الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ

الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ6%

الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ مؤلف:
تصنيف: الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام
الصفحات: 318

الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ
  • البداية
  • السابق
  • 318 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182989 / تحميل: 7608
الحجم الحجم الحجم
الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ

الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

٣ ـ الزهد :

أما زهد الإمام الباقرعليه‌السلام في الحياة الدنيا ، وتجرّده عن كل نزعة مادية أو ذاتية ، فتشير كل تفاصيل حياته أنّه كان أزهد أهل زمانه وأورعهم وأتقاهم.

يقول ابن حجر الهيتمي : وله من الرسوم في مقامات العارفين ، ما تكلّ عنه ألسنة الواصفين ، وله كلمات كثيرة في السلوك والمعارف لا تحتملها هذه العجالة(١) .

وقد أفرد الشيخ الصدوق ، كتاباً في زهده ، سمّاه كتاب زهد أبي جعفرعليه‌السلام (٢) .

وكانعليه‌السلام يحث أصحابه ويحدثهم بضرورة العمل بمقتضيات الزهد في الدنيا ، منها إخلاص الإيمان ، وإدامة الذّكر سيما ذكر الموت ، وقصر الأمل ، وغايته هدايتهم وتهذيب أخلاقهم ، قالعليه‌السلام : «لا زهد كقصر الأمل »(٣) .

وعن أبي عبيدة الحذاء ، قال : قلت لأبي جعفرعليه‌السلام : «حدثني بما أنتفع به. فقال : يا أبا عبيدة ، أكثر ذكر الموت ، فإنّه لم يكثر إنسان ذكر الموت إلاّ زهد في الدنيا »(٤) .

وقالعليه‌السلام : «ما أخلص العبد الإيمان باللّه عزّوجلّ أربعين يوماً إلاّ زهده اللّه عزّوجلّ في الدنيا ، وبصره داءها ودواءها ، فأثبت الحكمة في قلبه ،

__________________

(١) الصواعق المحرقة : ٣٠٤.

(٢) رجال النجاشي : ٣٨٩.

(٣) تحف العقول : ٢٨٦.

(٤) الكافي ٢ : ١٣١ / ١٣.

١٢١

وأنطق بها لسانه »(١) .

ومن خصائصهعليه‌السلام أنه كان ذا قلب محزون ، مشغول عما في الدنيا ، لم يحفل بمظاهر الحياة الفانية ونعيمها الزائل ، بل امتلأت آفاق قلبه بخالص دين اللّه ، واتجه بكلّ عواطفه إلى اللّه سبحانه ، ليس له همّة إلاّ لقاءه ، رغبة فيما أعدّه له في دار الخلود من الرضوان والنعيم والكرامة ، ويترجم الإمامعليه‌السلام ذلك خلال وصيته إلى تلميذه جابر الجعفي ، في ذم الدنيا وحث السالكين سبيل الهدى كي يسيروا في طريق المتّقين الصادقين في إدراك الآخرة والعمل لها ما وسعهم ذلك.

قال جابر : «خرجعليه‌السلام يوماً وهو يقول : أصبحت واللّه يا جابر محزوناً مشغول القلب. فقلت : جعلت فداك ، ما حزنك وشغل قلبك ، كل هذا على الدنيا؟ فقالعليه‌السلام : لا يا جابر ، ولكن حزن همّ الآخرة. يا جابر ، من دخل قلبه خالص حقيقة الإيمان شغل عما في الدنيا من زينتها ، إن زينة زهرة الدنيا ، إنّما هو لعب ولهو ، وإنّ الدار الآخرة لهي الحيوان. يا جابر ، إن المؤمن لا ينبغي له أن يركن ويطمئن إلى زهرة الحياة الدنيا.

واعلم أن أبناء الدنيا هم أهل غفلة وغرور وجهالة ، وأن أبناء الآخرة هم المؤمنون العاملون الزاهدون ، أهل العلم والفقه ، وأهل فكرة واعتبار واختيار ، لا يملون من ذكر اللّه.

واعلم يا جابر أن أهل التقوى هم الأغنياء ، أغناهم القليل من الدنيا ، فمؤونتهم يسيرة ، إن نسيت الخير ذكروك ، وإن عملت به أعانوك ، أخروا شهواتهم ولذاتهم خلفهم ، وقدموا طاعة ربهم أمامهم ، ونظروا إلى سبيل الخير ، وإلى ولاية أحباء اللّه ، فأحبوهم وتولوهم واتبعوهم. فانزل نفسك

__________________

(١) الكافي ٢ : ١٦ / ٦.

١٢٢

من الدنيا كمثل منزل نزلته ساعة ثم ارتحلت عنه ، أو كمثل مال استفدته في منامك ففرحت به وسررت ، ثم انتبهت من رقدتك وليس في يدك شيء.

وإني إنما ضربت لك مثلاً لتعقل وتعمل به إن وفقك اللّه له. فاحفظ يا جابر ما أستودعك من دين اللّه وحكمته ، وانصح لنفسك ، وانظر ما اللّه عندك في حياتك ، فكذلك يكون لك العهد عنده في مرجعك.

وانظر فإن تكن الدنيا عندك على غير ما وصفت لك فتحول عنها إلى دار المستعتب اليوم ، فلرب حريص على أمر من أمور الدنيا قد ناله ، فلما ناله كان عليه وبالاً وشقي به ، ولرب كاره لأمر من أمور الآخرة قد ناله فسعد به»(١) .

ومما جاء عن معالي أخلاقهعليه‌السلام وشدة ورعه أنه كان اذا ضحك قال : «اللهمّ لا تمقتني »(٢) .

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أنه إذا كان الإمامعليه‌السلام زاهداً ، فإنّما يستن بسنة جده المصطفى ، ويتبع منهاج آبائه الكرام: ، ولم يكن زهده بالمعنى الصوفي أو الرهباني ، الذي يعزله عن التمتع بزينة الحياة ، ويقطعه عن لقاء الناس ، بل هو إمام منفتح على الواقع بكل تفاصيله ، وله مرجعية واسعة ومهام

__________________

(١) تحف العقول : ٢٨٧ ، وروي نحوه فى كتاب ذم الدنيا / ابن أبي الدنيا : ١٢٩ ، تاريخ دمشق ٤٥ : ٢٨٠ ، سير أعلام النبلاء ٤ : ٤٠٥ ، حلية الأولياء ٣ : ١٨٢ ، مطالب السؤول : ٨٠ ، الفصول المهمة : ١٩٤ ، تذكرة الخواص : ٣٤٨ ، روض الرياحين / اليافعي : ٥٧ ، كشف الغمة ٢ : ٣٣٣.

(٢) حلية الأولياء ٣ : ١٨٥.

١٢٣

جسيمة ، على رأسها رفع منار العلم والنهوض بالواقع المعرفي للأمة ، فلا يمكن أن يحجر نفسه في خانة المتصوفة ، كما يدعي بعض المتصوفة(١) ، أو يتخذ من الزهد نظاماً يحكم حياته.

وهناك المزيد من الأخبار تدل على ما ذكرناه ، منها رواية الحكم بن عتيبة ، قال : «دخلت على أبي جعفرعليه‌السلام وهو في بيت منجد ، وعليه قميص رطب وملحفة مصبوغة ، قد أثر الصبغ على عاتقه ، فجعلت أنظر إلى البيت وأنظر إلى هيئته ، فقال : يا حكم ،ما تقول في هذا ؟ فقلت : وما عسيت أن أقول وأنا أراه عليك؟

وأما عندنا فانما يفعله الشاب المُرِهْقُ ، فقال لي :يا حكم «مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ »(٢) وهذا مما أخرج اللّه لعباده ، فأما هذا البيت الذي ترى فهو بيت المرأة ، وأنا قريب العهد بالعرس ، وبيتي البيت الذي تعرف »(٣) .

وعن الحسن الزيات ، قال : «دخلت على أبي جعفر عليه‌السلام في بيت منجد ، ثم عدت إليه من الغد وهو في بيت ليس فيه إلاّ حصير ، وعليه قميص غليظ ، فقال : البيت الذي رأيته ليس بيتي ، انما هو بيت المرأة ، وكان أمس يومها »(٤) .

وروي أنهعليه‌السلام كان يتأنق بملبسه ، قال زرارة : «رأيت على أبي جعفر عليه‌السلام

__________________

(١) راجع : الإمامة وأهل البيت / محمد بيومي مهران ٣ : ٦٧.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٣٢.

(٣) الكافي ٦ : ٤٤٦ / ١.

(٤) الكافي ٦ : ٤٧٧ / ٥ و ٤٤٨ / ١٣.

١٢٤

ثوباً معصفراً ، فقال :إني تزوجت امرأة من قريش »(١) .

وعن جراح المدائني ، عن أبي جعفرعليه‌السلام ، قال :«إنا نلبس المعصفرات والمضرجات »(٢) .

وعن أبي الجارود ، قال : كان أبو جعفرعليه‌السلام «يلبس المعصفر والمنيّر»(٣) .

٤ ـ الكرم :

البذل والعطاء والجود خصال بارزة في سيرة أئمتنا المعصومين: ، وكان الإمام أبو جعفرعليه‌السلام من أندى الناس كفاً ، وأسمحهم يداً ، لايردّ سائلاً ، ولا يخيب مؤملاً. قال الشيخ المفيد : وكان ـ مع ما وصفناه به من الفضل في العلم والسؤدد والرئاسة والإمامة ـ ظاهر الجود في الخاصة والعامة ، مشهور الكرم في الكافة ، معروفاً بالفضل والاحسان مع كثرة عياله وتوسط حاله(٤) .

ولم يكنعليه‌السلام يمارس الإحسان والجود وحسب ، بل كان يدعو كثيراً إلى العطاء ويمتدح أهل المعروف ، ويبين فضلهم في الدنيا والآخرة ، وكأنه يريد أن يجعله منهجا وسلوكاً للسائرين في طريقه ، فمن كلامهعليه‌السلام في هذا الاتجاه : «إن من أحب عباد اللّه إلى اللّه ، لمن حبب إليه المعروف ، وحبب إليه فعاله »(٥) .

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٤٧ / ٣.

(٢) الكافي ٦ : ٤٤٧ / ٦.

(٣) الكافي ٦ : ٤٤٧ / ٨.

(٤) الارشاد ٢ : ١٦٦.

(٥) الكافي ٤ : ٢٥ / ٣.

١٢٥

وقيل لهعليه‌السلام : أتعرف شيئاً خيراً من الذهب؟ قال : «نعم ، معطيه »(١) .

وقالعليه‌السلام : «إن اللّه جعل للمعروف أهلا من خلقه ، حبب إليهم المعروف وحبب إليهم فعاله ، ووجه لطلاب المعروف الطلب إليهم ، ويسر لهم قضاءه ، كما يسر الغيث للأرض المجدبة ليحييها ويحيي أهلها ، وان اللّه جعل للمعروف أعداء من خلقه بغّض إليهم المعروف ، وبغض إليهم فعاله ، وحظر على طلاب المعروف التوجه إليهم ، وحظر عليهم قضاءه ، كما يحظر الغيث عن الأرض المجدبة ليهلكها ويهلك أهلها ، وما يعفو اللّه عنه أكثر »(٢) .

وعن جابر الجعفي ، قال : «دخل رجل على أبي جعفر الباقرعليه‌السلام ، فقال له : عافاك اللّه ، اقبض مني هذه الخمس مئة درهم ، فإنها زكاة مالي. فقال له أبوجعفرعليه‌السلام :خذها أنت فضعها في جيرانك من أهل الإسلام والمساكين من إخوانك المسلمين »(٣) .

ويرتفع الإمام الباقرعليه‌السلام بالتكافل إلى مقام العبادة ، بل ويضاهي بعض العبادات ويفوقها ثوابا ، وهو مثل رائع في تنمية روح التضامن والتكافل في مجتمع يسوده التفاوت الطبقي بسبب ظروف المقاطعة ، واحتكار بيت المال في دائرة البلاط الضيقة ، التي تمارس قطع الأرزاق كعقوبة لمخالفيها في الرأي.

قالعليه‌السلام : «واللّه لأن أحج حجة أحب إليَّ من أن أعتق رقبة ورقبة ورقبة ومثلها ومثلها حتى بلغ عشراً ،ومثلها ومثلها حتى بلغ السبعين ،ولأن أعول أهل بيت من المسلمين أسدّ جوعتهم ، وأكسو عورتهم ، وأكف وجوههم

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٢٠.

(٢) تحف العقول : ٢٩٥.

(٣) الغيبة / النعماني : ٢٤٢.

١٢٦

عن الناس ، أحب إليَّ من أن أحج حجة وحجة وحجة ومثلها ومثلها حتى بلغ عشراً ،ومثلها ومثلها حتى بلغ السبعين»(١) .

وفي هذا الصدد ، كانعليه‌السلام يسعى إلى تربية شيعته وأتباعه من المؤمنين على أرقى نماذج التعامل الإسلامي فيما بينهم ، فيضرب لهم مثلاً أعلى في التكافل والتضامن ، لأجل التخفيف عن كاهل الأمة التي يرهقها الظلم والجور الذي تصبّه السياسة الأموية على قطاعات واسعة من جماهير الأمة ، سيما أتباع أهل البيت: .

عن الوصافي ، قال : «كنا عند أبي جعفر محمد بن علي يوماً ، فقال لنا :أيدخل أحدكم يده في كم أخيه ـ أو قال في كيسه ـ فيأخذ حاجته؟ قال : قلنا : لا. قال :فلستم أذن باخوان كما تزعمون . وفي رواية :أنتم أخدان ، ولستم باخوان »(٢) .

وفي رواية الكافي ، فقال أبو جعفرعليه‌السلام : «فلا شيء اذا ، قلت : فالهلاك اذا؟ وقال :إنّ القوم لم يعطوا أحلامهم بعد »(٣) . وعن الحجاج بن أرطاة حين سألهعليه‌السلام : أيدخل أحدكم يده في كم أخيه ...قلت : أما هذا فلا. فقال : «أما لو فعلتم ما احتجتم »(٤) .

ولا ريب أن الإمامعليه‌السلام يريد بهذا البيان أن يربي أصحابه على المواساة في

__________________

(١) الكافي ٢ : ١٩٥ / ١١ ، و ٤ : ٢ / ٣ ، ثواب الأعمال : ١٤١.

(٢) تاريخ دمشق ٤٥ : ٢٩٣ ، الصداقة والصديق / أبو حيان التوحيدي : ٢٧ كشف الغمة ٢ : ٣٣٠ و ٣٦١ ، البداية والنهاية ٩ : ٣٤٠ ، حلية الأولياء : ٣ : ١٨٧.

(٣) الكافي ٢ : ١٨١ / ١٣.

(٤) كشف الغمة ٢ : ٣٣٣.

١٢٧

المال ، وهي أرفع المكارم وأعلى المقامات ، وفي الوقت نفسه أشدّ الأعمال على الإنسان الذي جبل على حبّ المال وانشدّ إلى عالمه المادي ، إلاّ أولئك الذين بلغوا درجات من الكمال والإيمان تؤهلهم للزهد بالمال وعدم الاكتراث به.

روي عن أبي جعفرعليه‌السلام أنه قال : «أشد الأعمال ثلاثة : ذكر اللّه على كل حال ، وإنصافك الناس من نفسك ، ومواساة الإخوان في المال »(١) .

وعلى الصعيد العملي كان من سجايا الإمام الباقرعليه‌السلام صلة الإخوان وإدخال السرور عليهم ، والإحسان والبذل والتصدق على ذوي الفاقة ، قال الشيخ المفيد : «كان لا يملّ من صلة إخوانه وقاصديه ومؤمليه وراجيه»(٢) .

ولعل القيمة الموضوعية لبِرِّ الإمامعليه‌السلام وصدقاته الجارية تكون أكثر وقعاً إذا عرفنا أنهعليه‌السلام كان متوسط الحال كثير العيال ، ولم يكن من ذوي الثروة والمال.

عن أبي عبد اللّهعليه‌السلام ، قال : «كان أبي عليه‌السلام أقلّ أهل بيته مالاً ، وأعظمهم مؤنة ، قال : وكان يتصدق كل جمعة بدينار ، وكان يقول : الصدقة يوم الجمعة تضاعف لفضل الجمعة على غيره من الأيام »(٣) .

وعن الصادق : أن أباهعليهما‌السلام تصدق على فقراء أهل المدينة بثمانية آلاف دينار(٤) .

وحكت سلمى مولاة أبي جعفرعليه‌السلام أنه كان يدخل عليه بعض إخوانه ،

__________________

(١) كشف الغمة ٢ : ٣٤٤ ، حلية الأولياء ٣ : ١٨٣.

(٢) الارشاد ٢ : ١٦٧.

(٣) ثواب الأعمال : ١٨٥.

(٤) فلاح السائل / ابن طاوس : ١٧٦.

١٢٨

فلا يخرجون من عنده حتى يطعمهم الطيب ، ويكسوهم الثياب الحسنة في بعض الأحيان ، ويهب لهم الدراهم ، فكنت أكلمه في ذلك ، لكثرة عياله وتوسط حاله ، فيقول : «يا سلمى ، ما حسنة الدنيا إلاّ صلة الإخوان والمعارف . وكان يصل بالخمس مئة درهم ، وبالست مئة ، وبالألف درهم»(١) .

وعن سليمان بن قرم ، قال : كان أبو جعفر محمد بن عليعليهما‌السلام يجيزنا بالخمس مئة درهم ، إلى الست مئة ، إلى الألف درهم(٢) .

وعن عمرو بن دينار وعبد اللّه بن عبيد ، أنهما قالا : «ما لقينا أبا جعفر محمد ابن عليعليهما‌السلام إلاّ وحمل إلينا النفقة والصلة والكسوة ، ويقول : هذه معدّة لكم قبل أن تلقوني»(٣) .

وقال الحسن بن كثير : «شكوت إلى أبي جعفرعليه‌السلام جور الزمان وجفاء الإخوان ، فقال :بئس الأخ أخ يرعاك غنياً ويجفوك فقيراً . ثم أمر غلامه فأخرج كيساً فيه سبع مئة درهم ، فقال :استعن بهذه على الوقت ، فإذا فرغت فأعلمني »(٤) .

وثمة موقف تربوي في العطاء والبذل يسجله الإمام الباقرعليه‌السلام ، في حفظ كرامة السائل وحرمته في داره ، وعدم الحط من شأن الفقراء ، قال الجاحظ :

__________________

(١) الفصول المهمة : ١٩٧ ، نور الأبصار : ١٩٤ ، تذكرة الخواص : ٣٥٠ ، كشف الغمة ٢ : ٣٣٠ و ٣٣٢.

(٢) الارشاد ٢ : ١٦٧ ، روضة الواعظين : ٢٠٤ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٧.

(٣) الارشاد ٢ : ١٦٦ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٧.

(٤) الفصول المهمة : ١٩٧ ، المختار في مناقب الأخيار : ٣٠ ، روضة الواعظين : ٢٠٤ ، الارشاد ٢ : ١٦٦ ، كشف الغمة ٢ : ٣٣٠ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٧.

١٢٩

وكان محمد بن علي الباقر اذا رأى مبتلى أخفى الاستعاذة ، وكان لا يسمع من داره للسائل : بورك فيك ، ولا ياسائل خذ هذا ، وكان يقول :سمّوهم بأحسن أسمائهم »(١) .

وفي هذا الاتجاه يقولعليه‌السلام : «اعلم أن طالب الحاجة لم يكرم وجهه عن مسألتك ، فأكرم وجهك عن رده »(٢) .

ويتسع العطاء لديهعليه‌السلام ليشمل الرفق بسائر المخلوقات ، يقولعليه‌السلام : «من سقى كبدا حرى من بهيمة أو غيرها أظلّه اللّه يوم لا ظل إلاّ ظلّه »(٣) .

عتق المماليك :

كان الرقّ ظاهرة متفشية في الوسط الاجتماعي آنداك ، وكان يُنظر إلى العبيد نظرة ازدراء واحتقار ، وبحكم النظام الاجتماعي القائم ، أصبح العبيد محكومين من قبل ساداتهم لايستطيعون التمرّد عليهم ، وجاء الإسلام لتحرير الإنسان من براثن العبودية والرق ، واستئصال تلك الظاهرة ولو بالتدريج ، فشجع على البذل والعطاء في سبيل عتق الرقاب ، ومارس الرسول وأهل البيت: ذلك ممارسة عملية ، فتبوأ المماليك بفضل ذلك مراكز اجتماعية مهمة في أوساط المجتمع الإسلامي ، وكان آخر وصايا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصلاة وبهذه الشريحة الاجتماعية المهمة ، حيث قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللّه اللّه في صلاتكم ، وما ملكت أيمانكم ».

وقال : «ألبسوهم مما تلبسون ، وأطعموهم مما تأكلون ».

__________________

(١) البيان والتبيين ٣ : ١٥٧.

(٢) تحف العقول : ٢٩٩.

(٣) الكافي ٤ : ٥٨ / ٦.

١٣٠

وقد جسّد الإمام الباقرعليه‌السلام إيمانه بكرامة الإنسان وسعيه إلى تحريره ، من خلال عتق العبيد والمماليك ، وبذله المزيد من العطاء في هذا السبيل ، امتداداً لعمل آبائه الكرام: ، واقتداءً بأحد خصال أبيه السجادعليه‌السلام الذي تعامل مع تلك الظاهرة من موقع المسؤولية ، فاتّبع فلسفة خاصة في تحرير العبيد ، وتعامل معهم كبشر لا يميّزهم شيء عن سواهم في تطلعاتهم وآمالهم ، وسعى إلى تربيتهم وزرع القيم الرسالية في نفوسهم.

نعم ، كان الإمام الباقرعليه‌السلام قد تعامل مع تلك الظاهرة على خطى آبائه المعصومين: ، فحث وعمل على شراء المماليك وعتقهم لوجه اللّه ، وتعامل معهم بلطف الأخ الكبير وشفافية الأب الحنون والصديق الحميم ، وكان يجالسهم ويؤدب شرارهم ، ويعمل معهم يداً بيد ، ليزرع فيهم الثقة والاعتزاز بالنفس وبالدين.

روى أبو حمزة الثمالي ، عن أبي جعفر الباقر محمد بن عليعليهما‌السلام ، أنه قال في حديث : «أربع من كن فيه من المؤمنين ، أسكنه اللّه في أعلى عليين ، في غرف فوق غرف ، في محل الشرف . إلى أن قال :ومن لم يخرق بمملوكه ، وأعانه على ما يكلفه ، ولم يستسعه فيما لا يطيق »(١) .

ولم يكن ذلك شعاراً يطلقه الإمامعليه‌السلام وحسب ، بل كان يمارس العمل مع مماليكه فيما لا يطيقون ، عن داود بن فرقد ، قال : «سمعت أبا عبد اللّهعليه‌السلام يقول :في كتاب رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا استعملتم ما ملكت أيمانكم في شيء يشقّ عليهم ، فاعملوا معهم فيه. قال عليه‌السلام : كان أبي يأمرهم ، فيقول : كما أنتم ، فيأتي فينظر فإن كان ثقيلاً قال : بسم اللّه ، ثم عمل معهم ، وإن كان خفيفاً

__________________

(١) أمالي المفيد : ١٦٦.

١٣١

تنحّى عنهم »(١) .

وكان الإمام الباقرعليه‌السلام يكتب لبعضهم عهداً بالحرية بخط يده ويختمه بخاتمه ، منها العهد الذي كتبه لعبد اللّه بن المبارك قبل موته بسنة واحدة ، وكان عبد اللّه من سبي الحروب ، فأتى أبا جعفرعليه‌السلام فقال : «إني رويت عن آبائك: أن كل فتح بضلال فهو للإمام. فقال : نعم. قلت : جعلت فداك ، فإنهم أتوا بي من بعض فتوح الضلال ، وقد تخلصت ممن ملكوني بسبب ، وقد أتيتك مسترقاً مستعبداً. قالعليه‌السلام : قد قبلت. فلما كان وقت خروجه إلى مكة ، قال : مذ حججت فتزوجت ومكسبي مما يعطف علي إخواني ، لا شيء لي غيره ، فمرني بأمرك.

فقالعليه‌السلام :انصرف إلى بلادك ، وأنت من حجك وتزويجك وكسبك في حلّ.

ثم أتاه بعد ست سنين ، وذكر له العبودية التي ألزمها نفسه. فقال : أنت حرّ لوجه اللّه تعالى. فقال : اكتب لي به عهداً ، فخرج كتابهعليه‌السلام :

بسم اللّه الرحمن الرحيم

هذا كتاب محمد بن علي الهاشمي العلوي لعبد اللّه بن المبارك فتاه ، إنّي أعتقك لوجه اللّه والدار الآخرة ، لا رب لك إلاّ اللّه ، وليس عليك سيد ، وأنت مولاي ومولى عقبي من بعدي ، وكتب في المحرم سنة ثلاث عشرة ومائة ، ووقع فيه محمد بن علي بخط يده وختمه بخاتمه»(٢) .

وعن محمد بن مروان ، عن أبي عبد اللّهعليه‌السلام : أن أبا جعفرعليه‌السلام مات وترك

__________________

(١) كتاب الزهد / الحسين بن سعيد : ٤٤ / ١١٧.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٨.

١٣٢

ستين مملوكاً ، فأعتق ثلثهم عند موته ، فأقرعت بينهم وأخرجت الثلث(١) .

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام ، قال : «دخلت على أبي يوماً وقد تصدق على فقراء أهل المدينة بثمانية آلاف دينار ، وأعتق أهل بيت بلغوا أحد عشر»(٢) .

٥ ـ التواضع :

التواضع من الخصال الحميدة التي حظيت بقراءة واقعية من قبل الإمام الباقرعليه‌السلام ، فأكّد أنه على المرء أن يرتقي على العجب ويتغلب على صفة الكبر في نفسه بالسلام والرضا بأدنى المجلس ، وعدم المراء حتى في الحق ، وعدم مجالسة الأغنياء.

قالعليه‌السلام : «التواضع الرضا بالمجلس دون شرفه ، وأن تسلم على من لقيت ، وأن تترك المراء وإن كنت محقاً »(٣) .

وقالعليه‌السلام لرجل : «يا فلان ، لا تجالس الأغنياء ، فإنّ العبد يجالسهم وهو يرى أن للّه عليه نعمة ، فما يقوم حتى يرى أن ليس للّه عليه نعمة »(٤) .

وكانعليه‌السلام يرى أن الكبر يتناسب عكسياً مع المعرفة ، فكلما علم الإنسان عاقبته وما يؤول إليه مصيره ، زهد في الدنيا وتواضع لأبناء جنسه ، وحيثما يكون فارغاً من تلك المعرفة اغترّ بدنياه وزها بنفسه ، وكما يقال : إن السنابل الملآى تميل تواضعاً ، والفارغة تشمخ برأسها ، فالعجب علامة الجهل ، والتواضع دليل المعرفة ، جاء في وصيتهعليه‌السلام لجابر الجعفي : «سدّ سبيل العجب

__________________

(١) المحاسن ٢ : ٦٢٤ / ٨١ ، الكافي ٧ : ١٨ / ١١.

(٢) فلاح السائل : ١٧٦.

(٣) تحف العقول : ٢٩٦.

(٤) أمالي الصدوق : ٣٢٦ / ٣١٨.

١٣٣

بمعرفة النفس »(١) . وقالعليه‌السلام : «ما دخل قلب أحد شيء من الكبر ، إلاّ نقص من عقله مثل ما دخله من ذلك ، قلّ ذلك أو كثر »(٢) .

وبيّن أن التكبر صفة مذمومة للعبد ، لأنها تعني تقمص صفة الرب تعالى ، قالعليه‌السلام : «المتكبر ينازع اللّه رداءه»(٣) .

وعلى صعيد السيرة العملية للإمام الباقرعليه‌السلام ، فإن التواضع صفة بارزة في حياته ، فهو يجتهد نفسه بالعمل لكسب عيشه ، لا يصده عنه كبر السن ، ولا شدّة الحرّ ، ويعدّ ذلك طاعة من طاعات اللّه يكف بها نفسه عن سائر الناس.

عن أبي عبد اللّه جعفر بن محمدعليهما‌السلام ، قال : «إن محمد بن المنكدر كان يقول : ما كنت أرى أن مثل علي بن الحسين يدع خلفاً ـ لفضل علي بن الحسين عليهما‌السلام ـ حتى رأيت ابنه محمد بن علي ، فأردت أن أعظه فوعظني. فقال له أصحابه : بأي شيء وعظك؟ قال : خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة ، فلقيت محمد بن علي ، وكان رجلاً بديناً ، وهو متكئ على غلامين له أسودين ، فقلت في نفسي : شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا! أشهد لأعظنه؟ فدنوت منه فسلمت عليه ،

__________________

(١) تحف العقول : ٢٨٤.

(٢) كشف الغمة ٢ : ٣٤٤ و ٣٦٠ ، حلية الأولياء ٣ : ١٨٠ ، مطالب السؤول : ٨٠ ، الفصول المهمة : ١٩٥ ، نور الأبصار : ١٩٥ ، تذكرة الخواص : ٣٤٨ ، سير أعلام النبلاء ٤ : ٤٠٨.

(٣) تحف العقول : ٢٩٢.

١٣٤

فسلم علي ببُهر (١) وقد تصبب عرقاً.

فقلت : أصلحك اللّه ، شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على مثل هذه الحال في طلب الدنيا! لو جاءك الموت وأنت على هذه الحال؟! قال : فخلى عن الغلامين من يده ، ثم تساند ، وقال : لو جاءني واللّه الموت وأنا في هذه الحال ، جاءني وأنا في طاعة من طاعات اللّه ، أكفّ بها نفسي عنك وعن الناس ، وانما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا على معصية من معاصي اللّه. فقلت : يرحمك اللّه ، أردت أن أعظك فوعظتني »(٢) .

وكانعليه‌السلام في مركبه مثالاً للتواضع ، فلا يمتطي الخيل الفارهة ، بل يفضل الحمار على البغل ، ويحمد اللّه الذي سخّره حين يستوي عليه ، عن عبد اللّه بن عطاء ، قال : «قال لي أبو جعفرعليه‌السلام :قم فأسرج دابتين حماراً وبغلاً ، فأسرجت حماراً وبغلاً ، فقدمت إليه البغل ، ورأيت أنه أحبهما إليه ، فقال :من أمرك أن تقدم إلي هذا البغل ؟ قلت : اخترته لك. قال :وأمرتك أنت تختار لي ؟! ثم قال : إنّ أحبّ المطايا إلي الحمر. قال : فقدمت إليه الحمار ، وأمسكت له بالركاب فركب ، فقال :الحمد للّه الذي هدانا بالإسلام ، وعلمنا القرآن ، ومنّ علينا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والحمد للّه الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ، وإنا إلى ربنا لمنقلبون ، والحمد للّه رب العالمين »(٣) .

وكان يؤثر أصحابه بالركوب ، ويفضل أن يمشي على قدميه ، قال السيد

__________________

(١) البُهر : تتابع النفس.

(٢) الارشاد ٢ : ١٦١ ، الفصول المهمة : ١٩٥ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٢ ، شرح الأخبار ٣ : ٢٨٢ ، اعلام الورى ١ : ٥٠٧.

(٣) المحاسن ٢ : ٣٢٥ / ٤١ ، الكافي ٨ : ٢٧٦ / ٤١٧.

١٣٥

المرتضى : «روى أن رجلاً نظر إلى كثير الشاعر وهو راكب ، وأبو جعفر محمد بن عليعليهما‌السلام يمشى ، فقيل له : أتركب وأبو جعفر يمشي؟! فقال : هو أمرني بذلك ، وأنا بطاعته في الركوب ، أفضل مني في عصياني إياه بالمشي»(١) .

وفي مأكله كان في غاية التواضع والبساطة ، فيكتفي بالخل والزيت أوالجبن وحده ، عن بزيع ، قال : «دخلت على أبي جعفرعليه‌السلام وهو يأكل خلاً وزيتاً في قصعة سوداء ، مكتوب في وسطها بصفرة :قل هو اللّه أحد . فقال لي :اُدن يا بزيع ، فدنوت فأكلت معه ، ثم حسا من الماء ثلاث حسيات حين لم يبق من الخبز شيء ، ثم ناولني فحسوت البقية»(٢) .

وعن عبد اللّه بن سليمان ، قال : «سألت أبا جعفرعليه‌السلام عن الجبن ، فقال :لقد سألتني عن طعام يعجبني ، ثم أعطى الغلام درهماً ، فقال :يا غلام ابتع لنا جبناً . ودعا بالغداء فتغدينا معه ، وأتى بالجبن فأكل وأكلنا»(٣) .

٦ ـ الصبر والحلم :

دعا الإمام الباقرعليه‌السلام إلى إعداد النفس للارتقاء إلى أفضل الكمال المتمثل بجملة تعاليم منها الصبر على النائبة ، قالعليه‌السلام : «الكمال كل الكمال التفقه في الدين ، والصبر على النائبة ، وتقدير المعيشة »(٤) .

والصبر إضافة إلى كونه من الكمالات ، ومن مصاديق الحلم ، فهو من الفضائل التي قد تؤدي بصاحبها إلى الجنة ، إذا صبر على مصائب الدنيا وعما

__________________

(١) أمالي المرتضى ١ : ٢٠٤.

(٢) المحاسن ٢ : ٤٤٠ / ٣٠٠ ، الكافي ٦ : ٢٩٨ / ١٤.

(٣) الكافي ٦ : ٣٣٩ / ١.

(٤) تحف العقول : ٢٩٢.

١٣٦

حرم اللّه من الشهوات واللذات ، قالعليه‌السلام : «الجنة محفوفة بالمكاره والصبر ، فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنة ، وجهنم محفوفة باللذات والشهوات ، فمن أعطى نفسه لذتها وشهوتها دخل النار »(١) .

وبيّن الإمام الباقرعليه‌السلام مصداق الصبر الجميل ، وهو اجتناب الشكوى إلى الناس ، عن جابر الجعفي ، قال : «قلت لأبي جعفر : يرحمك اللّه ، ما الصبر الجميل؟ قال :ذلك الصبر الذي ليس فيه شكوى إلى الناس »(٢) .

ويدخل في هذا الإطار الصبر في حال الفاقة والحاجة ، بل وحتى في الغنى الذي قد يؤدي بالإنسان إلى العتوّ والطغيان ، وقد عبر عنه الإمامعليه‌السلام بمروءة الصبر ، لأنه دليل الثقة باللّه ، ولذلك فهو أعلى مرتبة من مروءة الاعطاء.

قالعليه‌السلام : «سخاء المرء عما في أيدي الناس أكثر من سخاء النفس والبذل ، ومروءة الصبر في حال الفاقة والحاجة والتعفف والغنى أكثر من مروءة الاعطاء ، وخير المال الثقة باللّه ، واليأس مما في أيدي الناس »(٣) .

والصبر صفة بارزة في سيرة الإمام الباقرعليه‌السلام العملية ، مثلما في سيرته القولية ، لأن قوله فعل وممارسة وتجسيد على أرض الواقع بمصاديق عملية واضحة ، فكانعليه‌السلام نموذج الصابر المتوكل على اللّه ، الذي ارتفع إلى حقيقة اليقين المتمثل بالصبر عند البلاء ، والشكر عند الرخاء ، والرضا بالقضاء.

روي أنه كان قوم أتوا أبا جعفرعليه‌السلام ، فوافقوا صبياً له مريضاً ، فرأوا منه اهتماماً وغماً ، وجعل لا يقر ، فقالوا : واللّه لئن أصابه شيء ، إنا لنتخوف أن نرى

__________________

(١) الكافي ٢ : ٨٩ / ٧.

(٢) الكافي ٢ : ٩٣ / ٢٣.

(٣) التهذيب ٦ : ١٨٧ / ١١٥٣.

١٣٧

منه ما نكره. قال : فما لبثوا أن سمعوا الصياح عليه ، فإذا هو قد خرج عليهم منبسط الوجه في غير الحال التي كان عليها ، فقالوا له : جعلنا اللّه فداك ، لقد كنا نخاف مما نرى منك ، أن لو وقع أن نرى منك ما يغمنا. فقال لهم : «إنا لنحب أن نعافى فيمن نحب ، فإذا جاء أمر اللّه سلمنا فيما يحب »(١) .

وفي رواية سفيان بن عيينة أنه قال : «ندعو اللّه تبارك وتعالى فيما نحب ، فإذا وقع ما نكره لم نخالف اللّه فيما أحب »(٢) .

وعن زرارة ، قال : «فلما قضى الغلام ، أمر به فغمض عيناه وشد لحياه ، ثم قال لنا :إن نجزع ما لم ينزل أمر اللّه ، فإذا نزل أمر اللّه ، فليس لنا إلاّ التسليم ، ثم دعا بدهن فادّهن واكتحل ، ودعا بطعام فأكل هو ومن معه ، ثم قال :هذا هو الصبر الجميل ، ثم أمر به فغسل ، ثم لبس جبة خز ومطرف خز وعمامة خز ، وخرج فصلى عليه»(٣) .

وحثّ الإمامعليه‌السلام على الحلم وسعة الصدر ، وأكد على ضرورة اقتران الحلم بالعلم ، إذ الحلم لباس العالم ، فيصبر حيثما يقتضي الامر حلماً ، أما الجاهل فلباسه التهور والجزع ، مما يوقعه في أخطاء وخيمة.

جاء في رسالة الإمام الباقرعليه‌السلام إلى سعد الخير : «وليس الحليم الذي لا يتقي أحداً في مكان التقوى ، والحلم لباس العالم ، فلا تعرين منه »(٤) .

__________________

(١) الكافى ٣ : ٢٢٦ / ١٤.

(٢) تاريخ دمشق ٤٥ : ٢٩٤ ، سير أعلام النبلاء ٤ : ٤٠٧ ، كشف الغمة ٢ : ٣٦٣ ، حلية الأولياء ٣ : ١٨٧.

(٣) التهذيب ٦ : ١٨٧ / ١١٥٣.

(٤) الكافي ٨ : ٥٣ / ١٦.

١٣٨

وقالعليه‌السلام : «ما شيب شيء بشيء ، أحسن من حلم بعلم »(١) .

وجاء في سيرته العملية المزيد من المواقف التي صبر فيها على كيد الأعداء ، وسكت عن الجهال ، وصفح عن المسيئين ، وغضّ الطرف عن الهفوات ، ووسعها بعفوه وصبره وسعة صدره.

ومن ذلك موقفه من الناصبي الذي واجهه بكلمات قبيحة ، رواه محمد بن سليمان ، عن أبيه ، قال : «كان رجل من أهل الشام يختلف إلى مجلس أبي جعفرعليه‌السلام ، ويقول له : يا محمد ، ألا ترى إني إنما أغشى مجلسك حياءً مني لك ، ولا أقول : إن في الأرض أحداً أبغض إلي منكم أهل البيت ، وأعلم أن طاعة اللّه وطاعة رسوله وطاعة أمير المؤمنين في بغضكم ، ولكن أراك رجلاً فصيحاً ، لك أدب وحسن لفظ ، وإنما الاختلاف إليك لحسن أدبك ، وكان أبو جعفرعليه‌السلام يقول له خيراً ، ويقول :لن تخفى على اللّه خافية وصار بعد ذلك من أصحاب أبي جعفرعليه‌السلام »(٢) .

ومنه موقفه من النصراني الذي أراد استفزازه بكثرة الأسئلة ، وأجاب عنها الإمام بردّ جميل وموعظة حسنة ، قال له النصراني : «أنت ابن السوادء الزنجية البذية ، فقال له الإمامعليه‌السلام :إن كنت صدقت غفر اللّه لها ، وإن كنت كذبت غفر اللّه لك . ولم يزد عليها ، فأسلم النصراني»(٣) .

٧ ـ الهيبة والوقار :

تجلّت في شخصية الإمام الباقرعليه‌السلام سمات أولياء اللّه وأحبائه الذين أضفى

__________________

(١) شرح الأخبار٣ : ٢٨٣ ، الارشاد ٢ : ١٦٨ ، تحف العقول : ٢٩٢.

(٢) الأمالي / الطوسي : ٤١٠ / ٩٢٣ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٢٠.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٧.

١٣٩

عليهم العزة والوقار والهيبة في الدنيا ، والظفر في الآخرة ، قالعليه‌السلام : «إن اللّه عزّوجلّ أعطى المؤمن ثلاث خصال : العزة في الدنيا ، والفلح في الآخرة ، والمهابة في صدور الظالمين ، ثم قرأ : «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُوءْمِنِينَ »(١) (٢) .

وقد ابتعد الإمامعليه‌السلام عن كل ما ينافي الوقار وسمو الشخصية ومعالي الأخلاق ، فروي أنه كان إذا ضحك قال : «اللهم لا تمقتني »(٣) .

من هنا كان كل من التقى الإمامعليه‌السلام ، قد بدت له مظاهر العظمة والإجلال وملامح الهيبة والوقار ، عظمة المكارم التي يحملها ، وهيبة الملكات القدسية التي اجتمعت في شخصهعليه‌السلام ، ومنهم الصحابي الجليل جابر بن عبد اللّه الأنصاري.

قال جابر بن يزيد الجعفي : « دخل جابر بن عبد اللّه الأنصاري على علي بن الحسينعليهما‌السلام ، فبينا يحدّثه إذ خرج محمد بن علي الباقرعليه‌السلام من عند نسائه ، وعلى رأسه ذؤابة ، وهو غلام ، فلما بصر به جابر ارتعدت فرائصه ، وقامت كل شعرة على جسده ، ونظر إليه ملياً ، ثم قال له : يا غلام أقبل. فأقبل ، ثم قال له : أدبر فأدبر »(٤) .

وقال أبو حمزة الثمالي : «لما كانت السنة التي حج فيها أبو جعفر محمد بن عليعليهما‌السلام ، ولقيه هشام بن عبد الملك ، أقبل الناس ينثالون عليه ، فقال عكرمة :

__________________

(١) سورة المنافقون : ٦٣ / ٨.

(٢) كشف الغمة ٢ : ٣٦٣.

(٣ حلية الأولياء ٣ : ١٨٥.

(٤) كفاية الأثر : ٥٥.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318