بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٤

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 639

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤
  • البداية
  • السابق
  • 639 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 247468 / تحميل: 8637
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

و قال آخر :

لعمرك ما المكروه إلاّ ارتقابه

و أعظم ممّا حلّ ما يتوقع(١)

أيضا :

صعوبة الرزء تلقى في توقعه

مستقبلا و انقضاء الرزء أن يقعا(٢)

و كان يقال « توسط الخوف تأمن »(٣) .

و من الأمثال العامية : أم المقتول تنام و ام المهدّد لا تنام(٤) .

و كان يقال : كلّ أمر من خير أو شر فسماعه أعظم من عيانه(٥) .

١٠ الحكمة ( ١٧٦ ) و قالعليه‌السلام :

آلَةُ اَلرِّيَاسَةِ سَعَةُ اَلصَّدْرِ أقول : في ( الاستيعاب ) قال معاوية لخير بن أوس الطائي : من سيّدكم اليوم ؟ قال : من أعطى سائلنا ، و أغضى عن جاهلنا ، و اغتفر زلتنا(٦) .

و قيل للأحنف بن قيس : ممّن تعلمت الحلم ؟ قال : من قيس بن عاصم المنقري ، رأيته يوما قاعدا بفناء داره محتبيا بحمائل سيفه يحدث قومه ، إذ اتى برجل مكتوف و آخر مقتول فقيل له : هذا ابن أخيك قد قتل ابنك فو اللَّه ما حلّ حبوته و لا قطع كلامه ، فلمّا أتمّه التفت إلى ابن أخيه فقال : يا ابن أخي بئس ما

____________________

( ١ ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٨ : ٤٠٦ .

( ٢ ) المصدر نفسه .

( ٣ ) المصدر نفسه .

( ٤ ) المصدر نفسه .

( ٥ ) المصدر نفسه .

( ٦ ) لم يأت في الاستيعاب على ترجمة خير بن أوس الطائي و لم يذكر في ترجمة معاوية .

٤٤١

فعلت ، أثمت بربّك و قطعت رحمك و قتلت ابن عمك و رميت نفسك بسهمك ، ثم قال لابن له آخر : قم يا بنيّ فوار أخاك و حلّ كتاف ابن عمك و سق إلى امك مائة ناقة دية ابنها فإنّها غريبة .

و قال الحسن أي البصري لمّا حضرت قيس بن عاصم الوفاة دعا بنيه فقال : يا بنيّ احفظوا عنّي فلا أجد أنصح لكم مني ، إذا مت فسوّدوا كباركم و لا تسوّدوا صغاركم فيسفه الناس كباركم و تهونون عليهم ، و عليكم بإصلاح المال فإنّه منبهة للكريم و يستغنى به عن اللئيم ، و إيّاكم و مسألة الناس فإنّه أخزى كسب الرجل .

و قدم في وفد بني تميم على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلما رأه قال : هذا سيد أهل الوبر(١) .

و في ( كتب العامة ) : قيل سأل عليّعليه‌السلام يوما الحسنعليه‌السلام : يا بنيّ ما السداد ؟ فقال : دفع المنكر بالمعروف قال : فما الشرف ؟ قال : إصطناع العشيرة و الاحتمال للجريرة قال : فما السّماح ؟ قال : البذل في العسر و اليسر قال : فما اللّؤم ؟ قال : إحراز المرء ماله و بذل عرضه قال : فما الجبن ؟ قال : الجرأة على الصديق و النكول عن العدو قال : فما الغنى ؟ قال : رضى النفس بما قسم اللَّه لها و إن قلّ قال : فما الحلم ؟ قال : كظم الغيظ و ملك النفس قال : فما النعمة ؟ قال :

شدّة البأس و منازعة أعزّ الناس قال : فما الذلّ ؟ قال : الفزع عند الصدمة قال :

فما الكلفة ؟ قال : كلامك في ما لا يعنيك قال : فما المجد ؟ قال : أن تعطي في الغرم و تعفو في الجرم قال : فما السّفه ؟ قال : اتّباع الدّناءة و محبة الغواية قال :

فما الغفلة ؟ قال : ترك المسجد و طاعة المفسد قال : فما السّؤدد ؟ قال : إتيان

____________________

( ١ ) مرّ ذكره في الفصل التاسع و الخمسين ( في إبليس ) : ١٧٧ ١٧٨ من هذا الكتاب نقلا عن الاستيعاب في معرفة الأصحاب ٣ : ١٢٩٥ ، في ترجمة قيس بن عاصم رقم الترجمة ( ١٢٤٠ ) .

٤٤٢

الجميل و ترك القبيح(١) .

و في ( أخلاق الوزيرين ) قال أبو الأسود : لن تسود حتى تصبر على سرار الشيوخ البخر ، و قال الشاعر :

لا تحسب المجد تمرا أنت آكله

لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا(٢)

و قيل لعدي بن حاتم : من السيّد ؟ قال : الأحمق في ماله ، الذّليل في عرضه المطرح لحقده المعنيّ بأمر جماعته ، فليس يسود المرء إلاّ بعد أن يسهر من أول ليله إلى آخره فكرا في قضاء الحقوق و كفّ السفاه(٣) و ازدراع المحبّة في القلوب و بعث الألسنة على الشكر(٤) .

١١ الحكمة ( ٢١٧ ) و قالعليه‌السلام :

فِي تَقَلُّبِ اَلْأَحْوَالِ عِلْمُ جَوَاهِرِ اَلرِّجَالِ أقول : هو جزء خطبة الوسيلة رواه ( الروضة ) و بعده : و الأيام توضح لك السرائر الكامنة ، و ليس في البرق الخاطف مستمتع لمن يخوض في الظلمة ، و من عرف بالحكمة لحظته العيون بالوقار و الهيبة(٥) .

و قريب منه كلامهعليه‌السلام الآخر المذكور في الحكمة « ٤٤١ » من الباب « الولايات مضامير الرجال » ، و المراد منه أنّ في بعض الناس غرائز كامنة لا تظهر إلاّ بالحوادث المتجدّدة و الأحوال المختلفة ، لا ما قال ابن أبي الحديد : أنّه

____________________

( ١ ) حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني ٢ : ٣٦ .

( ٢ ) أخلاق الوزيرين للتوحيدي : ٩٢ .

( ٣ ) السفاه : السفه و الجهل .

( ٤ ) أخلاق الوزيرين للتوحيدي : ٩٢ .

( ٥ ) روضة الكافي : ٢٣ ح ٤ .

٤٤٣

لا تعلم أخلاق الناس إلاّ بالتجربة ثم ذكر أبياتا :

لا تحمدنّ امرأ حتى تجرّبه

و لا تذمنّه إلاّ بتجريب

و قديما قيل :

ترى الفتيان كالنخل

و ما يدريك ما الدخل

و قال الشاعر يمدح :

ما زال يحلب هذا الدهر أشطره

يكون متّبعا طورا و متّبعا

حتى استمرت على شزر مريرته

مستحكم الرأي لا قحما و لا ضرعا(١)

فإنّه كما ترى لا ربط بكلامهعليه‌السلام و بعيد عن مرامه .

و إنّما يناسب كلامهعليه‌السلام قول أمير العرب قرواش الحجازي :

للَّه در النائبات فإنّها

صدأ اللئام و صيقل الأحرار

ما كنت إلاّ زبرة فطبعنني

سيفا و أطلق صرفهن غراري(٢)

و في ( الأغاني ) : دخل عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب ملاعب الأسنة و إخوته طفيل و معاوية و عبيدة و معهم لبيد و هو غلام على النعمان بن المنذر ، فوجدوا عنده الربيع بن زياد العبسي و كان إذا خلا بالنعمان طعن فيهم فصدّه عنهم فدخلوا عليه يوما فرأوا منه جفاء و كان يكرمهم قبل ذلك ، فخرجوا من عنده غضابا و لبيد في رحالهم يحفظ أمتعتهم و يغدو بإبلهم كلّ صباح فيرعاها فإذا أمسى انصرف بإبلهم ، فأتاهم ذات ليلة فألفاهم يتذاكرون أمر الربيع و ما يلقون منه ، فسألهم فكتموه فقال لهم : و اللَّه لا أحفظ لكم متاعا و لا أرعى لكم بعيرا أو تخبروني و كانت ام لبيد يتيمة من عبس في حجر الربيع فقالوا : خالك غلبنا على الملك و صدّ عنا وجهه فقال لهم : هل تقدرون

____________________

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١٩ : ٣٨ ، في شرح الحكمة ( ٢١٣ ) .

( ٢ ) وفيات الأعيان لابن خلّكان ٥ : ٢٦٤ .

٤٤٤

أن تجمعوا بيني و بينه فأزجره عنكم بقول ممضّ لا يلتفت النعمان إليه أبدا .

قالوا : و هل عندك من ذلك شي‏ء ؟ قال : نعم قالوا : فإنّا نبلوك بشتم هذه البقلة لبقلة قدامهم دقيقة القضبان قليلة الورق لا صقة فروعها بالأرض تدعى التربة فقال : هذه التربة التي لا تذكي نارا و لا تؤهل دارا و لا تسرّ جارا ، عودها ضئيل و فرعها كليل و خيرها قليل ، بلدها شاسع و نبتها خاشع و آكلها جائع و المقيم عليها ضائع ، أقصر البقول فرعا و أخبثها مرعى و أشدها قلعا ، فتعسا لها و جدعا ، القوابي أخا بني عبس ارجعه عنكم بتعس و نكس و أتركه من أمره في لبس .

فقالوا : نصبح و نرى فيك رأينا فقال لهم عامر : ارعوا غلامكم فإن رأيتموه نائما فليس أمره بشي‏ء و إنّما يتكلّم بما جاء على لسانه ، و إذا رأيتموه ساهرا فهو صاحبكم ، فرمقوه بأبصارهم فوجدوه قد ركب رحلا و هو يكدم بأوسطه حتى أصبح ، فقالوا له : أنت و اللَّه صاحبنا فحلقوا رأسه و تركوا له ذؤابتين و ألبسوه حلّة ثم غدوا به معهم على النعمان فوجدوه يتغدّى مع الربيع ، و الدّار مملوة من الوفود ، فلما فرغ من الغداء أذن لهم فدخلوا عليه و ذكروا له حاجتهم فاعترض الربيع في كلامهم فقام لبيد يرتجز و يقول :

يا ربّ هيجا هي خير من دعه

أكلّ يوم هامتي مقزّعه

نحن بنو امّ البنين الأربعة

و من خيار عامر بن صعصعه

المطعمون الجفنة المذعذعه

و الضاربون الهام تحت الخيضعه

يا واهب الخير الكثير من سعه

إليك جاوزنا بلادا مسبعه

مخبرا(١) عن هذا خبيرا(٢) فاسمعه

مهلا أبيت اللّعن لا تأكلّ معه

____________________

( ١ ) نسخة التحقيق يخبر ، بدلا من خبرا .

( ٢ ) نسخة التحقيق خبير ، بدلا من خبيرا .

٤٤٥

إنّ استه من برص ملمّعه

و إنه يدخل فيها إصبعه

يدخلها حتى يواري أشجعه

كأنّما يطلب شيئا أطمعه

فالتفت النعمان إلى الربيع شزرا يرمقه فقال : أكذا أنت ؟ قال : لا و اللَّه لقد كذب عليّ فقال النعمان : افّ لهذا الغلام لقد خبث عليّ طعامي ، فأمر النعمان الربيع بالانصراف إلى أهله ، فقال الربيع : إني قد تخوّفت أن يكون قد وقر في صدرك ما قاله لبيد ، و لست برائم حتى تبعث من يجردني فيعلم من حضرك من الناس أنّي لست كما قال ، فأرسل إليه : إنّك لست صانعا بانتفائك ممّا قال لبيد شيئا و لا قادرا على ما زلّت به الألسن فالحق بأهلك(١) .

١٢ الحكمة ( ٢١٣ ) و قالعليه‌السلام :

أَغْضِ عَلَى اَلْقَذَى وَ اَلْأَلَمِ تَرْضَ أَبَداً أقول : قال الجوهري : الإغضاء إدناء الجفون ، و القذى ما يسقط في الشراب و في العين(٢) ، و قال بشار :

إذا كنت في كلّ الأمور معاتبا

صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه

فعش واحدا أو صل أخاك فإنّه

مقارف ذنب مرة و مجانبه

إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى

ظمئت و أي الناس تصفوا مشاربه(٣)

و في ( الأغاني ) قال محمد بن الحجّاج : قلت لبشار : إنّي أنشد قولك :

إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى

ضمئت و أيّ النسا تصفو مشاربه

____________________

( ١ ) الأغاني للأصفهاني ١٧ : ١٨٣ ١٨٦ .

( ٢ ) الصحاح للجوهري ٦ : ٢٤٦٠ مادة ( قذى ) .

( ٣ ) ديوان بشار بن برد ١ : ٣٠٩ .

٤٤٦

لفلان ، فقال ما أظنه إلاّ لرجل كبير ، فقال بشّار : ويلك أفلا قلت له : هو لأكبر الجن و الانس(١) .

و قال ابن أبي الحديد : قال شاعر :

و من لم يغمّض عينه عن صديقه

و عن بعض ما فيه يمت و هو عاتب

و من يتتبّع جاهدا كلّ عثرة

يجدها و لا يسلم له الدهر صاحب(٢)

١٣ الحكمة ( ١٩٦ ) و قالعليه‌السلام :

لَمْ يَذْهَبْ مِنْ مَالِكَ مَا وَعَظَكَ أقول : و في وصيتهعليه‌السلام إلى ابنه : « و خير ما جرّبت ما وعظك »(٣) و قال ابن جبلة :

و أرى الليالي ما طوت من قوّتي

ردّته في عظتي و في إفهامي(٤)

هذا ، و في ( العيون ) دخل رجل على زياد فقال له : إنّ أبينا قد هلك ، و إنّ أخينا غصبنا ميراثنا من أبانا فقال له زياد : ما ضيّعت من نفسك أكثر ممّا ضاع من مالك(٥) .

____________________

( ١ ) الأغاني للأصفهاني ٣ : ١٥٤ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ١٩ : ٣٤ .

( ٣ ) من وصيته لولده الحسن برقم ٣١ .

( ٤ ) عيون الأخبار لابن قتيبة ٣ : ٨٩ .

( ٥ ) عيون الأخبار لابن قتيبة ٢ : ١٥٨ ، و ذكره الجاحظ في البيان و التبيين ٢ : ١١٥ بلفظ : « الذي أضعت من لسانك أضرّ عليك ممّا أضعت من مالك » .

٤٤٧

١٤ الحكمة ( ٢١٤ ) و قالعليه‌السلام :

مَنْ لاَنَ عُودُهُ كَثُفَتْ أَغْصَانُهُ أقول : هو نظير قولهعليه‌السلام المذكور في ( ١٢٢ ) « و من تلن حاشيته يستدم من قومه المودة » .

و قال ابن أبي الحديد : يكاد أن يكون كلامهعليه‌السلام إيماء إلى قوله تعالى :

و البَلَدُ الطيّبُ يَخرُج نَباتُه بإذن ربِّه(١) .

قلت : الآية من حيث استعداد التراب و جنسه ، و كلامهعليه‌السلام من حيث طبيعة الشجرة و جنسها .

١٥ الحكمة ( ٢٢٠ ) و قالعليه‌السلام :

لَيْسَ مِنَ اَلْعَدْلِ اَلْقَضَاءُ عَلَى اَلثِّقَةِ بِالظَّنِّ أقول : قال ابن أبي الحديد : الثقة هنا مرادف العلم ، فكأنّه قالعليه‌السلام لا يجوز أن يزال ما علم بطريق قطعية لأمر ظنّيّ(٢) .

و قال ابن ميثم : المعنى من كان عندك ثقة معروفا بالأمانة فحكمك عليه بالخيانة عن ظن خروج عن العدل(٣) .

قلت : هما جعلا قوله : « بالظن » متعلقا بقوله : « القضاء » بتقديم و تأخير في

____________________

( ١ ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٩ : ٣٥ و الآية ٥٨ من سورة الأعراف .

( ٢ ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٩ : ٤٢ .

( ٣ ) شرح ابن ميثم ، شرح نهج البلاغة ٥ : ٣٥٤ .

٤٤٨

الكلام ، و الأصل « القضاء بالظن على الثقة » .

و يمكن أن يكون الكلام على أصله ، بأن يكون « بالظن » متعلقا بقوله « على الثقة » فيصير المعنى قضاؤك على وثوقك بظنّك كما هو شأن كثير من الناس ليس من العدل و الحق ، و قد قال تعالى :( و ما يتّبعُ أَكثرهم إِلاّ ظنّاً إِنّ الظنّ لا يُغني من الحقِ شيئاً إِن اللَّه عليم بما يفعلُون ) (١) ( إِن الَّذينَ لا يؤمنون بالأَخرة ليسمُّون الملائكة تسميةَ الاُنثى و ما لهم به من علمٍ إِن يتبعُون إِلاّ الظنَّ و إِنّ الظنَّ لا يُغني من الحق شيئاً ) (٢) .

هذا و قال البحتري :

و ما هو غير خوض الشك ترمي

إليه حيث لا تجد اليقينا(٣)

١٦ الحكمة ( ٢٦٣ ) و قالعليه‌السلام :

صَاحِبُ اَلسُّلْطَانِ كَرَاكِبِ اَلْأَسَدِ يُغْبَطُ بِمَوْقِعِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَوْضِعِهِ أقول : أخذه ابن المقفع مع تصرّف في لفظه فقال : مثل صاحب السلطان مثل راكب الأسد يهابه الناس و هو لمركبه أهيب(٤) .

و من ( فصول ابن المعتز ) : أشقى الناس بالسلطان صاحبه ، كما أنّ

____________________

( ١ ) يونس : ٣٦ .

( ٢ ) النجم : ٢٧ ٢٨ .

( ٣ ) ديوان البحتري ٢ : ١٠٦ .

( ٤ ) لفظ ابن المقفع كما جاء في الأدب الصغير و الكبير أما النصّ الذي أورده العلاّمة التستري فهو الذي أورده ابن قتيبة في عيون الأخبار ١ : ٢٠ و قد نقله العلاّمة دون ان يشير إلى الواسطة : « و إنّما أنت في ذلك كراكب الأسد الذي يهابه من نظر إليه ، و هو لمركبه أهيب » .

٤٤٩

أقرب الأشياء إلى النّار أشدّ احتراقا(١) .

و قال بعض الحكماء : إيّاك و السلطان فإنّه يغضب غضب الصبيّ و يأخذ أخذ السبع .

أيضا : خاطر من ولج البحر ، و أشدّ مخاطرة منه خادم السلطان(٢) .

أيضا : إن الملوك إذا خدمتهم ملّوك و إن لم تخدمهم أذلّوك ، و إنّهم يستعظمون في الثواب رد الجواب ، و يستقلون في العقاب ضرب الرقاب ، و إنهم ليعثرون على العثرة من خدمهم فيبنون لهم منارا ثم يوقدون نارا و يعتقدونها ثارا .

أيضا : كن مكانك من الملوك مكانك من الشمس ، إنّها لتؤذيك و السماء لها مدار و الأرض لك دار ، فكيف لو أسفت لك قليلا و تدانت يسيرا ، و إنّ العاقل ليطلب منها مزيد بعد فيتخذ سربا لواذا منها و هربا ، و يبتغي في الأرض نفقا فرارا منها و فرقا(٣) .

و في ( البيان ) : كان ابن عمّار الطائي خطيب مذحج كلّها ، فبلغ النعمان بن المنذر حسن حديثه فحمله على منادمته و كان النعمان أحمر العينين أحمر الجلد أحمر الشعر ، و كان شديد العربدة قتّالا للندماء فنهاه أبو قردودة الطائي عن منادمته فلم يسمع منه ، فصار نديما للنعمان فقتله فقال أبو قردودة :

إنّي نهيت ابن عمّار و قلت له

لا تأمنن أحمر العينين و الشعره

إنّ الملوك متى تنزل بساحتهم

تطر بنارك من نيرانهم شرره

____________________

( ١ ) لم نعثر على النصّ في كتاب فصول التماثيل لابن المعتز ، و قد وقع ذلك سهوا من العلاّمة أو ممّن نقل عنه فالنصّ موجود في رسائل ابن المتز : ٦٧ .

( ٢ ) ذكر النويري في نهاية الارب ٦ : ١٥٠ .

( ٣ ) نهاية الأرب ٦ : ١٥٠ .

٤٥٠

يا جفنة كأزاء الحوض قد هدموا

و منطقا مثل و شي‏ء اليمنة الحبره(١)

و في ( الأغاني ) : كان علوية يغنّي بين يدي الأمين ، فغنّى في بعض غنائه :

ليت هندا أنجزتنا ما تعد

و شفت أنفسنا ممّا تجد(٢)

و كان الفضل بن الربيع يطعن عليه فقال للأمين إنّما يعرّض بك و يستبطى‏ء المأمون في محاربته ، فأمر به فضرب خمسين سوطا و جرّ برجله و جفاه مدّة حتى ألقى نفسه على كوثر فترضّاه له و ردّه إلى خدمته ، فلمّا قدم المأمون تقرّب علوية إليه بذلك فلم يقع له بحيث يحب و قال له المأمون : إن الملك بمنزلة الأسد أو النار فلا تتعرّض لمّا يغضبه فإنّه ربما جرى منه ما يتلفك ثم لا تقدر بعد على تلافي ما فرط منك و لم يعطه شيئا(٣) .

قلت : لم يقع له من المأمون ، لأنّ إنشاد البيت في مجلس الأمين لا يناسب ما قاله الفضل عنادا و قبله الأمين سفها و حمقا .

و من حمقه الذي نظير ذلك ما عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال :

دخلت على الأمين فرأيته مغضبا ، فقلت له : ما للخليفة تم اللَّه سروره ؟ قال :

غاظني أبوك الساعة لا رحمه اللَّه ، و اللَّه لو كان حيّا لضربته خمسمائة سوط و لولاك انبشت الساعة قبره و أحرقت عظامه فقمت على رجلي و قلت : و من أبي و ما مقداره حتى تغتاظ منه و ما الذي غاظك فلعلّ فيه عذرا ؟ فقال : شدّة محبته للمأمون و تقديمه إيّاه عليّ حتى قال في الرشيد شعرا قدّمه عليّ و غنّاه فيه و غنّيته الساعة فأورثني هذا الغيظ فقلت : و اللَّه ما سمعت بهذا قطّ و لا لأبي غناء إلاّ و أنا أرويه ، ما هو ؟ فقال قوله :

____________________

( ١ ) البيان و التبيين للجاحظ ١ : ٣٤٩ .

( ٢ ) ديوان عمر بن أبي ربيعة : ٣٢٠ ، مرّ في الصفحة ١٨٤ .

( ٣ ) الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ٥ : ١٩٩ .

٤٥١

أبو المأمون فينا و الأمين

له كنفان من كرم و لين

فقلت له : لم يقدم المأمون في الشعر لتقديمه إيّاه في الموالاة و لكن الشعر لم يصح وزنه إلاّ هكذا فقال : كان ينبغي له إذا لم يصح الشعر إلاّ هكذا أن يدعه إلى لعنة اللَّه ، فلم أزل اداريه و أرفق به حتى سكن ، فلمّا قدم المأمون سألني عن هذا الحديث فحدثته به فجعل يعجب و يضحك منه(١) .

و قيل : من تحسّى مرقة السلطان احترقت شفتاه و لو بعد حين .

و كان إبراهيم بن العباس يقول : أصحاب السلطان كقوم رقوا جبلا ثم وقعوا منه ، فكان أقربهم إلى الردى أبعدهم في المرقى(٢) .

و كان إبراهيم بن المدبر(٣) إذا عرضت عليه الوزارة أنشد قول العتابي في هارون و البرامكة :

تلوم على ترك الغنى باهليّة

لوى الدهر عنها كلّ طرف و تالد

رأت حولها النسوان يرفلن كالدمى

مقلّدة أجيادها بالقلائد

فقلت لها لمّا رأيت دموعها

يحدّرن فوق الخدّ مثل الفرائد

أسرّك أنّي نلت ما نال جعفر

من المال أو ما نال يحيى بن خالد

و ان أمير المؤمنين أعضّني

معضّهما بالمرهفات البوارد

ذريني تجئني منيتي مطمئنّة

و لم أتجشّم هول تلك الموارد

فإنّ عليّات الأمور مشوبة

بمستودعات في بطون الأساود(٤)

و قال البستي :

____________________

( ١ ) أبو الفرج الاصفهاني ، الأغاني ١١ : ٣٤٠ .

( ٢ ) ربيع الأبرار للزمخشري ٥ : ٢١٥ .

( ٣ ) معجم الأدباء لياقوت الحموي ١ : ٢٢٦ ، يلاحظ لم يوجد هامش لإبراهيم في ملزمة الهامش إلاّ انه أشار المستخرج في حاشية الأصل ١٩٧ إليه .

( ٤ ) ذكرها باختلاف ابن عبد ربه في العقد الفريد ٣ : ٢٠٥ ٢٠٦ .

٤٥٢

حرّضوني على وزارة بست

و رأوها من أعظم الدرجات

قلت لا أشتهي وزارة بست

إنّني لم أملّ بعد حياتي(١)

و قالوا : أوّل من وقع عليه اسم الوزارة في دولة بني العباس أبو سلمة الخلاّل ، كان يقال له : وزير آل محمّد ، فقتله أبو مسلمة غيلة في زمن السفاح ، فقال بعضهم :

إنّ الوزير وزير آل محمد

أودى فمن يشناك كان وزيرا(٢)

و قتل من الوزراء أبو أيوب المورياني(٣) و أبو مسلم الخراساني(٤) أيام المنصور ، و يعقوب بن داود(٥) زمن المهدي ، و البرامكة زمان هارون ، و الفضل بن سهل(٦) زمن المأمون ، و الفضل بن مروان(٧) زمن المعتصم ، و الكتاب زمن الواثق ، و محمد بن عبد الملك الزيات(٨) زمان المتوكل و من العجب وزراء المتوكل ، فإنّه كلّ يوم ينكّل بواحد و يختار آخر ، و لربما نكّل بكثير منهم مرتين أو ثلاثا كابن الفرات .

و في ( أخبار حكماء القفطي ) في الحسن بن هيثم المهندسي البصري نزيل مصر ، ولاّه الحاكم بمصر بعض الدواوين و كان الحاكم مريقا للدماء بغير سبب أو بأضعف سبب فأجال فكره في أمر يتخلص به فلم يجد طريقا إلاّ إظهار الجنون ، فاعتمد ذلك و شاع فأحيط بموجوداته على يد الحاكم و قيد

____________________

( ١ ) لم نعثر على الأبيات في التراجم .

( ٢ ) وفيات الأعيان لابن خلكان ٢ : ١٩٦ .

( ٣ ) ترجم له ابن خلكان في وفيات الأعيان ٢ : ٤١٠ .

( ٤ ) ترجم له ابن خلكان في وفيات الأعيان ٣ : ١٤٥ .

( ٥ ) ترجم له ابن خلكان في وفيات الأعيان ٧ : ٢٩ .

( ٦ ) راجع ترجمة الفضل بن سهل ذو الرئاستين في وفيات الأعيان لابن خلكان ٣ : ٤١ .

( ٧ ) ترجم له ابن خلكان في وفيات الأعيان ٤ : ٤٤٥ .

( ٨ ) ترجم له ابن خلكان في وفيات الأعيان ٥ : ٩٤ .

٤٥٣

و ترك في موضع من منزله إلى أن مات الحاكم ، فأظهر بعد ذلك بيسير العقل و أقام متنسّكا متقنعا و اشتغل بالتصنيف و النسخ و اعيد ماله إليه(١) .

و في ( الحلية ) عن سفيان الثوري : لم أر للسلطان إلاّ مثلا ضرب على لسان الثعلب ، قال الثعلب : عرفت للكلب نيّفا و سبعين دستانا ليس منها دستان خيرا من أن لا أرى الكلب و لا يراني(٢) .

و في ( الطبري ) : ان أبا مسلم لمّا توحش من المنصور كتب إليه : لم يبق لك عدوّ إلاّ أمكنت منه و قد كنّا نروي عن ملوك آل ساسان أنّ أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء فنحن نافرون من قربك .

( فيه ) أيضا : دخل إسماعيل بن علي على المنصور ، فقال : إنّي رأيت في ليلتي هذه كأنّك ذبحت كبشا و إنّي توطأته برجلي فقال : قم فصدّق رؤياك قد قتل الفاسق ، فقام اسماعيل إلى الموضع الذي قتل فيه أبو مسلم فتوطأه(٣) .

و لمّا حاصر طاهر من قبل المأمون بغداد كتب إليه الأمين بخطّه :

إعلم أنّه ما قام لنا مذ قمنا قائم بحقنا و كان جزاؤه إلاّ السيف ، فانظر لنفسك أو دع(٤) .

في ( الطبري ) : اختلف في الذي قتل به ابن الزيّات ، فقيل بطح فضرب على بطنه خمسين مقرعة ثم قلب فضرب على استه مثلها فمات و هو يضرب و هم لا يعلمون إلى أن قال : قال مبارك العرني ما أظنّه أكل طول حبسه إلاّ رغيفا واحدا ، و كان يأكل العنبة و العنبتين ، و كان يقول لنفسه : يا محمد بن عبد الملك

____________________

( ١ ) أخبار العلماء بأخبار الحكماء ، لجمال الدين القفطي : ١١٥ .

( ٢ ) حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني ٧ : ٤٤ ، في ترجمة سفيان الثوري ، و دستان أصلها داستان و هي فارسية و معناها :

قصة أو حكاية .

( ٣ ) تاريخ الامم و الملوك للطبري ٦ : ١٣٠ .

( ٤ ) مروج الذهب للمسعودي ٣ : ٤٠٤ .

٤٥٤

لم يقنعك النعمة و الدواب الفره و الدار النظيفة و الكسوة الفاخرة و أنت في عافية حتى طلبت الوزارة ذق ما عملت بنفسك كان يكرّر ذلك على نفسه(١) .

و في ( وزراء الجهشياري ) : قال خلاّد بن يزيد : كنّا يوما جلوسا عند أبي أيوب في مجلسه فأتاه رسول المنصور ، فامتقع لونه و تغيّر و مضى إليه ثم رجع ، فقال له بعض أصحابه في ذلك فقال : سأضرب لكم مثلا : تقوله العامة ، و هو أن البازي قال للديك : ما شي‏ء أقلّ وفاء منك لأن أهلك أخذوك في بيضة فحضنوك و خرجت على أيديهم فأطعموك في أكفّهم و نشأت بينهم حتى إذا كبرت جعلت لا يدنو واحد منهم منك إلاّ طرت يمنة و يسرة و صحت و صوّت ، و أنا اخذت من الجبال كبيرا فعلّموني و ألّفوني ، ثم يخلّون عني فآخذ صيدي و أجي‏ء إلى صاحبي فقال له الديك : لو رأيت في سفائدهم(٢) من البزاة مثل الذي رأيت فيها من الديكة كنت شرّا منّي ، و لكنّكم لو كنتم تعلمون ما أعلمه أي : من الملوك و وزرائهم لم تتعجّبوا من خوفي مع ما ترون من تمكّني(٣) .

( فيه أيضا ) : لمّا غضب المنصور على أبي أيّوب ذكر صالح بن سليمان انّه سيقتله و جميع أسبابه ، لأنّه سمع المنصور يتحدّث أنّ ملكا من الملوك كان يساير وزيرا له ، فضربت دابة الوزير رجل الملك فغضب و أمر بقطع رجل الوزير فقطعت ثم ندم فأمر بمعالجته حتى برأ ثم قال الملك في نفسه :

هذا لا يحبّني أبدا و قد قطعت رجله فقتله ، ثم قال : و أهل هذا الوزير لا يحبّونني أبدا و قد قتلته ، فقتلهم جميعا فعلمت أنّه سيفعل ذلك في المورياني ، ففعله و ما عدا ظنّي(٤) ، فأخذه و أخذ أخاه و بني أخيه و قتلهم .

____________________

( ١ ) تاريخ الامم و الملوك للطبري ٧ : ٣٤٢ .

( ٢ ) « سفائد » في الأصل و هو محرّف و بدله « السفافيد » جمع سفود و هو ما يشوى به اللحم .

( ٣ ) الوزراء للجهشياري : ١٢٣ .

( ٤ ) الوزراء للجهشياري : ١٠١ ١٠٢ .

٤٥٥

هذا ، و في الأمثال « فرج في جبهة الأسد » و ان غفلوا عنه في كتب الأمثال(١) .

هذا ، و روى الشيخ عن ميسرة بن شريح قال : تقدّمت إلى شريح امرأة فقالت : إنّي امرأة لي إحليل و لي فرج تزوجها ابن عم لي و أخذ مني خادما فوطئتها فأولدتها ، و إنّما جئتك لمّا ولد لي لتفرّق بيني و بين زوجي فقام من مجلس القضاء فدخل على عليعليه‌السلام فأخبره بما قالت ، فأمر بها فأدخلت و سألها فقالت : هو الذي أخبرك فأحضرعليه‌السلام زوجها ابن عمّها فقال له هذه امرأتك و ابنة عمك ؟ قال : نعم قال : قد علمت ما كان قال : قد أخدمتها خادما فوطأتها فأولدتها قالعليه‌السلام : ثم وطأتها بعد ذلك ؟ قال : نعم قالعليه‌السلام له : لأنت أجرأ من خاصي الأسد(٢) . .

و في آخر انهعليه‌السلام أمر بتعداد أضلاع جنبيها فكانت أضلاع الأيسر أقل فألحقها بالرجال ، فقال الرجل : ألحقت ابنة عمي بالرجال ، ممّن أخذت هذه القضية ؟ فقالعليه‌السلام : ورثتها من أبي آدم خلقت حواء من ضلعه و أضلاع الرجال أقل .

١٧ الحكمة ( ٢٦٤ ) و قالعليه‌السلام :

أَحْسِنُوا فِي عَقِبِ غَيْرِكُمْ تُحْفَظُوا فِي عَقِبِكُمْ أقول : العقب بكسر القاف و في لغة بالسكون الولد و ولد الولد ، و الأصل فيها مؤخر القدم .

____________________

( ١ ) لم نعثر عليه في كتب الأمثال و اللغة و الأدب .

( ٢ ) وسائل الشيعة للحرّ العاملي ٢٦ : ٢٨٧ ، رواية ( ٣٣٠١٦ ) كذا ٢٧ : ١٧٣ ، رواية ( ٣٣٥٣٥ ) .

٤٥٦

و الأصل في كلامهعليه‌السلام قوله تعالى :( وَ ليَخشَ الَّذين لو تَركوا من خلفهم ذُريّة ضعافاً خافوا عليهم فليتَّقُوا اللَّه و ليقولوا قولاً سديداً ) (١) .

و في ( الكافي ) عن الصادقعليه‌السلام : من ظلم سلّط اللَّه عليه من يظلمه أو على عقبه أو على عقب عقبه قيل لهعليه‌السلام : يظلم فيسلّط على عقبه أو على عقب عقبه ؟

فقالعليه‌السلام : إنّ اللَّه تعالى يقول : و ليخش الَّذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم فليتَّقوا اللَّه و ليقولوا قولاً سديداً(٢) .

بل الإحسان مطلقا يوجب الحفظ في العقب ، قال تعالى( في قصّة موسى عليه‌السلام ) ( و صاحبه فانطَلقا حتَّى إِذا أتَيا أَهل قريةٍ استطعما أَهلَها فأَبوا أَن يُضيِّفُوهما فَوَجدا فيها جداراً يُريد أَن ينقضَّ فأَقامهُ قال لو شِئتَ لاتَّخذت علَيه أَجراً . و أَما الجدارُ فكان لغُلامين يتيمين في المدينة و كانَ تحتهُ كنزٌ لهما و كانَ أَبُوهُما صالحاً فأراد رَبُّكَ أَن يَبلُغا أَشدَّهما و يستَخرجا كنزَهما رَحمةً من ربَّك و ما فعلتهُ عن أَمري ذلك تأويلُ مَا لَم تسطِع عليه صَبرا ) (٣) .

و في آخر رسالة أبي غالب إلى ابن ابنه أبي طاهر الزراري : و إيّاه أسأل أن يحفظني فيك و يحفظ صالح أجدادك من بكير إليّ كما حفظ الغلامين بصلاح أبويهما ، فقد مرّ في بعض الحديث أنّه كان بين أبيهما الذي حفظا له و بينهما سبعمائة سنة(٤) .

هذا و في الخبر : برّوا آباءكم يبرّكم أبناؤكم ، و عفّوا عن الناس يعفّ عن نسائكم(٥) .

____________________

( ١ ) النساء : ٩ .

( ٢ ) الكافي للكليني ٢ : ٣٣٢ ح ١٣ و الآية ٩ من سورة النساء .

( ٣ ) الكهف : ٧٧ ٨٢ .

( ٤ ) رسالة أبي غالب : ١٥٥ .

( ٥ ) عن الصادقعليه‌السلام من حديث أبي بكر الحضرمي ، الصدوق ، الأمالي : ٢٣٨ ح ٦ .

٤٥٧

١٨ الحكمة ( ٢٦٧ ) و قالعليه‌السلام :

يَا اِبْنَ آدَمَ لاَ تَحْمِلْ هَمَّ يَوْمِكَ اَلَّذِي لَمْ يَأْتِكَ عَلَى يَوْمِكَ اَلَّذِي قَدْ أَتَاكَ فَإِنَّهُ إِنْ يَكُ مِنْ عُمُرِكَ يَأْتِ اَللَّهُ فِيهِ بِرِزْقِكَ ( ٣٧٩ ) :

و قالعليه‌السلام :

اَلرِّزْقُ رِزْقَانِ رِزْقٌ تَطْلُبُهُ وَ رِزْقٌ يَطْلُبُكَ فَإِنْ لَمْ تَأْتِهِ أَتَاكَ فَلاَ تَحْمِلْ هَمَّ سَنَتِكَ عَلَى هَمِّ يَوْمِكَ كَفَاكَ كُلَّ يَوْمٍ مَا فِيهِ فَإِنْ تَكُنِ اَلسَّنَةُ مِنْ عُمُرِكَ فَإِنَّ اَللَّهَ سَيُؤْتِيكَ فِي كُلِّ غَدٍ جَدِيدٍ مَا قَسَمَ لَكَ وَ إِنْ لَمْ تَكُنِ اَلسَّنَةُ مِنْ عُمُرِكَ فَمَا تَصْنَعُ بِالْهَمِّ لِمَا لَيْسَ لَكَ وَ لَنْ يَسْبِقَكَ إِلَى رِزْقِكَ طَالِبٌ وَ لَنْ يَغْلِبَكَ عَلَيْهِ غَالِبٌ وَ لَنْ يُبْطِئَ عَنْكَ مَا قَدَرَ لَكَ قال الرضي : و قد مضى هذا الكلام فيما تقدّم من هذا الباب إلاّ انّه هاهنا أوضح و أشرح ، فلذلك كررناه على القاعدة المقررة في أوّل الكتاب « يا ابن آدم » قال المبرد في ( كامله )(١) و ابن قتيبة(٢) في ( عيونه )(٣) و المسعودي في مروجه قال عليعليه‌السلام : يا ابن آدم لا تحمل همّ يومك الذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه ، فإن يك من أجلك يأت فيه رزقك ،

____________________

( ١ ) الكامل للمبرد ١ : ٩٢ مع تغير طفيف عند المبرد بدل ( فان يك من أجلك ) .

( ٢ ) عيون الأخبار لابن قتيبة ٢ : ٣٧١ .

( ٣ ) مروج الذهب للمسعودي ٤ : ٢٦٤ ، عن إبراهيم بن جابر القاضي قبل ولايته القضاء : هذا الكلام عن الإمام عليعليه‌السلام ابن آدم ، الا تحمل همّ يومك الّذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه ، فإنّه إن يكن من أجلك يأتي اللَّه فيه برزقك ، و اعلم أنّك لن تكتسب شيئا فوق قوتك إلاّ كنت خازنا فيه لغيرك .

٤٥٨

و اعلم أنّك لا تكسب من المال شيئا فوق قوتك إلاّ كنت فيه خازنا لغيرك .

« الرزق رزقان : رزق تطلبه و رزق يطلبك فإن لم تأته أتاك » كان بعض الشعراء وصف نفسه في أشعاره بأنّه لا يطلب رزقه بل رزقه يأتيه ، فمدح بعض الملوك فلم يعطه شيئا و قال له : أما وصفت نفسك بما وصفت فرجع ثم ندم الملك و بعث إليه بعطية فلم يلحقه الرسول إلاّ على بابه ، فقال للرسول : قل للملك ألم يكن الأمر كما قلت ؟

« فلا تحمل همّ سنتك على همّ يومك ، كفاك كلّ يوم على » هكذا في ( الطبعة المصرية ) و كلمة « على » زائدة لعدم وجودها في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) و الخطية(١) .

« ما فيه » إنّما نهىعليه‌السلام عن حمل همّ السّنة على همّ اليوم إذا لم يتيسر له إحراز قوت سنته ، لأنّ مورد كلامهعليه‌السلام من كان همّه تحصيل قوت يومه ، و معلوم أنّ من لم يكن عنده قوت يوم كيف يمكنه تحصيل قوت سنته ، و أمّا من تمكّن فإحرازه حسن .

روى ( الكافي ) أن الصادقعليه‌السلام قال لسفيان الثوري و من معه من الصوفية الذين كانوا يأمرون الناس بإلقاء أمتعتهم بعد الاستدلال على ضلال طريقتهم بالكتاب و السنة ثم من قد علمتم من فضله و زهده سلمان و أبو ذر ، فأمّا سلمان فكان إذا أخذ عطاءه رفع منه قوته لسنته حتى يحضر عطاؤه من قابل ، فقيل له : أنت في زهدك تصنع هذا و أنت لا تدري لعلّك تموت اليوم أو غدا ؟ فكان جوابه أن قال : ما لكم لا ترجون لي البقاء كما خفتم عليّ الفناء أما علمتم يا جهلة أنّ النفس قد تلتاث

____________________

( ١ ) في النسخة المصرية المنقحة « على » محذوفة : ٧٤٧ رقم ٣٧٨ .

٤٥٩

على صاحبها إذا لم يكن لها من العيش ما تعتمد عليه فإذا هي أحرزت معيشتها اطمأنّت(١) . .

و روى ( الكافي ) أيضا عن الرضاعليه‌السلام : إن الانسان إذا أدّخر طعام سنته خفّ ظهره و استراح(٢) .

و كان أبو جعفر و أبو عبد اللَّهعليهما‌السلام لا يشتريان عقدة حتى يحرزا طعام سنتهما(٣) .

« فإن تكن السّنة من عمرك فإنّ اللَّه تعالى » ليس كلمة « تعالى » في نسخة ( ابن أبي الحديد ) و لكن في ( ابن ميثم ) و الخطية : « تعالى جده »(٤) .

« سيؤتيك في كلّ غد جديد ما قسم لك ، و إن لم تكن السنة من عمرك فما تصنع بالهمّ لمّا ليس لك » روي أنّ محمد بن الفرج كتب إلى الهاديعليه‌السلام يسأله الدعاء لرد ضياعه عليه و قد كان السلطان أخذها منه فكتبعليه‌السلام إليه : سوف تردّ عليك ضياعك و ما يضرّك ألاّ تردّ عليك ، فكتب السلطان بردّ ضياعه و مات و لم يتصرّف فيها(٥) .

« و لن يسبقك إلى رزقك طالب و لن يغلبك عليه غالب و لن يبطى‏ء عنك ما قدر لك » روى ( الكافي ) أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : أيّها الناس إنّي لم ادع شيئا يقرّبكم إلى الجنّة و يباعدكم من النار إلاّ و قد أنبأتكم به ، ألا و إنّ الروح القدس نفث في روعي و أخبرني أن لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها ، فاتّقوا اللَّه عزّ و جل

____________________

( ١ ) الكافي للكليني ، من حديث طويل ٥ : ٦٨ ح ١ .

( ٢ ) الكافي للكليني ٥ : ٨٩ ح ١ من حديث الحسن بن الجهم .

( ٣ ) الكافي ٥ : ٨٩ رواية ١ .

( ٤ ) لا وجود للفظ « تعالى جده » في شرح ابن ميثم انظر ٥ : ٤٣٢ ( نسخة محققة ) أما الخطية فقد سقطت منها هذه ( الحكمة ) .

( ٥ ) بحار الأنوار ٥٠ : ١٤٠ رواية ٢٥ .

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .

فهنا شبه المعاندين والمغرورين كمن يسير في جادّة متعرّجة غير مستوية كثيرة المنعطفات وقد وقع على وجهه ، يحرّك يديه ورجليه للاهتداء إلى سبيله ، لأنّه لا يبصر طريقه جيّدا ، وليس بقادر على السيطرة على نفسه ، ولا بمطّلع على العقبات والموانع ، وليست لديه القوّة للسير سريعا ، وبذلك يتعثّر في سيره يمشي قليلا ثمّ يتوقّف حائرا.

كما شبّه المؤمنين برجال منتصبي القامات ، يسيرون في جادّة مستوية ومستقيمة ليس فيها تعرّجات واعوجاج ، ويمشون فيها بسرعة ووضوح وقدرة ووعي وعلم وراحة تامّة.

إنّه ـ حقّا ـ لتشبيه لطيف فذّ ، حيث إنّ آثار هذين السبيلين واضحة تماما ، وانعكاساتها جليّة في حياة هذين الفريقين ، وذلك ما نلاحظه بأمّ أعيننا.

ويرى البعض أنّ مصداق هاتين المجموعتين هما : (الرّسول الأكرم) و (أبو جهل) فهما مصاديق واضحة للآية الكريمة ، إلّا أنّ ذلك لا يحدّد عمومية الآية.

وذكرت احتمالات متعدّدة في تفسير (مكبّا على وجهه). إلّا أنّ أكثر الاحتمالات المنسجمة مع المفهوم اللغوي للآية هو ما ذكرناه أعلاه ، وهو أنّ الإنسان غير المؤمن يكون مكبّا على وجهه ويمشي زاحفا بيده ورجليه وصدره.

وقيل أنّ المقصود من (مكبّا) هو المشي الاعتيادي ولكنّه مطأطئ الرأس لا يشخّص مسيره بوضوح أبدا.

كما يرى آخرون أنّ المقصود بـ (مكبّا) هو الشخص الذي لا يستطيع أن يحفظ توازنه في السير ، فهو يخطو خطوات معدودة ثمّ ما يلبث أن يسقط على الأرض وينهض ليمشي ، ثمّ تتكرّر هذه الحالة.

ويستفاد ممّا ذكره الراغب في مفرداته أنّ المقصود بـ (مكبّا) هو الشخص الذي يدور حول محور الذات والأنانية ، معرضا عن الاهتمام بغيره.

٥٠١

إلّا أنّ المعنى الأوّل أنسب حسب الظاهر ، وذلك بقرينة المقابلة مع وضع المؤمنين والذين عبّرت عنهم الآية بـ (سويّا).

وعلى كلّ حال ، فهل أنّ هذه الحالة (مكبّا) و (سويّا) تمثّل وضع الكفّار والمؤمنين في الآخرة فقط؟ أم في العالمين (الدنيا والآخرة)؟ لا دليل على محدودية مفهوم الآية وانحصارها في الآخرة ، فهما في الدنيا كما هما في الآخرة.

إنّ هؤلاء الأنانيين المنشدّين إلى مصالحهم الماديّة والمنغمسين في شهواتهم ، السائرين في درب الضلال والهوى ، كمن يروم العبور من مكان مليء بالأحجار زاحفا على صدره ، بخلاف من تحرّر من قيد الهوى في ظلّ الإيمان حيث يكون مسيره واضحا ومستقيما ونظراته عميقة وثاقبة.

ثمّ يوجّه الله تعالى الخطاب إلى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الآية اللاحقة فيقول :( قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ ) .

إنّ الله تعالى جعل لكم وسيلة للمشاهدة والإبصار (العين) وكذلك وسيلة وقناة للاطّلاع على أفكار الآخرين ومعرفة وجهات نظرهم من خلال الاستماع (الإذن) ثمّ وسيلة اخرى للتفكّر والتدبّر في العلوم والمحسوسات واللامحسوسات (القلب).

وخلاصة الأمر إنّ الله تعالى قد وضع جميع الوسائل اللازمة لكم لتتعرّفوا على العلوم العقلية والنقلية ، إلّا أنّ القليل من الأشخاص من يدرك هذه النعم العظيمة ويشكر الله المنعم ، حيث أنّ شكر النعمة الحقيقي يتجسّد بتوجيه النعمة نحو الهدف الذي خلقت من أجله ، ترى من هو المستفيد من هذه الحواس (العين والاذن والعقل) بصورة صحيحة في هذا الطريق؟

ثمّ يخاطب الرّسول مرّة اخرى حيث يقول تعالى :( قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .

وفي الحقيقة فإنّ الآية الاولى تعيّن (المسير) ، والثانية تتحدّث عن (وسائل

٥٠٢

العمل) أمّا الآية ـ مورد البحث ـ فإنّها تشخّص (الهدف والغاية) وذلك بالتأكيد على أنّ السير يجب أن يكون في الطريق المستقيم ، والصراط الواضح المتمثّل بالإسلام والإيمان ، وبذل الجهد للاستفادة من جميع وسائل المعرفة بهذا الاتّجاه ، والتحرّك نحو الحياة الخالدة.

والجدير بالملاحظة هنا أنّ التعبير في الآية السابقة ورد بـ (أنشأكم) وفي الآية مورد البحث بـ (ذرأكم) ، ولعلّ تفاوت هذين التعبيرين هو أنّه في الأولى إشارة إلى الإنشاء والإيجاد من العدم (أي إنّكم لم تكونوا شيئا وقد خلقكم الله تعالى) وفي الثانية إشارة إلى خلق الإنسان من مادّة التراب ، وذلك يعني أنّ الله خلق الإنسان من التراب.

ثمّ يستعرض سبحانه قول المشركين في هذا المجال والردّ عليهم ، فيقول تعالى :( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

إنّ المشركين يطالبون بتعيين التاريخ بصورة دقيقة ليوم القيامة ، كما أنّهم يطالبون بحسم هذا الأمر الذي يتعلّق بمصير الجميع( مَتى هذَا الْوَعْدُ؟ ) .

وذكروا احتمالين في المقصود من (هذا الوعد) : الأوّل : هو وعد يوم القيامة ، والآخر : هو تنفيذ الوعد بالنسبة للعقوبات الدنيوية المختلفة ، كوقوع الزلازل والصواعق والطوفانات. إلّا أنّ المعنى الأوّل أكثر تناسبا حسب الظاهر ، وذلك بلحاظ ما ورد في الآية السابقة. كما أنّ بالإمكان الجمع بين المعنيين.

ويجيبهم الله سبحانه على تساؤلهم هذا بقوله تعالى :( قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) .

إنّ هذا التعبير يشبه تماما ما ورد في الآيات القرآنية العديدة التي من جملتها

٥٠٣

قوله تعالى :( قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ) (١) .

ولا بدّ أن يكون الجواب بهذه الصورة ، حيث أنّ تحديد تأريخ يوم القيامة إن كان بعيدا فإنّ الناس سيغرقون بالغفلة ، وإن كان قريبا فإنّهم سيعيشون حالة الهلع والاضطراب. وعلى كلّ حال فإنّ الأهداف التربوية تتعطّل في الحالتين.

ويضيف في آخر آية من هذه الآيات بأنّ الكافرين حينما يرون العذاب والوعد الإلهي من قريب تسودّ وجوههم :( فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) فسيماهم طافحة بآثار الحزن والندم( وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ ) .

«تدعون» من مادّة (دعاء) يعني أنّكم كنتم تدعون وتطلبون دائما أن يجيء يوم القيامة ، وها هو قد حان موعده ، ولا سبيل للفرار منه(٢) .

وهذا المضمون يشبه ما جاء في قوله تعالى مخاطبا الكفّار في يوم القيامة :( هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ) (٣) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ الآية الشريفة ناظرة إلى عذاب يوم القيامة كما ذهب إليه أغلب المفسّرين ، وهذا دليل على أنّ جملة( مَتى هذَا الْوَعْدُ ) إشارة إلى موعد يوم القيامة.

يقول الحاكم أبو القاسم الحسكاني : عند ما شاهد الكفّار شأن ومقام الإمام عليعليه‌السلام عند الله تعالى. اسودّت وجوههم (من شدّة الغضب)(٤) .

ونقل هذا المعنى أيضا في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّ هذه الآية نزلت

__________________

(١) الأعراف ، الآية ١٨٧.

(٢) «تدعون» من باب (افتعال) ، ومن مادّة دعاء ، بمعنى الطلب والرجاء ، أو من مادّة (دعوا) بمعنى الطلب أو إنكار شيء معيّن.

(٣) الذاريات ، الآية ١٤.

(٤) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٣٠.

٥٠٤

بحقّ أمير المؤمنين عليعليه‌السلام وأصحابه(١) .

وهذا التّفسير نقل عن طرق الشيعة وأهل السنّة ، وهو نوع من التطبيق المصداقي ، وإلّا فإنّ هذه الآية تناولت موضوع (القيامة) ومثل هذه التطبيقات ليست قليلة في عالم الروايات.

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٨٥.

٥٠٥

الآيات

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠) )

التّفسير

من الذي يأتيكم بالمياه الجارية؟

إنّ الآيات أعلاه ، التي هي آخر آيات سورة الملك ، تبدأ جميعها بكلمة (قل) مخاطبة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث أنّها تمثّل استمرارا للأبحاث التي مرّت في الآيات السابقة حول الكفّار ، وتعكس هذه الآيات الكريمة جوانب اخرى من البحث.

يخاطب البارئعزوجل ـ في البداية ـ الأشخاص الذين يرتقبون وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ، ويتصوّرون أنّ بوفاته سوف يمحى دين الإسلام وينتهي كلّ شيء. وهذا الشعور كثيرا ما ينتاب الأعداء المخذولين إزاء القيادات

٥٠٦

القويّة والمؤثّرة ، يقول تعالى مخاطبا إيّاهم :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ) .

ورد في بعض الروايات أنّ كفّار مكّة ، كانوا دائما يسبّون الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ، وكانوا يتمنّون موته ظنّا منهم أنّ رحيله سينهي دعوته كذلك ، لذا جاءت الآية أعلاه ردّا عليهم.

كما جاء شبيه هذا المعنى في قوله تعالى :( أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ) (١) .

لقد كانوا غافلين عن وعد الله سبحانه لرسوله الأمين ، بأنّ اسمه سيكون مقترنا مع مبدأ الحقّ الذي لا يعتريه الفناء وإذا جاء أجله فإنّ ذكره لن يندرس ، نعم ، لقد وعده الله سبحانه بانتصار هذا المبدأ ، وأن ترفرف راية هذا الدين على كلّ الدنيا ، وحياة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو موته لن يغيّرا من هذه الحقيقة شيئا.

كما ذكر البعض تفسيرا آخر لهذه الآية وهو : إنّ خطاب الله لرسوله الكريم ـ الذي يشمل المؤمنين أيضا ـ مع ما عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الإيمان الراسخ ، كان يعكس الخوف والرجاء معا في آن واحد. فكيف بكم أنتم أيّها الكافرون؟ وما الذي تفكّرون به لأنفسكم؟

ولكن التّفسير الأوّل أنسب حسب الظاهر.

واستمرارا لهذا البحث ، يضيف تعالى :( قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

وهذا يعني أنّنا إذا آمنا بالله ، واتّخذناه وليّا ووكيلا لنا ، فإنّ ذلك دليل واضح على أنّه الربّ الرحمن ، شملت رحمته الواسعة كلّ شيء ، وغمر فيض ألطافه ونعمه الجميع (المؤمن والكافر) ، إنّ نظرة عابرة إلى عالم الوجود وصفحة الحياة تشهد

__________________

(١) الطور ، الآية ٣٠.

٥٠٧

على هذا المدّعى ، أمّا الذين تعبدونهم من دون الله فما ذا عملوا؟ وما ذا صنعوا؟

وبالرغم من أنّ ضلالكم واضح هنا في هذه الدنيا ، إلّا أنّه سيتّضح بصورة أكثر في الدار الآخرة. أو أنّ هذا الضلال وبطلان دعاواكم الفارغة ستظهر في هذه الدنيا عند ما ينتصر الإسلام بالإمدادات الإلهية على جيش الكفر بشكل إعجازي وخارق للعادة ، عندئذ ستتبيّن الحقيقة أكثر للجميع.

إنّ هذه الآية ـ في الحقيقة ـ نوع من المواساة للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ، كي لا يظنّوا أو يتصوّروا أنّهم وحدهم في هذا الصراع الواسع بين الحقّ والباطل ، حيث أنّ الرحمن الرحيم خير معين لهم ونعم الناصر.

ويقول تعالى في آخر آية ، عارضا لمصداق من رحمته الواسعة ، والتي غفل عنها الكثير من الناس :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ ) .

إنّ للأرض في الحقيقة قشرتين متفاوتين : (قشرة قابلة للنفوذ) يدخل فيها الماء ، واخرى (غير قابلة للنفوذ) تحفظ بالماء ، وجميع العيون والآبار والقنوات تولّدت من بركات هذا التركيب الخاصّ للأرض ، إذ لو كانت القشرة القابلة للنفوذ لوحدها على سطح الكرة الأرضية جميعا ولأعماق بعيدة ، فإنّ جميع المياه التي تدخل جوف الأرض لا يقرّ لها قرار ، وعندئذ لا يمكن أن يحصل أحد على قليل من الماء. ولو كانت قشرة الأرض غير قابلة للنفوذ لتجمّعت المياه على سطحها وتحوّلت إلى مستنقع كبير ، أو أنّ المياه التي تكون على سطحها سرعان ما تصبّ في البحر ، وهكذا يتمّ فقدان جميع الذخائر التي هي تحت الأرض.

إنّ هذا نموذج صغير من رحمة الله الواسعة يتعلّق بموت الإنسان وحياته.

«معين» من مادّة (معن) ، على وزن (طعن) بمعنى جريان الماء.

وقال آخرون : إنّها مأخوذة من (عين) والميم زائدة. لذا فإنّ بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّ معنى (معين) تعني الماء الذي يشاهد بالعين بغضّ النظر عن جريانه.

إلّا أنّ الغالبية فسّروه بالماء الجاري.

٥٠٨

وبالرغم من أنّ الماء الصالح للشرب لا ينحصر بالماء الجاري ، إلّا أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ الماء الجاري يمثّل أفضل أنواع ماء الشرب ، سواء كان من العيون أو الأنهار أو القنوات أو الآبار المتدفّقة

ونقل بعض المفسّرين أنّ أحد الكفّار عند ما سمع قوله تعالى :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ ) قال : (رجال شداد ومعاول حداد) وعند نومه ليلا نزل الماء الأسود في عينيه ، وفي هذه الأثناء سمع من يقول : أتي بالرجال الشداد والمعاول الحداد ليخرجوا الماء من عينيك.

ومن الواضح أنّه في حالة عدم وجود القشرة الصلبة وغير القابلة للنفوذ ، فإنّه لا يستطيع أي إنسان قوي ولا أي معول حادّ أن يستخرج شيئا من الماء(١) .

* * *

تعقيب

جاء في الروايات عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ المراد من الآية الأخيرة من هذه السورة هو ظهور الإمام المهديعليه‌السلام وعدله الذي سيعمّ العالم.

فقد جاء في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «نزلت في الإمام القائمعليه‌السلام ، يقول : إن أصبح إمامكم غائبا عنكم ، لا تدرون أين هو؟ فمن يأتيكم بإمام ظاهر يأتيكم بأخبار السموات والأرض ، وحلال الله وحرامه؟ ثمّ قال : والله ما جاء تأويل هذه الآية ، ولا بدّ أن يجيء تأويلها»(٢) .

والروايات في هذا المجال كثيرة ، وممّا يجدر الانتباه له أنّ هذه الروايات هي من باب (التطبيق).

وبعبارة اخرى فإنّ ظاهر الآية مرتبط بالماء الجاري ، والذي هو علّة حياة

__________________

(١) أبو الفتوح الرازي ، ج ١١ ، ص ٢١٩.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٨٧.

٥٠٩

الموجودات الحيّة. أمّا باطن الآية فإنّه يرتبط بوجود الإمامعليه‌السلام وعلمه وعدالته التي تشمل العالم ، والتي هي الاخرى تكون سببا لحياة وسعادة المجتمع الإنساني.

ولقد ذكرنا مرّات عدّة أنّ للآيات القرآنية معاني متعدّدة ، حيث لها معنى باطن وظاهر ، إلّا أنّ فهم باطن الآيات غير ممكن إلّا للرسول والإمام المعصوم ، ولا يحقّ لأي أحد أن يطرح تفسيرا ما لباطن الآيات. وما نستعرضه هنا مرتبط بظاهر الآيات ، أمّا ما يرتبط بباطن الآيات فعلينا أن نأخذه من المعصومينعليهم‌السلام فقط.

لقد بدأت سورة الملك بحاكمية الله ومالكيته تعالى ، وانتهت برحمانيته ، والتي هي الاخرى فرع من حاكميته ومالكيته سبحانه ، وبهذا فإنّ بدايتها ونهايتها منسجمتان تماما.

اللهمّ ، أدخلنا في رحمتك العامّة والخاصّة ، وأرو ظمآنا من كوثر ولاية أولياءك.

ربّنا ، عجّل لنا ظهور عين ماء الحياة الإمام المهدي ، واطفئ عطشنا بنور جماله

ربّنا ، ارزقنا اذنا صاغية وعينا بصيرة وعقلا كاملا ، فأقشع عن قلوبنا حجب الأنانية والغرور لنرى الحقائق كما هي ، ونسلك إليك على الصراط المستقيم بخطوات محكمة وقامة منتصبة

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة الملك

* * *

٥١٠
٥١١

سورة

القلم

مكيّة

وعدد آياتها اثنتان وخمسون آية

٥١٢

«سورة القلم»

محتوى السورة :

بالرغم من أنّ بعض المفسّرين شكّك في كون السورة بأجمعها نزلت في مكّة ، إلّا أنّ نسق السورة ومحتوى آياتها ينسجم تماما مع السور المكيّة ، لأنّ المحور الأساسي فيها يدور حول مسألة نبوّة رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومواجهة الأعداء الذين كانوا ينعتونه بالجنون وغيره ، والتأكيد على الصبر والاستقامة وتحدّي الصعاب ، وإنذار وتهديد المخالفين لهذه الدعوة المباركة بالعذاب الأليم.

وبشكل عامّ يمكن تلخيص مباحث هذه السورة بسبعة أقسام :

١ ـ في البداية تستعرض السورة بعض الصفات الخاصّة لرسول الإنسانية محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخصوصا أخلاقه البارّة السامية الرفيعة ، ولتأكيد هذا الأمر يقسم البارئعزوجل في هذا الصدد.

٢ ـ ثمّ تتعرّض بعض الآيات الواردة في هذه السورة إلى قسم من الصفات السيّئة والأخلاق الذميمة لأعدائه.

٣ ـ كما يبيّن قسم آخر من الآيات الشريفة قصّة (أصحاب الجنّة) والتي هي بمثابة توجيه إنذار وتهديد للسالكين طريق العناد من المشركين.

٤ ـ وفي قسم آخر من السورة ذكرت عدّة امور حول القيامة والعذاب الأليم للكفّار في ذلك اليوم.

٥ ـ كما جاء في آيات اخرى جملة إنذارات وتهديدات للمشركين.

٥١٣

٦ ـ ونلاحظ في آيات اخرى من السورة الأمر الإلهي للرسول العظيم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يواجه الأعداء بصبر واستقامة وقوّة وصلابة.

٧ ـ وأخيرا تختتم السورة موضوعاتها بحديث حول عظمة القرآن الكريم ، وطبيعة المؤامرات التي كان يحوكها الأعداء ضدّ الرّسول محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

انتخاب (القلم) اسما لهذه السورة المباركة ، كان بلحاظ ما ورد في أوّل آية منها ، وذكر البعض الآخر أنّ اسمها (ن).

ويستفاد من بعض الروايات التي وردت في فضيلة هذه السورة أنّ اسمها «ن والقلم».

فضيلة تلاوة سورة القلم :

نقل عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فضيلة تلاوة هذه السورة أنّه قال : «من قرأ (ن والقلم) أعطاه الله ثواب الذين حسن أخلاقهم»(١) .

كما نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «من قرأ سورة (ن والقلم) في فريضة أو نافلة ، آمنه الله أن يصيبه في حياته فقر أبدا ، وأعاذه إذا مات من ضمّة القبر ، إن شاء الله»(٢) .

وهذا الأجر والجزاء يتناسب تناسبا خاصّا مع محتوى السورة ، والهدف من التأكيد على هذا النوع من الأجر من تلاوة السورة هو أن تكون التلاوة مقرونة بالوعي والمعرفة ومن ثمّ العمل بمحتواها.

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٨٧.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٣٠.

٥١٤

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) )

التّفسير

عجبا لأخلاقك السامية :

هذه السورة هي السورة الوحيدة التي تبدأ بحرف (ن) حيث يقول تعالى :( ن ) .

وقد تحدّثنا مرّات عديدة حول الحروف المقطّعة ، خصوصا في بداية سورة (البقرة) و (آل عمران) و (الأعراف) والشيء الذي يجدر إضافته هنا هو ما اعتبره البعض من أنّ (ن) هنا تخفيف لكلمة (الرحمن) فهي إشارة لذلك. كما أنّ البعض الآخر فسّرها بمعنى (اللوح) أو (الدواة) أو (نهر في الجنّة) إلّا أنّ كلّ تلك الأقوال ليس لها دليل واضح.

٥١٥

وبناء على هذا فإنّ الحرف المقطّع هنا لا يختلف عن تفسير بقيّة الحروف المقطّعة والتي أشرنا إليها سابقا.

ثمّ يقسم تعالى بموضوعين يعتبران من أهمّ المسائل في حياة الإنسان ، فيقول تعالى :( وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ) .

كم هو قسم عجيب؟ وقد يتصوّر أنّ القسم هنا يتعلّق ظاهرا بمواضيع صغيرة ، أي قطعة من القصب ـ أو شيء يشبه ذلك ـ وبقليل من مادّة سوداء ، ثمّ السطور التي تكتب وتخطّ على صفحة صغيرة من الورق.

إلّا أنّنا حينما نتأمّل قليلا فيه نجده مصدرا لجميع الحضارات الإنسانية في العالم أجمع ، إنّ تطور وتكامل العلوم والوعي والأفكار وتطور المدارس الدينية والفكرية ، وبلورة الكثير من المفاهيم الحياتية كان بفضل ما كتب من العلوم والمعارف الإنسانية في الحقول المختلفة ، ممّا كان له الأثر الكبير في يقظة الأمم وهداية الإنسان وكان ذلك بواسطة (القلم).

لقد قسّمت حياة الإنسان إلى عصرين : (عصر التأريخ) و (عصر ما قبل التأريخ) وعصر تأريخ البشر يبدأ منذ أن اخترع الإنسان الخطّ واستطاع أن يدوّن قصّة حياته وأحداثها على الصفحات ، وبتعبير آخر ، يبدأ عند ما أخذ الإنسان القلم بيده ، ودوّن للآخرين ما توصّل إليه (وما يسطرون) تخليدا لماضيه.

وتتّضح عظمة هذا القسم بصورة أكثر عند ما نلاحظ أنّ هذه الآيات المباركة حينما نزلت لم يكن هنالك كتاب ولا أصحاب قلم ، وإذا كان هنالك أشخاص يعرفون القراءة والكتابة ، فإنّ عددهم في كلّ مكّة ـ التي تمثّل المركز العبادي والسياسي والاقتصادي لأرض الحجاز ـ لم يتجاوز ال (٢٠) شخصا. ولذا فإنّ القسم بـ (القلم) في مثل ذلك المحيط له عظمة خاصّة.

والرائع هنا أنّ الآيات الاولى التي نزلت على قلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في (جبل النور) أو (غار حراء) قد أشير فيها أيضا إلى المنزلة العليا للقلم ، حديث يقول تعالى :

٥١٦

( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ) (١) .

والأروع من ذلك كلّه أنّ هذه الكلمات كانت تنطلق من فمّ شخص لم يكن يقرأ أو يكتب ، ولم يذهب للمكاتب من أجل التعليم قطّ ، وهذا دليل أيضا على أنّ ما ينطق به لم يكن غير الوحي السماوي.

وذكر بعض المفسّرين أنّ كلمة (القلم) هنا يقصد بها : (القلم الذي تخطّ به ملائكة الله العظام الوحي السماوي) ، (أو الذي تكتب به صفحة أعمال البشر) ، ولكن من الواضح أنّ للآية مفهوما واسعا ، وهذه الآراء تبيّن مصاديقها.

كما أنّ لجملة( ما يَسْطُرُونَ ) مفهوما واسعا أيضا ، إذ تشمل جميع ما يكتب في طريق الهداية والتكامل الفكري والأخلاقي والعلمي للبشر ، ولا ينحصر بالوحي السماوي أو صحائف أعمال البشر(٢) .

ثمّ يتطرّق سبحانه لذكر الأمر الذي أقسم من أجله فيقول تعالى :( ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ) .

إنّ الذين نسبوا إليك هذه النسبة القبيحة هم عمي القلوب والأبصار ، وإلّا فأين هم من كلّ تلك النعم الإلهية التي وهبها الله لك؟ نعمة العقل والعلم الذي تفوّقت بها على جميع الناس ونعمة الأمانة والصدق والنبوّة ومقام العصمة إنّ الذين يتّهمون صاحب هذا العقل الجبّار بالجنون هم المجانين في الحقيقة ، إنّ ابتعادهم عن دليل الهداية وموجّه البشرية لهو الحمق بعينه.

ثمّ يضيف تعالى بعد ذلك :( وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ) أي غير منقطع ، ولم لا

__________________

(١) العلق ، الآية ١ ـ ٥.

(٢) اعتبر البعض أنّ (ما) في (ما يسطرون) مصدرية ، واعتبرها بعض آخر بأنّها (موصولة) والمعنى الثاني أنسب ، والتقدير هكذا : (ما يسطرونه) ، كما اعتبرها البعض أيضا بمعنى (اللوح) أو (القرطاس) الذي يكتب عليه ، وفي التقدير (ما يسطرون فيه) كما اعتبر البعض (ما) هنا إشارة لذوي العقول والأشخاص الذين يكتبون هذه السطور ، إلّا أنّ المعنى الذي ذكرناه في المتن أنسب من الجميع حسب الظاهر.

٥١٧

يكون لك مثل هذا الأجر ، في الوقت الذي وقفت صامدا أمام تلك التّهم والافتراءات اللئيمة ، وأنت تسعى لهدايتهم ونجاتهم من الضلال وواصلت جهدك في هذا السبيل دون تعب أو ملل؟

«ممنون» من مادّة (منّ) بمعنى (القطع) ويعني الأجر والجزاء المستمرّ الذي لا ينقطع أبدا ، وهو متواصل إلى الأبد ، يقول البعض : إنّ أصل هذا المعنى مأخوذ من «المنّة» ، بلحاظ أنّ المنّة توجب قطع النعمة.

وقال البعض أيضا : إنّ المقصود من( غَيْرَ مَمْنُونٍ ) هو أنّ الله تعالى لم تكن لديه منّة مقابل هذا الأجر العظيم. إلّا أنّ التّفسير الأوّل أنسب.

وتعرض الآية اللاحقة وصفا آخر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك بقوله تعالى :( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) .

تلك الأخلاق التي لا نظير لها ، ويحار العقل في سموّها وعظمتها من صفاء لا يوصف ، ولطف منقطع النظير ، وصبر واستقامة وتحمّل لا مثيل لها ، وتجسيد لمبادئ الخير حيث يبدأ بنفسه أوّلا فيما يدعو إليه ، ثمّ يطلب من الناس العمل بما دعا إليه والالتزام به.

عند ما دعوت ـ يا رسول الله ـ الناس ـ لعبادة الله ، فقد كنت أعبد الناس جميعا ، وإذ نهيتهم عن سوء أو منكر فإنّك الممتنع عنه قبل الجميع ، تقابل الأذى بالنصح ، والإساءة بالصفح ، والتضرّع إلى الله بهدايتهم ، وهم يؤلمون بدنك الطاهر رميا بالحجارة ، واستهزاء بالرسالة ، وتقابل وضعهم للرماد الحارّ على رأسك الشريف بدعائك لهم بالرشد.

نعم لقد كنت مركزا للحبّ ومنبعا للعطف ومنهلا للرحمة ، فما أعظم أخلاقك؟

«خلق» من مادّة (الخلقة) بمعنى الصفات التي لا تنفكّ عن الإنسان ، وهي ملازمة له ، كخلقة الإنسان.

وفسّر البعض الخلق العظيم للنبي بـ (الصبر في طريق الحقّ ، وكثرة البذل

٥١٨

والعطاء ، وتدبير الأمور ، والرفق والمداراة ، وتحمّل الصعاب في مسير الدعوة الإلهية ، والعفو عن المتجاوزين ، والجهاد في سبيل الله ، وترك الحسد والبغض والغلّ والحرص ، وبالرغم من أنّ جميع هذه الصفات كانت متجسّدة في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّ الخلق العظيم له لم ينحصر بهذه الأمور فحسب ، بل أشمل منها جميعا.

وفسّر الخلق العظيم أيضا بـ (القرآن الكريم) أو (مبدأ الإسلام) ومن الممكن أن تكون الموارد السابقة من مصاديق المفهوم الواسع للآية أعلاه.

وعلى كلّ حال فإنّ تأصّل هذا (الخلق العظيم) في شخصية الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو دليل واضح على رجاحة العقل وغزارة العلم له ونفي جميع التّهم التي تنسب من قبل الأعداء إليه.

ثمّ يضيف سبحانه بقوله :( فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ) .

( بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ ) أي من منكم هو المجنون(١) .

«مفتون» : اسم مفعول من (الفتنة) بمعنى الابتلاء ، وورد هنا بقصد الابتلاء بالجنون.

نعم ، إنّهم ينسبون هذه النسب القبيحة إليك ليبعدوا الناس عنك ، إلّا أنّ للناس عقلا وإدراكا ، يقيّمون به التعاليم التي يتلقّونها منك ، ثمّ يؤمنون بها ويتعلّمونها تدريجيّا ، وعندئذ تتّضح الحقائق أمامهم ، وهي أنّ هذه التعاليم العظيمة مصدرها البارئعزوجل ، أنزلها على قلبك الطاهر بالإضافة إلى ما منحك من نصيب عظيم في العقل والعلم.

كما أنّ مواقفك وتحرّكاتك المستقبلية المقرونة بالتقدّم السريع لانتشار الإسلام ، ستؤكّد بصورة أعمق أنّك منبع العلم والعقل الكبيرين ، وأنّ هؤلاء الأقزام

__________________

(١) (الباء) في (بأيّكم) زائدة و (أيّكم) مفعول للفعلين السابقين.

٥١٩

الخفافيش هم المجانين ، لأنّهم تصدّوا لمحاربة نور هذه الشمس العظيمة المتمثّلة بالحقّ الإلهي والرسالة المحمّدية.

ومن الطبيعي فإنّ هذه الحقائق ستتوضّح أمامهم يوم القيامة بصورة دامغة ، ويخسر هنالك المبطلون ، حيث تتبيّن الأمور وتظهر الحقيقة.

وللتأكيد على المفهوم المتقدّم يقول سبحانه مرّة اخرى :( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) .

وبلحاظ معرفة البارئعزوجل بسبيل الحقّ وبمن سلكه ومن جانبه وتخلّف أو انحرف عنه ، فإنّه يطمئن رسوله الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه والمؤمنون في طريق الهداية والرشد ، أمّا أعداؤه فهم في متاه الضلالة والغواية.

وجاء في حديث مسند أنّ قريشا حينما رأت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقدم الإمام عليعليه‌السلام على الآخرين ويجلّه ويعظّمه ، غمزه هؤلاء وقدحوا بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : (لقد فتن محمّد به) هنا أنزل الله تعالى قرآنا وذلك قوله :( ن وَالْقَلَمِ ) وأقسم بذلك ، وإنّك يا محمّد غير مفتون ومجنون حتّى قوله تعالى :( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) حيث الله هو العالم بالأشخاص الذين ضلّوا وانحرفوا عن سواء السبيل ، وهي إشارة إلى قريش التي كانت تطلق هذه الاتّهامات ، كما أنّه تعالى أعرف بمن اهتدى ، وهي إشارة إلى الإمام عليعليه‌السلام (١) .

* * *

بحثان

١ ـ دور القلم في حياة الإنسان

إنّ من أهمّ معالم التطور في الحياة البشرية ـ كما أشرنا سابقا ـ هو ظهور

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٣٤ ، (نقل الطبرسي هذا الحديث بسنده عن أهل السنّة).

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639