بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٤

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة12%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 639

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤
  • البداية
  • السابق
  • 639 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 246608 / تحميل: 8600
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

أشراف اليمن و عظماء ربيعة و قرأ عليهم نسخة الحلف ، و كانت النسخة :

« بسم اللَّه العلي العظيم الماجد المنعم ، هذا ما احتلف عليه آل قحطان و ربيعة الأخوان ، إحتلفوا على السّواء السّواء و الأواصر و الإخاء ، ما احتذى رجل حذا و ما راح راكب و اغتدى ، يحمله الصغار على الكبار و الأشرار على الأخيار ، آخر الدهر و الأبد إلى انقضاء مدّة الأمد و انقراض الآباء و الولد ، حلف يوطأ و يثب ما طلع نجم و غرب ، خلطوا عليه دماهم عند ملك أرضاهم خلطها بخمر و سقاهم ، جزّ من نواصيهم أشعارهم و قلّم عن أناملهم أظفارهم فجمع ذلك في صبر و دفنه تحت ماء غمر في جوف قعر بحر آخر الدهر ، لا سهو فيه و لا نسيان و لا غدر و لا خذلان ، بعقد مؤكّد شديد إلى آخر الدهر الأبيد ، ما دعا صبيّ أباه و ما حلب عبد في إناه ، تحمل عليه الحوامل و تقبل عليه القوابل ، ما حلّ بعد عام قابل ، عليه المحيا و الممات حتى ييبس الفرات ، و كتب في شهر الأصم عند ملك أخي ذمم تبّع بن ملكيكرب معدن الفضل و الحسب ، عليهم جميعا كفل و شهد اللَّه الأجل الذي ما شاء فعل ، عقله من عقل و جهله من جهل .

فلما قرى‏ء عليهم هذا الكتاب توافقوا على أن ينصر بعضهم بعضا و يكون أمرهم واحدا(١) .

و وقع الاختلاف بين اليمن و ربيعة بحصول العصبيّة بين قحطان و عدنان و ربيعة منهم ، قال المسعودي في ( مروجه ) : إن عبد اللَّه بن معاوية بن جعفر بن أبي طالب قال للكميت : رأيت أن تقول شيئا تعصب به بين الناس لعل فتنة تحدث فيخرج من بين أصابعها بعض ما يحب ، فابتدأ الكميت و قال قصيدته التي يذكر فيها مناقب قومه مضر و ربيعة و أياد و أنمار بني نزار بن معد بن عدنان و يكثر فيها من تفضيلهم و يطنب في وصفهم و أنهم أفضل من

____________________

( ١ ) أخبار الطوال للدينوري : ٣٠١ ٣٠٢ .

٤٢١

قحطان ، فعصب بها بين اليمانية و النزارية يقول في قصيدته :

لنا قمر السماء و كلّ نجم

تشير إليه أيدي المهتدينا

وجدت اللَّه قد أسمى نزارا

و أسكنهم بمكة قاطنينا

لنا جعل المكارم خالصات

و للناس القفا و لنا الجبينا

و ما ضربت هجائن من نزار

ثوالح من فحول الأعجمينا

و ما حملوا الحمير على عتاق

مظهّرة فيلفوا مبغلينا

و ما وجدت بنات بني نزار

حلائل أسودين و أحمرينا

و نمى قوله في النزارية و اليمانية ، و افتخرت نزار على اليمن و اليمن على نزار ، و أدلى كلّ فريق منه بماله من المناقب ، و تحزّبت الناس و ثارت العصبية في البدو و الحضر ، فنتج بذلك أمر مروان بن محمد الجعدي و تعصّبه لقومه من نزار على اليمن ، و انحرف اليمن عنه إلى الدعوة العباسية و تغلغل الأمر عن انتقال الدولة عن بني امية .

ثم ماتلا ذلك من قصة معن بن زائدة باليمن و قتله أهلها تعصّبا لقومه من ربيعة و غيرها من نزار ، و قطعه الحلف الذي كان بين اليمن و ربيعة في القدم ، و فعل عقبة بن سالم بعمان و البحرين و قتله عبد القيس و غيرهم من ربيعة كيادا لمعن و تعصّبا منه لقومه قحطان(١) .

و في ( الأغاني ) : قال المنصور لمعن بن زائدة : قد أمّلتك لأمر فكيف تكون فيه ؟ قال : كما تحب قال : ولّيتك اليمن فابسط السيف فيهم حتى تنقض حلف ربيعة و اليمن قال : أبلغ من ذلك ، فولاّه و توجّه إلى اليمن فبسط السيف فيهم حتى أسرف(٢) .

____________________

( ١ ) مروج الذهب ٣ : ٢٣٠ .

( ٢ ) الأغاني للأصفهاني ١٠ : ٨٦ .

٤٢٢

و ربيعة كانوا مع أمير المؤمنينعليه‌السلام في غزواته ، و أما اليمن فأكثرهم كانوا مع معاوية ، و همدان منهم كانوا معهعليه‌السلام كالأنصار مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

و في ( صفّين نصر ) : جمع عليّعليه‌السلام همدان و قال : أنتم درعي و رمحي ما نصرتم إلاّ اللَّه و لا أجبتم غيره ، و في هذا اليوم قال عليعليه‌السلام :

و لو كنت بوّابا على باب جنّة

لقلت لهمدان ادخلي بسلام(١)

« و نقل » هكذا في ( الطبعة المصرية )(٢) و لكن في ابن أبي الحديد(٣) و ابن ميثم ( نقل )(٤) بدون واو فهو الصحيح ( من خط هشام بن الكلبي ) أما هشام فقال النجاشي و له الحديث المشهور قال : اعتللت علّة عظيمة نسيت علمي ، فجلست إلى جعفر بن محمدعليهما‌السلام فسقاني العلم في كأس فعاد إليّ علمي(٥) .

و روى الخطيب عنه انّه قال : حفظت ما لم يحفظه أحد و نسيت ما لم ينسه أحد ، دخلت بيتا و حلفت ألاّ أخرج منه حتى أحفظ القرآن فحفظته في ثلاثة أيام ، و نظرت يوما في المرآة فقبضت على لحيتي لآخذ ما دون القبضة فأخذت ما فوق القبضة(٦) .

و في ( الطبري ) : ورد على المهدي كتاب من صاحب الأندلس يعني الخليفة الاموي ثلبه فيه ثلبا عجيبا ، فأراه هشاما فقال له هشام : الثلب فيه و في آبائه و امّهاته ثم اندرأ يذكر مثالبهم ، فسرّ المهدي بذلك و أمره أن يملي

____________________

( ١ ) صفّين لنصر بن مزاحم : ٤٣٦ .

( ٢ ) راجع : ٦٤٩ في شرح محمّد عبده .

( ٣ ) راجع ١٨ : ٦٦ من شرح ابن أبي الحديد .

( ٤ ) راجع ٥ : ٢٣١ من شرح ابن ميثم إذ ورد بإضافة ( و ) خلافا لمّا ذكره العلاّمة .

( ٥ ) الطوسي النجاشي ، ترجمة هشام بن محمد ( رقم ١١٦٦ ) : ٤٣٤ .

( ٦ ) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ١٤ : ٤٦ .

٤٢٣

المثالب على كاتبه ليجيب صاحب الأندلس(١) .

و له كتاب في مثالب قريش ينقل عنه علي بن طاوس في طرائفه كثيرا ، و أمّا أبوه الكلبي و هو محمد بن السائب فقال ( الطبري في ذيله ) : كان عالما بالتفسير و الأنساب و أحاديث العرب ، شهد الجماجم مع ابن الأشعث(٢) .

قولهعليه‌السلام « هذا ما اجتمع عليه أهل اليمن حاضرها و باديها و ربيعة حاضرها و باديها » قال الجوهري : يقال : فلان حضري و فلان بدوي ، الحاضرة المدن ، و القرى و الريف و البادية خلاف ذلك(٣) .

« انّهم على كتاب اللَّه » قال ابن أبي الحديد : متعلق بمجتمعون محذوف(٤) .

قلت : « على كتاب اللَّه » ليس بظرف لغو حتى يحتاج إلى ما ذكر .

« يدعون إليه و يأمرون به و يجيبون من دعا إليه و أمر به » قال ابن أبي الحديد : عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : كلّ حلف كان في الجاهلية فلا يزيده الإسلام إلاّ شدّة و لا حلف في الإسلام لكن فعل أمير المؤمنينعليه‌السلام أي : كتابته الحلف بين اليمن و ربيعة في الإسلام أولى بالاتّباع من خبر الواحد(٥) .

قلت : الحلف إذا كان مثل جعلهعليه‌السلام من كونهم على كتاب اللَّه يدعون إليه و يأمرون به و يجيبون من دعا إليه و أمر به يكون واجبا بالذات و يزيده الحلف تأكيدا ، فإنّ البشر جميعهم مكلّفون على أن يكونوا على كتاب اللَّه و العمل به كما قالعليه‌السلام ، فيكون هذا الحلف نظير بيعة الأنصار للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في العقبة

____________________

( ١ ) تاريخ الامم و الملوك للطبري ٦ : ٣٩٥ .

( ٢ ) الطرائف : يعتمد الطوسي على كتاب المثالب لابن منذر هشام بن محمد الكلبي في وصف أعمال بني امية ، انظر صفحة ١٥٣ ١٥٦ من الطرائف .

( ٣ ) الصحاح للجوهري ٢ : ٦٣٢ مادة ( حضر ) .

( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٦٧ .

( ٥ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٦٧ .

٤٢٤

و بيعتهم مع المهاجرين لهصلى‌الله‌عليه‌وآله تحت الشجرة ، و بيعة الناس لأمير المؤمنينعليه‌السلام بعد الثلاثة و بعد تحكيم الحكمين ، و مثل أن ينذر أحد أو يعهد اللَّه تعالى أو يحلف به على فعل الواجبات و ترك المحرمات ، و الأحلاف الجاهلية إذا كانت مشتملة على أمور غير مشروعة ، يحلّها الإسلام لا يؤكدها .

و الخبر وجدته بغير لفظه ، فروى أبو الفرج في قيس بن عاصم أنّه سأل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن الحلف فقال : لا حلف في الإسلام و لكن تمسّكوا بحلف الجاهلية(١) .

و أفضل أحلاف الجاهلية حلف الفضول ، قال المسعودي : كان رجل من زبيد باع سلعة له من العاص بن وائل السهمي فمطله بالثمن حتى يئس ، فعلا جبل أبي قبيس و قريش في مجالسها حول الكعبة فنادى بشعر يصف ظلامته رافعا صوته :

يا للرجال لمظلوم بضاعته

ببطن مكة نادى الحي و النفر

ان الحرام لمن تمت حرامته

و لا حرام كيومي لابس الغدر

فمشت قريش بعضها إلى بعض و كان أول من سعى في ذلك ، ة الزبير بن عبد المطلّب و اجتمعت قريش في دار الندوة و كانت للحلّ و العقد و كان ممّن اجتمع بها من قريش بنو هاشم و بنو المطلّب و بنو زهرة و تيم بن كلاب

____________________

( ١ ) ذكره الأصفهاني في الأغاني ٤ : ٩٠ ، و جاء في النهاية في غريب الحديث و الأثر ١ : ٢٤٩ ، « لا حلف في الإسلام » أصل الحلف المعاقدة و المعاهدة على التعاضد و التساعد و الإتفاق فما كان منه في الجاهلية على الفتن و القتال بين القبائل و الغارات فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام بقوله صلّى اللَّه عليه و آله « لا حلف في الإسلام » و ما كان منه في الجاهليه على نصر المظلوم و صللاة الأرحام كحلف المطيبين ، و ما جرى مجراه فذلك الذي قال فيه صلّى اللَّه عليه و آله : و أي حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلاّ شدة ، يريد من المعاقدة على الخير و نصرة الحق و بذلك يجتمع الحديثان و هذا هو الحفف الذي يقتضيه الإسلام ، و الممنع منه ما خالف حكم الإسلام و قيل : المخالفة كانت قبل الفتح ، و قوله : « لا حلف في الإسلام » قاله زمن الفتح فكان ناسخا .

٤٢٥

و بنو الحرث بن فهر ، فاتّفقوا على أنّهم ينصفون المظلوم من الظالم ، فساروا إلى دار عبد اللَّه بن جدعان فتحالفوا هنالك ، ففي ذلك يقول الزبير بن عبد المطلّب . .(١) و قال الجزري : قال ابن إسحاق كان نفر من جرهم و قطورا يقال لهم الفضيل ابن الحرث الجرهمي و المفضل بن فضالة الجرهمي و الفضيل بن وداعة القطوري اجتمعوا و تحالفوا أن لا يقروا ببطن مكة ظالما ، فقال عمرو بن عوف الجرهمي :

إنّ الفضول تحالفوا و تعاقدوا

ألاّ يقرّ ببطن مكّة ظالم

أمر عليه تعاهدوا و تواثقوا

فالجار و المعترّ فيهم سالم

ثم درس ذلك فلم يبق إلاّ ذكره في قريش .

ثم إنّ قبائل من قريش تداعت إلى ذلك الحلف فتحالفوا و كانوا بني هاشم و بني المطلب و بني أسد بن عبد العزّى و زهرة و تيم بن مرّة ، فتحالفوا و تعاقدوا ألاّ يجدوا بمكّة مظلوما من أهلها أو من غيرهم إلاّ قاموا معه و كانوا على ظالمه حتى تردّ عليه مظلمته ، فسمّت قريش ذلك الحلف ، حلف الفضول و شهده النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال حين بعث : لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد اللَّه بن جدعان ما أحب ان لي به حمر النعم و لو دعيت به في الإسلام لأجبت . .(٢) و المستفاد من كلام ابن إسحاق أنّ تسميته بحلف الفضول لأن عاقديه الأولين كانوا مسمّين بفضيل و مفضل و فضيل .

« لا يشترون به ثمنا » الأصل فيه قوله تعالى :( و إِذ أَخذ اللَّه ميثاق الذين اُوتوا الكتاب لتبيننُّهُ للناس و لا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم و اشتروا به

____________________

( ١ ) مروج الذهب للمسعودي ٢ : ٢٧٠ .

( ٢ ) الكامل في التاريخ لابن الأثير ١ : ٤١ و ذكره البيهقي في سننه ٩ : ٦٧ ، و القرطبي في تفسيره ٦ : ٣٣ .

٤٢٦

ثَمناً قليلاً فبئسَ ما يشترون ) (١) « و لا يرضون به بدلا » في معنى الأول .

« و أنّهم يد واحدة على من ترك ذلك و خالفه » كونهم يدا واحدة كناية عن اتّفاقهم .

و قال الجوهري : ضبّة و ثور و عكل و تيم و عديّ تجمّعوا فصاروا يدا واحدة و سمّوا ربابا بالكسر لأنّهم غمسوا أيديهم لتحالفهم في ربّ ، و قيل لأنّهم تربّبوا أي : تجمّعوا(٢) هذا ، و قال الزمخشري : القوم عليّ يد واحدة و ساق واحدة إذا اجتمعوا على عداوته ، و قال البحتري و كان من طي من اليمن في أبي سعيد محمد بن يوسف و كان من ربيعة مشيرا إلى هذا الحلف :

نحن في خلة الصفاء و أنتم

كاليدين اصطفت شمال يمينا

ضمّنا الحلف فاتّصلنا ديارا

في المقامات و التففنا غصونا

لم تقلّب قلوبنا يوم هيجاء

و ليست أيدي سبا أيدينا(٣)

« أنصار بعضهم لبعض » و في ( ابن أبي الحديد ) « و إنهم أنصار بعضهم لبعض »(٤) « دعوتهم واحدة » إلى الكتاب و حكمه .

« لا ينقضون عهدهم » في ( الجمهرة ) : و كتاب يكتب بين القوم يسمّى العهد(٥)

___________________

( ١ ) آل عمران : ١٨٧ .

( ٢ ) الصحاح للجوهري ١ : ١٣٢ مادة ( رأب ) .

( ٣ ) الزمخشري : أساس البلاغة : ٥١٢ مادة ( ي د ي ) و الأبيات للبحتري في ديوانه : ١٦٢ .

( ٤ ) انظر النصّ في ابن أبي الحديد ١٨ : ٦٦ رقم ( ٧٤ ) .

( ٥ ) الجمهرة ٢ : ٦٦٨ مادة ( د ع ه ) .

٤٢٧

« لمعتبة عاتب » قال الخليل : العتاب مخاطبة الادلال و مذاكرة الموجدة(١) « و لا لغضب غاضب » قال الجوهري : يقال « غضبت لفلان » إذا كان فلان حيّا و « بفلان » إذا كان ميتا(٢) « و لا لاستذلال قوم قوما » الاستذلال و التذليل و الاذلال بمعنى .

هذا ، و زاد ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) : « و لا لمسبة قوم قوما » ثم قال ( ابن ميثم ) و روي « و لا لمشية قوم قوما » و كيف كان فلا بدّ من سقوط فقرة من ( الطبعة المصرية ) بلفظ « لمسبة »(٣) أو « لمشية » .

« على ذلك شاهدهم و غائبهم » هو و معطوفاه المثناة كنايات تأكيدية عن الجميع ، و الكل بلا استثناء .

« و سفيههم و عالمهم و حليمهم و جاهلهم » هكذا في ( الطبعة المصرية ) و لكن في نسخة ( ابن أبي الحديد ) : « و حليمهم و عالمهم و جاهلهم » و في نسخة ( ابن ميثم ) « و حليمهم و جاهلهم » ، و لا يبعد أن يكون الأصل « و حليمهم و سفيههم و عالمهم و جاهلهم » كما لا يخفى .

« ثم إنّ عليهم بذلك عهد اللَّه و ميثاقه » و في نسخة ( ابن أبي الحديد ) « ميثاق اللَّه و عهده » بدل عهد اللَّه و ميثاقه .

« إنّ عهد اللَّه كان مسؤولا » الأصل(٤) فيه قوله تعالى( و كان عَهدُ

_ ___________________

( ١ ) لا وجود له في العين و قد نقله في الفيّومي : ٣٩٠ ، مادة ( عتب ) .

( ٢ ) الصحاح للجوهري ١ : ١٩٤ ، مادة ( غضب ) .

( ٣ ) في النسخة المصرية المنقحة وردت عبارة « لمسبة » : ٦٤٩ ، و انظر أيضا شرح ابن ميثم ٥ : ٢٣١ ، و شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٦٦ .

( ٤ ) لفظ « حليمهم » جاء قبل لفظ « سقيههم » في المصرية المنقحه ، انظر من ٦٥ و ما يراه المؤلف صحيحا ، جاء في عبارة النسخة المصرية ، كذلك انظر شرح ابن ميثم ٥ : ٢٣١ ، و شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٦٦ .

٤٢٨

اللَّه مسئولاً ) (١) هذا ، و في ( رسائل الصاحب ) : وصل كتاب مولانا بذكر الحلف الذي رسم مولانا عقده عند وروده البصرة بين سعد و ربيعة أخذا بسنّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في الأوس و الخزرج حين وافي المدينة ، و الكتاب الذي أنشأه مولاي عقيلة الدهر ، فعقيلة و يتيمة الفضل ، و زبدة الأحقاب و فصل الخطاب ، أقول ذلك متحقّقا لا متجوّزا قول من أتقن شروط الاحلاف بين الأسلاف و الأخلاف ، فدرى كيف كان حلف المطيّبين و حلف الفضول و حلف الأحابيش و حلف الأحلاف(٢) « و كتب علي بن أبي طالب » قال ( ابن ميثم ) : و في رواية : « و كتب علي بن أبو طالب » و هي المشهورة عنهعليه‌السلام ، و وجهها انّه جعل هذه الكنية علما بمنزلة لفظة واحدة لا يتغيّر إعرابها(٣) قلت : بل ما قاله رواية شاذة ، كيف و التعبير عنهعليه‌السلام بعلي بن أبي طالب و خطاب المخالفين له بابن أبي طالب متواتر .

هذا ، و في ( اسد الغابة ) في ( ابيّ ) عن الواقدي : كان أول من كتب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مقدمه المدينة أبيّ ، فإذا لم يحضر كتب زيد بن ثابت ، و كان من المواظبين على كتاب الرسائل عبد اللَّه بن أرقم الزهري ، و كان الكاتب لعهود النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا عاهد و صلحه إذا صالح علي بن أبي طالبعليه‌السلام . .(٤) ( و فيه ) في أحمر بن معاوية : كان وافد بني تميم كتب له و لأبنه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كتابا « هذا كتاب لأحمر بن معاوية و شعبل بن أحمر في رحالهم

____________________

( ١ ) الأحزاب : ١٥ .

( ٢ ) الصاحب بن عباد رسائل الصاحب : ١٠٧ ١٠٨ .

( ٣ ) شرح ابن ميثم بلفظ و كتب علي بن أبي طالب .

( ٤ ) اسد الغابة ١ : ٤٩ .

٤٢٩

و أموالهم ، فمن آذاهم فذمة اللَّه منه خلية إن كانوا صادقين و كتب علي بن أبي طالب ، و ختم الكتاب بخاتم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) و في بديل والد عبد اللَّه بن بديل الخزاعي ان كتاب عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله له كان بخطهعليه‌السلام ، و كذلك في جميل بن ردام العذري الذي أقطعه النبي الردماء(٢) .

٢ الحكمة ( ١٥٥ ) و قالعليه‌السلام :

اِعْتَصِمُوا بِالذِّمَمِ فِي أَوْتَادِهَا أقول : قال ابن أبي الحديد : هذه كلمة قالهاعليه‌السلام بعد انقضاء أمر الجمل و حضور قوم من الطلقاء بين يديه ليبايعوه منهم مروان بن الحكم ، فقالعليه‌السلام له : و ما ذا أصنع ببيعتك ؟ ألم تبايعني بالأمس ؟ يعني بعد قتل عثمان ثم أمر بإخراجهم و رفع نفسه عن بيعة أمثالهم ، و تكلّم بكلام ذكر فيه ذمام العربية و ذمام الإسلام ، و ذكر أن من لا دين له فلا ذمام له ، ثم قال في أثناء الكلام :

فاعتصموا بالذمم في أوتادها ، أي : إذا صدرت عن ذوي الدين فمن لا دين له لا عهد له(٣) .

قلت : لم ينقل سابق كلامهعليه‌السلام و لا لاحقه حتى يتّضح مرادهعليه‌السلام ، و لعلّ المراد عدم عقد العهد مع من ليس عليه اعتماد ، لا عدم وجوب الوفاء بعهد غير المعتمدين إلاّ مع إعلامهم بحل العقد ، قال تعالى :( و إِمّا تخافنَ من قومٍ خيانَة فانبذ إليهم على سواءٍ إِنّ اللَّه لا يُحبُّ الخآئنين ) (٤) .

____________________

( ١ ) اسد الغابة ١ : ٦٧ .

( ٢ ) المصدر نفسه ١ : ٢٠٣ و هو بديل بن ورقاء و كذلك في الاستيعاب ١ : ١٥٠ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٣٧٢ .

( ٤ ) الأنفال : ٥٨ .

٤٣٠

هذا ، و قال شاعر في مدح بعضهم بوفائه بذمته و عهده خلاف بعض آخر :

أنت الوفي بما تذم و بعضهم

تودي بذمته عقاب ملاع

٣ الحكمة ( ١٥٤ ) و قالعليه‌السلام :

اَلرَّاضِي بِفِعْلِ قَوْمٍ كَالدَّاخِلِ فِيهِ مَعَهُمْ وَ عَلَى كُلِّ دَاخِلٍ فِي بَاطِلٍ إِثْمَانِ إِثْمُ اَلْعَمَلِ بِهِ وَ إِثْمُ اَلرِّضَى بِهِ « و الرّاضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم » يشهد له قوله تعالى في ثمود :

فعقَرُوها فَدمدم علَيهم ربُهُم بِذنبِهم فَسَواها( و لا يَخافُ عُقباها ) (١) نسب العقر إلى الجميع و أهلك الجميع مع كون العاقر واحدا و هو قيدار لكون الباقين راضين بفعله .

« و على كلّ داخل في باطل إثمان : إثم العمل به و إثم الرّضى به » قالعليه‌السلام ذلك لأنّه قد يدخل الإنسان في باطل مع كرهه و بدون رضاه .

قال الطبري بعد ذكر إباء شبث بن ربعي عن رمي خيل الحسينعليه‌السلام و ما زالوا يرون من شبث الكراهة لقتال الحسينعليه‌السلام ، قال أبو زهير العبسي :

سمعت شبثا في إمارة مصعب يقول : لا يعطي اللَّه أهل هذا المصر خيرا أبدا و لا يسدّدهم لرشد ، ألا تعجبون أنّا قاتلنا مع علي بن أبي طالب و مع ابنه بعده آل أبي سفيان خمس سنين ثم عدونا على ابنه و هو خير أهل الأرض فقاتل مع آل معاوية و ابن سمية الزانية ضلال يا لك من ضلال(٢) .

____________________

( ١ ) الشمس : ١٤ ١٥ .

( ٢ ) تاريخ الامم و الملوك للطبري ٤ : ٣٣٢ .

٤٣١

٤ الحكمة ( ١٥١ ) و قالعليه‌السلام :

لِكُلِّ اِمْرِئٍ عَاقِبَةٌ حُلْوَةٌ أَوْ مُرَّةٌ أقول : « عاقبة » في كلامهعليه‌السلام أعمّ من العاقبة في قوله تعالى :( و العاقبةُ للمُتّقين في الأعراف ، فقبله إِنّ الأرض للَّه يورثها من يشاء من عباده ) (١) و في هود ، فقبله « فاصبر » و في القصص فقبله بعد ذكر خسف الأرض بقارون( تِلكَ الدَّارُ الأَخِرَةُ نَجعَلُها لِلَّذِينَ لاَ يُرِيُدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرض وَ لاَ فَساداً ) (٢) و في قوله تعالى :( و العاقَبةُ لِلتَّقوَى ) (٣) فإنّ المراد بها العاقبة الحسنة ، كما أنّها أعمّ من عاقبة في قوله تعالى :( أَفلم يسيروا في الأَرض فينظروا كيفَ كانَ عاقِبةُ الّذين من قَبلهِم ) (٤) فالمراد العاقبة السيئة .

هذا ، و ابن ميثم قرر العنوان و كذا ابن أبي الحديد إلاّ أنّه قال : و في كثير من النسخ بدون قوله « حلوة أو مرة »(٥) .

٥ الحكمة ( ١٦٠ ) و قالعليه‌السلام :

مَنْ مَلَكَ اِسْتَأْثَرَ

____________________

( ١ ) الأعراف : ١٢٨ .

( ٢ ) القصص : ٨٣ .

( ٣ ) طه : ١٣٢ .

( ٤ ) يوسف : ١٠٩ .

( ٥ ) انظر شرح شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٣٦١ ، و شرح ابن ميثم ٥ : ٣٣٢ .

٤٣٢

و الحكمة ( ٢١٦ ) و قالعليه‌السلام :

مَنْ نَالَ اِسْتَطَالَ أقول : هما بمعنى واحد ، و الشواهد لكلامهعليه‌السلام كثيرة ، منها ما في ( الطبري ) في حوادث سنة ( ٢٢٩ ) : حبس الواثق الكتّاب و ألزمهم أموالا ، و سببه ما عن عزون الأنصاري قال : كنّا ليلة عند الواثق فقال : لست أشتهي الليلة النبيذ و لكن هلمّوا نتحدّث الليلة ، فجلس في رواقه الأوسط و كان في أحد شقي ذلك الرواق قبّة مرتفعة في السماء بيضاء كأنّها بيضه الاقدر ذراع فيما ترى العين حولها في وسطها ساج منقوش مغشّى باللاّزورد و الذهب و كانت تسمّى قبة المنطقة فتحدثنا فقال الواثق : من منكم يعلم السبب الذي به وثب جدّي الرشيد على البرامكة ؟ فقلت : أنا و اللَّه احدّثك إن الرشيد ذكرت له جارية لعون الخيّاط فأرسل إليها فاعترضها فرضي جمالها و عقلها و حسن أدبها ، فقال لعون : ما تقول في ثمنها قال : أمر ثمنها واضح مشهور حلفت بعتقها و عتق رقيقي جميعا و صدقة مالي الأيمان المغلّظة التي لا مخرج لي منها و أشهدت عليّ بذلك العدول ان لا أنقص ثمنها عن مائة ألف دينار و لا أحتال في ذلك بشي‏ء من الحيل فقال الرشيد : قد أخذتها منك بمائة ألف دينار ثم أرسل إلى يحيى البرمكي يخبره بخبر الجارية و يأمره أن يرسل إليه بمائة ألف دينار فقال يحيى : هذا مفتاح سوء فأرسل يخبره أنّه لا يقدر على ذلك ، فغضب عليه الرشيد و قال : ليس في بيت مالي مائة ألف دينار ، فأعاد عليه لا بدّ منها فقال يحيى : إجعلوها دراهم ليراها فيستكثرها فلعلّه يردّها ، فأرسل بها دراهم و قال هذه قيمة مائة ألف دينار ، و أمر أن يوضع في رواقه الذي يمرّ فيه إذا أراد التوضؤ لصلاة الظهر ، فخرج في ذلك الوقت فإذا جبل من بدر فقال : ما

٤٣٣

هذا ؟ قالوا : ثمن الجارية لم تحضر دنانير أرسل قيمتها دراهم ، فاستكثر ذلك و دعا خادما له فقال : اضمم هذه إليك و اجعل لي بيت مال لأضمّ إليه ما أريده و سمّاه بيت مال العروس و أمر بردّ الجارية إلى عون ، و أخذ في التفتيش عن المال فوجد البرامكة قد استملكوه ، فأقبل يهمّ بهم و يمسك ، فكان يرسل إلى قوم فيسامرهم و يتعشّى معهم فكان فيهم إنسان يعرف بأبي العود ، فحضر ليلة فيهم فأعجبه حديثه فأمر خادما له أن يأتي يحيى إذا أصبح يأمره أن يعطيه ثلاثين ألف درهم ففعل فقال يحيى لأبي العود : أفعل و ليس بحضرتنا اليوم مال ، يجي‏ء المال و نعطيك ، ثم دافعه حتى طال به الأيام فأقبل أبو العود يحتال أن يجد من الرشيد وقتا يحرّضه على البرامكة و قد كان شاع في الناس ما كان يهمّ به الرشيد في أمرهم فدخل عليه ليلة فتحدّثوا فلم يزل أبو العود يحتال للحديث حتى وصله بقول عمر بن أبي ربيعة :

وعدت هند و ما كانت تعد

ليت هندا أنجزتنا ما تعد

و استبدّت مرّة واحدة

إنّما العاجز من لا يستبد(١)

فقال الرشيد : أجل و اللَّه إنّما العاجز من لا يستبد حتى انقضى المجلس و كان يحيى قد اتخذ من خدم الرشيد خادما يأتيه بأخباره و أصبح يحيى غاديا ، فلما رآه قال : أردت البارحة أن أرسل إليك بشعر أنشدنيه بعض من كان عندي ثم كرهت أن أزعجك ، فأنشده البيتين و فطن لمّا أراد ، فلما انصرف أرسل إلى ذلك الخادم فسأله عمّن أنشد ذلك الشعر فقال أنشده أبو العود ، فدعا يحيى بأبي العود فقال له : إنّا كنّا قد لويناك بمالك و قد جاءنا مال ، ثم قال

____________________

( ١ ) في ديوان عمر بن أبي ربيعة بلفظ آخر :

ليت هندا أنجزتنا ما تعد

وشفت أنفسنا ممّا تجد

ديوان عمر بن أبي ربيعة : ٣٢٠ .

٤٣٤

لبعض خدمه إذهب فأعطه ثلاثين ألف دينار من بيت مال الخليفة و أعطه من عندي عشرين ألف درهم لمطلنا إيّاه و إذهب به إلى الفضل و جعفر و قل لهما هذا رجل مستحق ان يبر و قد كان الخليفة أمر له بمال فأطلت مطله ثم حضر المال فأمرت أن يعطى و وصلته من عندي صلة و قد أحببت أن تصلاه ، فسألاه : وصله بكم ؟ قال بعشرين ألف ، فوصله كلّ واحد منهما بعشرين ألف درهم ، فانصرف بذلك المال كلّه إلى منزله ، و جدّ الرشيد في أمرهم حتى وثب عليهم و قتل جعفرا و صنع ما صنع .

فقال الواثق صدق جدّي و اللَّه ، إنّما العاجز من لا يستبد و أخذ في ذكر الخيانة و ما يستحقه أهلها فقلت أحسبه سيوقع بكتّابه ، فما مضى اسبوع حتى أوقع بهم و أخذ إبراهيم بن رباح و سليمان بن وهب و أبا الوزير و أحمد بن الخصيب و جماعتهم ، و دفع أحمد بن إسرائيل إلى صاحب الحرس و أمر بضربه كلّ يوم عشرة أسواط ، فضربه فيما قيل نحوا من ألف سوط ، فأدى ثمانين ألف دينار ، و أخذ من سليمان بن وهب اربعمائة ألف دينار و من الحسن بن وهب أربعة عشر ألف دينار و من أحمد بن الخصيب و كتّابه ألف ألف دينار و من إبراهيم بن رباح و كتّابه مائة ألف دينار و من نجاح ستين ألف دينار و من أبي الوزير مائة و أربعين ألف دينار ، و ذلك سوى ما أخذ من العمّال بسبب عمالتهم(١) .

٦ الحكمة ( ١٦١ ) و قالعليه‌السلام :

مَنِ اِسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ هَلَكَ وَ مَنْ شَاوَرَ اَلرِّجَالَ شَارَكَهَا فِي عُقُولِهَا

____________________

( ١ ) تاريخ الامم و الملوك للطبري ٧ : ٣١٩ .

٤٣٥

« من استبد برأيه هلك » في ( كامل الجزري ) غزا سيف الدولة سنة ( ٣٤٩ ) بلاد الروم في جمع كثير ، فأثّر فيها آثارا كثيرة و أحرق و فتح عدّة حصون و أخذ من السبي و الغنائم و الاسارى شيئا كثيرا ، و بلغ إلى خرشنه .

ثم إنّ الروم أخذوا عليه المضايق ، فلمّا أراد الرجوع قال له من معه من أهل طرسوس : إنّ الروم قد خلّفوا الدرب خلف ظهرك فلا تقدر على العود منه و الرأي أن ترجع معنا ، فلم يقبل منهم و كان معجبا برأيه يحب أن يستبد و لا يشاور أحدا لئلاّ يقال : إنّه أصاب برأي غيره و عاد في الدرب الذي دخل منه ، فظهر الروم عليه و استردّوا ما كان معه من الغنائم و أخذوا أثقاله و وضعوا السيف في أصحابه فأتوا عليهم قتلا و أسرا ، و تخلّص هو في ثلاثمائة رجل بعد جهد و مشقة ، و هذا من سوء رأي كلّ من يجهل آراء الناس العقلاء(١) .

« و من شاور الرجال شاركها في عقولها » في ( الأغاني ) قال بشار في قصيدته التي مدح أولا بها إبراهيم بن عبد اللَّه بن الحسن و هجا منصورا ، ثم لمّا قتل إبراهيم بدّل في الأبيات من أبي جعفر أبا مسلم و حذف الأبيات التي لا تنطبق إلاّ على إبراهيم فجعلها في مدح المنصور و هجو أبي مسلم :

إذا بلغ الرأي المشورة(٢) فاستعن

برأي(٣) نصيح أو نصيحة حازم

و لا تجعل الشّورى عليك غضاضة

فإنّ(٤) الخوافي قوة للقوادم

و ما خير كيف أمسك الغل أختها

و ما خير سيف لم يؤيّد بقائم(٥)

و روى عن الأصمعي قال : قلت لبشّار : إنّ الناس يعجبون من أبياتك في

____________________

( ١ ) الكامل في التاريخ لابن الأثير ٨ : ٥٣١ ٥٣٢ .

( ٢ ) نسخة التحقيق « النصيحة » بدل من « المشورة » .

( ٣ ) نسخة التحقيق « بعزم » بدلا من « برأي » .

( ٤ ) نسخة التحقيق « مكان » بدلا من « فان » .

( ٥ ) الأغاني للأصفهاني ٣ : ٢١٤ ، و ذكره ابن قتيبة في عيون الأخبار ١ : ٣٣ .

٤٣٦

المشورة ، فقال : إنّ المشاور بين صواب يفوز بثمرته أو خطأ يشارك في مكروهه فقلت : أنت و اللَّه في قولك هذا أشعر منك في شعرك(١) .

و في ( العيون ) : قال أعرابيّ : ما غبنت حتى يغبن قومي قيل : و كيف ؟

قال : لا أفعل شيئا حتى اشاورهم(٢) .

و قيل لرجل من بني عبس : ما أكثر صوابكم ؟ فقال : نحن ألف رجل و فينا حازم واحد نطيعه فكأنّا ألف حازم(٣) .

هذا ، و في ( المروج ) قال عيسى بن علي : ما زال المنصور يشاوره في جميع أموره حتى امتدحه ابن هرمة بقوله :

إذا ما أراد الأمر ناجى ضميره

فناجى ضميرا غير مختلف العقل

و لم يشرك الأدنين في سر أمره

إذا انتقضت بالأصبعين قوى الحبل

قلت : ابن هرمة خلط بين السر الذي يستر و المشورة التي تظهر تملقا و قبله المنصور عجبا .

هذا ، و في ( مشاورة العيون ) قال معاوية : لقد كنت ألقى الرجل من العرب أعلم أنّ في قلبه عليّ ضغنا فأستشيره فيثير(٤) إليّ بقدر ما يجده في نفسه ، فلا يزال يوسعني شتما و أوسعه حلما حتى يرجع صديقا أستعين به فيعينني و أستنجده فينجدني(٥) .

قلت : و هو خبط من ابن قتيبة في نقل الخبر في المشورة ، و وجه خبطه

____________________

( ١ ) مرّ ذكره في الصفحة ٤١ .

( ٢ ) مرّ ذكره في الصفحة ٤١ .

( ٣ ) العيون ١ : ٣٢ .

( ٤ ) في نسخة اخرى « فيثور » بدلا من « فيثير » .

( ٥ ) عيون الأخبار لابن قتيبة ١ : ٣٠ .

٤٣٧

أنّه حرّف قوله في الخبر « فأستثيره » بالثاء بقوله « فأستشيره » بالشين ، يوضح تحريفه أن في الخبر بعد « فيثير إليّ بقدر ما يجده في نفسه » و حينئذ فالخبر شاهد للرفق بالعدو حتى يصير صديقا و ليس من المشورة في شي‏ء(١) .

٧ الحكمة ( ١٧٣ ) و قالعليه‌السلام :

مَنِ اِسْتَقْبَلَ وُجُوهَ اَلْآرَاءِ عَرَفَ مَوَاقِعَ اَلْخَطَإِ أقول : رواه ( روضة الكافي ) مسندا عن أبي جعفرعليه‌السلام جزء خطبة الوسيلة التي خطبعليه‌السلام بها بعد سبعة أيام من وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حين فرغ من جمع القرآن ، و بعده : و من أمسك عن الفضول عدلت رأيه العقول ، و من حصن شهوته فقد صان قدره ، و من أمسك لسانه أمنه قومه و نال حاجته .(٢) .

في ( عيون القتيبي ) : كتب أبرويز إلى ابنه شيرويه و هو في حبسه : عليك بالمشاورة فإنّك واجد في الرجال من ينضج(٣) لك الكيّ و يحسم عنك الداء و يخرج لك المستكنّ و لا يدع لك في عدوّك فرصة إلاّ انتهزها و لا لعدوك فيك فرصة إلاّ حصّنها ، و لا يمنعك شدّة رأيك في ظنّك و لا علوّ مكانك في نفسك من

____________________

( ١ ) في فحوى النصّ الّذي أورده ابن قتيبة يفهم منه ان كلمة « فاستشيره » صحيحة و في مكانها و لربّما خلط على العلاّمة هذا اللفظ و لفظ « فيثيره » فاعتقد ان تحريفا وقع في الكلام بينما مقصود معاوية واضح من هذا النصّ و هو إن الاستشارة في الطريق إلى الصداقة فكلّما يواجهه الرجل بالإثارة فهو يستشيره فيخف عداؤه و هذه هي أهم فائدة من فوائد الاستشارة و قد ذكر العلماء استشارة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله انها لتطييب خواطر الأصحاب .

( ٢ ) الروضة من الكافي للكليني : ١٨ ح ٤ .

( ٣ ) في الأصل ينصح لك .

٤٣٨

أن تجمع إلى رأيك رأي غيرك ، فإن أحمدت اجتنيت و إن ذممت نقيّت(١) ، فإنّ في ذلك خصالا منها أنّه إن وافق رأيك ازداد رأيك شدّة عنك و إن خالف رأيك عرضته على نظرك ، فإن رأيته معتليا لمّا رأيت قبلت و ان رأيته متضعا عنه استغنيت ، و منها أن يجدد لك النصيحة ممّن شاورت و إن اخطأ و يمحض لك مودته و إن قصر(٢) .

٨ الحكمة ( ١٦٢ ) و قالعليه‌السلام :

مَنْ كَتَمَ سِرَّهُ كَانَتِ اَلْخِيَرَةُ بِيَدِهِ أقول : رواه ( الروضة )(٣) عنهعليه‌السلام ، و في ( عيون ابن قتيبة ) كان علي بن أبي طالبعليه‌السلام يتمثل بهذين البيتين :

فلا تفش سرّك إلاّ إليك

فإنّ لكلّ نصيح نصيحا

ألم تر أنّ غواة الرجال

لا يتركون أديما صحيحا(٤)

( و فيه ) أيضا : كانت الحكماء تقول « سرّك من دمك »(٥) .

و قيل لأعرابي : كيف كتمانك للسر ؟ قال : قلبي له قبر(٦) ، و قال :

و لو قدرت على نسيان ما اشتملت

منّي الضلوع من السرر

____________________

( ١ ) المناسب كما قيل : أذممت .

( ٢ ) عيون الأخبار لابن قتيبة ١ : ٣٠ .

( ٣ ) الروضة من الكافي للكليني : ١٥٢ ح ١٣٧ .

( ٤ ) عيون الأخبار لابن قتيبة ١ : ٣٩ ، و في نسخة المحقق مطلع البيت الأول « و لا تفش » و مطلع البيت الثاني « فاني رأيت » و ذكر البيتين المبرد في الكامل ٢ : ٦٩٨ و كذا النوري في نهاية الأرب ٨ : ٨٢ .

( ٥ ) العقد الفريد لابن عبد ربّه ١ : ٨٣ .

( ٦ ) المصدر نفسه ١ : ٨٣ .

٤٣٩

لكنت أول من تنسى سرائره

إذ كنت من نشرها يوما على خطر(١)

أيضا :

إذا أنت لم تحفظ لنفسك سرّها

فسرّك عند الناس أفشى و أضيع(٢)

أيضا :

إذا ما ضاق صدرك عن حديث

فأفشته الرجال فمن تلوم

إذا عاتبت من أفشى حديثي

و سري عنده فانا الظلوم

و إنّي حين أسأم حمل سرّي

و قد ضمّنته صدري سؤوم(٣)

و عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : استعينوا على الحوائج بالكتمان ، فإنّ كلّ ذي نعمة محسود(٤) .

٩ الحكمة ( ١٧٥ ) و قالعليه‌السلام :

إِذَا هِبْتَ أَمْراً فَقَعْ فِيهِ فَإِنَّ شِدَّةَ تَوَقِّيهِ أَعْظَمُ مِمَّا تَخَافُ مِنْهُ أقول : « هبت » من الهيبة بمعنى المخافة ، و « قع » أمر من الوقوع و التوقّي الاتّقاء .

قال ابن أبي الحديد ما أحسن ما قال المتنبي في المعنى :

و إذا لم يكن من الموت بدّ

فمن العجز أن تكون جبانا

كل ما لم يكن من الصّعب في الأ

نفس سهل فيها إذا هو كانا(٥)

____________________

( ١ ) أدب الدنيا و الدين للماوردي : ٢٩٧ .

( ٢ ) المحاسن و المساوى‏ء للبيهقي ٢ : ٥٨ ، و كذا الفاضل للمبرّد : ١٠١ .

( ٣ ) ابن قتيبة ، عيون الأخبار ١ : ٣٥ .

( ٤ ) تحف العقول للحراني : ٣٤ ، و كذلك الماوردي في أدب الدنيا و الدين : ٢٩٥ .

( ٥ ) ديوان المتنبي ٢ : ٤٧٣ ، و ذكره ابن أبي الحديد في ١٨ : ٤٠٦ .

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

هيق كأنّ جناحيه وجؤجؤه

بيت أطافت به خرقاء مهجوم(١)

ولا اعتذر أحد إلا احتاج إلى قول النابغة:

فإنّك كاللّيل الّذي هو مدركي

وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع(٢)

قال سيدنا أدام الله علوّه: أما قول حميد بن ثور: (محلّى بأطواق عتاق) فإنه يريد أن عليه نجار الكرم والعتق، فصارت دلالتهما وسماتهما حلية له من حيث كان موسوما بهما.

ومعنى: (يبينها على الضراء) يتبينها ويعرفها هذا الراعي فيعلم أنه كريم، والتقوّف:

من القيافة.

فأما قول علقمة (هيق ) فالهيق: ذكر النعام. ومعنى: (أطافت به خرقاء)، أي عملته وابتنته، وقيل: إن خرقاء هاهنا هي الحاذقة، وأن هذه اللفظة تستعمل على طريق الأضداد في الحاذقة وغير الحاذقة، ومعنى (مهجوم): أي مهدوم، وقال الأصمعي: معنى (أطافت به)، أي عملته فخرقت في عمله، يقول: قد أرسل جناحيه كأنه خباء امرأة خرقاء، كلما رفعت ناحية استرخت أخرى؛ والوجه الثاني أشبه وأملح.

فأما قول بشر في وصف الثغر فأحسن منه وأكشف وأشد استيفاء قول النابغة:

____________________

 - قوله: (عاري العظام) أي بعير مهزول، وشقا ابن ثلاث أي هلال ابن ثلاث. وماء أسير عيدان ويروى (ماء آسر عيدان)، أي عيدان مأسورة مشدودة. والرم. المخ، يريد أنه ليس يمسي برم، أي ليس في عظامه مخ؛ ولكنه عارف؛ أي معترف بالسير، ذليل متكلف يتكلف السير على جهد).

(١) حاشية الأصل: (هيق، أي ظليم، وهو اسم له، والجؤجؤ: الصدر؛ وأراد بالبيت بيتان الشعر أو الوبر. الخرقاء: المرأة التي ليست بصناع. ومهجوم: مصروع ساقط، يقول: أتت البيت هذه الخرقاء لتصلحه فلم تحسن، واستخرجت عيدانه وأطنابه، فشبه الظليم به، لاسترخاء جناحيه ونشره إياهما. وقال المازني: إذا بنت الخرقاء بيتا انهدم سريعا. وقال غيره: خرقاء هنا: ريح لا تدوم على جهة واحدة) والبيت في ديوانه ١٣٠، والمفضليات: ٤٠٠، (طبعة المعارف) وروايته فيهما:

(٢) ديوانه:

* صعل كأنّ جناحيه وجؤجؤه*

٥٤١

كالأقحوان غداة غبّ سمائه

جفّت أعاليه وأسفله ند(١)

فإنما وصف أعاليه بالجفوف؛ ليكون متفرقا متنضّدا غير متلبّد ولا مجتمع؛ فيشبه حينئذ الثغور، ثم قال: (وأسفله ند) حتى لا يكون قحلا يابسا، بل يكون فيه الغضاضة والصّقالة، فيشبه غروب الأسنان التي تلمع وتبرق.

وروى الرياشي قال: سمعت الأصمعي يقول: أحسن ما قيل في وصف الثّغر قول ذي الرّمة:

وتجلو بفرع من أراك كأنّه

من العنبر الهندي والمسك يصبح(٢)

ذرا أقحوان واجه الليل وارتقى

إليه النّدى من رامة المتروّح(٣)

هجان الثّنايا مغربا لو تبسّمت

لأخرس عنه كاد بالقول يفصح(٤)

____________________

(١) ديوانه: ٣١. الأقحوان: نبت له نوار أصفر، حواليه ورق أبيض وفي حاشيتي الأصل، ف: (ضمن اللجام الحراني هذا البيت في هجو فجعله آبدة من الأوابد فقال:

ياسائلي عن جعفر، علمي به

رطب العجان وكفّه كالجلمد

كالأقحوان غداة غب سمائه

جفّت أعاليه وأسفله ند

والبيتان في خاص الخاص: ١٤٤.

(٢) ديوانه: ٨٣. يصبح: يسقى وقت الصباح.

(٣) في الديوان: (راحة الليل)، بالرفع. رامة: رملة بعينها. المتروح: الّذي جاء رواحا. وبعد هذا البيت في رواية الديوان:

تحفّ بترب الرّوض من كلّ جانب

نسيم كفأر المسك حين يفتّح

(٤) المغرب: الأبيض من كل شيء.

٥٤٢

[٣٩]

مجلس آخر [المجلس التاسع والثلاثون:]

تأويل آية:( فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ )

إن سأل سائل عن تأويل قوله تعالى:( فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ ) ؛ [التوبة: ٥٥].

فقال: كيف يعذبهم بالأموال والأولاد، ومعلوم أن لهم فيها مسرورا ولذة؟ وما تأويل قوله تعالى: وَهُمْ كافِرُونَ وظاهره يقتضي أنه أراد كفرهم من حيث أراد أن تزهق أنفسهم في حال كفرهم، لأن القائل إذا قال: أريد أن يلقاني فلان وهو لابس أو على صفة كذا وكذا، فالظاهر أنه أراد كونه على تلك الصفة؟

الجواب، قلنا: أما التعذيب بالأموال والأولاد ففيه وجوه:

أولها ما روي عن ابن عباس وقتادة، وهو أن يكون في الكلام تقديم وتأخير، ويكون التقدير: فلا تعجبك يامحمد ولا تعجب المؤمنين معك أموال هؤلاء الكفار والمنافقين ولا أولادهم في الحياة الدنيا؛ إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة عقوبة لهم على منعهم حقوقها؛ واستشهد على ذلك بقوله تعالى:( اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ ) ؛ [النمل: ٢٨]، والمعنى: فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون، ثم تول عنهم؛ وأنشد في ذلك قول الشاعر:

عشيّة أبدت جيد أدماء مغزل

وطرفا يريك الإثمد الجون أحورا(١)

يريد: وطرفا أحور يريك الإثمد الجون؛ وقد اعتمد هذا الوجه أيضا أبو عليّ قطرب، وذكره أبو القاسم البلخي والزّجاج.

____________________

(١) مغزل: معها غزالها.

٥٤٣

وثانيها أن يكون معنى التعذيب بالأموال والأولاد في الدّنيا هو ما جعله للمؤمنين من قتالهم وغنيمة أموالهم وسبي أولادهم واسترقاقهم؛ وفي ذلك لا محالة إيلام لهم، واستخفاف بهم، وإنما أراد تعالى بذلك إعلام نبيهعليه‌السلام والمؤمنين أنه لم يرزق الكفار الأموال والأولاد؛ ولم يبقها في أيديهم كرامة لهم، ورضا عنهم؛ بل للمصلحة الداعية إلى ذلك، وأنهم مع هذه الحالة معذبون بهذه النعم من الوجه الّذي ذكرناه، فلا يجب أن يغبطوا، ويحسدوا عليها؛ إذ كانت هذه عاجلتهم، والعقاب الأليم في النار آجلتهم؛ وهذا جواب أبي عليّ الجبائي.

وقد طعن عليه بعض من لا تأمّل له فقال: كيف يصح هذا التأويل، مع أنا نجد كثيرا من الكفّار لا تنالهم أيدي المسلمين، ولا يقدرون على غنيمة أموالهم، ونجد أهل الكتاب أيضا خارجين عن هذه الجملة لمكان الذّمة والعهد؟ وليس هذا الاعتراض بشيء، لأنه لا يمتنع أن تختص الآية بالكفار الذين لا ذمة لهم ولا عهد؛ ممن أوجب الله تعالى محاربته؛ فأما الذين لا تنالهم الأيدي، أو هم من القوة على حدّ لا يتم معه غنيمة أموالهم؛ فلا يقدح الاعتراض بهم في هذا الجواب لأنهم ممن أراد الله تعالى أن يسبي ويغنم، ويجاهد ويغلب؛ وإن لم يقع ذلك؛ وليس في ارتفاعه بالتعذّر دلالة على أنه غير مراد.

وثالثها أن يكون المراد بتعذيبهم بذلك كلّ ما يدخله في الدنيا عليهم من الغموم والمصائب بأموالهم وأولادهم التي لهؤلاء الكفار المنافقين عقاب وجزاء، وللمؤمنين محنة وجالبة للعوض وللنفع.

ويجوز أيضا أن يراد به ما ينذر به الكافر قبل موته، وعند احتضاره، وانقطاع التكليف عنه مع أنه حي، من العذاب الدائم الّذي قد أعدّ له، وإعلامه أنه صائر إليه، ومنتقل إلى قراره؛ وهذا الجواب قد روي معنى أكثره عن قوم من متقدمي المفسرين(١) ، وذكره أبو عليّ الجبائي أيضا.

____________________

(١) حاشية الأصل: (نسخة الشجري: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري).

٥٤٤

ورابعها [جواب](١) يحكى عن الحسن البصري، واختاره الطبري وقدّمه على غيره، وهو أن يكون المراد بذلك ما ألزمه هؤلاء الكفار من الفرائض والحقوق في أموالهم؛ لأن ذلك يؤخذ منهم على كره، وهم إذا أنفقوا فيه أنفقوا بغير نيّة ولا عزيمة؛ فتصير نفقتهم غرامة وعذابا من حيث لا يستحقون عليها أجرا.

قال السيد قدس الله روحه: وهذا وجه غير صحيح؛ لأن الوجه في تكليف الكافر إخراج الحقوق من ماله كالوجه في تكليف المؤمن ذلك؛ ومحال أن يكون إنما كلّف إخراج هذه الحقوق على سبيل العقاب والجزاء؛ لأن ذلك لا يقتضي وجوبه عليه(٢) ؛ والوجه في تكليف الجميع هذه الأمور هو المصلحة واللطف في التكليف.

ولا يجري ذلك مجرى ما قلناه في الجواب الّذي قبل هذا؛ من أن المصائب والغموم قد تكون للمؤمنين محنة، وللكافرين عقوبة؛ لأن تلك الأمور مما يجوز أن يكون وجه حسنها العقوبة والمحنة جميعا؛ ولا يجوز في هذه الفرائض أن يكون لوجوبها على المكلّف إلا وجه واحد، وهو المصلحة في الدّين، فافترق الأمران.

وليس لهم أن يقولوا: ليس التعذيب في إيجاب الفرائض عليهم؛(٣) وإنما هو لإخراجهم أموالهم على وجه التكرّه والاستثقال(٣) ؛ وذلك أنه إذا كان الأمر على ما ذكروه خرج من أن يكون مرادا للّه تعالى؛ لأنه جلّ وعز ما أراد منهم إخراج المال على هذا الوجه، بل على الوجه الّذي هو طاعة وقربة؛ فإذا أخرجوها متكرّهين مستثقلين لم يرد ذلك؛ فكيف يقول:( إِنَّما يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِها ) ! ويجب أن يكون ما يعذبون به شيئا يصحّ أن يريده الله تعالى.

وجميع هذه الوجوه التي حكيناها في الآية - إلا جواب التقديم والتأخير - مبنيّة على أنّ

____________________

(١) من ف.

(٢ - ٢) ساقط من الأصل، وما أثبته عن ف.

(٣ - ٣) ف: (وإنما هو في إخراجهم لأموالهم على وجه التكره والاستثقال).

٥٤٥

الحياة الدنيا ظرف للعذاب؛ فتحمّل(١) كل متأوّل من القوم ضربا من التأويل؛ طابق(٢) ذلك.

وما يحتاج عندنا إلى جميع ما تكلّفوه، ولا إلى التقديم والتأخير إذا لم تجعل(٣) الحياة ظرفا للعقاب، بل جعلناها ظرفا للفعل الواقع بالأموال والأولاد؛ والمتعلّق بهما؛ لأنا قد علمنا أولا أنّ قوله:( لِيُعَذِّبَهُمْ بِها ) لا بد من الانصراف عن ظاهره؛ لأن الأموال والأولاد أنفسها لا تكون عذابا؛ والمراد على سائر وجوه التأويل الفعل المتعلّق بها والمضاف إليها؛ سواء كان إنفاقها والمصيبة بها والغمّ عليها، أو إباحة غنيمتها وإخراجها عن أيدي مالكيها؛ فكأنّ تقدير(٤) الآية: إنما يريد الله ليعذّبهم بكذا وكذا؛ مما يتعلق بأموالهم وأولادهم، ويتّصل بها؛ وإذا صحّ هذا جاز أن تكون الحياة الدنيا ظرفا لأفعالهم القبيحة في أموالهم وأولادهم التي تغضب الله تعالى وتسخطه؛ كإنفاقهم الأموال في وجوه المعاصي، وحملهم الأولاد على الكفر، وإلزامهم الموافقة لهم في النّحلة، ويكون تقدير الكلام: إنما يريد الله ليعذّبهم بفعلهم في أموالهم وأولادهم؛ الواقع ذلك منهم في الحياة الدنيا؛ وهذا وجه ظاهر يغني عن التقديم والتأخير؛ وسائر ما ذكروه من الوجوه.

فأما قوله تعالى:( وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ ) فمعناه تبطل وتخرج؛ أي أنّهم يموتون على الكفر؛ وليس يجب إذا كان مريدا لأن تزهق أنفسهم وهم على هذه الحال أن يكون مريدا للحال نفسها على ما ظنّوه؛ لأنّ الواحد منّا قد يأمر غيره ويريد منه أن يقاتل أهل البغي وهم محاربون، ولا يقاتلهم وهم منهزمون، ولا يكون مريدا لحرب أهل البغي للمؤمنين؛ وإن أراد قتالهم على هذه الحالة، وكذلك قد يقول لغلامه: أريد أن تواظب على المصير إلي في السّجن وأنا محبوس، وللطبيب: صر إلي ولازمني وأنا مريض، وهو لا يريد المرض ولا

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (فتمحل).

(٢) ف: (يطابق).

(٣) حاشية الأصل (من نسخة): (لم نجعل الحياة).

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (فكان تقدير الكلام).

٥٤٦

الحبس؛ وإن كان قد أراد ما هو متعلق بهاتين الحالتين.

وقد ذكر في ذلك وجه آخر على ألاّ يكون قوله:( وَهُمْ كافِرُونَ ) حالا لزهوق أنفسهم؛ بل يكون كأنه كلام مستأنف، والتقدير فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم؛ إنما يريد الله ليعذّبهم بها في الحياة الدنيا؛ وتزهق أنفسهم وهم مع ذلك كافرون صائرون إلى النار؛ وتكون الفائدة أنهم مع عذاب الدنيا قد اجتمع عليهم عذاب الآخرة؛ ويكون معنى( تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ ) على هذا الجواب غير الموت وخروج النفس على الحقيقة، بل المشقة الشديدة والكلف(١) الصّعبة، كما يقال: ضربت فلانا حتى مات وتلفت نفسه، وخرجت روحه، وما أشبه ذلك.

***

[رأى الشريف المرتضى في شعر مروان بن أبي حفصة ومختارات من محاسن شعره:]

قال سيدنا أدام الله تمكينه: ذاكرني قوم من أهل الأدب بأشعار المحدثين وطبقاتهم وانتهوا إلى مروان بن يحيى بن أبي حفصة(٢) ؛ فأفرط بعضهم في وصفه وتقريظه، وآخرون في ذمه وتهجينه والإزراء على شعره وطريقته؛ واستخبروا عما أعتقده فيه، فقلت لهم:

كان مروان متساوي الكلام، متشابه الألفاظ، غير متصرّف في المعاني ولا غواص عليها ولا مدقّق لها؛ فلذلك قلّت النّظائر في شعره، ومدائحه مكرّرة الألفاظ والمعاني، وهو غزير الشعر قليل المعنى؛ إلا أنه مع ذلك شاعر له تجويد وحذق، وهو أشعر من كثير من أهل زمانه وطبقته، وأشعر شعراء أهله؛ ويجب أن يكون دون مسلم بن الوليد في تنقيح الألفاظ وتدقيق المعاني، وحسن الألفاظ، ووقوع التشبيهات، ودون بشّار بن برد في الأبيات النادرة السائرة، فكأنه طبقة بينهما؛ وليس بمقصّر دونهما شديدا، ولا منحط عنهما بعيدا.

وكان إسحاق بن إبراهيم الموصلي يقدّمه على بشار ومسلم، وكذلك أبو عمرو الشيباني

____________________

(١) ف: (والكلفة).

(٢) هو أبو السمط - وقيل أبو الهندام مروان بن أبي حفصة؛ ولد سنة ١٠٥، وهلك في أيام الرشيد سنة ١٨٢. (وانظر ترجمته وأشعاره في الشعر والشعراء.

٧٣٩ - ٧٤١، وابن خلكان ٢: ٧٩ - ٨١).

٥٤٧

وكان الأصمعي يقول: مروان مولّد(١) ، وليس له علم باللغة. واختلاف الناس في اختيار الشعر بحسب اختلافهم في التنبيه على معانيه؛ وبحسب ما يشترطونه من مذاهبه وطرائقه.

فسئلت عند ذلك أن أذكر مختار ما وقع إلي من شعره وأنبه على سرقاته ونظائر شعره، وأن أملي ذلك في خلال المجالس وأثنائها.

فمما يختار من شعره قوله من قصيدة يمدح بها المهدي أولها:

أعادك من ذكر الأحبّة عائد!

أجل، واستخفّتك الرسوم البوائد

يقول فيها:

تذكّرت من تهوى فأبكاك ذكره

فلا الذّكر منسي ولا الدّمع جامد

تحنّ ويأبى أن يساعدك الهوى

وللموت خير من هوى لا يساعد

ألا طالما أنهيت دمعك طائعا

وجارت عليك الآنسات النّواهد

تذكّرنا أبصارها مقل المها

واعناقها أدم الظّباء العواقد(٢)

تساقط منهنّ الأحاديث غضّة

تساقط درّ أسلمته المعاقد

إليك أمير المؤمنين تجاذبت

بنا اللّيل خوص كالقسي شوارد

يمانية ينأى القريب محلّة

بهنّ، ويدنو الشاحط المتباعد

تجلّى السّرى عنها، وللعيس أعين

سوام وأعناق إليك قواصد

إلى ملك تندى إذا يبس الثّرى

بنائل كفّيه الأكفّ الجوامد

____________________

(١) ف: (المولدون الذين بعد المخضرين) وفي حاشية الأصل (من نسخة): (مولد) بكسر اللام؛ أي يولد الكلام.

(٢) العاقد: هو الظبي الّذي عطف عنقه إلى ناحية عجزه؛ وقيل إن الصغائر تفعل ذلك كثيرا؛ قال ساعدة:

وكأنّما وافاك يوم لقيتها

من وحش وجرة عاقد متربّب

ولا يبعد أن يكون العواقد اللائي يأوين إلى عقدات الرمل، أو يكون معناه أنها عقدت أعناقها ملتفة إلى أذنابها، وذلك معهود من عادتها.

٥٤٨

له فوق مجد النّاس مجدان منهما

طريف وعادي الجراثيم تالد

وأحواض عزّ حومة الموت دونها

وأحواض عرف ليس عنهنّ ذائد

أيادي بني العبّاس بيض سوابغ

على كلّ قوم باديات عوائد

هم يعدلون السّمك من قبّة الهدى

كما تعدل البيت الحرام القواعد

سواعد عزّ المسلمين، وإنما

تنوء بصولات الأكفّ السّواعد

يكون غرارا نومه من حذاره

على قبّة الإسلام والخلق راقد

كأنّ أمير المؤمنين محمّدا

لرأفته بالنّاس للنّاس والد

أما قوله:

تساقط منهنّ الأحاديث غضّة

تساقط درّ أسلمته المعاقد

فكثير في الشعر، وأظن أن الأصل فيه أبو حيّة النميري في قوله:

إذا هنّ ساقطن الأحاديث للفتى

سقوط حصى المرجان من كفّ ناظم

وإنما عنى بالمرجان صغار اللؤلؤ، وعلى هذا يتأول قوله تعالى:( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ ) ؛ [الرحمن: ٢٢].

ومثله قول الآخر:

هي الدّرّ منثورا إذا ما تكلّمت

وكالدّرّ منظوما إذا لم تكلّم

ومثله:

من ثغرها الدّرّ النّظيـ

ـم ولفظها الدّرّ النثير

ونظيره قول البحتري - وأحسن غاية الإحسان:

ولما التقينا والنّقا موعد لنا

تعجّب رائي الدّرّ حسنا ولاقطه

فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها

ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه

٥٤٩

ومثله قول الأخيطل(١) .

خلوت بها وسجف الليل ملقى

وقد أصغت إلى الغرب النّجوم

كأنّ كلامها درّ نثير

ورونق ثغرها درّ نظيم

ولغيره:

تبسّمت فرأيت الدّرّ منتظما

وحدّثت فرأيت الدّرّ منتثرا

ولآخر:

وتحفظ لا من ريبة يحذرونها

ولكنها من أعين النّاس تحفظ

وتلفظ درّا في الحديث إذا جرى

ولم نر درّا قبل ذلك يلفظ

ولبعض من تأخر زمانه من الشعراء وقرب من عصرنا هذا:

أظهرن وصلا إذ رحمن متيّما

وأرين هجرا إذ خشين مراقبا

فنظمن من درّ المباسم جامدا

ونثرن من درّ المدامع ذائبا

قال قدس الله روحه: وليس قول أبي دهبل في صفة الحديث(٢) :

كتساقط الرّطب الجني من ال

أقناء لا نثرا ولا نزرا

من هذا الباب في شيء، لأن جميع ما تقدم هو في وصف الثّغر؛ وهذا في وصف حسن الحديث وأنه متوسّط في القلة والكثرة، لازم للقصد كانتثار الرّطب من الأقناء؛ ويشبه أن يكون أراد أيضا مع ذلك وصفه بالحلاوة والغضاضة لتشبيهه له بالرطب، ثم إنه غضّ طري غير مكرّر ولا معاد؛ لقوله: (الرطب الجني) فتجتمع له أغراض: الوصف بالاقتصاد في القلة والكثرة، ثم وصفه بالحلاوة، ثم الفصاحة، ثم الغضاضة.

____________________

(١) في م: (الأخطل) خطأ؛ وفي حاشية الأصل: (الأهوازي، يقال له برقوقا)؛ وهو محمد بن عبد الله، شاعر مجيد من أهل الأهواز.

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (في وصف حسن الحديث والثغر).

٥٥٠

ونظير قول أبي دهبل قول ذي الرمّة:

لها بشر مثل الحرير ومنطق

رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر(١)

فأما قول مروان:

إلى ملك تندى إذا يبس الثّرى

بنائل كفّيه الأكفّ الجوامد

فمثل قول أبي حنش النميري في يحيى بن خالد البرمكيّ:

لا تراني مصافحا كفّ يحيى

إنّني إن فعلت أتلفت(٢) مالي

لو يمسّ البخيل راحة يحيى

لسخت نفسه ببذل النّوال

ومثله قول ابن الخياط(٣) المدني في المهدي:

لمست بكفّي كفّه أبتغي الغنى

ولم أدر أنّ الجود من كفّه يعدي(٤)

فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى

أفدت، وأعداني فأتلفت ما عندي

وقد قيل إن هذا الشاعر كأنه مصرّح بالهجاء؛ لأنه زعم أنّ الّذي لمس كفّه لم يفده شيئا بل أعداه جوده، فأتلف ماله، ولم يرد الشاعر إلا المدح؛ ولقوله وجه، وهو أنّ ذوي الغنى هم الذين تستقر الأموال في أيديهم وتلبث تحت أيمانهم؛ ومن أخرج ما يملكه حالا بحال لا يوصف بأنه ذو غنى، فأراد الشاعر أنني لم أفد منه ما بقي في يدي واستقرّ تحت ملكي؛ فلهذا قال: لم أفد ما أفاد ذرو الغنى.

ومن هذا المعنى قول مسلم:

إلى ملك لو صافح النّاس كلّهم

لما كان حي في البريّة يبخل

ومثله قول العكوّك:

لو لمس النّاس راحتيه

ما بخل النّاس بالعطاء

____________________

(١) ديوانه ٢١٢.

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (أتلف).

(٣) حاشية الأصل: (ابن الخياط، هو عبد الله بن محمد، ويعرف بابن الخياط؛ ذكر ذلك أبو الفرج الأصبهاني رحمه الله) وترجمته في الأغاني ١٨: ٩٤ - ١٠٠.

(٤) الأغاني ١٨: ٩٤.

٥٥١

وأحسن من هذا كلّه وأشبه بالمدح، وأدخل في طريقته قول البحتري:

من شاكر عنّي الخليفة بالذّي

أولاه من طول ومن إحسان(١)

ملأت يداه يدي وشرّد جوده

بخلي، فأفقرني كما أغناني

حتى لقد أفضلت من إفضاله

ورأيت نهج الجود حيث أراني

ووثقت بالخلف الجميل معجّلا

منه، فأعطيت الّذي أعطاني

ومن هذا قول الآخر:

رأيت الندى في آل عوف خليقة

إذا كان في قوم سواهم تخلّقا

ولو جزت في أبياتهم(٢) لتعلّمت

يداك النّدى منهم فأصبحت مملقا

ولابن الرومي:

يجود البخيل إذا ما رآك

ويسطو الجبان إذا عاينك

فأما قوله:

وأحواض عزّ حومة الموت دونها

وأحواض عرف ليس عنهنّ ذائد

فيشبه أن يكون إبراهيم بن العباس الصولي أخذه في قوله:

لنا إبل كوم يضيق بها الفضا

وتفترّ عنها أرضها وسماؤها(٣)

فمن دونها أن تستباح دماؤنا

ومن دوننا أن تستباح دماؤها

حمى وقرى فالموت دون مرامها

وأيسر خطب عند حقّ فناؤها

وقد أحسن إبراهيم بن العباس في أبياته كل الإحسان.

فأما قوله:

يكون غرارا نومه من حذاره

على قبّة الإسلام والخلق راقد

فكثير متداول، ومن حسنه قول محمد بن عبد الملك الزيات:

____________________

(١) ديوانه ٢: ٢٧٢.

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (في أثنائهم).

(٣) ديوانه: ١٥٣، والأغاني ١٠: ٥٩ (طبع دار الكتب المصرية). الكوم: الإبل الضخمة العظيمة السنام؛ الواحد أكوم والأنثى كوماء.

٥٥٢

نعم الخليفة للرّعيّة من إذا

رقدت وطاب لها الكرى لم يرقد

ومثله:

ويظلّ يحفظنا ونحن بغفلة

ويبيت يكلؤنا ونحن نيام

ومثله للبحتري:

أربيعة الفرس اشكري يد منعم

وهب الإساءة للمسيء الجاني(١)

روّعتموا جاراته فبعثتمو

منه حميّة آنف غيران

لم تكر عن قاصي الرّعية عينه

فتنام عن وتر القريب الدّاني

فأما قوله:

كأن أمير المؤمنين محمدا

لرأفته بالناس للناس والد

فنظير قول بعض الشعراء في يحيى بن خالد البرمكي:

أحيا لنا يحيى فعال خالد

فأصبح اليوم كثير الحامد

يسخو بكلّ طارف وتالد

على بعيد غائب وشاهد

الناس في إحسانه كواحد

وهو لهم أجمعهم كالوالد

ومن جيد قول مروان من قصيدة أوّلها:

خلت بعدنا من آل ليلى المصانع

وهاجت لنا الشّوق الدّيار البلاقع

يقول فيها:

ومالي إلى المهدي لو كنت مذنبا

سوى حلمه الضّافي على النّاس شافع

ولا هو عند السّخط منه ولا الرّضا

بغير التي يرضى بها الله واقع(٢)

تغضّ له الطّرف العيون وطرفه

على غيره من خشية الله خاشع

____________________

(١) ديوانه ٢: ٢٧٢. وفي حاشية الأصل: (ربيعة رجل ورث أباه دوابه، فقيل له ربيعة الفرس؛ وسميت القبيلة باسم ربيعة وهي التي تذكر مع مضر).

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (ولا هو) وفيها (من نسخة): (قانع).

٥٥٣

أما قوله:

* ولا هو عند السخط منه ولا الرّضا* البيت

فمثل قول أشجع:

ولست بخائف لأبي عليّ

ومن خاف الإله فلن يخافا

ومثله:

أمّنني منه ومن خوفه

خيفته من خشية الباري

ولأبي نواس:

قد كنت خفتك ثمّ أمّنني

من أن أخافك خوفك الله(١)

ويشبه هذا المعنى ما روي عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه وآله أنه دعا غلاما مرارا فلم يجبه، فخرج فوجده على الباب(٢) فقال له: ما حملك على ترك إجابتي؟ قال: كسلت عن إجابتك، وأمنت عقوبتك، فقال:عليه‌السلام : الحمد للّه الّذي جعلني ممن يأمنه خلقه.

فأما قوله: (تغضّ له الطرف العيون) فيشبه أن يكون مأخوذا من قول الفرزدق، أو ممّن تنسب إليه هذه الأبيات:

يغضي حياء ويغضى من مهابته

فما يكلّم إلاّ حين يبتسم(٣)

____________________

(١) ديوانه ١٠٩؛ من أبيات بعث بها إلى الفضل بن الربيع.

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (على باب البيت).

(٣) ينسب هذا البيت مع غيره أيضا للحزين الكناني؛ وانظر ما مر من حواشي ص ٦٨.

٥٥٤

[٤٠]

مجلس آخر [المجلس الأربعون:]

تأويل آية:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ) ؛ [الأنفال: ٢٤].

فقال: ما معنى الحول بين المرء وقلبه؟ وهل يصحّ ما تأوّله قوم من أنّه يحول بين الكافر وبين الإيمان؟ وما معنى قوله:( لِما يُحْيِيكُمْ ) ؟ وكيف تكون الحياة في إجابته؟

الجواب، قلنا: أما قوله تعالى:( يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ) ففيه وجوه:

أوّلها أن يريد بذلك أنّه تعالى يحول بين المرء وبين الانتفاع بقلبه بالموت، وهذا حثّ من الله عز وجل على الطاعات والمبادرة بها قبل الفوت وانقطاع التّكليف، وتعذّر ما يسوّف به المكلّف نفسه من التوبة والإقلاع؛ فكأنه تعالى قال: بادروا إلى الاستجابة للّه وللرسول من قبل أن يأتيكم الموت فيحول بينكم وبين الانتفاع بنفوسكم وقلوبكم، ويتعذر عليكم ما تسوّفون به(١) نفوسكم من التوبة بقلوبكم. ويقوّي ذلك قوله تعالى:( وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) (٢) .

وثانيها أن يحول بين المرء وقلبه بإزالة عقله وإبطال تمييزه، وإن كان حيّا، وقد يقال لمن فقد عقله وسلب تمييزه: إنّه بغير عقل(٣) ؛ قال الله تعالى:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ ) ؛ [ق: ٣٧].

وقال الشاعر:

ولي ألف وجه قد عرفت مكانه

ولكن بلا قلب إلى أين أذهب!

وهذا الوجه يقرب من الأوّل؛ لأنه تعالى أخرج هذا الكلام مخرج الإنذار لهم،

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة) (فيه).

(٢) بقية الآية السابقة

(٣) حاشية الأصل (من نسخة): (بغير قلب).

٥٥٥

والحث لهم(١) على الطاعات قبل فوتها، لأنه لا فرق بين تعذّر التوبة وانقطاع التكليف بالموت وبين تعذّرها بإزالة العقل.

وثالثها أن يكون المعنى المبالغة في الإخبار عن قربه من عباده وعلمه بما يبطنون ويخفون؛ وأنّ الضمائر المكنونة(٢) له ظاهرة، والخفايا المستورة لعلمه بادية؛ ويجري ذلك مجرى قوله تعالى:

( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) ؛ [ق: ١٦]، ونحن نعلم أنه لم تعالى يرد بذلك قرب المسافة، بل المعنى الّذي ذكرناه.

وإذا كان عزّ وجل هو أعلم بما في قلوبنا منّا، وكان ما نعلمه أيضا يجوز أن ننساه، ونسهو عنه، ونضلّ عن علمه - وكل ذلك لا يجوز عليه - جاز أن يقول: إنه يحول بيننا وبين قلوبنا؛ لأنه معلوم في الشاهد أن كل شيء يحول بين شيئين فهو أقرب إليهما.

ولما أراد تعالى المبالغة في وصف القرب خاطبنا بما نعرف ونألف؛ وإن كان القرب الّذي عناه جلّت عظمته لم يرد به المسافة، والعرب تضع كثيرا لفظة القرب على غير معنى المسافة؛ فيقولون: فلان أقرب إلى قلبي من فلان، وزيد مني قريب، وعمرو منّي بعيد؛ ولا يريدون المسافة.

ورابعها - ما أجاب به بعضهم - من أنّ المؤمنين كانوا يفكّرون في كثرة عدوّهم، وقلة عددهم، فيدخل قلوبهم الخوف، فأعلمهم تعالى أنه يحول بين المرء وقلبه، بأن يبدّله بالخوف الأمن؛ ويبدّل عدوّهم - بظنهم أنهم قادرون عليهم وغالبون لهم - الجبن والخور.

ويمكن في الآية وجه خامس؛ وهو أن يكون المراد أنه تعالى يحول بين المرء وبين ما يدعوه إليه قلبه من القبائح؛ بالأمر والنهي والوعد والوعيد؛ لأنا نعلم أنه تعالى لو لم يكلف العاقل مع ما فيه من الشهوات والنفار لم يكن له عن القبيح مانع؛ ولا عن مواقعته رادع؛ فكأنّ التكليف حائل بينه وبينه؛ من حيث زجر عن فعله، وصرف عن مواقعته؛

____________________

(١) ساقطة من ف.

(٢) حاشية ف (من نسخة): (المكنومة).

٥٥٦

وليس يجب في الحائل أن يكون في كل موضع مما يمتنع معه الفعل؛ لأنا نعلم أن المشير منّا على غيره في أمر كان قد همّ به وعزم على فعله أن يجتنبه. والمنبّه له على أنّ الحظ في الانصراف عنه يصح أن يقال: منعه(١) ، وحال بينه وبين فعله، قال عبيد الله بن قيس الرقيات(٢) :

حال دون الهوى ودو

ن سري اللّيل مصعب

وسياط على أكـ

ـفّ رجال تقلّب

ونحن نعلم أنه لم يحل إلاّ بالتخويف والترهيب دون غيرهما.

فإن قيل: كيف يطابق هذا الوجه صدر الآية؟

قلنا: وجه المطابقة ظاهر، لأنه تعالى أمرهم بالاستجابة للّه تعالى ولرسوله فيما يدعوان إليه من فعل الطاعات، والامتناع من المقبّحات، وأعلمهم أنه بهذا الدعاء والإنذار وما يجري(٣) مجراهما يحول بين المرء وبين ما تدعوه إليه نفسه من المعاصي؛ ثم إن المآب بعد هذا كلّه إليه والمنقلب إلى ما عنده؛ فيجازي كلاّ باستحقاقه.

فأما قوله تعالى:( إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ ) ففيه وجوه:

أوّلها أن يريد بذلك الحياة في النعيم(٤) والثواب، لأنّ تلك هي الحياة الطيبة الدائمة التي يؤمن من تغيّرها، ولا يخاف انتقالها، فكأنه تعالى حث على إجابته التي تكسب هذه الحال.

وثانيها أنّه يختص(٥) ذلك بالدعاء إلى الجهاد وقتال العدوّ، فكأنه تعالى أمرهم بالاستجابة للرسولعليه‌السلام فيما يأمرهم به من قتال عدوّهم(٦) ؛ ودفعهم عن حوزة الإسلام

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (منعه منه).

(٢) حاشية الأصل: (كان جده شاعرا يشبب بجماعة من النساء، اسم كل واحدة منهن رقية؛ فأضيف إليهن).

(٣) حاشية ف (من نسخة): (وما جرى).

(٤) حاشية ف (من نسخة): (النعم).

(٥) ش: (أن يختص).

(٦) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف (الأعداء).

٥٥٧

وأعلمهم أنّ ذلك يحييهم من حيث كان فيه قهر للمشركين، وتقليل لعددهم، وفلّ لحدّهم؛ وحسم لأطماعهم، لأنهم متى كثروا وقووا استلانوا جانب المؤمنين؛ وأقدموا عليهم بالقتل وصنوف المكاره؛ فمن هاهنا كانت الاستجابة لهعليه‌السلام في القتال تقتضي الحياة والبقاء؛ ويجري ذلك مجرى قوله تعالى:( وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ) ؛ [البقرة: ١٧٩].

وثالثها ما قاله قوم من أنّ كلّ طاعة حياة، ويوصف فاعلها بأنه حي، كما أن المعاصي يوصف فاعلها بأنه ميت، والوجه في ذلك أنّ الطائع لما كان(١) منتفعا بحياته، وكانت تؤديه إلى الثواب الدائم قيل: إن الطاعة حياة؛ ولما كان الكافر العاصي لا ينتفع بحياته؛ من حيث كان مصيره إلى العقاب الدائم كان في حكم الميّت؛ ولهذا يقال لمن كان منغّص(٢) الحياة، غير منتفع بها: فلان بلا عيش ولا حياة، وما جرى مجرى ذلك من حيث لم ينتفع بحياته.

ويمكن في الآية وجه آخر، وهو أن يكون المراد بالكلام الحياة بالحكم لا في الفعل؛ لأنا قد علمنا أنهعليه‌السلام كان مكلّفا مأمورا بجهاد جميع المشركين المخالفين لملته وقتلهم، وإن كان فيما بعد كلّف ذلك فيمن عدا أهل الذمة على شرطها؛ فكأنه تعالى قال: استجيبوا للرسول ولا تخالفوه، فإنكم إذا خالفتم كنتم في الحكم غير أحياء، من حيث تعبّدعليه‌السلام بقتالكم وقتلكم، فإذا أطعتم كنتم في الحكم أحياء؛ ويجري ذلك مجرى قوله تعالى:

( وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ) ؛ [آل عمران: ٩٧]؛ وإنما أراد تعالى أنه يجب أن يكون آمنا؛ وهذا(٣) حكمه، ولم يخبر بأن ذلك لا محالة واقع.

فأما المجبرة فلا شبهة لهم في الآية، ولا متعلّق بها؛ لأنه تعالى لم يقل: إنه يحول بين المرء وبين الإيمان، بل ظاهر الآية يقتضي أنّه يحول بينه وبين أفعاله، وإنما يقتضي ظاهرها أنه يحول بينه وبين قلبه؛ وليس للإيمان ولا للكفر ذكر، ولو كان للآية ظاهر يقتضي

____________________

(١) ش: (إذا كان).

(٢) حاشية ف (من نسخة): (متكدر).

(٣) حاشية ف (من نسخة): (وهكذا حكمه).

٥٥٨

ما ظنوه - وليس لها ذلك - لانصرفنا عنه بأدلة العقل الموجبة أنه تعالى لا يحول بين المرء وبين ما أمره به، وأراده منه، وكلّفه فعله؛ لأن ذلك قبيح، والقبائح عنه منفيّة.

***

[خبر حصن بن حذيفة مع أولاده حين طعنه كرز بن عامر:]

أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني قال حدثني أحمد بن محمد الجوهري قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا أحمد بن عمرو بن إسماعيل بن عبد العزيز بن عبد الرحمن ابن عوف قال حدثني محمد بن خالد(١) بن عبد الله عن الحجاج السّلمي قال: لما اشتد بحصن ابن حذيفة بن بدر وجعه من طعنة كرز(٢) بن عامر إياه يوم بني عقيل دعا ولده فقال:

إن الموت أهون مما أجد، فأيّكم يطيعني؟ قالوا: كلنا نطيعك؛ فبدأ بأكبرهم فقال: قم فخذ سيفي واطعن به حيث آمرك، ولا تعجّل؛ قال: ياأبتاه: أيقتل المرء(٣) أباه! فأتى على القوم كلّهم، فأجابوه جواب(٤) الأول؛ حتى انتهى إلى عيينة فقال: ياأبتاه، أليس لك فيما تأمرني به راحة، ولي بذلك طاعة؛ وهو هواك؟ قال: بلى، قال: فمرني كيف أصنع، قال:

قم فخذ سيفي فضعه حيث آمرك(٥) ، ولا تعجّل، فقام فأخذ سيفه، ووضعه على قلبه، ثم قال: ياأبتاه، كيف أصنع؟ قال: ألق السيف؛ إنما أردت أن أعلم: أيّكم أمضى لما آمر به؛ فأنت خليفتي ورئيس قومك من بعدي، فقال القوم: إنه(٦) سيقول فيما كان بيتا، فاحضروه(٦) فلما أمسى قال:

ولّوا عيينة من بعدي أموركم

واستيقنوا أنه بعدي لكم حام

إما هلكت فإني قد بنيت لكم

عزّ الحياة بما قدّمت قدّامي

واستوسقوا للتى فيها مروءتكم

قود الجياد، وضرب القوم في إلهام(٧)

____________________

(١) ش: (عمر بن خالد).

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (كريز).

(٣) ش: (الرجل).

(٤) ف: (بجواب الأول). حاشية الأصل (من نسخة): (الجواب الأول).

(٥) حاشية الأصل (من نسخة): (كما أمرت به).

(٦ - ٦) م: (إنه سيقول في ذلك شيئا فيما بيننا، فأحضروه).

(٧) استوسقوا: انضموا واجتمعوا، وفي حاشية الأصل: (نصب (قود الجياد)، على تقدير فعل مضمر؛ كأنه قال: أعني قود الجياد).

٥٥٩

والقرب من قومكم - والقرب ينفعكم -

والبعد إن باعدوا، والرّمي للرّامي

ولى حذيفة إذ ولى وخلّفني

يوم الهباة يتيما وسط أيتام

لا أرفع الطّرف ذلاّ عند مهلكة

ألقى العدوّ بوجه خدّه دامي

حتّى اعتقدت لوا قومي فقمت به

ثمّ ارتحلت إلى الجفني بالشام

لما قضى ما قضى من حقّ زائره

عجت المطي إلى النّعمان من عامي

أسمو لما كانت الآباء تطلبه

عند الملوك فطرفي عندهم سامي

والدّهر آخره شبه لأوّله

قوم كقوم وأيّام كأيّام

فابنوا ولا تهدموا فالنّاس كلّهم

من بين بان إلى العليا وهدّام

قال: ثم أصبح ودعا بني بدر، فقال: لوائي ورئاستي لعيينة؛ واسمعوا مني ما أوصيكم به:

لا يتكل آخركم على أولكم؛ فإنما يدرك الآخر(١) ما أدركه الأول؛ وأنكحوا الكف ء(٢) الغريب؛ فإنه عزّ حادث؛ وإذا حضركم أمران فخذوا بخيرهما صدرا؛ فإن كلّ مورد معروف؛ واصحبوا قومكم بأجمل أخلاقكم؛ ولا تخالفوا فيما اجتمعوا عليه؛ فإن الخلاف يزري بالرئيس المطاع؛ وإذا حاربتم فأوقعوا ثم قولوا صدقا؛ فإنه لا خير في الكذب، وصونوا الخيول، فإنها حصون الرجال؛ وأطيلوا الرماح؛ فإنها قرون الخيل؛ وأعزوا(٣) الكبير بالكبير؛ فإني بذلك كنت أغلب الناس، ولا تغزوا إلاّ بالعيون؛ ولا تسرحوا حتى تأمنوا الصباح؛ وأعطوا على حسب المال، وأعجلوا الضيف بالقرى؛ فإن خيره أعجله، واتقوا فضحات البغي، وفلتات المزاح، ولا تجترءوا على الملوك؛ فإن أيديهم أطول من أيديكم؛ واقتلوا كرز بن عامر.

ومات حصن فأخذ عيينة الرّئاسة، وقال:

أطعت أبا عيينة في هواه

فلم تخلج صريمتي الظّنون(٤)

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (الأخير).

(٢) ف، وحاشية الأصل (من نسخة): (الكفي).

(٣) س: (واغزو).

(٤) الصريمة: العزيمة والرأى. وفي حاشية الأصل: (يقال: اختلجته الظنون وتخالجته وخلجته، أي ظن، والشاعر يقول: لم تأخذني الظنون مآخذها إلى طعنه، ولم أظن ظنا).

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639