعليه‌السلام ، باعتبار أولويته بالأمر والإمرة بعد موسىعليه‌السلام ، عندما خلّفه في قومه .

رابعاً : احتجاج أمير المؤمنينعليه‌السلام على أولويته بالأمر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بآية الولاية ، حيث قالعليه‌السلام مخاطباً لجمع من الصحابة في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أنشدكم الله : أتعلمون حيث نزلت : ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) ، وحيث نزلت : ( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، وحيث نزلت : ( وَلَمْ يَتّخِذُوا مِن دُونِ اللهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ) ، قال الناس : يا رسول الله : أخاصّة في بعض المؤمنين ، أم عامة لجميعهم ؟ فأمر الله عزّ وجل نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعلمهم ولاة أمرهم ، وأن يفسّر لهم من الولاية ما فسّر لهم من صلاتهم ، وزكاتهم ، وحجّهم ، فنصبني للناس بغدير خم ) (١) وهذا يكشف عن كون المراد بالآية هو الأولى .

وبذلك يتحصّل أنّ معنى الولي هو الأولى بالتصرّف ، وأنّ الآية بصدد جعل الولاية لعليعليه‌السلام بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ـــــــــــــ

(١) المناقب ، ابن المغازلي الشافعي : ص ٢٢٢ ، فرائد السمطين : ج ١ ص ٣١٢ ، ينابيع المودّة للقندوزي : ج ١ ص ٣٤٦ ، شواهد التنزيل ، الحسكاني : ج ٢ ص ٢٩٥ ، فرائد السمطين : ج ١ ص ٣١٢ .

٦٦

كيف تستدلّ الشيعة بشأن النزول ؟

الشبهة :

الشيعة يستدلّون بشأن نزول آية الولاية على الإمامة ؟

الجواب :

بعد أن أطبقت الأمّة وأجمع المحدّثون والمفسّرون على نزول الآية المباركة في الإمام عليعليه‌السلام مع صراحة الآية في إثبات الولاية ، ومباركة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للإمام عليعليه‌السلام بقوله :( الحمد لله الذي أتمّ لعلي النعمة ) ، لا يبقى أي مجال لمثل هذه التشكيكات والشبهات ، سواء كان الاستدلال بالآية استدلالاً مباشراً ، أم كان عن طريق شأن النزول ، الذي هو عبارة عن الأحاديث المتواترة والصحيحة والصريحة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي أمرنا الله تعالى بالتمسّك بها بقوله :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (١) ، وعليه فلا ينبغي التهاون والتقليل من شأن هذه الأحاديث القطعيّة ، كما يظهر ذلك من كلام صاحب الشبهة .

ويمكن أن نحقق استيعاباً جيداً لمسألة ولاية علي بن أبي طالبعليه‌السلام ؛ وذلك من خلال الآيات القرآنية والنصوص النبوية التي تعرّضت لبيان هذا المعنى ، فضلاً عمّا أشاعته آية الولاية من مناخ سائد حيال هذه المسألة ، من تقديم التهاني والتبريكات من قِبل الصحابة إلى عليعليه‌السلام الصحابة وإنشاد الشعر والمديح بهذه المناسبة العظيمة ، وهذا يكفي لسدّ كل منافذ الريب والتشكيك ، ومعالجة ما يطرأ على الأذهان من التباسات .

ـــــــــــــ

(١) الحشر : ٧ .

٦٧

الخلاصة

لا مجال لمثل هذه التشكيكات ، بعد أن أجمعت الأمة على نزول الآية في شأن عليعليه‌السلام ، وسواء كان الاستدلال بالآية ذاتها أم من طريق شأن النزول الثابت قطعاً كونه بخصوص عليعليه‌السلام فهو يثبت المطلوب ، ولا معنى للإصغاء لمثل هذه الأوهام .

المعروف أنّ عليّاً فقير فكيف يتصدّق ؟

الشبهة :

إنّ علياً كان فقيراً فكيف يتصدّق بالخاتم إيتاءً للزكاة ؟

الجواب :

ما أكثر المدّعيات التي تُرفع من دون أي دليل ولا برهان يدعمها ، ومن أغرب المدّعيات التي تُثار للتشكيك في صحّة نزول آية الولاية في الإمام عليعليه‌السلام هذا الإشكال الآنف الذكر ، إلا أنّنا توخّياً لدرء مثل هذه التشكيكات التي تطرأ على بعض الأذهان نقول :

أوّلاً : إنّ لفظ الزكاة لغةً شامل لكل إنفاق لوجه الله تعالى ، ونلمس هذا المعنى في عدّة من الآيات المباركة ، وكقوله تعالى:( وَأَوْصَانِي بِالصّلاَةِ وَالزّكَاةِ مَادُمْتُ حَيّاً ) (١) ، وكذا ما قاله القرآن بحق إبراهيم وإسحاق ويعقوبعليهم‌السلام :( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزّكَاةِ ) (٢) ، وغيرها من الآيات التي تشاركها في المضمون ، ومن المعلوم أنّه ليس في شرائعهمعليهم‌السلام الزكاة المالية المصطلحة في الإسلام .

ـــــــــــــ

(١) مريم : ٣١ .

(٢) الأنبياء : ٧٣ .

٦٨

ومن هنا فقد استعمل القرآن لفظ الزكاة في الآية الشريفة بمعناها اللغوي الشامل لكل إنفاق لوجه الله تعالى أي الزكاة المستحبّة ( زكاة تطوّع ) ؛ ولذا نرى أنّ الجصاص ـ في أحكام القرآن ـ فهم أنّ المراد بالزكاة في الآية ، هي زكاة التطوّع ، حيث قال : ( قوله تعالى :( وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، يدلّ على أنّ صدقة التطوّع تسمّى زكاة ؛ لأنّ عليّاً تصدّق بخاتمه تطوّعاً ، وهو نظير قوله تعالى :( وَما آتَيْتُم مِن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ) (١) .

ثانياً : لو فرضنا أنّ المراد من الزكاة في الآية هي الزكاة الواجبة ، فليس من الغريب أن يمتلك الإمام عليعليه‌السلام أوّل نصاب من مال الزكاة وهو مقدار (٢٠٠ درهم) ، ومَن ملك ذلك لا يعدّ غنيّاً ، ولا يُطلق عليه اسم الغني شرعاً .

ثالثاً : بعد أن ثبت نزول الآية في الإمام عليعليه‌السلام بإجماع الأمة واتفاق المفسّرين والمحدّثين ، ولم ينكر أحد على الإمام عليعليه‌السلام تصدّقه بالخاتم ، وإنّما الكل فهم المزيّة والكرامة لهعليه‌السلام لا يبقى أي مجال للإنكار والتشكيك .

ومن هنا نلاحظ أنّ الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بادر المباركة للإمام عليعليه‌السلام عقيب نزول الآية الكريمة ، وقام الشعراء بإنشاء القصائد الطافحة بالمديح والثناء على الإمام عليعليه‌السلام ، كل ذلك نتيجة طبيعية للمناخ الذي أشاعته الآية في أوساط المسلمين ، من إثبات الولاية للإمام عليعليه‌السلام ، فإذا ثبت نزول الآية في الإمام عليعليه‌السلام بالدلائل والبيّنات القاطعة لا معنى للاستنكار والتشكيك ، خصوصاً وأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حمد الله على هذه النعمة التي اتمّها لعليعليه‌السلام ، وبارك الصحابة بأقوالهم وأشعارهم للإمام عليعليه‌السلام تلك المنقبة .

ـــــــــــــ

(١) أحكام القرآن ، الجصاص : ج ٢ ص ٥٥٨ .

٦٩

الخلاصة

١ – إنّ لفظ الزكاة شامل لكلّ إنفاق لوجه الله تعالى واستعملها القرآن بذلك .

٢ ـ لو سلّمنا أنّ لفظ الزكاة في الآية استعمل في الزكاة الواجبة التي هي أقلّ نصابها ٢٠٠ درهم ، فإنّ مَن يملك هذا المبلغ لا يُعدّ غنيّاً شرعاً .

٣ – قام الإجماع على نزول آية الولاية في حق الإمام عليعليه‌السلام ، ولم ينكر أحد آنذاك ما استنكره صاحب الشبهة ، بل أنشد الشعر والمديح والثناء على الإمام عليعليه‌السلام ، مع مباركة الصحابة .

آية البلاغ تدلّ على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبلّغ سابقاً

الشبهة :

إنّ استدلال الشيعة بآية البلاغ على الإمامة يبطل كل الاستدلالات السابقة التي يستدلّون بها ؛ لأنّ آية البلاغ مدنية ، فتدل على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبلّغ سابقاً .

الجواب :

أوّلاً : لابد أن نفهم كيفية تعاطي الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المفاهيم والمبادئ الإسلامية المهمّة التي تمثّل الأساس في منظومة الدين الإسلامي ، والتي ينبغي التأكيد عليها من قِبلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر من غيرها ، ومن جملة المفاهيم الأساسية هي الإمامة ، حيث نلمس غاية الانسجام ومنتهى الملائمة بين جميع البيانات السابقة لإثبات الإمامة والتنصيص عليها ، فكل تلك المواقف والبيانات كانت تتناسب مع خطورة وأهميّة مبدأ كمبدأ الإمامة والولاية بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلابد من تأسيسه وتشييد أركانه وجعله وعياً إسلامياً عاماً ، وآية البلاغ جاءت ضمن ذلك السياق وتلك الخلفية ، فهي نزلت في ذلك الظرف لتحمل في طيّاتها العديد من الأمور المهمّة التي تتعلّق بحقيقة الإمامة ، منها :

٧٠

١ ـ أنّها جاءت لتصرّح بقضية مهمة جداً ، وهي أنّ ترك تنصيب علي بن أبي طالبعليه‌السلام للولاية مساوق لترك تبليغ الرسالة بأكملها ، وهذا ما يتجلّى واضحاً عند التأمّل في الآية :( وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ ) (١) ، وعلى ضوء ذلك تعرف السر في نزول هذه الآية المباركة في أواخر حياة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث تكشف عن أهمية الإمامة والولاية في المنظومة الدينية ، ومن هذا المنطلق يظهر لك سبب ذلك الحشد المتنوّع من النصوص القرآنية والروائية التي تؤكّد على ضرورة وأهمية موقع الإمامة في الإسلام بأجمعه ؛ ذلك لكي ينطلق الإسلام في قيادة جديدة تكون في جميع مجالاتها وآفاقها امتداداً للقيادة النبوية ، لتبقى المسيرة مستمرة والرسالة محفوظة .

وممّا يؤكّد أهمية الإمامة والولاية هو ما نجده واضحاً في أقوال الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد تبليغ مقام الولاية وتعيين الولي للناس ، حيث قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( فليبلّغ الشاهد الغائب ) (٢) ، فإنّ اهتمامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشديد في إيصال خطابه الشريف إلى جميع المسلمين يكشف عن خطورة الأمر ، وأنّه ممّا تتوقّف عليه ديمومة الإسلام .

بالإضافة إلى ما يكتنف الآية المباركة من القرائن الحالية الكثيرة والواضحة الدالة على أهمية هذا الأمر ، وتأثيره المباشر على مسيرة الإسلام ، كنزولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حرّ الهجير والسماء صافية ، والمسلمون واقفون على الحصباء والرمضاء التي كادت تتوقّد من حرارة الشمس ، حتى أنّه نقل الرواة من حفّاظ الحديث وأئمّة التاريخ أنّه لشدّة الحر وضع بعض الناس ثوبه على رأسه ، وبعضهم استظلّ بمركبه ، وبعضهم استظلّ بالصخور ، ونحو ذلك .

ـــــــــــــ

(١) المائدة : ٦٧ .

(٢) كما جاء ذلك في أكثر المصادر الروائية والتفسيرية التي نقلت حديث الغدير ، وقد ذكر ابن حجر أنها (قد بلغت التواتر) ، لسان الميزان ، ابن حجر العسقلاني : ج ١ ص ٣ .

٧١

وكذلك أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برجوع مَن تقدّم ، وتقدّم مَن تأخّر .

مضافاً إلى حضور ذلك الجمع الغفير من الصحابة والمسلمين الذين حضروا لأداء مناسك الحج من سائر أطراف البلاد الإسلامية ، وغير ذلك من الأمور التي تدل على خطورة الأمر وأهميته .

٢ ـ إنّ آية البلاغ التي بلّغها الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أواخر حياته ، جاءت تحمل في طيّاتها الإشارة إلى قضية مهمة جداً في الدين الإسلامي ، وهي تحديد معالم أطروحة الإمامة في الإسلام ، مؤكّدة على أنّ الإمامة شاملة لكل الأبعاد القيادية السياسية منها والحكومية والمرجعية وغيرها ، وأنّ منصب الخلافة والحكومة يمثّل أحد أبعاد الإمامة ، وهذا هو موضع النزاع مع أتباع مدرسة الخلفاء ، حيث إنّهم يختزلون دور الإمام في الحاكمية فقط ، فإذا لم يستلم الحكومة لا يكون إماماً ، على خلاف معتقد الشيعة الإمامية الاثني عشرية ، التي تعتقد أنّ منصب الحاكمية يمثّل أحد أبعاد الإمامة لا جميعها .

٣ ـ إنّ آية البلاغ جاء تبليغها بصيغة الإعلان الرسمي للولاية والإمامة والتتويج العام للإمام عليعليه‌السلام أمام المسلمين ، ويشهد لذلك كيفية التبليغ ، حيث جمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس وأمر أن يردّ مَن تقدم منهم ومَن تأخّر عنهم في ذلك المكان ، وجمعت لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقتاب الإبل وارتقاها آخذاً بيد أخيه عليعليه‌السلام معمّماً له أمام الملأ صادعاً بإبلاغ الولاية ، ثم إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب بنفسه البيعة من الناس لعليعليه‌السلام ، وبادر الناس لبيعتهعليه‌السلام وسلّموا عليه بإمرة

٧٢

المؤمنين ، وهنّأوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّاًعليه‌السلام ، وأوّل مَن تقدّم بالتهنئة والبخبخة ، أبو بكر ثم عمر بن الخطاب وعثمان و...(١) ، وقد روى الطبري في كتابه الولاية بإسناده عن زيد بن أرقم أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( قولوا أعطيناك على ذلك عهداً من أنفسنا ، وميثاقاً بألسنتنا ، وصفقة بأيدينا ، نؤدّيه إلى أولادنا وأهلنا لا نبتغي بذلك بدلا ) (٢) .

ثم استئذان حسان بن ثابت من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لنظم أبيات في الواقعة تدل على أنّه لم يفهم من الحديث غير معنى الخلافة والولاية .

وكذلك يؤكّد كل ما قلناه احتجاج أمير المؤمنين عليعليه‌السلام بحديث الغدير في مواضع عديدة ، حيث كان يحتج على أولئك الذين تركوا وصيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقولهعليه‌السلام : (أنشدكم بالله أمنكم مَن نصّبه رسول الله يوم غدير خُم للولاية غيري ؟ قالوا : اللهم ، لا ) ، وفي موضع آخر ( قال :أنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مَن كنت مولاه ، فعلي مولاه ، اللّهمّ والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ، وانصر مَن نصره ، ليبلغ الشاهد الغائب ، غيري ؟ قالوا : اللّهمّ ، لا )(٣) .

ـــــــــــــ

(١) مسند أحمد : ج ٤ ص ٢٨١ ؛ المعيار والموازنة ، الإسكافي : ص ٢١٢ ؛ المعجم الكبير ، الطبراني : ج ٥ ص ٢٠٣ ؛ فيض القدير شرح الجامع الصغير : ج ٦ ص ٢٨٢ ح ١٢٠ ؛ تذكرة الخواص ، ابن الجوزي : ص ٣٦ ؛ نظم درر السمطين : ص ١٠٩ ؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١٣ ص ١٣٤ ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ٥ ص ٨ ؛ المصنف لابن أبي شيبة الكوفي : ج ٧ ص ٥٠٣ ؛ شواهد التنزيل : الحاكم الحسكاني : ج ١ ص ٢٠٠ ؛ ثمار القلوب : ص ٦٣٧ ؛ وغيرها .

(٢) كتاب الولاية : محمد بن جرير الطبري : ص ٢١٤ ـ ٢١٦ .

(٣) انظر : مسند أحمد : ج ١ ص ٨٤ ؛ ج ٤ ص ٣٧٠ ؛ ج ٥ ص ٣٧٠ ؛ مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٩ ص ١٠٤ ، ص ١٠٧ ؛ المصنف ، أبي شيبة الكوفي : ج ٧ ص ٤٩٩ ؛ كتاب السنّة : عمرو بن أبي عاصم : ص ٥٩١ ، ص ٥٩٣ ؛ خصائص أمير المؤمنين ، النسائي : ص ٩٦ ؛ مسند أبي يعلى : ج ١ ص ٤٢٨ ـ ٤٢٩ ح ٥٦٧ ؛ ج ١١ ص ٣٠٧ ح ٦٤٢٣ ؛ المعجم الصغير : الطبراني : ج ١ ص ٦٤ ـ ٦٥ ؛ المعجم الأوسط : ج ٢ ص ٣٢٤ ؛ المعجم الكبير : ج ٥ ص ١٧١ ؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١١ ص ٣٣٢ ؛ الصواعق المحرقة ، ابن حجر الهيتمي : ص ١٩٥ ؛ وغيرها .

٧٣

٤ ـ لم يكتف الله تبارك وتعالى بكل البيانات السابقة من النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أنزل في ولاية عليعليه‌السلام تلك الآيات الكريمة تتلى على مرّ الأجيال بكرةً وعشيّاً ؛ ليكون المسلمون على ذكر من هذه القضية في كل حين ، وليعرفوا رشدهم والمرجع الذي يجب عليهم أن يأخذوا عنه معالم دينهم ويتبعوه في قيادته .

٥ ـ لو اقتصر في تبليغ الإمامة على تلك البيانات الخاصة للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمقتصرة على حضور بعض الصحابة ؛ لضاعت وأصبحت روايات ضعافاً ، ولما وصلت إلينا بشكل واضح ومتواتر كما جاءتنا آيات وروايات البلاغ ؛ وذلك بسبب منع تدوين حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عهد الخلفاء ، ولتولّي بني أمية وأعداء أهل البيتعليه‌السلام تدوين الحديث فيما بعد .

الخلاصة

أوّلاً : إنّ تعاطي القرآن الكريم والرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المفاهيم الأساسية في الإسلام ـ كالإمامة ـ يختلف عن غيرها من المفاهيم الأخرى ؛ ولذا نجد أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكّد عليها مراراً وشيّد أركانها ، مستثمراً كل مناسبة يمكن استثمارها في ذلك ، ومن هنا نلتمس أسباب كثرة البيانات والتصريحات المتكرّرة من الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وذلك لكي يكون الاهتمام والتبليغ متناسباً مع أهمية ذلك الأمر ؛ ولذا نرى الانسجام والملائمة بين التبليغات النبوية ، والآيات القرآنية الواردة في هذا الصدد ، وبالخصوص آية البلاغ التي جاءت ضمن الاهتمامات القرآنية بمسألة الإمامة ، وقد حملت آية البلاغ العديد من المعطيات المهمة في مسألة الإمامة ، منها:

١ ـ إنّ الآية المباركة جاءت لتبيّن أنّ ترك تنصيب الإمام عليعليه‌السلام للولاية مساوق لترك تبليغ الرسالة بأجمعها ، كما هو واضح من قوله تعالى :( وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ ... ) وممّا يؤكّد أهمية هذا التبليغ للإمامة ملاحظة الظروف التي رافقت عملية التبليغ من شدّة الحرّ ، وأمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برجوع المتقدّم ولحوق المتأخّر ، والجمع الغفير الذي حضرها ، كل ذلك يدل على أهمية الأمر وخطورته .

٧٤

٢ ـ إنّ تبليغ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للآية في أواخر حياته جاء مؤكّداً على بيان أطروحة الإمامة في الإسلام ، وأنّها شاملة لكل الأبعاد القيادية السياسية والدينية والحقوقية والقضائية ، وأنّ منصب الخلافة والحكومة يمثّل أحد أبعاد الإمامة ، وهذا هو محل النزاع بين السنّة والشيعة ، حيث إنّ السنّة يختزلون دور الإمام في الحاكمية فقط .

٣ ـ إنّ آية البلاغ جاءت بصيغة الإعلان الرسمي لولاية الإمام عليعليه‌السلام كما هو واضح من خلال عملية التنصيب وطريقته ومباركة الصحابة له بالولاية وإنشاء الشعر ونحوها ، وكذلك احتجاجهعليه‌السلام بحديث الغدير في مناسبات عديدة على أحقّيّتهعليه‌السلام في الخلافة .

ثانياً : إنّ الله تعالى لم يقتصر على أمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتبليغ لولاية الإمام عليعليه‌السلام ، بل هنالك عدّة من الآيات جاءت مؤكّدة لتلك الولاية لتتلى بكرةً وعشياً على مرّ الأجيال ، وتكون شاهدة وحجّة عليهم .

ثالثاً : لو اقتصر في تبليغ الولاية على البيانات الخاصة المقتصرة على حضور بعض الصحابة ، سوف يُعرّضها ذلك للضياع ، لا سيّما مع ملاحظة منع تدوين السنّة ، أو تكون من الأخبار الضعاف ، ولذا كان تبليغها في واقعة الغدير كفيلاً بأن يجعلها تصل إلى حدّ التواتر وإجماع المسلمين ، الذي لا يمكن تجاوزه .

لا وجود لاسم علي في القرآن

الشبهة :

إنّ القرآن الكريم لم ينص على إمامة عليعليهم‌السلام وإلاّ لذكر اسمه فيه .

٧٥

تمهيد:

لكي تكون الإجابة واضحة لابد من الالتفات إلى نقطتين أساسيتين ، هما :

الأُولى : القرآن تبيان لكل شيء

لا ريب أن القرآن هو الكتاب المنزل لهداية الناس فيه تبيان كل شيء ، والسنّة النبوية مفصّلة ومبيّنة له ، قال تعالى :( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ ) (١) ، فأحدهما مكمّل للآخر ، والإسلام كلّه ، من عقائد وأحكام وسائر علومه وأُصوله موجود في القرآن الكريم ، أمّا شرحه وتفسيره وتجسيده ، فنجده في سنّة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خلال حديثه وسيرته المباركة ؛ ولذا نجد أنّ الله تعالى قرن طاعته بطاعة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما في قوله تعالى :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) (٢) ، وقوله عزّ وجلّ :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ) (٣) ، وكذلك قرن معصية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعصيته تعالى ، حيث

ـــــــــــــ

(١) النحل : ٤٤ .

(٢) النساء : ٥٩ .

(٣) الأنفال : ٢٠ .

٧٦

قال :( وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنّ لَهُ نَارَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فَيهَا أَبَداً ) (١) ، وقوله تعالى :( فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّي بَرِي‏ءٌ مّمّا تَعْمَلُونَ ) (٢) ، وقال تعالى أيضاً :( فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّى‏ يُحَكّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُوا تَسْلِيماً ) (٣) ، وغيرها من الآيات الكريمة .

الثانية : يجب اتباع ما أمر به الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

إنّ الله تعالى لم يجعل الخيرة للمؤمنين فيما يقضي الله ورسوله به ، كما في قوله تعالى :( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً مّبِيناً ) (٤) ، وبيّن الله تعالى أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّة على الخلق في قوله وفعله ، وأنّ الله جعله إماماً يقتدى به ، فقال تعالى :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٥) ، وقال أيضاً :( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) (٦) ، وهذه مفردة مهمة جداً يجب الالتفات إليها جيداً .

وهناك روايات كثيرة متضافرة تؤكّد وتحث على الأخذ بسنّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتنهى عن الإعراض عن سنّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاكتفاء بالقرآن وحده ، وكان ذلك رائجاً ومعرفاً في أقوال الصحابة وتعاملهم ، من ذلك ما ورد في صحيح البخاري عن علقمة ، عن عبد الله قال : ( لعن الله الواشمات

ـــــــــــــ

(١) الجن : ٢٣ .

(٢) الشعراء : ٢١٦ .

(٣) النساء : ٦٥ .

(٤) الأحزاب : ٣٦ .

(٥) الحشر : ٧ .

(٦) النجم : ٣ ـ ٤ .

٧٧

الموتشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن ، المغيّرات خلق الله ، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها : أم يعقوب ، فجاءت فقالت : إنّه بلغني أنّك لعنت كيت وكيت ، فقال : ومالي لا ألعن مَن لعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومَن هو في كتاب الله ، فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول ، قال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه ، أما قرأت :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (١) ؟ قالت : بلى ، قال : فإنّه قد نهى عنه )(٢) ، وكذا وردت هذه الرواية بنصها في صحيح مسلم(٣) .

ومن الروايات التي وردت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا المجال ، ما جاء في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه ، ومسند أحمد عن أبي عبد الله بن أبي رافع عن أبيه أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري ممّا أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا ندري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ) (٤) ، وفي مسند أحمد بلفظ( ما أجد هذا في كتاب الله ) (٥) .

ومنها ما ورد في مسند أحمد أيضاً ، عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا أعرفنّ أحداً منكم أتاه عنّي حديث وهو متكئ في أريكته ،

ـــــــــــــ

(١) الحشر : ٧ .

(٢) صحيح البخاري : ج ٣ ص ٢٨٤ ح ٤٨٨٦ .

(٣) صحيح مسلم : ج ٣ ص ١٦٧٨ ح ٢١٢٥ باب تحريم فعال الواصلة والمستوصلة .

(٤) انظر : سنن أبي داود السجستاني ، باب لزوم السنّة : ج ٤ ص ٢٠٥ ح ٤٦٠٥ ؛ سنن الترمذي : ج ٤ ص ١٤٤ ح ٢٨٠١ ، كتاب العلم ؛ باب ما نهى عنه ؛ سنن ابن ماجه ، المقدّمة : ج ١ ص ٦ ـ ٧ ، باب تعظيم حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتغليظ على مَن عارضه .

(٥) مسند أحمد : ج ٦ ص ٨ .

٧٨

فيقول : أتلوا عليّ به قرآناً ) (١) ، وقال حسان بن ثابت ، كما في مقدّمة الدارمي : ( كان جبريل ينزل على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسنّة كما ينزل عليه بالقرآن )(٢) ، إلى غير ذلك من الروايات والأقوال ، وإنّما هذه نبذة عمّا ورد في الحثّ على الأخذ بسنّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنهي عن مخالفته والتشديد على مَن يهمل السنّة بحجة الاكتفاء بكتاب الله .

وعلى هذا الأساس يتضح أنّ جميع أحكام الإسلام موجودة في القرآن الكريم ، إلاّ أنّه لا يمكن معرفة تفاصيلها والوقوف على حقائقها من دون الرجوع إلى سنّة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّنا في إقامة الصلاة ـ مثلاً ـ لا نعرف كيف نصلّي من دون أن نأخذ من حديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيفيّتها وشروطها وعدد ركعاتها وسجداتها وأذكارها ومبطلاتها ، وكذلك في الحج ، حيث لا يمكن أداء مناسكه من دون الرجوع إلى سنّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستيضاح شروطه وواجباته ومواقيته وأشواط الطواف وصلاته ، وتفاصيل السعي والتقصير وسائر مناسك الحج الأخرى .

إذن لابدّ من الرجوع إلى القرآن والسنّة النبوية معاً لأخذ تعاليم الإسلام منهما ، أمّا مَن أراد الاكتفاء بالقرآن وحده دون السنّة ، فأدنى ما نقول بحقّه : إنّه جاهل بما ورد في القرآن نفسه ، الذي يدعو لإطاعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٣) ، وقد قال الألباني في هذا المجال : ( فحذار أيّها المسلم أن تحاول فهم القرآن مستقلاً

ـــــــــــــ

(١) مسند أحمد : ج ٢ ص ٣٦٧ ؛ سنن ابن ماجه ، المقدمة : ج ١ ص ٩ ـ ١٠ ح ٢١ ، باب تعظيم حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتغليظ على مَن عارضه .

(٢) سنن الدارمي ، المقدّمة : ج ١ ص ١٤٥ ، باب السنّة قاضية على كتاب الله .

(٣) الحشر : ٧ .

٧٩

عن السنّة ، فإنّك لن تستطيع ذلك ولو كنت في اللغة سيبويه زمانك )(١) ، فمقولة حسبنا كتاب الله مقولة مخالفة لصريح القرآن الكريم .

الجواب :

بعد تلك الإطلالة السريعة نقول لصاحب الشبهة بأنّ عدم ذكر اسم عليعليه‌السلام صريحاً في القرآن يرجع إلى الأسباب التالية :

أوّلاً : عدم ذكر الاسم لحكمة إلهيّة

إنّ عدم ذكر اسم علي في القرآن لعلّه لحكمة إلهية خفيت علينا ، إذ ما قيمة عقولنا كي تحيط بكل جوانب الحكم والمصالح الإلهية ، فكم من الأمور التي قد خفيت أو أُخفيت علينا مصالحها ، قال تعالى :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) (٢) ، والاعتراض على حكم الله تعالى خلاف التسليم والخضوع لأمره عزّ وجلّ .

ثانياً : الرسول الأكرم نصّ على إمامة عليعليه‌السلام

إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نصّ على إمامة علي أمير المؤمنينعليه‌السلام باسمه الصريح كما في حديث الغدير المتواتر ، وحديث الدار ، وحديث المنزلة ، وغيرها في مواطن كثيرة جداً ، فإذا ثبت هذا بشكل قاطع عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو القرآن الناطق الذي لا ينطق عن الهوى ، وقد أقام الحجّة علينا بأنّ الإمام بعده عليعليه‌السلام تثبت إمامته بلا ريب ، وإذا لم يذكر القرآن اسم عليّ

ـــــــــــــ

(١) صفة صلاة النبي ، الألباني : ص ١٧١ .

(٢) المائدة : ١٠١ .

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

الباب الأوّل

في بعض ما هداني الله جلَّ جلاله إليه من المعقول

المقوّي لما رويته في الاستخارة من المنقول

يقول عليَ بن موسى بن جعفر بن محمد بن محمد الطاووس أيّده الله تعالى: اعلم أنّني وجدت تدبير الله جلّ جلاله لمصالح عباده ما ليس هو على مرادهم، بل هو على مراده، وما ليس هو على الأسباب الظاهرة لهم في المكروه والمأمول، بل هو لما يعلمه الله(١) جلّ جلاله من مصالحهم التي لا يعلمونها، أو أكثرها، إلاّ من جانبه جلّ جلاله، ومن جانب الرسول (صلّى الله عليه واله)، ولو كان العقل كافياً في الاهتداء إلى تفضيل مصالحهم؛ لما(٢) وجَبَتْ بعثة الأنبياء، حتى أنَ في تدبير الله جلّ جلاله في مصالح الأنام ما يكاد ينفر منه كثير من أهل الإسلام.

فلما رأيت تدبيري ما هو على مرادي، ولا على الأسباب الظاهرة في معرفتي واجتهادي، وعرفت أنّني لا أعرف جميع مصلحتي بعقلي وفِطْنتي،

____________________

(١) لفظ الجلالة ليس في (ش) و(د).

(٢) في (ش) و (م): ما.

١٢١

فاحتجتُ لتحصيل(١) سعادتي في دنياي وآخرتي، إلى معرفة ذلك ممّن يعلمه جلّ جلاله، وهو علاّم الغيوب، وتيقّنت أنّ تدبيره لي خير من تدبيري لنفسي، وهذا واضح عند أهل العقول والقلوب، ورأيت مشاورته جلّ جلاله بالاستخارة باباً من أبواب إشاراته الشريفة، ومن جملة تدابيره لي بألطافه اللطيفة، فاعتمدت عليها، والتجأت إليها.

شعر:

لو أنّ لي بدلاً لم أبتدل بهمُ

فكيف ذاك ومالي عنهم بدلُ

وكم تَعَرّض لي الأقوام غيرهم

يستأذنون على قلبي فما وصلوا

____________________

(١) في (د): إلى تحصيل.

١٢٢

الباب الثاني

في بعض ما عرفته من صريح القران هادياً إلى مشاورة الله

جلّ جلاله، وحجّة على الإنسان

يقول عليّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن محمد بن الطاووس أيّده الله تعالى: اعلم أنّني وجدت الله جلّ جلاله يقول عن الملائكة - الذين اختياراتهم وتدبيراتهم من أفضل الاختيارات والتدبيرات؛ لأنّهم في مقام المكاشفة بالآيات والهدايات. أنّهم عارضوه جلّ جلاله لمّا قال لهم:( إنّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فيها وَيَسْفِكُ ألدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ ) (١) فقال جلّ جلاله لهم:( إنّي اَعْلَمُ مَا لا تَعْلمُونَ ) (٢) فعرّفهم بذلك أنَ علومهم وأفهامهم قاصرة عن أسراره في التدبير المستقيم، حتّى اعترفوا في موضع آخر فقالوا:( سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إلاّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أنْتَ الْعَليمُ الْحَكيمُ ) (٣) .

فلمّا رأيت الملائكة عاجزين وقاصرين عن معرفة تدبيره، علمتُ أنّني

____________________

(١ - ٢) البقرة ٢: ٣٠.

(٣) البقرة ٢: ٣٢.

١٢٣

أعظم عجزاً وقصوراً، فالتجأت إليه جلَّ جلاله في معرفة ما لا أعرفه إلاّ من مشاورته جلّ جلاله في قليل أمري وكثيره.

فصل:

ثم وجدت الأنبياء الذين هم أكمل بني آدم (عليهم السلام)، قد استدرك الله عليهم في تدبيراتهم عند مقامات، فجرى لآدم (عليه السلام) في تدبيره في أكل ثمرة الشجرة ما قد تضمّنه صريح الآيات، وجرى لنوح (عليه السلام) في قوله:( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ) (١) ممّا لا يخفى عمّن عرفه من أهل الصدق، وجرى لداود (عليه السلام) في بعض المحاكمات ما قد تضمّنه الكتاب، حتى قال الله جلّ جلاله( وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ ) (٢) ، وجرى لموسى (عليه السلام) لمّا اختار سبعين رجلاً من قومه للميقات، ما قد تضمّنه صريح الآيات(٣) .

فلمّا رأيت الأنبياء - الذين هم أكمل العباد في الإصدار والإيراد - قد احتاجوا إلى استدراكٍ عليهم في بعض المراد، علمتُ أنّني أشدّ حاجة وضرورةً إلى معرفة إرشادي، فيما لا أعرفه من مرادي إلاّ بمشاورته سبحانه وإشارته، فالتجأت إلى تعريف ذلك بالاستخارة من أبواب رحمته.

فصل:

ثمّ وجدت صريح القرآن قد تضمّن عموماً عن بني آدم بواضح البيان،

____________________

(١) هود ١١: ٤٥.

(٢) ص ٣٨: ٢٤.

(٣) وهي قوله تعالى في سورة الأعراف ٧: ١٥٥: ( وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ) .

١٢٤

فقال:( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) (١) وقال جلَّ جلاله:( للهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ) (٢) وقال جلَّ جلاله:( وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ) (٣) ، وهذا تصريح عظيم بالشهادة من الله جلّ جلاله بقصور بني آدم الذين تضمّنهم محكم هذا القرآن، وعزلهم عن الخيرة، وأنّ له جلّ جلاله الأمر من قبل ومن بعد، وأنّ الحق لو اتّبع أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومَن فيهن، وأنّ أهواءهم كانت تبلغ بهم(٤) من الفساد إلى هذا الحدّ.

فلمّا علمت ذلك، وصدّقت قائله جلّ جلاله على اليقين، هربت من اختياري لنفسي إلى اختياره لي، باتّباع مشورته، ورأيته قد عزلني عن الأمر(٥) ، فعدلت عن أمري لنفسي، وعوّلت على أمره جلّ جلاله، وشريف إشارته، وصدّقته جلّ جلاله في أنّه لو اتّبع الحقّ هواي، فسد حالي ورأيي، فاعتمدت على مشورة الحقّ، وعدلت عن اتّباع أهوائي، وهذا واضحٌ عند مَن أنصف من نفسه، وعرف إشراق شمسه(٦) .

____________________

(١) القصص ٢٨: ٦٨.

(٢) الروم ٣٠: ٤.

(٣) المؤمنون ٢٣: ٧١.

(٤) ليس في (ش)، وفي (م): لهم.

(٥) عن الأمر: ليس في (ش).

(٦) في (ش) و(د): وعرف الله أو شمسه.

١٢٥

١٢٦

الباب الثالث

في بعض ما وجدته من طريق الاعتبار كاشفاً لقوّة

العمل في الاستخارة بما ورد في الأخبار

اعلم أنّني وجدت الموصوفين بالعقل والكمال، يوكّل أحدهم وكيلاً، يكون عنده أميناً في ظاهر الحال، ولا يطّلع على سريرته، فيسكن إلى وكيله في تدبيره ومشورته، ويشكره من عرف صلاح ذلك الوكيل، ويحمدونه على التفويض إلى وكيله فيما يعرفه من كثير وقليل، وما رأيت أنّ مسلماً يجوز أن يعتقد أنّ الله جلّ جلاله - في التفويض إليه، والتوكّل عليه بالاستخارات والمشورات، والعمل بأمره المقدّس - دون وكيل غير معصوم في الحركات والسكنات.

فصل:

ووجدت الموصوفين بالعقل والفضل يصوّبون تدبير مَن يشاور أعقل مَن في بلده، وأعقل مَن في محلّته، وأعلم أهل دينه ونِحْلَته، مع أنّ ذلك الذي يُشَاوَرُ في الأشياء لا يدّعي أنّه أرجح تدبيراً من الملائكة والأنبياء، بل ربّما يكون المُستشار قد غلط في كثير من تدبيراته، وندم على كثير من

١٢٧

اختياراته، ومع هذا فيشكرون(١) هذا المستشير، ويستدلّون بذلك(٢) على عقله وسداده، ويقولون: هذا من أحسن التدبير، أفيجوز أن يكون في المعقول والمنقول مشاورة اللهّ جلّ جلاله وتدبيره لعبده دون عاقل البلد، وعاقل المحلّة، وعالم النِحْلَة؟! كيف يجوز أن يعتقد هذا أحدٌ من أهل الملّة؟

____________________

(١) في (م): فيكون، وما في المتن من (ش) و (د).

(٢) في (ش): لك.

١٢٨

الباب الرابع

في بعض ما رويته من تهديد الله جلّ جلاله لعبده

على ترك استخارته، وتأكيد ذلك ببعض ما أرويه

عن خاصّته

فمن ذلك - في كتاب المقنعة، تصنيف المفيد محمد بن محمد بن النعمان، الذي انتهت رئاسة الإمامية في وقته إليه، رضوان الله عليه(١) - ما أخبرني به والدي قدّس الله روحه، ونوّر ضريحه، عن شيخه الفقيه حسين بن رطبة(٢) ، عن أبي علي الحسن الطوسي(٣) ، عن والده - جدّي - أبي جعفر

____________________

(١) الجملة المعترضة لم ترد هنا في (ش) و(د)، وقد وردت فيهما بعد نهاية الطريق الثاني الآتي من طرق السيد ابن طاووس الثلاثة لكتاب المقنعة.

(٢) الشيخ الفقيه الجليل أبو عبد الله الحسين بن هبة الله بن رطبة السوراوي، من أجلاّء طائفة الإمامية وفقهائهم، رحل إلى خراسان والرّي، والتقى بكبار علماء الشيعة هناك، يروي عن جماعة من العلماء، منهم: عربي بن مسافر، ومحمد بن أبي البركات، والسيد موسى بن طاووس، وكان يروي عن الشيخ أبي علي الطوسي، توفّي في رجب سنة ٥٧٩ هـ.

أنظر (فهرست منتجب الدين: ٥٢/ ٩٨، لسان الميزان ٢: ٣١٦/ ١٢٩٠، أمل الآمل ٢: ١٠٤/ ٢٩٠، رياض العلماء ٢: ٩٣، الثقات العيون: ٨٣).

(٣) الشيخ أبو علي الحسن بن محمد بن الحسن بن علي الطوسي، كان عالماً فاضلاً فقيهاً محدّثاً =

١٢٩

الطوسيّ، عن المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان بجميع ما تضمّنه كتاب المقنعة.

وأخبرني والدي أيضاً قدّس الله روحه، عن شيخه الفقيه الكمال عليّ بن محمد المدائنيّ(١) ، عن شيخه أبي الحسين سعيد بن هبة الله الراونديّ، عن عليّ بن عبد الصمد النيسابوريّ(٢) ، عن أبي عبد الله جعفر الدوريستيّ(٣) ، عن المفيد محمد بن محمد بن النعمان، رضوان اللهّ

____________________

= جليلاً ثقة، قال عنه ابن حجر في اللسان: (ثم صار فقيه الشيعة وإمامهم بمشهد علي (رضي الله عنه)، وهو في نفسه صدوق، وكان متديّناً) وقد قرأ على والده الشيخ الطوسي جميع تصانيفه، كان المترجَم له حيّاً في سنة ٥١٦ هـ، كما يظهر من رواية عماد الدين الطبري عنه في هذا التاريخ في كتابه بشارة المصطفى.

أنظر (فهرست منتجب الدين: ٤٢/ ٧١، بشارة المصطفى: ٦٤، لسان الميزان ٢: ٢٥٠/ ١٠٤٦، أمل الآمل ٢: ٧٦/ ٢٠٨، رياض العلماء ١: ٣٣٤، الثقات العيون: ٦٦).

(١) الشيخ الفقيه علي بن محمد المدائني، كان من أجلّة فقهاء الأصحاب في المئة السادسة، وهو غير علي بن محمد المدائني العاميّ المذكور في كتب الرجال، يروي عن قطب الدين الراوندي، ويروي عنه السيد موسى بن طاووس.

أنظر (رياض العلماء ٤: ٢٤٤، الثقات العيون: ٢٠٦)، وفي نسخة (م) زيادة: العلوي.

(٢) الشيخ علي بن عبد الصمد بن محمد التميمي النيسابوري، أبو الحسن السبزواري، من فقهاء طائفة الإمامية في المئة الخامسة، ذكره منتجب الدين في فهرسته قائلاً: (فقيه دين ثقة، قرأ على الشيخ أبي جعفر)، ويروي عن جمع من تلامذة الصدوق، منهم والده عبد الصمد.

أنظر (فهرست منتجب الدين: ١٠٩/ ٢٢٢، النابس في القرن الخامس: ١٢٢).

(٣) الشيخ أبو عبد الله جعفر بن محمد بن أحمد بن العباس الدوريستيّ، نسبة إلى قرية دوريست التي هي على فرسخين من الرّي، ويقال لها في هذا الزمان: درشت، بالشين المعجمة، ثقة عين عظيم الشأن، قرأ على: الشيخ المفيد والسيد المرتضى وشيخ الطائفة، وُلد سنة ٣٨٠ هـ، وكان حيّاً حتى سنة ٤٧٣.

أنظر (رجال الشيخ: ٤٥٩/ ١٧، المنتخب من السياق: ٢٦١/ ٤٦٤، فهرست منتجب الدين: ٣٧/ ٦٧، أمل الآمل ٢: ٥٣/ ١٣٧، روضات الجنّات ٢: ١٧٤/ ١٦٨، تنقيح المقال ١: ٢٤٤/ ١٨٥٥، النابس في القرن الخامس: ١٢٢).

١٣٠

عليهم، بجميع ما تضمّنه كتاب المقنعة.

وأخبرني شيخي الفقيه(١) محمد بن نما(٢) جزاه الله جلّ جلاله خير الجزاء، وأخبرني شيخي العالم أسعد بن عبد القاهر بن أسعد بن محمد بن هبة الله بن حمزة المعروف بشفروه الأصفهاني(٣) جميعاً، عن الشيخ العالم أبي الفرج علي بن السعيد أبي الحسين الراونديّ(٤) ، عن والده، عن الشيخ أبي جعفر محمد بن علي بن محسن الحلبيّ(٥) ، عن الشيخ السعيد أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسيّ، عن شيخه محمد بن محمد بن النعمان، فيما يرويه في الجزء الأوّل من كتاب المقنعة، عن الصادق (عليه السلام) أنّه

____________________

(١) ليس في (م).

(٢) الشيخ نجيب الدين أبو إبراهيم محمد بن جعفر بن أبي البقاء هبة الله بن نما بن علي بن حمدون الحلّي، كان من فضلاء وقته وعلماء عصره، له كتب، توفّي بالنجف الأشرف سنة٦٤٥ هـ.

أنظر (أمل الآمل ٢: ٣١٠/ ٩٤٥، الكنى والألقاب ١: ٤٢٧، الأنوار الساطعة في المئة السابعة: ١٥٤).

(٣) الشيخ أسعد بن عبد القاهر بن أسعد الأصفهاني أبو السعادات، كان عالماً فاضلاً محقّقاً، له كتب، كان حيّاً في صفر سنة ٦٣٥ حيث روى عنه السيد ابن طاووس الكتب والأُصول والمصنّفات في هذا التاريخ في مسكنه بالجانب الشرفي من بغداد.

أنظر (فلاح السائل: ١٥، أمل الآمل ٢: ٣٢/ ٨٩، تنقيح المقال ١: ١٢٤/ ٧٥٧، أعيان الشيعة ٣: ٢٩٧، الأنوار الساطعة في المئة السابعة: ١٧).

(٤) الشيخ عماد الدين أبو الفرج علي بن الشيخ الإمام قطب الدين أبي الحسين سعيد بن هبة الله الراوندي، فقيه ثقة، من علماء المئة السادسة.

أنظر (فهرست منتجب الدين: ١٢٧/ ٢٧٥، أمل الآمل ٢: ١٨٨/ ٥٥٩، الثقات العيون في سادس القرون: ١٩٠).

(٥) الشيخ أبو جعفر محمد بن علي بن المحسن الحلبي، فقيه صالح، أدرك الشيخ الطوسي وروى عنه وعن ابن البراج، ويروي عنه الإمامان ضياء الدين وقطب الدين الراونديان، ويظهر أنّه بقي إلى المئة السادسة بقرينة رواية قطب الدين الراوندي المتوفّى ٥٧٣ هـ، عنه.

أنظر(فهرست منتجب الدين: ١٥٥/ ٣٥٧، أمل الآمل ٢: ٢٨٩، النابس في القرن الخامس: ١٨١).

١٣١

قال: (يقول الله عزّ وجلّ: إنّ من شقاء عبدي أن يعمل الأعمال ثمّ لا يستخيرني)(١) .

رواه سعد بن عبد الله في كتابه كتاب الأدعية(٢) ، قال: وعنه، عن الحسين بن [ سعيد، عن ](٣) عثمان بن عيسى، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (أنزل الله: إنَّ من شقاء عبدي أن يعمل الأعمال ولا يستخيرني)(٤) .

يقول علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن محمد بن الطاووس أيّده الله تّعالى: ووجدت هذا الحديث أيضاً في أصل من أصول أصحابنا، تاريخ كتابته في شهر ربيع الآخر سنة أربع عشرة وثلاثمائة، يرويه عن الصادق (عليه السلام) قال: (قال الله تبارك وتعالى: من شقاء عبدي أن يعمل الأعمال ولا يستخيرني)(٥) .

أقول أنا: وإذا عَلِمَ المكلَّف(٦) ورود الأخبار بالمشاورة لله جلّ جلاله واستخارته، كما سوف نذكره في الأبواب، ونكشف عن حقيقته فما يحتاج

____________________

(١) المقنعة: ٣٦، المحاسن: ٥٩٨/ ٣، هامش مصباح الكفعمي: ٣٩٣، ورواه الشهيد في مجموعته: ١٧ عن العالم (عليه السلام)، وأخرجه المجلسي في البحار ٩١: ٢٢٢/ ١، والحرّ العاملي في الوسائل ٥: ٢١٧/ ٢ والجواهر السنيّة: ٢٥٢.

(٢) كل ما نقله السيد ابن طاووس في كتابه هذا عن كتاب (الأدعية) أو (الدعاء) لسعد بن عبد الله سقط من نسخة (ش).

(٣) ما بين المعقوفين من بحار الأنوار، وفي وسائل الشيعة: الحسين بن عثمان، عن عثمان بن عيسى، والصواب ما أثبتناه فى المتن.

أنظر (رجال النجاشي: ٢١٢، معجم رجال الحديث ١١: ١٢١).

(٤) أخرجه المجلسي في بحار الأنوار ٩١: ٢٢٥، والحرّ العاملي في الوسائل ٥: ٢١٧ هامش ح ٢.

(٥) أخرجه المجلسي في البحار ٩١: ٢٢٢.

(٦) ليس في (د).

١٣٢

إلى(١) التهديد من الله جلّ جلاله على ترك مشاورته إلى إيراد أخبار عنه جلّ جلاله وعن خاصّته، وإنّما أوردنا(٢) هذا المقدار من الأخبار لنوضحَ أنّ النقل ورد معاضداً للعقل.

وبيان ذلك أنّك لو عرفت أنَّ الله جلّ جلاله قد أتى رجلاً من الحكمة والعقل والرأي مثل(٣) ما أُوتي لقمان، وجعل له قدرة - مثلاً - على خلْق إنسان، وخلْق ما يحتاج إليه هذا الإنسان من مصالحه ومراشده، وأنَّ هذا الحكيم عارفٌ بتدبير هذا الإنسان، وبما يسلمه من مهالكه ومفاسده، فبنى هذا الحكيم داراً لهذا الإنسان قبل أن يخلقه، وأتقنها وكمّلها، وما يعرف أسرار بنائها(٤) وتدبيرها جميعاً غير هذا الحكيم، ثمّ عاد إلى الإنسان الذي يريد أن يُسْكِنَه فيها(٥) ، ففطره من عدم محض، وجعله تراباً، ثمّ ألّف من التراب جوهراً إلى جوهر وعَرَضاً(٦) إلًى عَرَض، وجعله جسماً، وركّبه تركيباً عجيباً وكمّله تكميلاً غريباً، ولا يطّلع على جميع تدبير هذا الحكيم لهذا الإنسان إلاّ الحكيم وحده.

فلمّا بلغ هذا الإِنسان وتكمَّل بقدرة الحكيم المذكور، وأسكنه داره بما فيها من عجائب الأمور، صار يَعْدِلُ عن الحكيم في معرفة أسرار الدار، وأسرار جسده وتدبيره الذي لا يحيط بجميع قليله وكثيره، سوى الحكيم المشار إليه، من غير إساءة وقعت من الحكيم، ولا تقصير يَحْتَجُّ به هذا الإنسان

____________________

(١) في (م): إليه في.

(٢) في (د): أورد.

(٣) ليس في (م).

(٤) في (د): بنيانها.

(٥) في (د) و (ش): هذه الدار.

(٦) العَرَض بالتحريك: ما يحل في الاسم ولا وجود له ولا شخص له، في اصطلاح المتكلّمين ما لا يقوم بنفسه ولا يوجد في محل يقوم به، وهو خلاف الجوهر، وذلك نحو حمرة الخجل وصفرة الوجل (مجمع البحرين - عرض - ٤: ٢١٥).

١٣٣

عليه، أما كان كلّ عاقل يعرف ذلك يبلغ من ذمّ هذا الإنسان الغايات، ويعتقد أنّه يستحقّ من الحكيم أن يعاجله بالنقمات، وأن يخرّب الدار التي بناها له، وُيخْرِجه عنها، ويخرّب جسده الذي عقَرهُ بقدرته، ويستعيد حياته التي لا بَدَل له منها، فالله جلَّ جلاله كان في بناء دار الدنيا وتدبير جسد الإنسان وتأليفه وإنعامه الذي وقع منه ابتداءً وتفضّلاً، والله أتم وأعظم من ذلك الحكيم الذي لولا اقدار الله جلّ جلاله ما قدر(١) على شيء ممّا ضربناه مثلاً، فكيف صار ذلك الإنسان بمفارقة(٢) الحكيم مستحقّاً للتهديد والذمّ والانتقام، ولا يكون من عدل عن مشاورة الله جلَّ جلاله - كما قال الصادق (عليه السلام) - شقيّاً مذموماً عند أهل الإسلام.

فصل:

وأخبرني شيخي العالم الفقيه محمد بن نما، والشيخ أسعد بن عبد القاهر الأصفهانيّ معاً، عن الشيخ العالم أبي الفرج علي بن سعيد أبي الحسين الراونديّ، عن والده، عن الشيخ أبي جعفر محمد بن علي المحسن الحلبيّ، عن السعيد أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي، قال: أخبرني جماعة، عن محمد بن علي بن الحسين بن بابويه، عن أبيه، عن سعد بن عبد اللهّ، عن إبراهيم بن هاشم ويعقوب بن يزيد ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن محمد بن أبي عمير وعن(٣) صفوان، عن عبد اللهّ بن مسكان، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (مَن دخل في

____________________

(١) في (د): ما وقع.

(٢) في (م) و (ش): لمفارقة.

(٣) في (ش) و (د) والبحار: عن، وما في المتن من (م) موافق للوسائل، وهو الصواب، أي محمد بن أبي عمير وصفوان عن عبد الله بن مسكان، لعدم ثبوت رواية ابن أبي عمير عن صفوان، وثبوت رواية محمد بن الحسين بن أبي الخطاب عنهما، وهما عن ابن مسكان.

أنظر (معجم رجال الحديث ج ٩: ١٠٨، ١١٩ وج ١٤: ٢٨٧، ٢٨٨).

١٣٤

أمر من غير استخارة ثمّ ابتلي لم يؤجر)(١) .

وأخبرني شيخي الفقيه محمد بن نما، والشيخ أسعد بن عبد القاهر، بإسنادهما المذكور عن عبد الله بن مسكان، عن ابن مَضَارِب(٢) ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (مَن دخل في أمرٍ بغير(٣) استخارة (ثمّ ابتلي)(٤) لم يؤجر)(٥) .

يقول عليّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن محمد بن الطاووس أيّده الله تعالى: أما يظهر لك من(٦) هذين الحديثين المذكورين أنّ مَن دخل في أمرٍ بغير(٧) استخارة فقد خرج عن ضمان الله جلّ جلاله وتدبيره، وصار بلاؤه على(٨) نفسه، لا يُؤجر على قليله وكثيره، أما تبيّن لك من هذا أنّه لو كان الله جلّ جلاله مع العبد إذا دخل في أمرٍ بغير مشاورته ما كان قد ضاع عليه شيء من ثواب مصيبته، فأيُّ عاقل يرضى لنفسه أن يدخل في أمرٍ قد أعرض الله جلَّ جلاله فيه عنه، وإذا ابتُلي فيه تبرّأ الله جلّ جلاله منه؟ وهذا كافٍ في التهديد لأهل الإِنصاف والتأييد.

____________________

(١) أخرجه المجلسي في البحار ٩١: ٢٢٣/ ٣، والحرّ العاملي في الوسائل ٥: ٢١٨/ ٧.

(٢) هو محمد بن مضارب، بفتح الميم وفتح الضاد المعجمة والألف والراء المكسورة والباء الموحدة من تحت، عدّه الشيخ في رجاله من أصحاب الصادق (عليه السلام) مرّتين، تارة بقوله: محمد بن مضارب كوفي، وأُخرى: محمد بن المضارب كوفيّ يكنّى أبا المضارب.

أنظر (رجال الطوسي: ٣٠٠/ ٣٢٢ و ٣٢٢/ ٦٨٣، تنقيح المقال ٣: ١٨٨، معجم رجال ١٧: ٢٦١/١١٧٩٨).

(٣) في (د): من غير.

(٤) ليس في (م) والوسائل.

(٥) رواه البرقي في المحاسن: ٥٩٨، وأخرجه الحرّ العاملي في الوسائل ٥: ٢١٨/ ٨، والمجلسي في البحار ٩١: ٢٢٣ ذيل خ ٣.

(٦) في (د) و (ش) زيادة: تقدير.

(٧) في (د): من غير.

(٨) في (م): عن.

١٣٥

فصل:

قد رأينا وروينا تصريحاً في النهي عن تقديم مشاورة أحدٍ من العباد قبل مشاورة سلطان المعاد.

أخبرني شيخي الفقيه العالم محمد بن نما، والشيخ العالم أسعد بن عبد القاهر الأصفهانيّ، عن الشيخ العالم أبي الفرج عليّ بن السعيد أبي الحسين الراونديّ، عن السيد السعيد شرف السادة المرتضى بن الداعي الحسنيّ(١) ، عن الشيخ أبي عبد اللهّ جعفر بن محمّد بن أحمد بن العبّاس الدوريستيّ، عن أبيه، عن الشيخ السعيد أبي جعفر محمد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي فيما رواه في كتاب معاني الأخبار في باب معنى مشاورة اللهّ تعالى، قال رحمه الله ما هذا لفظه:

أبي رحمه الله قال: حدّثنا محمّد بن أبي القاسم ماجيلويه، عن محمد بن علي الكوفيّ، عن عثمان بن عيسى، عن هارون بن خارجة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (إذا أراد أحدكم أمراً، فلا يشاوِر(٢) فيه أحداً من الناس حتى يشاوِر الله عزّ وجلّ)، قلت: وما مشاورة الله عزّ وجل؟ قال: (يبدأ فيستخير الله عزّ وجلّ أوّلاً، ثمّ يشاوره فيه، فإذا بدأ(٣) بالله عزّ وجلّ أجرى الله الخير(٤) على لسان مَن أحب من

____________________

(١) السيد الأصيل مقدّم السادة المرتضى بن الداعي بن القاسم صفي الدين أبو تراب الحسني الرازي، محدّث عالم صالح، شاهده منتجب بن بابويه - صاحب الفهرست - وقرأ عليه، واحتمل الشيخ الطهراني بقاءه إلى سنة ٥٢٥ حتى شاهده منتجب الدين.

أنظر (فهرست منتجب الدين: ١٦٣/ ٣٨٥، أمل الآمل ٢: ٣١٩/ ٩٧٧، روضات الجنّات ٧: ١٦٤، الثقات العيون في سادس القرون: ٢٩٧).

(٢) في المصدر: فلا يشاورنّ.

(٣) في (م) زيادة: فيه.

(٤) في المصدر: الخيرة.

١٣٦

الخلق)(١) .

أقول: وقد تضمَّنَ كتاب المقنعة للشيخ المفيد نحو ذلك.

أخبرني والدي موسى بن جعفر بن محمّد بن محمّد بن الطاووس، عن شيخه الفقيه حسين بن رطبة، عن أبي عليّ الحسن بن محمد الطوسيّ، عن والده محمد بن الحسن الطوسيّ، عن المفيد محمد بن محمد بن النعمان، بجميع ما تضمّنه كتاب المقنعة.

وأخبرني والدي قُدّس سِرّه، عن شيخه المفيد الفقيه الكمال عليّ بن محمد المدائني العلويّ، عن أبي الحسين سعيد بن هبة الله الراونديّ، عن عليّ بن عبد الصمد النيسابوريّ، عن أبي عبد الله جعفر الدُّوريستيّ، عن المفيد محمد بن محمد بن النعمان، بجميع ما تضمّنه كتاب المقنعة أيضاً، كما قدّمناه(٢) .

وأخبرني شيخي الفقيه محمد بن نما والشيخ أسعد بن عبد القاهر الأصفهانيّ، بإسنادهما الذي قدّمناه(٣) إلى الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان، قال رحمه الله فيما رواه في الجزء الأوّل من مقنعته، في أوّل باب الاستخارة: عن الصادق (عليه السلام) أنّه قال: (إذا أراد أحدكم أمراً، فلا يشاور فيه أحداً حتى يبدأ فيشاور الله عزّ وجلّ) فقيل له(٤) : ما مشاورة الله عزّ وجل؟ قال: (يستخير الله فيه أوّلاً، ثم يُشاور فيه، فإنّه إذا بدأ بالله أجرى الله له الخير على لسان مَن شاء من الخلق)(٥) .

____________________

(١) معاني الأخبار: ١٤٤/ ١، الفقيه ١: ٣٥٥/ ١، المحاسن: ٥٩٨ / ٢، هامش مصباح الكفعمي: ٣٩٣.

(٢) تقدّم في ص ١٣٠.

(٣) تقدّم في ص ١٣١.

(٤) في (د) زيادة: أيضاً.

(٥) المقنعة: ٣٦، ذكرى الشيعة: ٢٥٢، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٩١: ٢٥٢/ ١.

١٣٧

وأخبرني شيخي العالم الفقيه محمد بن نما، والشيخ أسعد بن عبد القاهر الأصفهانيّ، بإسنادهما الذي قدّمناه(١) إلى جدّي أبي جعفر الطوسيّ فيما وجدناه عن هارون بن خارجة.

وقال جدّي أبو جعفر الطوسيّ: هارون بن خارجة، له كتاب، أخبرنا جماعة، عن أبي المفضّل [ عن ابن بطّة ](٢) ، عن حميد، عن الحسن بن محمد بن سماعة، عن هارون بن خارجة(٣) .

قلت أنا: هارون بن خارجة، عن أبي عبد اللهّ، قال: (إذا أراد أحدكم أمراً فلا يشاور فيه أحداً حتى يشاور اللهّ تبارك وتعالى) قلنا: وكيف يشاوره؟ قال: (يستخير الله فيه أوّلاًَ، ثمّ يشاور فيه، فإذا بدأ بالله تعالى أجرى الله الخيرة(٤) على لسان مَن أحب من الخلق)(٥) .

يقول عليّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن محمد بن الطاووس أيّده الله تعالى: أفلا ترى هذه الأحاديث قد تضمّنت نهياً صريحاً عن العدول عن مشاورة الله جلّ جلاله واستخارته فيما يراد، ثمّ ما جعل لمشاورة غيره(٦) جلّ جلاله أثراً أبداً إذا استشارهم(٧) بعد مشاورة سلطان المعاد، بل قال: إذا

____________________

(١) تقدّم في ص ١٣١.

(٢) أثبتناه من فهرست الشيخ، وهو محمد بن جعفر بن أحمد بن بطّة المؤدب، أبو جعفر القمّي، كان كبير المنزلة بقم، كثير الأدب والفضل والعلم، له عدّة كتب، وقال أبو المفضل: حدّثنا محمد بن جعفر بن بطّة، وقرأنا عليه وأجازنا ببغداد في النوبختية، وقد سكنها.

أنظر (رجال النجاشي: ٢٦٣، معجم رجال الحديث ١٥: ١٥٦).

(٣) فهرست الشيخ: ١٧٦/ ٧٦٥.

(٤) في (د) و (ش): الخير.

(٥) أخرجه المجلسي في البحار ٩١: ٢٥٢ / ٢.

(٦) في (م) و (د): غير الله.

(٧) في (د): استشاره.

١٣٨

استخاره سبحانه أوّلاً، أجرى الله جلّ جلاله الخيرة على لسان مَن أحبّ من العباد، وهذا واضحٌ في النهي عن مشاورة(١) سواه، وهادٍ لمَن عرف معناه.

أقول: وقد روى سعد بن عبد الله رحمه الله في كتاب الدعاء، كيفيّة مشاورة الناس فقال ما هذا لفظه:

حسين بن علي، عن أحمد بن هلال، عن عثمان بن عيسى، عن إسحاق بن عمار قال: قال أبو عبد اللهّ (عليه السلام): (إذا أراد أحدكم أن يشتري أو يبيع أو يدخل في أمرٍ فليبدأ بالله ويسأله) قال، قلت: فما يقول؟ قال: (يقول: اللّهمّ إنّي أريد كذا وكذا، فإنْ كان خيراً لي في ديني ودنياي وآخرتي، وعاجل أمري وآجله فيسّره(٢) ، وإنْ كان شرّاً لي في ديني ودنياي فاصرفه عني، ربِّ اعزم لي على رشدي، وإن كرهَتْهُ وأبَتْهُ نفسي. ثم يستشير عشرةً من المؤمنين، فإن لم يقدر على عشرة ولم يصب إلاّ خمسة فليستشر خمسة مرّتين، فإن لم يُصب إلاّ رجلين، فليستشرهما خمس مرّات، فإنْ لم يُصب إلاّ رجلاً(٣) فليستشره عشر مرّات)(٤) .

____________________

(١) في (ش) زيادة: من.

(٢) في البحار ومستدرك الوسائل زيادة: لي.

(٣) في البحار والمستدرك زيادة: واحداً.

(٤) أورده الشهيد الأوّل في ذكرى الشيعة: ٢٥٢، وأخرجه المجلسي في البحار ٩١: ٢٥٢ / ٣، والنوري في مستدرك الوسائل ١: ٤٥٢ / ٥.

١٣٩

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364