بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٨

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة8%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 668

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤
  • البداية
  • السابق
  • 668 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • المشاهدات: 65810 / تحميل: 3826
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

المستجدّة، أم في بحث السُنن والآداب الدينيّة الاجتماعيّة المستجدّة.

هل يمكن استفادة الجواز من دليل:(مَن سَنّ سُنّةً حَسنة كان له أجرها وأجر مَن عملَ بها إلى يوم القيامة) (1) ، والتدليل على شرعيّة الآداب والسُنن التي تُستحدث من قِبَل المتشرِّعة؟

هل يعطي هذا الدليل نوعاً من التخويل بيد المتشرِّعة؟ ثمّ ما هو محلّ هذه المنطقة من التشريع؟ هذا بحث مستقلّ، وسنرى أنّ هذه المنطقة التي فُوّض فيها التشريع تشمل بعض السُنن الاجتماعيّة المشروعة في دائرة معيّنة، في الوقت الذي مُنع التفويض في موارد أخرى.

أي سُوِّغ في بعض ومُنع في بعض آخر، وسوف نُبيّن أنّ هذه المنطقة هي نفس منطقة اتّخاذ الشعائر، وهي منطقة تطبيق العمومات أو العناوين الثانويّة في جنبة الموضوع على المصاديق.

يُنقل أنّ الميرزا النوري (قدِّس سرّه) - صاحب كتاب مستدرك الوسائل - هو الذي شيّد سُنّة السير على الأقدام من النجف إلى كربلاء، بقصد زيارة سيّد الشهداء (عليه السلام) في الأربعين، وإن كانت الروايات تدلّ على العموم، مثل ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام):(مَن أتى قبر الحسين (عليه السلام) ماشياً كتبَ الله له بكلّ خطوة ألف حسنةٍ، ومحى عنه ألف سيّئة، ورفعَ له ألف درجة..) (2) .

ولكن على صعيد سُنّة وطقس خاص: كالسير لزيارة النصف من رجب، والنصف من شعبان ونحو ذلك، قد تتفشّى وتنتشر سُنّة وعادة خاصّة

____________________

(1) المصدر السابق.

(2) وسائل الشيعة 10: 342؛ كامل الزيارات: 133.

(2) من الجواب التفصيلي عن إشكاليّة وضع الشعائر بيد العُرف.

١٠١

لدى المؤمنين، فتُقرّر المشروعيّة بواسطة العموم الذي يشمل كلّ المصاديق، ويتناول المصاديق المحلّلة بالحلّيّة بالمعنى الأعم، أو قد يُعمّم تناوله للمحرّمة منها والمنجّزة كما مرّ.

خلاصة القول في النقطة الثالثة (1) :

إنّ الشارع إذا أمرَ بالمعنى العام الكلّي، فإنّه يُستفاد من ذلك التخيير أو الجواز الشرعي في التطبيق على الأفراد المتعدِّد، ومقتضى هذا التخيير والجواز هو التطبيق على الموارد والأفراد في الخصوصيّات المتعدّدة، مثل: ما إذا أمرَ الشارع بالصلاة، أو أمرَ ببرّ الوالدين، أو بمودّة ذوي القربى، أو أمرَ بفعل من الأفعال الكلّيّة، فيجوز تطبيق هذه الطبيعة الكلّيّة بالمعنى العام على أفراد الخصوصيّات في الموارد العديدة، باعتبار أنّ الشارع لم يُقيّد الفعل المأمور به بخصوصيّة أو بقيدٍ خاصّ معيّن، إلاّ أنّ هذا الجواز العقلي في تطبيق الطبيعة على الموارد والخصوصيات الكثيرة، لا يشمل موارد كون الأفراد محرّمة، فهذا الجواز والتخيير إنّما يُحدَّد بدائرة الأفراد المحلّلة.

فهذا حال العناوين الثانويّة التي تطرأ على المصاديق، ومثل: طروّ الصلاة على المصاديق قد يقال إنّها حالة ثانويّة، مثلاً: الصلاة حالة ثانويّة في الدار الغصبيّة، أو الصلاة في الأرض المخطورة، أو الأرض السبخة، على كلّ حال طروّ العنوان الكلّي على الأفراد المخصوصة يكون طروّاً ثانويّاً، والمفروض بمقتضى النقطة الأولى التي ذكرناها، وهي: أنّ للمكلّف التخيير في تطبيق الكلّي على موارد الأفراد العديدة، وبمقتضى النقطة الثانية ذكرنا

____________________

(1) من الجواب التفصيليّ عن إشكاليّة وضع الشعائر بيد العُرف.

١٠٢

أنّ الطبيعة الكلّيّة تكون حالة ثانويّة بالنسبة للأفراد وللخصوصيّات.

وبمقتضى النقطة الثالثة أيضاً، فالمفروض أنّ هذا العنوان الثانوي في جنبة الموضوع لا في جنبة الحكم، وهذا العنوان الثانوي في جنبة الموضوع لا يسوغ تطبيقه في الفرد الحرام؛ وإنّما يختصّ بدائرة الأفراد المحلّلة(1) .

وقد قرأتُ بعض كلمات الأعلام التي مؤدّاها: أنّ مثل إظهار الحزن والبكاء على مصاب الحسين (عليه السلام) إذا كان مصداقه لبس السواد - الذي هو مكروه في الصلاة مثلاً -، ومثل الشبيه وغيره، يسوغ اتّخاذه شعيرةً لإظهار الحزن على مصاب الحسين (عليه السلام)، فيُلاحظ في الكثير من فتاوى أساطين الفقه أنّهم سوّغوا اتّخاذها شعيرة، وحكموا بعدم الكراهة إذا كانت بعنوان الحزن، فانتهى البحث إلى ضرورة تحليل ضابطة التعارض وضابطة التزاحم؛ كي يتمّ تمحيص دائرة تطبيق العمومات للطبائع المأمور بها والمندوب إتيانها.

وإنّ دَيدن الفقهاء في الفتاوى المختصّة بالشعائر، والتي أشرنا إلى بعضها: هو التمييز بين التعارض والتزاحم للأدلّة ومعرفة الضابطة للتفرقة بينهما، حيث إنّه مع التعارض سوف يُزوى الدليل المبتلى بالتعارض عن التمسّك به كمستند ويسقط، وبعبارةٍ أخرى، سوف لا يكون مستنداً شرعيّاً، ولا مَدركاً شرعيّاً، وبالتالي ما يؤتى به من مصاديق تكون غير

____________________

(1) وقد ذهبَ بعض العلماء مثل: الميرزا القمّي (قدِّس سرّه) وغيره إلى أكثر من ذلك، حيث عمّم دائرة تطبيق متعلّق الأمر على المصداق المحرّم فيما إذا كانت الحرمة غير منجّزة، بل يتناول العموم كذلك الفرد المحرّم المنجّز أيضاً، وإن امتنع الامتثال في الصورة الأخيرة؛ لكونه فاسداً، لبداهة امتناع التقرّب بالمصداق المحرّم.

١٠٣

شرعيّة.

وأمّا إذا بنينا على التزاحم، فلا يسبِّب ذلك سقوطاً للدليل، فيكون حكمه فعليّاً بفعليّة موضوعه، فيجوز الاستناد إليه شرعاً، فلابدّ من معرفة ضابطة التزاحم والتعارض في هذه النقطة الثالثة من الجهة الرابعة.

ضابطةُ التعارض والتزاحم

إنّ ثمرة هذه الضابطة هي معرفة الموارد التي ينعدمُ ويُلغى فيها الدليل، فيكون عملنا في المصداق بلا شرعيّة، ويُحكم عليه بالبدعيّة، بعكس ما إذا أثبتنا عدم التعارض ووجود الدليل بالفِعل، فيكون عملنا عملاً شرعيّاً ومستنِداً إلى مدارك شرعيّة.

وهذه الزاوية هي أحد الزوايا التي تدفع البدعيّة في المقام، وتُثبت الشرعيّة.

والضابطة: هي أنّ كلّ مورد يكون فيه بين الدليلين تنافياً وتضادّاً وتنافراً في عالَم الجعل والتشريع، مثل: طلب النقيضين كما في (صلّ)، و(لا تصلِّ) فهنا يتحقّق التعارض، وبعبارةٍ أخرى: أن يكون التنافي بين الدليلين غالبيّاً، أو دائميّاً على صعيد التنظير والإطار لطبيعة متعلّق كلّ من الدليلين، سواء كانت النسبة نسبة عموم وخصوص من وجه، أو عموم و خصوص مطلق، أو تباين، سوف يكون تعارضاً، أمّا التزاحم فهو أنّ التنافي والتنافر بين الدليلين ليس ناشئاً من عالَم الجعل والتشريع، وإنّما يطرأ في عالَم الامتثال والتطبيق، أي أنّ التنافي هنا ينشأ بين الدليلين من باب الصدفة والاتّفاق، مثل: تصادف وجوب امتثال إنقاذ الغريق بالمرور على أرض مغصوبة.

١٠٤

هذه هي الضابطة بين التعارض والتزاحم.

وحالات العلاقة بين الأدلّة هي حالات عديدة جدّاً، وبعنوان الفهرسة فقط نذكر أنّ هناك وروداً وتوارداً وحكومة في مقام التنظير ومؤدّى الدليل، أي هناك تعارض وتزاحم ملاكي، وتزاحم امتثالي وحكومة في مقام الامتثال أو إحرازه.

وهذه حالات عديدة لكن لا تعنينا الآن، بل يُعنينا في المقام هو التفرقة بين التعارض وعدمه من الحالات الأخرى.

أمّا حالات عدم التعارض فلها بحث آخر، والمهمّ التثبّت من عدم وجود تعارض في البَين؛ لأنّ التعارض سوف يؤدّي إلى إزواء وإسقاط أحد الدليلين أو كلا الدليلين عن المورد، فسوف يكون المصداق والتطبيق في ذلك المورد خِلواً من الدليل ومجرّداً عن الشرعيّة.

إذاً، الاتفاقيّة في تنافي الدليلين على صعيد المؤدّى الفرضي، والدائميّة هي ضابطة التعارض وعدم التعارض، ولذلك نجد في العديد من موارد اجتماع الأمر والنهي - التي هي عموم من وجه - أنّهم لا يلتزمون بالتعارض لاتّفاقية التنافي وعدم دائميّته، وموارد التضادّ أيضاً، ومسألة التزاحم في الامتثال بين الحُكمين - كالصلاة وتطهير المسجد - هي مسألة التلازم الاتّفاقي بامتثال أحدهما لترك الآخر واتّفاق التقارن لدليلين في ظرف واحد، تكون النسبة شبيهة بعمومٍ وخصوص من وجه أيضاً، لكنّها اتّفاقيّة وليست بدائميّة.

وليست الدائميّة والاتفاقيّة بلحاظ الزمن - كما قد يتبادر في الذهن - بل المراد هو أنّ نفس مفاد الدليلين في أنفسهما - بغضّ النظر عن التطبيق الخارجي، وبغضّ النظر عن الممارسة الخارجيّة والمصداق الخارجي - يتحقّق بينها تنافي وتنافر. الدليلان في نفسيهما لو وضعتهما في بوتقة الدلالة وبوتقة التنظير والمفاد الفرضي، يحصل التنافي بينهما.

وتارةً الدليلان في نفسيهما في عالَم الدلالة وأُفق الدلالة وأُفق المفاد، أي بلحاظ الأجزاء الذاتيّة لماهيّة متعلّق الدليلين هناك نقطة تلاقي واتّحاد بين المتعلّقين، مع كون حكميهما متنافيين، أي بلحاظ إطار طبيعة كلّ من متعلّق الحُكمين، بغضّ النظر عن التطبيق والمصداق والممارسة الخارجيّة، نفس مؤدّى دلالة الدليلين ليس بينهما تنافٍ؛ وإنّما نَشأ التنافي من ممارسة خارجيّة، أي من وحدة الوجود لا من وحدة بعض أجزاء الماهيّة، فإن كان التنافي نشأ من ممارسة خارجيّة فيُقرّر أنّ التنافي اتفاقي، وإن كانت الممارسة طويلة الأمد في عمود الزمان، لكنّها ليست من شؤون الدلالة والتقنين وإنشاء القانون، فليس هناك تكاذب في الجعل، وأمّا إذا كانت بلحاظ نفس مؤدّى ماهيّة كلّ من المتعلّقين ودلالة الدليلين فهو من التعارض.

١٠٥

وإنّ مبنى المشهور شهرة عظيمة: أنّ النسبة بين العناوين الثانويّة في جنبة الحكم - مثل: الضرر، الحرج، الاضطرار، الإكراه، النسيان، وغيرها - نسبتها مع الأحكام الأوّليّة ليست نسبة التعارض، بل نسبة التزاحم، ويُعبّرون عنها بأنّها (حاكمة) على أدلّة الأحكام الأوّليّة، يعني حاكمة في صورة الدلالة، أو واردة في صورة الدلالة، لكنّ هذه الحكومة أو الورود في صورة الدلالة هي لُبّاً تزاحم.

ومن ثمرات هذه الضابطة التي تميّز التعارض عن عدم التعارض، والاتفاقيّة والدائميّة: أنّ النسبة بين العناوين الثانويّة في جنبة الحكم والأحكام الأوّليّة هي نسبة اتفاقيّة؛ لأنّ الضرر، أو الحرج، أو النسيان، أو الإكراه نشأ بسبب الممارسة الخارجيّة، وإلاّ ففي الفرض التقرّري لمعنى وماهيّة مؤدّى كِلا الدليلين، يتبيّن أنّه لا تصادُم بين دليل الإكراه أو الضرر - مثلاً - وبين أدلّة الأحكام الأوّليّة، وهذا دليل على أنّ التنافي ليس بسبب الدلالة؛ وإنّما هو بسبب الممارسة الخارجيّة وفي عالَم الامتثال.

بخلاف ما إذا كان التنافي والتصادم دائميّاً وغالبيّاً فهو تعارضي.

فبمقتضى النقطة الثانية: أنّ هذه العناوين الكلّيّة حالات ثانويّة في المصداق، لكنّ ملاكها أوّلي، فتكون ملاكاً أوّليّاً للمصاديق، وإن كانت حالات ثانويّة في المصداق، فكونها ثانويّة في المصداق، لا يُتوهّم ويُتخيّل منه أنّها ثانويّة واستثنائيّة وشاذّة الملاك، بل حكمها أوّلي؛ إنّما هي ثانويّة الموضوع، هذا بمقتضى النقطة الثانية.

١٠٦

وبمقتضى النقطة الثالثة: أنّ الشرعيّة باقية وإن كان المصداق حكمه الكراهة، فضلاً عن الاستحباب , وفضلاً عن الإباحة، وفضلاً عن الوجوب.

بل ولو كان المصداق محرّماً إذا كان غير منجزّ، ويكون حينئذٍ من قبيل: اجتماع الأمر والنهي، سواء مع المندوحة أو بدونها(1) ، بل في تصوير بعض الأعلام ولو كان منجّزاً(2) بشرط الاتفاقيّة في التصادق.

والمفروض أنّ اتّخاذ الشعائر - وسُبل ووسائل الإنذار، والبثّ الديني ووسائل إعزاز وإعلاء الدين - اتفاقي بلحاظ تقرّر معنى ومؤدّى الدليلَين - دليل الشعائر ودليل الحرمة -؛ لأنّ التصادق بسبب الخارج، وهو ليس بدائمي.

فمن ثُمّ نقول في الجهة الرابعة، إنّنا لو سلّمنا بنظريّة القائل بأنّ الشعائر حقيقة شرعيّة، فلن ننتهي إلى النتيجة التي يأمل أن يصل إليها، وهي الحُكم على الشعائر المستجدّة المُستحدَثة بأنّها بدعة، بل يحكم عليها بمحض الدليل بالشرعيّة، لمَا بيّنّاه من الفَرق بين البدعيّة والشرعيّة.

وإنّ البدعيّة أحد ضوابطها إزواء الدليل وسقوط حجّيّته عن التأثير في ذلك

____________________

(1) إذا كان الأمر هو (صلّ)، والنهي (لا تغصب)، فمع المندوحة: أي مع فرض التمكّن من الخروج من الأرض المغصوبة وأداء الصلاة في مكان آخر (والمندوحة معناها: التمكّن والمجال والسعة)، لا يتحقّق التزاحم أصلاً.

أمّا بدون المندوحة: فهي في فرض عدم التمكّن من الخروج من الأرض المغصوبة، فهنا يتحقّق التزاحم؛ لعدم إمكان امتثال الحُكمين معاً فيُقدّم الأهمّ منها.

(2) مثل: وجوب الصلاة وحرمة الغصب، غاية الأمر أنّ تنجّز الغصب يمانع من صحّة الصلاة، ولا يُمانع من شمول الأمر بالصلاة للفرد الغصبي، وقد ذهبَ إلى ذلك الميرزا القمّي (قدِّس سرّه).

١٠٧

المصداق في مجال التطبيق، أمّا إذا لم يسقط الدليل وشملَ وعمّ وتناول ذلك المصداق، فسوف يكون هناك تمام الشرعيّة وفقاً لمَا بيّنّاه عبر النقاط الثلاث الآنفة الذكر.

هذا تمام الكلام في الجواب التفصيليّ الأوّل عن إشكاليّة وضع الشعائر بيد العُرف، وكما يظهر منه أنّه جوابٌ نقضي.

الجوابُ التفصيلي الثاني (1) :

عن إشكاليّة وضع الشعائر بيد العرف، وهو جواب مبنائي وحلّي لنقوض المعترِض: وهو أنّ القائل بأنّ الشعائر حقيقة شرعيّة استندَ إلى عدّة أدلّة(2) ذكرناها سابقاً، مثل: استلزام ذلك تحليل الحرام، وتحريم الحلال، وإنّ ذلك يستلزم اتّساع الشريعة، وغير ذلك من الوجوه التي استند إليها المُستدل.

ومن الواضح أنّ هذه الوجوه يمكن الردّ عليها بما يلي:

أوّلاً: تحريم الحلال وتحليل الحرام إن كان بمعنى أن يتّخذ المكلّف أو المتشرّعة فعلاً ومصداقاً خارجيّاً حراماً، أو يتّخذوه حلالاً من دون دليل شرعي، فحينئذٍ يصدق تحريم الحلال وبالعكس، ويثبت الاعتراض.

لكن إذا استندوا إلى دليل شرعي، فما المانع من ذلك؟ حيث لا يُنسب التحريم والتحليل إليهم؛ وإنّما المحلّل والمحرّم هو المَدرك والدليل الشرعي.

مثلاً في باب النذر: قد يُحرّم الإنسان على نفسه الحلال بواسطة النذر

____________________

(1) الجواب الأوّل تراجعه بملاحظة ص 78 من هذا الكتاب.

(2) راجع ص 79 من هذا الكتاب.

١٠٨

لغرضٍ راجح.

وفي باب الاضطرار يُحلَّل الحرام فيما إذا كان الحرام مضطرّاً إليه وما شابه.

فهنا يستند إلى دليل شرعي، فما المانع من ذلك؟ إذ يؤول ويؤوب في نهاية الأمر إلى أنّ التحليل والتشريع إنّما هو بيد الشارع وليس بيد المكلّف؛ لأنّ المفروض أنّه استندَ إلى دليل شرعي، وإلاّ سوف تجري هذه الشبهة - شبهة التحليل والتحريم - بغير ما أنزلَ الله سبحانه، حتّى في الصلاة إذا صلاّها الإنسان في مكانٍ مباح، والكون في المسجد، أو في البيت، أو في الصحراء، هذا الوجود والكون حلال، لكن بما أنّه مصداق للصلاة فيكون واجباً، فهل هذا تحريم للحلال؟!

أو هناك شيء محرّم، لكن بسبب الاضطرار أو غيره أصبح حلالاً، فتحليل الحرام هنا ليس من قِبَل المكلّف، كلاّ، التحريم هو من قِبَل الشارع.

التشريعُ بين التطبيق والبِدعة

وذكرنا أنّ بيت القصيد وعَصب البحث هو بحث إزواء وسقوط الدليل وعدم سقوطه، فإذا فرغنا وانتهينا من ذلك سوف تسهل بقيّة المباحث، مع الالتفات إلى النقاط الثلاث السابقة، إذ لابدّ لنا من إيصال الدليل وشموليّته للمصداق، هذا بالنسبة إلى تحريم الحلال و تحليل الحرام.

وأمّا بالنسبة إلى الدليل الآخر: من أنّ هذا فتح لباب التشريع وجعله بيد المكلّف والمتشرِّعة فلا يخفى ضعفه؛ لأنّ المتشرّعة لا يُفوّض إليهم التشريع، إذ

١٠٩

من المفروض أنّ باب التطبيق ليس فيه تفويض للتشريع، ومثاله الواضح في قوانين الدولة حينما يشكِّل دستور أوّلي مشتمل على قانون من القوانين الوضعيّة، مثلاً يشتمل الدستور على مائتي مادّة، ثُمّ بعد ذلك تُفوّض الدولة وتُنزّل تلك المواد الدستوريّة إلى المجالس النيابيّة في الشُعَب المختلفة، ثُمّ تتنزّل هذه القوانين المتوسطة الشُعبيّة إلى درجات أنزل، أي إلى الوزارات والإدارات المختلفة، فحينئذٍ يصبح هناك تعميم وزاري أنزل وأدون بتوسّط لوائح داخليّة، ثُمّ تُخوّل الوزارات المؤسّسات التجاريّة والاقتصاديّة والأندية السياسيّة والحقوقيّة والمؤسّسات.

كلّ ذلك حقيقته يرجع إلى نوع من التشريع، وهذا البعد الذي تُخوّله الوزارات إلى عموم شرائح المجتمع من فئات سياسيّة، أو تجاريّة، أو اقتصاديّة، أو حقوقيّة، أو غيرها، هذا التخويل ليس تشريعاً مذموماً، ولا يصدق عليه البدعة أو الإحداث في القانون أو التبديل في الشريعة، بل هو نوع من تطبيق القوانين، لكن ليس تطبيق القوانين الفوقانيّة جدّاً، ولا المتوسّطة، بل هو بمثابة تطبيق النازلة التحتانيّة على المصاديق.

فالمتشرّعة لا يُنشئون الأحكام الشرعيّة الفوقانيّة، بل الأحكام الفوقانيّة الكلّيّة هي على حالها، والذي يحصل من المتشرّعة هو تطبيق تلك القوانين الكلّيّة، والتطبيق ليس نوعاً من التشريع، بل هو نوع من الممارسة التي أذِن الشارع فيها، كما في موارد كثيرة حيث يأمر الشارع بعناوين عامّة ويُوكل جانب التطبيق ويُخوّله إلى المتشرّعة، سواء المتشرِّعة على صعيد فردي، أو على صعيد جماعات، أو على صعيد حاكم، وهكذا.

١١٠

وذكرنا أنّ هذا المقدار من التخويل في التشريع مع التطبيق لابدّ منه في أيّ قانون، حتّى في القوانين الوضعيّة(1) ، ولابدّ من الأخذ بالاعتبار أنّ القانون - مهما بلغَ من التنزّل - يبقى له جهة كلّيّة، وله جهة عامّة، وليس مخصوصاً بجزئي حقيقي ومصداق متشخّص فيبقى كلّيّاً ويبقى تنظيريّاً، وإذا بقي كذلك فمقام التطبيق الأخير لابدّ حينئذٍ من أن يكون بيد المكلّف، فجانب التطبيق ليس فيه نوع من التشريع المنكر، أو القبيح في حكم العقل، أو في حكم الوضع، بل هو نوع من التطبيق الذي لابدّ منه في كلّ القوانين.

مراتبُ تنزّل القانون

وهنا لفتة لا بأس من الإشارة إليها، وهي: أنّ بعض القوانين - سواء القانون الوضعي، أو القانون السماوي - يتكفّل الشارع أو المُقنّن بنفسه تنزيلها إلى

____________________

(1) وهنا قد يتبادر تساؤل، وهو: هل يمكن قياس التشريع الإلهي بالقانون الوضعي؟

والجواب: أنّ لغة القانون والاعتبار لغة ينطوي في مبادئها التصوّريّة والتصديقيّة، أنّها لغة موحّدة بين التقنين السماوي والوضعي إلاّ ما دلّ الدليل على الخلاف، ومن ثُمّ ترى علماء الأصول والفقهاء يبنون على وحدة معاني وماهيّات العناوين المستخدمة كآلة قانونيّة، في العرف العقلائي مع العرف الشرعي إلاّ ما استثناه الدليل، وبعبارة أخرى: كما أنّ الشارع لم يستحدث لغة لسانيّة جديدة في صعيد حواره مع الأُمّة المخاطَبة، فكذلك لم يستحدث لغة اعتباريّة قانونيّة جديدة في صعيد التخاطب القانوني التشريعي، وإن كانت تشريعات الشرع المبين مغايرة لتشريعات العرف البشري؛ فإنّ ذلك على صعيد المسائل التفصيليّة وتصديقاتها، لا على صعيد مبادئ اللغة القانونيّة: كمعنى الموضوع، ومعنى الحكم من الوجوب، والحرمة، والملكيّة، والصحّة، والبطلان، والحُجّيّة ونحوها.

١١١

درجات، وبعض المواد قد ترى أنّ الشارع قد أبقاها على وضعها الكلّي الفوقاني.

فالمواد الكلّيّة القانونيّة على أنحاء:

بعضها عمومات فوقانيّة جدّاً، وبعضها كلّيّات فوقانيّة متوسّطة، وبعضها كلّيّات تحتانيّة متنزّلة، فالمواد القانونيّة مختلفة المراتب، ومتفاوتة الدرجات.

وكيفيّة إيكال الشارع وتطبيقه لهذه المواد يختلف بحسب طبيعة المادّة وطبيعة المتعلّق لتلك المادة القانونيّة، وبحسب طبيعة الموضوع.

قاعدةُ اتّخاذ السُّنّة الحَسنة

فعلى ضوء ذلك، لا مانع عقلاً ولا شرعاً في تخويل المتشرِّعة في التطبيق لا سيّما في العمومات المتنزلّة، وبالمناسبة هنا نشير إلى معنى القاعدة المنصوصة المستفيضة عند الفريقين:(مَن سَنّ سُنّةً حَسنة كان له أجرها وأجر مَن عمل بها) (1) ، وهو حديث نبوي مستفيض بين الفريقين العامّة والخاصّة، وهو قاعدة مسلّمة.

فما هو المائز بينها وبين قاعدة حرمة البدعة والبدعيّة؟

المائز والفارق: هو أنّ كلّ مورد يوجد فيه عموم يمكن أن يستند إليه المكلّف أو المتشرّعة، هذا أوّلاً،

وثانياً: يوكَل تطبيقه وإيقاعه إلى المكلّف أو إلى المتشرّعة، فيكون مشمولاً للحديث السابق:(مَن سَنّ سُنّة حَسنة...) بخلاف البدعة التي هي في

____________________

(1) انظر: سُنن ابن ماجة 1: 74 / ح 203، المعجم الكبير للطبراني 2: 315 / ح 2312؛ و 22: 74 / ح 184.

١١٢

مورد إنشاء تشريع فردي أو اجتماعي، من دون الاستناد إلى دليل فوقاني، أو إلى عموم معيّن.

فالفارق بين مؤدّى:(مَن سَنّ سُنّة حَسنة) وبين موارد حرمة البدعة: هو أنّ موارد حرمة البدعة لا يستند فيها إلى دليل، وتشريع معيّن، بينما في موارد السُنّة الحسنة وإنشاء العادات الدينيّة في المجتمع والأعراف ذات الطابع الاجتماعي، يستند فيها إلى دليل شرعي.

والعبارة الأخرى:(ومَن سَنّ سُنّة سيئة) (1) ، معناها ظاهر بمقتضى المقابلة، حيث يكون سبباً لنشر الرذائل بين الناس لدرجة تتحوّل إلى ظاهرة اجتماعيّة، أي تطبيق الحرمة بشكل مُنتشر وكظاهرة اجتماعيّة، وهذا عليه الوزر المضاعف.

إذاً، استحداث سُنّة حَسنة بالشروط السابقة ليس بتفويض ممقوت أو مكروه؛ إنّما التفويض الباطل هو أن يشرِّع المتشرّعة تشريعاً ابتدائيّاً، ومن حصول هذا التفويض في التشريع المتنزّل في قاعدة الشعائر الدينيّة وفي قاعدة(مَن سَنّ سُنّةً حَسنة) ، يُقرّر وجهان إضافيّان لأدلّة الولاية التشريعيّة للنبي والأئمّة (عليهم السلام) المنزِّلة للأصول التشريعيّة الإلهيّة.

لمحةٌ حول الولاية التشريعيّة

ولهذا البحث صلة ببحث منطقة الولاية التشريعيّة المفوّضة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة (عليهم السلام)، تمييزاً عن التشريع الذي هو بيد الله سبحانه وتعالى.

____________________

(1) المصدر السابق.

١١٣

وهذا غير ما يُخوّل به المتشرّعة، الذي هو نوع تطبيقي محض في جانب المتشرّعة.

كما وردت في ذلك بعض الآيات مثل:( وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (1) ، وقوله تعالى:( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (2) وغيرها، والروايات العديدة التي تُثبت الولاية التشريعيّة لهم.

وللتفرقة بين المقامين لأجل بيان حقيقة التطبيق المسموح به للمتشرِّعة، تفريقاً له عمّا فُوّض به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة (عليهم السلام): هو أنّه في عالَم التقنين، سواء الوضعي ولغة القانون، أو لغة الشريعة السماويّة، أنّ العمومات الفوقانيّة يكون تنزّلها قهريّاً انطباقيّاً مصداقيّاً، وهناك بعض العمومات المسمّاة بالأصول القانونيّة والأصول والأُسس التشريعيّة، لا تتنزّل بنفسها بتنزّل قهري عقلي تكويني، بل لا تتنزّل هذه العمومات الفوقانيّة القانونيّة إلاّ بجعلٍ قانوني.

وهذه الظاهرة من ضروريّات القانون، هذا التشريع والجعل - الموجِب لتنزّل الأصول القانونيّة بمعنى تنزيل تشريعات الله عزّ وجلّ إلى تشريعات تنزّليّة - نظير ما هو موجود الآن في المجالس النيابيّة، إذ لا يمكن للمادّة الدستوريّة أن تُعطى بيد رئيس الوزراء، فضلاً عن أن تُعطى بيد موظف في الوزارة، وفضلاً عن أن تُعطى بيد عامّة المجتمع، بل المادّة الدستوريّة لابدّ لها من تنزيل بواسطة المجلس النيابي بعد أن ينزِّلها المجلس النيابي بتنزيلات عديدة، ثُمّ تُعطى بيد الوزير أو بيد رئيس الوزراء، ولابدّ أن تُنزّل بتوسّط الوزير والوزارة أيضاً إلى

____________________

(1) الحشر: 7.

(2) الأحزاب: 21.

١١٤

الشُعَب الوزاريّة بتنزّلات أخرى، ثُمّ تُعطى بيد عامّة المجتمع، فهذا السِنخ من التنزّلات ليس من قبيل ما طرقَ أسماعنا وشاع في أذهاننا،من كونها تطبيقات قهريّة مصداقيّة عقليّة تكوينيّة، كلاّ، بل هي من قبيل تطبيقات جعليّة بجعول قانونيّة، إذ لابدّ من جعل قانوني ينزِّل هذه المادّة ويُعدّها للتطبيق، وبعض المواد القانونيّة تكون خاصيّتها كذلك، وبعضها لا تكون خاصيّتها كذلك.

والذي فُوّض إلى المكلّف أو المتشرّع هو غير سنخ ما يُوكل ويفوّض إلى النبي والأئمّة (عليهم السلام) في التشريع؛ إنّما هو سنخ تطبيقي ساذج بسيط، وهو تطبيق قهري تنزّلي عقلي، بخلاف المنطقة التي يُفوّض بها إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو إلى الأئمّة (عليهم السلام)، فتلك تحتاج إلى جعول وتقنينات أخرى تنزيليّة، نظير ما هو موجود في المجالس النيابيّة، نقول هو نظيره وليس هو عينه، إذ التمثيل إنّما هو من جهة لا من كلّ الجهات، وإلاّ فالمجالس النيابيّة تسمّى القوّة التشريعيّة، وهي التي يكون على كاهلها وفي عهدتها تنزيل المواد الدستوريّة، ثُمّ تُدلي بها إلى القوّة التنفيذيّة الإجرائيّة.

إذاً، لا بدّ من تخويل تشريعي في المجلس النيابي، إذ إنّ بعض الكلّيّات الفوقانيّة الأمّ لا يمكن أن تتنزّل إلى عامّة المكلّفين وعامّة المجتمع بتوسّط نفس المادّة الدستوريّة، فلابدّ من تفويض مرجع ومصدر له صلاحيّة تشريعيّة، وهذا اصطلاح في علم الأصول، وهو أنّ لدينا عمومات فوقانيّة تختلف عن العمومات الفوقانيّة الرائجة، التي هي تتنزّل بتنزّل قهري تطبيقي، هناك عمومات فوقانيّة لا تتنزّل إلاّ بجعول تطبيقيّة.

١١٥

بعضُ الفوارق بين صلاحيّة التفويض للأئمّة (عليهم السلام) والقوانين الوضعيّة

وهذا - كما يُقال - تشبيه من جهة وليس من جميع الجهات كل جهة، إذ هناك عدّة من الفوارق، نُشير إلى جملة منها:

الأوّل: إنّ الدستور بتمامه ليس إلاّ بعض أبواب الفقه في فروع الدين، فضلاً عن أصول ومعارف الدين.

الثاني: إنّ مصوّبات المجالس النيابيّة يمكن نسخها بمصوّبات المجالس النيابيّة اللاحقة، فضلاً عن المصوّبات القانونيّة الوزاريّة، وهذا بخلاف التشريعات النبويّة؛ فإنّها لا تنسخ من غيره، وكذلك سُنن وأحكام المعصوم لا تنسخ من غير المعصوم.

الثالث: إنّ مصوّبات المجالس النيابيّة لا تعدو الأنظار الظنّيّة القابلة للخطأ والصواب، بخلاف تشريعات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والوصي؛ فإنّها من عين العصمة والعلم اللدنّي.

وغيرها من الفوارق المذكورة في مظانّها.

فهذه هي العمومات الفوقانيّة التي لا تتنزّل إلاّ بجعول تنزيليّة أخرى(1) ، وهي غير التطبيق الساذج الذي أُوكلَ إلى عامّة المكلّفين، الذي هو تطبيق محض ليس فيه أيّ شائبة جعل أو تشريع أو ولاية تشريعيّة، بل هو نوع من التطبيق الساذج.

____________________

(1) وقد ذكرهُ الأستاذ المحاضر بشرح مفصّل في خاتمة كتابه (العقل العملي) ص: 377.

١١٦

فهذا جواب المحذور الثاني الذي ذكره المُستدل.

وإلاّ لكان كلّ تطبيقات وأداء العمومات الكلّيّة من قِبَل المتشرّعة نوعاً من التشريع، فيخلط بين ما هو مشروع وما هو تشريع، وبين ما هو بدعة وما هو شرعي، فلابدّ من معرفة الفرق بين الشرعي والبدعيّة.

ويفرِّط القائل بحماية الدين من البِدَع، والمتشدّد بقاعدة البدعة بتوهّم حراسة الشريعة، حيث يقع في المحذور الذي حاولَ الفرار منه؛ لأنّ طمس الشرعيّات هو نوع من البدعة وضربٌ من الإحداث في الدين.

وينبغي المحافظة على حدود الفوارق بين هذين الأمرين، ومعرفة الفيصل بين ما هو شرعي وبين ما هو بدعي؛ لأنّ طغيان البدعي على الشرعي هو بحدّ ذاته بدعةٌ أيضاً.

تعريفُ البدعة

البدعة لها تعاريف عديدة، منها: النسبة إلى الله ما لم يشرّعه، أو النسبة إليه ما لم يأمر به وينهى عنه، أو ما لم يحكم به.

أو هي: إدخال في الدين ما ليس في الدين.

وهذا المعنى الأخير لا يمكن الإلمام به إلاّ بعد الإحاطة بكلّ شؤون التشريع، كي نعلم أنّ التشريع منتفي أو غير منتفٍ؛ لأنّه مأخوذ في موضوع البدعة عدم التشريع وعدم الجعل الشرعي.

فليس من السهولة أن نعرف موارد البدعة، من دون الإلمام بكلّ عالَم القانون ومشجّرة التشريع وشؤونهما المختلفة.

١١٧

ومن دون معرفة كافية - وعلى مستوى واسع وعميق - بالشريعة وبموازينها وأُسسها وقوانينها، ليس من السهل إطلاق البدعيّة على موردٍ من الموارد.

وما نحن فيه هو إعطاء حقّ تطبيق المعاني والعناوين الكلّيّة الواردة في الأدلّة العامّة بيد المتشرِّعة، وهذا لا يمتّ إلى البدعة بأيّ صلة.

جواب المحذور الثالث:

والمحذور الثالث الذي ذكره القائل كدليل على أنّ قاعدة الشعائر الدينيّة لا بدّ أن تكون حقيقة شرعيّة وليست حقيقة لغويّة: هو استلزام اتساع الشريعة وزيادتها عمّا كانت عليه، إذ سوف تتبدّل رسومها - لا سمحَ الله - وتتبدّل أعلامها وملامحها، حيث تُتّخذ شعائر كثيرة ومتنوّعة إلى حدّ تطغى معه على ما هي عليه الشريعة من ثوابت ومن حالة أوّليّة.

هذا هو المحذور، وهو ليس دليلاً على أنّها حقيقة شرعيّة، بل هو دليل على أنّها حقيقة لغويّة، والسرّ في ذلك: هو أنّ هذا الاتّساع والتضخّم والانتشار الذي يتخوّف ويحذر منه المستدل، على قسمين:

أ) إن كان اتّساعاً وانتشاراً للشريعة، فهذا ممّا تدعو إليه نفس الآيات القرآنيّة التي ذكرناها، والدالّة على نفس قاعدة الشعائر الدينيّة، وقد صنّفناها من أدلّة الصنف الثاني، مثل آية:( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ... ) فالله عزّ وجل يريد أن يتمّ نوره، أن يبثّه وأن ينشره، وكذلك آية:( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ... ) فالله سبحانه وتعالى يريد إظهار الدين.

وكذلك:( وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ) يريد

١١٨

السموّ والعلو ورفرفة المعالم والأعلام الدينيّة، وهذا الانتشار لابدّ منه، ولابدّ أنّ له آليّاته المتنوّعة وأساليبه المختلفة، ومن أساليبه اتّخاذ الشعائر التي تؤدّي إلى اتّساع رقعة الدين وكثرة الملتزمين به، وزيادة تفاعلهم وانجذابهم إلى رسوم الدين وطقوسه.

ب) وإن كان معنى اتّساع الدين على حساب زوال الثوابت، وسبباً لإعطاء التنازلات تلو التنازلات في الأحكام الشرعيّة، فهذا المعنى لا ريب في بطلانه، وهذا يجب أن يُجعل محذوراً ومانعاً.

لكنّ الكلام في أنّ الشعائر المتّخذة هل هي من النوع الأوّل أم من النوع الثاني؟ هل هي توجب طمس الثوابت في الدين، أم هي بالعكس توجب اتّساع تلك الثوابت وانتشارها في ضمن متغيّرات مختلفة؟

الثابتُ والمتغيّر في الشريعة

فالبحث يقع في تقرير الفرق بين الثابت والمتغيّر.

أو قل - بالعبارة الاصطلاحيّة -: القضيّة الشرعيّة - مهما كانت - تشتمل على محمول وعلى موضوع، ومصاديق الموضوع متعدّدة ومستجدّة ومتغيّرة.

أمّا قَولبة عنوان الموضوع، وهيكل عنوان الموضوع والمحمول فيظلّ ثابتاً.

وهذه أحد الضوابط المهمّة جدّاً في التمييز بين الثابت والمتغيّر، أو في تمييز ما هو دائم في الشريعة وما هو متغيّر، المتغيّر في الحقيقة هو المصاديق.

كما في رواية الإمام الباقر (عليه السلام) في وصفه للقرآن الكريم أنّه(يجري كما

١١٩

يجري الشمس والقمر) (1) ، يعني باعتبار اختلاف المصاديق وتنوّعها وتكثّرها، سواء مصاديق الموضوع أو مصاديق المتعلّق للحكم (قد مرّ بنا سابقاً أنّ القضيّة الشرعيّة تشتمل على ثلاثة محاور: محو الموضوع، محور المتعلّق، محور المحمول)(2) .

فمصاديق الموضوع أو مصاديق المتعلّق متكثّرة ومتعدّدة، ومستجدّة حسب كثرة الموارد وتعدّد البيئات.

مثل:( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ) (3) .

فالقوّة سواء كانت ضمن أساليب القتال القديمة أو الحديثة، القوّة مصاديقها متعدّدة، لكنّ وجوب إعداد القوّة هو ثابت في الشريعة.

فالشاهد أنّ أحد ضوابط تمييز الثابت عن المتغيّر هي: أنّ جانب المحمول وعنوان الموضوع يظلّ ثابتاً، غاية الأمر أنّ مصاديق آليّات الموضوع تختلف.

ففي مقام الجواب عن المحذور السابق - وهو اتّساع الشرعيّة - إن كان بمعنى شموليّة موضوعاتها وشموليّة قوانينها، فهذا لا ضير فيه، بل لا بدّ من الانتشار والاتّساع، أمّا بمعنى زوال القضايا الأوّليّة، وزوال جنبة الحكم وتغيّره، فهذا

____________________

(1) بحار الأنوار 92: 97، نقلاً عن كتاب بصائر الدرجات، بسنده عن فضيل بن يسّار قال: سألتُ أبا جعفر (عليه السلام) عن هذه الرواية:(ما من القرآن آية إلاّ ولها ظهر وبطن) فقال:(ظهره تنزيله، وبطنه تأويله، منه ما قد مضى، ومنه ما لم يكن، يجري كما يجري الشمس والقمر، كلّما جاء تأويل شيء منه يكون على الأموات كما يكون على الأحياء، قال الله: ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم ) نحن نعلمه) .

(2) راجع ص72 من هذا الكتاب.

(3) الأنفال: 60.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

و لقد غدوت و كنت لا

أغدو على واق و حاتم

و قوله:

و ليس بهيّاب إذا شدّ رحله

يقول عداني اليوم واق و حاتم( ١)

هذا، و روى (مجالس المفيد) عن عيسى بن عمر قال: كان ذو الرمّة يذهب الى النفي في الأفعال، و كان رؤبة يذهب الى الإثبات فيها، فاجتمعا يوما عند بلال ابن أبي بردة و هو والي البصرة و كان يعرف ما بينهما من الخصومة فحضّهما على المناظرة، فقال رؤبة: و اللّه لا يفحص طائر فحوصا و لا يقرمص سبع قرموصا إلاّ كان ذلك بقضاء اللّه و قدره. فقال له ذو الرمّة: ما أذن اللّه للذئب أن يأخذ حلوبة عالة عيايل صرايل. فقال له رؤبة: أ فبمشيته أخذها أم بمشية اللّه؟ فقال ذو الرمة: بل بمشيته. فقال رؤبة: هذا و اللّه الكذب على الذئب. فقال ذو الرمة: و اللّه الكذب على الذئب أهون من الكذب على ربّ الذئب( ٢) .

«و لو كان كذلك لبطل الثواب و العقاب» هكذا في (المصرية)( ٣ ) ، و لكن في (ابن أبي الحديد و ابن ميثم): «لو كان ذلك كذلك»( ٤ ) . و هو الصحيح. هذا و قال محمود الوراق:

أعاذل لم آت الذنوب على جهل

و لا انها من فعل غيري و لا فعلي

و لا جرأة مني على اللّه جئتها

و لا أن جهلي لا يحيط به عقلي

و لكن بحسن الظن منّي بعفو من

تفرّد بالصنع الجميل و بالفضل

فإن صدق الظنّ الذي قد ظننته

ففي فضله ما صدّق الظن من مثلي

____________________

(١) لسان العرب ١٥: ٤٠٥ مادة (وقى).

(٢) أمالي المفيد: ١٠٧ ح ١٢٣٧.

(٣) نهج البلاغة ٣: ١٦٧ من الكلام ٧٨.

(٤) شرح ابن أبي الحديد ١٨: ٢٢٧، و ابن ميثم (الطبع الحجري) ٣: ٤٧٤.

٢٨١

و إن نالني منه العقاب فإنّما

أتيت من الإنصاف في الحكم و العدل

و في (الطرائف): رووا أن أبا حنيفة اجتاز على موسى بن جعفرعليه‌السلام فأراد امتحانه فقال له: المعصية ممن؟ فقال له: إجلس حتى أخبرك، فجلس بين يديه فقال له: لا بد أن تكون من العبد أو من ربه أو منهما، فان كانت من اللّه فهو أعدل و أنصف من أن يظلم عبده الضعيف و يأخذه بما لم يفعله، و إن كانت منهما فهو شريكه و القوي أولى بإنصاف عبده الضعيف، و إن كانت من العبد فعليه وقع الأمر و إليه توجّه النهي، و له حق الثواب و العقاب، و وجبت له الجنّة أو النار. فقال أبو حنيفة: ذرّيّة بعضها من بعض( ١) .

«و سقط الوعد و الوعيد» عن (المنية و الأمل): كتب ابن عباس الى مجبّرة الشام: أ تأمرون الناس بالتقوى و بكم ضلّ المتقون؟ و تنهون الناس عن المعاصي و بكم ظهر العاصون؟ يا أبناء سلف المقاتلين و أعوان الظالمين، و خزّان مساجد الفاسقين، و عمّار سلف الشياطين، هل منكم إلاّ مفتر على اللّه يحمل اجرامه عليه و ينسبها علانية اليه؟ و هل منكم إلاّ السيف قلادته و الزور على اللّه شهادته؟ أ على هذا تواليتم أم عليه تماليتم؟ حظكم منه الأوفر، و نصيبكم منه الأكبر، عمدتم إلى موالاة من لم يدع للّه مالا إلاّ أخذه، و لا منارا إلاّ هدمه، و لا مالا ليتيم إلاّ سرقه أو خانه، فأوجبتم لأخبث خلق اللّه أعظم حق اللّه، و تخاذلتم أهل الحق حتى ذلّوا و قلوا، و أعنتم أهل الباطل حتى غروا و كثروا( ٢) .

أيضا: كتب غيلان إلى عمر بن عبد العزيز: هل وجدت حكيما يعيب ما يصنع، أو يصنع ما يعيب، أو يعذب على ما قضى، أو يقضي ما يعذب عليه؟ أم هل وجدت رشيدا يدعو الى الهدى ثم يضل عنه؟ أم هل وجدت رحيما يكلف

____________________

(١) الطرائف ٢: ٣٢٨. و الآية ٣٤ من سورة آل عمران.

(٢) المنية و الأمل: ١٢٩.

٢٨٢

العباد فوق الطاقة أو يعذبهم على الطاعة؟ أم هل وجدت عدلا يحمل الناس على الظلم و التظالم؟ و هل وجدت صادقا يحمل الناس على الكذب و التكاذب بينهم؟

كفى بهذا بيانا، و بالعمى عنه عمى( ١) .

هذا، و في (الطبري): إن المهدي كتب الى جعفر بن سليمان عامل المدينة أن يحمل إليه جماعة اتّهموا بالقدر، فحمل إليه رجالا منهم عبد اللّه بن محمد بن عمّار بن ياسر و عبد اللّه بن يزيد بن قيس الهذلي، و عيسى بن يزيد بن داب الليثي، و إبراهيم بن محمد بن أبي بكر الأسامي، فأدخلوا على المهدي: فانبرى له من بينهم عبد اللّه بن محمد بن عمّار فقال له: هذا دين أبيك و رأيه. قال: لا ذاك عمي داود. قال: لا الا أبوك، على هذا فارقنا، و به كان يدين، فأطلقهم( ٢) .

«إنّ اللّه سبحانه أمر عباده تخييرا» إنّا هديناه السبيل إمّا شاكرا و إمّا كفورا( ٣ ) و أما ثمود فهديناهم فاستحبّوا العمى على الهدى( ٤) .

«و نهاكم تحذيرا» و يحذّركم اللّه نفسه( ٥) .

«و كلّف يسيرا و لم يكلّف عسيرا» ما جعل عليكم في الدين من حرج( ٦) ، يريد اللّه بكم اليسر و لا يريد بكم العسر( ٧) .

«و أعطى على القليل كثيرا» من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها( ٨) ، مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كلّ

____________________

(١) المنية و الأمل: ١٣٨.

(٢) تاريخ الطبري ٨: ١٧٨.

(٣) الإنسان: ٣.

(٤) فصلت: ١٧.

(٥) آل عمران: ٢٨ و ٣٠.

(٦) الحج: ٧٨.

(٧) البقرة: ١٨٥.

(٨) الأنعام: ١٦٠.

٢٨٣

سنبلة مئة حبة و اللّه يضاعف لمن يشاء( ١) .

«و لم يعص مغلوبا» في (كنز الكراجكي): سأل أهل العدل المجبّرة عن مسألة ألزموهم بها، فقالوا لهم: أخبرونا عن رجل نكح إحدى المحرّمات عليه في أحد المساجد العظيمة في نهار شهر رمضان و هو عالم غير جاهل أ تقولون ان اللّه تعالى أراد منه هذا الفعل على هذه الصفة. قالت المجبرة: بلى للّه إرادة. قال لهم أهل العدل: أخبرونا عن إبليس هل أراد ذلك أم كرهه؟ قالت المجبرة: بلى هذا إنّما يريده إبليس و يؤثره. قال لهم أهل العدل: فأخبرونا لو حضر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله و علم بذلك أ كان يريده أم يكرهه. قالت المجبرة: بل يكرهه و لا يريده. قال لهم أهل العدل: فقد لزمكم على هذا أن تثنوا على إبليس و تقولوا إنّه محمود لموافقة إرادته لإرادة اللّه تعالى، و تذمّوا النبيّ لمخالفة إرادته لإرادة اللّه تعالى.

و قد كنت أوردت هذه المسألة في مجلس بعض الرؤساء و عنده جمع فقال أحدهم و كان يميل الى الجبر ان كانت هذه المسألة لا حيلة للمجبّرة فيها فعليكم أيضا مسألة أخرى لا خلاص لكم ممّا يلزمكم منها. فقلت: و ما هي؟ فقال: إذا كان اللّه لا يشاء المعصية و إبليس يشاؤها ثم وقعت معصية من المعاصي فقد لزم من هذا أن تكون مشية إبليس غلبت مشية اللّه. فقلت له: انما تصح الغلبة عند الضعف و عدم القدرة، و لو كنّا نقول ان اللّه تعالى لا يقدر أن يجبر العبد على الطاعة و يضطرّه إليها و ان يحول بينه و بين المعصية بالقسر و الالجاء لزمنا ما ذكرت، و قد أبان تعالى ذلك فقال و لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة( ٢ ) و قال و لو شئنا لاتينا كلّ نفس هداها( ٣ ) و إنّما لم

____________________

(١) البقرة: ٢٦١.

(٢) هود: ١١٨.

(٣) السجدة: ١٣.

٢٨٤

يفعل لما فيه الخروج عن سنن التكليف و بطلان استحقاق العباد للمدح و الذم( ١) .

و في (الطبري): قال هشام بن عبد الملك لغيلان: ويحك قد أكثر الناس فيك فنازعنا بأمرك فان كان حقّا اتّبعناك، و إن كان باطلا نزعت عنه. قال: نعم.

فدعا هشام ميمون بن مهران ليكلّمه، فقال له غيلان: أ شاء اللّه أن يعصى؟ فقال له ميمون: أ فعصي كارها، فسكت فقال هشام: أجبه فلم يجبه فقال هشام: لا أقالني اللّه إن أقلته، و أمر بقطع يديه و رجليه( ٢) .

«و لم يرسل الأنبياء لعبا و لم ينزّل الكتاب للعباد عبثا» قال الكراجكي: ممّا يدل على أنّه سبحانه لا يريد المعاصي و القبائح و لا يجوز أن يشاء شيئا منها و انّه كاره لها ساخط لجميعها، فهو أنّه تعالى نهى عنها، و النهي إنّما يكون بكراهة الناهي للفعل المنهيّ عنه، ألا ترى أن أحدنا لا يجوز أن ينهى إلاّ عمّا يكرهه، فلو كان النهي في كونه نهيا غير مفتقر إلى الكراهية، لم يجب ما ذكرناه، لأنّه لا فرق بين قول أحدنا لغيره: «لا تفعل كذا» و قوله: «أنا كاره له»، كما لا فرق بين قوله: «افعل» أمرا له و قوله: «إنّي مريد منك أن تفعل»، و إذا كان سبحانه كارها لجميع المعاصي و القبائح من حيث كان ناهيا عنها استحال أن يكون مريدا لها لاستحالة أن يكون مريدا و كارها لأمر واحد على وجه واحد.

و يدلّ على ذلك أيضا أنّه لو كان مريدا للقبيح لوجب أن يكون على صفة نقص و ذم إن كان مريدا له بلا إرادة، و ان كان مريدا بإرادة وجب أن يكون فاعلا لقبيح، لأن إرادة القبيح قبيحة. و قد دل السمع من ذلك على مثل ما دل

____________________

(١) كنز الكراجكي: ٤٥ ٤٦.

(٢) تاريخ الطبري ٧: ٢٠٣.

٢٨٥

عليه العقل، قال عز و جل: و ما اللّه يريد ظلما للعباد( ١ ) ، و ما اللّه يريد ظلما للعالمين( ٢ ) كلّ ذلك كان سيئه عند ربك مكروها( ٣ ) ، يريد اللّه بكم اليسر و لا يريد بكم العسر( ٤ ) و نعلم أنّ الكفر أعظم العسر، و قال تعالى و ما خلقت الجن و الإنس إلاّ ليعبدون( ٥ ) فإذا كان خلقهم للعبادة فلا يجوز أن يريد منهم غيرها، و قال تعالى: و لا يرضى لعباده الكفر و إن تشكروا يرضه لكم( ٦) .

و في (الطرائف): سأل رجل من المجبّرة بعض أهل العدل عن آية ظاهرها أنّ اللّه أضلّهم. فقال له: تفصيل الجواب يطول عليك و ربما لا تفهمه و لا تحفظه و لكن عرّفني: أما تعتقد أنت و سائر المسلمين أن القرآن نزل حجّة لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله فلو كانت هذه الآيات التي تتعلّق بها باطنها مثل ظاهرها في أنّه تعالى منع الكفار و العصاة من الطاعة كان القرآن نزل حجّة للكفار و العصاة للنبي على النبيّ، فكانوا يستغنون بهذه الآيات عن محاربته و قتل أنفسهم و يقولون له: إن ربّك الذي جئت برسالته و كتابك الذي جئت به، يشهدان أنّه قد منعنا عن الاسلام و قد لزمك تركنا، فكان القرآن يصير حجّة لهم عليه( ٧) .

«و لا خلق السماوات و الأرض و ما بينهما باطلا و ذلك» هكذا في (المصرية)( ٨ ) و الصواب: (ذلك) بلا واو كما في (ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية)( ٩ ) ذلك

____________________

(١) غافر: ٣١.

(٢) آل عمران: ١٠٨.

(٣) الاسراء: ٣٨.

(٤) البقرة: ١٨٥.

(٥) الذاريات: ٥٦.

(٦) كنز الكراجكي: ٤٤ ٤٥. و الآية ٧ من سورة الزمر.

(٧) الطرائف ٢: ٣٢٨.

(٨) نهج البلاغة ٣: ١٦٧ من الكلام ٧٨.

(٩) شرح ابن أبي الحديد ١٨: ٢٢٧ ابن ميثم (الطبع الحجري) ٣: ٤٧٤.

٢٨٦

ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار( ١) .

قال الكراجكي: ان جناية المجبّرة على الإسلام كثيرة، بحملها المعاصي على اللّه تعالى و قولها: إنّه لا يكون ما أراده تعالى، و إنّه لا قدرة للكافر على الخلاص من كفره، و لا سبيل للفاسق إلى ترك فسقه، و إن اللّه قضى بالمعاصي على قوم و خلقهم لها و جعلها فيهم ليعاقبهم عليها، و قضى بالطاعات على قوم و خلقهم لها و فعلها فيهم ليثيبهم عليها، و هذا الاعتقاد القبيح يسقط عن المكلف الحرص على فعل الطاعة و الاجتناب عن المعصية، لأنّه يرى أنّ اجتهاده لا ينفع، و حرصه لا يغني. نعوذ باللّه ممّا يقولون.

و أنشدت بعض أهل العدل:

سألت المخنّث عن فعله

على م تخنثت يا ماذق

فقال ابتلاني بداء العضال

و أسلمني القدر السابق

و لمت الزناة على فعلهم

فقالوا بهذا قضى الخالق

و قلت لآكل مال اليتيم

و أنت امرؤ فاسق

فقال و لجلج في قوله

أكلت و أطعمني الرازق

و كلّ يحيل على ربّه

و ما فيهم أحد صادق( ٢)

و في (الطرائف): كان ثمامة في مجلس الخليفة و أبو العتاهية حاضر، فالتمس أبو العتاهية من الخليفة مناظرة ثمامة، فأذن له، فحرّك أبو العتاهية يده و كان مجبّرا و قال: من حرّك هذه؟ قال ثمامة و كان يقول بالعدل من أمّه زانية. فقال أبو العتاهية للخليفة: شتمني ثمامة في مجلسك.

فقال ثمامة للخليفة: ترك مذهبه، يزعم أن اللّه حرّكها فلأي شي‏ء غضب

____________________

(١) ص: ٢٧.

(٢) كنز الكراجكي: ٤٦.

٢٨٧

و ليس له أمر، فانقطع( ١) .

هذا، و روى ابن شعبة في (تحفه): أن الحسن البصري كتب الى الحسن بن عليعليه‌السلام : أما بعد فانّكم معشر بني هاشم الفلك الجارية في اللّجج الغامرة و الأعلام النيّرة الشاهرة، و كسفينة نوح التي نزلها المؤمنون و نجا فيها المسلمون، كتبت إليك يا ابن رسول اللّه عند اختلافنا في القدر و حيرتنا في الاستطاعة، فأخبرنا بالذي عليه رأيك و رأي آبائك، فإنّ من علم اللّه علمكم و أنتم شهداء على الناس، و اللّه الشاهد عليكم ذرية بعضها من بعض و اللّه سميع عليم( ٢) .

فأجابه الحسنعليه‌السلام : وصل إليّ كتابك، و لو لا ما ذكرت من حيرتك و حيرة من مضى قبلك إذن ما أخبرتك، أما بعد فمن لم يؤمن بالقدر خيره و شرّه و أنّ اللّه يعلمه فقد كفر، و من أحال المعاصي على اللّه فقد فجر، إنّ اللّه لم يعص مكرها و لم يعص مغلوبا، و لم يهمل العباد سدى من المهلكة، بل هو المالك لما ملّكهم و القادر على ما عليه أقدرهم، بل أمرهم تخييرا و نهاهم تحذيرا، فان ائتمروا بالطاعة لم يجدوا عنها صادّا، و إن انتهوا إلى المعصية فشاء أن يمنّ عليهم بأن يحول بينهم و بينها فعل، و ان لم يفعل فليس هو الذي حملهم عليها جبرا و لا ألزموها كرها، بل منّ عليهم بأن بصّرهم و عرّفهم و حذّرهم و أمرهم و نهاهم، لا جبلا لهم على أمرهم به فيكونوا كالملائكة، و لا جبرا لهم على ما نهاهم عنه، و للّه الحجّة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين( ٣) .

و رواه (المنية و الأمل) مع اختلاف على نقل (جمهرة الرسائل)( ٤) .

____________________

(١) الطرائف ٢: ٣٤١.

(٢) آل عمران: ٣٤.

(٣) تحف العقول: ٢٣١.

(٤) المنية الأمل: ١٣٠، عن جمهرة الرسائل ٢: ٢٥ الرسالة ٢٥.

٢٨٨

٢ - الحكمة (٢٨٧) و سئلعليه‌السلام عن القدر فقال:

طَرِيقٌ مُظْلِمٌ فَلاَ تَسْلُكُوهُ وَ بَحْرٌ عَمِيقٌ فَلاَ تَلِجُوهُ وَ سِرُّ اَللَّهِ فَلاَ تَتَكَلَّفُوهُ أقول: الأصل فيه ما رواه ابن بابويه في (توحيده) باسناده عن عبد الملك بن عنترة عن أبيه عن جده قال: جاء رجل الى أمير المؤمنينعليه‌السلام فقال:

أخبرني عن القدر. فقال: بحر عميق فلا تلجه. قال: أخبرني عن القدر. فقال:

طريق مظلم فلا تسلكه. قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر. قال: سرّ اللّه فلا تكلفه. قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر. فقال أمير المؤمنين: أما إذا أبيت فإني سائلك، أخبرني أ كانت رحمة اللّه للعباد قبل أعمال العباد أم كانت أعمال العباد قبل رحمة اللّه. فقال له الرجل: بل كانت رحمة اللّه لهم قبل أعمالهم.

فقال: قوموا فسلّموا على أخيكم فقد أسلم و قد كان كافرا. و انطلق الرجل غير بعيد ثم انصرف اليهعليه‌السلام فقال: أبا المشية الأولى نقوم و نقعد و نقبض و نبسط، فقال: و انك لبعد في المشية، اما اني سائلك عن ثلاث لا يجعل اللّه لك في شي‏ء منها مخرجا: أخبرني أ خلق اللّه العباد كما شاء أو كما شاءوا. فقال: كما شاء.

قال: فخلق اللّه العباد لما شاء أو لما شاءوا. فقال: لما شاء. قال: يأتونه يوم القيامة كما شاء أو كما شاؤا. فقال: كما شاء. فقال: قم فليس لك من المشية شي‏ء( ١) .

و روى ابن طلحة الشافعي في (مطالب سؤوله) باسناده عن عبد اللّه بن جعفر عن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال: أعجب ما في الانسان قلبه الى أن قال فقام اليه رجل شهد وقعة الجمل فقال له: أخبرنا عن القدر. فقال: بحر عميق فلا

____________________

(١) توحيد المفضل: ٣٦٥ ح ٣.

٢٨٩

تلجه. فقال، أخبرنا عن القدر. فقال: سرّ اللّه فلا تبحث عنه. فقال: أخبرنا عن القدر. فقال: لما أبيت أمر بين الأمرين لا جبر و لا تفويض. فقال: ان فلانا لرجل حاضر يقول بالاستطاعة. فقالعليه‌السلام : عليّ به، فلما رآه قال له الاستطاعة تملكها مع اللّه أو من دون اللّه و إيّاك أن تقول واحدة منهما فترتد قال: فما أقول؟ قال: قل أملكها باللّه ان شاء ملّكنيها...( ١) .

و روى قريبا منه في (الفقه الرضوي) و زاد ثم قيل لهعليه‌السلام الرابعة:

انبئنا عن القدر. فقال: ما يفتح اللّه للناس من رحمة فلا ممسك لها و ما يمسك فلا مرسل له من بعده( ٢) .

و روى المصنّف: في (مجازاته النبوية) قريبا من معنى العنوان عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: و من ذلك قوله و قد سمع ناسا من أصحابه يتذاكرون القضاء و القدر انكم قد أخذتم في شعبين بعيدي الغور( ٣) .

هذا القول مجاز لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله شبه القضاء و القدر حقيقة علمهما و معرفة كنههما بالشعبين اللذين غورهما بعيد و اقتحامهما شديد و طالب غايتهما مجهود، يقولصلى‌الله‌عليه‌وآله : ان علمهما كالماء الغائر الذي لا يقدر عليه و لا يهتدى إليه.

قولهعليه‌السلام «طريق مظلم فلا تسلكوه، و بحر عميق فلا تلجوه، و سرّ اللّه فلا تتكلّفوه» روى (توحيد الصدوق) مسندا عن الأصبغ قال: قال أمير المؤمنينعليه‌السلام في القدر: ألا إنّ القدر سرّ من سرّ اللّه، و ستر من ستر اللّه، و حرز من حرز اللّه، مرفوع في حجاب اللّه، مطويّ عن خلق اللّه، مختوم بخاتم اللّه، سابق في علم اللّه، وضع اللّه عن العباد علمه، و رفعه فوق شهاداتهم و مبلغ

____________________

(١) مطالب السؤول: ٢٦ ٢٧.

(٢) فقه الرضا: ٤٠٨، و الآية ٢ من سورة فاطر.

(٣) المجازات: ٣١٣.

٢٩٠

عقولهم، لأنّهم لا ينالونه بحقيقة الربانيّة، و لا بقدرة الصمديّة، و لا بعظم النورانيّة، و لا بعزّة الوحدانيّة، لأنّه بحر زاخر خالص للّه تعالى، عمقه ما بين السماء و الأرض، عرضه ما بين المشرق و المغرب، أسود كالليل الدامس، كثير الحيّات و الحيتان، تعلو مرة و تسفل اخرى، في قعره شمس تضي‏ء لا ينبغي أن يطّلع عليها إلاّ اللّه الواحد الفرد، فمن تطّلع إليها فقد ضادّ اللّه تعالى في حكمه و نازعه في سلطانه و كشف عن ستره و سره( ١) .

و سئل بعضهم عن القدر فقال: الناظر في قدر اللّه كالناظر في عين شمس، يعرف ضوءها و لا يقف على حدودها.

و سئل آخر عنه فقال: فلم اختصمت فيه العقول، و تقاول فيه المختلفون، و حق علينا أن نرد ما التبس علينا الى ما سبق علينا من حكمه.

هذا، و في (اعتقادات الصدوق): روي أن أمير المؤمنينعليه‌السلام عدل عن حائط مائل الى مكان آخر، فقيل له: أ تفرّ من قضاء اللّه؟ فقال: أفر من قضاء اللّه الى قدره.

و سئلعليه‌السلام أيضا عن الرقية هل تدفع من القدر شيئا؟ فقال: هي من القدر( ٢) .

هذا، و ممّا ورد عنهعليه‌السلام في ذلك غير العنوانين ما رواه (التحف و التوحيد) عنه قال: الأعمال على ثلاثة أحوال: فرائض، و فضائل، و معاصي، أما الفرائض فبأمر اللّه تعالى و رضائه، و قضائه و تقديره، و مشيته و علمه، و أما الفضائل فليست بأمر اللّه، و لكن برضاء اللّه، و قضائه و قدره، و مشيته و علمه، و أما المعاصي فليست بأمر اللّه، و لكن

____________________

(١) التوحيد: ٣٨٣ ح ٣٢.

(٢) اعتقادات الصدوق: ٧.

٢٩١

بقضائه و قدره و علمه، ثم يعاقب عليها( ١) .

و في (طرائف ابن طاوس): روى جماعة من العلماء أنّ الحجّاج كتب الى الحسن البصري و إلى عمرو بن عبيد و إلى واصل بن عطاء و الى عامر الشعبي أن يذكروا ما عندهم في القضاء و القدر. فكتب إليه الحسن: إن أحسن ما انتهى الينا ما سمعت من أمير المؤمنينعليه‌السلام قال: «إنّ الذي نهاك دهاك، إنّما دهاك أسفلك و أعلاك، و اللّه بري‏ء من ذلك». و كتب إليه عمرو: أحسن ما سمعت في القضاء و القدر قول عليعليه‌السلام «لو كان الوزر في الأصل محتوما كان الموزور في القصاص مظلوما». و كتب إليه واصل: أحسن ما سمعت في القضاء و القدر قول عليعليه‌السلام «أ يدلّك على الطريق و يأخذ عليك المضيق». و كتب اليه الشعبي:

أحسن ما سمعت في القضاء و القدر قول أمير المؤمنينعليه‌السلام «كل ما استغفرت اللّه منه فهو منك، و كلّما حمدت اللّه عليه فهو منه». فلما وصلت كتبهم الى الحجاج قال: لقد أخذوها من عين صافية( ٢) .

____________________

(١) التوحيد: ٣٦٩، ح ٩ و تحف العقول: ٢٠٦.

(٢) الطرائف ٢: ٣٢٩.

٢٩٢

الفصل الثامن و العشرون في كلامهعليه‌السلام الجامع لمصالح الدين و الدنيا

٢٩٣

٢٩٤

١ - الكتاب (٢٢) و من كتاب لهعليه‌السلام إلى عبد اللّه بن العبّاس و كان ابن عبّاس يقول ما انتفعت بكلام بعد كلام رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كانتفاعي بهذا الكلام:

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَلْمَرْءَ قَدْ يَسُرُّهُ دَرْكُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَفُوتَهُ وَ يَسُوؤُهُ فَوْتُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيُدْرِكَهُ فَلْيَكُنْ سُرُورُكَ بِمَا نِلْتَ مِنْ آخِرَتِكَ وَ لْيَكُنْ أَسَفُكَ عَلَى مَا فَاتَكَ مِنْهَا وَ مَا نِلْتَ مِنْ دُنْيَاكَ فَلاَ تُكْثِرْ بِهِ فَرَحاً وَ مَا فَاتَكَ مِنْهَا فَلاَ تَأْسَ عَلَيْهِ جَزَعاً وَ لْيَكُنْ هَمُّكَ فِيمَا بَعْدَ اَلْمَوْتِ الكتاب (٦٦) و من كتاب له عليه‏السّلام إلى عبد اللَّه بن العباس، و قد تقدم ذكره بخلاف هذه الرواية:

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَلْمَرْءَ لَيَفْرَحُ بِالشَّيْ‏ءِ اَلَّذِي لَمْ يَكُنْ لِيَفُوتَهُ وَ يَحْزَنُ عَلَى اَلشَّيْ‏ءِ اَلَّذِي لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ فَلاَ يَكُنْ أَفْضَلَ مَا نِلْتَ فِي نَفْسِكَ مِنْ

٢٩٥

دُنْيَاكَ بُلُوغُ لَذَّةٍ أَوْ شِفَاءُ غَيْظٍ وَ لَكِنْ إِطْفَاءُ بَاطِلٍ أَوْ إِحْيَاءُ حَقٍّ وَ لْيَكُنْ سُرُورُكَ بِمَا قَدَّمْتَ وَ أَسَفُكَ عَلَى مَا خَلَّفْتَ وَ هَمُّكَ فِيمَا بَعْدَ اَلْمَوْتِ أقول: رواه نصر بن مزاحم في (صفينه)، و الكليني في (روضته)، و اليعقوبي في (تاريخه)، و سبط ابن الجوزي في (تذكرته)، و نقل عن (مجالس ثعلب) و (أمالي القالي) و (محاضرات الراغب)( ١ ) و (دستور القاضي القضاعي)( ٢) .

قال الأول: و كتبعليه‌السلام إليه: أمّا بعد، فإن الإنسان قد يسرّه ما لم يكن ليفوته، و يسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه و إن جهد. فليكن سرورك فيما قدّمت من حكم أو منطق أو سيرة، و ليكن أسفك على ما فرّطت فيه من ذلك، و دع ما فاتك من الدنيا فلا تكثر به حزنا، و ما أصابك فيها فلا تبغ به سرورا، و ليكن همّك فيما بعد الموت( ٣) .

و قال الثاني: عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن علي بن اسباط رفعه قال: كتب أمير المؤمنينعليه‌السلام الى ابن عباس: أما بعد، فقد يسرّ المرء ما لم يكن ليفوته، و يحزنه ما لم يكن ليصيبه أبدا و إن جهد، فليكن سرورك بما قدمت من عمل صالح أو حكم أو قول، و ليكن أسفك على ما فرّطت فيه من ذلك، و دع ما فاتك من الدنيا فلا تكثر عليه حزنا، و ما أصابك منها فلا تنعم به سرورا، و ليكن همّك فيما بعد الموت. و السّلام( ٤) .

و قال الثالث: و كتب أبو الأسود و كان خليفة ابن عباس بالبصرة الى عليعليه‌السلام يعلمه أن عبد اللّه أخذ من بيت المال عشرة آلاف درهم، فكتبعليه‌السلام

____________________

(١) المحاضرات للراغب الاصفهاني ٢: ١٧٣.

(٢) دستور القضاعي: ٩٦، أمالي القالي ٢: ٩٤، و عبارة الأمالي تختلف عن النهج.

(٣) وقعة صفين: ١٠٧.

(٤) روضة الكافي ٨: ٢٤٠، ٣٢٧.

٢٩٦

إليه يأمره بردها، فامتنع فكتب يقسم له باللّه ليردّنّها، فلما ردّها أو ردّ أكثرها كتب إليه: أما بعد، فان المرء قد يسره درك ما لم يكن ليفوته، و يسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه، فما أتاك من الدنيا فلا تكثر به فرحا، و ما فاتك منها فلا تكثر عليه جزعا، و اجعل همّك لما بعد الموت. و السّلام( ١) .

فكان ابن عباس يقول: ما اتّعظت بكلام قط اتّعاظي بكلام أمير المؤمنين( ٢) .

روى الرابع مسندا عن المأمون عن آبائه عن ابن عباس قال: ما انتفعت بكلام أحد بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كانتفاعي بكلام كتب به أمير المؤمنينعليه‌السلام إليّ: أمّا بعد، فإنّ المرء يسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه، و يسره درك ما لم يكن ليفوته، فليكن سرورك بما نلت من أمر آخرتك، و ليكن أسفك على ما فاتك منها، و ما فاتك من الدنيا فلا تأسفنّ عليه، و ليكن همّك فيما بعد الموت.

و روى السدّي هذا عن أشياخه، و قال عقيبه: كان الشيطان قد نزغ بين ابن عباس و بينهعليه‌السلام ثم عاد إلى موالاته( ٣) .

قول المصنّف: في الأول (و كان ابن عباس) هكذا في (المصرية)( ٤ ) أخذا عن (ابن أبي الحديد) و في (ابن ميثم): «و كان عبد اللّه»( ٥ ) (يقول ما انتفعت بكلام بعد كلام رسول اللّه) و من كلامهصلى‌الله‌عليه‌وآله له الذي انتفع به ما رواه اليعقوبي عنه قال: أردفني النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ثم قال لي: يا غلام ألا أعلّمك كلمات ينفعك اللّه بهنّ. قلت: بلى. قال: إحفظ اللّه يحفظك، إحفظ اللّه تجده

____________________

(١) مجالس ثعلب ١: ١٥٥.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢: ٢٠٥.

(٣) تذكرة الفقهاء: ١٥٠.

(٤) نهج البلاغة ٣: ٢٣ من الكتاب رقم ٢٢.

(٥) شرح ابن أبي الحديد ١٥: ١٤٠، و شرح ابن ميثم: ٣٨٤ السطر الثالث هكذا.

٢٩٧

أمامك، أذكر اللّه في الرخاء يذكرك في الشدّة، و إذا سألت فاسأل اللّه، و إذا استعنت فاستعن باللّه، جفّ القلم بما هو كائن، و لو جهد الخلق على أن ينفعوك بشي‏ء لم يكتبه اللّه لم يقدروا عليه، و لو جهدوا أن يضرّوك بشي‏ء لم يكتبه اللّه عليك لم يقدروا عليه، فعليك بالصدق في اليقين، إنّ في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا، و اعلم أنّ النصر مع الصبر، و أنّ الفرج مع الكرب، و أنّ مع العسر يسرا( ١) .

(كانتفاعي بهذا الكلام) قد عرفت أنّه روى هذا الكلام عنه سبط بن الجوزي و كذا اليعقوبي.

قوله في الثاني (و قد تقدم ذكره بخلاف هذه الرواية) هكذا في (المصرية)( ٢ ) و لكن في (ابن أبي الحديد) «و قد مضى هذا الكلام فيما تقدم بخلاف هذه الرواية» و مثله (ابن ميثم) لكن فيه (هذا الكتاب)( ٣ ) و قد عرفت أن المقدم رواية الأخيرين، و هذه رواية الأوّلين ممّن نقلنا كلامه.

قولهعليه‌السلام في الأول «أمّا بعد، فإنّ المرء قد يسرّه درك ما لم يكن ليفوته و يسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه» و في الثاني (أما بعد فان المرء) هكذا في (المصرية)( ٤ ) و الصواب: (العبد) كما في (ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية)( ٥) .

«ليفرح بالشي‏ء الذي لم يكن ليفوته، و يحزن على الشي‏ء الذي لم يكن ليصيبه» معناهما واحد و إنّما اختلف لفظهما، و المراد أنّ سروره و فرحه و كذا

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢: ٢٦٣.

(٢) نهج البلاغة ٣: ١٣٩ من الكتاب رقم ٦٦.

(٣) شرح ابن أبي الحديد ١٨: ٢٨.

(٤) نهج البلاغة ٣: ٢٣ من الكتاب رقم ٢٢.

(٥) شرح ابن أبي الحديد ١٨: ٢٨، ابن ميثم (الطبع الحجري) ٤٥٨ هكذا.

٢٩٨

مساءته و حزنه كانا هدرا و في غير محلهما.

و في (مطالب سؤول ابن طلحة الشافعي) قال عليعليه‌السلام : الشي‏ء شيئان شي‏ء قصر عنّي لم ارزقه فيما مضى و لا أرجوه فيما بقي، و شي‏ء لا أناله دون وقته و لو استعنت عليه بقوّة أهل السماوات و الأرض، فما أعجب أمر هذا الانسان يسرّه درك ما لم يكن ليفوته و يسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه، و لو أنّه فكّر لأبصر، و لعلم أنّه مدبر، و اقتصر على ما تيسّر و لم يتعرّض لما تعسّر، و استراح قلبه ممّا استوعر، فبأيّ هذين أفني عمري، فكونوا أقل ما تكونون في الباطن أحوالا أحسن ما تكونون في الظاهر أحوالا، فان اللّه تعالى أدّب عباده المؤمنين أدبا حسنا فقال جلّ من قائل يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس الحافا( ١) .

و في الأول «فليكن سرورك بما نلت من أمر آخرتك» و ان الدار الآخرة لهي الحيوان( ٢) .

«و ليكن أسفك على ما فاتك منها» و من أسماء يوم القيامة التغابن لأن الانسان يرى مغبونيته فيما فاته من الآخرة.

«و ما نلت من دنياك فلا تكثر به فرحا و ما فاتك منها فلا تأس عليه جزعا» قال تعالى لكيلا تأسوا على ما فاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم( ٣) .

و في (الأغاني) قال أعشي همدان:

فلا تأسفنّ على ما مضى

و لا يحزننّك ما يدبر

فإن الحوادث تبلي الفتى

و إنّ الزمان به يعثر

____________________

(١) البقرة: ٢٧٣.

(٢) العنكبوت: ٦٤.

(٣) الحديد: ٢٣.

٢٩٩

فيوما يساء بما نابه

و يوما يسرّ فيستبشر

و من كلّ ذلك يلقى الفتى

و يمنى له منه ما يقدر( ١)

و في الثاني «فلا يكن أفضل ما نلت في نفسك بلوغ لذة أو شفاء غيظ» فانّه يشارك في ذلك البهائم و السباع.

«و لكن» اطفاء نار «باطل أو احياء حق» ميت الذي هو عمل الأنبياء و الأوصياء و هم العلماء و الحكماء.

«و ليكن سرورك بما قدمت» و ما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند اللّه هو خيرا و أعظم أجرا( ٢) .

«و أسفك على ما خلفت» و تركتم ما خوّلناكم وراء ظهوركم( ٣) .

و في الأول «و ليكن همّك» و في الثاني «و همك» و فيهما «فيما بعد الموت» فأغبط الناس من نام تحت التراب و أمن العقاب و لتنظر نفس ما قدّمت لغد( ٤) .

هذا، و نظير وعظه لعبد اللّه بن عباس وعظ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لأخيه الفضل بن العباس، روى (الفقيه في نوادر آخره) عن الصادق عن أبيهعليهما‌السلام قال: قال الفضل: أهدي إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بغلة أهداها له كسرى أو قيصر، فركبها بحبل من شعر و أردفني خلفه، ثم قال: يا غلام احفظ اللّه( ٥ ) ... مثل ما مرّ عن اليعقوبي في قول النبيّ لعبد اللّه بن عباس نفسه، و الظاهر أصحّيّة ما في (الفقيه) من كون قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله للفضل و لعل عبد اللّه سمعه من أخيه.

____________________

(١) الأغاني ٦: ٣٨ (في أخبار أعشى همدان).

(٢) المزمل: ٢٠.

(٣) الانعام: ٩٤.

(٤) الحشر: ١٨.

(٥) فقيه ٤: ٢٩٦ ح ٧٦.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668