الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ

الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ6%

الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ مؤلف:
تصنيف: الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام
الصفحات: 318

الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ
  • البداية
  • السابق
  • 318 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182986 / تحميل: 7608
الحجم الحجم الحجم
الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ

الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

عطاء ، قال : قلت لأبي جعفر الباقرعليه‌السلام : «رجلان من أهل الكوفة أخذا ، فقيل لأحدهما : ابرأ من أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فبرئ واحد منهما ، وأبى الآخر ، فخُلّي سبيل الذي برئ ، وقُتل الآخر؟ فقالعليه‌السلام :أما الذي برئ فرجل فقيه في دينه ، وأما الذي لم يبرأ فرجل تعجّل إلى الجنّة »(١) .

وضيّق الوليد بن عبد الملك على الشيعة في العراق ، فهربوا إلى نواحي مكة والمدينة من قمع الحجّاج ، فعزل الوليد عمر بن عبد العزيز من المدينة ، وأبدله بالجلاّد عثمان بن حيّان ، الذي فرض عليهم الحصار ، وأخذ عليهم الطرق ، حيث ارتقى المنبر فقال : واللّه ما جربت عراقياً قط إلاّ وجدت أفضلهم عند نفسه الذي يقول في آل أبي طالب ما يقول وإنّي واللّه لا أوتى بأحد آوى أحداً منهم ، أو أكراه منزلاً ، أو أنزله ، إلاّ هدمت منزله ، وأنزلت به ما هو أهله(٢) . فكان يلقي القبض على من تمكّن منهم ، ويعاقبهم ويحبسهم ، ثم يبعث بهم إلى الحجّاج في العراق.

وروي عن الإمام الباقرعليه‌السلام أن يحيى بن أم الطويل ـ وهو من أصحابه ـ طلبه الحجّاج ، فقال : تلعن أبا تراب ، وأمر بقطع يديه ورجليه وقتله ، وأما أبو خالد الكابلي فهرب إلى مكّة ، وأخفى نفسه فنجا(٣) .

وقطع يوسف بن عمر بنفسه يد سليمان بن خالد بن دهقان ، أبو الربيع الأقطع ، لخروجه مع زيد ، وكان قارئاً فقيهاً وجهاً(٤) .

__________________

(١) الكافي ٢ : ١٧٥ / ٢١.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٢٥٩.

(٣) معجم رجال الحديث / الإمام الخوئي ١٢ : ٣٧.

(٤) رجال النجاشي : ١٨٣.

٢١

وكتب هشام بن الحكم إلى خالد بن عبد اللّه القسري يقسم عليه أن يقطع لسان الكميت ويده ، لقصيدة رثى بها زيد بن عليعليه‌السلام وابنه ومدح بني هاشم. فلم يشعر الكميت إلاّ والخيل محدقة بداره ، فأُخذ وحبس في المحبس ، وخلّصه أبان بن الوليد ، وكان صديقه(١) .

وأمر الإمام الباقرعليه‌السلام جابر بن يزيد الجعفي أن يتظاهر بالجنون ، كي يتخلّص من بطش السلطة ، فخرج وفي عنقه كعاب قد علقها ، وقد ركب قصبة ، وهو يردّد أشعاراً واجتمع عليه الصبيان والناس ، والناس يقولون : جُنّ جابر ابن يزيد جنّ ، وذهب إلى الرحبة ، وما مضت الأيام حتى ورد كتاب هشام بن عبد الملك إلى واليه أن انظر رجلاً يقال له : جابر بن يزيد الجعفي فاضرب عنقه ، وابعث إليّ برأسه. فسأل الوالي عنه ، فقيل له : كان رجلاً له علم وفضل وحديث فجنّ ، وهو ذا في الرحبة مع الصبيان على القصب يلعب معهم ، فعفى عنه(٢) .

رابعاً ـ ظهور الحركات المناهضة للسلطة :

كان من تداعيات سياسة الجور والاستبداد التي انتهجها طغاة بني اُمية ، واستهتارهم بقيم وتعاليم الإسلام ، أن تألبت عليهم الأمة بجملة نهضات تاريخية اندلعت هنا وهناك ، بدأها أهل البيت بثورة الحسينعليه‌السلام ، وختموها بثورة زيد وابنه يحيى.

١ ـ نهضة الطف (سنة ٦٠ ـ ٦١ هـ ) :

وصل يزيد لعنه اللّه إلى ذروة السلطة بعهد من أبيه معاوية ، وكان حاكماً منحرفاً مستهتراً بقيم الإسلام ، أشاع مظاهر الفساد والمنكر ، وتجاهر بالكفر

__________________

(١) الاغاني / أبو الفرج ١٥ : ١١٤ ، الغدير / الأميني ٢ : ١٩٤.

(٢) الكافي ١ : ٣٩٦ / ٧.

٢٢

والفسوق وأنواع الرذيلة(١) ، وحين وصل إلى سدة الحكم أراد انتزاع البيعة من الحسينعليه‌السلام ، فامتنع الحسينعليه‌السلام ، ورأى أن مجرّد السكوت عن هذا الحاكم الفاسق يشكّل خطرا داهماً على الإسلام كدعوة ودين ، فكيف يبايعه وهو وارث الرسول ووصيّه وسبطه وسيّد شباب أهل الجنة ، من هنا اختار طريق الصراع المسلح والثورة على الطغيان اليزيدي ، فخرج من المدينة بعياله وأهل بيته وأنصاره الصادقين ، وأعلن أهداف نهضته ، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإحياء معالم الدين ، وطلب الإصلاح في الأُمّة وإيقاظ ضميرها وتحريك وجدانها ، كي يحيا من حيي عن بينة ، ويهلك من هلك عن بينة.

ومن مكة قصد العراق مصمِّما على تحقيق أهداف نهضته ، فتسابق هو وأصحابه إلى الشهادة ونيل الرضوان ، وسجّلوا ملحمة البطولة والفداء بدمائهم الزكيّة حتّى تضرّجوا بدم الشهادة على طفّ كربلاء. ولم ينم بنو أمية مل ء جفونهم بعد مصرع الحسينعليه‌السلام ، بل هزّت واقعة الطف عروشهم ، وزلزلت الأرض تحت أقدامهم ، وكشفت عن أقنعتهم المزيفة ، فكانت رائدة الثورات والانتفاضات التي بدّدت سلطانهم ومزّقت ملكهم أي ممزّق.

٢ ـ ثورة أهل المدينة (سنة / ٦٣ هـ ) :

بعث أهل المدينة وفداً إلى الشام ، فعادوا وهم يشهدون أن يزيد رجل لا دين له ، يشرب الخمر ، ويدع الصلاة ، ويلعب بالكلاب ، ويعزف بالطنابير ، وينكح الأمهات والبنات والأخوات ، فخلعه أهل المدينة ، وبايع الأنصار عبد اللّه بن حنظلة الأنصاري ، وبايعت قريش عبد اللّه بن مطيع بن الأسود والمنذر بن الزبير ، فوجّه إليهم يزيد جيشاً بقيادة السفّاح مسرف بن عقبة ،

__________________

(١) راجع : الفخري في الآداب السلطانية : ٥٥ ، مروج الذهب ٣ : ٦٧.

٢٣

فاستباح المدينة ثلاثة أيام لجنده بأمر يزيد ، انتهك فيها الجيش الأموي مدينة الرسول ، فهتك الأعراض ، وأزهق نفوس وجوه الناس من قريش والأنصار والمهاجرين ، ونهب الأموال(١) .

٣ ـ حركة التوابين (سنة / ٦٥ هـ ) :

أمير هذه الثورة الصحابي سليمان بن صرد الخزاعي ، وكان ممّن كاتب الحسينعليه‌السلام ليبايعه ، فلما عجز من نصرتهعليه‌السلام ندم وحارب(٢) ، ودعا الناس إلى التوبة ، فبايعه نحو خمسة آلاف على الثأر للحسينعليه‌السلام ، فسار بهم نحو الشام لحرب عبيد اللّه بن زياد ، فعسكروا في عين الوردة ، فالتحم القتال ثلاثة أيام ، فأبلوا بلاء حسناً ، وقاتلوا شوقاً ورغبةً إلى رضوان ربّهم ، وأصدقوا القتال والتوبة حتّى قُتل سليمان وخيرة أصحابه ، وانحاز الباقون إلى بلدانهم(٣) .

٤ ـ حركة ابن الزبير (سنة / ٧٣ هـ ) :

دعا عبد اللّه بن الزبير إلى نفسه ، فبُويع له بالخلافة عقب وفاة معاوية بن يزيد سنة ٦٤ هـ.

وهكذا استامها كل مفلسِ.

وتوسّعت حركته في رقعة جغرافية واسعة ، فشملت الحجاز والبصرة والكوفة وفارس والأهواز وخراسان ومصر واليمن وأكثر الشام ، وجعل قاعدة ملكه المدينة ، وكانت له مع الأمويين وقائع هائلة ، حتّى سيّر عبد الملك بن

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٥٠ ، المنتظم / ابن الجوزي ٦ : ٧ ، الطبقات الكبرى ٥ : ٦٦ ، تاريخ الإسلام / الذهبي ٥ : ٢٣ ، تهذيب الكمال / المزي ١٤ : ٤٣٦ / ٣٢٣٦.

(٢) سير أعلام النبلاء ٣ : ٣٩٥ / ٦١ في ترجمة سليمان بن صرد نقله عن ابن عبد البر القرطبي المالكي.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٥٧ ، المنتظم ٦ : ٣٥.

٢٤

مروان إليه الحجّاج الثقفي ، فانتقل إلى مكة ، وعسكر الحجّاج في الطائف ، ونشبت بينهما حروب شديدة رمى فيها الحجّاج الكعبة بأحجار المنجنيق ، وانتهت بمقتل ابن الزبير في مكة سنة ٧٣ هـ بعد أن خذله عامّة أصحابه ، وكانت مدّة ملكه تسع سنين.

وكان ابن الزبير خبيثاً ، عدوّاً للحقّ ، بخيلاً قليل العطاء ، كثير الحسد والخلاف ، شديد العداوة والبغضاء لآل أبي طالب ، تحامل على بني هاشم تحاملاً شديداً ، حتّى أنّه حين تسلّط على المدينة ترك الصلاة على محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطبته ، فقيل له : لِمَ تركت الصلاة على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فقال : إنّ له أُهيل سوء إذا ذكرته أتلعوا أعناقهم ، فأنا أحبّ أن أكبتهم. وحين امتنع محمد بن الحنفية وعبد اللّه بن عباس عن بيعته ، أخذهما ابن الزبير مع أربعة وعشرين رجلاً من بني هاشم ، فحبسهم في حجرة زمزم ، وحلف باللّه الذي لا إله إلاّ هو ليبايعن أو ليحرقنّ بالنار ، فأنقذهم جيش المختار ، وكان ينال من علي بن أبي طالبعليه‌السلام ويسبّه(١) . من هنا كان أبو جعفر الباقرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسمّيها فتنة ابن الزبير(٢) .

٥ ـ حركة المختار الثقفي (سنة / ٦٥ ـ ٦٧ هـ ) :

وهو من زعماء الثائرين على بني أمية ، وأحد الشجعان الأفذاذ ، بدأت حركته بعد ثورة التوّابين ، فعندما انتهت المواجهة ، دخل الذين انحازوا إلى الكوفة من جيش ابن صرد تحت مظلّة المختار ، ذلك لأنّ شعار المختار هو الثأر لدماء الحسينعليه‌السلام ، والاقتصاص من قاتليه ، فكثر أتباعه ، واستولى على

__________________

(١) تاربخ اليعقوبي ٢ : ٢٦١ ، تاريخ الخلفاء : ١٩٦ ، المنتظم ٦ : ١٣٨ ، الاستيعاب / ابن عبد البر٢ : ٣٠٢ ، الاعلام / الزركلي ٤ : ٨٦ و ٧ : ٢٤٧.

(٢) اكمال الدين / الصدوق : ٣٨٦ / ٢.

٢٥

الكوفة ، وتتبّع قتلة الحسينعليه‌السلام فقتلهم ، فأقرّ عيون آل أبي طالب ، واستولى على الموصل والجزيرة ، وبقي حتّى بعث ابن الزبير جيشا كثيفا بقيادة أخيه مصعب ، فهزم المختار وقتله وقتل أصحابه ، وكانوا زهاء خمسة آلاف أسير ، وأبردوا برأس المختار إلى ابن الزبير في مكة ، فترحّم عليه ابن عباس ، ورغم أن الإمام زين العابدينعليه‌السلام لم يكن طرفاً في حركة المختار ، لكنّه استبشر فرحاً حين أبرد برأس ابن زياد إليه ، وخرّ ساجدا ودعا له وجزاه خيراً ، وبارك ابن الحنفية للمختار أخذ ثأرهم(١) ، فويل لقاتله من النار.

٦ ـ حركة ابن الأشعث (سنة / ٨١ ـ ٨٢ هـ ) :

وكانت بقيادة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الكندي ، الذي سيّره الحجّاج بجيش لغزو بلاد الترك وراء سجستان ، فتمرّد عليه وخلع طاعته وطاعة عبد الملك بن مروان سنة ٨٠ هـ ، وكان أغلب أصحابه من القرّاء وأهل العلم ، كالحسن البصري ، وعامر الشعبي ، وسعيد بن جبير ، ومالك بن دينار ، وابن أبي ليلى وغيرهم ، وزحف بهم عبد الرحمن سنة ٨١ هـ إلى العراق ، فكانت له وقائع مع الحجّاج ، ظفر فيها عبد الرحمن ، وتمّ له ملك سجستان وكرمان والبصرة وفارس ، واستولى على الكوفة ، فقصده الحجّاج ، فحدثت بينهما موقعة دير الجماجم التي دامت مئة وثلاثة أيام ، وانتهت بخروج ابن الأشعث من الكوفة ، ومن ثم مقتله ، وبعث برأسه إلى الحجّاج سنة ٨٥ هـ(٢) .

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٥٩ ، مروج الذهب / المسعودي ٣ : ٨٦ ، الفتوح / ابن أعثم ٦ : ٢٠٠ ، رجال الكشي : ١٢٥ ، شرح الأخبار / القاضي النعمان ٣ : ٢٧٠.

(٢) راجع : تاريخ الإسلام ٦ : ١٠ ، الاعلام ٣ : ٣٢٣.

٢٦

٧ ـ ثورة زيد بن عليعليه‌السلام (سنة / ١٢١ هـ ) :

وهو أخو الإمام الباقرعليه‌السلام ، وكان عابداً ورعاً فقيهاً سخيّاً شجاعاً ، ويعرف حليف القرآن ، كانت أحداث ثورته في زمان الإمام الصادقعليه‌السلام ، غير أن بداية تحرّكه كان في زمان الإمام الباقرعليه‌السلام ، وذلك أن هشاماً أشخصه إلى الشام ، فحجبه عنه مبالغة في الاستهانة به ، ثم ضيّق عليه وحبسه ، وقال له يوماً : بلغني أنّك تذكر الخلافة وتتمنّاها ، ولست هناك لأنّك ابن أمة! فقال زيد : ان لك جواباً.

قال : تكلّم. قال : انه ليس أحد أولى باللّه ولا أرفع درجة عنده من نبي ابتعثه ، وهو إسماعيل بن إبراهيم ، وهو ابن أمة ، قد اختاره اللّه لنبوته ، وأخرج منه خير البشر. فقال هشام لعنة اللّه وملائكته عليه : فما يصنع أخوك البقرة! فغضب زيد حتى كاد يخرج من إهابه ، ثم قال : سمّاه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الباقر ، وتسمّيه أنت البقرة! لشدّ ما اختلفتما! لتخالفنّه في الآخرة كما خالفته في الدنيا ، فيرد الجنة ، وترد النار. وقال زيد : لم يكره قوم قطّ حرّ السيوف إلاّ ذلّوا. ثمّ أمر هشام بحمله إلى عامله ، وقد جرت هذه المقابلة بين زيد وبين هشام في حياة الإمام الباقرعليه‌السلام ، وكان ذلك بدايات نهضته.

وحين خرج زيدعليه‌السلام بايعه غالب أهل الكوفة على الدعوة إلى الكتاب والسنّة ، وجهاد الظالمين ، والدفع عن المستضعفين ، وإعطاء المحرومين ، والعدل في قسمة الفيء ، وردّ المظالم ، ونصرة أهل البيت ، والطلب بثارات الحسينعليه‌السلام ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والرضا من آل محمد ، وبايعه كثير من الفقهاء والعلماء ، وأبلى بلاءً حسناً في قتال الأمويين ، ثم تخلّف عنه أهل الكوفة ، فجاهد حتى قُتل رضوان اللّه تعالى عليه ، وصلب نحو أربع سنين ، ثم أحرقه

٢٧

يوسف بن عمر بالنار ، وألقى رفاته بالفرات ، بأمر الوليد بن يزيد ، وترحّم عليه ابن أخيه الإمام الصادقعليه‌السلام (١) .

وأخبر الإمام الباقرعليه‌السلام عن خروج أخيه زيد بالكوفة ، وأنّه يُقتل ويُطاف برأسه ، ويُصلَب بالكناسة(٢) .

٨ ـ ظهور الدعوة العباسية (سنة / ٨٧ ـ ١٣٢ هـ ) :

روى ابن عساكر أن ابتداء دعاة بني العباس إلى محمد بن علي ، وتسميتهم إيّاه بالإمام ، كان في خلافة الوليد سنة ٨٧ هـ ، ولم يزل الأمر في ذلك يتزايد إلى أن توفّى سنة ١٢٤ هـ ، وأوصى إلى ابنه إبراهيم(٣) .

وذكر المسعودي أنّه كان مبدأ الدعوة العباسية في سنة ١٠٠ هـ ، حيث أفضى بها أبو هاشم عبد اللّه بن محمد بن الحنفية إلى محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس سنة ٩٨ هـ ، وعرف بينه وبين الدعاة ، وأعلمه أن الخلافة صائرة إلى ولده ، وأمره أن يكون ابتداء الدعوة سنة ١٠٠ هـ(٤) .

ولما دخلت سنة ١٠٠ هـ بثّ محمد بن علي دعاته بالآفاق يدعون إلى بني العباس ، وفي سنة ١١١ هـ ظهرت دعوتهم ، وكثر من يجيبهم إلى خلع

__________________

(١) مصادر ترجمته : الطبقات الكبرى ٥ : ٣٣٣ ، تاريخ الطبري ٥ : ٥٥٨ و ٥٠٧ ، مقاتل الطالبيين : ٨٩ ، التنبيه والاشراف : ٢٧٩ ، مروج الذهب ٢ : ١٩١ و ٢٠٧ ، الارشاد ٢ : ١٦٨ ، كشف الغمة ٢ : ٣٣٧ و ٣٥٣ ، شرح نهج البلاغة ٣ : ٢٨٦ ، البدء والتاريخ / المقدسي ٦ : ٤٩ ، وفيات الأعيان ٦ : ١١٠ ، الخرائج والجرائح / الراوندي ١ : ٢٧٨ و ٢٨١ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٢٢ ، المنتظم ٧ : ٢٠٧.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٨٩ ، الهداية الكبرى : ٢٣٩.

(٣) تاريخ دمشق ٤٥ : ٣٦٨.

(٤) التنبيه والاشراف : ٢٩٢.

٢٨

بني أمية(١) .

وواصل إبراهيم بن محمد تحدّي السلطة الأموية بعد أبيه ، حتى مقتله في حبس مروان بن محمد سنة ١٣١ هـ ، واستطاع الدعاة تصدير بعض الشعارات العلوية لاستقطاب المدّ العلوي ، ومنها الرضا لآل محمد ، فكثر من يأتيهم ويميل معهم ، سيّما بعد مقتل زيد بن علي سنة ١٢١ هـ ، حتى أطاحوا بالعرش الأموي سنة ١٣٢ هـ.

وقد أخبر الإمام الباقرعليه‌السلام هشام بن عبد الملك بدنو زمان ملك بني العباس ، حين أشخصه إلى الشام ، وسأله هشام : «أنت أبو جعفر الذي تقتل بني أمية ، فقالعليه‌السلام : لا ، قال : فمن ذاك؟ فقالعليه‌السلام :ابن عمّنا أبو العباس بن محمد ابن علي ، فنظر إليه هشام وقال : واللّه ما جرّبت عليك كذباً ، ثم قال : ومتى ذاك؟ قال :عن سنيات واللّه ما هي ببعيدة »(٢) .

وعن أبي بصير أن الإمام أبا جعفرعليه‌السلام أخبر بني العباس بملكهم ، وكانوا في ناحية مسجد المدينة ، منهم داود بن علي ، وسليمان بن خالد ، وأبو جعفر الدوانيقي. فقالعليه‌السلام وهو يشير إلى أبي جعفر الدوانيقي : «أما واللّه لا تذهب الليالي والأيام ، حتى يملك ما بين قطريها ، ثم ليطأن الرجال عقبه ، ثم ليذلن له رقاب الرجال ، ثم ليملكن ملكاً شديداً.

وقالعليه‌السلام حين سأله الدوانيقي عن الدولة :دولتكم قبل دولتنا ، وسلطانكم قبل سلطاننا ، سلطانكم شديدعسر لايسر فيه ، وله مدّة طويلة ، واللّه لايملك بنو أمية يوماً إلاّملكتم مثليه ، ولاسنة إلاّملكتم مثليها ، ولتتلقفهاصبيان منكم

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٠٦.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٢٠.

٢٩

فضلاً عن رجالكم ، كما تتلقّف الصبيان الكرة ، أفهمت؟ ثم قال : لا تزالون في عنفوان الملك ترغدون فيه ، ما لم تصيبوا منّا دماً حراماً ، فإذا أصبتم ذلك الدم غضب اللّه عزّوجلّ عليكم ، فذهب بملككم وسلطانكم ، وذهب بريحكم »(١) .

٩ ـ حركات الخوارج :

كان الخوارج تيارات فكرية مختلفة ، تتّفق جميعاً على لغة التكفير واستباحة الدماء ، فمنهم الأزارقة ، أتباع نافع بن الأزرق ، وكانت لهم حروب شديدة مع الأمويين في البصرة والأهواز ، قاتلوا أهل الشام مع ابن الزبير أولاً ، فلما علموا أنّه يتولّى عثمان فارقوه ، فانتدب المهلب لقتالهم ، فحاربهم وهزمهم ، وانحازوا إلى الأهواز ، ثم إلى فارس ، وقتل نافع بن الأزرق سنة ٦٥ هـ ، ثم لم يزل يواقعهم من بلد إلى بلد حتى قُتل ابن الزبير ، وخلص الأمر إلى عبد الملك ، واستمر في قتالهم حتى سنة ٧٨ هـ حيث ضعف أمرهم.

ومنهم النجدات ، أتباع نجدة الحروري ، استولوا على حضرموت والبحرين واليمن والطائف واليمامة وعمان وهجر ، وكان أول أمره مع نافع بن الأزرق ، وفارقه لاحداثه في مذهبه ، ثم خرج باليمامة أيام عبد اللّه بن الزبير ، وأتى البحرين واستقرّ بها ، وتسمّى بأمير المؤمنين ، ووجّه إليه مصعب بن الزبير جيشاً بعد جيش فهزمهم حتى قُتل.

ومنهم الأباضية ، وهم أتباع عبد اللّه بن أباض ، الذي تخلّف عن قتال ابن الزبير مع ابن الأزرق ، فتبرّأ ابن الأزرق منه ، وقتل ابن أباض في أيام مروان بن محمد ، وافترقت هذه الجماعة فيما بينها(٢) .

__________________

(١) الكافي ٨ : ٢١٠ / ٢٥٦ ، ونحوه في الصواعق المحرقة : ١٢١ ، والخرائج ١ : ٢٧٣.

(٢) الأخبار الطوال / الدينوري : ١٩٩ ، لسان الميزان / ابن حجر ٣ : ٢٤٨ / ١٠٨٣ ،

٣٠

خامساً ـ نشوء العقائد المنحرفة :

١ ـ الدعوة إلى الجبر :

الجبر هو الاعتقاد بنسبة أفعال العباد إلى اللّه تعالى ، ويقول المجبرة : ليس لنا صنع ، أي لسنا مخيرين في أفعالنا التي نفعلها ، بل اننا مجبورون بإرادته ومشيئته تعالى ، فهم يعطلون أي دور للإنسان في أقواله وأفعاله ، وقد تبنّى الأمويون مقولة الجبر من أجل تثبيت أركان دولتهم ، بدعوى أن اللّه آتاهم الملك قدراً مقدراً ، فلا يجوز انتزاعه منهم ، ونشط الجبر في أحضان البلاط الأموي كعقيدة يتذرّعون بها لتبرّر ظلمهم ، وتنزيه ساحتهم مما ارتكبوه من مفاسد وموبقات ، مدّعين أنّها من قضاء اللّه وقدره ، وهم منها براء ، وإن كانت تجرى على أيديهم.

٢ ـ ظهور المفوضة :

في مقابل القول بالجبر ، ظهر اتجاه منحرف آخر يدعو إلى القول بالاختيار ، أو التفويض المطلق ، وهؤلاء يرون أن اللّه سبحانه لا دخل له في أفعال العباد سوى أنّه خلقهم وأقدرهم ، ثمّ فوّض أمر أفعالهم إلى سلطانهم وإرادتهم ، ولا دخل لأي إرادة أو سلطان عليهم ، فنفوا كل أثر لمشيئة اللّه وإرادته.

وقد وقف الأمويون بوجه أصحاب هذه الفكرة الهدامة ، لأنّها تنقض ما جعلوه أساساً لأركان سلطانهم ، وهو القول بالجبر ، فأخذ عبد الملك بن مروان معبداً الجهني وعذّبه ثمّ قتله ، وقبض هشام على غيلان الدمشقي وقتله.

وقد طال معترك الكلام بين أصحاب الجبر والاختيار ، حتّى تصدّى الإمام الباقر والصادقعليهما‌السلام لنقض المقولتين ، وهدوا الناس إلى مذهب وسط بين الجبر

__________________

الفرق بين الفرق / البغدادي : ٧٠ ، الأعلام ٤ : ١٩١ و ٥ : ٢٠٠ و ٧ : ٣٥١ و ٨ : ١٠.

٣١

والاختيار ، وهو الأمر بين الأمرين ، فجمعوا الآراء المتشعّبة ، مستندين إلى ما آي الكتاب الكريم في هذا الشأن.

قال أبو جعفر الباقر وأبو عبد اللّه الصادقعليه‌السلام : «إنّ اللّه عزّوجلّ أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذّبهم عليها ، واللّه أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون »(١) .

ومنع الإمام الباقرعليه‌السلام أصحابه من الائتمام بمن يقول بالقدر ، قال الحارث ابن سريج البزّاز : «قلت لمحمد بن علي إن لنا إماماً يقول في القدر ، فقال :اُنظر كل صلاة صلّيتها خلفه أعدها ، إخوان اليهود والنصارى ، قاتلهم اللّه أنّى يؤفكون »(٢) .

٣ ـ الدعوة إلى الإرجاء :

المراد بالإرجاء التأخير ، والمرجئة هم الذين يبالغون في إثبات الوعد ، ويرجون المغفرة والثواب لأهل المعاصي ، ويرجئون حكم أصحاب الكبائر وسائر المذنبين إلى الآخرة ، فلا يحكمون عليهم بكفر ولا فسق ، ويرى المرجئة أن الإيمان معرفة بالقلب وتصديق باللسان ، وهو قول بلا عمل ، ولا يضرّ معه ذنب أو معصية ، وهو لا يزيد ولا ينقص(٣) .

وقد روّجت السلطة الأموية لفكرة الإرجاء ، لتبرير هوس طغاتهم بالدماء ، وإيغالهم بالجريمة والظلم ، واستباحة الحرمات ، واستخفافهم بأحكام الدين ، وتعطيل الكتاب والسنّة ، كي يبقوا رغم ذلك مؤمنين ، لا يضرّ بإيمانهم

__________________

(١) التوحيد / الصدوق : ٣٦٠ / ٣.

(٢) اعتقاد السنّة / ابن منصور : ٧٣١.

(٣) راجع : الملل والنحل ١ : ١٢٥.

٣٢

معصية ، ولا ينقصه عمل!

روي أنّه لما استخلف يزيد بن عبد الملك (١٠١ ـ ١٠٥ هـ ) قال : سيروا سيرة عمر بن عبدالعزيز ، فأتوه بأربعين شيخاً شهدوا له أن الخلفاء لا حساب عليهم ولا عذاب(١) ، فأقبل على الجور والبذخ ، وانهمك بالشرب وسماع الغناء.

ويشير طاوس اليماني لآثار هذا الاعتقاد في أفكار الناس بقوله : عجبت لإخواننا من أهل العراق يسمّون الحجّاج مؤمناً ، قال الذهبي : يشير إلى المرجئة منهم ، الذين يقولون : هو مؤمن كامل الإيمان مع عسفه وسفكه الدماء وسبّه الصحابة(٢) .

ووقف أئمّة أهل البيت: بوجه هذا الفكر الهدّام ، فروي عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه لعن المرجئة ، وقال في حديث : «اللهمّ العن المرجئة ، فإنّهم أعداؤنا في الدنيا والآخرة »(٣) .

وهناك المزيد من الحديث الوارد عن الإمام الباقرعليه‌السلام ينقض فيها أفكار المرجئة صيانة لأفكار الناس ، وإن لم يسمهم تقية من بطش السلطة ، فأكد في حديثه لبعض شيعته أن الإيمان قول وعمل ، قالعليه‌السلام : «ما تنال شفاعتنا إلاّ بالتقوى والورع والعمل الصالح والجدّ والاجتهاد ، فلا تغترّوا بالعمل ويسقط عنكم ، فإذن أنتم أعزّ على اللّه منّا »(٤) . وقالعليه‌السلام : «الإيمان إقرار وعمل ، والإسلام إقرار بلا عمل »(٥) .

__________________

(١) تاريخ الخلفاء : ٢٤٦.

(٢) سير أعلام النبلاء ٥ : ٤٤.

(٣) الكافي ٨ : ٢٧٦ / ٤١٧.

(٤) أعلام الدين في صفات المؤمنين / الديلمي : ١٤٣.

(٥) تحف العقول : ٢٩٧.

٣٣

وعن أبي الصباح الكناني ، عنهعليه‌السلام قال : «قيل لأمير المؤمنين عليه‌السلام : من شهد أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمداً رسول اللّه ، كان مؤمناً؟ قال : فأين فرائضاللّه؟

قال :وسمعته يقول : كان علي عليه‌السلام يقول : لو كان الإيمان كلاماً لم ينزل فيه صوم ولا صلاة ولا حلال ولا حرام.

قال : وقلت لأبي جعفرعليه‌السلام : إنّ عندنا قوماً يقولون : إذا شهد أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمداً رسول اللّه ، فهو مؤمن. قالعليه‌السلام :فلِمَ يضربون الحدود ، ولِم تُقطع أيديهم؟! وما خلق اللّه عزّوجلّ خلقاً أكرم على اللّه عزّوجلّ من المؤمن ، لأنّ الملائكة خدّام المؤمنين ، وأنّ جوار اللّه للمؤمنين ، وأنّ الجنّة للمؤمنين ، وأنّ الحور العين للمؤمنين ، ثم قال عليه‌السلام : فما بال من جحد الفرائض كان كافراً؟ »(١) .

وتقوّل بعضهم على الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : اذا عرفت فاعمل ما شئت ، تماشياً مع ما يذهب إليه مروّجو الإرجاء ، فصحّح الإمام الصادقعليه‌السلام هذا الحديث مبيّناً وجه التحريف فيه ، قال فضيل بن عثمان : سُئل أبو عبد اللّهعليه‌السلام فقيل له : إنّ هؤلاء الأخابث يروون عن أبيك يقولون : إنّ أباكعليه‌السلام قال : إذا عرفت فاعمل ما شئت ، فهم يستحلّون بعد ذلك كلّ محرم. قالعليه‌السلام : «ما لهم لعنهم اللّه؟! إنّما قال أبي عليه‌السلام : إذا عرفت الحقّ فاعمل ما شئت من خير يقبل منك »(٢) .

__________________

(١) الكافي ٢ : ٣٣ / ٢.

(٢) معاني الأخبار : ١٨١.

٣٤

مواقف الإمامعليه‌السلام من السلطة :

اتّبع الإمامعليه‌السلام اُسلوب الحيطة إزاء عنف رجال السلطة وبطشهم ، فانصرف عن هموم السياسة ، ودعا أصحابه إلى مقاطعة السلطة ، ولم يبخل بإسداء النصح لبعضهم حيثما يتعلّق الأمر بمصالح المسلمين ، وإذا كان قد اتّقى على نفسه وأصحابه من رجال السلطة ، فإنّه لم يتردّد من مواجهة بعض الحكام في مواقف فرضوها عليه ، فكم من كلمة حق قالها أمام سلطان جائر ، وانقطع إلى نشر علوم الإسلام ومعارفه ، وواصل مسيره في هداية الناس والدعوة إلى اللّه ، وقضاء حقوق المسلمين والسعي في حاجاتهم ، وتنبيههم على مواضع الخطر ، وسعى إلى بيان مظلومية أهل البيت: ، والتجاوز على حقوقهم.

١ ـ الدور العلمي :

اعتنى الإمام الباقرعليه‌السلام بتشييد مدرسة أهل البيت العلمية على الأسس التي وطّدها آباؤه: ، وسعى إلى استقطاب الجماهير حول علوم أهل البيت ، فكان يقصده ويشدّ إليه الرحال جمع غفير من كبار التابعين وأعيان الفقهاء والمحدثين وغيرهم على اختلاف أغراضهم وأهدافهم ومعتقداتهم ومبانيهم الفكرية ، فيتحلّقون حوله للدرس في رواق المسجد النبوي الشريف ، الذي يمارس به التعليم ، أو في مسجد مكة ، أو في مجلس بيته العامر بطلبة العلم ورواته وبالمستفتين الوافدين من مختلف ديار الإسلام سيما في أيام الحج.

وهكذا كان باقر العلم رائد مدرسة أهل البيت: في الفقه والحديث والتفسير وسائر العلوم الأخرى ، وكانت مدرسته تتميز بالسعة والشمول لكل أبناء الأمة ، وتتميز بالخطاب الإسلامي الموحّد ، فهي مدرسة الإسلام التي استقطبت كل أبنائه دون استثناء.

٣٥

٢ ـ بيان مظلومية أهل البيت: :

سعى الإمام الباقرعليه‌السلام إلى بيان مظلومية أهل البيت: ، وبيّن ـ في أكثر من مناسبة ـ إقصاءهم عن مراتبهم وجحود منزلتهم ، مع أنهم ثاني الثقلين وأولى الناس بالناس ، ومع تفوقهم على سواهم بالعلم والمعرفة ، وبيّن اتفاق الحكام على قتلهم واستذلالهم وحرمانهم من حقوقهم ، والكذب عليهم بما لم يقولوه من الأحاديث الموضوعة ، روى ابن أبي الحديد أن أبا جعفر محمد بن علي الباقرعليه‌السلام قال لبعض أصحابه : «ما لقينا من ظلم قريش إيانا وتظاهرهم علينا ، وما لقي شيعتنا ومحبونا من الناس ، إن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبض وقد أخبر أنا أولى الناس بالناس ، فتمالأت علينا قريش ، حتى أخرجت الأمر عن معدنه ، واحتجت على الأنصار بحقنا وحجتنا ، ثم تداولتها قريش واحد بعد واحد حتى رجعت إلينا ، فنكثت بيعتنا ، ونصبت الحرب لنا ، ولم يزل صاحب الأمر في صعود كئود حتى قتل ، فبويع الحسن ابنه وعوهد ، ثم غدر به وأسلم ، ووثب عليه أهل العراق حتى طعن بخنجر في جنبه ، ونهبت عسكره ، وعولجت خلاليل أمهات أولاده ، فوادع معاوية ، وحقن دمه ودماء أهل بيته ، وهم قليل حق قليل ، ثم بايع الحسينعليه‌السلام من أهل العراق عشرون ألفاً ثم غدروا به ، وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم ، وقتلوه.

ثم لم نزل أهل البيت نستذل ونستضام ، ونقصى ونمتهن ، ونحرم ونقتل ، ونخاف ، ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا ، ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقربون به إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمال السوء فى كل بلدة ، فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة ، ورووا عنا ما لم نقله وما لم نفعله ، ليبغضونا إلى الناس ، وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد

٣٦

موت الحسنعليه‌السلام ، فقتلت شيعتنا بكل بلدة ، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة.

وكان من يذكر بحبنا والانقطاع الينا سجن ، أو نهب ماله ، أو هدمت داره.

ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمان عبيد اللّه بن زياد قاتل الحسينعليه‌السلام ، ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة ، وأخذهم بكل ظنّة وتهمة ، حتى أن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقال شيعة علي ، وحتى صار الرجل الذي يذكر بالخير ـ ولعله يكون ورعاً صدوقاً ـ يحدث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة ، ولم يخلق اللّه تعالى شيئاً منها ، ولا كانت ، ولا وقعت ، وهو يحسب أنها حق لكثرة من قد رواها ممن لم يعرف بكذب ولا بقلة ورع »(١) .

وعن المنهال بن عمرو ، قال : كنت جالسا مع محمد بن علي الباقرعليه‌السلام ، اذ جاءه رجل فسلم عليه ، فردعليه‌السلام ، قال الرجل : كيف أنتم؟ فقال له محمدعليه‌السلام : «أو ما آن لكم أن تعلموا كيف نحن ، انما مثلنا في هذه الأمّة مثل بني إسرائيل ، كان يُذبح أبناؤهم وتستحيا نساؤهم ، ألا وان هؤلاء يذبّحون أبناءنا ويستحيون نساءنا ، زعمت العرب أنّ لهم فضلاً على العجم ، فقالت العجم : وبماذا؟ قالوا : كان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عربيا. قالوا لهم : صدقتم. وزعمت قريش أنّ لها فضلاً على غيرها من العرب ، فقالت لهم العرب من غيرهم : وبما ذاك؟ قالوا : كان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرشيا. قالوا لهم : صدقتم ؛ فإن كان القوم صدقوا فلنا فضل على الناس ، لأنّا ذرية محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأهل بيته خاصة وعترته ، لا

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١١ : ٤٣.

٣٧

يشركه في ذلك غيرنا.

فقال له الرجل : واللّه إنّي لأحبّكم أهل البيت. قال : فاتّخذ للبلاء جلبابا ، فواللّه إنّه لأسرع إلينا وإلى شيعتنا من السيل في الوادي ، وبنا يبدأ البلاء ثمّ بكم ، وبنا يبدأ الرخاء ثمّ بكم»(١) .

٣ ـ مقاطعة السلطة :

لم يكن الإمام الباقرعليه‌السلام ذلك المعارض الذي يرى الخروج بالسيف كوسيلة للوصول إلى السلطة ، رغم إيمانه بأنّه أولى الناس بالأمر ، ويعلّل ذلك في حديثه إلى جابر بن يزيد الجعفي بعدم وجود الناصر ، قال جابر : «قلت لهعليه‌السلام : يا سيدي ، أليس هذا الأمر لكم؟ قال : نعم. قلت : فلِم قعدتم عن حقّكم ودعواكم ، وقد قال اللّه تعالى : «وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ »(٢) ؟ قال :فما بال أمير المؤمنين عليه‌السلام قعد عن حقّه حيث لم يجد ناصراً ، أو لم تسمع اللّه تعالى يقول في قصّة لوط عليه‌السلام : «قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ »(٣) وفي حكاية عن نوح عليه‌السلام : «فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ »(٤) ، ويقول في قصة موسى عليه‌السلام : «قَالَ رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ »(٥) ، فإذا كان النبي هكذا ، فالوصي أعذر. يا جابر ، مثل الإمام مثل الكعبة ، يؤتى ولا يأتي» (٦) .

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٢٥٤ ـ ٢٥٥ / ٧.

(٢) سورة الحج : ٢٢ / ٧٨.

(٣) سورة هود : ١١ / ٨٠.

(٤) سورة القمر : ٥٤ / ١٠.

(٥) سورة المائدة : ٥ / ٢٥.

(٦) كفاية الأثر / الخزاز : ٢٤٧.

٣٨

من هنا دعا الإمام الباقرعليه‌السلام أتباعه إلى مقاطعة السلطة وتحريم التعاون مع رموزها الذين أمعنوا كثيراً في إقصاء أهل البيت: عن ممارسة دورهم الرسالي ، ومارست ضدّهم شتّى أساليب الظلم والجور والقتل.

وهذا الموقف جاء في مقابل فتاوى فقهاء البلاط من المتزلّفين المتملّقين الذين يحاولون إضفاء الشرعية الزائفة على ممارسات حكام الجور ، يقول الإمام الباقرعليه‌السلام : «إنّ اللّه قال : لأعذبنّ كلّ رعية في الإسلام دانت بولاية إمام جائر ، وإن كانت الرعية في أعمالها برّة تقية ، ولأعفونّ عن كلّ رعية في الإسلام دانت بولاية إمام عادل من اللّه ، وإن كانت الرعية ظالمة مسيئة »(١) .

وسعى الإمام الباقرعليه‌السلام إلى تنبيه الأمّة على أن أي تعامل مع الحكام يعتبر تقويةً لظلمهم وجبروتهم ، ومشاركةً لهم في جناياتهم ، فحرّم التورّط في أعمال الظلمة ، ومعونتهم ولو لتمرير المعاش ، عن أبي بصير ، قال : «سألت أبا جعفرعليه‌السلام عن أعمالهم فقال لي :يا أبا محمد ، لا ولا مَدّة قلم ، إن أحدكم لا يصيب من دنياهم شيئاً إلاّ أصابوا من دينه مثله »(٢) .

وجعل ذلك بمثابة فريضة واجبة الأداء ، عن أبي مريم عبد الغفار بن القاسم ، قال : «دخلت على مولاي الباقرعليه‌السلام وعنده أُناس من أصحابه ...فقلت : يا سيدي ، فما تقول في الدخول على السلطان؟ قال : لا أرى لك ذلك. قلت : فإنّي ربما سافرت الشام ، فأدخل على إبراهيم بن الوليد. قال :يا عبد الغفار ، إن دخولك على السلطان يدعو إلى ثلاثة أشياء : محبّة الدنيا ، ونسيان الموت ، وقلّة الرضا بما قسم اللّه . قلت : يا ابن رسول اللّه ، فإنّي ذو عيلة ، وأتّجر إلى ذلك

__________________

(١) الكافي ١ : ٣٨٦ / ٢.

(٢) الكافي ٥ : ١٠٦ / ٥ ، التهذيب ٦ : ٣٣١ / ٩١٨.

٣٩

المكان لجرّ المنفعة ، فما ترى في ذلك؟ قال : يا عبد اللّه ، إني لست آمرك بترك الدنيا ، بل آمرك بترك الذنوب ، فترك الدنيا فضيلة ، وترك الذنوب فريضة ، وأنت إلى إقامة الفريضة أحوج منك إلى اكتساب الفضيلة »(١) .

٤ ـ إسداء النصيحة :

حرص الإمام الباقرعليه‌السلام على إسداء النصيحة لجميع المسلمين بما في ذلك بعض سلاطين بني مروان.

دخل عمر بن عبد العزيز المدينة وصاح مناديه : من كانت له مظلمة وظلامة فليحضر ، فأتاه أبو جعفر الباقرعليه‌السلام ، فلما رآه استقبله وأقعده مقعده ، فقالعليه‌السلام : «إنّما الدنيا سوق من الأسواق يبتاع فيها الناس ما ينفعهم وما يضرّهم ، وكم قوم ابتاعوا ما ضرّهم فلم يصبحوا حتى أتاهم الموت ، فخرجوا من الدنيا ملومين ، لمّا لم يأخذوا ما ينفعهم في الآخرة ، فقسم ما جمعوا لمن لم يحمدهم ، وصاروا إلى من لا يعذرهم ، فنحن واللّه حقيقون أن ننظر إلى تلك الأعمال التي كنّا نغبطهم بها فنوافقهم فيها ، وننظر إلى تلك الأعمال التي نتخوّف عليهم منها ، فنكفّ عنها.

فاتّقِ اللّه ، واجعل في نفسك اثنتين : اُنظر إلى ما تحبّ أن يكون معك إذا قدمت على ربّك فقدّمه بين يديك ، واُنظر إلى ما تكره أن يكون معك إذا قدمت على ربّك فارمِه وراءك ، ولا ترغبنّ في سلعة بارت على من كان قبلك ، فترجو أن تجوز عنك ، وافتح الأبواب ، وسهل الحجاب ، وانصف المظلوم ، ورد الظالم.

ثلاثة من كُنّ فيه استكمل الإيمان باللّه : من إذا رضي لم يدخله رضاه في

__________________

(١) كفاية الأثر : ٢٥٠.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318