بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٨

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة0%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 668

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

مؤلف: الشيخ محمد تقي التّستري
تصنيف:

الصفحات: 668
المشاهدات: 63275
تحميل: 3564


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 668 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • المشاهدات: 63275 / تحميل: 3564
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء 8

مؤلف:
العربية

للّه أياما، و تصدّقت ببعض ما عندك محتسبا، و أكلت طعامك مرارا قفارا، فان ذلك شعار الصالحين، أ فتطمع و أنت متمرغ في النعيم تستأثر به على الجار و المسكين و الضعيف و الفقير و الأرملة و اليتيم أن يحسب لك أجر المتصدقين، و أخبرني انك تتكلم بكلام الأبرار و تعمل عمل الخاطئين، فان كنت تفعل ذلك فنفسك ظلمت، و عملك أحبطت، فتب الى ربك يصلح لك عملك، و اقتصد في أمرك، و قدم الى ربك الفضل ليوم حاجتك، و ادهن غبا فاني سمعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: ادهنوا غبا و لا تدهنوا رقما.

فكتب زياد إليهعليه‌السلام ان سعدا قدم عليّ فأساء القول و العمل، فانتهرته و زجرته، و كان أهلا لأكثر من ذلك، و أما ما ذكرت من الاسراف و اتخاذ الألوان من الطعام و النعم، فان كان صادقا فأثابه اللّه ثواب الصالحين، و ان كان كاذبا فوفّاه اللّه أشد عقوبة الكاذبين، و اما قوله اني أصف العدل و اخالفه الى غيره، فاني اذن من الأخسرين أعمالا، فخذ يا أمير المؤمنين بمقالة قلتها في مقام قمته «الدعوى بلا بينة كالسهم بلا نصل»، فان أتاك بشاهدي عدل، و الا تبين لك كذبه و ظلمه( ١) .

قول المصنّف: (و من كتاب لهعليه‌السلام إليه أيضا) هكذا في (المصرية و ابن ميثم) أي: زياد، و لكن في ابن أبي الحديد (الى زياد أيضا)( ٢) .

قولهعليه‌السلام «فدع الاسراف مقتصدا» و لا تبذّر تبذيرا. انّ المبذرين كانوا اخوان الشياطين( ٣) .

«و اذكر في اليوم و غدا» و لتنظر نفس ما قدمت لغد( ٤) .

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٦: ١٩٦.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١٥: ١٣٩، و شرح ابن ميثم ٤: ٤٠٠.

(٣) الاسراء: ٢٦ و ٢٧.

(٤) الحشر: ١٨.

٤١

«و امسك من المال بقدر ضرورتك و قدم الفضل ليوم حاجتك» يسألونك ما ذا ينفقون قل العفو( ١ ) و ما تقدّموا لأنفسكم من خير تجدوه عند اللّه هو خيرا و أعظم أجرا( ٢) .

«أ ترجو أن يعطيك اللّه أجر المتواضعين و أنت عنده من المتكبرين» أ فمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون( ٣) .

عن الصادقعليه‌السلام : أوحى اللّه تعالى الى داود: يا داود كما أن أقرب الناس من اللّه تعالى المتواضعون، كذلك أبعد الناس من اللّه المتكبرون( ٤) .

و المراد ان اللّه تعالى ليس كالناس، فانهم يعطون أجرا لأحد باسم عمل لم يعمله اما للالتباس عليهم و أما لهوى.

«و تطمع و أنت متمرغ في النعيم» استعارة من تمرغ الحمير في التراب «تمنعه الضعيف» عن تحصيل قوت «و الأرملة» المراة التي لا زوج لها «أن يوجب لك ثواب المتصدقين» جزافا.

ترجو النجاة و لم تسلك مسالكها

ان السفينة لا تجري على اليبس

«و انما المرء مجزي بما أسلف» ان خيرا فخير و ان شرا فشر «و قادم على ما قدم» يوم تجد كلّ نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء( ٥) .

٦ - الحكمة (٤٧٦) و قالعليه‌السلام لزياد بن أبيه وَ قَدِ اِسْتَخْلَفَهُ؟ لِعَبْدِ اَللَّهِ بْنِ اَلْعَبَّاسِ؟ عَلَى

____________________

(١) البقرة: ٢١٩.

(٢) المزّمّل: ٢٠.

(٣) السجدة: ١٨.

(٤) أخرجه الكليني في الكافي ٢: ١٢٣ ح ١١.

(٥) آل عمران: ٣٠.

٤٢

فَارِسَ؟ وَ أَعْمَالِهَا فِي كَلاَمٍ طَوِيلٍ كَانَ بَيْنَهُمَا نَهَاهُ فِيهِ عَنْ تَقْدِيمِ اَلْخَرَاجِ:

اِسْتَعْمِلِ اَلْعَدْلَ وَ اِحْذَرِ اَلْعَسْفَ وَ اَلْحَيْفَ فَإِنَّ اَلْعَسْفَ يَعُودُ بِالْجَلاَءِ وَ اَلْحَيْفَ يَدْعُو إِلَى اَلسَّيْفِ قول المصنّف: (و قالعليه‌السلام لزياد بن أبيه و قد استخلفه لعبد اللّه بن العباس على فارس و أعمالها) في تاريخ الطبري لما قتل ابن الحضرمي بالبصرة، و اختلف الناس على عليعليه‌السلام ، طمع أهل فارس و أهل كرمان في كسر الخراج، فغلب أهل كلّ ناحية على ما يليهم، و أخرجوا عمّالهم.

و عن الشعبي قال: لما انتفض أهل الجبال، و طمع أهل الخراج في كسره، و أخرجوا سهل بن حنيف عامل عليعليه‌السلام على فارس، قال ابن عباس لهعليه‌السلام :

اكفيك فارس، فقدم البصرة و وجه زيادا الى فارس في جمع كثير، فوطأ بهم أهل فارس، فأدوا الخراج، ضرب بعضهم ببعض، فقتل بعضهم بعضا، وصفت له فارس، و فعل مثل ذلك بكرمان، و كانوا يقولون ما رأينا سيرة أشبه بسيرة كسرى من سيرة هذا العربي في اللين، و المداراة، و العلم بما يأتي( ١) .

(في كلام طويل كان بينهما نهاه فيه عن تقدم الخراج) هكذا في (المصرية)، و الصواب: (عن تقديم الخراج) كما في (ابن أبي الحديد و ابن ميثم)( ٢ ) . و من المضحك ان محشي (المصرية) فسّر التقدم بالزيادة، فزاد غلطا على غلط.

نهاهعليه‌السلام عن تقديم الخراج لأن عمال عثمان كانوا يفعلون ذلك، قال ابن أبي الحديد: كانت عادة أهل فارس في أيام عثمان ان يطلب الوالي منهم خراج

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤: ١٠٥، سنة ٣٩.

(٢) كذا في شرح ابن أبي الحديد ٢٠: ٢٤٥، لكن في شرح ابن ميثم ٥: ٤٦٦ مثل المصرية.

٤٣

أملاكهم قبل بيع الثمار على وجه الاستسلاف، أو لأنهم كانوا يظنون أن أوّل السنة القمرية هو مبدأ وجوب الخراج كأجرة العقار، فكان ذلك يجحف بالناس و يدعو الى عسفهم و حيفهم( ١) .

قولهعليه‌السلام «استعمل العدل» العدل عدلان: عدل في الشريعة، و عدل في السياسة، و مقصودهعليه‌السلام الأول، إلاّ ان زيادا كان من أهل الثاني.

و عن المدائني: قدم زياد أيام معاوية البصرة، و الفسق فيها فاش جدا، و أموال الناس منتهبة، و السياسة ضعيفة، فصعد المنبر ثم قال: فان الجاهلية الجهلاء و الضلالة العمياء، و الغي الموقد على أهله النار، ما فيه سفهاؤكم، و يشتمل عليه حلماؤكم، من الامور العظام، ينبت فيها الصغير، و لا يتحاشى منها الكبير، كأنكم لم تقرأوا كتاب اللّه، و لم تسمعوا ما أعد من الثواب الكثير لأهل طاعته، و العذاب الأليم لأهل معصيته، في الزمن السرمد الّذي لا يزول.

أ تكونون من طرفت عينه الدنيا، و سدت مسامعه الشهوات. لا تذكرون انكم أحدثتم في الاسلام الحدث الّذي لم تسبقوا به، من ترككم الضعيف يقهر و يؤخذ ماله، و الضعيفة المسلوبة في النهار، هذا و العدد غير قليل. أ لم يكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج الليل و غارة النهار، و كلّ امرى‏ء منكم يذب عن سفيهه، صنيع لا يخاف عاقبة، و لا يرجو معادا، ما أنتم بالحلماء، و قد اتبعتم السفهاء، فلم يزل بهم ما يرون من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرمة الاسلام، ثم أطرقوا وراءكم كنوسا في مكانس الريب، حرم علي الطعام و الشراب حتى أسويها بالأرض هدما و إحراقا. اني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلاّ بما صلح به أوله. لين في غير ضعف، و شدّة في غير عنف، و أنا اقسم باللّه لآخذنّ الولي بالولي، و الظاعن بالظاعن، و المقبل بالمدبر، و الصحيح منكم في نفسه

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٢٠: ٢٤٥.

٤٤

بالسقيم، حتى يلقى الرجل أخاه فيقول: انج سعد فقد هلك سعيد، أو تستقيم لي قناتكم. ان كذبة المنبر تلفي مشهورة، فإذا تعلقتم عليّ بكذبة فقد حلت لكم معصيتي، من نقب عليه منكم فأنا ضامن لما ذهب منه، فإياكم و دلج الليل، فاني لا أوتي بمدلج إلاّ سفكت دمه. و قد أجلتكم بقدر ما يأتي الخبر الكوفة، و يرجع اليكم. إياكم و دعوى الجاهلية، فاني لا أجد أحدا دعا بها إلاّ قطعت لسانه، و قد أحدثتم احداثا، و قد أحدثنا لكلّ ذنب عقوبة، فمن غرّق بيوت قوم غرّقناه، و من حرّق على قوم حرّقناه، و من نقب على أحد بيتا نقبنا عن قلبه، و من نبش قبرا دفنّاه فيه حيّا. كفوا عني أيديكم و ألسنتكم، أكفّ عنكم يدي و لساني، و لا يظهرن من أحد خلاف ما عليه عامتكم فاضرب عنقه، و قد كانت بيني و بين أقوام أحن فقد جعلت ذلك وراء اذني، و تحت قدمي، فمن كان منكم محسنا فليزد احسانا، و من كان مسيئا فلينزع عن اساءته، اني لو علمت أن أحدكم قد قتله السلال من بغضي لم اكشف عنه قناعا، و لم أهتك له سترا حتى يبدي لي صفحته، فإذا فعل لم أنظره. رب مبتئس بقدومنا سيسر، و مسرور بقدومنا سيبأس، انا أصبحنا لكم ساسة، و عنكم ذادة، بسلطان اللّه الّذي أعطانا، فلنا عليكم السمع و الطاعة فيما أحببنا، و لكم علينا العدل و الإنصاف فيما ولينا، فاستوجبوا عدلنا و فيئنا بمناصحتكم لنا، و اعلموا أني مهما قصرت عن شي‏ء فلن أقصر عن ثلاث: لست محتجبا عن طالب حاجة منكم، و لا حابسا عطاء، و لا مجمرا بعثا، و أدعوا اللّه بالصلاح لأئمتكم فانهم ساستكم المؤدبون، و متى يصلحوا تصلحوا، فلا تشربوا قلوبكم بغضهم، فيشتدّ غيظكم، و يطول حزنكم، و أيم اللّه ان لي فيكم لصرعى كثيرة، فليحذر كلّ امرى‏ء منكم أن يكون من صرعاي.

فقام عبد اللّه بن الاهتم فقال: أشهد أيها الأمير، لقد أوتيت الحكمة و فصل

٤٥

الخطاب. فقال: كذبت ذاك نبي اللّه داود.

فقام الأحنف فقال: انما الثناء بعد البلاء، و الحمد بعد العطاء، و أنا لا نثني حتى نبتلى، و لا نحمد حتى نعطى، فقال زياد: صدقت.

فقام أبو بلال مرداس يهمس و يقول: أنبأنا اللّه بغير ما قلت و ابراهيم الّذي و في. ألا تزر وازرة وزر اخرى( ١ ) فسمعها زياد فقال: يا أبا بلال، إنّا لا نبلغ ما نريد بأصحابك حتى نخوض اليهم الباطل خوضا( ٢) .

و عن الشعبي: لما خطب زياد خطبته البتراء بالبصرة و نزل سمع تلك الليلة أصوات الناس يتحارسون، فقال: ما هذا؟ قالوا: ان البلد مفتونة، و ان المرأة من أهل المصر لتأخذها الفتيان الفسّاق فيقال لها: نادي ثلاثة أصوات، فان أجابك أحد و إلاّ فلا لوم علينا فيما نصنع. فغضب و قال: ففيم أنا و فيم قدمت؟ فلما أصبح أمر فنودي في الناس، فاجتمعوا فقال: أيّها الناس، اني قد نبّئت بما أنتم فيه و سمعت ذروا منه، و قد أنذرتكم و أجلتكم شهرا مسير الرجل الى الشام، و مسيره الى خراسان، و مسيره الى الحجاز، فمن وجدناه بعد شهر خارجا من منزله بعد العشاء الآخرة فدمه هدر.

فانصرف الناس يقولون: هذا القول كقول من تقدمه من الامراء، فلما كمل الشهر دعا صاحب شرطته عبد اللّه بن حصين اليربوعي و كانت رجال الشرطة معه أربعة آلاف فقال له: هيى‏ء خيلك و رجلك، فإذا صليت العشاء الآخرة و قرأ القارى‏ء مقدار سبع آيات من القرآن، فسر و لا تلقين أحدا، عبيد اللّه بن زياد فمن دونه إلاّ جئتني برأسه، و ان راجعتني في أحد ضربت عنقك.

فصبح على باب القصر تلك الليلة سبعمائة رأس، ثم خرج الليلة الثانية فجاء

____________________

(١) النجم: ٣٧ و ٣٨.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١٦: ٢٠٠.

٤٦

بخمسين رأسا، ثم خرج الليلة الثالثة فجاء برأس واحد، ثم لم يجي‏ء بعدها بشي‏ء. و كان الناس اذا صلوا العشاء الآخرة احضروا الى منازلهم شدا حثيثا، و قد يترك بعضهم نعاله( ١) .

«و احذر العسف» قال الجوهري: العسف الأخذ على غير الطريق «و الحيف» أي: الجور و الظلم «فان العسف يعود بالجلاء» أي: العسف بالناس يوجب جلاءهم عن وطنهم.

و في (تاريخ الطبري): كان خروج الحسن بن زيد الحسني في سنة (٢٥٠) و كان سببه ان المستعين أقطع محمّد بن عبد اللّه بن طاهر لوقوع قتل يحيى بن عمر العلوي علي يده من صوافي السلطان بطبرستان، و فيها قطيعة كان بحذائها أرض لأهل تلك الناحية فيها مرافقهم محتطبهم، و مراعي مواشيهم، و مسرح سارحتهم، صحراء ذات غياض و أشجار وكلاء، و عامل طبرستان يومئذ سليمان بن عبد اللّه أخوه، و كان المستولي على سليمان محمّد بن أوس البلخي الّذي فرّق ولده و هم أحداث سفهاء في مدن طبرستان، و وتر الديلم بدخوله أقرب بلادهم و سبيه و قتله منهم على غفلة.

و بعث محمّد بن عبد اللّه بن طاهر، جابر بن هارون النصراني أخا كاتبه لحيازة الصوافي، فحازها و حاز معها ما اتصل بها مما يرتفق به أهل تلك الناحية و رام حيازة كلار و سالوس ثغري طبرستان من قبل الديلم و كان محمّد و جعفر ابنا رستم مذكورين قديما بضبط تلك الناحية ممن رامها من الديلم، و باطعام الناس بها، فأنكرا فعل جابر و استنهضا من في ناحيتهما، فهرب جابر و لحق بسليمان، فراسلا الديلم، فأجابوهما و تعاقدوا هم و أهل كلار و سالوس على التعاون، فأرسلا الى الحسن بن زيد بالري و أشخصاه

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٦: ٢٠٤.

٤٧

الى طبرستان، فوافاهم و قد صارت كلمة الديلم و أهل كلار على بيعته، و قتال سليمان و أخذه.

الى أن قال: فاجتمعت للحسن بن زيد مع طبرستان الري الى حد همدان( ١) .

و في وزراء الجهشياري: صرف الرشيد الفضل بن يحيى عن خراسان و قلد علي بن عيسى بن ماهان، لأنّه تعهد التكثير على الفضل، فقتل علي بن عيسى وجوه أهل خراسان و ملوكها، و جمع أموالا جليلة، فحمل الى الرشيد ألف بدرة معمولة من ألوان الحرير و فيها عشرة آلاف ألف درهم، فلما وصلت إليه سر بها و أحضر يحيى بن خالد فقاله: يا أبة أين كان الفضل عن هذا؟ فقال:

ان خراسان سبيلها أن يحمل اليها الأموال و لا تحمل منها، و الفضل أصلح نيات رؤسائها و استجلب طاعتهم، و علي بن عيسى قتل صناديد أهل خراسان و طراخنتها و حمل أموالهم، و لو قصدت لدرب من دروب الصيارف بالكرخ لوجدت فيه أضعاف هذه و ستنفق مكان كلّ درهم منها عشرة، فثقل هذا القول منه على الرشيد، فلما نتقض أمر خراسان و خرج رافع بن الليث، احتاج الى النهوض اليها بنفسه حتى صار الى طوس يتذكر هذا الحديث و يقول: صدقني و اللّه يحيى و نصح لي فلم أقبل منه، و اللّه لقد أنفقت مائة ألف ألف و ما بلغت شيئا.

و فيه: حمل الحجاج الى عبد الملك هدية و مالا عظيما و هو بحمص، فأبرز سريره و جمع الناس و كان فيمن حضر خالد بن عبد اللّه بن أسيد و أخوه امية، فلما نظر الى الهدية و المال قال: هذه و اللّه الأمانة و الحزم و النصيحة ثم أشار الى خالد و قال: اني استعملت هذا على البصرة، فاستعمل كلّ فاسق،

____________________

(١) تاريخ الطبري ٧: ٤٢٩ ٤٣٣، سنة ٢٥٠.

٤٨

فجبى عشرة و اختان تسعة و رفع الى هذا درهما، فدفع الى هذا من الدرهم سدسا، و استعملت هذا يعني أخاه على خراسان و سجستان، فبعث الي بمفتاح من ذهب زعم انّه مفتاح مدينة و فيل و برذونين حطيمين، و استعملت الحجاج، ففعل كذا فاذا استعملتكم ضيعتم، و اذا عزلتكم قلتم قطع أرحامنا.

فأراح خالد اراحة الفرس ثم قال: استعملتني على البصرة و أهلها رجلان: مطيح مناصح، و مخالف مشايح، فأما المطيع فاني جزيته بطاعته فازداد رغبة، و أما المخالف فاني داويت عداوته، و استللت ضغينته، و حشوت صدره ودا، و علمت اني متى أصلح الرجال أجب الأموال، و استعملت الحجاج، فجبى لك المال، و كنز العداوة في قلوب الرجال، فكأنك بالعداوة التي كنزها قد ثارت و أنفقت الأموال، و لا مال و لا رجال، فسكت عبد الملك، فلما هيج الجماجم جلس عبد الملك على باب ذي الاكارع و معه خاله يندب الناس الى الفريضة و يتأمل خالدا و يذكر قوله و يضحك.

«و الحيف» أي: الجور «يدعو الى السيف» قالوا: تراهن قيس بن زهير العبسي و حذيفة بن بدر الذبياني على خطر عشرين بعيرا، و جعلا الغاية مائة غلوة و المضمار أربعين ليلة، و المجرى من ذات الاصاد، فأجرى قيس داحسا و الغبراء اسما فرسيه و أجرى حذيفة الخطار و الحنفاء اسما فرسيه فوضعت بنو فزارة رهط حذيفة كمينا على الطريق، فردوا الغبراء و لطموها و كانت سابقة فهاجت الحرب بين عبس و ذبيان أربعين سنة.

و في (فتوح البلاذري) بعد ذكر أخذ سعيد بن عثمان من السغد رهنا من أبناء عظمائهم في فتح سمرقند مضى سعيد بالرهن حتى ورد بهم المدينة، فدفع ثيابهم و مناطقهم الى موإليه، و ألبسهم جباب الصوف، و ألزمهم

٤٩

السقي و السواني و العمل، فدخلوا عليه مجلسه، ففتكوا به ثم قتلوا أنفسهم( ١) .

و في (تاريخ الطبري) بعد ذكر فتح ابن أبي سرح في سنة (٢٧) افريقية ما زال أهل أفريقية من أسمع أهل البلدان الى زمان هشام، فدبّ اليهم أهل العراق، فقالوا لهم جناية عمالكم. من أمر خلفائكم، فخرج ميسرة منهم في بضعة عشر انسانا على هشام و قالوا للأبرش أبلغ هشاما أن أميرنا يغزو بنا و بجنده، فإذا أصاب غنيمة نفلهم دوننا، و قال هم أحقّ به، فقلنا هو أخلص لجهادنا لا نأخذ منه شيئا ان كان لنا فهم منه في حل، و ان لم يكن لنا لم نرده، و اذا حاصرنا مدينة قال تقدموا و أخّر جنده، فقلنا تقدّموا، فوقيناهم بأنفسنا و كفيناهم، ثم انهم عمدوا الى ماشيتنا، فجعلوا يبقرونها عن السخال يطلبون الفراء البيض للخليفة، فيقتلون ألف شاة في جلد، فقلنا ما أيسر هذا للخليفة، ثم انهم سامونا أن يأخذوا كلّ جميلة من بناتنا، فقلنا لم نجد هذا في كتاب و لا سنة و نحن مسلمون، فأحببنا أن نعلم أ عن رأي الخليفة ذلك أم لا، فطال عليهم الجواب و نفدت نفقاتهم، فكتبوا أسماءهم في رقاع، ثم رجعوا الى افريقية، فخرجوا على عامل هشام، فقتلوه و استولوا على افريقية و بلغ هشاما الخبر و سأل عن النفر، فرفعت إليه اسماؤهم، فإذا هم الذين جاء الخبر أنهم صنعوا ما صنعوا( ٢) .

و فيه أيضا: و قتل في سنة (١٠٢) يزيد بن أبي مسلم بأفريقية، و سببه انّه كان فيما ذكر عزم أن يسير بهم بسيرة الحجاج في أهل الأمصار الذين سكنوا الأمصار ممن كان أصله من السواد من أهل الذمة، فأسلم بالعراق ممن ردّهم الى قراهم و رساتيقهم، و وضع الجزية على رقابهم على نحو ما

____________________

(١) فتوح البلدان: ٤٠٢.

(٢) تاريخ الطبري ٣: ٣١٣ سنة ٢٧.

٥٠

كانت تؤخذ منهم و هم على كفرهم، فلما عزم على ذلك تأمروا في أمره، فأجمع رأيهم على قتله، فقتلوه و ولوا على أنفسهم الوالي الذي كان عليهم قبل يزيد بن أبي مسلم و هو محمّد بن يزيد مولى الأنصار و كان في جيش يزيد بن أبي مسلم و كتبوا الى يزيد ابن عبد الملك: انا لم نخلع أيدينا من الطاعة، و لكن يزيد بن أبي مسلم سامنا ما لا يرضى اللّه و المسلمون، فقتلناه و أعدنا عاملك السابق، فأقره يزيد( ١) .

و في الأغاني: كان عمليق الطسمي أمر ألا تزوج بكر من جديس الى زوجها حتى يفترعها هو قبل زوجها، فلقوا من ذلك بلاء و ذلا حتى زوجت الشموس أخت الأسود الّذي دفع الى جبل طي، فقتله طي و سكنوا الجبل بعده، فلما دخلت عليه و افترعها خرجت الى قومها في دمائها شاقة درعها من قبل و هي تقول:

لا أحد أذلّ من جديس

أ هكذا يفعل بالعروس

فقال أخوها الأسود و كان سيدا مطاعا لقومه: يا معشر جديس، ان هؤلاء القوم ليسوا بأعزّ منكم في داركم، و قال لهم: اني اصنع للملك طعاما ثم أدعوهم جميعا، فإذا جاؤوا يرفلون في الحلل ثرنا الى سيوفنا و هم غارون فأهمدناهم بها. قالوا: افعل، فصنع طعاما كثيرا و خرج به الى ظهر بلدهم و دعا عمليقا و سأله أن يتغدّى عنده هو و أهل بيته، فأجابهم و خرج إليه مع أهله يرفلون في الحلي و الحلل، حتى اذا أخذوا مجالسهم و مدوا أيديهم الى الطعام أخذوا سيوفهم من تحت أقدامهم، فشد الأسود على عمليق فقتله و كلّ رجل منهم على جليسه حتى أماتوهم، فلما فرغوا من الاشراف شدوا على السفلة فلم يدعوا منهم أحدا. و قال الأسود في ذلك:

____________________

(١) تاريخ الطبري ٥: ٣٥٨، سنة ١٠٢.

٥١

ذوقي ببغيك يا طسم مجللة

فقد أتيت لعمري أعجب العجب

و فيه في مقتل خالد بن جعفر بن كلاب أغار خالد على رهط الحارث بن ظالم اليربوعي في واد يقال له حراض، فقتل الرجال و الحارث يومئذ غلام و بقيت النساء و كانت نساء بني ذبيان لا يحلبن النعم فلما بقين بغير رجال طفقن يدعون الحارث، فيشد عصاب الناقة، ثم يحلبنها و يبكين رجالهن و يبكي الحارث معهن و أردف ذلك قتل خالد بن زهير بن جذيمة، قال: فمضى الحارث الى خالد و هو نائم، فضربه بالسيف حتى قتله.

و في (المعجم): قال أبو سعيد الآبي في (تاريخه): كان قابوس بن وشمكير أسرف في القتل، و تجاوز الحد في سفك الدماء و لم يكن يعرف حدا في التأديب و إقامة السياسة غير ضرب الأعناق و اماتة الأنفس، و كان يأتي ذلك في الأقرب فالأقرب، و الأخص فالأخص من الجند و الحاشية حتى أفنى جميعهم، و أتى على جلّهم، و أذلّ الخيل و أصناف العسكر للرعية، و جرأهم عليهم، و لم يتظلم أحد من أهل البلد من واحد من أكابر أهل عسكره إلاّ قتله، و أتى على نفسه من غير أن يتفحص عن الشكوى أ صحيحة أم باطلة، فتبرم به عسكره و حاشيته و خافوا سطوته، فمشى بعضهم الى بعض، و تمالؤوا عليه و تحالفوا، و خفي الأمر، لأنه كان خرج الى حصن بناه سمّاه شمر آباد و عزم القوم أن يتسلقوا عليه و يغتالوه و قد واطأهم على الأمر جميع من كان معه في الحصن، فتعذر عليهم الصعود إليه و علموا انّه لو أصبح و عرف الخبر لم ينج منهم أحد، فنعوه الى الناس و ذكروا انّه قد قضى نحبه، فانتهبت اصطبلاته و سيقت دوابه و بغاله و لم يقدر هو على مفارقة الموضع لاعواز الظهور التي تحمل و تنقل عليها خزائنه، و كان عنده وزيره أبو العباس الغانمي، فاتهمه بممالأة القوم، فأوقع به و قتله، فاستدعوا منوجهر ابنه

٥٢

و كتبوا إليه متى تأخر قدموا غيره، فبادر اليهم فقلدوه الأمر، و بلغ ذلك قابوس، فجمع أمراء الرستاق و فارق المكان، و صحبه طائفة من العرب و غيرهم من الجند، و خرج الى بسطام مع خزائنه و أسبابه، و تبعه ابنه منوجهر مع العسكر، فحصره و امتنع هو عليه، ثم أمكن من نفسه عند الضرورة، فقبض عليه و حمل الى بعض القلاع، و تقرر أمر ابنه و لقب بفلك المعالي. و كان أبوه يلقب شمس المعالي، ثم ورد الخبر بموته في جمادى الآخرة سنة (٤٠٣).

و ذكر انه اعتيل، و حمل تابوته الى جرجان، و دفن في مشهد عظيم كان بناه لنفسه و أنفق عليه الأموال العظيمة، و بالغ في تحصيله و تحصينه( ١) .

٧ - الكتاب (٤٤) و من كتاب لهعليه‌السلام إلى زياد بن أبيه و قد بلغه أن معاوية كتب إليه يريد خديعته باستلحاقه:

وَ قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ؟ مُعَاوِيَةَ؟ كَتَبَ إِلَيْكَ يَسْتَزِلُّ لُبَّكَ وَ يَسْتَفِلُّ غَرْبَكَ فَاحْذَرْهُ فَإِنَّمَا هُوَ اَلشَّيْطَانُ يَأْتِي اَلْمَرْءَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ وَ عَنْ يَمِينِهِ وَ عَنْ شِمَالِهِ لِيَقْتَحِمَ غَفْلَتَهُ وَ يَسْتَلِبَ غِرَّتَهُ وَ قَدْ كَانَ مِنْ؟ أَبِي سُفْيَانَ؟ فِي زَمَنِ؟ عُمَرَ بْنِ اَلْخَطَّابِ؟ فَلْتَةٌ مِنْ حَدِيثِ اَلنَّفْسِ وَ نَزْغَةٌ مِنْ نَزَغَاتِ اَلشَّيْطَانِ لاَ يَثْبُتُ بِهَا نَسَبٌ وَ لاَ يُسْتَحَقُّ بِهَا إِرْثٌ وَ اَلْمُتَعَلِّقُ بِهَا كَالْوَاغِلِ اَلْمُدَفَّعِ وَ اَلنَّوْطِ اَلْمُذَبْذَبِ فَلَمَّا قَرَأَ؟ زِيَادٌ؟ اَلْكِتَابَ قَالَ شَهِدَ بِهَا وَ رَبِّ؟ اَلْكَعْبَةِ؟ وَ لَمْ تَزَلْ فِي نَفْسِهِ حَتَّى اِدَّعَاهُ؟ مُعَاوِيَةُ؟ قال الرّضيّ: قوله عليه السلام «الواغل» هو الذي يهجم على الشّرب ليشرب

____________________

(١) قال الشارح في الهامش: و هو المعروف في عصرنا ب «گنبد قابوس».

٥٣

معهم و ليس منهم فلا يزال مدفّعا محاجزا. و «النوط المذبذب» هو ما يناط برحل الرّاكب من قعب أو قدح أو ما أشبه ذلك، فهو أبدا يتقلقل إذا حثّ ظهره و استعجل سيره. أقول: رواه (الاستيعاب) مع اختلاف يسير( ١ ) . و قال ابن أبي الحديد: قال المدائني: لما كان زمن عليعليه‌السلام ولّى زيادا فارس أو بعض أعمال فارس، فضبطها ضبطا صالحا، وجبى خراجها و حماها، و عرف ذلك معاوية فكتب إليه: أما بعد فانه غرتك قلاع تأوي اليها ليلا، كما تأوي الطير الى وكرها، و أيم اللّه لو لا انتظاري بك ما اللّه أعلم به لكان لك مني ما قاله العبد الصالح:

فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها و لنخرجنّهم منها أذلّة و هم صاغرون( ٢) .

و كتب في أسفل الكتاب شعرا من جملته:

تنسى أباك و قد شالت نعامته

اذ يخطب الناس و الوالي لهم عمر

فلما ورد الكتاب على زياد قام فخطب الناس، و قال: العجب من ابن آكلة الأكباد، و رأس النفاق، يهددني و بيني و بينه ابن عم رسول اللّه، و زوج سيدة نساء العالمين، و أبو السبطين، و صاحب الولاية و المنزلة و الاخاء في مائة ألف من المهاجرين و الأنصار و التابعين لهم باحسان. أما و اللّه لو تخطّى هؤلاء أجمعين إليّ لوجدني أحمر ضرابا بالسيف.

ثم كتب الى عليعليه‌السلام و بعث بكتاب معاوية في كتابه، فكتب إليه علي: أما بعد فاني قد وليتك ما وليتك و أنا أراك لذلك أهلا، و انه قد كان من أبي سفيان فلتة في أيام عمر من أماني التيه و كذب النفس، لم تستوجب بها ميراثا، و لم تستحق بها نسبا، و ان معاوية كالشيطان الرجيم يأتي المرء من بين يديه

____________________

(١) الاستيعاب ١: ٥٧٠.

(٢) النمل: ٣٧.

٥٤

و من خلفه و عن يمينه و عن شماله، فاحذره ثم احذره ثم احذره( ١) .

قول المصنّف: (و من كتاب لهعليه‌السلام الى زياد بن أبيه و قد بلغه ان معاوية كتب إليه يريد خديعته باستلحاقه) ان معاوية كتب الى زياد لاستلحاقه مرتين، تارة في زمانهعليه‌السلام كما مر و اخرى بعده، و استلحقه فصار بلية على شيعته.

قال ابن أبي الحديد: روى ابو جعفر محمد بن حبيب قال: كان عليعليه‌السلام قد ولّى زيادا قطعة من أعمال فارس و اصطنعه لنفسه، فلما قتل عليّعليه‌السلام بقي زياد في عمله، و خاف معاوية جانبه، و علم صعوبة ناحيته، و أشفق من ممالأته الحسنعليه‌السلام ، فكتب إليه: أما بعد فانك عبد قد كفرت النعمة، و استدعيت النقمة، و لقد كان الشكر أولى بك من الكفر، و ان الشجرة لتصرف بعرقها، و تتفرع من أصلها، انك لا ام لك بل لا أب لك قد هلكت و أهلكت، و ظننت انك تخرج من قبضتي، و لا ينالك سلطاني، هيهات ما كل ذي لب يصيب رأيه، و لا كلّ ذي رأي ينصح في مشورته، أمس عبد و اليوم أمير خطه، ما ارتقاها مثلك يا ابن سمية، و اذا أتاك كتابي هذا فخذ الناس بالطاعة و البيعة و اسرع الاجابة، فانك ان تفعل فدمك حقنت و نفسك تداركت، و إلاّ اختطفتك بأضعف ريش و نلتك بأهون سعي، و أقسم قسما مبرورا ألا أوتي بك الا في زمارة تمشي حافيا من أرض فارس الى الشام، حتى اقيمك في السوق، و أبيعك عبدا، و أردّك الى حيث كنت فيه و خرجت منه.

فلما ورد الكتاب على زياد غضب غضبا شديدا و جمع الناس و صعد المنبر، فحمد اللّه ثم قال: ان ابن آكلة الأكباد، و قاتلة أسد اللّه، و مظهر الخلاف و مسير النفاق، و رئيس الأحزاب، و من أنفق ماله في اطفاء نور اللّه، كتب الي

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٦: ١٨١.

٥٥

يرعد و يبرق عن سحابة جفل لا ماء فيها، و عمّا قليل تصيّرها الرياح قزعا، و الذي يدلني على ضعفه تهدده قبل القدرة، أ فمن اشفاق علي ينذر و يغدر، كلا و لكن ذهب الى غير مذهب، و قعقع لمن روى بين صواعق تهامة كيف أرهبه، و بيني و بينه ابن بنت رسول اللّه، و ابن ابن عمه في مائة ألف من المهاجرين و الأنصار. و اللّه لو اذن لي فيه أو ندبني إليه لأريته الكواكب نهارا، و لأسعطته ما الخردل، دونه الكلام اليوم، و الجمع غدا، و الثورة بعد ذلك.

ثم نزل و كتب الى معاوية: أما بعد فقد وصل إليّ كتابك يا معاوية و فهمت ما فيه، فوجدتك كالغريق يغطيه الموج، فيتشبث بالطحلب، و يتعلق بأرجل الضفادع طمعا في الحياة. انما يكفر النعم و يستدعي النقم من حادّ اللّه و رسوله و سعى في الأرض فسادا، فأما سبّك لي فلو لا علم لي يبهضني عنك، و خوفي أن ادعى سفيها لأثرت لك مخازي لا يغسلها الماء، و أما تعييرك لي بسمية فإن كنت ابن سمية فأنت ابن جماعة، و امّا زعمك انك تخطفني بأضعف ريش، و تتناولني بأهون سعي، فهل رأيت بازيا يفزعه صغير القنابر، أم هل سمعت بذئب أكله الخروف، فامض الآن لطيتك، و اجتهد جهدك، فلست أنزل إلاّ بحيث تكره، و لا اجتهد إلاّ فيما يسوؤك و ستعلم أيّنا الخاضع لصاحبه الطالع إليه.

فلما ورد كتاب زياد على معاوية غمّه و بعث الى المغيرة، فخلا به و قال له: اني أريد مشاورتك في أمر أهمني، فانصحني فيه و اشر عليّ برأي المجتهد و كن لي أكن لك، فقد خصصتك بسري و آثرتك على ولدي. قال المغيرة:

فما ذاك و اللّه لتجدني في طاعتك أمضى من الماء في الحدور، و من ذي الرونق في كف البطل الشجاع.

قال: يا مغيرة ان زيادا قد أقام بفارس يكش لنا كشيش الأفاعي، و هو

٥٦

رجل ثاقب الرأي، ماضي العزيمة، جوال الفكرة، مصيب اذا رمى، و قد خفت منه الآن ما كنت آمنه إذ كان صاحبه حيّا، و أخشى ممالأته حسنا، فكيف السبيل إليه، و ما الحيلة في اصلاح رأيه؟

قال المغيرة: أنا له ان لم أمت، ان زيادا رجل يحب الشرف و الذكر و صعود المنابر، فلو لا طفته المسألة و ألنت له الكتاب لكان لك أميل و بك أوثق، فاكتب إليه و انا الرسول، فكتب إليه: من معاوية بن أبي سفيان الى زياد بن أبي سفيان، أما بعد فان المرء ربما طرحه الهوى في مطارح العطب، و انك للمرء المضروب به المثل، قاطع الرحم، و واصل العدو، حملك سوء ظنّك بي و بغضك لي على ان عققت قرابتي، و قطعت رحمي، و بتتت نسبي و حرمتي، حتى كأنّك لست أخي، و ليس صخر بن حرب أباك و أبي، و شتان ما بيني و بينك، أطلب بدم ابن أبي العاص و أنت تقاتلني، و لكن أدركك عرق الرخاوة من قبل النساء.

فكنت كتاركة بيضها بالعراء

و ملحفة بيض اخرى جناحا

و قد رأيت أن أعطف عليك، و لا اؤ اخذك بسوء سعيك، و ان أصل رحمك، و ابتغي الثواب في امرك، فاعلم أبا المغيرة لو خضت البحر في طاعة القوم فتضرب بالسيف حتى ينقطع متنه لما ازددت منهم إلاّ بعدا، فان بني عبد شمس أبغض الى بني هاشم من الشفرة الى الثور الصريع، و قد أوثق للذبح، فارجع الى أصلك، و اتصل بقومك، و لا تكن كالموصول يطير بريش غيره، فقد أصبحت ضال النسب، و لعمري ما فعل بك ذلك إلاّ اللجاج، فدعه عنك، فقد أصبحت على بينة من أمرك، و وضوح من حجتك، فان أحببت جانبي و وثقت بي فامرة بامرة، و ان كرهت جانبي و لم تثق بقولي ففعل جميل لا عليّ و لا لي.

فرحل المغيرة بالكتاب حتى قدم فارس، فلما رآه زياد قربه و أدناه

٥٧

و لطف به، فدفع إليه الكتاب، فجعل يتأمله و يضحك، فلما فرغ وضعه تحت قدمه ثم قال: حسبك يا مغيرة، فاني اطّلع على ما في ضميرك، و قد قدمت من سفرة بعيدة، فقم و أرح ركابك. قال: أجل. فدع عنك اللجاج، و ارجع الى قومك، و صل أخاك، و انظر لنفسك، و لا تقطع رحمك. قال زياد: اني رجل صاحب أناة، و لي في أمري روية، فلا تعجل علي و لا تبدأني بشي‏ء حتى أبدأك.

ثم جمع الناس بعد يومين أو ثلاثة، فصعد المنبر ثم قال: أيها الناس ادفعوا البلاء عنكم ما اندفع عنكم، و ارغبوا الى اللّه في دوام العافية لكم، فقد نظرت في امور الناس منذ قتل عثمان و فكرت فيهم، فوجدتهم كالاضاحي في كلّ عيد يذبحون، و لقد أفنى هذان اليومان يوم الجمل و يوم صفين ما ينيف على مائة ألف، كلّهم يزعم انّه طالب حق و تابع امام و على بصيرة من أمره، فان كان الأمر هكذا فالقاتل و المقتول في الجنة كلا ليس كذلك، و لكن أشكل الأمر، و التبس على القوم، و اني لخائف أن يرجع الأمر كما بدأ، فكيف لأمرى‏ء بسلامة دينه، و قد نظرت في أمر الناس، فوجدت أحمد العاقبتين العافية، و سأعمل في أموركم ما تحمدون عاقبته و مغبته، فقد حمدت طاعتكم.

ثم نزل و كتب جواب الكتاب: أما بعد فقد وصل كتابك يا معاوية مع المغيرة و فهمت ما فيه، فالحمد للّه الذي عرّفك الحق، و ردّك الى الصلة، و لست ممن يجهل معروفا و لا يغفل حسبا، و لو أردت أن اجيبك بما أوجبته الحجة، و احتمله الجواب لطال الكتاب، و كثر الخطاب، و لكنك ان كان كتابك هذا عن عقد صحيح و نيّة حسنة، و أردت بذلك برا فستزرع في قلبي مودة و قبولا، و ان كنت انما أردت مكيدة و مكرا و فساد نيّة فان النفس تأبى ما فيه العطب، و لقد قمت يوم قرأت كتابك مقاما يعيى به الخطيب المدره، فتركت من حضر لا أهل ورد و لا صدر كالمتحيرين بمهمة ضلّ بهم الدليل، و أنا على أمثال ذلك قدير.

٥٨

و كتب في أسفل الكتاب:

اذا معشري لم ينصفوني وجدتني

ادافع عنّي الضيم ما دمت باقيا

و كم معشر أعيت قناتي عليهم

فلاموا و ألفوني لدى العزم ماضيا

أدافع بالحلم الجهول مكيدة

و اخفي له تحت العضاه الدواهيا

فان تدن منّي أدن منك و ان تبن

تجدني اذا لم تدن مني نائيا

فأعطاه معاوية جميع ما سأله، و كتب إليه بخط يده ما وثيق به، فدخل إليه الشام، فقرّبه و أدناه، و أقرّه على ولايته، ثم استعمله على العراق( ١) .

و في (مروج المسعودي): قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: ان عليّاعليه‌السلام كان ولّى زيادا فارس حين أخرجوا منها سهل بن حنيف، فضرب زياد ببعضهم بعضا حتى غلب عليها، و ما زال ينتقل في كورها حتى أصلح أمر فارس، ثم ولاّه على اصطخر و كان معاوية يتهدده، ثم أخذ بسر بن أرطأة عبيد اللّه و عبادا ولديه، و كتب إليه يقسم ليقتلنهما ان لم يدخل في طاعة معاوية، فقدم زياد على معاوية و كان المغيرة قد قال لزياد قبل قدومه إرم الغرض الأقصى و دع عنك الفضول، فان هذا الأمر لا يمد إليه أحد يدا إلاّ الحسن بن علي و قد بايع معاوية، فخذها لنفسك قبل التوطين.

قال له زياد: فأشر عليّ. قال: أرى ان تنقل أصلك الى أصله، و تصل حبلك بحبله، و تعير الناس منك أذنا صمّاء. فقال زياد: يا ابن شعبة أغرس عودا في غير منبته، و لا مدرة فتحييه، و لا عرق فيسقيه.

ثم ان زيادا عزم على قبول الدعوى، و أخذ برأي المغيرة، و أرسلت إليه جويرية بنت أبي سفيان عن أمر أخيها، فأتاها، فأذن له و كشفت عن شعرها

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٦: ١٨٢ ١٨٦.

٥٩

بين يديه و قالت: أنت أخي، أخبرني بذلك أبو مريم( ١) .

«و قد عرفت ان معاوية كتب اليك يستزل» أي: يطلب زلة «لبك» أي: عقلك «و يستفل» من فللت السيف اذا ثلمت حدّه، و كلّ شي‏ء رددت حده أو ثلمته فقد فللته.

«غربك» أي: حدك «فاحذره فانما هو الشيطان يأتي» المؤمن» هكذا في (المصرية)، و الصواب: «المرء» كما في (ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية)( ٢) .

«من بين يديه و من خلفه و عن يمينه و عن شماله» حكى تعالى عن الشيطان قال لربه تعالى: لأقعدن لهم صراطك المستقيم. ثم لآتينّهم من بين أيديهم و من خلفهم و عن ايمانهم و عن شمائلهم و لا تجد أكثرهم شاكرين( ٣) .

فالشيطان ان لم يقدر أن يحمل أحدا على المخالفة عن طريق المعصية حمله عليها عن طريق العبادة، و كذلك كان معاوية يأتي خصومه عن طريق الوعيد و التهديد، فان لم يؤثر كان يأتيهم عن طريق التملق و التحبب كما فعل بزياد.

و قال ابن أبي الحديد قال شقيق البلخي: ما من صباح إلاّ قعد لي الشيطان على أربعة مراصد: من بين يدي، و من خلفي، و عن يميني، و عن شمالي، أما من بين يدي فيقول: لا تخف فان اللّه غفور رحيم، فأقرأ و اني لغفّار لمن تاب و آمن و عمل صالحا ثم اهتدى( ٤ ) ، و اما من خلفي فيخوفني

____________________

(١) مروج الذهب ٣: ٦.

(٢) كذا في شرح ابن أبي الحديد ١٦: ١٧٧، لكن في شرح ابن ميثم ٥: ٩٥ «المومن».

(٣) الاعراف: ١٦ و ١٧.

(٤) طه: ٨٢.

٦٠