بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٤

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 639

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤
  • البداية
  • السابق
  • 639 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 247404 / تحميل: 8636
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

٤ الحكمة ( ٤٠٩ ) و قالعليه‌السلام :

اَلْقَلْبُ مُصْحَفُ اَلْبَصَرِ أقول : قال ابن أبي الحديد : معنى كلامهعليه‌السلام هذا مثل قول الشاعر :

تخبّرني العينان ما القلب كاتم

و ما جنّ بالبغضاء و النظر الشّزر

أي : كما أن الانسان إذا نظر في المصحف قرأ ما فيه ، كذلك إذا أبصر الانسان صاحبه فإنّه يرى قلبه بوساطة رؤية وجهه ، ثم يعلم ما في قلبه من ودّ و بغض و غيرهما ، كما يعلم برؤية الخط الذي في المصحف ما يدلّ الخطّ عليه ، و قال الشاعر :

إنّ العيون لتبدي في تقلّبها

ما في الضّمائر من ودّ و من حنق(١)

و قال ابن ميثم : أرادعليه‌السلام بالقلب النفس أو الذهن ، و استعار له لفظ المصحف باعتبار أنّ كلّ تصوّر في الذهن اريد التعبير عنه ، فلا بدّ أن يتصوّر حروف العبارة عنه في لوح الخيال ، و الحس البصري يشاهدها من هناك و يقرأها ، فالقلب إذن كالمصحف الذي يشاهدون فيه الحروف و الألفاظ و يقرأونه بالبصر ، فلذلك أضافه إلى البصر(٢) .

و قال بعض المحشّين : أي : إن ما يتناوله البصر يحفظ في القلب كأنّه يكتب فيه .

قلت : و الأظهر كون مرادهعليه‌السلام أنّ البصر لا يبصر إلاّ بعد توجّه القلب ، فالإنسان قد ينظر إلى شي‏ء إلاّ أن قلبه متوجّه إلى غيره ، فلا ينطبع شبحه في

____________________

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ٢٠ : ٤٦ .

( ٢ ) شرح ابن ميثم ، شرح نهج البلاغة ٥ : ٤٤١ .

٢٢١

النفس كما يكون مع توجّه القلب ، و حينئذ فكما يحتاج الانسان غالبا لقراءته إلى مصحف كذلك تحتاج العين في إبصارها إلى القلب .

هذا ، و في خطبتهعليه‌السلام الموسومة بالوسيلة : « أيها الناس إنّ للقلوب شواهد تجري الأنفس عن مدرجة أهل التفريط فطنة الفهم للمواعظ ممّا يدعو النفس إلى الحذر من الخطأ ، و للنفوس خواط للهوى ، و العقول تزجر و تنهى ، و في التجارب علم مستأنف(١) .

و مرّ في فصل العبادات قولهعليه‌السلام : إنّ للقلوب اقبالا و إدبارا ، فإذا أقبلت فاحملها على النوافل ، و إذا أدبرت فاقتصر بها على الفرائض .

٥ الحكمة ( ٣٨٨ ) و قالعليه‌السلام :

أَلاَ وَ إِنَّ مِنَ اَلْبَلاَءِ اَلْفَاقَةَ وَ أَشَدُّ مِنَ اَلْفَاقَةِ مَرَضُ اَلْبَدَنِ وَ أَشَدُّ مِنْ مَرَضِ اَلْبَدَنِ مَرَضُ اَلْقَلْبِ أَلاَ وَ إِنَّ مِنَ اَلنِّعَمِ سَعَةَ اَلْمَالِ وَ أَفْضَلُ مِنْ سَعَةِ اَلْمَالِ صِحَّةُ اَلْبَدَنِ وَ أَفْضَلُ مِنْ صِحَّةِ اَلْبَدَنِ تَقْوَى اَلْقَلْبِ أقول : و رواه تحف عقول ابن أبي شعبة الحلبي(٢) .

« ألا و إنّ من البلاء الفاقة » عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : كادت الفاقة أن تكون كفرا(٣) .

و عن بزرجمهر : ان كان شي‏ء مثل الموت فالفقر ، بل قيل شرّ من الموت ما يتمنى الموت له(٤) .

____________________

( ١ ) تحف العقول : ٩٦ ط مؤسسة النشر الإسلامي قم .

( ٢ ) تحف العقول : ١٤٠ .

( ٣ ) في كنز العمال للمتقي الهندي ٦ : ٤٩٢ ح ٦٦٨٢ بلفظ : « كاد الفقر أن يكون كفرا » كما أورده السيوطي في الدر المنثور ٦ : ٤٢ .

( ٤ ) أدب الدنيا و الدين للماوردي : ٢١٤ .

٢٢٢

« و أشد من الفاقة مرض البدن » في ( كامل المبرد ) : قيل لخريم المرّي : ما النعمة ؟ قال : الأمن ، فليس لخائف عيش ، و الغنى ، فليس لفقير عيش ، و الصحة ، فليس لسقيم عيش قيل : ثم ما ذا ؟ قال : لا مزيد بعد هذا(١) .

و في ( الطبري ) : و في سنة ( ٢٨٧ ) إنصرف أبو أحمد بن المتوكل من الجبل إلى العراق و قد اشتدّ به وجع النقرس حتى لم يقدر على الركوب ، فاتّخذ له سرير عليه قبّة ، فكان يقعد عليه و معه خادم يبرد رجله بالأشياء الباردة حتى بلغ من أمره أنّه كان يضع عليها الثلج ، ثم صارت علّة رجله داء الفيل و كان يحمل سريره أربعون حمّالا يتناوب عليه عشرون عشرون ، و ربّما اشتدّ به أحيانا فيأمرهم أن يضعوه .

فذكر أنّه قال يوما للّذين يحملونه : قد ضجرت بحملي ، بودّي أنّي أكون كواحد منكم أحمل على رأسي و أنا آكل في عافية و قال في مرضه هذا : اطبق دفتري على مائة ألف مرتزق ما أصبح فيهم أسوأ حالا منّي(٢) .

قلت : و أبو أحمد هذا كان الخليفة بالمعنى و أخوه المعتمد الخليفة بالاسم .

« و أشد من مرض البدن مرض القلب » مرادهعليه‌السلام بالقلب ، القلب الباطني لقوله بعد : « و أفضل من صحّة البدن تقوى القلب » .

و أيضا القلب الظاهري و هو القلب الصنوبري محسوب من البدن ، و مرضه مرض البدن ، و أمّا القلب الحقيقي فمرضه التخلّق بالأخلاق الفاسدة المهلكة .

و إنّما كان مرضه أشد من مرض البدن لأنّ غاية أثر مرض البدن سلب

____________________

( ١ ) الكامل في الأدب للمبرّد ٥١٤ ط الحلبي بمصر .

( ٢ ) تاريخ الطبري ٨ : ١٥٦ .

٢٢٣

الحياة الدنيوية ، فإن كان سعيدا لا يضرّه الموت ، و ما عند اللَّه خير للأبرار ، و أمّا إن كان قلبه الحقيقي مريضا ، يقول صاحبه : يا ليتني كنت ترابا .

و قد وصف تعالى تلك القلوب بقوله جل و علا :( فإنّها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور ) (١) و بقوله تعالى :( لهم قلوب لا يفقهون بها إلى اولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ) (٢) .

« ألا و إنّ من النعم سعة المال » عن بزرجمهر : إن كان شي‏ء مثل الحياة فالغنى(٣) .

« و أفضل من سعة المال صحة البدن » عن بزرجمهر ان كان شي‏ء فوق الحياة فالصحة و قالوا : خير من الحياة ما لا تطيب الحياة إلاّ به(٤) .

و في ( البيان ) : خرج الحجّاج ذات يوم فأصحر و حضر غذاؤه ، فقال :

اطلبوا من يتغذّى معي ، فطلبوا فإذا أعرابي في شملة ، فاتي به فقال : السّلام عليكم : هلمّ أيّها الأعرابي قال : دعاني من هو أكرم منك فأجبته قال : و من هو .

قال : دعاني اللَّه ربّي إلى الصّوم فأنا صائم قال : و صوم في مثل هذا اليوم الحار قال : صمت ليوم هو أحرّ منه قال : فافطر اليوم و صم غدا قال : و يضمن لي الأمير أني أعيش إلى غد ؟ قال : ليس ذلك إليه قال : فكيف يسألني عاجلا بآجل ليس إليه قال : إنّه طعام طيّب قال : ما طيّبه خبّازك و لا طبّاخك قال : فمن طيبه ؟ قال : العافية قال الحجّاج : تاللَّه ما رأيت كاليوم أخرجوه(٥) .

« و أفضل من صحة البدن تقوى القلب » قال تعالى :( يا أيّها الناس إنّا

_ ___________________

( ١ ) الحج : ٤٦ .

( ٢ ) الأعراف : ١٧٩ .

( ٣ ) أدب الدنيا و الدين للماوردي : ٢١٤ .

( ٤ ) أدب الدنيا و الدين للماوردي : ٢١٤ .

( ٥ ) البيان و التبيين للجاحظ ٤ : ٩٨ ٩٩ .

٢٢٤

خلقناكم من ذكر و اُنثى و جعلناكم شعوباً و قبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند اللَّه أتقاكم إنّ اللَّه عليم خبير ) (١) .

( و من يعظّم شعائر اللَّه فانّها من تقوى القلوب ) (٢) .

هذا ، و مرّ في فصل « نقص الناس » قولهعليه‌السلام : لقد علق بنياط هذا الانسان بضعة هي أعجب ما فيه ، و ذلك القلب » إلى آخر ما مر .

____________________

( ١ ) الحجرات : ١٣ .

( ٢ ) الحج : ٣٢ .

٢٢٥

الفصل السادس و الخمسون فيما ذكرهعليه‌السلام من الحقائق

٢٢٦

مرّ في الفصل ( ٤٢ ) في العنوان ( ٧ ) منه قولهعليه‌السلام : « كم من صائم ليس له من صيامه إلاّ الجوع و الظمأ . » .

و في ( ٢٨ ) منه قولهعليه‌السلام : « ليس الخير أن يكثر مالك و ولدك . » .

و في ( ٢٩ ) منه قولهعليه‌السلام : « ما خير بخير بعده النار . » .

١ الخطبة ( ١٨٥ ) منها :

 يَدَّعِي بِزَعْمِهِ أَنَّهُ يَرْجُو اَللَّهَ كَذَبَ وَ اَلْعَظِيمِ مَا بَالُهُ لاَ يَتَبَيَّنُ رَجَاؤُهُ فِي عَمَلِهِ فَكُلُّ مَنْ رَجَا عُرِفَ رَجَاؤُهُ فِي عَمَلِهِ إِلاَّ رَجَاءَ اَللَّهِ فَإِنَّهُ مَدْخُولٌ وَ كُلُّ خَوْفٍ مُحَقَّقٌ إِلاَّ خَوْفَ اَللَّهِ فَإِنَّهُ مَعْلُولٌ يَرْجُو اَللَّهَ فِي اَلْكَبِيرِ وَ يَرْجُو اَلْعِبَادَ فِي اَلصَّغِيرِ فَيُعْطِي اَلْعَبْدَ مَا لاَ يُعْطِي اَلرَّبَّ فَمَا بَالُ اَللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يُقَصَّرُ بِهِ عَمَّا يُصْنَعُ بِهِ لِعِبَادِهِ أَ تَخَافُ أَنْ تَكُونَ فِي رَجَائِكَ لَهُ كَاذِباً أَوْ تَكُونَ لاَ تَرَاهُ لِلرَّجَاءِ مَوْضِعاً وَ كَذَلِكَ إِنْ هُوَ خَافَ عَبْداً مِنْ عَبِيدِهِ أَعْطَاهُ مِنْ خَوْفِهِ مَا لاَ يُعْطِي رَبَّهُ فَجَعَلَ خَوْفَهُ مِنَ

٢٢٧

اَلْعِبَادِ نَقْداً وَ خَوْفَهُ مِنْ خَالِقِهِ ضِمَاراً وَ وَعْداً وَ كَذَلِكَ مَنْ عَظُمَتِ اَلدُّنْيَا فِي عَيْنِهِ وَ كَبُرَ مَوْقِعُهَا مِنْ قَلْبِهِ آثَرَهَا عَلَى اَللَّهِ فَانْقَطَعَ إِلَيْهَا وَ صَارَ عَبْداً لَهَا « يدّعي بزعمه أنّه يرجو اللَّه ، كذب و العظيم » أي : قسما بالربّ العظيم .

« ما باله لا يتبيّن رجاؤه في عمله ، فكل من رجا عرف رجاؤه في عمله إلاّ رجاء اللَّه فإنّه مدخول » قيل للصادقعليه‌السلام : إنّ قوما من مواليك يلمون بالمعاصي و يقولون : نرجو فقالعليه‌السلام : كذبوا ، ليسوا لنا بموال ، أولئك قوم ترجحت بهم الأماني ، من رجا شيئا عمل له ، و من خاف شيئا هرب منه(١) .

و قال الصادقعليه‌السلام أيضا : ما أحب اللَّه تعالى من عصاه ثم تمثّل :

تعصي الإله و أنت تظهر حبّه

هذا محال في الفعال بديع

لو كان حبك صادقا لأطعته

انّ المحبّ لمن يحبّ مطيع(٢)

و في الخبر : يقول اللَّه تعالى كذب من زعم انّه يحبني ، فاذا جاء الليل نام إلى الصبح ، أليس كلّ حبيب يحبّ خلوة حبيبه(٣) .

و في ( الفقيه ) : شكا رجل إلى الصادقعليه‌السلام الحاجة فقال له : أ تصلّي بالليل قال نعم فالتفتعليه‌السلام إلى أصحابه و قال : كذب من زعم انّه يصلّي

____________________

( ١ ) أورده « الحراني » في تحف العقول : ٢٦٩ بهذا اللفظ : قيل لهعليه‌السلام قوم يعملون بالمعاصي و يقولون : نرجوا فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم الموت فقالعليه‌السلام : هؤلاء قوم يترجحون في الأحاديث كذبوا ليس يرجون ، ان خارجا شيئا طلبه ، و ؟ ؟ فإن من شي‏ء هرب منه .

( ٢ ) ذكره المجلسي في البحار ٤٧ : ٢٤ بلفظ : هذا لعمرك في الفعال .

( ٣ ) ورد الحديث بهذا اللفظ : كذب من زعم أنه ؟ ؟ فإذا جنّه الليل نام عين ، اليس كل محبّ يحب خلوة حبيبه ؟ ها أنا ذايا ابن عمران مطّلع على أحيائي ، فإذا جهنّم الليل حوّلت أبصارهم في قلوبهم ، و مثلت عقويتي بين أعينهم ، يخاطبوني عن المشاهدة ، و يكلموني عن الحضور انظر بحار الأنوار ١٣ : ٣٢٩ بتصرف .

٢٢٨

بالليل و يجوع بالنهار(١) .

و في ( تاريخ بغداد ) : في ( سمنون الصولي الذي صحب سري السقطي ) قال سمنون :

فليس لي في سواك حظ

فكيفما شئت فامتحنّي

فحصر بوله في ساعته ، فسمّى نفسه سمنون الكذّاب(٢) .

و في ( عيون القتيبي ) قال الحسن أي البصري : إنّ دين اللَّه ليس بالتحلّي و لا بالتمنّي ، و لكنه ما وقر في القلوب و صدّقته الأعمال(٣) .

و قال محمود الوراق :

يا ناظرا يرنو بعيني راقد

مشاهدا للأمر غير مشاهد

تصل الذنوب إلى الذنوب و ترتجى

درك الجنان بها و فوز العابد

و نسيت أنّ اللَّه أخرج آدما

منها إلى الدّنيا بذنب واحد(٤)

و أخذ مضمونه البهائي فقال بالفارسية :

جد تو آدم بهشتش جاى بود

قدسيان كردند بهر او سجود

يك كنه ناكرده گفتندش تمام

مذنبى مذنب برو بيرون خرام

تو طمع دارى كه با چندان گناه

داخل جنت شوى اى رو سياه(٥)

« و كل خوف محقّق إلاّ خوف اللَّه فإنّه معلول » و لو كان خوفه محققا لكان كما قال الصادقعليه‌السلام : المؤمن بين مخافتين : ذنب قد مضى لا يدري ما اللَّه صانع فيه ، و عمر قد بقي لا يدري ممّا يكتسب فيه من المهالك ، فهو لا يصبح إلاّ خائفا

____________________

( ١ ) الفقيه من لا يحضر الفقيه ١ : ٣٠٠ ح ١٣٧٤ بتصرف .

( ٢ ) تاريخ بغداد للخطيب ٩ : ٢٣٥ .

( ٣ ) عيون الأخبار لابن قتيبة ٢ : ٣٤٤ .

( ٤ ) ابن قتيبة ، العيون ٢ : ٣٤٤ .

( ٥ ) البهائي ، الكشكول ١ : ٥٨ طبع في ايران ، ذكره الجزائري في الأنوار النعمانية ١ : ٢٣ .

٢٢٩

و لا يصلحه إلاّ الخوف(١) .

و كما قال الحسينعليه‌السلام لمّا كتب إليه بعد خروجه من مكة عمرو بن سعيد عاملها بطلب عبد اللَّه بن جعفر : إنّ لك الأمان عندي : « خير الأمان أمان اللَّه ، و لن يؤمن اللَّه يوم القيامة من لم يخفه في الدنيا ، فنسأل اللَّه مخافة في الدّنيا توجب لنا أمانة يوم القيامة »(٢) .

« يرجو اللَّه في الكبير و يرجو العباد في الصغير ، فيعطي العبد ما لا يعطي الرب » قالت رابعة العدوية :

لك ألف معبود مطاع أمره

دون الإله و تدّعي التوحيدا(٣)

و قال زياد الأعجم :

و تشكر يشكر من ضامها

و يشكر اللَّه لا تشكر(٤)

و في الجمهرة يشكر بطن من بكر بن وائل(٥) .

« فما بال اللَّه جل ثناؤه يقصر به عمّا يصنع لعباده » هكذا في ( الطبعة المصرية )(٦) و الصواب : ( بعباده ) كما في ( ابن أبي الحديد(٧)

___________________

( ١ ) أورده المجلسي عن طريقين : عن الصادقعليه‌السلام في البحار ٧ : ٣٦٥ ، و عن الكاظمعليه‌السلام في البحار ٧٨ : ٢٦٢ .

و البحار ٢ : ٧١ . .

( ٢ ) ذكر المجلسي « الحادثة في البحار ٤٤ : ٣٦٦ يشكل آخر ، قال : و كتب إليه عمرو بن سعيد كتابا يمتّيه فيه الصلة ، و يؤمنه على نفسه ، و أنفذه مع يحيى بن سعيد ، فلحقه يحيى و عبد اللَّه بن جعفر بعد نفوذ ابنيه ، و دفعا إليه الكتاب وجهوا به في الرجوع ، فقال : « إني رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله في المنام و أمرني بما أنا ماض له » فقالوا له : ما تلك الرؤيا ؟ . .

( ٣ ) ترجم لها ابن الجوزي في صفوة الصفوة ٤ : ٢٣ .

( ٤ ) هو زياد بن سلمى ، ترجم له ياقوت الحموي في معجم الأدباء ١١ : ١٦٥ .

( ٥ ) جمهرة أنساب العرب ، ابن محمد الأندلسي : ٣٠٨ .

( ٦ ) انظر النسخة المصرية بشرح محمّد عبده : ٣٤٢ .

( ٧ ) ورد في شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد بتحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم لفظ ( العبادة ) خلافا لمّا ذكره المؤلف الذي اعتمد النسخة غير المحققة من شرح ابن أبي الحديد ٩ : ٢٢٦ .

٢٣٠

و ابن ميثم(١) و الخطية )(٢) .

في ( المروج ) : دخل معن بن زائدة على الرشيد و كان قد وجد عليه فمشى فقارب الخطو ، فقال له الرشيد : كبرت يا معن قال : في طاعتك قال : و إنّ فيك على ذلك لبقية قال : لأوليائك قال : و إنك لجلد قال : على أعدائك فرضي عنه و ولاّه(٣) .

قال : و عرض كلامه هذا على عبد الرحمن بن زيد زاهد أهل البصرة ، فقال ويح هذا ما ترك لربه شيئا .

و في ( سير ملوك الأعاجم ) : ان شيرويه بن أبرويز بينا هو في منتزهاته بأرض العراق و كان لا يسايره أحد و أهل المراتب العالية خلف ظهره على مراتبهم ، فإن التفت يمينا دنا منه صاحب الجيش ، و إن التفت شمالا دنا منه الموبذان فيأمره باحضار من أراد مسايرته ، فالتفت يمينا فدنا منه صاحب الجيش فقال أين شدّاد بن خزيمة ، فأحضر فسايره فقال له : أفكرت في حديث حدّثنا به عن أردشير بن بابك حين واقع ملك الخزر حدّثني به إن كنت تحفظه و كان شدّاد قد سمع هذا الحديث في مكيدة أوقعها أردشير بملك الخزر فاستعجم عليه و أوهمه أنّه لا يعرفه ، فحدّثه شيرويه بالحديث ، فأصغى إليه الرجل بجوارحه كلّها و كان مسيره على شاطى‏ء نهر ، فترك الرجل لا قباله على شيرويه النظر إلى موطى‏ء حافر دابته ، فزلّت احدى قوائمها فوقع في الماء ، فابتدر حاشية الملك فأخرجوه فنزل شيرويه و دعا بثياب من خاصّ كسوته فألقيت عليه و قال له : غفلت عن موضع حافر دابتك ، فقال : على قدر

____________________

( ١ ) أورده شرح ابن ميثم بلفظ ( العبادة ) بخلاف ما ذكره العلاّمة التستري في النسخة المنقحة التي اعتمد عليها في التحقيق و لربّما اعتمد العلاّمة على نسخة غير منقحة انظر شرح ابن ميثم ٣ : ٢٧٨ .

( ٢ ) ورد في النسخة الخطية لفظ « بعباده » ، كما ذكر المؤلف انظر نسخة مكتبة المرعشي : ١٣٦ .

( ٣ ) مروج الذهب ٣ : ٣٤٩ .

٢٣١

النعم تكون المحن ، و ان اللَّه تعالى قد أنعم عليّ بنعمتين عظيمتين : إقبال الملك عليّ من بين هذا السواد الأعظم ، و فائدة تدبير الحرب التي حدث بها عن أردشير ، فلما اجتمعت نعمتان جليلتان قابلتهما هذه المحنة ، و لو لا اساورة الملك لكنت بمعرض هلكة ، و على ذلك لو كنت غرقت لكان أبقى لي الملك ذكرا مخلّدا ، فسرّ شيرويه بذلك و قال له : ما ظننتك بهذا المقدار الذي أنت فيه ، فحشا فاه جوهرا و استبطنه حتى غلب على أكثر أمره(١) .

و نقل نظير هذه القصة عن رجل مع معاوية ، و عن شخص مع السفاح(٢) .

« أتخاف أن تكون في رجائك له كاذبا » و قد قالوا :

ترجو النجاة و لم تسلك مسالكها

إنّ السفينة لا تجري على اليبس(٣)

« أو تكون لا تراه للرجاء موضعا » و قد قال تعالى لموسىعليه‌السلام : ما دمت لا ترى زوال ملكي فلا ترج أحدا غيري(٤) .

« و كذلك إن هو خاف عبدا من عبيده أعطاه من خوفه ما لا يعطي ربّه » و قالعليه‌السلام لرجل : كيف أنتم ؟ فقال : نرجو و نخاف فقالعليه‌السلام : من رجا شيئا طلبه ، و من خاف شيئا هرب منه ، ما أدري ما خوف رجل عرضت له شهوة فلم يدعها لمّا خاف منه ، و ما أدري ما رجاء رجل نزل به بلاء فلم يصبر عليه لمّا يرجو(٥) .

____________________

( ١ ) ذكره البيهقي في المحاسن و المساوى‏ء ٢ : ١٢٤ و نسب الحكاية إلى ( أنوشروان ) بخلاف ما ذكره المؤلف .

( ٢ ) المصدر نفسه .

( ٣ ) إحياء علوم الدين للغزالي ٤ : ٢١٢ .

( ٤ ) الخصال للصدوق ١ : ١٠٣ و نقله عنه المجلسي في بحار الأنوار ١٣ : ٣٤٤ ، و نسب الكليني المقطع الأوّل منه إلى الصادقعليه‌السلام انظر الكافي ٢ : ٦٨ ح ٦ .

( ٥ ) بحار الأنوار للمجلسي ٧٨ : ٥١ .

٢٣٢

« فجعل خوفه من العباد نقدا و خوفه من خالقهم ضمارا و وعدا » قال الجوهري : « الضمار » ما لا يرجى من الدين ، و « الوعد » ما لا تكون منه على ثقة قال :

حمدن مزاره فأصبن منه

عطاء لم يكن عدة ضمارا(١)

قالوا : إنّ أعرابيا قال لابن الزبير : أعطني اقاتل عنك أهل الشام قال :

قاتل ، فإن أغنيت أعطيناك ، قال : أراك تجعل روحي نقدا و دراهمك وعدا .

و في ( الطبري ) : ان عبد الملك لمّا بعث خالدا الأسيدي إلى البصرة أيام ابن الزبير و كان قيس بن الهيثم السلمي من الزبيرية يستأجر الرجال يقاتلون معه ، فتقاضى منه رجل أجرته فقال : غدا أعطيكها و كان قيس يعلم في عنق فرسه جلاجل فقال بعضهم :

لبئس ما حكمت يا جلاجل

النقد دين و الطعان عاجل

و أنت بالباب سمير آجل(٢)

« و كذلك من عظمت الدّنيا في عينه و كبر موقعها في قلبه » هكذا في ( الطبعة المصرية )(٣) و الصواب : ( من قلبه ) كما في ( ابن أبي الحديد(٤) و ابن ميثم(٥) و الخطية )(٦) .

« آثرها » أي : اختارها .

« على اللَّه فانقطع إليها و صار عبدا لها » فأمّا من طغى و آثر الحياة الدُّنيا

____________________

( ١ ) الصحاح للجوهري ٢ : ٧٢٢ مادة ( ضمر ) و بيت الشعر إلى الداعي .

( ٢ ) تاريخ المملوك و الامم للطبري ٥ : ٣ .

( ٣ ) نسخة الطبعة المصرية بشرح محمّد عبده : ٣٤٣ .

( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ٩ : ٢٢٦ .

( ٥ ) أورد ابن ميثم بلفظ « في قلبه » ٣ : ٢٧٩ .

( ٦ ) انظر النسخة الخطية : ١٢٦ .

٢٣٣

فإنّ الجحيم هي المأوى(١) .

٢ الحكمة ( ٤١٧ ) و قالعليه‌السلام

لقائل قال بحضرته « أستغفر اللَّه » :

ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ أَ تَدْرِي مَا اَلاِسْتِغْفَارُ اَلاِسْتِغْفَارُ دَرَجَةُ اَلْعِلِّيِّينَ وَ هُوَ اِسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعَانٍ أَوَّلُهَا اَلنَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى وَ اَلثَّانِي اَلْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ اَلْعَوْدِ إِلَيْهِ أَبَداً وَ اَلثَّالِثُ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى اَلْمَخْلُوقِينَ حُقُوقَهُمْ حَتَّى تَلْقَى اَللَّهَ أَمْلَسَ لَيْسَ عَلَيْكَ تَبِعَةٌ وَ اَلرَّابِعُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى كُلِّ فَرِيضَةٍ عَلَيْكَ ضَيَّعْتَهَا فَتُؤَدِّيَ حَقَّهَا وَ اَلْخَامِسُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى اَللَّحْمِ اَلَّذِي نَبَتَ عَلَى اَلسُّحْتِ فَتُذِيبَهُ بِالْأَحْزَانِ حَتَّى تُلْصِقَ اَلْجِلْدَ بِالْعَظْمِ وَ يَنْشَأَ بَيْنَهُمَا لَحْمٌ جَدِيدٌ اَلسَّادِسُ أَنْ تُذِيقَ اَلْجِسْمَ أَلَمَ اَلطَّاعَةِ كَمَا أَذَقْتَهُ حَلاَوَةَ اَلْمَعْصِيَةِ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اَللَّهَ أقول : رواه تحف عقول ابن أبي شعبة الحلبي هكذا : قال كميل بن زياد قلت لأمير المؤمنينعليه‌السلام : العبد يصيب الذنب فيستغفر اللَّه فما حد الاستغفار ؟

قال : التوبة قلت : بس قال : لا قلت : فكيف قال : إنّ العبد إذا أصاب ذنبا يقول « أستغفر اللَّه » بالتحريك قلت : و ما التحريك ؟ قال : الشفتان و اللسان ، يريد أن يتبع ذلك بالحقيقة قلت : و ما الحقيقة ؟ قال : تصديق في القلب و إضمار أن لا يعود إلى الذنب الّذي استغفر منه قال كميل : فاذا فعلت ذلك فأنا من المستغفرين ؟ قال : لا قال : فكيف ذلك ؟ قال : لأنّك لم تبلغ الأصل بعد قال :

فأصل الاستغفار ما هو ؟ قال : الرجوع من الذنب الذي استغفرت منه ، و هي أول درجة العابدين ، و الاستغفار اسم واقع لمعان ست : أوّلها الندم على ما مضى ،

____________________

( ١ ) النازعات : ٣٧ ٣٩ .

٢٣٤

و الثاني العزم على ترك العود أبدا ، و الثالث أن تؤدي حقوق المخلوقين التي بينك و بينهم ، و الرابع أن تؤدي حق اللَّه في كلّ فرض ، و الخامس أن تذيب اللحم الذي نبت على السحت و الحرام حتى يرجع الجلد إلى عظمه ثم ينشأ في ما بينهما لحم جديدا ، و السادس ان تذيق البدن ألم الطاعات كما أذقته لذّات المعاصي(١) .

و عن ( مناقب ابن الجوزي ) : قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : التوبة على أربعة دعائم : ندم بالقلب ، و استغفار باللسان ، و عمل بالجوارح ، و عزم على أن لا يعود(٢) .

و عنه و قالعليه‌السلام في وصف التائبين : غرسوا أشجار ذنوبهم نصب عيونهم في قلوبهم و سقوه بمياه الندم ، فأثمرت لهم السلامة و أعقبتهم الرضا و الكرامة(٣) .

« و قالعليه‌السلام لقائل قال بحضرته : أستغفر اللَّه » قلت : القائل كان رجل آخر غير كميل كما يشهد له تعبير خبره .

« ثكلتك امّك أ تدري ما الاستغفار » ؟ في ( تاريخ بغداد ) : قال أبو الحسن البصري : كنت في مجلس ابن عطا فبكى رجل فقال : ما هذا البكاء لا منفذ له ههنا ، أما سمعت قول الشاعر :

قال لي حين رمته

كل ذا قد علمته

لو بكى طول دهره

بدم ما رحمته(٤)

____________________

( ١ ) تحف العقول للبحراني : ١٣٤ ، و بلفظ آخر في البحار ٧٨ : ٦٨ ح ١٥ .

( ٢ ) سبط ابن الجوزي ، تذكرة الخواص : ١٤٦ ، و البحار ٧٨ : ٨١ .

( ٣ ) البحار ٧٨ : ٧٢ .

( ٤ ) لم نعثر عليه في تاريخ بغداد لا في فهرس القوافي و لا في فهرس الأعلام .

٢٣٥

« الاستغفار درجة العلّيّين » هكذا في ( الطبعة المصرية )(١) ، و الصواب : ( إنّ الاستغفار درجة العليين ) كما في ( ابن ميثم(٢) و الخطية(٣) و كذا ابن أبي الحديد )(٤) .

« و هو اسم واقع على ستة معان » أي : له شروط ستة : « أوّلها الندم على ما مضى » في ( تاريخ بغداد ) قال محمد بن علي الكتاني : لو لا ان ذكره علي فرض ما ذكرته إجلالا له ، مثلي يذكره و لم يغسل فمه بألف توبة متقبلة(٥) .

و قيل : من قدم الاستغفار على الندم كان مستهزئا باللَّه و هو لا يعلم ، قال :

أقرر بذنبك ثم اطلب تجاوزنا

عنه فإنّ جحود الذنب ذنبان

« و الثاني العزم على ترك العود إليه أبدا » في ( الحلية ) قال حذيفة : يحسب للرجل من الكذب أن يقول « استغفر اللَّه » ثم يعود(٦) .

و عن الربيع بن خثيم لا تقل : « أستغفر اللَّه و أتوب إليه » فيكون ذنبا و كذبا إن لم تفعل ، و لكن قل : « اللّهم اغفر لي و تب علي »(٧) .

« و الثالث أن يؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم » روي أنّ شيخا من النخع قال للباقرعليه‌السلام : لم أزل واليا منذ زمن الحجّاج إلى يومي هذا فهل لي من توبة ؟

فسكت عنه ، ثم أعاد ، فقالعليه‌السلام : لا ، حتى تؤدّي إلى كلّ ذي حقّ حقّه(٨) .

« حتى تلقى اللَّه أملس » في ( الصحاح ) : الملاسة ضد الخشونة ، و في المثل :

____________________

( ١ ) انظر شرح محمّد عبده : ٧٥٤ رقم ( ٤٠٣ ) .

( ٢ ) شرح ابن ميثم ٥ : ٤٤٤ .

( ٣ ) انظر النسخة الخطية : ١٣٦ .

( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ٢ : ٥٦ .

( ٥ ) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ٣ : ٧٥ .

( ٦ ) حلية الأولياء لأبي نعيم الاصفهاني ١ : ٣٨١ .

( ٧ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٢٣٩ بتصرف .

( ٨ ) الأصول من الكافي للكليني ٢ : ٣٣١ ح ٣ .

٢٣٦

هان على الأملس ما لاقي الدبر(١) .

« ليس عليك تبعة »( يوم لا ينفع مال و لا بنون إلاّ من أتى اللَّه بقلبٍ سليم ) (٢) ( الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم اُولئك لهم الأمن ) (٣) .

« و الرابع أن تعمد » أي : تقصد .

« إلى كلّ فريضة عليك ضيّعتها فتؤدّي حقّها » فكلّ صلاة لم يصلّها أو صلاّها باطلة يأتي بقضائها و في بعضها يأتي بقضائها و كفارتها .

و في ( الكافي ) عن الصادقعليه‌السلام في رجل نام عن العتمة فلم يقم إلا بعد انتصاف الليل قال : يصلّيها و يصبح صائما(٤) .

و روى ( التهذيبان ) عن حريز عمّن أخبره عن الصادقعليه‌السلام : إذا انكسف القمر فاستيقظ الرجل فكسل أن يصلّي فليغتسل من غد و ليقض الصلاة ، و إن لم يستيقظ و لم يعلم بانكساف القمر فليس عليه إلاّ القضاء بغير غسل ، و حمل على انكسافه بتمامه .

و من أفطر يوما من شهر رمضان بغير عذر فعليه القضاء و الكفارة صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستّين مسكينا(٥) .

« و الخامس أن تعمد » بالكسر أي تقصد .

« إلى اللحم الذي نبت على السحت » بالضم و الفتح أي : الحرام .

« فتذيبه » كذوب الحديد في النار .

« حتى يلصق الجلد بالعظم و ينشأ بينهما لحم جديد » من غير السحت .

____________________

( ١ ) الصحاح للجوهري مادة ( ملس ) ٢ : ٩٨٠ .

( ٢ ) الشعراء : ٨٨ ٨٩ .

( ٣ ) الأنعام : ٨٢ .

( ٤ ) الكافي للكليني ٣ : ٣٩٥ ح ١١ .

( ٥ ) التهذيب للطوسي ٣ : ١٥٧ ح ٣٣٧ و الاستبصار ١ : ٤٥٣ ح ٤ .

٢٣٧

في ( الحلية ) : قال حذيفة : قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : ليس لحم ينبت من سحت فيدخل الجنّة(١) .

و عن بعضهم : حلقت امرأة رأسها و كانت من أحسن الناس شعرا ، فسئلت عن ذلك فقالت : أردت أن أغلق باب البيت ، فلمحني رجل و رأسي مكشوف فما كنت لأدع على رأسي شعرا رآه من ليس بمحرم(٢) .

« و السادس أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية » في ( تاريخ بغداد ) : كان سعيد بن وهب البصري شاعرا خليعا ماجنا ، أكثر القول في الغزل و الخمر ، ثم تاب و نسك و حج راجلا فبلغ منه و جهد فقال لنفسه :

قدميّ اعتورا رمل الكثيب

و اطرقا الآجن من ماء القليب

ربّ يوم رحتما فيه على

زهرة الدنيا و في واد خصيب

و سماع حسن من حسن

صخب المزهر كالضبي الربيب

فاحسبا ذاك بهذا و اصبرا

و خذا من كلّ فنّ بنصيب

إنّما أمشي لأنّي مذنب

فلعل اللَّه يعفو عن ذنوبي(٣)

و في ( المعجم ) : نقض ابن عبد ربه صاحب ( العقد الفريد ) كلّ قطعة قالها في الصب و الغزل بقطعة في المواعظ و الزهد سمّاها الممحّصات(٤) .

هذا ، و قيل وقفت امرأة تنظر إلى رجل قبيح الصورة ، فقيل لها في ذلك فقالت : أذنبت عيني بنظرها إلى أمرد جميل الصورة ، فأحببت أن اعاقبها

____________________

( ١ ) خطب حذيفة في المدائن و ذكر حديث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله : « أنّه ليس لحم ينبت من سحت فيدخل الجنّة » و قد أخرجه أحمد في مسنده عن كعب بن عجر : أنّه لا يدخل الجنة لحم ينبت من سحت النار : أورده في مكانين ٣ :

٣٢١ ، و ٣ : ٣٩٩ من حلية الأولياء لأبي نعيم الإصفهاني .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٢٠ : ٢٣٤ بتصرّف .

( ٣ ) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ٩ : ٧٤ .

( ٤ ) معجم الادباء لياقوت الحموي ٤ : ٢٢٣ .

٢٣٨

بالنظر إلى هذه الصورة القبيحة .

« فعند ذلك تقول : استغفر اللَّه » روى ( أمالي الصدوق ) في مجلسه ( ٥٣ ) عن أبي حمزة الثمالي عن السجادعليه‌السلام قال : كان في بني إسرائيل رجل ينبش القبور ، فاعتلّ جار له فخاف الموت ، فبعث إلى النبّاش فقال : كيف كان جواري لك ؟ قال : أحسن جوار قال : فإنّ لي إليك حاجة قال : قضيت حاجتك قال :

فأخرج إليه كفنين فقال : أحبّ أن تأخذ أحبهما إليك و إذا دفنت فلا تنبشني ، فامتنع النباش من ذلك و أبي أن يأخذه ، فقال له الرجل : أحبّ أن تأخذه ، فلم يزل به حتى أخذ أحبّهما إليه و مات الرجل ، فلما دفن قال النباش : هذا قد دفن فما علمه بأني تركت كفنه أو أخذته ، لآخذنّه فأتى قبره فنبشه فسمع صائحا يصيح به لا تفعل ، ففزع النبّاش من ذلك فتركه و ترك ما كان عليه و قال لولده :

أيّ أب كنت لكم ؟ قالوا : نعم الأب كنت لنا قال : فإنّ لي إليكم حاجة قالوا : قل ما شئت فإنّا سنصير إليه ان شاء اللَّه قال : أحبّ إذا أنا متّ أن تأخذوني فتحرقوني بالنار فإذا صرت رمادا فدقّوني ثم تعمدوا بي ريحا عاصفا فذروا نصفي في البر و نصفي في البحر قالوا : نفعل فلما مات فعل به ولده ما أوصاهم به ، فلما ذرّوه قال اللَّه جل جلاله للبر : إجمع ما فيك ، و قال للبحر : إجمع ما فيك ، فإذا الرجل قائم بين يدي اللَّه جل جلاله ، فقال اللَّه عز و جل له : ما حملك على ما أوصيت به ولدك أن يفعلوه بك ؟ قال : حملني على ذلك و عزّتك خوفك فقال اللَّه جل جلاله : فإنّي سارضي خصومك ، و قد أمنت خوفك و غفرت لك(١) .

هذا ، و روى ( أمالي ابن الشيخ ) في جزئه الثالث عشر عن أمير

____________________

( ١ ) أمالي الصدوق : ٣٢٧ .

٢٣٩

المؤمنينعليه‌السلام قال : تعطّروا بالاستغفار لا تفضحنّكم روائح الذنوب(١) .

٣ الحكمة ( ٤٥٢ ) و قالعليه‌السلام :

اَلْغِنَى وَ اَلْفَقْرُ بَعْدَ اَلْعَرْضِ عَلَى اَللَّهِ أقول : عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قالت أمّ سليمان بن داود له : يا بنيّ إيّاك و كثرة النيام بالليل(٢) ، فإنّها تدع الرجل فقيرا يوم القيامة(٣) .

و في رجال الكشي عن الصادقعليه‌السلام : أرسل عثمان إلى أبي ذر موليين له و معهما مائتا دينار و قال لهما : قولا له : عثمان يقرؤك السّلام و يقول لك :

هذه مائتا دينار فاستعن بهما على ما نابك(٤) ، فقال لهما أبو ذر : هل أعطى أحدا من المسلمين مثل ما أعطاني ؟ قالا : لا قال : فإنّما أنا رجل من المسلمين فيسعني ما يسعهم قالا : إنّه يقول : هذا من صلب مالي ، و اللَّه الذي لا إله إلاّ هو ما خالطهما حرام فقال لهما : لا حاجة لي فيها ، و قد أصبحت يومي هذا و أنا من أغنى الناس فقالا له : ما نرى في بيتك قليلا و لا كثيرا فقال : بلى ، تحت هذا الآكاف الذي ترون رغيفا شعير قد أتى عليهما أيام ، فما أصنع بهذه الدنانير ، لا و اللَّه حتى يعلم أنّي لا أقدر على قليل و لا كثير و قد أصبحت غنيا بولاية علي بن أبي طالب و عترته الهادين المهديين ، الراضين المرضيين الذين يهدون بالحق و به يعدلون ، كذلك سمعت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول ، و إنّه لقبيح بالشيخ أن يكون

____________________

( ١ ) أمالي الشيخ الطوسي : ٢٧ ٢٨ أخرجه عن علي بن زرين .

( ٢ ) سقط منه « تعالى » كما في شرح ابن أبي الحديد ٢٠ : ١٥٢ .

( ٣ ) أخرجه ابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة ، كتاب ما جاء في قيام الليل ، رقم ( ١٣٣٢ ) قال في الزوائد : هذا أسناد فيه سنيد بن داود و شيخه يوسف بن محمّد ضعيفان و ذكره الهندي في كنز العمّال ٧ : ٧٨٢ ح ٢١٣٨٩ .

( ٤ ) نابك : أصابك .

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس.

قوله: إنّ إبراهيم نظر إلى جيفة إلى قوله فقال: يا ربّ أرني الخ، بيان للشبهة الّتي دعته إلى السؤال وهى تفرّق أجزاء الجسد بعد الموت تفرّقاً يؤدّي إلى تغيّرها وانتقالها إلى أمكنة وحالات متنوّعة لا يبقى معها من الأصل شئ.

فإن قلت: ظاهر الرواية: أنّ الشبهة كانت هي شبهة الآكل والمأكول، حيث اشتملت على وثوب بعضها على بعض، وأكل بعضها بعضاً، ثمّ فرّعت على ذلك تعجّب إبراهيم وسؤاله.

قلت: الشبهة شبهتان - إحداهما - تفرّق أجزاء الجسد وفناء أصلها من الصور والأعراض وبالجملة عدم بقائها حتّى تتميّز وتركبها الحياة - وثانيتهما - صيرورة أجزاء بعض الحيوان جزء من بدن بعض آخر فيؤدّي إلى استحالة إحياء الحيوانين ببدنيهما تامّين معاً لأنّ المفروض أنّ بعض بدن أحدهما بعينه بعض لبدن الآخر، فكلّ واحد منهما اُعيد تامّاً بقي الآخر ناقصاً لا يقبل الإعادة، وهذه هي شبهة الآكل والمأكول.

وما أجاب الله سبحانه به - وهو تبعيّة البدن للروح - وإن كان وافياً لدفع الشبهتين جميعاً، إلّا أنّ الّذي أمر به إبراهيم على ما تحكيه الآية لا يتضمّن مادّة شبهة الآكل والمأكول، وهو أكل بعض الحيوان بعضاً، بل إنّما تشتمل على تفرّق الأجزاء واختلاطها وتغيّر صورها وحالاتها، وهذه مادّة الشبهة الاُولى، فالآية إنّما تتعرّض لدفعها وإن كانت الشبهتان مشتركتين في الاندفاع بما اُجيب به في الآية كما مرّ، وما اشتملت عليه الرواية من أكل البعض للبعض غير مقصود في تفسير الآية.

قولهعليه‌السلام فأخذ إبراهيم الطاووس والديك والحمام والغراب، وفي بعض الروايات أنّ الطيور كانت هي النسر والبطّ والطاووس والديك، رواه الصدوق في العيون عن الرضاعليه‌السلام ونقل عن مجاهد وابن جريح وعطاء وابن زيد، وفي بعضها أنّها الهدهد والصرد والطاووس والغراب، رواه العيّاشيّ عن صالح بن سهل عن الصادقعليه‌السلام وفي بعضها: أنّها النعامة والطاووس والوزّة والديك، رواه العيّاشيّ عن معروف بن خرّبوذ

٤٠١

عن الباقرعليه‌السلام ونقل عن ابن عبّاس، وروي من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس أيضاً: أنّها الغرنوق والطاووس والديك والحمامة، والّذي تشترك فيه جميع الروايات والأقوال: الطاووس.

قولهعليه‌السلام : وفرّقهن على عشرة جبال، كون الجبال عشرة ممّا اتّفقت عليه الأخبار المأثورة عن أئمّة أهل البيت وقيل إنّها كانت أربعة وقيل سبعة.

وفي العيون مسنداً عن عليّ بن محمّد بن الجهم قال حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليّ بن موسى فقال له المأمون: يا بن رسول الله أليس من قولك: إنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى فسأله عن آيات من القرآن، فكان فيما سأله أن قال له فأخبرني عن قول الله: ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي، قال الرضا: إنّ الله تبارك وتعالى كان أوحى إلى إبراهيم: أنّي متّخذ من عبادي خليلاً إن سألني إحياء الموتى أجبته فوقع في قلب إبراهيم أنّه ذلك الخليل فقال: ربّ أرني كيف تحيي الموتى؟ قال أو لم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي بالخلّة، الحديث.

اقول: وقد تقدّم في أخبار جنّة آدم كلام في عليّ بن محمّد بن الجهم وفي هذه الرواية الّتي رواها عن الرضاعليه‌السلام فارجع.

واعلم: أنّ الرواية لا تخلو عن دلالة ما على أنّ مقام الخلّة يستلزم استجابة الدعاء، واللفظ يساعد عليه فإنّ الخلّة هي الحاجة، والخليل إنّما يسمّى خليلاً لأنّ الصداقة إذا كملت رفع الصديق حوائجة إلى صديقه، ولا معنى لرفعها مع عدم الكفاية والقضاء.

٤٠٢

( سورة البقرة آية ٢٦١ - ٢٧٤)

مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٦١ ) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٢٦٢ ) قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ( ٢٦٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( ٢٦٤ ) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٢٦٥ ) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( ٢٦٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( ٢٦٧ ) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٦٨ ) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو

٤٠٣

الْأَلْبَابِ ( ٢٦٩ ) وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ( ٢٧٠ ) إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( ٢٧١ ) لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ( ٢٧٢ ) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( ٢٧٣ ) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٢٧٤ )

( بيان)

سياق الآيات من حيث اتّحادها في بيان أمر الإنفاق، ورجوع مضامينها وأغراضها بعضها إلى بعض يعطي أنّها نزلت دفعة واحدة، وهي تحثّ المؤمنين على الإنفاق في سبيل الله تعالى، فتضرب أوّلاً مثلاً لزيادته ونموّه عند الله سبحانه: واحد بسبعمائة، وربّما زاد على ذلك بإذن الله، وثانياً مثلاً لكونه لا يتخلّف عن شأنه على أيّ حال وتنهى عن الرياء في الإنفاق وتضرب مثلاً للإنفاق ريائاً لا لوجه الله، وأنّه لا ينمو نمائاً ولا يثمر أثراً، وتنهي عن الإنفاق بالمنّ والأذى إذ يبطلان أثره ويحبطان عظيم أجره، ثمّ تأمر بأن يكون الإنفاق من طيّب المال لامن خبيثه بخلاً وشحّاً، ثمّ تعيّن المورد الّذي توضع فيه هذه الصنيعة وهو الفقراء المحضرون في سبيل الله، ثمّ تذكر ما لهذا الإنفاق من عظيم الأجر عند الله.

٤٠٤

وبالجملة الآيات تدعو إلى الإنفاق، وتبيّن أوّلاً وجهه وغرضه وهو أن يكون لله لا للناس، وثانياً صورة عمله وكيفيّته وهو أن لا يتعقّبه المنّ والأذى، وثالثاً وصف مال الإنفاق وهو أن يكون طيّباً لا خبيثاً، ورابعاً نعت مورد الإنفاق وهو أن يكون فقيراً اُحصر في سبيل الله، وخامساً ما له من عظيم الأجر عاجلاً وآجلاً.

( كلام في الإنفاق)

الإنفاق من أعظم ما يهتمّ بأمره الإسلام في أحد ركنيه وهو حقوق الناس وقد توسّل إليه بأنحاء التوسّل إيجاباً وندباً من طريق الزكاة والخمس والكفّارات الماليّة وأقسام الفدية والإنفاقات الواجبة والصدقات المندوبة، ومن طريق الوقف والسكنى والعمرى والوصايا والهبة وغير ذلك.

وإنّما يريد بذلك ارتفاع سطح معيشة الطبقة السافلة الّتي لا تستطيع رفع حوائج الحياة من غير إمداد ماليّ من غيرهم، ليقرب اُفقهم من اًفق أهل النعمة والثروة، ومن جانب آخر قد منع من تظاهر أهل الطبقة العالية بالجمال والزينة في مظاهر الحياة بما لا يقرب من المعروف ولا تناله أيدي النمط الأوسط من الناس، بالنهي عن الإسراف والتبذير ونحو ذلك.

وكان الغرض من ذلك كلّه ايجاد حياة نوعيّة متوسّطة متقرّبة الأجزاء متشابهة الأبعاض، تحيى ناموس الوحدة والمعاضدة، وتميت الإرادات المتضادّة وأضغان القلوب ومنابت الأحقاد، فإنّ القرآن يرى أنّ شأن الدين الحقّ هو تنظيم الحياة بشؤونها، وترتيبها ترتيباً يتضمّن سعادة الإنسان في العاجل والآجل، ويعيش به الإنسان في معارف حقّة، وأخلاق فاضلة، وعيشة طيّبة يتنعّم فيها بما أنعم الله عليه من النعم في الدنيا، ويدفع بها عن نفسه المكاره والنوائب ونواقص المادّة.

ولا يتمّ ذلك إلّا بالحياة الطيّبة النوعيّة المتشابهة في طيبها وصفائها، ولا يكون ذلك إلّا بإصلاح حال النوع برفع حوائجها في الحياة، ولا يكمل ذلك إلّا بالجهات

٤٠٥

الماليّة والثروة والقنية، والطريق إلى ذلك إنفاق الأفراد ممّا اقتنوه بكدّ اليمين وعرق الجبين، فإنّما المؤمنون إخوة، والأرض لله، والمال ماله.

وهذه حقيقة أثبتت السيرة النبويّة على سائرها أفضل التحيّة صحّتها واستقامتها في القرار والنماء والنتيجة في برهة من الزمان وهي زمان حياتهعليه‌السلام ونفوذ أمره.

وهي الّتي يتأسّف عليها ويشكو انحراف مجراها أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام إذ يقول: وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلّا إدباراً، والشرّ فيه إلّا إقبالاً، والشيطان في هلاك الناس إلّا طمعاً، فهذا أو ان قويت عدّته وعمّت مكيدته - وأمكنت فريسته، اضرب بطرفك حيث شئت هل تبصر إلّا فقيراً يكايد فقراً؟ أو غنيّاً بدّل نعمة الله كفراً؟ أو بخيلاً اتّخذ البخل بحقّ الله وفراً أو متمرّداً كأنّ باذنه عن سمع المواعظ وقراً؟ (نهج البلاغة).

وقد كشف توالي الأيّام عن صدق القرآن في نظريّته هذه - وهي تقريب الطبقات بإمداد الدانية بالإنفاق ومنع العالية عن الإتراف والتظاهر بالجمال - حيث إنّ الناس بعد ظهور المدنيّة الغربيّة استرسلوا في الإخلاد إلى الأرض، والإفراط في استقصاء المشتهيات الحيوانيّة واستيفاء الهوسات النفسانيّة، وأعدّوا له ما استطاعوا من قوّة، فأوجب ذلك عكوف الثروة وصفوة لذائذ الحياة على أبواب اُولي القوّة والثروة، ولم يبق بأيدي النمط الأسفل إلّا الحرمان، ولم يزل النمط الأعلى يأكل بعضه بعضاً حتّى تفرّد بسعادة الحياة المادّيّة نزر قليل من الناس وسلب حقّ الحياة من الأكثرين وهم سواد الناس، وأثار ذلك جميع الرذائل الخلقيّة من الطرفين، كلّ يعمل على شاكلته لا يبقي ولا يذر، فأنتج ذلك التقابل بين الطائفتين، واشتباك النزاع والنزال بين الفريقين، والتفاني بين الغنيّ والفقير والمنعم والمحروم والواجد والفاقد، ونشبت الحرب العالميّة الكبرى، وظهرت الشيوعيّة، وهجرت الحقيقة والفضيلة وارتحلت السكن والطمأنينة وطيب الحياة من بين النوع وهذا ما نشاهده اليوم من فساد العالم الإنسانيّ، وما يهدّد النوع بما يستقبله أعظم وأفظع.

ومن أعظم العوامل في هذا الفساد انسداد باب الإنفاق وانفتاح أبواب الرباء الّذي

٤٠٦

سيشرح الله تعالى أمره الفظيع في سبع آيات تالية لهذه الآيات أعني آيات الإنفاق ويذكر أنّ في رواجه فساد الدنيا وهو من ملاحم القرآن الكريم، وقد كان جنيناً أيّام نزول القرآن فوضعته حامل الدنيا في هذه الأيّام.

وإن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبّر فيما ذكره سبحانه في سورة الروم إذ قال:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ - إلى ان قال -فَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ - إلى أن قال -ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ) الآيات الروم - ٣٠ - ٤٣، وللآيات نظائر في سور هود ويونس والإسراء والأنبياء وغيرها تنبئ عن هذا الشأن، سيأتي بيانها إنشاء الله.

وبالجملة هذا هو السبب فيما يترآئى من هذه الآيات أعني آيات الإنفاق من الحثّ الشديد والتأكيد البالغ في أمره.

قوله تعالى: ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ ) الخ، المراد بسبيل الله كلّ أمر ينتهي إلى مرضاته سبحانه لغرض دينيّ فعل الفعل لأجله، فإنّ الكلمة في الآية مطلقة، وإن كانت الآية مسبوقة بآيات ذكر فيها القتال في سبيل الله، وكانت كلمة، في سبيل الله، مقارنة للجهاد في غير واحد من الآيات، فإنّ ذلك لا يوجب التخصيص وهو ظاهر.

وقد ذكروا أنّ قوله تعالى: كمثل حبّة أنبتت الخ، على تقدير قولنا كمثل من

٤٠٧

زرع حبّة أنبتت الخ فإنّ الحبّة المنبتة لسبع سنابل مثل المال الّذي اُنفق في سبيل الله لا مثل من أنفق وهو ظاهر.

وهذا الكلام وإن كان وجيهاً في نفسه لكنّ التدبّر يعطي خلاف ذلك فإنّ جلّ الأمثال المضروبة في القرآن حالها هذا الحال فهو صناعة شائعه في القرآن كقوله تعالى:( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ) البقرة - ١٧١، فإنّه مثل من يدعو الكفّار لامثل الكفّار، وقوله تعالى:( نَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ ) الآية يونس - ٢٤، وقوله تعالى:( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ ) النور - ٣٥، وقوله تعالى في الآيات التالية لهذه الآية: فمثله كمثل صفوان الآية: وقوله تعالى: مثل الّذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنّة بربوة الآية إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة.

وهذه الأمثال المضروبة في الآيات تشترك جميعاً في أنّها اقتصر فيها على مادّة التمثيل الّذي يتقوّم بها المثل مع الإعراض عن باقي أجزاء الكلام للإيجاز.

توضيحه: أنّ المثل في الحقيقة قصّة محقّقة أو مفروضة مشابهة لاُخرى في جهاتها يؤتي بها لينتقل ذهن المخاطب من تصوّرها إلى كمال تصوّر الممثّل كقولهم: لا ناقة لي ولا جمل، وقولهم: في الصيف ضيّعت اللبن من الأمثال الّتي لها قصص محقّقة يقصد بالتمثيل تذكّر السامع لها وتطبيقها لمورد الكلام للاستيضاح، ولذا قيل: إنّ الأمثال لا تتغيّر، وكقولنا: مثل الّذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل من زرع حبّة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مأة حبّة، وهي قصّة مفروضة خياليّة.

والمعنى الّذي يشتمل عليه المثل ويكون هو الميزان الّذي يوزن به حال الممثّل ربّما كان تمام القصّة الّتي هي المثل كما في قوله تعالى:( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ) الآية إبراهيم - ٢٦، وقوله تعالى:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ) الجمعة - ٥، وربّما كان بعض القصّة ممّا يتقوّم به غرض التمثيل وهو الّذي نسمّيه مادّة التمثيل، وإنّما جئ بالبعض الآخر لتتميم القصّة كما في المثال الأخير (مثال الإنفاق والحبّة) فإنّ مادّة التمثيل إنّما هي

٤٠٨

الحبة المنبتة لسبعمأة حبّة وإنّما ضممنا إليها الّذي زرع لتتميم القصّة.

وما كان من أمثال القرآن مادّة التمثيل فيه تمام المثل فإنّه وضع على ما هو عليه، وما كان منها مادّة التمثيل فيه بعض القصّة فإنّه اقتصر على مادّة التمثيل فوضعت موضع تمام القصّة لأنّ الغرض من التمثيل حاصل بذلك، على ما فيه من تنشيط ذهن السامع بفقده أمراً و وجدانه أمراً آخر مقامه يفي بالغرض منه، فهو هو بوجه وليس به بوجه، فهذا من الإيجاز بالقلب على وجه لطيف يستعمله القرآن.

قوله تعالى: ( أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ) ، السنبل معروف وهو على فنعل، قيل الأصل في معنى مادّته الستر سمّي به لأنّه يستر الحبّات الّتي تشتمل عليها في الأغلفة.

ومن أسخف الإشكال ما اُورد على الآية أنّه تمثيل بما لا تحقّق له في الخارج وهو اشتمال السنبلة على مأة حبّة، وفيه أنّ المثل كما عرفت لا يشترط فيه تحقّق مضمونة في الخارج فالأمثال التخيّليّة أكثر من أن تعدّ وتحصى، على أنّ اشتمال السنبلة على مأة حبّة وإنبات الحبّة الواحدة سبعمأة حبّة ليس بعزيز الوجود.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ، أي يزيد على سبعمأة لمن يشاء فهو الواسع لا مانع من جوده ولا محدّد لفضله كما قال تعالى:( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ) البقرة - ٢٤٥، فأطلق الكثرة ولم يقيّدها بعدد معيّن.

وقيل: إنّ معناه أنّ الله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء فالمضاعفة إلى سبعمأة ضعف غاية ما تدلّ عليه الآية، وفيه أنّ الجملة على هذا يقع موقع التعليل، وحقّ الكلام فيه حينئذ أن يصدّر بإنّ كقوله تعالى:( اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ) المؤمن - ٦١، وأمثال ذلك.

ولم يقيّد ما ضربه الله من المثل بالآخرة بل الكلام مطلق يشمل الدنيا كالآخرة وهو كذلك والاعتبار يساعده، فالمنفق بشئ من ماله وإن كان يخطر بباله ابتدائاً أنّ المال قد فات عنه ولم يخلّف بدلاً، لكنّه لو تأمّل قليلاً وجد أنّ المجتمع الإنسانيّ

٤٠٩

بمنزلة شخص واحد ذو أعضاء مختلفة بحسب الأسماء والأشكال لكنّها جميعاً متّحدة في غرض الحياة، مرتبطة من حيث الأثر والفائدة، فإذا فقد واحد منها نعمة الصحّة والاستقامة، وعىّ في فعله أوجب ذلك كلال الجميع في فعلها، وخسرانها في أغراضها فالعين واليد وإن كانا عضوين اثنين من حيث الاسم والفعل ظاهراً، لكنّ الخلقة إنّما جهّز الإنسان بالبصر ليميّز به الأشياء ضوئاً ولوناً وقرباً وبعداً فتتناول اليد ما يجب أن يجلبه الإنسان لنفسه، وتدفع ما يجب أن يدفعه عن نفسه، فإذا سقطت اليد عن التأثير وجب أن يتدارك الإنسان ما يفوته من عامّة فوائدها بسائر أعضائه فيقاسي أوّلاً كدّاً وتعباً لا يتحمّل عادة، وينقص من أفعال سائر الأعضاء بمقدار ما يستعملها في موضع العضو الساقط عن التأثير، وأمّا لو أصلح حال يده الفاسدة بفضل ما ادّخره لبعض الأعضاء الاُخر كان في ذلك إصلاح حال الجميع، وعاد إليه من الفائدة الحقيقيّة أضعاف ما فاته من الفضل المفيد أضعافاً ربّما زاد على المآت والاُلوف بما يورث من إصلاح حال الغير، ودفع الرذائل الّتي يمكّنها الفقر والحاجة في نفسه، وإيجاد المحبّة في قلبه، وحسن الذكر في لسانه، والنشاط في عمله، والمجتمع يربط جميع ذلك ويرجعه إلى المنفق لا محالة، ولا سيّما إذا كان الإنفاق لدفع الحوائج النوعيّة كالتعليم والتربية ونحو ذلك، فهذا حال الإنفاق.

وإذا كان الإنفاق في سبيل الله وابتغاء مرضات الله كان النماء والزيادة من لوازمه من غير تخلّف، فإنّ الإنفاق لو لم يكن لوجه الله لم يكن إلّا لفائدة عائدة إلى نفس المنفق كإنفاق الغنيّ للفقير لدفع شرّه، أو إنفاق المثري الموسر للمعسر ليدفع حاجته ويعتدل حال المجتمع فيصفو للمثري المنفق عيشه، وهذا نوع استخدام للفقير واستثمار منه لنفع نفسه، ربّما أورث في نفس الفقير أثراً سيّئاً، وربّما تراكمت الآثار وظهرت فكانت بلوى، لكنّ الإنفاق الّذي لايراد به إلّا وجه الله ولا يبتغي فيه إلّا مرضاته خال عن هذه النواقص لا يؤثّر إلّا الجميل ولا يتعقّبه إلّا الخير.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ) الخ الإتباع اللحوق والإلحاق، قال تعالى:( فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ) الشعراء - ٦١،

٤١٠

أي لحقوهم، وقال تعالى:( وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ) القصص - ٤٢، أي ألحقناهم. والمنّ هو ذكر ما ينغّص المعروف كقول المنعم للمنعم عليه: أنعمت عليك بكذا وكذا ونحو ذلك، والأصل في معناه على ما قيل القطع، ومنه قوله تعالى:( لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) فصّلت - ٨، أي غير مقطوع، والأذى الضرر العاجل أو الضرر اليسير، والخوف توقّع الضرر، والحزن الغمّ الّذي يغلظ على النفس من مكروه واقع أو كالواقع.

قوله تعالى: ( قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ ) الخ المعروف من القول ما لا ينكره الناس بحسب العادة، ويختلف باختلاف الموارد، والأصل في معنى المغفرة هو الستر، والغنى مقابل الحاجة والفقر، والحلم السكوت عند المكروه من قول أو فعل.

وترجيح القول المعروف والمغفرة على صدقة يتبعها أذى ثمّ المقابلة يشهد بأنّ المراد بالقول المعروف الدعاء أو لفظ آخر جميل عند ردّ السائل إذا لم يتكلّم بما يسوء المسؤول عنه، والستر والصفح إذا شفّع سؤاله بما يسوئه وهما خير من صدقة يتبعها أذى، فإنّ أذى المنفق للمنفق عليه يدلّ على عظم إنفاقه والمال الّذي أنفقه في عينه، وتأثّره عمّا يسوئه من السؤال، وهما علّتان يجب أن تزاحا عن نفس المؤمن، فإنّ المؤمن متخلّق بأخلاق الله، والله سبحانه غنيّ لا يكبر عنده ما أنعم وجاد به، حليم لا يتعجّل في المؤاخذة على السيّئة، ولا يغضب عند كلّ جهالة، وهذا معنى ختم الآية بقوله: والله غنيّ حليم.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم ) الخ تدلّ الآية على حبط الصدقة بلحوق المنّ والأذى، وربّما يستدلّ بها على حبط كلّ معصية أو الكبيرة خاصّة لما يسبقها من الطاعات، ولا دلالة في الآية على غير المنّ والأذى بالنسبة إلى الصدقة وقد تقدّم إشباع الكلام في الحبط.

قوله تعالى: ( كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) ، لمّا كان الخطاب للمؤمنين، والمرائي غير مؤمن كما ذكره الله سبحانه لأنّه لا يقصد بأعماله وجه الله لم يعلّق النهي بالرئاء كما علّقه على المنّ والأذى، بل إنّما شبّه المتصدّق الّذي يتبع صدقته بالمنّ والأذى بالمرائي في بطلان الصدقة، مع أنّ عمل المرائي

٤١١

باطل من رأس وعمل المانّ والمؤذي وقع أوّلاً صحيحاً ثمّ عرضه البطلان.

واتّحاد سياق الأفعال في قوله: ينفق ماله، وقوله: ولا يؤمن من دون أن يقال: ولم يؤمن يدلّ على أنّ المراد من عدم إيمان المرائي في الإنفاق بالله واليوم الآخر عدم إيمانه بدعوة الإنفاق الّذي يدعو إليها الله سبحانه، ويعد عليه جزيل الثواب، إذ لو كان يؤمن بالداعي في دعوته هذه، وبيوم القيامة الظاهر فيه الجزاء لقصد في فعله وجه الله، وأحبّ واختار جزيل الثواب، ولم يقصد به رئاء الناس، فليس المراد من عدم إيمان المرائي عدم إيمانه بالله سبحانه رأساً.

ويظهر من الآية: أنّ الرياء في عمل يستلزم عدم الإيمان بالله واليوم الآخر فيه.

قوله تعالى: ( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ ) إلى آخر الآية، الضمير في قوله: فمثله راجع إلى الّذي ينفق ماله رئاء الناس والمثل له، والصفوان والصفا الحجر الأملس وكذا الصلد، والوابل: المطر الغزير الشديد الوقع.

والضمير في قوله: لا يقدرون راجع إلى الّذي ينفق رئائاً لأنّه في معنى الجمع، والجملة تبيّن وجه الشبه وهو الجامع بين المشبّه والمشبّه به، وقوله تعالى: والله لا يهدي القوم الكافرين بيان للحكم بوجه عامّ وهو أنّ المرائي في ريائه من مصاديق الكافر، والله لا يهدي القوم الكافرين، ولذلك أفاد معنى التعليل.

وخلاصة معنى المثل: أنّ حال المرائي في إنفاقه رئائاً وفي ترتّب الثواب عليه كحال الحجر الأملس الّذي عليه شئ من التراب إذا اُنزل عليه وابل المطر، فإنّ المطر وخاصّة وابله هو السبب البارز لحياة الأرض واخضرارها وتزيّنها بزينة النبات، إلّا أنّ التراب إذا وقع على الصفوان الصلد لا يستقرّ في مكانه عند نزول الوابل بل يغسله الوابل ويبقى الصلد الّذي لا يجذب الماء، ولا يتربّى فيه بذر لنبات، فالوابل وإن كان من أظهر أسباب الحياة والنمو وكذا التراب لكن كون المحلّ صلداً يبطل عمل هذين السببين من غير أن يكون النقص والقصور من جانبهما فهذا حال الصلد.

وهذا حال المرائي فإنّه لمّا لم يقصد من عمله وجه الله لم يترتّب على عمله ثواب

٤١٢

وإن كان العمل كالإنفاق في سبيل الله من الأسباب البارزة لترتّب الثواب، فإنّه مسلوب الاستعداد لا يقبل قلبه الرحمة والكرامة.

وقد ظهر من الآية: أنّ قبول العمل يحتاج إلى نيّة الإخلاص وقصد وجه الله، وقد روى الفريقان عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه قال: إنّما الأعمال بالنيّات.

قوله تعالى: ( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ ) ، ابتغاء المرضاة هو طلب الرضاء، ويعود إلى إرادة وجه الله، فإنّ وجه الشئ هو ما يواجهك ويستقبلك به، ووجهه تعالى بالنسبه إلى عبده الّذي أمره بشئ وأراده منه هو رضائه عن فعله وامتثاله، فإنّ الآمر يستقبل المأمور أوّلاً بالأمر فإذا امتثل استقبله بالرضاء عنه، فمرضات الله عن العبد المكلّف بتكليف هو وجهه إليه، فابتغاء مرضاة الله هو إرادة وجهه عزّوجلّ.

وأمّا قوله: وتثبيتاً من أنفسهم فقد قيل: إنّ المراد التصديق واليقين. وقيل: هو التثبّت أي يتثبّتون أين يضعون أموالهم، وقيل: هو التثبّت في الإنفاق فإن كان لله أمضى، وإن كان خالطه شئ من الرياء أمسك، وقيل: التثبيت توطين النفس على طاعة الله تعالى، وقيل: هو تمكين النفس في منازل الإيمان بتعويدها على بذل المال لوجه الله. وأنت خبير بأنّ شيئاً من الأقوال لا ينطبق على الآية إلّا بتكلّف.

والّذي ينبغي أن يقال - والله العالم - في المقام: هو أنّ الله سبحانه لمّا أطلق القول أوّلاً في مدح الإنفاق في سبيل الله، وأنّ له عند الله عظيم الأجر اعترضه أن استثنى منه نوعين من الإنفاق لا يرتضيهما الله سبحانه، ولا يترتّب عليهما الثواب، وهما الإنفاق ريائاً الموجب لعدم صحّة العمل من رأس والإنفاق الّذي يتبعه منّ أو أذى فإنّه يبطل بهما وإن انعقد أوّلاً صحيحاً، وليس يعرض البطلان. لهذين النوعين إلّا من جهة عدم ابتغاء مرضاة الله فيه من رأس، أو لزوال النفس عن هذه النيّة أعني ابتغاء المرضات ثانياً بعد ما كانت عليها أوّلاً، فأراد في هذه الآية بيان حال الخاصّة من أهل الإنفاق الخالصة بعد استثناء المرائين وأهل المنّ والأذى، وهم الّذين ينفقون أموالهم

٤١٣

ابتغاء وجه الله ثمّ يقرّون أنفسهم على الثبات على هذه النيّة الطاهرة النامية من غير أن يتبعوها بما يبطل العمل ويفسده.

ومن هنا يظهر أنّ المراد بابتغاء مرضاة الله أن لا يقصد بالعمل رئاء ونحوه ممّا يجعل النيّة غير خالصة لوجه الله، وبقوله تثبيتاً من أنفسهم تثبيت الإنسان نفسه على ما نواه من النيّة الخالصة، وهو تثبيت ناش من النفس واقع على النفس. فقوله تثبيتاً تميز وكلمة من نشويّة وقوله أنفسهم في معنى الفاعل، وما في معنى المفعول مقدّر. والتقدير تثبيتاً من أنفسهم لأنفسهم، أو مفعول مطلق لفعل من مادّته.

قوله تعالى: ( كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ ) إلى آخر الآية، الأصل في مادّة ربا الزيادة، والربوة بالحركات الثلاث في الراء الأرض الجيّدة الّتي تزيد وتعلو في نموّها، والاُكّل بضمّتين ما يؤكل من الشئ والواحدة أكلة، والطلّ أضعف المطر القليل الأثر.

والغرض من المثل أنّ الإنفاق الّذي اُريد به وجه الله لا يتخلّف عن أثرها الحسن البتّة، فإنّ العناية الإلهيّة واقعة عليه متعلّقة به لانحفاظ اتّصاله بالله سبحانه وإن كانت مراتب العناية مختلفة لاختلاف درجات النيّة في الخلوص، واختلاف وزن الأعمال باختلافها، كما أنّ الجنّة الّتي في الربوة إذا أصابها المطر لم تلبث دون أن تؤتي اُكلها إيتائاً جيّداً البتّة وإن كان إيتائها مختلفاً في الجودة باختلاف المطر النازل عليه من وابل وطلّ.

ولوجود هذا الاختلاف ذيّل الكلام بقوله: والله بما تعملون بصير أي لا يشتبه عليه أمر الثواب، ولا يختلط عليه ثواب الأعمال المختلفة فيعطي ثواب هذا لذاك وثواب ذاك لهذا.

قوله تعالى: ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ) الخ، الودّ هو الحبّ وفيه معنى التمنّي، والجنّة: الشجر الكثير الملتفّ كالبستان سمّيت بذلك لأنّها تجنّ الأرض وتسترها وتقيها من ضوء الشمس ونحوه، ولذلك صحّ أن يقال: تجري من تحتها الأنهار، ولو كانت هي الأرض بما لها من الشجر مثلاً لم يصحّ ذلك

٤١٤

لإفادته خلاف المقصود، ولذلك قال تعالى في مثل الربوة وهي الأرض المعمورة:( رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ) المؤمنون - ٥٠، وكرّر في كلامه قوله: جنّات تجري من تحتها الأنهار فجعل المعين (وهو الماء) فيها لاجارياً تحتها.

ومن في قوله: من نخيل وأعناب للتبيين ويفيد معنى الغلبة دون الاستيعاب، فإنّ الجنّة والبستان وما هو من هذا القبيل إنّما يضاف إلى الجنس الغالب فيقال جنّة العنب أو جنّة من أعناب إذا كان الغالب فيها الكرم وهي لا تخلو مع ذلك من شجر شتّى، ولذلك قال تعالى ثانياً: له فيها من كلّ الثمرات.

والكبر كبر السنّ وهو الشيخوخة، والذرّيّة الأولاد، والضعفاء جمع الضعيف، وقد جمع تعالى في المثل بين إصابة الكبر ووجود الذرّيّة الضعفاء لتثبيت مسيس الحاجة القطعيّة إلى الجنّة المذكورة مع فقدان باقي الأسباب الّتي يتوصّل إليها في حفظ سعادة الحياة وتأمين المعيشة، فإنّ صاحب الجنّة لو فرض شابّاً قويّاً لأمكنه أن يستريح إلى قوّة يمينه لو اُصيبت جنّته بمصيبة، ولو فرض شيخاً هرماً من غير ذرّيّة ضعفاء لم يسوء حاله تلك المسائة لأنّه لا يرى لنفسه إلّا أيّاماً قلائل لا يبطئ عليه زوالها وانقضائها، ولو فرض ذا كبر وله أولاد أقوياء يقدرون على العمل واكتساب المعيشة أمكنهم أن يقتاتوا بما يكتسبونه، وأن يستغنوا عنها بوجه! لكن إذا اجتمع هناك الكبر والذرّيّة الضعفاء، واحترقت الجنّة انقطعت الأسباب عنهم عند ذلك، فلا صاحب الجنّة يمكنه أن يعيد لنفسه الشباب والقوّة أو الأيّام الخالية حتّى يهيّئ لنفسه نظير ما كان قد هيّأها، ولا لذرّيّته قوّة على ذلك، ولا لهم رجاء أن ترجع الجنّة بعد الاحتراق إلى ما كانت عليه من النضارة والإثمار.

والإعصار الغبار الّذي يلتفّ على نفسه بين السماء والأرض كما يلتفّ الثوب على نفسه عند العصر.

وهذا مثل ضربه الله للّذين ينفقون أموالهم ثمّ يتبعونه منّاً وأذى فيحبط عملهم ولا سبيل لهم إلى إعادة العمل الباطل إلى حال صحّته واستقامته، وانطباق المثل على الممثّل ظاهر، ورجا منهم التفكّر لأنّ أمثال هذه الأفاعيل المفسدة للأعمال إنّما تصدر

٤١٥

من الناس ومعهم حالات نفسانيّة كحبّ المال والجاه والكبر والعجب والشحّ، لا تدع للإنسان مجال التثبّت والتفكّر وتميّز النافع من الضارّ، ولو تفكّروا لتبصّروا.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ) الخ، التيمّم هو القصد والتعمّد، والخبيث ضدّ الطيّب، وقوله: منه، متعلّق بالخبيث، وقوله: تنفقون حال من فاعل لاتيمّموا، وقوله: ولستم بآخذيه حال من فاعل تنفقون، وعامله الفعل، وقوله أن تغمضوا فيه في تأويل المصدر، واللام مقدّر على ما قيل والتقدير إلّا لإغماضكم فيه، أو المقدّر باء المصاحبة والتقدير إلّا بمصاحبة الإغماض.

ومعنى الآية ظاهر، وإنّما بيّن تعالى كيفيّة مال الإنفاق، وأنّه ينبغي أن يكون من طيّب المال لا من خبيثه الّذي لا يأخذه المنفق إلّا بإغماض، فإنّه لا يتّصف بوصف الجود والسخاء، بل يتصوّر بصورة التخلّص، فلا يفيد حبّاً للصنيعة والمعروف ولا كمالاً للنفس، ولذلك ختمها بقوله: واعلموا أنّ الله غنيّ حميد أي راقبوا في إنفاقكم غناه وحمده فهو في عين غناه يحمد إنفاقكم الحسن فأنفقوا من طيّب المال، أو أنّه غنيّ محمود لا ينبغي أن تواجهوه بما لا يليق بجلاله جلّ جلاله.

قوله تعالى: ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ) إقامة للحجّة على أنّ اختيار خبيث المال للإنفاق ليس بخير للمنفقين بخلاف اختيار طيّبه فإنّه خير لهم، ففي النهى مصلحة أمرهم كما أنّ في المنهىّ عنه مفسدة لهم، وليس إمساكهم عن إنفاق طيّب المال وبذله إلّا لما يرونه مؤثّراً في قوام المال والثروة فتنقبض نفوسهم عن الإقدام إلى بذله بخلاف خبيثه فإنّه لا قيمة له يعنى بها فلا بأس بإنفاقه، وهذا من تسويل الشيطان يخوّف أوليائه من الفقر، مع أنّ البذل وذهاب المال والإنفاق في سبيل الله وابتغاء مرضاته مثل البذل في المعاملات لا يخلو عن العوض والربح كما مرّ، مع أنّ الّذي يغني ويقني هو الله سبحانه دون المال، قال تعالى:( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ ) النجم - ٤٨.

وبالجملة لمّا كان إمساكهم عن بذل طيّب المال خوفاً من الفقر خطاء نبّه عليه بقوله: الشيطان يعدكم الفقر، غير أنّه وضع السبب موضع المسبّب، أعني أنّه وضع وعد الشيطان موضع خوف أنفسهم ليدلّ على أنّه خوف مضرّ لهم فإنّ الشيطان لا

٤١٦

يأمر إلّا بالباطل والضلال إمّا ابتدائاً ومن غير واسطة، وإمّا بالآخرة وبواسطة ما يظهر منه أنّه حقّ.

ولمّا كان من الممكن أن يتوهّم أنّ هذا الخوف حقّ وإن كان من ناحية الشيطان دفع ذلك بإتباع قوله: الشيطان يعدكم الفقر بقوله: ويأمركم بالفحشاءأوّلا ، فإنّ هذا الإمساك والتثاقل منهم يهيّئ في نفوسهم ملكة الإمساك وسجيّة البخل، فيؤدّي إلى ردّ أوامر الله المتعلّقة بأموالهم وهو الكفر بالله العظيم، ويؤدّي إلى إلقاء أرباب الحاجة في تهلكة الإعسار والفقر والمسكنة الّتي فيه تلف النفوس وانهتاك الأعراض وكلّ جناية وفحشاء، قال تعالى:( وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ - إلى ان قال -الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) التوبة - ٧٩.

ثمّ بإتباعه بقوله: والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليمثانياً ، فإنّ الله قد بيّن للمؤمنين: أنّ هناك حقّاً وضلالاً لا ثالث لهما، وأنّ الحقّ وهو الطريق المستقيم هو من الله سبحانه، وأنّ الضلال من الشيطان، قال تعالى:( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ) يونس - ٣٢، وقال تعالى:( قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ) يونس - ٣٥، وقال تعالى في الشيطان:( إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ) القصص - ١٥، والآيات جميعاً مكّيّة، وبالجملة نبّه تعالى بقوله: والله يعدكم، بأنّ هذا الخاطر الّذي يخطر ببالكم من جهة الخوف ضلال من الفكر فإنّ مغفرة الله والزيادة الّتي ذكرها في الآيات السابقة إنّما هما في البذل من طيّبات المال.

فقوله تعالى: والله يعدكم الخ، نظير قوله: الشيطان يعدكم الخ، من قبيل وضع السبب موضع المسبّب، وفيه إلقاء المقابلة بين وعد الله سبحانه الواسع العليم ووعد الشيطان، لينظر المنفقون في أمر الوعدين ويختاروا ما هو أصلح لبالهم منهما.

فحاصل حجّة الآية: أنّ اختياركم الخبيث على الطيّب إنّما هو لخوف الفقر،

٤١٧

والجهل بما يستتبعه هذا الإنفاق، أمّا خوف الفقر فهو إلقاء، شيطانيّ، ولا يريد الشيطان بكم إلّا الضلال والفحشاء فلا يجوز أن تتّبعوه، وأمّا مايستتبعه هذا الإنفاق فهو الزيادة والمغفرة اللّتان ذكرتا لكم في الآيات السابقة، وهو استتباع بالحقّ لأنّ الّذي يعدكم استتباع الإنفاق لهذه المغفرة والزيادة هو الله سبحانه ووعده حقّ، وهو واسع يسعه أن يعطي ما وعده من المغفرة والزيادة وعليم لا يجهل شيئاً ولا حالاً من شئ فوعده وعد عن علم.

قوله تعالى: ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ) ، الإيتاء هو الإعطاء، والحكمة بكسر الحاء على فعلة بناء نوع يدلّ على نوع المعنى فمعناه النوع من الإحكام والإتقان أو نوع من الأمر المحكم المتقن الّذي لا يوجد فيه ثلمة ولا فتور، وغلب استعماله في المعلومات العقليّة الحقّة الصادقة الّتي لا تقبل البطلان والكذب البتّة.

والجملة تدلّ على أنّ البيان الّذي بيّن الله به حال الإنفاق بجمع علله وأسبابه وما يستتبعه من الأثر الصالح في حقيقة حياة الإنسان هو من الحكمة، فالحكمة هي القضايا الحقّة المطابقة للواقع من حيث اشتمالها بنحو على سعادة الإنسان كالمعارف الحقّة الإلهيّة في المبدأ والمعاد، والمعارف الّتي تشرح حقائق العالم الطبيعيّ من جهة مساسها بسعادة الإنسان كالحقائق الفطريّة الّتي هي أساس التشريعات الدينيّة.

قوله تعالى: ( وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ) ، المعنى ظاهر، وقد اُبهم فاعل الإيتاء مع أنّ الجملة السابقة عليه تدلّ على أنّه الله تبارك وتعالى ليدلّ الكلام على أنّ الحكمة بنفسها منشأ الخير الكثير فالتلبّس بها يتضمّن الخير الكثير، لامن جهة انتساب إتيانه إليه تعالى، فإنّ مجرّد انتساب الإتيان لا يوجب ذلك كإيتاء المال، قال تعالى في قارون( وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّة ِ ) إلى آخرالآيات القصص - ٧٦، وإنّما نسب إليها الخير الكثير دون الخير مطلقاً، مع ما عليه الحكمة من ارتفاع الشأن ونفاسة الأمر لأنّ الأمر مختوم بعناية الله وتوفيقه، وأمر السعادة مراعيّ بالعاقبة والخاتمة.

قوله تعالى: ( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) ، اللبّ هو العقل لأنّه في الإنسان

٤١٨

بمنزلة اللبّ من القشر، وعلى هذا المعنى استعمل في القرآن، وكأنّ لفظ العقل بمعناه المعروف اليوم من الأسماء المستحدثة بالغلبة ولذلك لم يستعمل في القرآن وإنّما استعمل منه الأفعال مثل يعقلون.

والتذكّر هو الانتقال من النتيجة إلى مقدّماتها، أو من الشئ إلى نتائجها، والآية تدلّ على أنّ اقتناص الحكمة يتوقّف على التذكّر، وأنّ التذكّر يتوقّف على العقل، فلا حكمة لمن لا عقل له. وقد مرّ بعض الكلام في العقل عند البحث عن ألفاظ الإدراك المستعملة في القرآن الكريم.

قوله تعالى: ( وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ) ، أي ما دعاكم الله سبحانه إليه أو دعوتم أنفسكم إليه بإيجابه عليها بالنذر من بذل المال فلا يخفى على الله يثيب من أطاعة ويؤاخذ من ظلمه، ففيه إيماء إلى التهديد، ويؤكّده قوله تعالى: وما للظالمين من أنصار.

وفي هذه الجملة أعني قوله: وما للظالمين من أنصار، دلالةأوّلا: على أنّ المراد بالظلم هو الظلم على الفقراء والمساكين في الإمساك عن الإنفاق عليهم، وحبس حقوقهم الماليّة، لا الظلم بمعنى مطلق المعصية فإنّ في مطلق المعصية أنصاراً ومكفّرات وشفعاء كالتوبة، والاجتناب عن الكبائر، وشفعاء يوم القيامة إذا كان من حقوق الله تعالى، قال تعالى:( لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا - إلى ان قال -وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ ) الزمر - ٥٤، وقال تعالى:( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) النساء - ٣١، وقال تعالى:( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) الأنبياء - ٢٨.

ومن هنا يظهر: وجه اتيان الأنصار بصيغة الجمع فإنّ في مورد مطلق الظلم أنصاراً.

وثانياً: أنّ هذا الظلم وهو ترك الإنفاق لا يقبل التكفير ولو كان من الصغائر لقبله فهو من الكبائر، وأنّه لا يقبل التوبة، ويتأيّد بذلك ما وردت به الروايات: أنّ التوبة في حقوق الناس غير مقبولة إلّا بردّ الحقّ إلى مستحقّه، وأنّه لا يقبل الشفاعة يوم القيامة كما يدلّ عليه قوله تعالى:( أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ

٤١٩

الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ - إلى أن قال -فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) المدّثّر - ٤٨.

وثالثاً: أنّ هذا الظالم غير مرتضى عند الله إذ لا شفاعة إلّا لمن ارتضى الله دينه كما مرّ بيانه في بحث الشفاعة، ومن هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله، حيث أتى بالمرضاة ولم يقل ابتغاء وجه الله.

ورابعاً: أنّ المتناع من أصل إنفاق المال على الفقراء مع وجودهم واحتياجهم من الكبائر الموبقة، وقد عدّ تعالى الامتناع عن بعض أقسامه كالزكاة شركاً بالله وكفراً بالآخرة، قال تعالى:( وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) فصّلت - ٧، والسورة مكّيّة ولم تكن شرّعت الزكاة المعروفة عند نزولها.

قوله تعالى: ( إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ) الخ، الإبداء هو الإظهار، والصدقات جمع صدقة، وهي مطلق الإنفاق في سبيل الله أعمّ من الواجب والمندوب وربّما يقال: إنّ الأصل في معناها الإنفاق المندوب.

وقد مدح الله سبحانه كلّاً من شقّى الترديد، لكون كلّ واحد من الشقّين ذا آثار صالحة، فأمّا إظهار الصدقة فإنّ فيه دعوة عمليّة إلى المعروف، وتشويقاً للناس إلى البذل والإنفاق، وتطييباً لنفوس الفقراء والمساكين حيث يشاهدون أنّ في المجتمع رجالاً رحماء بحالهم، وأموالاً موضوعة لرفع حوائجهم، مدّخرة ليوم بؤسهم فيؤدّي إلى زوال اليأس والقنوط عن نفوسهم، وحصول النشاط لهم في أعمالهم، واعتقاد وحدة العمل والكسب بينهم وبين الأغنياء المثرين، وفي ذلك كلّ الخير، وأمّا إخفاؤها فإنّه حينئذ يكون أبعد من الرياء والمنّ والأذى، وفيه حفظ لنفوس المحتاجين عن الخزي والمذلّة، وصون لماء وجوههم عن الابتذال، وكلائة لظاهر كرامتهم، فصدقة العلن أكثر نتاجاً، وصدقة السرّ أخلص طهارة.

ولمّا كان بناء الدين على الإخلاص وكان العمل كلّما قرب من الإخلاص كان أقرب من الفضيلة رجّح سبحانه جانب صدقة السرّ فقال: وإن تخفوها وتعطوها الفقراء فهو خير لكم فإنّ كلمة خير أفعل التفضيل، والله تعالى خبير بأعمال عباده لا يخطئ

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639