بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٤

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 639

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤
  • البداية
  • السابق
  • 639 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 247410 / تحميل: 8636
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

ومن المعلوم أنّ وقوع الخطاء في هذه المرحلة أعني مرحلة الدين ورفع الاختلاف عن الاجتماع يعادل نفس الاختلاف الاجتماعيّ في سدّ طريق استكمال النوع الإنسانيّ، وإضلاله هذا النوع في سيره إلى سعادته، فيعود المحذور من رأس.

قلت: الأبحاث السابقة تكفي مؤنة حلّ هذه العقدة، فإنّ الّذي ساق هذا النوع نحو هذه الفعليّة أعني الأمر الروحي الّذي يرفع الاختلاف إنّما هو الناموس التكوينيّ الّذي هو الإيصال التكوينيّ لكلّ نوع من الأنواع الوجوديّة إلى كماله الوجوديّ وسعادته الحقيقيّة، فإنّ السبب الّذي أوجب وجود الإنسان في الخارج وجوداً حقيقيّاً كسائر الأنواع الخارجيّة هو الّذي يهديه هداية تكوينيّة خارجيّة إلى سعادته، ومن المعلوم أنّ الاُمور الخارجيّة من حيث أنّها خارجيّة لا تعرضها الخطاء والغلط، أعني: أنّ الوجود الخارجيّ لا يوجد فيه الخطاء والغلط لوضوح أنّ ما في الخارج هو ما في الخارج! وإنّما يعرض الخطاء والغلط في العلوم التصديقيّة والاُمور الفكريّة من جهة تطبيقها على الخارج فإنّ الصدق والكذب من خواصّ القضايا، تعرضها من حيث مطابقتها للخارج وعدمها، وإذا فرض أنّ الّذي يهدي هذا النوع إلى سعادته ورفع اختلافه العارض على اجتماعه هو الإيجاد والتكوين لزم أن لا يعرضه غلط ولا خطاء في هدايته، ولا في وسيلة هدايته الّتي هي روح النبوّة وشعور الوحى، فلا التكوين يغلط في وضعه هذا الروح والشعور في وجود النبيّ، ولا هذا الشعور الّذي وضعه يغلط في تشخيصه مصالح النوع عن مفاسده وسعادته عن شقائه، ولو فرضنا له غلطاً وخطائاً في أمره وجب أن يتداركه بأمر آخر مصون عن الغلط والخطاء، فمن الواجب أن يقف أمر التكوين على صواب لا خطاء فيه ولا غلط.

فظهر: أنّ هذا الروح النبويّ لا يحلّ محلّاً إلّا بمصاحبة العصمة، وهي المصونيّة عن الخطاء في أمر الدين والشريعة المشرّعة، وهذه العصمة غير العصمة عن المعصية كما أشرنا إليه سابقاً، فإنّ هذه عصمة في تلقّي الوحى من الله سبحانه، وتلك عصمة في مقام العمل والعبوديّة، وهناك مرحلة ثالثة من العصمة وهي العصمة في تبليغ الوحى، فإنّ كلتيهما واقعتان في طريق سعادة الإنسان التكوينيّة وقوعاً تكوينيّاً،

١٦١

ولا خطاء ولا غلط في التكوين.

وقد ظهر بما ذكرنا الجواب عن إشكال آخر في المقام وهو: أنّه لم لا يجوز أن يكون هذا الشعور الباطنيّ مثل الشعور الفطريّ المشترك أعني الشعور الفكريّ في نحو الوجود بأن يكون محكوماً بحكم التغيّر والتأثّر؟ فإنّ الشعور الفطريّ وإن كان أمراً غير مادّيّ، ومن الاُمور القائمة بالنفس المجرّدة عن المادّة إلّا أنّه من جهة ارتباطه بالمادّة يقبل الشدّة والضعف والبقاء والبطلان كما في مورد الجنون والسفاهة والبلاهة والغباوة وضعف الشيب وسائر الآفات الواردة على القوى المدركة، فكذلك هذا الشعور الباطنيّ أمر متعلّق بالبدن المادّيّ نحواً من التعلّق، وإن سلّم أنّه غير مادّيّ في ذاته فيجب أن يكون حاله حال الشعور الفكريّ في قبول التغيّر والفساد، ومع إمكان عروض التغيّر والفساد فيه يعود الإشكالات السابقة البتّة.

والجواب: أنّا بيّنّا أن هذا السوق أعني سوق النوع الإنسانيّ نحو سعادته الحقيقيّة إنّما يتحقّق بيد الصنع والإيجاد الخارجيّ دون العقل الفكريّ، ولا معنى لتحقّق الخطاء في الوجود الخارجيّ.

وأمّا كون هذا الشعور الباطنيّ في معرض التغيّر والفساد لكونه متعلّقاً نحو تعلّق بالبدن فلا نسلّم كون كلّ شعور متعلّق بالبدن معرضاً للتغيّر والفساد، وإنّما القدر المسلّم من ذلك هذا الشعور الفكريّ (وقد مرّ أنّ الشعور النبويّ ليس من قبيل الشعور الفكريّ) وذلك أنّ من الشعور شعور الإنسان بنفسه، وهو لا يقبل البطلان والفساد والتغيّر والخطاء فإنّه علم حضوريّ معلومه عين المعلوم الخارجيّ، وتتمّة هذا الكلام موكول إلى محلّه.

فقد تبيّن ممّا مرّ اُمور:أحدها: انسياق الاجتماع الإنساني إلى التمدّن والاختلاف.

ثانيها: أنّ هذا الاختلاف القاطع لطريق سعادة النوع لا يرتفع ولن يرتفع بما يضعه العقل الفكريّ من القوانين المقرّرة.

ثالثها: أنّ رافع هذا الاختلاف إنّما هو الشعور النبويّ الّذي يوجده الله سبحانه

١٦٢

في بعض آحاد الإنسان لا غير.

رابعها: أنّ سنخ هذا الشعور الباطنيّ الموجود في الأنبياء غير سنخ الشعور الفكريّ المشترك بين العقلاء من أفراد الإنسان.

خامسها: أنّ هذا الشعور الباطنيّ لا يغلط في إدراكه الاعتقادات والقوانين المصلحة لحال النوع الإنسانيّ في سعادته الحقيقيّة.

سادسها: أنّ هذه النتائج (ويهمّنا من بينها الثلثة الأخيرة أعني: لزوم بعثة الأنبياء، وكون شعور الوحى غير الشعور الفكريّ سنخاً، وكون النبيّ معصوماً غير غالط في تلقّي الوحى) نتائج ينتجها الناموس العامّ المشاهد في هذه العالم الطبيعيّ، وهو سير كلّ واحد من الأنواع المشهودة فيه نحو سعادته بهداية العلل الوجوديّة الّتي جهّزتها بوسائل السير نحو سعادته والوصول إليها والتلبّس بها، والإنسان أحد هذه الأنواع، وهو مجهّز بما يمكنه به أن يعتقد الاعتقاد الحقّ ويتلبّس بالملكات الفاضلة، ويعمل عملاً صالحاً في مدينة صالحة فاضلة، فلا بدّ أن يكون الوجود يهيّئ له هذه السعادة يوماً في الخارج ويهديه إليه هداية تكوينيّة ليس فيها غلط ولا خطاء على ما مرّ بيانه.

١٦٣

( سورة البقرة آية ٢١٤)

أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ( ٢١٤ )

( بيان)

قد مرّ أنّ هذه الآيات آخذة من قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ) إلى آخر هذه الآية، ذات سياق واحد يربط بعضها ببعض.

قوله تعالى: ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ) ، تثبيت لما تدلّ عليه الآيات السابقة، وهو أنّ الدين نوع هداية من الله سبحانه للناس إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، ونعمة حباهم الله بها، فمن الواجب أن يسلّموا له ولا يتّبعوا خطوات الشيطان، ولا يلقوا فيه الاختلاف، ولا يجعلوا الدواء دائاً، ولا يبدّلوا نعمة الله سبحانه كفراً ونقمة من اتّباع الهوى وابتغاء زخرف الدنيا وحطامها فيحلّ عليهم غضب من ربّهم كما حلّ ببني إسرائيل حيث بدّلوا نعمة الله من بعد ما جائتهم، فإنّ المحنة دائمة، والفتنة قائمة، ولن ينال أحد من الناس سعادة الدين وقرب ربّ العالمين إلّا بالثبات والتسليم.

وفي الآية التفات إلى خطاب المؤمنين بعد تنزيلهم في الآيات السابقة منزلة الغيبة، فإنّ أصل الخطاب كان معهم ووجه الكلام إليهم في قوله: يا أيّها الّذين آمنوا ادخلوا في السلم كافّة، وإنّما عدل عن ذلك إلى غيره لعناية كلاميّة أوجبت ذلك، وبعد انقضاء الوطر عاد إلى خطابهم ثانياً

وكلمة أم منقطعة تفيد الإضراب، والمعنى على ما قيل: بل أحسبتم أن تدخلوا الجنّة الخ، والخلاف في أم المنقطعة معروف، والحقّ أنّ أم لإفاده الترديد، وأنّ الدلالة على معنى الإضراب من حيث انطباق معنى الإضراب على المورد، لا أنّها دلالة وضعيّة، فالمعنى في المورد مثلاً: هل انقطعتم بما أمرناكم من التسليم بعد الإيمان والثبات على

١٦٤

نعمة الدين، والاتّفاق والاتّحاد فيه أم لا بل حسبتم أن تدخلوا الجنّة الخ.

قوله تعالى: ( وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ) ، المثل بكسر الميم فسكون الثاء، والمثل بفتح الميم والثاء كالشبه والشبه، والمراد به ما يمثّل الشئ ويحضره ويشخّصه عند السامع، ومنه المثل بفتحتين، وهو الجملة أو القصّة الّتي تفيد استحضار معنى مطلوب في ذهن السامع بنحو الاستعارة التمثيليّة كما قال تعالى:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ) الجمعة - ٥، ومنه أيضاً المثل بمعنى الصفة كقوله تعالى:( انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ ) الفرقان - ٩، وإنّما قالوا لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مجنون وساحر وكذّاب ونحو ذلك، وحيث أنّه تعالى يبيّن المثل الّذي ذكره بقوله: مسّتهم البأساء والضرّاء إلخ فالمراد به المعنى الأوّل.

قوله تعالى: ( مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ ) إلى آخره لمّا اشتدّ شوق المخاطب ليفهم تفصيل الإجمال الّذي دلّ عليه بقوله: ولمّا يأتكم مثل الّذين، بيّن ذلك بقوله: مسّتهم البأساء والضرّاء والبأساء هو الشدّة المتوجّهة إلى الإنسان في خارج نفسه كالمال والجاه والأهل والأمن الّذي يحتاج إليه في حياته، والضرّاء هي الشدّة الّتي تصيب الإنسان في نفسه كالجرح والقتل والمرض، والزلزلة والزلزال معروف وأصله من زلّ بمعنى عثر، كرّرت اللفظة للدلالة على التكرار كأنّ الأرض مثلاً تحدث لها بالزلزلة عثرة بعد عثرة، وهو كصّر وصرصر، وصّل وصلصل، وكبّ وكبكب، والزلزال في الآية كناية عن الاضطراب والادّهاش.

قوله تعالى: ( حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ) ، قرء بنصب يقول، والجملة على هذا في محلّ الغاية لما سبقها، وقرء برفع يقول والجملة على هذا لحكاية الحال الماضية، والمعنيان وإن كانا جميعاً صحيحين لكنّ الثاني أنسب للسياق، فإنّ كون الجملة غاية يعلّل بها قوله: وزلزلوا لا يناسب السياق كلّ المناسبة.

قوله تعالى: ( مَتَىٰ نَصْرُ اللَّه ) ، الظاهر أنّه مقول قول الرسول والّذين آمنوا معه جميعاً، ولا ضير في أن يتفّوّه الرسول بمثل هذا الكلام استدعائاً وطلباً للنصر الّذي وعد به الله سبحانه رسله والمؤمنين بهم كما قال تعالى:( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا

١٦٥

الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ) الصافّات - ١٧٢، وقال تعالى:( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) المجادلة - ٢١، وقد قال تعالى أيضاً:( حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ) يوسف - ١١٠، وهو أشدّ لحناً من هذه الآية.

والظاهر أيضاً أنّ قوله تعالى: ألا إنّ نصر الله قريب مقول له تعالى لا تتمّة لقول الرسول والّذين آمنوا معه

والآية (كما مرّت إليه الإشارة سابقاً) تدلّ على دوام أمر الابتلاء والامتحان وجريانه في هذه الاُمّة كما جرى في الاُمم السابقة.

وتدل أيضاً على اتّحاد الوصف والمثل بتكرّر الحوادث الماضية غابراً، وهو الّذي يسمّى بتكرّر التاريخ وعوده.

١٦٦

( سورة البقرة آية ٢١٥)

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( ٢١٥ )

( بيان)

قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ ) ، قالوا: إنّ الآية واقعة على اُسلوب الحكمة، فإنّهم إنّما سألوا عن جنس ما ينفقون ونوعه، وكان هذا السؤال كاللّغو لمكان ظهور ما يقع به الإنفاق وهو المال على أقسامه، وكان الأحقّ بالسؤال إنّما هو من ينفق له: صرف الجواب إلى التعرّض بحاله وبيان أنواعه ليكون تنبيهاً لهم بحقّ السؤال.

والّذي ذكروه وجه بليغ غير أنّهم تركوا شيئاً، وهو أنّ الآية مع ذلك متعرّضه لبيان جنس ما ينفقونه، فإنّها تعرّضت لذلك: أوّلاً بقولها: من خير، إجمالاً، وثانياً بقولها: وما تفعّلوا من خير فإنّ الله به عليم، ففي الآية دلالة على أنّ الّذي ينفق به هو المال كائناً ما كان، من قليل أو كثير، وأنّ ذلك فعل خير والله به عليم، لكنّهم كان عليهم أن يسألوا عمّن ينفقون لهم ويعرفوه، وهم: الوالدان والأقربون واليتامى والمساكين وابن السبيل.

ومن غريب القول ما ذكره بعض المفسّرين: أنّ المراد بما في قوله تعالى: ماذا له ينفقون ليس هو السؤال عن المهيّة فإنّه اصطلاح منطقيّ لا ينبغي أن ينزّل عليه الكلام العربيّ ولا سيّما أفصح الكلام وأبلغه، بل هو السؤال عن الكيفيّة، وأنّهم كيف ينفقونه، وفي أيّ موضع يضعونه، فاُجيب بالصرف في المذكورين في الآية، فالجواب مطابق للسؤال لا كما ذكره علماء البلاغة!.

ومثله وهو أغرب منه ما ذكره بعض آخر: أنّ السؤال وإن كان بلفظ ما إلّا أنّ

١٦٧

المقصود هو السؤال عن الكيفيّة فإنّ من المعلوم أنّ الّذي ينفق به هو المال، وإذا كان هذا معلوماً لم يذهب إليه الوهم، وتعيّن أنّ السؤال عن الكيفيّة، نظير قوله تعالى:( قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ) البقرة - ٧٠، فكان من المعلوم أنّ البقرة بهيمة نشأتها وصفتها كذا وكذا، فلا وجه لحمل قوله: ما هي على طلب المهيّة، فكان من المتعيّن أن يكون سؤالاً عن الصفة الّتي بها تمتاز البقرة من غيرها، ولذلك اُجيب بالمطابقة بقوله تعالى:( إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ ) الآية البقرة - ٧١.

وقد اشتبه الأمر على هؤلاء، فإنّ ما وإن لم تكن موضوعة في اللغة لطلب المهيّة الّتي اصطلح عليها المنطق، وهي الحدّ المؤلّف من الجنس والفصل القريبين، لكنّه لا يستلزم أن تكون حينئذ موضوعة للسؤال عن الكيفيّة، حتّى يصحّ لقائل أن يقول عند السؤال عن المستحقّين للانفاق: ماذا اُنفق: أي على من اُنفق؟ فيجاب عنه بقوله: للوالدين والأقربين، فإنّ ذلك من أوضح اللحن.

بل ما موضوعة للسؤال عما يعرّف الشئ سواء كان معرّفاً بالحدّ والمهيّة، أو معرّفاً بالخواصّ والأوصاف، فهي أعمّ ممّا اصطلح عليه في المنطق لا أنّها مغايرة له وموضوعة للسؤال عن كيفيّة الشيئ، ومنه يعلم أنّ قوله تعالى:( يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ ) وقوله تعالى:( إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ ) سؤال وجواب جاريان على أصل اللغة، وهو السؤال عمّا يعرّف الشئ ويخصّه والجواب بذلك.

وأمّا قول القائل: إنّ المهيّة لمّا كانت معلومة تعيّن حمل ما على السؤال عن الكيفيّة دون المهيّة فهو من أوضح الخطاء، فإنّ ذلك لا يوجب تغيّر معنى الكلمة ممّا وضع له إلى غيره. ويتلوهما في الغرابة قول من يقول: إنّ السؤال كان عن الأمرين جميعاً: ما ينفقون؟ وأين ينفقون فذكر أحد السؤالين وحذف الآخر، وهو السؤال الثاني لدلالة الجواب عليه! وهو كما ترى.

وكيف كان لا ينبغي الشكّ في أنّ في الآية تحويلاً ما للجواب إلى جواب آخر تنبيهاً على أنّ الأحقّ هو السؤال عن من ينفق عليهم، وإلّا فكون الإنفاق من الخير

١٦٨

والمال ظاهر، والتحوّل من معنى إلى آخر للتنبيه على ما ينبغي التحوّل إليه والاشتغال به كثير الورود في القرآن، وهو من ألطف الصنائع المختصّة به كقوله تعالى:( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ) البقرة - ١٧١ وقوله تعالى:( مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ ) آل عمران - ١١٧ وقوله تعالى:( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ ) البقرة - ٢٦١، وقوله تعالى:( يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) الشعراء - ٨٩، وقوله تعالى:( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا ) الفرقان - ٥٧، وقوله تعالى:( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافّات - ١٦٠، إلى غير ذلك من كرائم الآيات.

قوله تعالى: ( وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) ، في تبديل الإنفاق من فعل الخير هيهنا كتبديل المال من الخير في أوّل الآية إيماء إلى أنّ الإنفاق وإن كان مندوباً إليه من قليل المال وكثيره، غير أنّه ينبغي أن يكون خيراً يتعلّق به الرغبة وتقع عليه المحبّة كما قال تعالى:( لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) آل عمران - ٩٢، وكما قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ ) البقرة - ٢٦٧.

وايماء إلى أن الإنفاق ينبغى أن لا يكون على نحو الشرّ كالإنفاق بالمنّ والأذى كما قال تعالى:( ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ) البقرة - ٢٦٢، وقوله تعالى:( وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) البقرة - ٢١٩.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور عن ابن عبّاس قال ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب محمّد ما سألوه إلّا عن ثلاث عشرة مسألة حتّى قبض، كلّهنّ في القرآن، منهنّ: يسئلونك عن الخمر والميسر، ويسألونك عن الشهر الحرام، ويسألونك عن اليتامى، ويسألونك عن المحيض، ويسألونك عن الأنفال، ويسألونك ماذا ينفقون، ما كانوا يسألون إلّا عمّا كان ينفعهم.

١٦٩

في المجمع في الآية: نزلت في عمرو بن الجموح - وكان شيخاً كبيراً ذا مال كثير - فقال: يا رسول الله! بماذا أتصدّق؟ وعلى من أتصدّق؟ فأنزل الله هذه الآية.

اقول: ورواه في الدرّ المنثور عن ابن المنذر عن ابن حيّان، وقد استضعفوا الرواية، وهي مع ذلك غير منطبق على الآية حيث لم يوضع في الآية إلّا السؤال عمّا يتصدّق به دون من يتصدّق عليه.

ونظيرها في عدم الانطباق ما رواه أيضاً عن ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريح قال: سأل المؤمنون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أين يضعون أموالهم؟ فنزلت يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير، فذلك النفقة في التطوّع، والزكوة سوى ذلك كلّه.

ونظيرها في ذلك أيضاً ما رواه عن السدّي، قال: يوم نزلت هذه الآية لم يكن زكاة، وهي النفقة ينفقها الرجل على أهله، والصدقة يتصدّق بها فنسختها الزكاة.

اقول: وليست النسبة بين آية الزكاة:( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ) التوبة - ١٠٣، وبين هذه الآية نسبه النسخ وهو ظاهر إلّا أن يعني بالنسخ معنى آخر.

١٧٠

( سورة البقرة آية ٢١٦ - ٢١٨)

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ( ٢١٦ ) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( ٢١٧ ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٢١٨ )

( بيان)

قوله تعالى: ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ) ، الكتابة كما مرّ مراراً ظاهرة في الفرض إذا كان الكلام مسوقاً لبيان التشريع، وفي القضاء الحتم إذا كان في التكوين فالآية تدلّ على فرض القتال على كافّة المؤمنين لكون الخطاب متوجّهاً إليهم إلّا من أخرجه الدليل مثل قوله تعالى:( يْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ) النور - ٦١، وغير ذلك من الآيات والأدلّة.

ولم يظهر فاعل كتب لكون الجملة مذيّلة بقوله:( وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ) وهو لا يناسب إظهار الفاعل صوناً لمقامه عن الهتك، وحفظاً لاسمه عن الاستخفاف أن يقع الكتابة المنسوبة إليه صريحاً مورداً لكراهة المؤمنين.

والكره بضمّ الكاف المشقّة الّتي يدركها الإنسان من نفسه طبعاً أو غير ذلك، والكره بفتح الكاف: المشقّة الّتي تحمّل عليه من خارج كأن يجبره إنسان آخر على

١٧١

فعل ما يكرهه، قال تعالى:( لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًاً ) النساء - ١٩، وقال تعالى:( فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًاً ) فصّلت - ١١، وكون القتال المكتوب كرهاً للمؤمنين إمّا لأنّ القتال لكونه متضمّناً لفناء النفوس وتعب الأبدان والمضارّ الماليّة وارتفاع الأمن والرخص والرفاهية، وغير ذلك ممّا يستكرهه الإنسان في حياته الإجتماعيّة لا محالة كان كرهاً وشاقّاً للمؤمنين بالطبع، فإنّ الله سبحانه وإن مدح المؤمنين في كتابه بما مدح، وذكر أنّ فيهم رجالاً صادقين في إيمانهم مفلحين في سعيهم، لكنّه مع ذلك عاتب طائفة منهم بما في قلوبهم من الزيغ والزلل، وهو ظاهر بالرجوع إلى الآيات النازلة في غزوة بدر واُحد والخندق وغيرها، ومعلوم أنّ من الجائز أن ينسب الكراهة والتثاقل إلى قوم فيهم كاره وغير كاره وأكثرهم كارهون، فهذا وجه.

وإمّا لأنّ المؤمنين كانوا يرون أنّ القتال مع الكفّار مع ما لهم من العدّة والقوّة لا يتمّ على صلاح الإسلام والمسلمين، وأنّ الحزم في تأخيره حتّى يتمّ لهم الاستعداد بزيادة النفوس وكثرة الأموال ورسوخ الاستطاعة، ولذلك كانوا يكرهون الإقدام على القتال والاستعجال في النزال، فبيّن تعالى أنّهم مخطئون في هذا الرأي والنظر، فإنّ لله أمراً في هذا الأمر هو بالغه، وهو العالم بحقيقة الأمر وهم لا يعلمون إلّا ظاهره وهذا وجه آخر.

وإمّا لأنّ المؤمنين لكونهم متربّين بتربية القرآن تعرق فيهم خلق الشفقة على خلق الله، وملكة الرحمة والرأفة فكانوا يكرهون القتال مع الكفّار لكونه مؤدّياً إلى فناء نفوس منهم في المعارك على الكفر، ولم يكونوا راضين بذلك بل كانوا يحبّون أن يداروهم ويخالطوهم بالعشرة الجميلة، والدعوة الحسنة لعلّهم يسترشدوا بذلك، ويدخلوا تحت لواء الإيمان فيحفظ نفوس المؤمنين من الفناء، ونفوس الكفّار من الهلاك الأبديّ والبوار الدائم، فبيّن ذلك أنّهم مخطئون في ذلك، فإنّ الله - وهو المشّرع لحكم القتال - يعلم أنّ الدعوة غير مؤثّرة في تلك النفوس الشقيّة الخاسرة، وأنّه لا يعود من كثير منهم عائد إلى الدين ينتفع به في دنياً أو آخرة، فهم في الجامعة الإنسانيّة كالعضو الفاسد الساري فساده إلى سائر الأعضاء، الّذي لا ينجع فيه علاجٌ دون

١٧٢

أن يقطع ويرمي به، وهذا أيضاً وجه.

فهذه وجوه يوجه بها قوله تعالى:( وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ) إلّا أنّ الأوّل أنسب نظراً إلى ما اُشير إليه من آيات العتاب، على أنّ التعبير في قوله: كتب عليكم القتال، بصيغة المجهول على ما مرّ من الوجه يؤيّد ذلك.

قوله تعالى: ( وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ) ، قد مرّ فيما مرّ أنّ أمثال عسى ولعلّ في كلامه تعالى مستعمل في معنى الترجيّ، وليس من الواجب قيام صفة الرجاء بنفس المتكلّم بل يكفي قيامها بالمخاطب أو بمقام التخاطب، فالله سبحانه إنّما يقول: عسى أن يكون كذا لا لأنّه يرجوه، تعالى عن ذلك، بل ليرجوه المخاطب أو السامع.

وتكرار عسى في الآية لكون المؤمنين كارهين للحرب، محبّين للسلم، فأرشدهم الله سبحانه على خطائهم في الأمرين جميعاً، بيان ذلك: أنّه لو قيل: عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم أو تحبّوا شيئاً وهو شرٌّ لكم، كان معناه أنّه لا عبرة بكرهكم وحبّكم فإنّهما ربّما يخطئان الواقع، ومثل هذا الكلام إنّما يلقى إلى من أخطأ خطأ واحداً كمن يكره لقاء زيد فقط، وأمّا من أخطأ خطائين كان يكره المعاشرة والمخالطة ويحبّ الاعتزال، فالّذي تقتضيه البلاغة أن يشار إلى خطائه في الأمرين جميعاً، فيقال له: لا في كرهك أصبت، ولا في حبّك اهتديت، عسى أن تكره شيئاً وهو خير لك وعسى أن تحبّ شيئاً وهو شرّ لك لأنّك جاهل لا تقدر أن تهتدي بنفسك إلى حقيقة الأمر، ولمّا كان المؤمنون مع كرههم للقتال محبّين للسلم كما يشعر به أيضاً قوله تعالى سابقاً: أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يأتكم مثل الّذين خلوا من قبلكم، نبّههم الله بالخطائين بالجملتين المستقلّتين وهما: عسى أن تكرهوا، وعسى أن تحبّوا.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) ، تتميم لبيان خطائهم، فإنّه تعالى تدرّج في بيان ذلك إرفاقاً بأذهانهم، فأخذ أوّلاً بإبداء احتمال خطائهم في كراهتهم للقتال بقوله: عسى أن تكرهوا، فلمّا اعتدلت أذهانهم بحصول الشكّ فيها، وزوال صفة الجهل المركّب كرّ عليهم ثانياً بأنّ هذا الحكم الّذي كرهتموه أنتم إنّما شرّعه

١٧٣

الله الّذي لا يجهل شيئاً من حقائق الاُمور، والّذي ترونه مستند إلى نفوسكم الّتي لا تعلم شيئاً إلّا ما علّمها الله إيّاه وكشف عن حقيقته، فعليكم أن تسلّموا إليه سبحانه الأمر.

والآية في إثباته العلم له تعالى على الإطلاق ونفى العلم عن غيره على الإطلاق تطابق سائر الآيات الدالّة على هذا المعنى كقوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ ) آل عمران - ٥، وقوله تعالى:( وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ) البقرة - ٢٥٥، وقد سبق بعض الكلام في القتال في قوله:( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) البقرة - ١٩٠.

قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ) ، الآية تشتمل على المنع عن القتال في الشهر الحرام وذمّة بأنّه صدّ عن سبيل الله وكفر، واشتمالها مع ذلك على أنّ إخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر عند الله، وأنّ الفتنة أكبر من القتل، يؤذن بوقوع حادثة هي الموجبة للسؤال وأنّ هناك قتلاً، وأنّه إنّما وقع خطائاً لقوله تعالى في آخر الآيات( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) الآية، فهذه قرائن على وقوع قتل في الكفّار خطائاً من المؤمنين في الشهر الحرام في قتال واقع بينهم، وطعن الكفّار به، ففيه تصديق لما ورد في الروايات من قصّة عبدالله بن جحش وأصحابه.

قوله تعالى: ( قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) ، الصدّ هو المنع والصرف، والمراد بسبيل الله العبادة والنسك وخاصّة الحجّ، والظاهر أن ضمير به راجع إلى السبيل فيكون كفراً في العمل دون الاعتقاد، والمسجد الحرام عطف على سبيل الله أي صدّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام.

والآية تدلّ على حرمة القتال في الشهر الحرام، وقد قيل: إنّها منسوخة بقوله تعالى:( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ) التوبة - ٦، وليس بصواب، وقد مرّ بعض الكلام في ذلك في تفسير آيات القتال.

قوله تعالى: ( وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ) ، أي والّذي فعله المشركون من إخراج رسول الله والمؤمنين من المهاجرين - وهم أهل المسجد

١٧٤

الحرام - منه أكبر من القتال، وما فتنوا به المؤمنين من الزجر والدعوة إلى الكفر أكبر من القتل، فلا يحقّ للمشركين أن يطعنوا المؤمنين وقد فعلوا ما هو أكبر ممّا طعنوا به، ولم يكن المؤمنون فيما أصابوه منهم إلّا راجين رحمة الله والله غفور رحيم.

قوله تعالى: ( وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ ) إلى آخر الآية حتّى للتعليل أي ليردّوكم.

قوله تعالى: ( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ ) الخ تهديد للمرتدّ بحبط العمل وخلود النار.

( كلام في الحبط)

والحبط هو بطلان العمل وسقوط تأثيره، ولم ينسب في القرآن إلّا إلى العمل كقوله تعالى:( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) الزمر - ٦٥، وقوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَىٰ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ) محمّد - ٣٣، وذيل الآية يدلّ بالمقابلة على أنّ الحبط بمعنى بطلان العمل كما هو ظاهر قوله تعالى:( وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) هود - ١٦، ويقرب منه قوله تعالى:( وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ) الفرقان - ٢٣.

وبالجملة الحبط هو بطلان العمل وسقوطه عن التأثير، وقد قيل: إنّ أصله من الحبط بالتحريك وهو أن يكثر الحيوان من الأكل فينتفخ بطنه وربّما أدّى إلى هلاكه.

والّذي ذكره تعالى من أثر الحبط بطلان الأعمال في الدنيا والآخرة معاً، فللحبط تعلّق بالأعمال من حيث أثرها في الحياة الآخرة، فإنّ الإيمان يطيّب الحياة الدّنيا كما يطيّب الحياة الآخرة، قال تعالى:( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) النحل - ٩٧، وخسران سعى الكافر، وخاصّة من ارتدّ إلى الكفر بعد الإيمان، وحبط عمله في الدنيا ظاهر لا غبار عليه، فإنّ قلبه غير متعلّق بأمر ثابت - وهو الله سبحانه - يبتهج به عند النعمة،

١٧٥

ويتسلّى به عند المصيبة، ويرجع إليه عند الحاجة، قال تعالى:( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) الانعام - ١٢٢، تبيّن الآية أن للمؤمن في الدنيا حياة ونوراً في أفعاله، وليس للكافر، ومثله قوله تعالى،( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ ) طه - ١٢٤، حيث يبيّن أنّ معيشة الكافر وحياته في الدّنيا ضنك ضيّقة متعبة، وبالمقابلة معيشة المؤمن وحياته سعيدة رحبة وسيعة.

وقد جمع الجميع ودلّ على سبب هذه السعادة والشقاوة قوله تعالى:( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ ) محمّد - ١١.

فظهر ممّا قرّبناه أنّ المراد بالأعمال مطلق الأفعال الّتي يريد الإنسان بها سعادة الحياة، لا خصوص الأعمال العباديّة، والأفعال القربيّة الّتي كان المرتد عملها وأتى بها حال الإيمان، مضافاً إلى أنّ الحبط وارد في مورد الّذين لا عمل عباديّ، ولا فعل قربيّ لهم كالكفّار والمنافقين كقوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) محمّد - ٩، وقوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ) آل عمران - ٢٢، إلى غير ذلك من الآيات.

فمحصّل الآية كسائر آيات الحبط هو أنّ الكفر والإرتداد يوجب بطلان العمل عن أن يؤثّر في سعادة الحياة، كما أنّ الإيمان يوجب حياة في الأعمال تؤثّر بها أثرها في السعادة، فإن آمن الإنسان بعد الكفر حييت أعماله في تأثير السعادة بعد كونها محبطة باطلة، وإن ارتدّ بعد الإيمان ماتت أعماله جميعاً وحبطت، فلا تأثير لها في سعادة دنيويّة ولا اُخرويّة، لكن يرجى له ذلك إن هو لم يمت على الردّة وإن مات على الردّة حتم له الحبط وكتب عليه الشقاء.

١٧٦

ومن هنا يظهر بطلان النزاع في بقاء أعمال المرتدّ إلى حين الموت والحبط عنده أو عدمه.

توضيح ذلك: أنّه ذهب بعضهم إلى أنّ أعمال المرتدّ السابقة على ردّته باقية إلى حين الموت، فإن لم يرجع إلى الإيمان بطلت بالحبط عند ذلك، واستدلّ عليه بقوله تعالى( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) الآية وربّما أيّده قوله تعالى:( وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ) الفرقان - ٢٣، فإنّ الآية تبيّن حال الكفّار عند الموت، ويتفرّع عليه أنّه لو رجع إلى الإيمان تملّك أعماله الصالحة السابقة على الارتداد.

وذهب آخرون إلى أنّ الردّة تحبط الأعمال من أصلها فلا تعود إليه وإن آمن من بعد الارتداد، نعم له ما عمله من الأعمال بعد الإيمان ثانياً إلى حين الموت، وأمّا الآية فإنّما أخذت قيد الموت لكونها في مقام بيان جميع أعماله وأفعاله الّتي عملها في الدنيا!

وأنت بالتدبّر فيما ذكرناه تعرف: أن لا وجه لهذا النزاع أصلاً، وأنّ الآية بصدد بيان بطلان جميع أعماله وأفعاله من حيث التأثير في سعادته!

وهنا مسألة اُخرى كالمتفرّعة على هذه المسألة وهي مسألة الإحباط والتكفير، وهي أنّ الأعمال هل تبطل بعضها بعضاً أو لا تبطل بل للحسنة حكمها وللسيّئة حكمها؟ نعم الحسنات ربّما كفّرت السيّئآت بنصّ القرآن.

ذهب بعضهم إلى التباطل والتحابط بين الأعمال وقد اختلف هؤلاء بينهم، فمن قائل بأنّ كلّ لاحق من السيّئة تبطل الحسنة السابقة كالعكس، ولازمه أن لا يكون عند الإنسان من عمله إلّا حسنة فقط أو سيّئة فقط، ومن قائل بالموازنة وهو أن ينقص من الأكثر بمقدار الأقلّ ويبقى الباقي سليماً عن المنافي، ولازم القولين جميعاً أن لا يكون عند الإنسان من أعماله إلّا نوع واحد حسنة أو سيّئة لو كان عنده شئ منهما.

ويردّهما أوّلاً قوله تعالى:( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) التوبة - ١٠٢، فإنّ الآية ظاهرة في اختلاف الأعمال وبقائها على حالها إلى أن تلحقها توبة من الله سبحانه، وهو ينافي التحابط

١٧٧

بأيّ وجه تصوّروه.

وثانياً: أنّه تعالى جرى في مسألة تأثير الأعمال على ما جرى عليه العقلاء في الاجتماع الإنسانيّ من طريق المجازاة، وهو الجزاء على الحسنة على حدة وعلى السيّئة على حدة إلّا في بعض السيّئآت من المعاصي الّتي تقطع رابطة المولويّة والعبوديّة من أصلها فهو مورد الإحباط، والآيات في هذه الطريقة كثيرة غنيّة عن الإيراد.

وذهب آخرون إلى أنّ نوع الأعمال محفوظة، ولكلّ عمل أثره سواء في ذلك الحسنة والسيّئة.

نعم الحسنة ربّما كفّرت السيّئة كما قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) الأنفال - ٢٩، وقال تعالى:( فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ) الآية البقرة - ٢٠٣، وقال تعالى:( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) النساء - ٣٠، بل بعض الأعمال يبدّل السيّئة حسنة كما قال تعالى:( إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) الفرقان - ٧٠.

وهنا مسألة اُخرى هي كالأصل لهاتين المسألتين، وهي البحث عن وقت استحقاق الجزاء وموطنه، فقيل: إنّه وقت العمل، وقيل: حين الموت، وقيل: الآخرة، وقيل: وقت العمل بالموافاة بمعنى إنّه لو لم يدم على ما هو عليه حال العمل إلى حين الموت وموافاته لم يستحقّ ذلك إلّا أن يعلم الله ما يؤل إليه حاله ويستقرّ عليه، فيكتب ما يستحقّه حال العمل.

وقد استدلّ أصحاب كلّ قول بما يناسبه من الآيات، فإنّ فيها ما يناسب كلّاً من هذه الأوقات بحسب الانطباق، وربّما استدلّ ببعض وجوه عقليّة ملفّقة.

والّذي ينبغي أن يقال: إنّا لو سلكنا في باب الثواب والعقاب والحبط والتكفير وما يجري مجراها مسلك نتائج الأعمال على ما بيّناه في تفسير قوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ) البقرة - ٢٦، كان لازم ذلك كون النفس الإنسانيّة ما دامت متعلّقة بالبدن جوهراً متحوّلاً قابلاً للتحوّل في ذاته وفي آثار ذاته من الصور الّتي تصدر عنها وتقوم بها نتائج وآثار سعيدة أو شقيّة، فإذا صدر منه

١٧٨

حسنة حصل في ذاته صورة معنويّة مقتضية لاتّصافه بالثواب، وإذا صدر منه معصية فصورة معنويّة تقوم بها صورة العقاب، غير أنّ الذات لمّا كانت في معرض التحوّل والتغيّر بحسب ما يطرؤها من الحسنات والسيّئآت كان من الممكن أن تبطل الصورة الموجودة الحاضرة بتبدّلها إلى غيرها، وهذا شأنها حتّى يعرضها الموت فتفارق البدن وتقف الحركة ويبطل التحوّل واستعداده، فعند ذلك يثبت لها الصور وآثارها ثبوتاً لا يقبل التحوّل والتغير إلا بالمغفرة أو الشفاعة على النحو الّذي بيّناه سابقاً.

وكذا لو سلكنا في الثواب والعقاب مسلك المجازاة على ما بيّناه فيما مرّ كان حال الإنسان من حيث اكتساب الحسنة والمعصية بالنسبة إلى التكاليف الإلهيّة وترتّب الثواب والعقاب عليها حاله من حيث الإطاعة والمعصية في التكاليف الإجتماعيّة وترتّب المدح والذمّ عليها، والعقلاء يأخذون في مدح المطيع والمحسن وذمّ العاصي والمسئ بمجرّد صدور الفعل عن فاعله، غير أنّهم يرون ما يجازونه به من المدح والذمّ قابلاً للتغيّر والتحوّل لكونهم يرون الفاعل ممكن التغيّر والزوال عمّا هو عليه من الانقياد والتمرّد، فلحوق المدح والذمّ على فاعل الفعل فعليّ عندهم بتحقّق الفعل غير أنّه موقوف البقاء على عدم تحقّق ما ينافيه، وأمّا ثبوت المدح والذم ولزومهما بحيث لا يبطلان قطّ فإنّما يكون إذا ثبت حاله بحيث لا يتغيّر قطّ بموت أو بطلان استعداد في الحياة.

ومن هنا يعلم: أنّ في جميع الأقوال السابقة في المسائل المذكورة انحرافاً عن الحقّ لبنائهم البحث على غير ما ينبغي أن يبنى عليه.

وأنّ الحقّ أوّلاً: أنّ الإنسان يلحقه الثواب والعقاب من حيث الاستحقاق بمجرّد صدور الفعل الموجب له لكنّه قابل للتحوّل والتغيّر بعد، وإنّما يثبت من غير زوال بالموت كما ذكرناه.

وثانياً: أنّ حبط الأعمال بكفر ونحوه نظير استحقاق الأجر يتحقّق عند صدور المعصية ويتحتّم عند الموت.

وثالثاً: أنّ الحبط كما يتعلّق بالأعمال الاُخرويّة كذلك يتعلّق بالأعمال الدنيويّة.

ورابعاً: أنّ التحابط بين الأعمال باطل بخلاف التكفير ونحوه.

١٧٩

( كلام في أحكام الأعمال من حيث الجزاء)

من أحكام الأعمال: أنّ من المعاصي ما يحبط حسنات الدنيا والآخرة كالارتداد. قال تعالى:( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) وكالكفر بآيات الله والعناد فيه. قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) آل عمران - ٢٢، وكذا من الطاعات ما يكفّر سيّئآت الدنيا والآخرة كالإسلام والتوبة، قال تعالى:( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم ) الزمر - ٥٥، وقال تعالى:( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ ) طه - ١٢٤.

وأيضاً: من المعاصي ما يحبط بعض الحسنات كالمشاقّة مع الرسول، قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَىٰ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ) سورة محمّد - ٣٣، فإنّ المقابلة بين الآيتين تقضي بأن يكون الأمر بالإطاعة في معنى النهي عن المشاقّة، وإبطال العمل هو الإحباط، وكرفع الصوت فوق صوت النبيّ، قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ) الحجرات - ٢.

وكذا من الطاعات ما يكفّر بعض السيّئآت كالصلوات المفروضة، قال تعالى:( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) هود - ١١٤، وكالحجّ، قال تعالى:( فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ) البقرة - ٢٠٣، وكاجتناب الكبائر، قال تعالى:( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ )

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

و الصواب المختار أن تقول : ألقت الدواة ، و حكى عن ابن دريد ألقت و لقت(١) . .

و حينئذ فليقل للجوهري و لمقلده ابن أبي الحديد في نسبة كلامهعليه‌السلام إلى اللّغة القليلة : « إقلب تصب » .

و لعل منشأ توهّم الجوهري أنّه رأى أنّهم قالوا « القنا الدوايا رديئة » و مقصودهم رداءة الدوايا فظن كون مرادهم رداءة الاق ، فقال الصولي : يقال دواة و دوايا و هي رديئة ، قال الشاعر :

إذا نحن وجّهنا إليكم صحيفة

ألقنا الدوايا بالدموع السواجم(٢) .

هذا ، و في ( اليتيمة ) كان كاتب سيف الدولة يعجن مداده بالمسك و لا تليق دواته إلاّ بماء الورد تفاديا من قول القائل :

دعيّ في الكتابة لا رويّ

له يعدّ و لا بديه

كأنّ دواته من ريق فيه

تلاق فريحها أبدا كريه(٣)

« تلاق » المستقبل المجهول من ألاق .

« و أطل جلفة قلمك » في ( الأساس ) : جلفة القلم من مبراه إلى سنّه ، من جلفته بالسيف إذا بضعت من لحمه بضعة(٤) .

في ( تاريخ بغداد ) كان أحمد بن يوسف بن صبيح من أفاضل كتّاب المأمون ، قال : و رآني عبد الحميد بن يحيى أكتب خطّا رديئا ، فقال لي : ان أردت أن يجود خطّك فأطل جلفتك و أسمنها و حرّف قطعتك و أيمنها(٥) .

هذا ، و ممّا لغز في القلم قول الشاعر :

____________________

( ١ ) أدب الكتاب للصولي : ٩٩ .

( ٢ ) المصدر نفسه .

( ٣ ) يتيمة الدهر للثعالبي ١ : ٢٠١ .

( ٤ ) أساس البلاغة للزمخشري : ٦٢ مادة ( ج ل ض ) .

( ٥ ) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ٥ : ٢١٧ .

٤٨١

عجبت لذي سنّين في الماء نبته

له أثر في كلّ مصر و معمر(١)

و في ( اليتيمة ) قال السري في الفياض كاتب سيف الدولة :

لك القلم الذي يصبح و يمسي

به الاقليم محميّ الحريم(٢)

و في ( طرائف المقدسي ) : كما أقسم اللَّه تعالى بالأشياء الجليلة الأقدار الكبيرة الأخطار في نفوس عباده و عيون بلاده كالشمس و القمر و الليل و النهار و السماء و الأرض ، أقسم بالقلم فقال :( ن و القَلَمِ وَ ما يَسطُرُون ) (٣) و ذاكرت في هذا أبا الفتح البستي فأنشدني لنفسه :

إذا افتخروا يوما بسيفهم

و عدّوه ممّا يكسب المجد و الكرم

كفى قلم الكتّاب فخرا و رفعة

مدى الدهر أنّ اللَّه أقسم بالقلم(٤)

و قال آخر : لم أر باكيا أحسن تبسّما من القلم .

« و فرّج بين السطور » لا تنافي بين التفريج بينها كما هنا و المقاربة بنيها كما في خبر الخصال(٥) كما لا يخفى .

« و قرمط بين الحروف » أي : قارب بينها ، و لا بد ان حروف كلّ كلمة لتكن أقرب إلى نفسها منها إلى حروف كلمة أخرى .

« فان ذلك أجدر بصباحة الخط » في ( الطرائف ) قال إقليدس : الخطّ هندسة روحانية و إن ظهرت بآلة جسمانية .

____________________

( ١ ) عيون الأخبار لابن قتيبة ١ : ٤٨ .

( ٢ ) يتيمة الدهر و خريدة العصر للثعالبي ١ : ١٠٢ .

( ٣ ) القلم : ١ .

( ٤ ) الطرايف و اللطايف لأحمد المقدسي : ٣١ ، الباب الخامس عشر في مدح الخط و القلم ، و ذكر الآية فقط أما باقي النصّ فالظاهر أنّه إضافة من المؤلف زيادة في التوضيح .

( ٥ ) الخصال للصدوق ١ : ٣١٠ ح ٨٥ ، و قد مرّ في الصفحة ٢٦٥ في بداية شرح الحكمة ٣١٥ فراجع .

٤٨٢

و قال إفلاطون : الخطّ عقال العقل(١) .

قولهعليه‌السلام في ( رواية الخصال ) : و احذفوا من فضولكم و اقصدوا المعاني ، و إيّاكم و الإكثار(٢) .

في ( تاريخ بغداد ) : رئي مروان بن أبي حفصة واقفا بباب الجسر كئيبا آسفا ينكت بسوطه في معرفة دابته ، فقيل : ما الذي نراه بك ؟ قال : أخبركم بالعجب ، مدحت الرشيد فوصفت له ناقتي من خطامها إلى خفّيها و وصفت الفيافي من اليمامة إلى بابه أرضا أرضا و رملة رملة ، حتى إذا أشفيت منه على غناء الدهر جاء ابن بيّاعة النخاخير يعني أبا العتاهية فأنشده بيتين ضعضع بهما شعري و سوّاه في الجائزة بي و هما :

إنّ المطايا تشتكيك لأنّها

تطوي إليك سباسبا و رمالا

فإذا رحلن بنا رحلن مخفّة

و إذا رجعن بنا رجعن ثقالا(٣)

٢٨ الحكمة ( ٦٦ ) و قالعليه‌السلام :

فَوْتُ اَلْحَاجَةِ أَهْوَنُ مِنْ طَلَبِهَا إِلَى غَيْرِ أَهْلِهَا أقول : في الكافي عن الحسنعليه‌السلام : إذا طلبتم الحوائج فاطلبوها من أهلها .

قيل : يا ابن رسول اللَّه من أهلها قال : الذين ذكرهم اللَّه في كتابه فقال( إِنّما يَتذكرُ اُولُو الأَلبابِ ) (٤) و هم أولو العقل(٥) .

____________________

( ١ ) الطرائف و اللطائف لأحمد المقدسي : ٣١ .

( ٢ ) الصدوق : الخصال ١ : ٣١٠ ح ٨٥ و قد مرّ : ٢٦٥ .

( ٣ ) ورد في ديوان أبي العتاهية : ٢١٦ كذلك راجع تاريخ بغداد ٦ : ٢٥٨ ترجمة إسماعيل بن القاسم .

( ٤ ) الزمر : ٩ .

( ٥ ) الكافي للكليني ١ : ١٩٠ ح ٢٢ .

٤٨٣

و لمّا مطل أحمد بن أبي داود أبا الأسد في حاجته قال :

فصرت من سوء ما رميت به

اكنى أبا الكلب لا أبا الأسد(١)

٢٩ الحكمة ( ٦٧ ) و قالعليه‌السلام :

لاَ تَسْتَحِ مِنْ إِعْطَاءِ اَلْقَلِيلِ فَإِنَّ اَلْحِرْمَانَ أَقَلُّ مِنْهُ أقول : في ( تاريخ بغداد ) كتب كلثوم بن عمرو إلى رجل :

إذا تكرّهت أن تعطي القليل و لا

تكون ذا سعة لم يظهر الجود

بثّ النّوال و لا يمنعك قلّته

فكلّ ما سدّ فقرا فهو محمود

فشاطره ماله حتى بعث بنصف خاتمه و فرد نعله(٢) .

٣٠ الحكمة ( ٥ ) و قالعليه‌السلام :

صَدْرُ اَلْعَاقِلِ صُنْدُوقُ سِرِّهِ وَ اَلْبَشَاشَةُ حِبَالَةُ اَلْمَوَدَّةِ وَ اَلاِحْتِمَالُ قَبْرُ اَلْعُيُوبِ أَو وَ اَلْمُسَالَمَةُ خِبَاءُ اَلْعُيُوبِ وَ مَنْ رَضِيَ عَنْ نَفْسِهِ كَثُرَ اَلسَّاخِطُ عَلَيْهِ أقول : كون العنوان إلى هنا في ( الطبعة المصرية )(٣) ، و لكن ابن أبي الحديد جعل(٤) فقرة « و من رضي . » جزء الآتي ، و أمّا ( ابن ميثم )

_ ___________________

( ١ ) ذكر ترجمته و بعض أخباره ابن عبد ربه في العقد الفريد ٤ : ١٣٩ .

( ٢ ) الخطيب البغدادي تاريخ بغداد ١٢ : ٤٩١ .

( ٣ ) النسخة المصرية : ٦٠٩ رقم ٥ ، شرح محمّد عبده .

( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٩٧ رقم ( ٦ و ٧ ) .

( ٥ ) راجع شرح ابن ميثم ٥ : ٢٣٨ .

٤٨٤

و الخطية(١) فجعلا من العنوان الثاني إلى السادس ، أي من الباب الثالث عنوانا واحدا .

« صدر العاقل صندوق سرّه » في ( أدب كاتب الصولي ) : كان رجل من الكتّاب يهوى مغنّية و يكاتبها ، فكانت تخرّق كتبه و تأمر بتخريق كتبها ، فكتب إليها : إنّي أحتفظ بكتبك و تتهاونين بكتبي فتخرّقينها ، فكتبت إليه :

يا ذا الذي لام في تخريق قرطاس

كم مرّ محلك في الدّنيا على راسي

الحزم تخريقه إن كنت ذا نظر

و إنّما الحزم سوء الظنّ بالناس

إذا أتاك و قد أدّى أمانته

فاجعل كرامته دفنا بأرماس

و شق قرطاس من تهوى و كن حذرا

يا رب ذي ضيعة من حفظ قرطاس

فكتب إليها : « الصواب رأيك » ، و خرّق رقاعها(٢) .

و في ( كامل المبرد ) : أحسن ما سمع في صيانة السر ما يعزى إلى علي بن أبي طالبعليه‌السلام فقائل يقول هو له و قائل يقول قاله متمثلا و لم يختلف في انّه كان يكثر إنشاده :

فلا تفش سرّك إلاّ إليك

فان لكلّ نصيح نصيحا

و إنّي رأيت غواة الرجال

لا يتركون أديما صحيحا(٣)

و قال امرؤ القيس :

إذا المرء لم يخزن عليه لسانه

فليس على شي‏ء سواه بخازن(٤)

و قال آخر :

____________________

( ١ ) النسخة الخطية ( المرعشي ) : ٣٠٦ .

( ٢ ) أدب الكتاب للصولي : ١٠٩ .

( ٣ ) الكامل في الأدب للمبرد ٢ : ١٥ « في صيانة السر » زيادة من المؤلف ، ذكره النخعي في الديوان المنسوب إلى الإمام : ٣٠ .

( ٤ ) ديوان امرى‏ء القيس : ١٧٣ .

٤٨٥

سأكتمه سرّي و أحفظ سرّه

و ما غرّني أنّي عليه كريم

حليم فينسى أو جهول يضيعه

و ما الناس إلاّ جاهل و حليم(١)

أيضا :

إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه

فصدر الذي يستودع السر أضيق(٢)

« و البشاشة حبالة المودة » عنهعليه‌السلام « إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بطلاقة الوجه و حسن اللقاء »(٣) .

و عن علي بن محمد التنوخي :

الق العدوّ بوجه لا قطوب به

يكاد يقطر من ماء البشاشات

فأحزم الناس من يلقى أعاديه

في جسم حقد وثوب من مودّات(٤)

و عن أكثم بن صيفي : الانقباض من الناس مكسبة للعداوة ، و افراط الانس مكسبة لقرناء السوء(٥) .

« و الاحتمال قبر العيوب » قال ابن أبي الحديد و من كلامهعليه‌السلام « وجدت الاحتمال أنصر لي من الرجال » .

و من كلامهعليه‌السلام : من سالم الناس سلم منهم ، و من حاربهم حاربوه ، فإنّ العثرة للكاثر .

و كان يقال : العاقل خادم الأحمق أبدا ، إن كان فوقه لا يجد بدّا من مداراته و إن كان دونه لم يجد من احتماله و استكفاف شرّه بدّا(٦) .

____________________

( ١ ) الكامل في الأدب للمبرد ٢ : ١٨ ، ( المعارف : بيروت ) .

( ٢ ) الكامل في الأدب للمبرّد ٢ : ١٩ .

( ٣ ) نسبها الصدوق للرسول الأكرم صلّى اللَّه عليه و آله من حديث غياث بن إبراهيم : الأمالي : ٢٠ ح ٩ .

( ٤ ) أدب الدنيا و الدين للماوردي : ١٨٣ .

( ٥ ) عيون الأخبار لابن قتيبة ١ : ٣٢٨ .

( ٦ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٩٩ .

٤٨٦

« أو و المسالمة خباء العيوب » هكذا في ( الطبعة المصرية ) ، و لكن في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) : و ( روي أنّهعليه‌السلام قال في العبارة عن هذا المعنى أيضا :

« المسالمة خباء العيوب » و صرّح الثاني بأنّه كلام الرضي ) و هو الصحيح ، و خباء العيوب خفاؤها و استتارها(١) .

و في معنى قوله هذا الاحتمال أو المسالمة قبر العيوب أو خباء العيوب و قولهعليه‌السلام « البشاشة حبالة المودة »(٢) و قولهعليه‌السلام « ليجتمع في قلبك الافتقار إلى النّاس و الاستغناء عنهم ، يكون افتقارك إليهم في لين كلامك و حسن سيرك ، و يكون استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك و بقاء عزّك »(٣) .

« و من رضي عن نفسه كثر الساخط عليه » لأنّه يعجب بنفسه ، و من أعجب بنفسه يتنفر الناس عنه و يكثرون السخط عليه .

و قال ابن أبي الحديد مثله قول الشاعر :

إذا كنت تقضي أنّ عقلك كامل

و أنّ بني حوّاء غيرك جاهل

و أنّ مفيض العلم صدرك كلّه

فمن ذا الذي يدري بأنّك عاقل(٤)

لكنه كما ترى معنى آخر .

٣١ الحكمة ( ٢٠ ) و قالعليه‌السلام :

قُرِنَتِ اَلْهَيْبَةُ بِالْخَيْبَةِ وَ اَلْحَيَاءُ بِالْحِرْمَانِ وَ اَلْفُرْصَةُ تَمُرُّ مَرَّ اَلسَّحَابِ فَانْتَهِزُوا فُرَصَ اَلْخَيْرِ

____________________

( ١ ) راجع الهوامش ( ٢ ٤ ) من الصفحة السابقة .

( ٢ ) بحار الأنوار ١٨ : ٩٨ .

( ٣ ) بحار الأنوار ٧٥ : ١٠٦ رواية ٣ .

( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ١٠١ .

٤٨٧

أقول : و روى الشيخ في ( أماليه ) مسندا عن الرضاعليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : الهيبة خيبة و الفرصة خلصة و الحكمة ضالّة المؤمن فاطلبوها و لو عند المشرك تكونوا أحقّ بها و أهلها(١) .

و في ( الأغاني ) : قال دعبل : ما حسدت أحدا قط على شعر كما حسدت العتابي على قوله :

هيبة الإخوان قاطعة

لأخي الحاجات عن طلبه

فإذا ما هبت ذا أمل

مات ما أمّلت من سببه(٢)

قال ابن مهرويه : هذا سرقة العتابي من قول علي بن أبي طالب :

الهيبة مقرونة بالخيبة ، و الحياء مقرون بالحرمان ، و الفرصة تمرّ مرّ السّحاب .

حدّثني محمد بن داود عن محمد بن أبي الأزهر عن عيسى بن الحسن بن داود الجعفري عن أخيه عن علي بن أبي طالب بذلك(٣) .

« قرنت الهيبة بالخيبة » قال ( ابن أبي الحديد ) : كانت العرب إذا أوفدت وافدا قالت له : إيّاك و الهيبة فإنّها خيبة ، و لا تبت عند ذنب الأمر و بت عند رأسه(٤) . . و قال الشاعر :

من راقب الناس مات غمّا

و فاز باللذة الجسور(٥)

« و الحياء بالحرمان » في ( المعجم ) قال البلاذري : كانت بيني و بين عبيد اللَّه بن يحيى بن خاقان حرمة منذ أيام المتوكل ، و ما كنت أكلفه حاجة

____________________

( ١ ) أمالي الطوسي : ٦٢٥ رقم ١٢٩٠ ( بنياد بعثت ) .

( ٢ ) ذكر التبيين ابن قتيبة في عيون الأخبار ٣ : ١٢٠ .

( ٣ ) الأغاني للأصفهاني ١٣ : ١١٦ .

( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ١٣١ .

( ٥ ) القائل هو سلم بن عمرو ، نهاية الأرب ٣ : ٨١ .

٤٨٨

لاستغنائي عنه ، فنالتني في أيّام المعتمد إضاقة ، فدخلت عليه و هو جالس للمظالم فشكوت إليه تأخّر رزقي و ثقل ديني و قلت : إنّ عيبا على الوزير حاجة مثلي في أيامه و غض طرفه عنّي فوقّع لي بعض ما أردت و قال : إنّ حياءك المانع لك من الشكوى عن الاستبطاء فقلت له : غرس البلوى يثمر الشكوى .

و انصرفت و كتبت إليه :

لحاني الوزير المرتضى في شكايتي

زمانا احّلت للجدوب محارمه

و قال لقد جاهرتني بملامة

و من لي بدهر كنت فيه اكاتمه

فقلت : حياء المرء ذي الدّين و التّقى

يقلّ إذا قلّت لديه دراهمه(١)

و قال ( ابن أبي الحديد ) : قال الشاعر :

ليس للحاجات إلاّ

من له وجه وقاح

و لسان طرمذيّ

و غدوّ و رواح

فعليه السعي فيها

و على اللَّه النجاح(٢)

« و الفرصة تمرّ مرّ السحاب » قال ( ابن أبي الحديد ) : قال ابن المقفع : إنتهز الفرصة في إحراز المآثر ، و اغتنم الإمكان باصطناع الخير ، و لا تنتظر ما تعامل فتجازي عنه بمثله ، فإنّك إن عوملت بمكروه و اشتغلت ترصد المكافأة عنه قصر العمر بك عن اكتساب فائدة و اقتناء منقبة .(٣) .

« فانتهزوا فرص الخير » أي : إغتنموها و لا تدعوها تفوت فتندموا .

____________________

( ١ ) معجم الأدباء لياقوت الحموي ٥ : ١٠٠ في ترجمة أحمد بن يحيى البلاذري .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ١٣١ .

( ٣ ) المصدر نفسه .

٤٨٩

٣٢ الحكمة ( ٢١١ ) و قالعليه‌السلام :

اَلْجُودُ حَارِسُ اَلْأَعْرَاضِ وَ اَلْحِلْمُ فِدَامُ اَلسَّفِيهِ وَ اَلْعَفْوُ زَكَاةُ اَلظَّفَرِ وَ اَلسُّلُوُّ عِوَضُكَ مِمَّنْ غَدَرَ وَ اَلاِسْتِشَارَةُ عَيْنُ اَلْهِدَايَةِ وَ قَدْ خَاطَرَ مَنِ اِسْتَغْنَى بِرَأْيِهِ وَ اَلصَّبْرُ يُنَاضِلُ اَلْحِدْثَانَ وَ اَلْجَزَعُ مِنْ أَعْوَانِ اَلزَّمَانِ وَ أَشْرَفُ اَلْغِنَى تَرْكُ اَلْمُنَى وَ كَمْ مِنْ عَقْلٍ أَسِيرٍ تَحْتَ هَوَى أَمِيرٍ وَ مِنَ اَلتَّوْفِيقِ حِفْظُ اَلتَّجْرِبَةِ وَ اَلْمَوَدَّةُ قَرَابَةٌ مُسْتَفَادَةٌ وَ لاَ تَأْمَنَنَّ مَلُولاً « الجود حارس الأعراض » في ( شعراء ابن قتيبة ) : جاور الحطيئة الزبرقان بن بدر ، فتحوّل عنه إلى بغيض فأحسن إليه ، فقال الحطيئة يمدح البغيض و يهجو الزبرقان :

ما كان ذنب بغيض أن رأى رجلا

ذا فاقة عاش في مستوغر(١) شاس

جار لقوم أطالوا هون منزله

و غادروه مقيما بين أرماس(٢)

ملّوا قراه و هدّته كلابهم

و جرّحوه بأنياب و أضراس

و قال للزبرقان :

دع المكارم لا تنهض لبغيتها

و اقعد فإنّك أنت الطاعم الكاسي(٣)

فاستعدى الزبرقان عليه عمر بن الخطاب و أنشده البيت ، فقال له عمر :

ما أراد هجاءك ، أما ترضى أن تكون طاعما كاسيا قال : إنّه لا يكون في الهجاء أشدّ من هذا فبعث إلى حسّان يسأله عن ذلك فقال : ما هجاه و لكن

____________________

( ١ ) مستوغر : مكان شديد القيظ ، شاس : الخشن من الحجارة .

( ٢ ) أرماس : جمع رمس و هو القبر .

( ٣ ) ذكر البيت بالإضافة إلى ابن قتيبة المبرد في الكامل ٢ : ٥٣٧ ، و النويري في نهاية الارب ٣ : ٧٢ .

٤٩٠

سلح عليه فحبسه عمر(١) .

و قال بعضهم : كفى بالبخيل عارا أنّ اسمه لم يقع في حمد قط ، و كفى بالجواد مجدا أنّ اسمه لم يقع في ذمّ قط .

و قال آخر : لا أردّ سائلا إنّما هو كريم أسدّ خلّته أو لئيم أشتري عرضي منه ، و قال الشاعر :

و من يجعل المعروف من دون عرضه

يفره و من لا يتّق الشتم يشتم(٢)

« و الحلم » و ما في ( الطبعة المصرية ) « و العلم » غلط واضح .

« فدام السفيه » الفدام ما يوضع في فم الإبريق ليصفي ما فيه(٣) .

و في ( كامل المبرد ) : دخل شامي المدينة فرأى رجلا راكبا على بغلة لم ير أحسن وجها و لا سمنا و لا ثوبا و لا دابة منه ، فمال قلبه إليه ، فسأل عنه قيل له هو الحسن بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، قال : فامتلأ قلبي له بغضا و حسدت عليّا أن يكون له ابن مثله ، فصرت إليه و قلت له : أنت ابن أبي طالب فقال : إبن ابنه فقلت : فبك و بأبيك أسبهما فلمّا انقضى كلامي قال لي : أحسبك غريبا .

قلت : أجل قال : فمل بنا فإن احتجت إلى منزل أنزلناك أو إلى مال آسيناك أو إلى حاجة عاونّاك فانصرفت عنه و و اللَّه ما على الأرض أحد أحبّ إليّ منه(٤) .

« و العفو زكاة الظفر » هو نظير قولهعليه‌السلام في ( ١٠ ) : إذا قدرت على عدوّك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه(٥) .

____________________

( ١ ) الشعر و الشعراء لابن قتيبة : ١١٠ ١١٤ .

( ٢ ) القائل هو زهير بن أبي سلمى في ديوانه : ٨٧ ، و نقله ابن عبد ربّه في العقد الفريد ١ : ٣٠٤ .

( ٣ ) راجع الطبعة المصرية : ٧٠٥ النسخة المنقحة بلفظ و الحلم و ليس العلم .

( ٤ ) الكامل في الأدب للمبرد ١ : ٢٣٥ ( مكتبة المعارف ) .

( ٥ ) من الكلمات في المعجم القصار برقم ( ١١ ) .

٤٩١

و في ( العقد ) أمر عمر بن عبد العزيز بعقوبة رجل ، فقال له رجاء بن حيوه : إنّ اللَّه قد فعل ما تحبّ من الظّفر فافعل ما يحبّه من العفو(١) .

و قال مبارك بن فضالة : كنت عند المنصور فأمر بقتل رجل ، فقلت : قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله « إذا كان يوم القيامة نادى مناد : ألا من كانت له عند اللَّه يد فليتقدّم فلا يتقدّم إلاّ من عفا عن مذنب » فأمر بإطلاقه(٢) .

« و السلوّ عوضك ممّن غدر » يعني ان الغدر من الصديق يستعقب السلوّ عن تعلق القلب به ، و هو المراد من قول الشاعر :

أعتقني سوء ما صنعت من الرقّ

فيا بردها على كبدي(٣)

« و الاستشارة عين الهداية » يكفي في فضلها قوله تعالى لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ( وَ شاورهُم في الأَمرِ ) (٤) .

« و قد خاطر » أي : أشرف على الهلاك .

« من استغنى برأيه » قولهعليه‌السلام هنا في الاستشارة و الاستبداد نظير قولهعليه‌السلام في ( ١٦١ ) : « من استبد برأيه هلك و من شاور الرجال شاركها في عقولها »(٥) .

« و الصبر يناضل الحدثان » أي : يرامي حوادث الدهر .

« و الجزع من أعوان الزمان » على بوار الإنسان ، ذكرعليه‌السلام فائدة الصبر و مضرّة الجزع تحريضا و تحذيرا .

« و أشرف الغنى ترك المنى » سها المصنف فذكر هذه الفقرة في

____________________

( ١ ) العقد الفريد لابن عبد ربّه ٢ : ١٥٧ .

( ٢ ) العقد الفريد لابن عبد ربّه ٢ : ١٥٩ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ١٩ : ٢٠٧ .

( ٤ ) آل عمران : ١٥٩ .

( ٥ ) مرّ ذكره في الصفحة ٢٢٤ من هذا الكتاب .

٤٩٢

عنوانه ( ٣٤ )(١) .

« و كم من عقل أسير تحت هوى أمير » هو نظير قولهعليه‌السلام في كتاب اشتراء شريح لداره « شهد على ذلك العقل إذا خرج من أسر الهوى » فكل انسان يعلم بعقله بقاء الآخرة و فناء الدّنيا و وجوب العمل بالحقّ و التجنّب عن الباطل ، إلاّ أنّ هواه لا يدعه يعمل بمقتضاه .

« و من التوفيق حفظ التجربة » فالتجارب تحصل منها فوائد كثيرة ، فمن لم يحفظها حرم منها فلا يكون موفقا .

« و المودة قرابة مستفادة » و في العنوان ( ٣٠٨ ) « مودّة الآباء قرابة بين الابناء ، و القرابة إلى المودة أحوج من المودة إلى القرابة »(٢) ، و من كون المودة قرابة مستفادة تكون المصاهرة كنسب جديد ، و لذا أردفه اللَّه تعالى في قوله عز و جل( فَجَعَلَهُ نَسَباً و صهراً ) (٣) .

« و لا تأمننّ ملولا » فعول من الملالة ، و مصداق كلامهعليه‌السلام أصحابه في صفّين ، فقد كانوا ملّوا من الحرب فكانوا منتظرين لمكيدة من العدو و يكون عذرا لهم في ترك القتال .

٣٣ الحكمة ( ٥٢ ) و قالعليه‌السلام :

أَوْلَى اَلنَّاسِ بِالْعَفْوِ أَقْدَرُهُمْ عَلَى اَلْعُقُوبَةِ في ( العيون ) : قال رجل لبعض الأمراء : أسألك بالذي أنت بين يديه أذلّ

____________________

( ١ ) سيأتي ذكره في شرح الحكمة ١١٦ في الصفحة ٢٨٠ من هذا الكتاب .

( ٢ ) راجع الحكمة ( ٣٠٨ ) : ١٧٨ من نسخة المعجم .

( ٣ ) الفرقان : ٥٤ .

٤٩٣

منّي بين يديك ، و هو على عقابك أقدر منك على عقابي ، إلاّ نظرت في أمري نظر من برئي أحبّ إليه من سقمي و براءتي أحبّ إليه من جرمي .

و أمر عبد الملك بقتل رجل فقال له : إنّك أعزّ ما تكون أحوج ما تكون إلى اللَّه تعالى ، فاعف عنّي له فإنّك به تعان و إليه تعود فخلّى سبيله(١) .

و قالوا : وقف رجل جنى جناية بين يدي المأمون ، فقال له : و اللَّه لأقتلنّك .

فقال الرجل : تأنّ عليّ فإنّ الرفق نصف العفو قال : و كيف و قد حفت ؟ فقال : ت لأن تلقى اللَّه حانثا خير من أن تلقاه قاتلا فخلّى سبيله(٢) .

٣٤ الحكمة ( ١١٦ ) و قالعليه‌السلام :

كَمْ مِنْ مُسْتَدْرَجٍ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ وَ مَغْرُورٍ بِالسَّتْرِ عَلَيْهِ وَ مَفْتُونٍ بِحُسْنِ اَلْقَوْلِ فِيهِ وَ مَا اِبْتَلَى اَللَّهُ أَحَداً بِمِثْلِ اَلْإِمْلاَءِ لَهُ الحكمة ( ٤٦٢ ) و قالعليه‌السلام :

رُبَّ مَفْتُونٍ بِحُسْنِ اَلْقَوْلِ فِيهِ أقول : كرره بعينه بنقل ( ابن أبي الحديد ) و الخطية(٣) في ( ٢٦٠ ) زائدا « و قد مضى هذا الكلام فيما تقدم إلاّ أنّ فيه ها هنا زيادة جيّدة » بنقل ابن أبي الحديد و « زيادة مفيدة » بنقل ( النسخة الخطية و الطبعة المصرية )(٤) جمعت

____________________

( ١ ) عيون الأخبار لابن قتيبة ١ : ١٠٢ .

( ٢ ) ذكره البيهقي بالمعنى و نسبه إلى المنصور .

( ٣ ) انظر شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٢٨١ رقم ( ١١٢ ) و ١٩ : ١٠٣ رقم ( ٢٥٨ ) ، و راجع النسخة الخطية ( المرعشي ) : ٣١٩ .

( ٤ ) راجع النسخة المصرية شرح محمّد عبده : ١٨٣ و ٧١٤ رقم ( ١٧ ) و رقم ( ٢٦٢ ) .

٤٩٤

بينهما ، لكن ليس في ( ابن ميثم )(١) تكرار ، لكن أواخر نسخته لا تخلو من السقم فلعلّه من سقط النسخة ، و لو كان نقل الأوّلين صحيحا لم يصح قول المصنف و قد مضى . ، بعد كونه بعينه بلا زيادة و لا نقصان .

و كيف كان فكرّر الفقرة الثالثة مستقلة في ( ٤٦٢ ) اتفاقا بلفظ « رب مفتون بحسن القول فيه » كما عرفت من العنوان ، و قد عرفت في أوّل الكتاب تصريح ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) بختم المصنف الكتاب أولا به(٢) .

« كم من مستدرج بالإحسان إليه »( أَيحسَبُون أَنّما نُمدُّهم بهِ مِن مَالٍ و بَنينَ نُسارِعُ لهُم فِي الخَيراتِ بل لا يشعُرون ) (٣) ( فلمّا نَسُوا ما ذكرُوا به فتحنا عليهم أَبواب كلّ شي‏ءٍ حتى إذا فرحوا بما اُوتُوا أَخذناهم بغتةً فإذا هم مبلسون فقطع دابرُ القوم الَّذين ظَلَموا و الحمدُ للَّه ربّ العالَمين ) (٤) .( سنَستَدرجهم من حَيثُ لا يعلَمُونَ ) (٥) .

« و مغرور بالستر عليه » و ورد أنّه لو لا ستر اللَّه على الناس لكانوا يطرحون كثيرا من الناس على المزابل و لا يدفنونهم .

« و مفتون بحسن القول فيه » كخلفاء الباطل و المتملّقين لهم ، فكانوا يقولون لبيعة معاوية لابنه يزيد و بيعة هارون لبنيه و بيعة المتوكل لبنيه :

« إنها بيعة مثل بيعة الشجرة » .

و قال ابن قتيبة في ( خلفائه ) بعد ذكر أنّ فاطمةعليها‌السلام قالت لأبي بكر و عمر بعد تقريرهما بقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فيها « رضا فاطمة من رضاي و سخط

____________________

( ١ ) راجع شرح ابن ميثم ٥ : ٣٠٣ رقم ١٠٧ .

( ٢ ) راجع المصادر السابقة النسخة المصرية ، ابن أبي الحديد ، ابن ميثم ، الخطية .

( ٣ ) المؤمنون : ٥٥ ٥٦ .

( ٤ ) الأنعام : ٤٤ ٤٥ .

( ٥ ) الأعراف : ١٨٢ .

٤٩٥

فاطمة من سخطي ، و من أرضى فاطمة فقد أرضاني و من أسخط فاطمة فقد أسخطني » إنّي اشهد اللَّه و ملائكته أنّكما أسخطتماني و ما أرضيتماني ، و لئن لقيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأشكونّكما إليه فانتحب أبو بكر يبكي و فاطمةعليها‌السلام تقول :

و اللَّه لأدعونّ اللَّه عليك في كلّ صلاة اصلّيها ، فخرج باكيا و اجتمع إليه الناس فقال لهم : لا حاجة لي في بيعتكم أقيلوني بيعتي قالوا : إنّ هذا الأمر لا يستقيم و أنت أعلمنا بذلك ، إنّه إن كان هذا لم يقم للَّه دين فقال : و اللَّه لو لا ذلك و ما أخافه من رخاوة هذه العروة ما بت ليلة و لي في عنق مسلم بيعة بعد ما سمعت و رأيت من فاطمة .(١) .

فلو لا فتنته بحسن قولهم فيه لكان اللازم أن نقول : إنّ كلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان جزافا و باطلا ، و هوى نفس لبنته و رضاه بخراب الدين لأجلها .

و قال ابن قتيبة أيضا : إنّ عمر دعا في احتضاره ابن عباس و قال له : لو أنّ لي ما طلعت عليه الشمس و ما غربت لافتديت به من هول المطلع فقال له ابن عباس : أسلمت و كان إسلامك عزّا ، و هاجرت و كانت هجرتك فتحا ، و وازرت الخليفة و قبض الخليفة عنك راضيا ، و مصر اللَّه بك الأمصار وجبى بك الأموال و أوصل بك على أهل بيت كلّ مسلم توسعة في دينهم و توسعة في أرزاقهم ثم ختم لك بالشهادة فقال له عمر : أتشهد لي بهذا يا عبد اللَّه عند اللَّه يوم القيامة قال : نعم فقال عمر : اللّهم لك الحمد .(٢) .

فهل اللَّه محتاج إلى شهادة ابن عباس لو لا فتنته بمثل تلك الأقوال ؟

« و ما ابتلى اللَّه أحدا بمثل الإملاء له » قال تعالى في موضعين من كتابه :

____________________

( ١ ) تاريخ الخلفاء لابن قتيبة : ١٤ .

( ٢ ) ابن قتيبة ، الامامة و السياسة : ٢٢ ٢٣ .

٤٩٦

و اُملي لهم إِنّ كيدي متينٌ(١) .

٣٥ الحكمة ( ٤٦٦ ) و قالعليه‌السلام :

اَلْعَيْنُ وِكَاءُ اَلسَّهِ أقول : أيّ حبل يسد به الاست ، فالوكاء الذي يشد به رأس القربة و ( السّه ) الاست ، أي : الدّبر و أصل سه « سته » لأن جمعه أستاه و قال الجوهري في سته إذا أردت الهاء الّتي هي لام الفعل و حذفت العين أي : من الاست قلت ( سه ) بالفتح قال الشاعر :

و أنت السّه السّفلى

إذا دعيت نصر(٢)

أي : أنت فيهم بمنزلة الاست ، و في الحديث : « العين وكاء السّه » .

في ( العيون ) : كان سليمان بن عبد الملك يأخذ الوليّ بالوليّ و الجار بالجار ، فدخل عليه رجل و على رأسه وصيفة روقة(٣) ، فنظر إليها فقال سليمان : أأعجبتك ؟ قال : بارك اللَّه للخليفة فيها قال : هات سبعة أمثال في الاست و خذها فقال : « صرّ عليه الغزو استه » قال : واحد ، قال : « است البائن أعلم » قال : إثنان ، قال : « أست لم تعوّد المجمر تحترق » قال : ثلاثة ، قال : « الحرّ يعطي و العبد ييجع باسته » قال : أربعة ، قال : « أستي أخبثي » قال : خمسة ، قال :

« عاد سلاها في استها » قال : ستة ، قال « لا مائك أبقيت و لا حرك أنفيت » قال :

ليس هذا من ذاك قال : أخذت الجار بالجار كما يفعل الخليفة قال : خذها(٤) .

____________________

( ١ ) الأعراف : ١٨٣ ، و القلم : ٤٥ .

( ٢ ) الصحاح للجوهري ٦ : ٢٢٣٣ مادة ( سته ) .

( ٣ ) الوصيفة : الجارية ، و الروقة : الحسناء الجميلة .

( ٤ ) عيون الأخبار لابن قتيبة ٢ : ١٣٠ .

٤٩٧

قلت : و لو ذكر السابع شعر جعفر بن الزبير في الفرزدق و امرأته نوار لمّا وكّلته في تزويجها فزوجها من نفسه فأبت و ما رضيته و حاكمته إلى ابن الزبير :

لقد أصبحت عرس الفرزدق ناشزا

و لو رضيت رمح استه لاستقرّت(١)

كان وجها ، و الظاهر أنّه تعمّد التبديل و إلاّ فقولهم « أخطأت استه الحفرة » مثل معروف .

و في الأساس : و في مثل « إني لأعلم من المائح باست الماتح » و الثاني من ينزح من البئر و الأول من ينزل في البئر فيملا الدلوله(٢) .

هذا ، و في ( الأغاني ) كانت امرأة من عقيل يقال لها ليلى يتحدّث إليها الشبّان ، فدخل عليها الفرزدق فجعل يحادثها ، و أقبل فتى من قومها فأقبلت عليه ، فغاظ ذلك الفرزدق فقال للرجل أ تصارعني ؟ قال : ذاك إليك فقام إليه فصرعه الفتى و جلس على صدره ، فخرج من الفرزدق صوت فقام الرجل و قال : ما أردت بك ما جرى فقال : ما بي إن صرعتني ، و لكن كأنك بجرير بلغه خبري فقال فيّ :

جلست إلى ليلى لتحظى بقربها

فخانك دبر لا يزال يخون

فلو كنت ذا حزم شددت و كاءها

كما شدّ خرتا للدّلاص قيون(٣)

فما مضت أيام حتى بلغ جرير الخبر فقال فيه البيتين(٤) .

و من أمثالهم كما في ( الأغاني ) « أريها استها و تريني القمر »(٥) .

____________________

( ١ ) الأغاني لأبي فرج الأصفهاني ٣ : ٣٦٤ .

( ٢ ) أساس البلاغة للزمخشري : ٤٤٠ مادة ( م ى ح ) .

( ٣ ) الوكاء : الخيط الذي تربط به الصرة ، الخرت : الثقب ، الدلاص : الدرع اللينة ، قيون : جمع قين و هو الحداد .

( ٤ ) الأغاني لأبي فرج الأصفهاني ٢١ : ٣٤٠ .

( ٥ ) الأغاني لأبي فرج الأصفهاني ١٦ : ٣٧٨ .

٤٩٨

و من أمثالهم كما في ( الكرماني ) « مالك است مع استك »(١) و قال : قال أبو زيد : يضرب لمن لم تكن له ثروة من مال و لا عدة من رجال .

و منها كما فيه « في أست المغبون عود »(٢) أيضا « في استها ما لا ترى »(٣) .

و في الأساس : « لقيت منه است الكلبة »(٤) أي ما كرهته و « أضيق استا من ذاك »(٥) أي : عاجز و « تركته باست الأرض »(٦) أي : عديما لا شي‏ء له و « يا ابن استها »(٧) كناية عن احماض امه اياه و « على است الدهر »(٨) أي : على وجهه و « باست فلان » إذا استخف به(٩) .

هذا ، و في ( القاموس المحيط ) الحماء الاست جمعه حم .

و في ( الأغاني ) : حكى ابن الكلبي أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا افتتح مكة قدمت عليه وفود العرب ، فكان فيمن قدم قيس بن عاصم و عمرو بن أهتم ابن عمّه ، فلمّا صارا عنده تسابّا ، فقال قيس لعمرو : و اللَّه ما هم منّا ، و إنّهم لمن أهل الحيرة .

فقال عمرو : هو و اللَّه من الروم و ليس منّا ثم قال له :

____________________

( ١ ) ذكره الميداني في مجمع الأمثال و هو ( المعتمد ) الميداني ٢ : ١٦٧ ، يضرب لمن لم تكن له ثروة من مال و لا عدة من رجال .

( ٢ ) المصدر نفسه ٢ : ١٨ و يضرب فيمن غبن .

( ٣ ) المصدر نفسه ٢ : ١٢ ، و يضرب للباذل الهيئة يكون مخبره أكثر من مرآة و يضرب لمن خفي عليه شي‏ء و هو يظن انه عالم به .

( ٤ ) المصدر نفسه ٢ : ٩٥ .

( ٥ ) أساس البلاغة للزمخشري : ٢٠٢ .

( ٦ ) في مجمع الأمثال ١ : ٨٢ ، ذكره الميداني بلفظ تركته باست المتن ، و المتن ما طلب من الأرض أي تركته وحيدا ، و في أساس البلاغة : ٢٠٢ بلفظ الأرض .

( ٧ ) أورده الميداني بلفظ يا ابن استها إذا أخمظت خمارها ٢ : ٥٠٠ .

( ٨ ) للفيروز آبادي ٤ : ١٠١ .

( ٩ ) الزمخشري ، أساس البلاغة : ٢٠٢ مادة ( س ت ه ) .

٤٩٩

ظللت مفترش الهلباء تشتمني

عند الرسول فلم تصدق و لم تصب

الهلباء يعني استه ، يعيّره بذلك و بأن عانته وافية قال : و إنّما نسبه إلى الروم لأنّه كان أحمر ، فيقال : إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله نهاه عن هذا القول في قيس ، و قال :

إسماعيل بن إبراهيم كان أحمر(١) .

و في ( القاموس ) « و ام العزم و عزمه و ام عزمه مكسورات الاست »(٢) .

و في ( النهاية ) : قال الأشعث لعمرو بن معد يكرب : لئن دنوت لاضرّطنّك .

فقال عمرو : كلاّ إنّها لعزوم مفرّغة ، يريد أنّ استه ذات عزم و قوّة(٣) .

و في ( بديع ابن المعتز ) : قال عبد اللَّه بن أياد لسويد بن منجوف : اقعد على است الأرض فقال سويد : ما أعلم للأرض استا(٤) .

و في ( الصحاح ) : الوباعة بالعين و الغين : الاست(٥) .

و في ( تقريب المعاهد ) : قال المنصور الخالدي كنت ليلة عند التنوخي في ضيافة فأغفى إغفاء فخرجت منه ، فضحك بعض القوم فانتبه لضحكه فقال :

إذا نامت العينان من متيقّظ

تراخت بلا شكّ تشاريح فقحته

فمن كان ذا عقل فيعذر نائما

و من كان ذا جهل ففي جوف لحيته(٦)

و ذكروا أن المأمون وضع رأسه في حجر بوران بنت الحسن بن سهل

____________________

( ١ ) الأغاني ١٤ : ٨٨ .

( ٢ ) القاموس المحيط للفيروز آبادي ٤ : ١٥٠ .

( ٣ ) النهاية ١ : ٢٣٢ .

( ٤ ) البديع لابن المعتز : ٢٣ و في النسخة عبيد اللَّه و ليس عبد اللَّه بن أياد .

( ٥ ) الصحاح للجوهري ٣ : ١٢٩٤ مادة ( وبع ) .

( ٦ ) معاهد التنصيص ، لعبد الرحيم العباس : ١٨١ .

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639