بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٤

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 639

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤
  • البداية
  • السابق
  • 639 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 247405 / تحميل: 8636
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

كان فالتقييد بهنا لأنّ المنسك يأتي كمعان ، ففي ( الصحاح ) : نسكت الشي‏ء : أي غسلته بالماء(١) ، العبادة ، و النسيكة الذبيحة ، و الجمع نسك و نسائك ، و المنسك و المنسك بفتح السين و كسره الموضع الذي تذبح فيه النسائك .

هذا ، و في ( طبقات كاتب الواقدي ) قالوا : كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين ، فإذا صلّى و خطب اتى بأحدهما و هو قائم في مصلاه فذبحه بيده بالمدية ثم يقول : « اللهم هذا عن امتي جميعا من شهد لك بالتوحيد و شهد لي بالبلاغ » ثم يؤتى بالآخر فيذبحه بيده ثم يقول « هذا عن محمّد و آل محمّد » فيأكل هو و أهله منها و يطعم المساكين(٢) .

و في ( تنبيه المسعودي )(٣) : ضحى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في سنة ( ٢ ) من الهجرة أول اضحى رآه المسلمون و امر بذلك ، و خرج إلى المصلى و ذبح به شاتين(٤) .

و في ( تذكرة سبط ابن الجوزي )(٥) : قال أحمد بن حنبل في ( فضائله ) :

بإسناده عن عليّعليه‌السلام قال : أمرني النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أن اضحي عنه ، فأنا اضحي عنه أبدا فكانعليه‌السلام يضحي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أن استشهد ، بكبشين أملحين(٦) .

قال محمّد بن شهاب الزهري : إنّما خص النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله علياعليه‌السلام بذلك دون أقاربه و أهله لقربه منه ، فكأنه فعل ذلك بنفسه(٧) .

و في ( الطبري ) : خطب إبراهيم بن هشام المخزومي خال هشام بن عبد

____________________

( ١ ) الصحاح للجوهري ٣ : ١٦١٢ مادة ( نسك ) .

( ٢ ) الطبقات الكبرى لابن سعد ١ : ٢٤٩ .

( ٣ ) التنبيه للمسعودي : ٢٠٧ .

( ٤ ) تذكرة الخواص : ٤١ .

( ٥ ) تذكره الخواص لسبط ابن الجوزي : ٤١ .

( ٦ ) بحار الأنوار للمجلسي : ٢٢٠ الرواية ١٣ الباب ( ٩ ) .

( ٧ ) تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي : ٤١ .

١٤١

الملك بمنى فقال : سلوني فأنا ابن الوحيد لا تسألون أحدا أعلم مني فقام إليه رجل من أهل العراق فسأله عن الأضحية أهي واجبة ؟ فما درى أي شي‏ء يقول ، فنزل(١) .

و فيه أيضا : ضحى أهل سامراء في سنة ( ٢٤٦ ) يوم الاثنين على الرؤية و أهل مكة يوم الثلاثاء ، و قدم في سنة ( ٢٤٠ ) محمّد بن عبد اللَّه بن طاهر بغداد منصرفا من مكة في صفر فشكا ما ناله من الغم بما وقع من الخلاف في يوم النحر ، فأمر المتوكل بإنفاذ خريطة صفراء من الباب إلى أهل الموسم برؤية هلال ذي الحجة و أن يسار بها كما يسار بالخريطة الواردة بسلامة الموسم .

و في ( عيون القتيبي ) : كان بالبصرة ثلاثة إخوة من ولد عتاب بن أسيد ، كان احدهم يحج عن حمزة و يقول : استشهد قبل أن يحج و كان الآخر يفطر عن عائشة أيام التشريق و يقول : غلطت في صومها أيام العيد فمن صام عن أبيه و امه فأنا أفطر عن أمي عائشة و كان الآخر يضحى عن أبي بكر و عمر و يقول : أخطآ السنة في ترك الأضحية(٢) و نقل ( بيان الجاحظ ) عن الخليل : أنّ الثلاثة كانوا إخوة أبي قطبة البخيل(٣) .

و في ( عقد ابن عبد ربه ) : قال الأصمعي : ولي رجل قضاء الأهواز فأبطأت عليه أرزاقه و ليس عنده ما يضحي به ، فشكا ذلك إلى امرأته و اخبرها بما هو فيه من الضيق و أنّه لا يقدر على أضحية ، فقالت له : لا تغتم فإنّ عندي ديكا عظيما قد سمنته ، فإذا كان يوم الأضحى ذبحناه فبلغ جيرانه الخبر فأهدوا له ثلاثين كبشا و هو في المصلى لا يعلم فلما صار إلى منزله و رأى ما

____________________

( ١ ) تاريخ الامم و الملوك للطبري ٤ : ١٢٨ .

( ٢ ) عيون الأخبار لابن قتيبة ٢ : ٥٥ .

( ٣ ) البيان و التبيان ، لم نعثر عليه .

١٤٢

فيه من الأضاحي قال لامرأته من أين هذا ؟ قالت : أهدى لنا فلان و فلان و فلان حتى سمت له جماعة فقال لها : يا هذه تحفظي بديكنا هذا فلهو أكرم على اللَّه من إسحاق بن إبراهيم ، إنّه فدى ذلك بكبش واحد و فدى ديكنا هذا بثلاثين كبشا(١) .

و في ( يتيمة الثعالبي )(٢) : كتب الصابي إلى الشريف الموسوي السيد الرضي :

مرجيك و صابيك

هذا الأضحى يهنيكا

و يدعو لك ، و اللَّه

مجيب ما دعا فيكا

و قد أوجز إذ قال

مقالا و هو يكفيكا

أراني اللَّه اعداءك

في حال أضاحيكا

و فيه كتب الصابي إلى صمصام الدولة يهنيه بالأضحى :

يا سنة البدر في الدياجي

و غرة الشمس في الصباح

صمصام حرب و غيث سلم

ناهيك في البأس و السماح

اسعد بفطر مضى و اضحى

و افاك باليمن و النجاح

و انحر اعادي بني بويه

بالسيف في جملة الأضاحي

فالكل منهم ذوو قرون

يصلح للذهاب و النطاح

و فيه كتب الصابي إلى عضد الدولة في عيد أضحى :

و كفاك من نحر الأضاحي فيه ما

نحرت يمينك من طلا الاعداء

حرمت مآكلها علينا و اغتدت

حلاّ لوحش القفر و البيداء

صل يا ذا العلا لربك و انحر

كل ضد و شأن لك أبتر

____________________

( ١ ) العقد الفريد لابن عبد ربه ٦ : ٤٣٨ .

( ٢ ) اليتيمة للثعالبي ٢ : ٣٣٠ .

١٤٣

أنت أعلى من أن تكون

أضاحيك قروما من الجمال تعفر

بل قروما من الملوك ذوي السؤدد

تيجانها أمامك تنثر

كلما خر ساجدا لك رأس

منهم قال سيفك اللَّه أكبر(١)

و في ( العقد ) : خطب عبد اللَّه بن عامر بالبصرة في يوم أضحى ، فأرتج عليه فمكث ساعة ثم قال : و اللَّه لا أجمع عليكم عيا و لؤما من اخذ شاة من السوق فهي له و ثمنها علي(٢) .

و في ( كنايات الجرجاني ) : حكي أن المفضل الضبي بعث بأضحية هزيلة إلى شاعر ، ثم لقيه فسأله عنها فقال : كانت قليلة الدم ، فضحك المفضل :

و قال مهلا أردت قوله :

و لو ذبح الضبي بالسيف لم تجد

من اللؤم للضبي لحما و لا دما(٣)

هذا ، و في ( سنن أبي داود ) عن النفيلي عن زهير عن أبي اسحاق عن شريح ابن النعمان و كان رجل صدق عن عليّعليه‌السلام قال : أمرنا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ان نستشرف العين و الاذنين و ألاّ نضحى بعوراء و لا مقابلة و لا مدابرة و لا خرقاء و لا شرقاء قال زهير : فقلت لأبي إسحاق أذكر عضباء ؟ فقال : لا قلت :

فما المقابلة قال : قطع طرف الاذن قلت : فالمدابرة ؟ قال : قطع من مؤخر الاذن .

قلت : فالشرقاء ؟ قال : شق الاذن قلت : فالخرقاء ؟ قال : خرق اذنها للسمة(٤) .

و في ( ميزان الذهبي ) : عن عبد الرحمن بن محمّد بن حبيب الجرمي صاحب الانماط عن أبيه عن جدّه أنّه شهد خالدا ضحى بالجعد بن درهم(٥) .

____________________

( ١ ) يتيمة الدهر للثعالبي ٢ : ٣٣٠ .

( ٢ ) العقد الفريد ٤ : ١٤٩ .

( ٣ ) منتخب الكنايات للجرجاني : ٧٧ .

( ٤ ) سنن أبي داود ١ : ٦٤١ ح ٤٨٠٤ .

( ٥ ) ميزان الاعتدال للذهبي ٢ : ٥٨٥ ترجمة عبد الرحمن بن محمّد .

١٤٤

قلت : مراده بخالد خالد بن عبد اللَّه القسري و بالجعد الذي ينسب مروان ابن محمّد بن مروان آخر خلفاء بني امية إليه ، فكان معروفا بمروان الجعدي كما كان معروفا بمروان الحمار ، كان جعد زنديقا قالوا زعم أنّ اللَّه لم يتخذ إبراهيم خليلا و لم يكلم موسى ، و كان مروان على مذهبه فكان أهل الموصل يقولون لمروان : يا جعدي يا معطل ، قتل جعدا خالد القسري بالعراق يوم النحر و جعله عوض أضحية(١) .

____________________

( ١ ) ميزان الاعتدال ١ : ٣٩٩ في ترجمة الجعد بن درهم .

١٤٥

الفصل الثاني و الخمسون في الاقبال و الادبار

١٤٦

١ من الحكمة ( ٨ ) قَالَ ع :

إِذَا أَقْبَلَتِ اَلدُّنْيَا عَلَى أَحَدٍ أَعَارَتْهُ مَحَاسِنَ غَيْرِهِ وَ إِذَا أَدْبَرَتْ عَنْهُ سَلَبَتْهُمْ مَحَاسِنَ نَفْسِهِ أقول : الأصل فيه كما في ( مروج المسعودي ) : نقل ضرار بن ضمرة ذلك الكلام عنهعليه‌السلام في جملة كلمات اخرى عنهعليه‌السلام لمعاوية(١) .

و روى سبط ابن الجوزي في ( تذكرته ) نقلا من ( كتاب سر العالمين للغزالي ) أبياتا لهعليه‌السلام قريبة من العنوان ، و هي :

المرء في زمن الاقبال كالشجره

و حولها الناس ما دامت لها الثمره

حتى إذا ما عرت من حملها انصرفوا

عنها عقوقا و قد كانوا لها برره

و حاولوا قطعها من بعد ما شفقوا

دهرا عليها من الارياح و الغبره

____________________

( ١ ) مروج الذهب للمسعودي ٢ : ٤٢١ .

١٤٧

قلّت مروات أهل الأرض كلهم

الا الاقل فليس العشر من عشره

لا تحمدن امرأ حتى تجرّبه

فربما لا يوافي خبره خبره(١)

و من شواهد كلامهعليه‌السلام ما في ( وزراء الجهشياري ) عن جبرئيل الطبيب و كان صنيع البرامكة قال : دخلت على الرشيد يوما و هو جالس على بساط على مشرعة باب خراسان في ما بين الخلد و الفرات و ام جعفر من وراء ستر ، فقال الرشيد : قد وجدت شيئا فأشر عليها بما تعمل به قال : فبينا أنا أنظر في ذلك ارتفعت صيحة عظيمة ، فسأل عنها فقيل له : يحيى بن خالد ينظر في امور المتظلمين فقال : بارك اللَّه عليه و أحسن جزاءه فقد خفف عني و حمل الثقل و ذكره بجميل ففعلت ام جعفر مثل ذلك و لم تدع شيئا يذكره أحد من جميل إلاّ ذكرته به قال : فامتلأت بذلك سرورا و قلت في ذلك بما أمكنني و خرجت مبادرا إلى يحيى فخبرته بذلك فسرّ به .

و مضت مدة ثم جاءني يوما رسول الرشيد ، فصرت إليه فوجدته جالسا في ذلك المجلس بعينه و ام جعفر من وراء الستر أيضا و الفضل بن الربيع بين يديه ، و قد وجدت ام جعفر شيئا فأمرني بتأمل علّتها ، و إنّي لفي ذلك إذ ارتفعت ضجة شديدة ، فقال الرشيد : ما هذا ؟ فقيل : يحيى ينظر في امور المتظلمين فقال : فعل اللَّه به و فعل و أقبل يذمّه و يسبّه و قال : استبدّ بالامور دوني و أمضاها على غير رأيي و عمل بما أحبّه دون محبتي ، و تكلمت ام جعفر بنحو من كلامه و ثلبته أكثر مما يثلب به أحد ، فورد علي من ذلك ما أقام و أقعد ، ثم أقبل علي الرشيد فقال لي : يا جبرئيل إنّه لم يسمع كلامي غيرك و غير الفضل ، و ليس الفضل ممن يحكى شيئا عني و علي لئن تجاوزك لأتلفن نفسك .

قال : فتبرأت عنده من ذكره و اكبرت الإقدام على حكاية شي‏ء منه و انصرفت ،

____________________

( ١ ) تذكرة الخواص لسبط بن الجوزي : ١٧٤ نقله عن كتاب سرّ العالمين للغزالي .

١٤٨

فلم أصبر و قلت : و اللَّه إن تلفت نفسي في الوفاء لم ابال و صرت إلى يحيى فعرفته ما جرى ، فقال لي : أتذكر و قد جئتني في يوم كذا من شهر كذا و أنا في هذا الموضع فحكيت عن الرشيد إلاّ حماد و الثناء و عن ام جعفر مثل ذلك ؟

فقلت : نعم و عجبت من حفظه الوقت فقال : إنّه لم يكن مني في هذه الحال التي ذمني فيها شي‏ء لم يكن مني في ذلك الوقت الذي أحمدني فيه ، و لكن المدة إذا آذنت بالانقضاء جعلت المحاسن مساوي و من أراد أن يتجني قدر(١) .

و في السير : قيل ليحيى البرمكي : أخبرنا بأحسن ما رأيت في أيام سعادتك فقال : ركبت يوما في سفينة اريد التنزه ، فلما أردت الخروج اتكأت على لوح من ألواحها و كان باصبعي خاتم ، فطار فصه من يدي و كان ياقوتا أحمر قيمته ألف مثقال من الذهب ، فتطيرت من ذلك ثم عدت إلى منزلي و إذا بالطباخ قد أتى بذلك الفص بعينه و قال : أيّها الوزير لقيت هذا الفص في بطن حوت من حيتان اشتريتها للمطبخ فقلت : هذا لا يصلح الا للوزير فقلت : الحمد للَّه هذا بلوغ الغاية .

و قيل له : أخبرنا ببعض ما لقيت من المحن قال : اشتهيت لحما في قدر و انا في السجن ، فغرمت ألف دينار في شهوتي حتى أتيت بقدر و لحم مقطع و أتيت بنار فأوقدت تحت القدر و نفخت و لحيتي في الأرض حتى كادت روحي تخرج فلما نضجت تركتها تفور و تغلى و فتتت الخبز و عمدت لإنزلها ، فانفلتت من يدي و انكسر القدر على الأرض فبقيت ألتقط اللحم و امسح منه التراب و آكله و ذهب المرق الذي كنت أشتهيه .

و في ( وزراء الجهشياري ) : ذكر الكرماني أنّ الفضل بن يحيى نقل من محبس كان فيه إلى محبس آخر ، فوقف له بعض العامة فدعا عليه ، فاضطرب

____________________

( ١ ) الوزراء و الكتّاب للجهشياري : ٢٢٥ ٢٢٦ .

١٤٩

الفضل من ذلك اضطرابا لم ير منه مثل قبله في شي‏ء من حوادث النكبة ، فقال لبعض من كان معه : أحبّ أن تلقى هذا الرجل و تسأله عما دعاه إلى ما كان هل لحقه من بعض أسبابنا على غير علم منا ظلم فنتلافيه ، فصار الرسول إليه فسأله هل لحقه منه ما يوجب ذلك ؟ قال : لا و اللَّه و لكن قيل لي إنّ هؤلاء كلهم زنادقة فلما عاد الرسول إليه بذلك قال : و اللَّه سريت عني و فرجت عني ثم أنشد :

غير ما طالبين ذحلا و لكن

مال دهر على اناس فمالوا(١)

و قال ابن أبي الحديد : كان الرشيد أيام كان حسن الرأي في جعفر البرمكي يحلف باللَّه أن جعفرا أفصح من قس بن ساعدة و أشجع من عامر بن الطفيل و أكتب من عبد الحميد بن يحيى و أسوس من ابن الخطاب و أحسن من مصعب بن الزبير و لم يكن جعفر حسن الصورة كان طويل الوجه جدا و أنصح له من الحجاج لعبد الملك و أسمح من عبد اللَّه بن جعفر و أعفّ من يوسف بن يعقوب فلما تغير رأيه فيه أنكر محاسنه الحقيقية التي لا يختلف اثنان أنّها فيه نحو كياسته و سماحته ، و كان جعفر لم يجسر أحد أن يرد عليه قولا و لا رأيا ، فيقال : إنّ أوّل ما ظهر من تغير الرشيد له أنّه كلم الفضل بن الربيع بشي‏ء فردّه عليه الفضل و لم تجر عادته من قبل أن يفتح فاه في وجهه .

فأنكر سليمان بن أبي جعفر ذلك على الفضل ، فغضب الرشيد لإنكار سليمان و قال له : ما دخولك بين أخي و مولاى كالراضي بما كان من الفضل ثم تكلم جعفر بشي‏ء قاله للفضل فقال الفضل للرشيد : أشهد عليه فقال له جعفر : فضّ اللَّه فاك يا جاهل إذا كان الخليفة الشاهد فمن الحاكم المشهود عنده فضحك

____________________

( ١ ) الوزراء و الكتّاب للجهشياري : ٢٥٨ ٢٥٩ .

١٥٠

الرشيد و قال : يا فضل لا تمار جعفرا فانك لا تقع عنه موقعا(١) .

و في صلة ( تاريخ الطبري ) : غضب المقتدر في سنة ( ٢٩٩ ) على وزيره علي ابن محمد بن فرات و كانت له أياد جليلة و فضائل كثيرة ، فلم يمسك الناس عن انتقاصه و هجوه مع حسن آثاره(٢) .

و في ( كامل المبرد ) : دخل يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج على سليمان بن عبد الملك و كان يزيد دميما ، فلما رآه قال : قبّح اللَّه رجلا أجرك سنه و أشركك في أمانته فقال له يزيد : رأيتني و الأمر لك و هو عني مدبر ، و لو رأيتني و الأمر علي مقبل لاستكبرت مني ما استصغرت و استعظمت مني ما استحقرت فقال له سليمان : أترى الحجاج استقر في قعر جهنم بعد فقال : لا تقل ذلك ، فإنّ الحجاج وطأ لكم المنابر و أذلّ لكم الجبابر و هو يجي‏ء يوم القيامة عن يمين أبيك و يسار أخيك فحيث كانا كان(٣) .

و في ( كامل ابن الأثير ) : توفي المعز لدين اللَّه العلوي بمصر سنة ( ٣٦٥ ) و كان سبب موته أن ملك الروم بالقسطنطنية أرسل إليه رسولا كان يتردّد إليه بإفريقية ، فخلا به بعض الأيام فقال له المعز : أتذكر إذ أتيتني رسولا و أنا بالمهدية فقلت لك لتدخلّن عليّ و أنا بمصر مالكا لها ؟ قال : نعم قال : و أنا أقول لك لتدخلن علي بغداد و انا خليفة فقال له الرسول : إن آمنتني على نفسي و لم تغضب قلت لك ما عندي فقال له المعز : قل و أنت آمن قال الرسول : بعثني إليك الملك ذلك العام فرأيت من عظمتك في عيني و كثرة أصحابك ما كدت أموت منه ، و وصلت إلى قصرك فرأيت عليه نورا عظيما غطى بصري ، ثم

____________________

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ١٠٥ .

( ٢ ) تاريخ الامم و الملوك للطبري ٥ : ٦٧٥٠ ، دار الكتب العلمية .

( ٣ ) الكامل للمبرد ٢ : ٥٤٦ ٥٤٧ .

١٥١

دخلت عليك فرأيتك على سريرك فظننتك خالقا ، فلو قلت لي إنّك لتعرج إلى السماء لتحققت ذلك ، ثم جئت إليك الآن فما رأيت من ذلك شيئا أشرفت على مدينتك فكانت في عيني سوداء مظلمة ، ثم دخلت عليك فما وجدت لك من المهابة ما وجدته ذلك العام ، فقلت : ان ذلك كان امرا مقبلا و إنّه الآن بضد ما كان عليه فأطرق المعز و خرج الرسول من عنده و اخذت المعز الحمى لشدة ما وجد حتى مات(١) .

٢ الحكمة ( ٢٣٩ ) وَ قَالَ ع :

صَوَابُ اَلرَّأْيِ بِالدُّوَلِ يُقْبِلُ بِإِقْبَالِهَا وَ يَذْهَبُ بِإِدْبَارِهَا أقول : و من شواهد كلامهعليه‌السلام ما في ( الطبري ) قال هشام بن عمرو التغلبي : كنت في عسكر أبي مسلم لما حارب عبد اللَّه بن علي من قبل المنصور ، فتحدث الناس فقيل : أي الناس أشد ؟ فقال : قولوا حتى أسمع فقال رجل : أشدّ الناس أهل خراسان ، و قال : قوم أهل الشام فقال أبو مسلم : كل قوم في دولتهم أشدّ الناس(٢) .

و ما فيه في قتال المثنى بن حارثة مع العجم من قبل عمر قال المثنى :

قاتلت العرب و العجم في الجاهلية و الإسلام ، و اللَّه لمائة من العجم في الجاهلية كانوا أشدّ علي من ألف من العرب لمائة من العرب اليوم أشد علي من ألف من العجم ، إنّ اللَّه اذهب مصذوقتهم و وهن كيدهم ، فلا يرو عنكم زهاء ترونه و لا سواد و لا قسي فج و لا نبال طوال ، فإنّهم إذا أعجلوا عنها أو فقدوها كالبهائم

____________________

( ١ ) الكامل لابن الأثير ٨ : ٦٦٣ ٦٦٤ .

( ٢ ) تاريخ الامم و الملوك للطبري ٢ : ٣٧٣ .

١٥٢

أينما وجهتموها اتجهت .

و ما في ( الأغاني ) : كان جعفر بن منصور يستخف مطيع بن إياس و يحبه و كان منقطعا إليه و له معه منزلة حسنة ، فذكر له حماد الراوية و كان صديقه و كان مطرحا مجفوا في أيامهم ، فقال : إيتنا به لنراه فأتى مطيع حمادا فأخبره بذلك و أمره بالمسير معه إليه ، فقال له حماد : دعني فإنّ دولتي كانت مع بني أمية و مالي عند هؤلاء خير فأبى مطيع إلاّ الذهاب إليه ، فاستعار حماد سوادا و سيفا ، ثم أتاه ثم مضى به مطيع إلى جعفر ، فأمره بالجلوس و قال له :

أنشدني قال : لمن أيها الأمير ؟ الشاعر بعينه أم لمن حضر ؟ قال : بل لجرير .

قال حماد : فسلخ و اللَّه شعر جرير كله من قلبي إلاّ قوله :

بأن الخليط برامتين فودعوا

أو كلما اعتزمو البين تجزع(١)

فأنشدت حتى انتهيت إلى قوله :

و تقول بوزع قد دببت على العصا

هلا هزأت بغيرنا يا بوزع(٢)

فقال لي : اعد علي هذا البيت ، فأعدته فقال : بوزع أي شي‏ء هو ؟ فقلت :

اسم امرأة قال : امرأة اسمها بوزع هو نفي من العباس بن عبد المطلب إن كانت بوزع إلاّ غولا من الغيلان ، تركتني و اللَّه يا هذا الليلة لا أنام من فزع بوزع ، يا غلمان قفاه فصفعت و اللَّه حتى لم أدر أين أنا ، ثم قال : جروا برجله فجروا برجلي حتى اخرجت من بين يديه مسحوبا فتخرق السواد و انكسر جفن السيف و لقيت شرا عظيما مما جرى علي ، و كان أغلظ من ذلك كله إغرامي ثمن السواد و جفن السيف ، فلما انصرفت أتاني مطيع يتوجع لي فقلت له : ألم

____________________

( ١ ) ديوان جرير : ٢٦٧ .

( ٢ ) المصدر نفسه : ٢٦٨ .

١٥٣

اخبرك أنّي لا اصيب منهم خيرا و إنّ حظي قد ذهب مع بني امية(١) .

و قال ابن أبي الحديد : قال الصولي : اجتمع بنو برمك عند يحيى في آخر دولتهم و هم يومئذ عشرة ، فأداروا الرأي بينهم في أمر فلم يصح لهم ، فقال يحيى : انّا للَّه ذهبت و اللَّه دولتنا ، كنّا و اللَّه في إقبالنا يبرم الواحد منّا عشرة آراء مشكلة في وقت واحد ، و اليوم نحن عشرة في أمر غير مشكل و لا يصحّ لنا فيه رأي(٢) .

٣ الحكمة ( ٢٣٠ )

شَارِكُوا اَلَّذِي قَدْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ اَلرِّزْقُ فَإِنَّهُ أَخْلَقُ لِلْغِنَى وَ أَجْدَرُ بِإِقْبَالِ اَلْحَظِّ أقول : ( أخلق ) بمعنى : أجدر ، و الحظ : النصيب ، و في ( الصحاح ) : الحظ :

جمعه أحظ و حظوظ و يجي‏ء على غير قياس أحاظ ، قال القريع :

و ليس الغنى و الفقر من حيل الفتى

و لكن أحاظ قسمت و جدود(٣)

في ( تاريخ بغداد ) : قال الصولي : تذاكرنا يوما عند المبرّد الحظوظ و أرزاق الناس من حيث لا يحتسبون ، قال : هذا يقع كثيرا ، فمنه قول ابن أبي فنن في أبيات عملها لمعنى أراده :

مالي و مالك قد كلفتني شططا

حمل السلاح و قول الدارعين قف

أمن رجال المنايا خلتني رجلا

أمسى و أصبح مشتاقا إلى التف

____________________

( ١ ) الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ٨ : ٢٥٢ ٢٥٣ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ١٩ : ٢٥٤ .

( ٣ ) الصحاح للجوهري ٢ : ١١٧٢ مادة ( حظظ ) .

١٥٤

يمشي المنون إلى غيري فأكرهها

فكيف أسعى إليها بارز الكتف

أم هل حسبت سواد الليل شجّعني

أو أن قلبي في جنبي أبي دلف

فبلغ هذا الشعر أبا دلف فوجّه إليه أربعة آلاف درهم جاءه على غفلة(١) .

قلت : و كما جاء ابن أبي فنن دراهم على غفلة كذلك جاء أبا دلف مديح على غفلة ، و هو أمدح بيت حيث جعله كالمثل في الشجاعة .

و قال ابن أبي الحديد : قال بعضهم : البخت على صورة رجل أعمى أصمّ أخرس و بين يديه جواهر و حجارة و هو يرمي بكلتا يديه(٢) .

ثم زيادة ( المصرية ) كلمة « عليه »(٣) في آخر الكلام زائدة لعدم وجودها في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية )(٤) .

٤ الحكمة ( ٥١ ) عَيْبُكَ مَسْتُورٌ مَا أَسْعَدَكَ جَدُّكَ أقول :

في ( الصحاح ) الجد الحظ و البخت ، و في الدعاء « و لا ينفع ذا الجد منك الجد » أي : لا ينفع ذا الغنى عندك غناء ، و « منك » أي عندك ، و قوله تعالى تعالى جد ربنا أي عظمته ، و قيل غناه(٥) .

و في أخبارنا أنّ الجن قالوا ذلك الكلام جهالة فحكاه تعالى عنهم فلا بد أنّهم أرادوا بالجد الحظ و البخت ، و تعالى ربّنا عن الجدّ بمعنى قالوا .

____________________

( ١ ) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ١٢ : ٤١٩ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ١٩ : ٥٧ الرواية ٢٢٧ .

( ٣ ) الطبعة المصرية : ٧٠٨ .

( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ١٩ : ٥٧ ، و انظر شرح نهج البلاغة لابن ميثم ٥ : ٣٥٨ الرواية ٢١٦ .

( ٥ ) الصحاح للجوهري ١ : ٤٥٢ مادة ( جدد ) .

١٥٥

و مما قيل في الجدّ :

و ما لبّ اللبيب بغير حظ

بأغنى في المعيشة من فتيل

رأيت الحظ يستر كلّ عيب

و هيهات الحظوظ من العقول(١)

قلت : و في المصراع الأخير قلب ، و الأصل « و هيهات العقول من الحظوظ » .

أيضا :

إنّ المقادير إذا ساعدت

ألحقت العاجز بالحازم(٢)

أيضا :

و إذا جددت فكلّ شي‏ء نافع

و إذا حددت فكلّ شي‏ء ضائر

أيضا :

ألا فاخش ما يرجى وجدك هابط

و لا تخش ما يخشى وجدك رافع

فلا نافع إلاّ مع النحس ضائر

و لا ضائر إلاّ مع السعد نافع

و قال ابن أبي الحديد : أكثر الناس في الجد و الى الآن لم يتحقق معناه ، و من كلام بعضهم « إذا أقبل البخت باضت الدجاجة على الوتد و إذا أدبر البخت انشغر الهاون في الشمس »(٣) .

و من كلام الحكماء : إنّ السعادة لتلحظ الحجر فيدعى ربّا(٤) .

و قال أبو حيان : نوادر ابن الجصاص الدالة على تغفله و بلهه كثيرة جدّا ، قد صنّف فيها الكتب ، و من جملتها أنّه سمع إنسانا ينشد نسيبا فيه ذكر هند فقال : لا تذكروا حماة النبي إلاّ بخير و أشياء عجيبة أظرف من هذا ، و كانت

____________________

( ١ ) عيون الأخبار لابن قتيبة ١ : ٢٤٢ .

( ٢ ) عيون الأخبار ١ : ٣٢٩ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ١٨١ .

( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ١٨١ .

١٥٦

سعادته تضرب بها الأمثال و كثرة أمواله التي لم يجمع لقارون مثلها ، فكان الناس يعجبون من ذلك ، حتى أن جماعة من شيوخ بغداد كانوا يقولون ان ابن الجصاص أعقل الناس و أحزمهم ، و انّه هو الذي ألحم الحال بين المعتضد و بين خمارويه بن أحمد بن طولون و سفر بينهما سفارة عجيبة و بلغ من الجهتين احسن مبلغ ، خطب قطر الندى بنت خمارويه للمعتضد و جهّزها من مصر على أجمل وجه و أعلى ترتيب ، و لكنّه كان يقصد أن يتغافل و يتجاهل و يظهر البله و النقص يستبقي بذلك ماله و يحرس به نعمته و يدفع عنه عين الكمال و حسد الأعيان ، فقلت لأبي غسان البصري : أظنّ ما قاله هؤلاء صحيحا ، فان المعتضد مع حزمه و عقله و كماله و إصابة رأيه ما اختاره للسفارة و الصلح إلاّ و المرجو منه فيما يأتيه و يستقبله من أيامه نظير ما قد شوهد منه فيما مضى من زمانه ، و هل كان يجوز أن يصلح أمرا قد تفاقم فساده برسالة أحمق و سفارة أخرق فقال أبو غسان : إنّ الجد ينسلخ حال الأخرق و يستر عيب الأحمق و يذبّ عن عرض الملطخ و يقرب الصواب :

بمنطقه و الصحة برأيه و النجاح بسعيه ، و الجد يستخدم العقلاء لصاحبه و يستعمل آراءهم و أفكارهم في مطالبه ، و إن ابن الجصاص على ما قيل و حكى و لكن جده كفاه غائلة الحمق ، و لو عرفت خبط العاقل إذا فارقه الجد لعلمت أنّ الجد قد يصيب بجهله ما لا يصيب العالم بعلمه مع حرمانه فقلت له :

فما الجد ؟ فقال : ليس لي عنه عبارة معينة و لكن لي به علم شاف و استفدته بالتجربة و السماع العريض من الصغير و الكبير ، و سمعت امرأة من الأعراب ترقّص ابنا لها و تقول : رزقك اللَّه جدا يخدمك عليه ذوو العقول ، و لا رزقك عقلا تخدم به ذوي الجدود(١) .

____________________

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ١٨١ ١٨٢ .

١٥٧

٥ الحكمة ( ١٥٢ ) و قالعليه‌السلام :

لِكُلِّ مُقْبِلٍ إِدْبَارٌ وَ مَا أَدْبَرَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ أقول : في ( المروج ) قال إبراهيم بن المهدي : بعث إليّ الأمين و هو محاصر ، فصرت إليه فإذا هو جالس في طارمة خشبها من عود و صندل عشرة في عشرة ، و إذا سليمان بن أبي جعفر المنصور معه في الطارمة و هي قبة كان اتخذ لها فراشا مبطنا بأنواع الحرير و الديباج المنسوج بالذهب الأحمر و غير ذلك من أنواع الأبريسم ، فسلمت فإذا قدامه قدح بلور مخروز فيه شراب ينفذ مقداره خمسة أرطال و بين يدي سليمان قدح مثله ، فجلست بأزاء سليمان ، فأتيت بقدح كالأول و الثاني ، فقال : إنّما بعثت إليكما لما بلغني قدوم طاهر بن الحسين إلى النهروان و ما قد صنع في أمرنا من المكروه و قابلنا به من الاساءة ، فدعوتكما لأفرّح بكما و بحديثكما فأقبلنا نحدّثه و نؤنسه حتى سلا عمّا كان يجده و فرح و دعا بجارية من خواص جواريه تسمى ضعفا ، فتطيرت من اسمها و نحن على تلك الحال ، فقال لها : غنينا فوضعت العود في حجرها و غنت :

كليب لعمري كان أكثر ناصرا

و أيسر جرما منك ضرج بالدم

فتطير من قولها ثم قال لها : اسكتي قبّحك اللَّه ثم عاد إلى ما كان عليه من الغمّ و الإقطاب ، فأقبلنا نحادثه و نبسطه إلى أن سلا و ضحك ، ثم أقبل عليها و قال : هات ما عندك فغنت :

هم قتلوه كي يكونوا مكانه

كما غدرت يوما بكسرى مرازبه

فأسكتها و زأرها و عاد إلى الحالة الاولى ، فسليناه حتى عاد إلى

١٥٨

الضحك ، فأقبل عليها الثالثة و قال غني ، فغنّت :

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

أنيس و لم يسمر بمكة سامر

بلى نحن كنّا أهلها فأدبانا

صروف الليالي و الجدود العواثر

و قيل بل غنّت :

أما و رب السكون و الحرك

إنّ المنايا كثيرة الشرك

فقال لها قومي عني فعل اللَّه بك و صنع بك فقامت فعثرت بالقدح الذي كان بين يديه فكسرته فانهرق الشراب ، و كانت ليلة قمراء و نحن في شاطى‏ء دجلة في قصره المعروف بالخلد ، فسمعنا قائلا يقول . . ( قُضي الأمر الذي فيه تسفتيان ) (١) قال إبراهيم بن المهدي : فقمت و قد وثب ، فسمعت منشدا من ناحية القصر ينشد :

لا تعجبن من العجب

قد جاء ما يقضي العجب

قد جاء أمر فادح

فيه لذي عجب عجب

قال إبراهيم : فما قمنا معه بعد تلك الليلة إلى أن قتل(٢) .

و قال ابن أبي الحديد : قال شيخ من همدان : بعثني أهلي في الجاهلية إلى ذي الكلاع بهدايا ، فمكثت تحت قصره حولا لا أصل إليه ، ثم أشرف إشرافة من كوة فخرّ له من حول العرش سجدا ، ثم رأيته بعد ذلك بحمص فقيرا يشتري اللحم و يسمطه خلف دابته و هو القائل :

أفّ لدنيا إذا كانت كذا

أنا منها في هموم و أذى

إن صفا عيش امرى‏ء في صبحها

بوجته ممسيا كأس القذى

____________________

( ١ ) يوسف : ٤١ .

( ٢ ) مروج الذهب للمسعودي ٣ : ٣٩٢ .

١٥٩

و لقد كنت إذا قيل من

أنعم العالم عيشا قيل ذا(١)

و قال الشاعر :

في هذه الدار في هذا الرواق على

هذي الوسادة كان العز فانقرضا(٢)

و في ( تاريخ خلفاء السيوطي ) : و في سنة ( ٣٢٠ ) ركب مونس على المقتدر فكان معظم جند مونس البربر ، رمى بربري المقتدر بحربة سقط منها ثم ذبحه بالسيف و شيل رأسه على الرمح و بقي مكشوف العورة حتى ستر بالحشيش قيل إنّ وزيره أخذ له ذلك اليوم طالعا فقال له المقتدر : أي وقت هو ؟ قال : وقت الزوال فتطير و هم بالرجوع ، فأشرفت خيل مونس و نشبت الحرب(٣) .

هذا ، و عنهعليه‌السلام : إنّ للنكبة غايات لا بد أن تنتهي إليها ، فإذا حكم على أحدكم بها فليطأطى‏ء لها و ليصبر حتى تجوز ، فإنّ إعمال الحيلة فيها عند إقبالها زائد في مكروهها(٤) .

و يأتي في فصل القضاء و القدر قولهعليه‌السلام : تذلّ الامور للمقادير حتى يكون الحتف في التدبير(٥) .

____________________

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٣٦٣ .

( ٢ ) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٨٤ .

( ٣ ) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٨٤ .

( ٤ ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢٢٠ : ٢٢٦ ٢٨١ .

( ٥ ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٨ ١٧ : ١٢٠ .

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس.

قوله: إنّ إبراهيم نظر إلى جيفة إلى قوله فقال: يا ربّ أرني الخ، بيان للشبهة الّتي دعته إلى السؤال وهى تفرّق أجزاء الجسد بعد الموت تفرّقاً يؤدّي إلى تغيّرها وانتقالها إلى أمكنة وحالات متنوّعة لا يبقى معها من الأصل شئ.

فإن قلت: ظاهر الرواية: أنّ الشبهة كانت هي شبهة الآكل والمأكول، حيث اشتملت على وثوب بعضها على بعض، وأكل بعضها بعضاً، ثمّ فرّعت على ذلك تعجّب إبراهيم وسؤاله.

قلت: الشبهة شبهتان - إحداهما - تفرّق أجزاء الجسد وفناء أصلها من الصور والأعراض وبالجملة عدم بقائها حتّى تتميّز وتركبها الحياة - وثانيتهما - صيرورة أجزاء بعض الحيوان جزء من بدن بعض آخر فيؤدّي إلى استحالة إحياء الحيوانين ببدنيهما تامّين معاً لأنّ المفروض أنّ بعض بدن أحدهما بعينه بعض لبدن الآخر، فكلّ واحد منهما اُعيد تامّاً بقي الآخر ناقصاً لا يقبل الإعادة، وهذه هي شبهة الآكل والمأكول.

وما أجاب الله سبحانه به - وهو تبعيّة البدن للروح - وإن كان وافياً لدفع الشبهتين جميعاً، إلّا أنّ الّذي أمر به إبراهيم على ما تحكيه الآية لا يتضمّن مادّة شبهة الآكل والمأكول، وهو أكل بعض الحيوان بعضاً، بل إنّما تشتمل على تفرّق الأجزاء واختلاطها وتغيّر صورها وحالاتها، وهذه مادّة الشبهة الاُولى، فالآية إنّما تتعرّض لدفعها وإن كانت الشبهتان مشتركتين في الاندفاع بما اُجيب به في الآية كما مرّ، وما اشتملت عليه الرواية من أكل البعض للبعض غير مقصود في تفسير الآية.

قولهعليه‌السلام فأخذ إبراهيم الطاووس والديك والحمام والغراب، وفي بعض الروايات أنّ الطيور كانت هي النسر والبطّ والطاووس والديك، رواه الصدوق في العيون عن الرضاعليه‌السلام ونقل عن مجاهد وابن جريح وعطاء وابن زيد، وفي بعضها أنّها الهدهد والصرد والطاووس والغراب، رواه العيّاشيّ عن صالح بن سهل عن الصادقعليه‌السلام وفي بعضها: أنّها النعامة والطاووس والوزّة والديك، رواه العيّاشيّ عن معروف بن خرّبوذ

٤٠١

عن الباقرعليه‌السلام ونقل عن ابن عبّاس، وروي من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس أيضاً: أنّها الغرنوق والطاووس والديك والحمامة، والّذي تشترك فيه جميع الروايات والأقوال: الطاووس.

قولهعليه‌السلام : وفرّقهن على عشرة جبال، كون الجبال عشرة ممّا اتّفقت عليه الأخبار المأثورة عن أئمّة أهل البيت وقيل إنّها كانت أربعة وقيل سبعة.

وفي العيون مسنداً عن عليّ بن محمّد بن الجهم قال حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليّ بن موسى فقال له المأمون: يا بن رسول الله أليس من قولك: إنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى فسأله عن آيات من القرآن، فكان فيما سأله أن قال له فأخبرني عن قول الله: ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي، قال الرضا: إنّ الله تبارك وتعالى كان أوحى إلى إبراهيم: أنّي متّخذ من عبادي خليلاً إن سألني إحياء الموتى أجبته فوقع في قلب إبراهيم أنّه ذلك الخليل فقال: ربّ أرني كيف تحيي الموتى؟ قال أو لم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي بالخلّة، الحديث.

اقول: وقد تقدّم في أخبار جنّة آدم كلام في عليّ بن محمّد بن الجهم وفي هذه الرواية الّتي رواها عن الرضاعليه‌السلام فارجع.

واعلم: أنّ الرواية لا تخلو عن دلالة ما على أنّ مقام الخلّة يستلزم استجابة الدعاء، واللفظ يساعد عليه فإنّ الخلّة هي الحاجة، والخليل إنّما يسمّى خليلاً لأنّ الصداقة إذا كملت رفع الصديق حوائجة إلى صديقه، ولا معنى لرفعها مع عدم الكفاية والقضاء.

٤٠٢

( سورة البقرة آية ٢٦١ - ٢٧٤)

مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٦١ ) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٢٦٢ ) قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ( ٢٦٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( ٢٦٤ ) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٢٦٥ ) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( ٢٦٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( ٢٦٧ ) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٦٨ ) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو

٤٠٣

الْأَلْبَابِ ( ٢٦٩ ) وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ( ٢٧٠ ) إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( ٢٧١ ) لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ( ٢٧٢ ) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( ٢٧٣ ) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٢٧٤ )

( بيان)

سياق الآيات من حيث اتّحادها في بيان أمر الإنفاق، ورجوع مضامينها وأغراضها بعضها إلى بعض يعطي أنّها نزلت دفعة واحدة، وهي تحثّ المؤمنين على الإنفاق في سبيل الله تعالى، فتضرب أوّلاً مثلاً لزيادته ونموّه عند الله سبحانه: واحد بسبعمائة، وربّما زاد على ذلك بإذن الله، وثانياً مثلاً لكونه لا يتخلّف عن شأنه على أيّ حال وتنهى عن الرياء في الإنفاق وتضرب مثلاً للإنفاق ريائاً لا لوجه الله، وأنّه لا ينمو نمائاً ولا يثمر أثراً، وتنهي عن الإنفاق بالمنّ والأذى إذ يبطلان أثره ويحبطان عظيم أجره، ثمّ تأمر بأن يكون الإنفاق من طيّب المال لامن خبيثه بخلاً وشحّاً، ثمّ تعيّن المورد الّذي توضع فيه هذه الصنيعة وهو الفقراء المحضرون في سبيل الله، ثمّ تذكر ما لهذا الإنفاق من عظيم الأجر عند الله.

٤٠٤

وبالجملة الآيات تدعو إلى الإنفاق، وتبيّن أوّلاً وجهه وغرضه وهو أن يكون لله لا للناس، وثانياً صورة عمله وكيفيّته وهو أن لا يتعقّبه المنّ والأذى، وثالثاً وصف مال الإنفاق وهو أن يكون طيّباً لا خبيثاً، ورابعاً نعت مورد الإنفاق وهو أن يكون فقيراً اُحصر في سبيل الله، وخامساً ما له من عظيم الأجر عاجلاً وآجلاً.

( كلام في الإنفاق)

الإنفاق من أعظم ما يهتمّ بأمره الإسلام في أحد ركنيه وهو حقوق الناس وقد توسّل إليه بأنحاء التوسّل إيجاباً وندباً من طريق الزكاة والخمس والكفّارات الماليّة وأقسام الفدية والإنفاقات الواجبة والصدقات المندوبة، ومن طريق الوقف والسكنى والعمرى والوصايا والهبة وغير ذلك.

وإنّما يريد بذلك ارتفاع سطح معيشة الطبقة السافلة الّتي لا تستطيع رفع حوائج الحياة من غير إمداد ماليّ من غيرهم، ليقرب اُفقهم من اًفق أهل النعمة والثروة، ومن جانب آخر قد منع من تظاهر أهل الطبقة العالية بالجمال والزينة في مظاهر الحياة بما لا يقرب من المعروف ولا تناله أيدي النمط الأوسط من الناس، بالنهي عن الإسراف والتبذير ونحو ذلك.

وكان الغرض من ذلك كلّه ايجاد حياة نوعيّة متوسّطة متقرّبة الأجزاء متشابهة الأبعاض، تحيى ناموس الوحدة والمعاضدة، وتميت الإرادات المتضادّة وأضغان القلوب ومنابت الأحقاد، فإنّ القرآن يرى أنّ شأن الدين الحقّ هو تنظيم الحياة بشؤونها، وترتيبها ترتيباً يتضمّن سعادة الإنسان في العاجل والآجل، ويعيش به الإنسان في معارف حقّة، وأخلاق فاضلة، وعيشة طيّبة يتنعّم فيها بما أنعم الله عليه من النعم في الدنيا، ويدفع بها عن نفسه المكاره والنوائب ونواقص المادّة.

ولا يتمّ ذلك إلّا بالحياة الطيّبة النوعيّة المتشابهة في طيبها وصفائها، ولا يكون ذلك إلّا بإصلاح حال النوع برفع حوائجها في الحياة، ولا يكمل ذلك إلّا بالجهات

٤٠٥

الماليّة والثروة والقنية، والطريق إلى ذلك إنفاق الأفراد ممّا اقتنوه بكدّ اليمين وعرق الجبين، فإنّما المؤمنون إخوة، والأرض لله، والمال ماله.

وهذه حقيقة أثبتت السيرة النبويّة على سائرها أفضل التحيّة صحّتها واستقامتها في القرار والنماء والنتيجة في برهة من الزمان وهي زمان حياتهعليه‌السلام ونفوذ أمره.

وهي الّتي يتأسّف عليها ويشكو انحراف مجراها أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام إذ يقول: وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلّا إدباراً، والشرّ فيه إلّا إقبالاً، والشيطان في هلاك الناس إلّا طمعاً، فهذا أو ان قويت عدّته وعمّت مكيدته - وأمكنت فريسته، اضرب بطرفك حيث شئت هل تبصر إلّا فقيراً يكايد فقراً؟ أو غنيّاً بدّل نعمة الله كفراً؟ أو بخيلاً اتّخذ البخل بحقّ الله وفراً أو متمرّداً كأنّ باذنه عن سمع المواعظ وقراً؟ (نهج البلاغة).

وقد كشف توالي الأيّام عن صدق القرآن في نظريّته هذه - وهي تقريب الطبقات بإمداد الدانية بالإنفاق ومنع العالية عن الإتراف والتظاهر بالجمال - حيث إنّ الناس بعد ظهور المدنيّة الغربيّة استرسلوا في الإخلاد إلى الأرض، والإفراط في استقصاء المشتهيات الحيوانيّة واستيفاء الهوسات النفسانيّة، وأعدّوا له ما استطاعوا من قوّة، فأوجب ذلك عكوف الثروة وصفوة لذائذ الحياة على أبواب اُولي القوّة والثروة، ولم يبق بأيدي النمط الأسفل إلّا الحرمان، ولم يزل النمط الأعلى يأكل بعضه بعضاً حتّى تفرّد بسعادة الحياة المادّيّة نزر قليل من الناس وسلب حقّ الحياة من الأكثرين وهم سواد الناس، وأثار ذلك جميع الرذائل الخلقيّة من الطرفين، كلّ يعمل على شاكلته لا يبقي ولا يذر، فأنتج ذلك التقابل بين الطائفتين، واشتباك النزاع والنزال بين الفريقين، والتفاني بين الغنيّ والفقير والمنعم والمحروم والواجد والفاقد، ونشبت الحرب العالميّة الكبرى، وظهرت الشيوعيّة، وهجرت الحقيقة والفضيلة وارتحلت السكن والطمأنينة وطيب الحياة من بين النوع وهذا ما نشاهده اليوم من فساد العالم الإنسانيّ، وما يهدّد النوع بما يستقبله أعظم وأفظع.

ومن أعظم العوامل في هذا الفساد انسداد باب الإنفاق وانفتاح أبواب الرباء الّذي

٤٠٦

سيشرح الله تعالى أمره الفظيع في سبع آيات تالية لهذه الآيات أعني آيات الإنفاق ويذكر أنّ في رواجه فساد الدنيا وهو من ملاحم القرآن الكريم، وقد كان جنيناً أيّام نزول القرآن فوضعته حامل الدنيا في هذه الأيّام.

وإن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبّر فيما ذكره سبحانه في سورة الروم إذ قال:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ - إلى ان قال -فَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ - إلى أن قال -ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ) الآيات الروم - ٣٠ - ٤٣، وللآيات نظائر في سور هود ويونس والإسراء والأنبياء وغيرها تنبئ عن هذا الشأن، سيأتي بيانها إنشاء الله.

وبالجملة هذا هو السبب فيما يترآئى من هذه الآيات أعني آيات الإنفاق من الحثّ الشديد والتأكيد البالغ في أمره.

قوله تعالى: ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ ) الخ، المراد بسبيل الله كلّ أمر ينتهي إلى مرضاته سبحانه لغرض دينيّ فعل الفعل لأجله، فإنّ الكلمة في الآية مطلقة، وإن كانت الآية مسبوقة بآيات ذكر فيها القتال في سبيل الله، وكانت كلمة، في سبيل الله، مقارنة للجهاد في غير واحد من الآيات، فإنّ ذلك لا يوجب التخصيص وهو ظاهر.

وقد ذكروا أنّ قوله تعالى: كمثل حبّة أنبتت الخ، على تقدير قولنا كمثل من

٤٠٧

زرع حبّة أنبتت الخ فإنّ الحبّة المنبتة لسبع سنابل مثل المال الّذي اُنفق في سبيل الله لا مثل من أنفق وهو ظاهر.

وهذا الكلام وإن كان وجيهاً في نفسه لكنّ التدبّر يعطي خلاف ذلك فإنّ جلّ الأمثال المضروبة في القرآن حالها هذا الحال فهو صناعة شائعه في القرآن كقوله تعالى:( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ) البقرة - ١٧١، فإنّه مثل من يدعو الكفّار لامثل الكفّار، وقوله تعالى:( نَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ ) الآية يونس - ٢٤، وقوله تعالى:( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ ) النور - ٣٥، وقوله تعالى في الآيات التالية لهذه الآية: فمثله كمثل صفوان الآية: وقوله تعالى: مثل الّذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنّة بربوة الآية إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة.

وهذه الأمثال المضروبة في الآيات تشترك جميعاً في أنّها اقتصر فيها على مادّة التمثيل الّذي يتقوّم بها المثل مع الإعراض عن باقي أجزاء الكلام للإيجاز.

توضيحه: أنّ المثل في الحقيقة قصّة محقّقة أو مفروضة مشابهة لاُخرى في جهاتها يؤتي بها لينتقل ذهن المخاطب من تصوّرها إلى كمال تصوّر الممثّل كقولهم: لا ناقة لي ولا جمل، وقولهم: في الصيف ضيّعت اللبن من الأمثال الّتي لها قصص محقّقة يقصد بالتمثيل تذكّر السامع لها وتطبيقها لمورد الكلام للاستيضاح، ولذا قيل: إنّ الأمثال لا تتغيّر، وكقولنا: مثل الّذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل من زرع حبّة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مأة حبّة، وهي قصّة مفروضة خياليّة.

والمعنى الّذي يشتمل عليه المثل ويكون هو الميزان الّذي يوزن به حال الممثّل ربّما كان تمام القصّة الّتي هي المثل كما في قوله تعالى:( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ) الآية إبراهيم - ٢٦، وقوله تعالى:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ) الجمعة - ٥، وربّما كان بعض القصّة ممّا يتقوّم به غرض التمثيل وهو الّذي نسمّيه مادّة التمثيل، وإنّما جئ بالبعض الآخر لتتميم القصّة كما في المثال الأخير (مثال الإنفاق والحبّة) فإنّ مادّة التمثيل إنّما هي

٤٠٨

الحبة المنبتة لسبعمأة حبّة وإنّما ضممنا إليها الّذي زرع لتتميم القصّة.

وما كان من أمثال القرآن مادّة التمثيل فيه تمام المثل فإنّه وضع على ما هو عليه، وما كان منها مادّة التمثيل فيه بعض القصّة فإنّه اقتصر على مادّة التمثيل فوضعت موضع تمام القصّة لأنّ الغرض من التمثيل حاصل بذلك، على ما فيه من تنشيط ذهن السامع بفقده أمراً و وجدانه أمراً آخر مقامه يفي بالغرض منه، فهو هو بوجه وليس به بوجه، فهذا من الإيجاز بالقلب على وجه لطيف يستعمله القرآن.

قوله تعالى: ( أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ) ، السنبل معروف وهو على فنعل، قيل الأصل في معنى مادّته الستر سمّي به لأنّه يستر الحبّات الّتي تشتمل عليها في الأغلفة.

ومن أسخف الإشكال ما اُورد على الآية أنّه تمثيل بما لا تحقّق له في الخارج وهو اشتمال السنبلة على مأة حبّة، وفيه أنّ المثل كما عرفت لا يشترط فيه تحقّق مضمونة في الخارج فالأمثال التخيّليّة أكثر من أن تعدّ وتحصى، على أنّ اشتمال السنبلة على مأة حبّة وإنبات الحبّة الواحدة سبعمأة حبّة ليس بعزيز الوجود.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ، أي يزيد على سبعمأة لمن يشاء فهو الواسع لا مانع من جوده ولا محدّد لفضله كما قال تعالى:( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ) البقرة - ٢٤٥، فأطلق الكثرة ولم يقيّدها بعدد معيّن.

وقيل: إنّ معناه أنّ الله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء فالمضاعفة إلى سبعمأة ضعف غاية ما تدلّ عليه الآية، وفيه أنّ الجملة على هذا يقع موقع التعليل، وحقّ الكلام فيه حينئذ أن يصدّر بإنّ كقوله تعالى:( اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ) المؤمن - ٦١، وأمثال ذلك.

ولم يقيّد ما ضربه الله من المثل بالآخرة بل الكلام مطلق يشمل الدنيا كالآخرة وهو كذلك والاعتبار يساعده، فالمنفق بشئ من ماله وإن كان يخطر بباله ابتدائاً أنّ المال قد فات عنه ولم يخلّف بدلاً، لكنّه لو تأمّل قليلاً وجد أنّ المجتمع الإنسانيّ

٤٠٩

بمنزلة شخص واحد ذو أعضاء مختلفة بحسب الأسماء والأشكال لكنّها جميعاً متّحدة في غرض الحياة، مرتبطة من حيث الأثر والفائدة، فإذا فقد واحد منها نعمة الصحّة والاستقامة، وعىّ في فعله أوجب ذلك كلال الجميع في فعلها، وخسرانها في أغراضها فالعين واليد وإن كانا عضوين اثنين من حيث الاسم والفعل ظاهراً، لكنّ الخلقة إنّما جهّز الإنسان بالبصر ليميّز به الأشياء ضوئاً ولوناً وقرباً وبعداً فتتناول اليد ما يجب أن يجلبه الإنسان لنفسه، وتدفع ما يجب أن يدفعه عن نفسه، فإذا سقطت اليد عن التأثير وجب أن يتدارك الإنسان ما يفوته من عامّة فوائدها بسائر أعضائه فيقاسي أوّلاً كدّاً وتعباً لا يتحمّل عادة، وينقص من أفعال سائر الأعضاء بمقدار ما يستعملها في موضع العضو الساقط عن التأثير، وأمّا لو أصلح حال يده الفاسدة بفضل ما ادّخره لبعض الأعضاء الاُخر كان في ذلك إصلاح حال الجميع، وعاد إليه من الفائدة الحقيقيّة أضعاف ما فاته من الفضل المفيد أضعافاً ربّما زاد على المآت والاُلوف بما يورث من إصلاح حال الغير، ودفع الرذائل الّتي يمكّنها الفقر والحاجة في نفسه، وإيجاد المحبّة في قلبه، وحسن الذكر في لسانه، والنشاط في عمله، والمجتمع يربط جميع ذلك ويرجعه إلى المنفق لا محالة، ولا سيّما إذا كان الإنفاق لدفع الحوائج النوعيّة كالتعليم والتربية ونحو ذلك، فهذا حال الإنفاق.

وإذا كان الإنفاق في سبيل الله وابتغاء مرضات الله كان النماء والزيادة من لوازمه من غير تخلّف، فإنّ الإنفاق لو لم يكن لوجه الله لم يكن إلّا لفائدة عائدة إلى نفس المنفق كإنفاق الغنيّ للفقير لدفع شرّه، أو إنفاق المثري الموسر للمعسر ليدفع حاجته ويعتدل حال المجتمع فيصفو للمثري المنفق عيشه، وهذا نوع استخدام للفقير واستثمار منه لنفع نفسه، ربّما أورث في نفس الفقير أثراً سيّئاً، وربّما تراكمت الآثار وظهرت فكانت بلوى، لكنّ الإنفاق الّذي لايراد به إلّا وجه الله ولا يبتغي فيه إلّا مرضاته خال عن هذه النواقص لا يؤثّر إلّا الجميل ولا يتعقّبه إلّا الخير.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ) الخ الإتباع اللحوق والإلحاق، قال تعالى:( فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ) الشعراء - ٦١،

٤١٠

أي لحقوهم، وقال تعالى:( وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ) القصص - ٤٢، أي ألحقناهم. والمنّ هو ذكر ما ينغّص المعروف كقول المنعم للمنعم عليه: أنعمت عليك بكذا وكذا ونحو ذلك، والأصل في معناه على ما قيل القطع، ومنه قوله تعالى:( لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) فصّلت - ٨، أي غير مقطوع، والأذى الضرر العاجل أو الضرر اليسير، والخوف توقّع الضرر، والحزن الغمّ الّذي يغلظ على النفس من مكروه واقع أو كالواقع.

قوله تعالى: ( قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ ) الخ المعروف من القول ما لا ينكره الناس بحسب العادة، ويختلف باختلاف الموارد، والأصل في معنى المغفرة هو الستر، والغنى مقابل الحاجة والفقر، والحلم السكوت عند المكروه من قول أو فعل.

وترجيح القول المعروف والمغفرة على صدقة يتبعها أذى ثمّ المقابلة يشهد بأنّ المراد بالقول المعروف الدعاء أو لفظ آخر جميل عند ردّ السائل إذا لم يتكلّم بما يسوء المسؤول عنه، والستر والصفح إذا شفّع سؤاله بما يسوئه وهما خير من صدقة يتبعها أذى، فإنّ أذى المنفق للمنفق عليه يدلّ على عظم إنفاقه والمال الّذي أنفقه في عينه، وتأثّره عمّا يسوئه من السؤال، وهما علّتان يجب أن تزاحا عن نفس المؤمن، فإنّ المؤمن متخلّق بأخلاق الله، والله سبحانه غنيّ لا يكبر عنده ما أنعم وجاد به، حليم لا يتعجّل في المؤاخذة على السيّئة، ولا يغضب عند كلّ جهالة، وهذا معنى ختم الآية بقوله: والله غنيّ حليم.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم ) الخ تدلّ الآية على حبط الصدقة بلحوق المنّ والأذى، وربّما يستدلّ بها على حبط كلّ معصية أو الكبيرة خاصّة لما يسبقها من الطاعات، ولا دلالة في الآية على غير المنّ والأذى بالنسبة إلى الصدقة وقد تقدّم إشباع الكلام في الحبط.

قوله تعالى: ( كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) ، لمّا كان الخطاب للمؤمنين، والمرائي غير مؤمن كما ذكره الله سبحانه لأنّه لا يقصد بأعماله وجه الله لم يعلّق النهي بالرئاء كما علّقه على المنّ والأذى، بل إنّما شبّه المتصدّق الّذي يتبع صدقته بالمنّ والأذى بالمرائي في بطلان الصدقة، مع أنّ عمل المرائي

٤١١

باطل من رأس وعمل المانّ والمؤذي وقع أوّلاً صحيحاً ثمّ عرضه البطلان.

واتّحاد سياق الأفعال في قوله: ينفق ماله، وقوله: ولا يؤمن من دون أن يقال: ولم يؤمن يدلّ على أنّ المراد من عدم إيمان المرائي في الإنفاق بالله واليوم الآخر عدم إيمانه بدعوة الإنفاق الّذي يدعو إليها الله سبحانه، ويعد عليه جزيل الثواب، إذ لو كان يؤمن بالداعي في دعوته هذه، وبيوم القيامة الظاهر فيه الجزاء لقصد في فعله وجه الله، وأحبّ واختار جزيل الثواب، ولم يقصد به رئاء الناس، فليس المراد من عدم إيمان المرائي عدم إيمانه بالله سبحانه رأساً.

ويظهر من الآية: أنّ الرياء في عمل يستلزم عدم الإيمان بالله واليوم الآخر فيه.

قوله تعالى: ( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ ) إلى آخر الآية، الضمير في قوله: فمثله راجع إلى الّذي ينفق ماله رئاء الناس والمثل له، والصفوان والصفا الحجر الأملس وكذا الصلد، والوابل: المطر الغزير الشديد الوقع.

والضمير في قوله: لا يقدرون راجع إلى الّذي ينفق رئائاً لأنّه في معنى الجمع، والجملة تبيّن وجه الشبه وهو الجامع بين المشبّه والمشبّه به، وقوله تعالى: والله لا يهدي القوم الكافرين بيان للحكم بوجه عامّ وهو أنّ المرائي في ريائه من مصاديق الكافر، والله لا يهدي القوم الكافرين، ولذلك أفاد معنى التعليل.

وخلاصة معنى المثل: أنّ حال المرائي في إنفاقه رئائاً وفي ترتّب الثواب عليه كحال الحجر الأملس الّذي عليه شئ من التراب إذا اُنزل عليه وابل المطر، فإنّ المطر وخاصّة وابله هو السبب البارز لحياة الأرض واخضرارها وتزيّنها بزينة النبات، إلّا أنّ التراب إذا وقع على الصفوان الصلد لا يستقرّ في مكانه عند نزول الوابل بل يغسله الوابل ويبقى الصلد الّذي لا يجذب الماء، ولا يتربّى فيه بذر لنبات، فالوابل وإن كان من أظهر أسباب الحياة والنمو وكذا التراب لكن كون المحلّ صلداً يبطل عمل هذين السببين من غير أن يكون النقص والقصور من جانبهما فهذا حال الصلد.

وهذا حال المرائي فإنّه لمّا لم يقصد من عمله وجه الله لم يترتّب على عمله ثواب

٤١٢

وإن كان العمل كالإنفاق في سبيل الله من الأسباب البارزة لترتّب الثواب، فإنّه مسلوب الاستعداد لا يقبل قلبه الرحمة والكرامة.

وقد ظهر من الآية: أنّ قبول العمل يحتاج إلى نيّة الإخلاص وقصد وجه الله، وقد روى الفريقان عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه قال: إنّما الأعمال بالنيّات.

قوله تعالى: ( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ ) ، ابتغاء المرضاة هو طلب الرضاء، ويعود إلى إرادة وجه الله، فإنّ وجه الشئ هو ما يواجهك ويستقبلك به، ووجهه تعالى بالنسبه إلى عبده الّذي أمره بشئ وأراده منه هو رضائه عن فعله وامتثاله، فإنّ الآمر يستقبل المأمور أوّلاً بالأمر فإذا امتثل استقبله بالرضاء عنه، فمرضات الله عن العبد المكلّف بتكليف هو وجهه إليه، فابتغاء مرضاة الله هو إرادة وجهه عزّوجلّ.

وأمّا قوله: وتثبيتاً من أنفسهم فقد قيل: إنّ المراد التصديق واليقين. وقيل: هو التثبّت أي يتثبّتون أين يضعون أموالهم، وقيل: هو التثبّت في الإنفاق فإن كان لله أمضى، وإن كان خالطه شئ من الرياء أمسك، وقيل: التثبيت توطين النفس على طاعة الله تعالى، وقيل: هو تمكين النفس في منازل الإيمان بتعويدها على بذل المال لوجه الله. وأنت خبير بأنّ شيئاً من الأقوال لا ينطبق على الآية إلّا بتكلّف.

والّذي ينبغي أن يقال - والله العالم - في المقام: هو أنّ الله سبحانه لمّا أطلق القول أوّلاً في مدح الإنفاق في سبيل الله، وأنّ له عند الله عظيم الأجر اعترضه أن استثنى منه نوعين من الإنفاق لا يرتضيهما الله سبحانه، ولا يترتّب عليهما الثواب، وهما الإنفاق ريائاً الموجب لعدم صحّة العمل من رأس والإنفاق الّذي يتبعه منّ أو أذى فإنّه يبطل بهما وإن انعقد أوّلاً صحيحاً، وليس يعرض البطلان. لهذين النوعين إلّا من جهة عدم ابتغاء مرضاة الله فيه من رأس، أو لزوال النفس عن هذه النيّة أعني ابتغاء المرضات ثانياً بعد ما كانت عليها أوّلاً، فأراد في هذه الآية بيان حال الخاصّة من أهل الإنفاق الخالصة بعد استثناء المرائين وأهل المنّ والأذى، وهم الّذين ينفقون أموالهم

٤١٣

ابتغاء وجه الله ثمّ يقرّون أنفسهم على الثبات على هذه النيّة الطاهرة النامية من غير أن يتبعوها بما يبطل العمل ويفسده.

ومن هنا يظهر أنّ المراد بابتغاء مرضاة الله أن لا يقصد بالعمل رئاء ونحوه ممّا يجعل النيّة غير خالصة لوجه الله، وبقوله تثبيتاً من أنفسهم تثبيت الإنسان نفسه على ما نواه من النيّة الخالصة، وهو تثبيت ناش من النفس واقع على النفس. فقوله تثبيتاً تميز وكلمة من نشويّة وقوله أنفسهم في معنى الفاعل، وما في معنى المفعول مقدّر. والتقدير تثبيتاً من أنفسهم لأنفسهم، أو مفعول مطلق لفعل من مادّته.

قوله تعالى: ( كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ ) إلى آخر الآية، الأصل في مادّة ربا الزيادة، والربوة بالحركات الثلاث في الراء الأرض الجيّدة الّتي تزيد وتعلو في نموّها، والاُكّل بضمّتين ما يؤكل من الشئ والواحدة أكلة، والطلّ أضعف المطر القليل الأثر.

والغرض من المثل أنّ الإنفاق الّذي اُريد به وجه الله لا يتخلّف عن أثرها الحسن البتّة، فإنّ العناية الإلهيّة واقعة عليه متعلّقة به لانحفاظ اتّصاله بالله سبحانه وإن كانت مراتب العناية مختلفة لاختلاف درجات النيّة في الخلوص، واختلاف وزن الأعمال باختلافها، كما أنّ الجنّة الّتي في الربوة إذا أصابها المطر لم تلبث دون أن تؤتي اُكلها إيتائاً جيّداً البتّة وإن كان إيتائها مختلفاً في الجودة باختلاف المطر النازل عليه من وابل وطلّ.

ولوجود هذا الاختلاف ذيّل الكلام بقوله: والله بما تعملون بصير أي لا يشتبه عليه أمر الثواب، ولا يختلط عليه ثواب الأعمال المختلفة فيعطي ثواب هذا لذاك وثواب ذاك لهذا.

قوله تعالى: ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ) الخ، الودّ هو الحبّ وفيه معنى التمنّي، والجنّة: الشجر الكثير الملتفّ كالبستان سمّيت بذلك لأنّها تجنّ الأرض وتسترها وتقيها من ضوء الشمس ونحوه، ولذلك صحّ أن يقال: تجري من تحتها الأنهار، ولو كانت هي الأرض بما لها من الشجر مثلاً لم يصحّ ذلك

٤١٤

لإفادته خلاف المقصود، ولذلك قال تعالى في مثل الربوة وهي الأرض المعمورة:( رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ) المؤمنون - ٥٠، وكرّر في كلامه قوله: جنّات تجري من تحتها الأنهار فجعل المعين (وهو الماء) فيها لاجارياً تحتها.

ومن في قوله: من نخيل وأعناب للتبيين ويفيد معنى الغلبة دون الاستيعاب، فإنّ الجنّة والبستان وما هو من هذا القبيل إنّما يضاف إلى الجنس الغالب فيقال جنّة العنب أو جنّة من أعناب إذا كان الغالب فيها الكرم وهي لا تخلو مع ذلك من شجر شتّى، ولذلك قال تعالى ثانياً: له فيها من كلّ الثمرات.

والكبر كبر السنّ وهو الشيخوخة، والذرّيّة الأولاد، والضعفاء جمع الضعيف، وقد جمع تعالى في المثل بين إصابة الكبر ووجود الذرّيّة الضعفاء لتثبيت مسيس الحاجة القطعيّة إلى الجنّة المذكورة مع فقدان باقي الأسباب الّتي يتوصّل إليها في حفظ سعادة الحياة وتأمين المعيشة، فإنّ صاحب الجنّة لو فرض شابّاً قويّاً لأمكنه أن يستريح إلى قوّة يمينه لو اُصيبت جنّته بمصيبة، ولو فرض شيخاً هرماً من غير ذرّيّة ضعفاء لم يسوء حاله تلك المسائة لأنّه لا يرى لنفسه إلّا أيّاماً قلائل لا يبطئ عليه زوالها وانقضائها، ولو فرض ذا كبر وله أولاد أقوياء يقدرون على العمل واكتساب المعيشة أمكنهم أن يقتاتوا بما يكتسبونه، وأن يستغنوا عنها بوجه! لكن إذا اجتمع هناك الكبر والذرّيّة الضعفاء، واحترقت الجنّة انقطعت الأسباب عنهم عند ذلك، فلا صاحب الجنّة يمكنه أن يعيد لنفسه الشباب والقوّة أو الأيّام الخالية حتّى يهيّئ لنفسه نظير ما كان قد هيّأها، ولا لذرّيّته قوّة على ذلك، ولا لهم رجاء أن ترجع الجنّة بعد الاحتراق إلى ما كانت عليه من النضارة والإثمار.

والإعصار الغبار الّذي يلتفّ على نفسه بين السماء والأرض كما يلتفّ الثوب على نفسه عند العصر.

وهذا مثل ضربه الله للّذين ينفقون أموالهم ثمّ يتبعونه منّاً وأذى فيحبط عملهم ولا سبيل لهم إلى إعادة العمل الباطل إلى حال صحّته واستقامته، وانطباق المثل على الممثّل ظاهر، ورجا منهم التفكّر لأنّ أمثال هذه الأفاعيل المفسدة للأعمال إنّما تصدر

٤١٥

من الناس ومعهم حالات نفسانيّة كحبّ المال والجاه والكبر والعجب والشحّ، لا تدع للإنسان مجال التثبّت والتفكّر وتميّز النافع من الضارّ، ولو تفكّروا لتبصّروا.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ) الخ، التيمّم هو القصد والتعمّد، والخبيث ضدّ الطيّب، وقوله: منه، متعلّق بالخبيث، وقوله: تنفقون حال من فاعل لاتيمّموا، وقوله: ولستم بآخذيه حال من فاعل تنفقون، وعامله الفعل، وقوله أن تغمضوا فيه في تأويل المصدر، واللام مقدّر على ما قيل والتقدير إلّا لإغماضكم فيه، أو المقدّر باء المصاحبة والتقدير إلّا بمصاحبة الإغماض.

ومعنى الآية ظاهر، وإنّما بيّن تعالى كيفيّة مال الإنفاق، وأنّه ينبغي أن يكون من طيّب المال لا من خبيثه الّذي لا يأخذه المنفق إلّا بإغماض، فإنّه لا يتّصف بوصف الجود والسخاء، بل يتصوّر بصورة التخلّص، فلا يفيد حبّاً للصنيعة والمعروف ولا كمالاً للنفس، ولذلك ختمها بقوله: واعلموا أنّ الله غنيّ حميد أي راقبوا في إنفاقكم غناه وحمده فهو في عين غناه يحمد إنفاقكم الحسن فأنفقوا من طيّب المال، أو أنّه غنيّ محمود لا ينبغي أن تواجهوه بما لا يليق بجلاله جلّ جلاله.

قوله تعالى: ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ) إقامة للحجّة على أنّ اختيار خبيث المال للإنفاق ليس بخير للمنفقين بخلاف اختيار طيّبه فإنّه خير لهم، ففي النهى مصلحة أمرهم كما أنّ في المنهىّ عنه مفسدة لهم، وليس إمساكهم عن إنفاق طيّب المال وبذله إلّا لما يرونه مؤثّراً في قوام المال والثروة فتنقبض نفوسهم عن الإقدام إلى بذله بخلاف خبيثه فإنّه لا قيمة له يعنى بها فلا بأس بإنفاقه، وهذا من تسويل الشيطان يخوّف أوليائه من الفقر، مع أنّ البذل وذهاب المال والإنفاق في سبيل الله وابتغاء مرضاته مثل البذل في المعاملات لا يخلو عن العوض والربح كما مرّ، مع أنّ الّذي يغني ويقني هو الله سبحانه دون المال، قال تعالى:( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ ) النجم - ٤٨.

وبالجملة لمّا كان إمساكهم عن بذل طيّب المال خوفاً من الفقر خطاء نبّه عليه بقوله: الشيطان يعدكم الفقر، غير أنّه وضع السبب موضع المسبّب، أعني أنّه وضع وعد الشيطان موضع خوف أنفسهم ليدلّ على أنّه خوف مضرّ لهم فإنّ الشيطان لا

٤١٦

يأمر إلّا بالباطل والضلال إمّا ابتدائاً ومن غير واسطة، وإمّا بالآخرة وبواسطة ما يظهر منه أنّه حقّ.

ولمّا كان من الممكن أن يتوهّم أنّ هذا الخوف حقّ وإن كان من ناحية الشيطان دفع ذلك بإتباع قوله: الشيطان يعدكم الفقر بقوله: ويأمركم بالفحشاءأوّلا ، فإنّ هذا الإمساك والتثاقل منهم يهيّئ في نفوسهم ملكة الإمساك وسجيّة البخل، فيؤدّي إلى ردّ أوامر الله المتعلّقة بأموالهم وهو الكفر بالله العظيم، ويؤدّي إلى إلقاء أرباب الحاجة في تهلكة الإعسار والفقر والمسكنة الّتي فيه تلف النفوس وانهتاك الأعراض وكلّ جناية وفحشاء، قال تعالى:( وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ - إلى ان قال -الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) التوبة - ٧٩.

ثمّ بإتباعه بقوله: والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليمثانياً ، فإنّ الله قد بيّن للمؤمنين: أنّ هناك حقّاً وضلالاً لا ثالث لهما، وأنّ الحقّ وهو الطريق المستقيم هو من الله سبحانه، وأنّ الضلال من الشيطان، قال تعالى:( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ) يونس - ٣٢، وقال تعالى:( قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ) يونس - ٣٥، وقال تعالى في الشيطان:( إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ) القصص - ١٥، والآيات جميعاً مكّيّة، وبالجملة نبّه تعالى بقوله: والله يعدكم، بأنّ هذا الخاطر الّذي يخطر ببالكم من جهة الخوف ضلال من الفكر فإنّ مغفرة الله والزيادة الّتي ذكرها في الآيات السابقة إنّما هما في البذل من طيّبات المال.

فقوله تعالى: والله يعدكم الخ، نظير قوله: الشيطان يعدكم الخ، من قبيل وضع السبب موضع المسبّب، وفيه إلقاء المقابلة بين وعد الله سبحانه الواسع العليم ووعد الشيطان، لينظر المنفقون في أمر الوعدين ويختاروا ما هو أصلح لبالهم منهما.

فحاصل حجّة الآية: أنّ اختياركم الخبيث على الطيّب إنّما هو لخوف الفقر،

٤١٧

والجهل بما يستتبعه هذا الإنفاق، أمّا خوف الفقر فهو إلقاء، شيطانيّ، ولا يريد الشيطان بكم إلّا الضلال والفحشاء فلا يجوز أن تتّبعوه، وأمّا مايستتبعه هذا الإنفاق فهو الزيادة والمغفرة اللّتان ذكرتا لكم في الآيات السابقة، وهو استتباع بالحقّ لأنّ الّذي يعدكم استتباع الإنفاق لهذه المغفرة والزيادة هو الله سبحانه ووعده حقّ، وهو واسع يسعه أن يعطي ما وعده من المغفرة والزيادة وعليم لا يجهل شيئاً ولا حالاً من شئ فوعده وعد عن علم.

قوله تعالى: ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ) ، الإيتاء هو الإعطاء، والحكمة بكسر الحاء على فعلة بناء نوع يدلّ على نوع المعنى فمعناه النوع من الإحكام والإتقان أو نوع من الأمر المحكم المتقن الّذي لا يوجد فيه ثلمة ولا فتور، وغلب استعماله في المعلومات العقليّة الحقّة الصادقة الّتي لا تقبل البطلان والكذب البتّة.

والجملة تدلّ على أنّ البيان الّذي بيّن الله به حال الإنفاق بجمع علله وأسبابه وما يستتبعه من الأثر الصالح في حقيقة حياة الإنسان هو من الحكمة، فالحكمة هي القضايا الحقّة المطابقة للواقع من حيث اشتمالها بنحو على سعادة الإنسان كالمعارف الحقّة الإلهيّة في المبدأ والمعاد، والمعارف الّتي تشرح حقائق العالم الطبيعيّ من جهة مساسها بسعادة الإنسان كالحقائق الفطريّة الّتي هي أساس التشريعات الدينيّة.

قوله تعالى: ( وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ) ، المعنى ظاهر، وقد اُبهم فاعل الإيتاء مع أنّ الجملة السابقة عليه تدلّ على أنّه الله تبارك وتعالى ليدلّ الكلام على أنّ الحكمة بنفسها منشأ الخير الكثير فالتلبّس بها يتضمّن الخير الكثير، لامن جهة انتساب إتيانه إليه تعالى، فإنّ مجرّد انتساب الإتيان لا يوجب ذلك كإيتاء المال، قال تعالى في قارون( وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّة ِ ) إلى آخرالآيات القصص - ٧٦، وإنّما نسب إليها الخير الكثير دون الخير مطلقاً، مع ما عليه الحكمة من ارتفاع الشأن ونفاسة الأمر لأنّ الأمر مختوم بعناية الله وتوفيقه، وأمر السعادة مراعيّ بالعاقبة والخاتمة.

قوله تعالى: ( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) ، اللبّ هو العقل لأنّه في الإنسان

٤١٨

بمنزلة اللبّ من القشر، وعلى هذا المعنى استعمل في القرآن، وكأنّ لفظ العقل بمعناه المعروف اليوم من الأسماء المستحدثة بالغلبة ولذلك لم يستعمل في القرآن وإنّما استعمل منه الأفعال مثل يعقلون.

والتذكّر هو الانتقال من النتيجة إلى مقدّماتها، أو من الشئ إلى نتائجها، والآية تدلّ على أنّ اقتناص الحكمة يتوقّف على التذكّر، وأنّ التذكّر يتوقّف على العقل، فلا حكمة لمن لا عقل له. وقد مرّ بعض الكلام في العقل عند البحث عن ألفاظ الإدراك المستعملة في القرآن الكريم.

قوله تعالى: ( وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ) ، أي ما دعاكم الله سبحانه إليه أو دعوتم أنفسكم إليه بإيجابه عليها بالنذر من بذل المال فلا يخفى على الله يثيب من أطاعة ويؤاخذ من ظلمه، ففيه إيماء إلى التهديد، ويؤكّده قوله تعالى: وما للظالمين من أنصار.

وفي هذه الجملة أعني قوله: وما للظالمين من أنصار، دلالةأوّلا: على أنّ المراد بالظلم هو الظلم على الفقراء والمساكين في الإمساك عن الإنفاق عليهم، وحبس حقوقهم الماليّة، لا الظلم بمعنى مطلق المعصية فإنّ في مطلق المعصية أنصاراً ومكفّرات وشفعاء كالتوبة، والاجتناب عن الكبائر، وشفعاء يوم القيامة إذا كان من حقوق الله تعالى، قال تعالى:( لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا - إلى ان قال -وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ ) الزمر - ٥٤، وقال تعالى:( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) النساء - ٣١، وقال تعالى:( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) الأنبياء - ٢٨.

ومن هنا يظهر: وجه اتيان الأنصار بصيغة الجمع فإنّ في مورد مطلق الظلم أنصاراً.

وثانياً: أنّ هذا الظلم وهو ترك الإنفاق لا يقبل التكفير ولو كان من الصغائر لقبله فهو من الكبائر، وأنّه لا يقبل التوبة، ويتأيّد بذلك ما وردت به الروايات: أنّ التوبة في حقوق الناس غير مقبولة إلّا بردّ الحقّ إلى مستحقّه، وأنّه لا يقبل الشفاعة يوم القيامة كما يدلّ عليه قوله تعالى:( أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ

٤١٩

الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ - إلى أن قال -فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) المدّثّر - ٤٨.

وثالثاً: أنّ هذا الظالم غير مرتضى عند الله إذ لا شفاعة إلّا لمن ارتضى الله دينه كما مرّ بيانه في بحث الشفاعة، ومن هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله، حيث أتى بالمرضاة ولم يقل ابتغاء وجه الله.

ورابعاً: أنّ المتناع من أصل إنفاق المال على الفقراء مع وجودهم واحتياجهم من الكبائر الموبقة، وقد عدّ تعالى الامتناع عن بعض أقسامه كالزكاة شركاً بالله وكفراً بالآخرة، قال تعالى:( وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) فصّلت - ٧، والسورة مكّيّة ولم تكن شرّعت الزكاة المعروفة عند نزولها.

قوله تعالى: ( إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ) الخ، الإبداء هو الإظهار، والصدقات جمع صدقة، وهي مطلق الإنفاق في سبيل الله أعمّ من الواجب والمندوب وربّما يقال: إنّ الأصل في معناها الإنفاق المندوب.

وقد مدح الله سبحانه كلّاً من شقّى الترديد، لكون كلّ واحد من الشقّين ذا آثار صالحة، فأمّا إظهار الصدقة فإنّ فيه دعوة عمليّة إلى المعروف، وتشويقاً للناس إلى البذل والإنفاق، وتطييباً لنفوس الفقراء والمساكين حيث يشاهدون أنّ في المجتمع رجالاً رحماء بحالهم، وأموالاً موضوعة لرفع حوائجهم، مدّخرة ليوم بؤسهم فيؤدّي إلى زوال اليأس والقنوط عن نفوسهم، وحصول النشاط لهم في أعمالهم، واعتقاد وحدة العمل والكسب بينهم وبين الأغنياء المثرين، وفي ذلك كلّ الخير، وأمّا إخفاؤها فإنّه حينئذ يكون أبعد من الرياء والمنّ والأذى، وفيه حفظ لنفوس المحتاجين عن الخزي والمذلّة، وصون لماء وجوههم عن الابتذال، وكلائة لظاهر كرامتهم، فصدقة العلن أكثر نتاجاً، وصدقة السرّ أخلص طهارة.

ولمّا كان بناء الدين على الإخلاص وكان العمل كلّما قرب من الإخلاص كان أقرب من الفضيلة رجّح سبحانه جانب صدقة السرّ فقال: وإن تخفوها وتعطوها الفقراء فهو خير لكم فإنّ كلمة خير أفعل التفضيل، والله تعالى خبير بأعمال عباده لا يخطئ

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639