بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٨

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة0%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 668

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

مؤلف: الشيخ محمد تقي التّستري
تصنيف:

الصفحات: 668
المشاهدات: 63279
تحميل: 3564


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 668 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • المشاهدات: 63279 / تحميل: 3564
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء 8

مؤلف:
العربية

عدوّهم حتى تشتدّ شوكتهم( ١) .

و قال المختار لما دعا الناس إلى بيعته: فلا و الذي جعل السماء سقفا محفوظا و الأرض فجاجا سبلا ما بايعتم بعد بيعة عليّعليه‌السلام و آل عليّ بيعة أهدى منها( ٢) .

و في خبر نفي عمر لنصر بن الحجّاج و لأبي ذؤيب ابن عمّ نصر لافتتان النساء بجمالهما قال عمر لنصر: لا و اللّه لا تساكنني بأرض أنابها، و لأبي ذؤيب: لا و الذي نفسي بيده لا تجامعني بأرض أبدا( ٣) .

و في خبر أبي طلحة الأنصاري الذي وكّله عمر باجراء دستوره في ستة الشورى إلى ثلاثة أيام فإن لم يقبلوه يضرب أعناقهم: لا و الذي ذهب بنفس محمد لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي أمر بها عمر( ٤) .

و كان عمرو بن العاص وصف البحر لعمر فقال له: راكب البحر كدود على عود، فلما استأذنوه لغزو البحر قال: لا و الذي بعث محمدا لا أحمل فيه مسلما أبدا( ٥) .

و في (أذكياء ابن الجوزي) عن أعرابي قال: أسرت طي شابا، فقدم أبوه و عمه ليفدياه، فاشتطوا عليهما في الفداء و لم يرضوا بما أعطى أبوه، فقال: لا و الذي جعل الفرقدين يصبحان و يمسيان على جبل طي لا أزيدكم على ما أعطيتكم، ثم انصرف مع أخيه و قال له: لقد ألقيت إلى ابني كلمة لئن كان فيه خير لينجونّ، فما لبث أن جاء و طرد قطعة من أبلهم كان قال له الزم الفرقدين

____________________

(١) تاريخ الطبري ٥: ٥٩٣، احداث سنة ٦٥ ه، طبعة دار سويدان، بيروت.

(٢) تاريخ الطبري ٦: ٣٢، احداث سنة ٦٦ ه، طبعة دار سويدان، بيروت.

(٣) عيون الأخبار ٤: ٢٤.

(٤) العقد الفريد ٥: ٣٠.

(٥) تاريخ الطبري ٤: ٢٥٨ ٢٥٩، احداث سنة ٢٨ ه.

١٢١

على جبل طي، فإنهما طالعان عليه و لا يغيبان عنه( ١) .

كما أن المفهوم من استعمالاتها في مثل قوله تعالى: تا اللّه تفتؤ تذكر يوسف( ٢ ) حذف «لا» من الجواب المنفي المستقبل، كقول أمرى‏ءالقيس:

فقلت يمين اللّه أبرح قاعدا

و لو قطعوا رأسي لديك و أوصالي( ٣)

و قول الهذلي:

تا للّه يبقى على الأيام ذو حيد

بمشمخرّ به الظيان و الآس( ٤)

و قول رجل نزل على امرأة من بني ثعلبة بن يربوع:

فإني امرؤ أعطيت ربّي أليّة

أرى زانيا ما لاح لي وضح الفجر

و قول ليلى الأخيلية في رثاء توبة:

فتا للّه تبني بيتها أمّ عاصم

على مثله إحدى الليالي الغوابر( ٥)

أيضا:

فأقسمت أبكي بعد توبة هالكا

و أحفل من نالت صروف المقادر( ٦)

و قول عتّاب بن ورقاء الشيباني للمأمون:

آليت أشرب راحا

ما حجّ للّه ركب( ٧)

و بالجملة: في كلام العرب خصوصيات لم ينبّه على كثير منها أئمة

____________________

(١) الأذكياء لابن الجوزي: ١٠١، طبعة دار الكتب العلمية.

(٢) يوسف: ٨٥.

(٣) ديوان أمرى‏ءالقيس: ١٤١.

(٤) لسان العرب ٤: ٤٢٩ ط. دار صادر بيروت.

(٥) الأغاني ١١: ٢٣٠، و فيه «على مثله اخرى الليالي الغوابر»، و قال المصحح في هامشه: (في الاصول: «احدى الليالي» و التصويب من منتهى الطلب).

و هذا البيت من القصيدة الرائية المعروفة لليلي الاخيليّة في رماء توبة و كان عاشقا لها.

(٦) الأغاني ١١: ٢٣١.

(٧) راجع معجم الادباء ١٢: ٨١، و في هامشه «التقدير: لا أشرب».

١٢٢

الأدب كما ها هنا، و منها استعمال السمع بمعنى الإسماع إذا جاء مع الداع، كقول عمرو ابن معديكرب:

أمن ريحانة الداعي السميع( ١)

و في (النهج) «دعا إليها أسمع داع»( ٢) .

و منها عدم مجي‏ء فاعل «ما راعني» إلاّ جملة بعد «إلاّ»، و نبّه عليه المغني، كقوله:

و ما راعني إلاّ يسير بشرطة

و عهدي به قينا يفشّ بكير( ٣)

«أمسينا منه في غبّر» أي: بقايا.

«ليلة دهماء» أي: مظلمة سوداء.

«تكشّر» من كشر البعير عن نابه، أي: كشف عنها، و «كشّر الرجل» بدت منه الأسنان.

«عن يوم أغر» أي: أبيض.

«ما كان كذا و كذا».

قال ابن أبي الحديد بعد العنوان: هذا الكلام إمّا أن يكون قالهعليه‌السلام على جهة التفؤّل، أو أن يكون إخبارا بغيب، و الأوّل أوجه( ٤) .

قلت: ليس بتفؤّل، و لا إخبارا بالغيب، بل يمينا على نفي وقوع شي‏ء معهود فيما مضى، و إنما كان محتملا للإخبار عن غيب لو كان بلفظ: «ما يكون كذا و كذا».

____________________

(١) لسان العرب، طبع دار إحياء التراث العربي بتحقيق و تنسيق علي شيري ٦: ٣٦٥، مادة (سمع)، و فيه:

امن ريحانة الداعي السميع

يورّقني و أصحابي هجوع؟

 (٢) نهج البلاغة ١: ٢٢٢، من الخطبة ١١٤.

(٣) مغني اللبيب: ٥٥٩، و شواهد المغني ٢: ٨٤٠.

(٤) شرح ابن أبي الحديد ١٩: ١٦٨.

١٢٣

و كيف كان، فأخذ حلفهعليه‌السلام إسماعيل بن عبد اللّه، فحلف لرجل في آخر يوم من شعبان، فقال: «لا و الذي أنا في غبّر يوم عظيم منه و تلقاء ليلة تفتر عن أيام عظام ما كان ما بلغك هكذا».

هذا، و في الخبر: إنّ يمين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان «لا و مقلّب القلوب»( ١ ) ، و قالوا:

كان حكيم بن حزام إذا اجتهد في يمينه قال: «لا و الذي نجّاني يوم بدر»( ٢) .

و في (تاريخ اليعقوبي): كان شيث و قومه إذا أراد أحدهم أن يحلف قال:

«لا و دم هابيل»( ٣) .

هذا، و من حلف الأخطل و جرير ما في (العقد): إنّ جريرا وفد على عبد الملك و عنده الأخطل، فقال عبد الملك للأخطل: أ تعرفه؟ قال: لا. قال: هذا جرير. فقال الأخطل له: و الذي عرّفني أعيار أمك ما عرفتك. فقال له جرير:

و الذي أعمى بصيرتك و أدام خزيتك لقد عرفتك بسيماك سيما أهل النار( ٤) .

و الظاهر كون قول الأخطل «أعيار أمّك» إشارة إلى اشتهار جرير بابن المراغة.

٢ - الحكمة (٢٥٣) و كانعليه‌السلام يقول:

أَحْلِفُوا اَلظَّالِمَ إِذَا أَرَدْتُمْ يَمِينَهُ بِأَنَّهُ بَرِي‏ءٌ مِنْ حَوْلِ اَللَّهِ وَ قُوَّتِهِ فَإِنَّهُ إِذَا

____________________

(١) أخرجه البخاري ٤: ١٤٧، ١٤٨، ٢٧٦، و الترمذي ٤: ١١٣ ح ١٥٤٠، و النسائي ٧: ٢، و ابن ماجه ١: ٦٧٦ ح ٢٠٩٢، و الدارمي ٢: ١٨٧، و مالك: ٤٨٨، و مسند زيد: ٢١٩، و أحمد ٢: ٢٥ ٢٦، ٦٧، ٦٨، ١٢٧).

(٢) في اسد الغابة ٢: ٤١، و الإصابة ١: ٣٤٩: «و الذي مجأني...».

(٣) تاريخ اليعقوبي ١: ٨.

(٤) في العقد الفريد ٦: ١٤٨،... قال الأخطل: و الذي أعمى رأيك يا جرير ما عرفتك قال له جرير: و الذي أعمى بصيرتك....

١٢٤

حَلَفَ بِهَا كَاذِباً عُوجِلَ اَلْعُقُوبَةَ وَ إِذَا حَلَفَ بِاللَّهِ اَلَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَمْ يُعَاجَلْ لِأَنَّهُ قَدْ وَحَّدَ اَللَّهَ تَعَالَى أقول: في (مروج المسعودي): قال الفضل بن الربيع: صار إليّ عبد اللّه بن مصعب بن ثابت بن عبد اللّه بن الزبير، فقال: إنّ موسى بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن عليّ قد أرادني على البيعة له، فجمع الرشيد بينهما، فقال الزبيري لموسى: سعيتم علينا و أردتم نقض دولتنا. فالتفت إليه فقال: و من أنتم؟ فغلب الرشيد الضحك حتى رفع رأسه إلى السقف حتى لا يظهر منه، ثم قال موسى للرشيد: هذا الذي يشنّع علي بالخروج خرج و اللّه مع أخي محمد بن عبد اللّه بن الحسن على جدك المنصور، و هو القائل من أبيات:

قوموا ببيعتكم ننهض بطاعتنا

إن الخلافة فيكم يا بني حسن

في شعر طويل، و ليس سعايته حبا لك، و لا مراعاة لدولتك، و لكن بغضا لنا جميعا أهل البيت، و لو وجد من ينتصر به علينا جميعا لكان معه، و قد قال باطلا، و أنا مستحلفه، فإن حلف إني قلت ذلك فدمي لك حلال. فقال الرشيد:

إحلف له يا عبد اللّه. فلما أراده موسى على اليمين تلكّأ و امتنع، فقال له الفضل:

لم تمتنع و قد زعمت آنفا أنّه قال لك ما ذكرته؟ قال: أحلف. قال له موسى: قل «تقلّدت الحول و القوة دون حول اللّه و قوته إلى حولي و قوتي إن لم يكن ما حكيته عنه حقا»، فحلف له. فقال موسى: اللّه أكبر حدّثني أبي عن جدّي عن جدّه عليّعليه‌السلام عن النبيّ‏ّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: ما حلف أحد بهذه اليمين و هو كاذب إلاّ عجّل اللّه له العقوبة قبل ثلاث، ما كذبت و لا كذّبت و ها أنا في قبضتك، فإن مضت ثلاثة أيام و لم يحدث على عبد اللّه بن مصعب حادث فدمي لك حلال.

فقال الرشيد للفضل: خذ بيد موسى فليكن عندك حتى أنظر في أمره.

قال الفضل: فو اللّه ما صلّيت العصر من ذلك اليوم حتى سمعت الصراخ

١٢٥

من دار عبد اللّه بن مصعب، فأمرت من يتعرّف خبره، فعرفت أنه قد أصابه الجذام و أنّه قد تورّم و اسودّ، فصرت إليه، فو اللّه ما كدت أعرفه، لأنّه قد صار كالزقّ العظيم، ثم اسودّ حتى صار كالفحم، فصرت إلى الرشيد، فعرّفته خبره، فما انقضى كلامي حتى أتى خبر وفاته، فبادرت بالخروج و أمرت بتعجيل أمره، و الفراغ منه و تولّيت الصلاة عليه، فلمّا دلّوه في حفرته لم يستقرّ فيها حتى انخسفت به، و خرجت منه رائحتة مفرطة النتن، فرأيت أحمال شوك تمر في الطريق، فقلت: عليّ بألواح ساج، فطرحت على موضع قبره، ثم طرح التراب عليها، و انصرفت إلى الرشيد، فعرّفته الخبر، فأكثر التعجّب، و أمرني بتخلية موسى، و أن أعطيه ألف دينار، و أحضره و قال له: لم عدلت عن اليمين المتعارفة بين الناس؟ قال: لأنّا روينا عن جدنا عليّعليه‌السلام أنّه قال: من حلف بيمين مجّد اللّه تعالى فيها استحى اللّه من تعجيل عقوبته، و ما من أحد حلف بيمين كاذبة نازع اللّه فيها حوله و قوّته إلاّ عجّل اللّه له العقوبة قبل ثلاث.

قال المسعودي: و قيل إنّ صاحب هذا الخبر هو يحيى بن عبد اللّه أخو موسى( ١) .

و روى أبو الفرج و ابن بابويه كون صاحب القصة يحيى، فروى الأول في (مقاتله) و نقله ابن أبي الحديد أيضا أنّ يحيى بن عبد اللّه بن الحسن لمّا أمّنه الرشيد بعد خروجه بالديلم و صار إليه بالغ في إكرامه، فسعى به بعد مدّة عبد اللّه بن مصعب الزبيري إلى الرشيد و كان يبغضه و قال له: إنّه عاد يدعو إلى نفسه سرا، و حسّن له نقض أمانه، فأحضره و جمع بينه و بين عبد اللّه بن مصعب ليناظره فيما رفعه إليه، فجبهه ابن مصعب بحضرة الرشيد، و ادّعى عليه الحركة في الخروج، فقال يحيى للرشيد: أ تصدّق هذا عليّ و هو

____________________

(١) مروج الذهب ٣: ٣٤٠ ٣٤٢.

١٢٦

ابن عبد اللّه ابن الزبير الذي أدخل أباك عبد اللّه و ولده الشعب، و أضرم عليهم النار حتى خلّصه أبو عبد اللّه الجدلي صاحب عليّعليه‌السلام منه عنوة، و هو الذي ترك الصلاة على النبيّ‏ّصلى‌الله‌عليه‌وآله أربعين جمعة في خطبته، فلما التاث عليه الناس قال: إنّ له أهيل سوء إذا صلّيت عليه أو ذكرته أتلعوا أعناقهم و اشربوا لذكره، فأكره أن أسرّهم أو أقرّ أعينهم، و هو الذي كان يشتم أباك و يلصق به العيوب و حسى و دكّ كبده، و لقد ذبحت بقرة يوما لأبيك فوجد كبدها سوداء قد نقبت فقال عليّ ابنه: أما ترى كبد هذه يا أبه. فقال: هكذا يا بنيّ ترك ابن الزبير كبد أبيك، ثم نفاه إلى الطائف، فلمّا حضرته الوفاة قال لعليّ: يا بنيّ إذا متّ فألحق بقومك من بني عبد مناف بالشام، و لا تقم في بلد لابن الزبير فيه إمرة، فاختار له صحبة يزيد بن معاوية على صحبة عبد اللّه بن الزبير، و و اللّه إن عداوة هذا لنا جميعا سواء، و لكنّه قوي عليّ بك، و ضعف عنك، فتقرّب بي إليك ليظفر منك بي بما يريد إذ لم يقدر على مثله منك، و ما ينبغي لك أن تسوّغه على ذلك فيّ، فإن معاوية بن أبي سفيان و هو أبعد نسبا منك إلينا ذكر يوما الحسن بن عليّعليه‌السلام ، فسبّه، فساعده عبد اللّه بن الزبير، فانتهره معاوية، فقال له ابن الزبير: إنّما ساعدتك. فقال معاوية: إنّ الحسن لحمي آكله و لا أوكله، و مع هذا فهو الخارج مع أخي محمد على أبيك المنصور، و القائل لأخي في قصيدة طويلة يحرّض فيها أخي و يمدحه، منها:

لا عزّ ركنا نزار عند سطوتها

إن أسلمتك و لا ركنا ذوي يمن

أ لست أكرمهم عودا إذا انتسبوا

يوما و أطهرهم ثوبا من الدرن

و أعظم الناس عند الناس منزلة

و أبعد الناس من عيب و من وهن

قوموا ببيعتكم ننهض بطاعتنا

إن الخلافة فيكم يا بني حسن

إلى أن قال:

١٢٧

و تنقضي دولة أحكام قادتها

فينا كأحكام قوم عابدي وثن

فطالما قد بروا بالجور أعظمنا

بري الصناع قداح النبع بالسفن

فتغيّر وجه الرشيد عند سماع هذا الشعر، و تغيّظ على ابن مصعب، فابتدأ ابن مصعب يحلف باللّه الذي لا إله إلاّ هو، و بأيمان البيعة أنّ هذا الشعر ليس له، و أنه لسديف، فقال يحيى: و اللّه ما قاله غيره و ما حلفت كاذبا و لا صادقا قبل هذا، و إنّ اللّه عزّ و جلّ إذا مجّده العبد في يمينه فقال «و اللّه الطالب الغالب الرحمن الرحيم» استحى أن يعاقبه، فدعني أحلّفه بيمين ما حلف بها أحد قط كاذبا إلاّ عوجل.

قال: فحلّفه، قال: قل: «برئت من حول اللّه و قوته، و اعتصمت بحولي و قوتي، و تقلّدت الحول و القوة من دون اللّه، استكبارا على اللّه و استعلاء عليه و استغناء عنه إن كنت قلت هذا الشعر»، فامتنع، فغضب الرشيد و قال للفضل بن الربيع: ما له لا يحلف إن كان صادقا؟ فهذا طيلساني عليّ و هذه ثيابي لو حلفني بهذه اليمين أنّها لي لحلفت، فوكز الفضل عبد اللّه برجله و كان له فيه هوى و قال له: إحلف ويحك، فجعل يحلف و وجهه متغيّر و هو يرعد، فضرب يحيى بين كتفيه و قال له: يا ابن مصعب قطعت عمرك لن تفلح بعدها أبدا. فما برح عن موضعه حتى عرض له أعراض الجذام، استدارت عينه و تفقّأ وجهه، و قام إلى بيته، فتشقّق لحمه، و انتثر شعره، و مات بعد ثلاثة أيام، فلمّا جعل في القبر انخسف به حتى خرجت منه غبرة شديدة، و جعل الفضل يقول: التراب التراب فيطرح، و هو يهوي حتى سقف بخشب و طمّ عليه، فكان الرشيد بعد ذلك يقول للفضل: ما أسرع ما أديل ليحيى من ابن مصعب( ١) .

و روى (عيون ابن بابويه) عن عليّ بن محمد النوفلي قال: استحلف

____________________

(١) مقاتل الطالبيين: ٣١٥ ٣١٨، شرح ابن أبي الحديد ١٩: ٩١ ٩٤.

١٢٨

الزبير بن بكّار رجل من الطالبيين على شي‏ء بين القبر و المنبر، فحلف فبرص، فأنا رأيته و بساقيه و قدميه برص كثير، و كان أبوه بكّار قد ظلم الرضاعليه‌السلام في شي‏ء، فدعاعليه‌السلام عليه، فسقط في وقت دعائه عليه من قصر، فاندقّت عنقه.

و أما عبد اللّه بن مصعب فإنه مزّق عهد يحيى بن عبد اللّه بين يدي الرشيد و قال له: أقتله، فإنّه لا أمان له. فقال يحيى للرشيد: خرج مع أخي بالأمس و أنشده أشعارا له فأنكرها فحلّفه يحيى بالبراءة و تعجيل العقوبة، فحمّ من وقته و مات بعد ثلاث، و انخسف قبره مرّات( ١) .

و كيف كان، ففعل ذلك قبله الصادقعليه‌السلام ، أحلف من سعى به إلى المنصور بيمين البراءة، فعجّل اللّه له النقمة، ففي (فصول ابن الصباغ المالكي) عن الفضل بن الربيع قال: حجّ المنصور سنة (١٤٧) و قدم المدينة، فقال لأبي:

ابعث إلى جعفر بن محمد من يأتينا به سعيا، قتلني اللّه إن لم أقتله، فتغافل ربيع عنه، فأعاد عليه في اليوم الثاني و أغلظ له، فأرسل، فلمّا حضر قال له: إنّه أرسل إليك بما لا دافع له غير اللّه، و إنّي أتخوّفه عليك. فقال: لا حول و لا قوة إلاّ باللّه، فلمّا أدخل عليه قال له: يا عدوّ اللّه اتّخذك أهل العراق إماما يجبون إليك زكاة أموالهم، تلحد في سلطاني و تبتغي لي الغوائل إنّ فلانا أخبرني عنك بما قلت. فقال: أحضره، فأحضره و قال له: أحقّ ما حكيت لي عن جعفر؟ قال: نعم.

قالعليه‌السلام : فاستحلفه، فبدر الرجل و قال: و اللّه الذي لا إله إلاّ هو و أخذ يعدّد صفاته تعالى فقالعليه‌السلام : ليحلف بما أستحلفه و يترك يمينه هذا. فقال له المنصور: أحلفه بما تختار. فقالعليه‌السلام له: قل: «برئت من حول اللّه و قوته، و التجأت إلى حولي و قوّتي لقد فعل جعفر كذا و كذا». فامتنع الرجل، فنظر إليه المنصور نظر منكر، فحلف بها، فما كان بأسرع من أن ضرب برجله الأرض،

____________________

(١) عيون الأخبار للصدوق ٢: ٢٢٦ ح ١.

١٢٩

و قضى ميتا مكانه في المجلس. فقال المنصور: جرّوا برجله و أخرجوه لعنه اللّه، ثم قال: لا عليك يا أبا عبد اللّه أنت البري‏ء الساحة إلى أن قال فقال الربيع لهعليه‌السلام : منعت الساعي بك أن يحلف يمينه، و أحلفته أنت تلك اليمين. فقال: إن في يمينه بتوحيد اللّه و تمجيده يؤخر العقوبة عنه، و أحببت تعجيلها عليه، فأحلفته بما سمعت، فأخذه اللّه لوقته( ١) .

و روى (الكافي) عن صفوان الجمّال قال: حملت أبا عبد اللّهعليه‌السلام الحملة الثانية إلى الكوفة و المنصور فيها، فلمّا أشرف على الهاشمية مدينة المنصور نزل من الراحلة، و ركب بغلة شهباء، و لبس ثيابا بيضا، فلمّا دخل على المنصور قال له: تشبّهت بالأنبياء؟ فقالعليه‌السلام : و أنّى تبعدني من أبناء الأنبياء؟

فقال المنصور: لقد هممت أن أبعث إلى المدينة من يعقر نخلها، و يسبي ذريتها. فقالعليه‌السلام : و لم؟ فقال: رفع إلي أنّ مولاك المعلّى بن خنيس يدعو إليك، و يجمع لك الأموال. فقالعليه‌السلام : و اللّه ما كان كذا. فقال المنصور: لست أرضى إلاّ بالطلاق و العتاق، و الهدي و المشي. فقالعليه‌السلام أبا لأنداد من دون اللّه تأمرني أن أحلف. من لم يرض باللّه فليس من اللّه في شي‏ء. فقال له المنصور: أ فتتفقّه عليّ.

فقال: و أنّى تبعدني من الفقه و أنا ابن النبيّ؟ فقال: فإنّي أجمع بينك و بين من سعى بك. قال: فافعل. فجاء الرجل و قال لهعليه‌السلام : و اللّه الذي لا إله إلاّ هو عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم لقد فعلت. فقالعليه‌السلام : ويلك تمجّد اللّه، فيستحي من تعذيبك، و لكن قل: «برئت من حول اللّه و قوّته، و ألجأت إلى حولي و قوّتي»، فحلف بها الرجل، فلم يستتمّها حتى وقع ميتا، فقال له المنصور: لا أصدّق عليك بعده( ٢) .

____________________

(١) الفصول المهمة: ٢٢٥ ٢٢٦.

(٢) الكافي ٦: ٤٤٥، ٣.

١٣٠

هذا، و في (الطبري): حجّ الوليد بن عبد الملك، و حجّ محمد بن يوسف من اليمن، و حمل هدايا للوليد، و فقالت أمّ البنين للوليد: إجعل لي هدايا محمد بن يوسف، فأمر بصرفها إليها، فأرسلت رسلها إليه فيها، فأبى و قال: حتى ينظر إليها الوليد، فيرى رأيه و كانت هدايا كثيرة فقالت للوليد: إنّك أمرت بها أن تصرف إليّ و لا حاجة لي بها. قال: و لم؟ قالت: بلغني أنّه غصبها الناس، و كلّفهم عملها و ظلمهم، فحملها إلى الوليد، فقال له: بلغني أنك أصبتها غصبا.

قال: معاذ اللّه، فأمر، فاستحلف بين الركن و المقام خمسين يمينا أنه ما غصب شيئا منها، و لا ظلم أحدا فيها، و لا أصابها إلاّ من طيّب. فحلف، فقبلها الوليد و دفعها إلى أم البنين، فمات محمد بن يوسف باليمن، أصابه داء تقطّع منه( ١) .

و في (نسب قريش مصعب الزبيري): إتّهم بنو عبد مناف خداش العامري بقتل عمرو بن علقمة بن عبد المطّلب بن عبد مناف و كان أجيرا لخداش خرج معه إلى الشام، ففقد خداش حبلا، فضرب عمرا بعصا، فمرض منها، فكتب إلى أبي طالب بخبره، فمات منها، فتحاكموا فيه إلى الوليد بن المغيرة، فقضي أن يحلف خمسون رجلا من بني عامر بن لؤي عند البيت «ما قتله خداش»، فحلفوا إلاّ حويطب بن عبد العزّى، فإن أمّه افتدت يمينه، فيقال:

إنّه ما حال عليهم الحول حتى ماتوا كلهم إلا حويطبا، و انقرض أولاد خداش( ٢) .

و في (وزراء الجهشياري): في تحالف الأمين و المأمون في الكعبة ألاّ يتناكثا إن جعفر البرمكي طالب الأمين أن يقول: خذلني اللّه إن خذلت

____________________

(١) تاريخ الطبري (تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم، طبع بيروت) ٦: ٤٩٨.

(٢) نسب قريش: ٤٢٤، و نقل المصنّف لا يخلو من تصرف. لأبي عبد اللّه المصعب بن عبد اللّه بن المصعب الزبيري (١٥٦ ٣٦ ه ق). (بتحقيق إ. ليفي بروفنسال طبعة دار المعارف للطباعة و النشر).

١٣١

المأمون ففعل، و لما خرج الأمين من البيت قال للفضل بن الربيع: أجد في نفسي أن أمري لا يتمّ. فقال له: و لم ذاك أعزّ اللّه الأمير قال: لأنّي كنت أحلف و أنا أنوي الغدر. فقال له: سبحان اللّه أ في هذا الموضع؟ فقال له: هو ما قلت لك( ١) .

هذا، و في بعض كتب الأدب: إن أعرابيّين اختصما إلى بعض الولاة في دين لأحدهما، فجعل المدّعى عليه يحلف بالطلاق و العتاق، فقال المدّعي: دعني من هذه الايمان، و احلف بما أقول لك. قل: «لا يترك اللّه لي خفا يتبع خفا، و لا ظلفا يتبع ظلفا، و حتّني من أهلي و مالي حتّ الورق من الشجر، إن كان لك قبلي هذا الحق»، فلم يحلف، و أعطاه حقه. و الخفّ: كناية عن الإبل، و الظّلف: كناية عن البقر و الشاة.

و في (يتيمة الثعالبي): قال أبو إسحاق الصابي: طلب منّي رسول سيف الدولة، و كان قدم إلى الحضرة شيئا من شعري، و ذكر أن صاحبه رسم له ذلك، فدافعته أياما، ثم ألحّ علي وقت خروجه، فأعطيته هذه الأبيات:

إن كنت خنتك في الأمانة ساعة

فذممت سيف الدولة المحمودا

و زعمت أن له شريكا في العلى

و جحدته في فضله التوحيدا

قسما لو أني حالف بغموسها

لغريم دين ما أراد مزيدا

فلما عاد الرسول إلى الحضرة أخرج إليّ كيسا بختم سيف الدولة مكتوبا عليه اسمي و فيه ثلاثمئة دينار( ٢) .

و في (الأغاني): قال محمد بن سلام: أنشدني ابن قنبر لنفسه:

____________________

(١) انظر الوزراء و الكتاب (أبو عبد اللّه محمد بن عبدوس الجهشياري) بتصحيح و تحقيق عبد اللّه اسماعيل الصاوي، ط القاهرة: ١٧٥.

(٢) يتيمة الدهر للثعالبي ١: ٢٣.

١٣٢

صرمتني ثم لا كلّمتني أبدا

إن كنت خنتك في حال من الحال

و لا اجترمت الذي فيه خيانتكم

و لا جرت خطرة منه على بالي

فقلت له و أنا أضحك: يا هذا لقد بالغت في اليمين. فقال: هي عندي كذاك و إن لم تكن عندك كما هي عندي( ١) .

و في (الطبري): غنّي علوية بدمشق المأمون:

برئت من الإسلام إن كان ذا الذي

أتاك به الواشون عنّي كما قالوا

و لكنّهم لمّا رأوك سريعة

إليّ تواصوا بالنميمة و احتالوا

فقال له: لمن هذا الشعر؟ فقال: لقاضي دمشق. فقال: يا أبا إسحاق اعزله، فما كنت أولّي رقاب المسلمين من يبدأ في هزله بالبراءة من الإسلام.

ثم قال: يا علوية لا تقل: «برئت من الإسلام» قل:

حرمت مناي منك إن كان ذا الذي

أتاك به الواشون عنّي كما قالوا( ٢)

و قالوا: كان بعض أهل البصرة يتشيّع و يوافقه على مذهبه رجل، فأودعه مالا، فجحده، فاضطرّ إلى أن قال لمحمد بن سليمان و سأله أن يحضره و يحلفه بحق عليّعليه‌السلام ، ففعل ذلك. فقال الرجل: أعزّ اللّه الأمير، هذا الرجل صديقي، و هو أعزّ عليّ، و أجلّ من أن أحلف بالبراءة من مختلف في ولايته و إيمانه، و لكنّي أحلف له بالبراءة من المتفق على إيمانهما و ولايتهما أبي بكر و عمر. فضحك محمد بن سليمان، و التزم المال، و خلّى عن الرجل.

و في (الأذكياء) عن غلام ابن المزوّق البغدادي: زوّجني مولاي جارية أحببتها حبا شديدا، و أبغضتني بغضا شديدا، و كنت أحتمل تنافرها إلى أن أضجرتني. فقلت لها يوما: أنت طالق ثلاثا إن خاطبتني بشي‏ء إلاّ خاطبتك

____________________

(١) الأغاني لأبي الفرج ١٤: ١٦٥ ١٦٦.

(٢) تاريخ الطبري ٨: ٦٥٦ (تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم، ط بيروت)، بتصرف.

١٣٣

بمثله، فقد أفسدك احتمالي لك. فقالت في الحال: «أنت طالق ثلاثا بتاتا» فأبلست و لم أدر ما اجيبها به خوفا أن أقول لها مثل ما قالت، فتصير بذلك طالقا مني، فارشدت إلى أبي جعفر الطبري، فأخبرته بما جرى، فقال: أقم معها بعد أن تقول لها «أنت طالق ثلاثا إن أنا طلّقتك» فتكون وفيت بيمينك و لم تطلقها و لا تعاود الأيمان( ١) .

قلت: و هذا على مذهب العامة.

و في (أخبار حكماء القفطي): لما تقرّر الصلح بين عضد الدولة و ابن عمه بختيار عزّ الدولة، تقدّم بختيار إلى أبي إسحاق الصابي بإنشاء نسخة يمين فأنشأها و استوفى فيها الشروط حق الاستيفاء فلم يجد عضد الدولة مجالا في نكثها، و ألزمته الضرورة الحلف بها، فلما عاد إلى العراق و ملكها حبس الصابي مده طويلة( ٢) .

هذا، و كما علّم أمير المؤمنينعليه‌السلام الناس إحلاف الظالم كذلك علمهم إحلاف الأخرس، قال الصادق: سئل أمير المؤمنينعليه‌السلام عن حلف الأخرس فقال: الحمد للّه الذي لم يخرجني من الدنيا حتى بيّنت للامة جميع ما تحتاج إليه. ثم قال: إيتوني بمصحف. فاتي به فقال للأخرس: ما هذا، فرفع رأسه إلى السماء أشار إلى انه كتاب اللّه تعالى ثم قال: إيتوني بوليه فأتي بأخ له فأقعده إلى جنبه ثم قال: يا قنبر عليّ بداوة و صحيفة فأتاه بهما ثم قال لأخي الأخرس قل لأخيك بينك و بينه إنه علي، فتقدم إليه بذلك، ثم كتبعليه‌السلام «و اللّه الذي لا إله إلاّ هو عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم الطالب الغالب الضار النافع المهلك المدرك الذي يعلم السرّ و العلانية إنّ فلان بن فلان المدّعي ليس

____________________

(١) الأذكياء لابن الجوزي: ١١٢، نقله المصنّف بتصرف.

(٢) إخبار العلماء بأخبار الحكماء: ٥٤، (جمال الدين أبو الحسن علي بن القاضي يوسف القفطي) المتوفى سنة (٦٤٦).

١٣٤

له قبل فلان بن فلان يعني الأخرس حقّ و لا طلبة بوجه من الوجوه، و لا بسبب من الأسباب، ثم غسله و أمر الأخرس أن يشربه، فامتنع. فألزمه الدين( ١) .

و كذا إحلاف أهل الكتاب، فروى (الكافي): أنّهعليه‌السلام استحلف يهوديّا بالتوراة التي انزلت على موسىعليه‌السلام ( ٢ ) ، لكن في طريقه السكوني العامي.

و في (الصحيح) عن الصادقعليه‌السلام : لا يحلف اليهودي و لا النصراني و لا المجوسي بغير اللّه، إن اللّه تعالى يقول: فاحكم بينهم بما أنزل اللّه( ٣) .

و يمكن حمل ذاك الخبر على جواز إحلاف الكتابي بكتابه إذا كان ارتداعه به أكثر من ارتداعه بالحلف به تعالى.

«احلفوا الظالم» إلى «عوجل العقوبة» هكذا في (المصرية)( ٤ ) و ليست كلمة «العقوبة» في (ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية)( ٥) .

«و إذا حلف» إلى «لم يعاجل لأنّه قد وحّد اللّه تعالى» هكذا في (المصرية)( ٦ ) و الصواب: «سبحانه» كما في (ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية)( ٧) .

٣ - الخطبة (٢٧٢) و قالعليه‌السلام :

لَوْ قَدِ اِسْتَوَتْ قَدَمَايَ مِنْ هَذِهِ اَلْمَدَاحِضِ لَغَيَّرْتُ أَشْيَاءَ

____________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٣: ٦٥ ٦٦، ح ٢، و التهذيب ٦: ٣١٩، ح ٨٦.

(٢) الكافي ٧: ٤٥١، ٣.

(٣) الكافي ٧: ٤٥١، ٤. و الآية ٤٨ من سورة المائدة.

(٤) نهج البلاغة ٣: ٢٠٩، الحكمة ٢٥٣.

(٥) شرح ابن أبي الحديد ١٩: ٩١، هكذا ابن ميثم، الطبعة الحجرية ٣: ٤٩٦.

(٦) نهج البلاغة ٣: ٢٠٩، الحكمة ٢٥٣.

(٧) شرح ابن أبي الحديد ١٩: ٩١، هكذا ابن ميثم ٣: ٤٩٦، السطر الخامس هكذا.

١٣٥

هكذا في (المصرية)( ١ ) و (ابن أبي الحديد)( ٢ ) و لكن في (ابن ميثم)( ٣ ) «في هذه المداحض» و هو أصح.

و كيف كان فقال ابن أبي الحديد: لسنا نشكّ أنهعليه‌السلام كان يذهب في الأحكام الشرعية و القضايا إلى أشياء يخالف فيها أقوال الصحابة، نحو قطعه السارق من رؤوس الأصابع، و بيعه امهات الأولاد، و غير ذلك، و إنّما كان يمنعه من تغيير أحكام من تقدّمه اشتغاله بحرب البغاة و الخوارج، و إلى ذلك يشير بالمداحض الّتي كان يؤمّل استواء قدميه منها، و لهذا قال لقضاته:

«أقضوا كما كنتم تقضون حتى يكون للناس جماعة»( ٤) .

قلت: تمثيله بقطع السارق من رؤوس الأصابع و بيع امهات الأولاد في غير محله، فإنّ مذهبهعليه‌السلام و مذهب عترته إبقاء الابهام و قطع باقي الأصابع في السارق، و أما امهات الأولاد فعدم جواز بيعهن إلاّ إذا مات مواليهن و كان ثمنهن دينا و لم يخلّفوا شيئا سواهن.

و قوله «كان يمنعه من التغيير اشتغاله بحرب البغاة» في الجملة صحيح، و قد قالت أروى بنت الحارث بن عبد المطلب لمعاوية كما في (بلاغات أحمد بن أبي طاهر البغدادي) فيما قالت له: «و دعانا أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى أخذ حقّنا الذي فرض اللّه لنا فشغل بحربك عن وضع الامور مواضعها»( ٥ ) ، إلاّ أنّ الأصل و الحقيقة كون أصحابهعليه‌السلام غير عارفين به، فلو لم تكن البغاة لم يتمكنعليه‌السلام أيضا من تغيير ما أراد، فروى (روضة الكافي) عن سليم بن قيس

____________________

(١) نهج البلاغة ٣: ٢١٩.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١٦: ١٦١، هكذا.

(٣) ابن ميثم ٣: ٤٩٩، و فيه «من هذه المداحض».

(٤) شرح ابن أبي الحديد ١٦: ١٦١، هكذا.

(٥) بلاغات النساء لأحمد بن أبي طاهر البغدادي: ٢٩، طبعة النجف الأشرف سنة ١٣٦١ ه

١٣٦

الهلالي أنهعليه‌السلام خطب فقال: سمعت النبيّ‏ّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: «كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير و يهرم فيها الكبير، يجري الناس عليها و يتّخذونها سنّة، فإذا غيّر منها شي‏ء قيل قد غيّرت السنّة و قد أتى الناس منكرا» ثم أقبلعليه‌السلام بوجهه و حوله ناس من أهل بيته و خاصته و شيعته إليهم و قال: قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها النبيّ متعمدين لخلافه، ناقضين لعهده مغيّرين لسنته، و لو حملت الناس على تركها و حوّلتها إلى مواضعها و إلى ما كانت في عهد النبيّ لتفرّق عنّي جندي حتى أبقى وحدي، أو مع قليل من شيعتي الّذين عرفوا فضلي و فرض إمامتي من كتاب اللّه و سنّة رسوله.

أ رأيتم لو أمرت بمقام إبراهيمعليه‌السلام فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه النبيّ، و رددت فدك إلى ورثة فاطمة، و رددت صاع النبيّ كما كان، و أمضيت قطائع أقطعها النبيّ لأقوام لم تمض لهم و لم تنفّذ، و رددت دار جعفر إلى ورثته و هدمتها من المسجد، و رددت قضايا من الجور قضي بها، و نزعت نساء تحت رجال بغير حق فرددتهن إلى أزواجهن و استقبلت بهن الحكم في الفروج و الاحكام، و سبيت ذراري بني تغلب، و رددت ما قسّم من أرض خيبر، و محوت دواوين العطاء، و أعطيت كما كان النبيّ يعطي بالسوية، و لم أجعلها دولة بين الأغنياء، و ألقيت المساحة، و سوّيت بين المناكح، و أنفذت خمس الرسول كما أنزل اللّه و فرضه، و رددت مسجد النبيّ إلى ما كان عليه، و سددت ما فتح من الأبواب و فتحت ما سدّ منه، و حرّمت المسح على الخفّين، و حددت على النبيذ، و أمرت بإحلال المتعتين، و أمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات، و ألزمت الناس الجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم، و أخرجت من أدخل مع النبيّ ممّن كان أخرجه، و أدخلت من أخرج بعد النبيّ، و حملت الناس على حكم القرآن في الطلاق، و أخذت الصدقات على أصنافها و حدودها، و رددت

١٣٧

الوضوء و الغسل و الصلاة إلى مواقيتها و شرائعها و مواضعها، و رددت أهل نجران إلى مواضعهم، و رددت سبايا فارس و سائر الامم إلى كتاب اللّه و سنّة نبيه، إذن لتفرّقوا عنّي. و اللّه لقد أمرت الناس ألاّ يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة، و أعلمتهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة، فتنادي بعض أهل عسكري ممّن يقاتل معي: يا أهل الإسلام غيّرت سنّة عمر، ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعا.

إلى أن قال: و ما لقي أهل بيت نبيّ من أمّته ما لقينا بعد نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله ، و اللّه المستعان على من ظلمنا( ١) .

و روى الجوهري في (سقيفته) و قد نقله ابن أبي الحديد( ٢ ) في موضع آخر عن محمد بن إسحاق قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي قلت: أ رأيت عليّاعليه‌السلام حين ولي أمر الناس كيف صنع في سهم ذوي القربى؟ قال: سلك بهم طريق أبي بكر و عمر. قلت: و كيف و لم و أنتم تقولون؟ قال: أما و اللّه ما كان أهله يصدرون إلاّ عن رأيه. فقلت: فما منعه؟ قال: كان يكره أن يدّعى‏ عليه مخالفة أبي بكر و عمر( ٣) .

و روي أيضا في (زيادات سقيفته) و قد نقله ابن أبي الحديد( ٤ ) في موضع آخر عن سهل الساعدي قال: مشيت وراء عليّعليه‌السلام حيث انصرف من عند عمر في الشورى، و العباس يمشي في جانبه، فسمعته يقول للعباس:

ذهبت منا و اللّه أي: الخلافة فقال له العباس: كيف علمت؟ قال: ألا تسمعه أي: عمر يقول كونوا في الجانب الذي فيه عبد الرحمن و سعد و ابن عمر؟

____________________

(١) الكافي ٨: ٥٨ ٦٢ ح ٢١.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١٦: ٢٣١، و فيه: «أ رأيت عليّاعليه‌السلام حين ولي العراق و ما ولي من أمر الناس...».

(٣) السقيفة للجوهري: ١١٥.

(٤) شرح ابن أبي الحديد ٩: ٥٠ ٥١، نقله مع فرق يسير.

١٣٨

و عبد الرحمن نظير عثمان و هو صهره فإذا اجتمع هؤلاء فلو أن الرجلين الباقيين كانا معي لم يغنيا عني شيئا، دع إنّي لست أرجو أحدهما و مع ذلك فقد أحب عمر أن يعلمنا أن لعبد الرحمن عنده فضلا علينا، لا، لعمر اللّه ما جعل اللّه ذلك لهم علينا كما لم يجعل لأولادهم على أولادنا، أما و اللّه لئن لم يمت عمر لأذكّرنّه ما أتى إلينا قديما و لأعلمنه سوء رأيه فينا و ما أتى إلينا حديثا، و لئن مات و ليموتنّ ليجمعنّ هؤلاء القوم على أن يصرفوا هذا الأمر عنّا، و لئن فعلوها و ليفعلنّ ليرونّي حيث يكرهون، و اللّه ما بي رغبة في السلطان و لا حب الدنيا، و لكن لإظهار العدل و القيام بالكتاب و السنة. ثم التفت فرآني وراءه فعرفت انه قد ساءه ذلك، فقلت: لا ترع أبا حسن لا و اللّه لا يسمع أحد ما سمعت منك ما اصطحبنا، فو اللّه ما سمعه مني أحد حتى قبضعليه‌السلام ( ١) .

و روى (شورى عوانة) عن الشعبي قال: خرج المقداد من غد بيعة عثمان فلقي عبد الرحمن بن عوف فأخذ بيده و قال له: إن كنت أردت بما صنعت وجه اللّه فأثابك اللّه ثواب الدنيا و الآخرة، و إن كنت إنّما أردت الدنيا فأكثر اللّه مالك. فقال عبد الرحمن: إسمع رحمك اللّه اسمع. قال: لا أسمع و اللّه، و جذب يده من يده و مضى حتى دخل على عليّعليه‌السلام فقال: قم فقاتل حتى نقاتل معك. قال علي: فبمن أقاتل رحمك اللّه، و أقبل عمّار ينادي:

يا ناعي الإسلام قم فانعه

قد مات عرف و بدا نكر

أما و اللّه لو أن لي أعوانا لقاتلتهم، و اللّه لئن قاتلهم واحد لأكوننّ له ثانيا. فقال عليّعليه‌السلام : «يا أبا اليقظان و اللّه لا أجد عليهم أعوانا، و لا أحب أن أعرّضكم لما لا تطيقون»، و بقي عليّ في داره و عنده نفر من أهل بيته و ليس

____________________

(١) السقيفة: ٨٢.

١٣٩

يدخل إليه أحد مخافة عثمان( ١) .

و المأمون مع استقرار سلطنته الوسيعة أراد إعلان حلّيّة المتعة و نشر لعن معاوية فما قدر، فكيف كانعليه‌السلام يقدر مع تلك السلطنة المتزلزلة المحدودة حتى قالعليه‌السلام «إن هي إلاّ الكوفة أقبضها و أبسطها»( ٢) .

و قال الكراجكي في (كتاب تعجبه): و من العجب أنهم قالوا إذا كان أبو بكر و عمر و عثمان تركوا كثيرا من الأحكام و أظهروا البدع في الاسلام فلم لم يغيّر ذلك أمير المؤمنينعليه‌السلام لما انتهى الأمر إليه بعد عثمان؟ أو لا يرون أنهعليه‌السلام نهاهم عن الجماعة في صلاة نوافل شهر رمضان فتفرقوا عنه و صاحوا و اعمراه نهيتنا عن سنة عمر بن الخطاب، فإذا كانت هذه حاله معهم في النهي عن أمر يعلمون أنّ عمر ابتدعه، و يتحقّقون أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله نهى‏ عنه و أنكره، و يجعلون البدعة من عمر سنة، فكيف لو غيّرعليه‌السلام أكثر من هذا، بل لو غيّر بدعهم كلها و جاهر بمخالفتهم في الامور التي استحدثوها؟ فكيف ينكر تقيّته منهم و هذه حاله معهم؟ أ لم يسمعوا قولهعليه‌السلام «أما و اللّه لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، و بين أهل الإنجيل بإنجيلهم، و بين أهل الفرقان بفرقانهم حتى ينطق كل كتاب و يقول: يا ربّ قضى عليّ فينا بقضائك، و قوله: «أما و اللّه لو ثبتت قدماي لغيّرت امورا كثيرة»( ٣) .

و روى محمد بن يعقوب في (كافيه) عن معمر بن يحيى قال: سألت أبا جعفرعليه‌السلام عمّا يروي الناس عن عليّعليه‌السلام في أشياء من الفروج لم يكن يأمر بها و لا ينهى عنها إلاّ أنه ينهى عنها نفسه و ولده، فقلت: و كيف يكون ذلك؟ قال:

____________________

(١) السقيفة: ٨٧.

(٢) نهج البلاغة ١: ٦٠ من الخطبة ٢٥ و فيه «ما هي...».

(٣) التعجب: ٢٤.

١٤٠