بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٤

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 639

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤
  • البداية
  • السابق
  • 639 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 247467 / تحميل: 8637
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .

فهنا شبه المعاندين والمغرورين كمن يسير في جادّة متعرّجة غير مستوية كثيرة المنعطفات وقد وقع على وجهه ، يحرّك يديه ورجليه للاهتداء إلى سبيله ، لأنّه لا يبصر طريقه جيّدا ، وليس بقادر على السيطرة على نفسه ، ولا بمطّلع على العقبات والموانع ، وليست لديه القوّة للسير سريعا ، وبذلك يتعثّر في سيره يمشي قليلا ثمّ يتوقّف حائرا.

كما شبّه المؤمنين برجال منتصبي القامات ، يسيرون في جادّة مستوية ومستقيمة ليس فيها تعرّجات واعوجاج ، ويمشون فيها بسرعة ووضوح وقدرة ووعي وعلم وراحة تامّة.

إنّه ـ حقّا ـ لتشبيه لطيف فذّ ، حيث إنّ آثار هذين السبيلين واضحة تماما ، وانعكاساتها جليّة في حياة هذين الفريقين ، وذلك ما نلاحظه بأمّ أعيننا.

ويرى البعض أنّ مصداق هاتين المجموعتين هما : (الرّسول الأكرم) و (أبو جهل) فهما مصاديق واضحة للآية الكريمة ، إلّا أنّ ذلك لا يحدّد عمومية الآية.

وذكرت احتمالات متعدّدة في تفسير (مكبّا على وجهه). إلّا أنّ أكثر الاحتمالات المنسجمة مع المفهوم اللغوي للآية هو ما ذكرناه أعلاه ، وهو أنّ الإنسان غير المؤمن يكون مكبّا على وجهه ويمشي زاحفا بيده ورجليه وصدره.

وقيل أنّ المقصود من (مكبّا) هو المشي الاعتيادي ولكنّه مطأطئ الرأس لا يشخّص مسيره بوضوح أبدا.

كما يرى آخرون أنّ المقصود بـ (مكبّا) هو الشخص الذي لا يستطيع أن يحفظ توازنه في السير ، فهو يخطو خطوات معدودة ثمّ ما يلبث أن يسقط على الأرض وينهض ليمشي ، ثمّ تتكرّر هذه الحالة.

ويستفاد ممّا ذكره الراغب في مفرداته أنّ المقصود بـ (مكبّا) هو الشخص الذي يدور حول محور الذات والأنانية ، معرضا عن الاهتمام بغيره.

٥٠١

إلّا أنّ المعنى الأوّل أنسب حسب الظاهر ، وذلك بقرينة المقابلة مع وضع المؤمنين والذين عبّرت عنهم الآية بـ (سويّا).

وعلى كلّ حال ، فهل أنّ هذه الحالة (مكبّا) و (سويّا) تمثّل وضع الكفّار والمؤمنين في الآخرة فقط؟ أم في العالمين (الدنيا والآخرة)؟ لا دليل على محدودية مفهوم الآية وانحصارها في الآخرة ، فهما في الدنيا كما هما في الآخرة.

إنّ هؤلاء الأنانيين المنشدّين إلى مصالحهم الماديّة والمنغمسين في شهواتهم ، السائرين في درب الضلال والهوى ، كمن يروم العبور من مكان مليء بالأحجار زاحفا على صدره ، بخلاف من تحرّر من قيد الهوى في ظلّ الإيمان حيث يكون مسيره واضحا ومستقيما ونظراته عميقة وثاقبة.

ثمّ يوجّه الله تعالى الخطاب إلى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الآية اللاحقة فيقول :( قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ ) .

إنّ الله تعالى جعل لكم وسيلة للمشاهدة والإبصار (العين) وكذلك وسيلة وقناة للاطّلاع على أفكار الآخرين ومعرفة وجهات نظرهم من خلال الاستماع (الإذن) ثمّ وسيلة اخرى للتفكّر والتدبّر في العلوم والمحسوسات واللامحسوسات (القلب).

وخلاصة الأمر إنّ الله تعالى قد وضع جميع الوسائل اللازمة لكم لتتعرّفوا على العلوم العقلية والنقلية ، إلّا أنّ القليل من الأشخاص من يدرك هذه النعم العظيمة ويشكر الله المنعم ، حيث أنّ شكر النعمة الحقيقي يتجسّد بتوجيه النعمة نحو الهدف الذي خلقت من أجله ، ترى من هو المستفيد من هذه الحواس (العين والاذن والعقل) بصورة صحيحة في هذا الطريق؟

ثمّ يخاطب الرّسول مرّة اخرى حيث يقول تعالى :( قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .

وفي الحقيقة فإنّ الآية الاولى تعيّن (المسير) ، والثانية تتحدّث عن (وسائل

٥٠٢

العمل) أمّا الآية ـ مورد البحث ـ فإنّها تشخّص (الهدف والغاية) وذلك بالتأكيد على أنّ السير يجب أن يكون في الطريق المستقيم ، والصراط الواضح المتمثّل بالإسلام والإيمان ، وبذل الجهد للاستفادة من جميع وسائل المعرفة بهذا الاتّجاه ، والتحرّك نحو الحياة الخالدة.

والجدير بالملاحظة هنا أنّ التعبير في الآية السابقة ورد بـ (أنشأكم) وفي الآية مورد البحث بـ (ذرأكم) ، ولعلّ تفاوت هذين التعبيرين هو أنّه في الأولى إشارة إلى الإنشاء والإيجاد من العدم (أي إنّكم لم تكونوا شيئا وقد خلقكم الله تعالى) وفي الثانية إشارة إلى خلق الإنسان من مادّة التراب ، وذلك يعني أنّ الله خلق الإنسان من التراب.

ثمّ يستعرض سبحانه قول المشركين في هذا المجال والردّ عليهم ، فيقول تعالى :( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

إنّ المشركين يطالبون بتعيين التاريخ بصورة دقيقة ليوم القيامة ، كما أنّهم يطالبون بحسم هذا الأمر الذي يتعلّق بمصير الجميع( مَتى هذَا الْوَعْدُ؟ ) .

وذكروا احتمالين في المقصود من (هذا الوعد) : الأوّل : هو وعد يوم القيامة ، والآخر : هو تنفيذ الوعد بالنسبة للعقوبات الدنيوية المختلفة ، كوقوع الزلازل والصواعق والطوفانات. إلّا أنّ المعنى الأوّل أكثر تناسبا حسب الظاهر ، وذلك بلحاظ ما ورد في الآية السابقة. كما أنّ بالإمكان الجمع بين المعنيين.

ويجيبهم الله سبحانه على تساؤلهم هذا بقوله تعالى :( قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) .

إنّ هذا التعبير يشبه تماما ما ورد في الآيات القرآنية العديدة التي من جملتها

٥٠٣

قوله تعالى :( قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ) (١) .

ولا بدّ أن يكون الجواب بهذه الصورة ، حيث أنّ تحديد تأريخ يوم القيامة إن كان بعيدا فإنّ الناس سيغرقون بالغفلة ، وإن كان قريبا فإنّهم سيعيشون حالة الهلع والاضطراب. وعلى كلّ حال فإنّ الأهداف التربوية تتعطّل في الحالتين.

ويضيف في آخر آية من هذه الآيات بأنّ الكافرين حينما يرون العذاب والوعد الإلهي من قريب تسودّ وجوههم :( فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) فسيماهم طافحة بآثار الحزن والندم( وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ ) .

«تدعون» من مادّة (دعاء) يعني أنّكم كنتم تدعون وتطلبون دائما أن يجيء يوم القيامة ، وها هو قد حان موعده ، ولا سبيل للفرار منه(٢) .

وهذا المضمون يشبه ما جاء في قوله تعالى مخاطبا الكفّار في يوم القيامة :( هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ) (٣) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ الآية الشريفة ناظرة إلى عذاب يوم القيامة كما ذهب إليه أغلب المفسّرين ، وهذا دليل على أنّ جملة( مَتى هذَا الْوَعْدُ ) إشارة إلى موعد يوم القيامة.

يقول الحاكم أبو القاسم الحسكاني : عند ما شاهد الكفّار شأن ومقام الإمام عليعليه‌السلام عند الله تعالى. اسودّت وجوههم (من شدّة الغضب)(٤) .

ونقل هذا المعنى أيضا في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّ هذه الآية نزلت

__________________

(١) الأعراف ، الآية ١٨٧.

(٢) «تدعون» من باب (افتعال) ، ومن مادّة دعاء ، بمعنى الطلب والرجاء ، أو من مادّة (دعوا) بمعنى الطلب أو إنكار شيء معيّن.

(٣) الذاريات ، الآية ١٤.

(٤) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٣٠.

٥٠٤

بحقّ أمير المؤمنين عليعليه‌السلام وأصحابه(١) .

وهذا التّفسير نقل عن طرق الشيعة وأهل السنّة ، وهو نوع من التطبيق المصداقي ، وإلّا فإنّ هذه الآية تناولت موضوع (القيامة) ومثل هذه التطبيقات ليست قليلة في عالم الروايات.

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٨٥.

٥٠٥

الآيات

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠) )

التّفسير

من الذي يأتيكم بالمياه الجارية؟

إنّ الآيات أعلاه ، التي هي آخر آيات سورة الملك ، تبدأ جميعها بكلمة (قل) مخاطبة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث أنّها تمثّل استمرارا للأبحاث التي مرّت في الآيات السابقة حول الكفّار ، وتعكس هذه الآيات الكريمة جوانب اخرى من البحث.

يخاطب البارئعزوجل ـ في البداية ـ الأشخاص الذين يرتقبون وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ، ويتصوّرون أنّ بوفاته سوف يمحى دين الإسلام وينتهي كلّ شيء. وهذا الشعور كثيرا ما ينتاب الأعداء المخذولين إزاء القيادات

٥٠٦

القويّة والمؤثّرة ، يقول تعالى مخاطبا إيّاهم :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ) .

ورد في بعض الروايات أنّ كفّار مكّة ، كانوا دائما يسبّون الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ، وكانوا يتمنّون موته ظنّا منهم أنّ رحيله سينهي دعوته كذلك ، لذا جاءت الآية أعلاه ردّا عليهم.

كما جاء شبيه هذا المعنى في قوله تعالى :( أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ) (١) .

لقد كانوا غافلين عن وعد الله سبحانه لرسوله الأمين ، بأنّ اسمه سيكون مقترنا مع مبدأ الحقّ الذي لا يعتريه الفناء وإذا جاء أجله فإنّ ذكره لن يندرس ، نعم ، لقد وعده الله سبحانه بانتصار هذا المبدأ ، وأن ترفرف راية هذا الدين على كلّ الدنيا ، وحياة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو موته لن يغيّرا من هذه الحقيقة شيئا.

كما ذكر البعض تفسيرا آخر لهذه الآية وهو : إنّ خطاب الله لرسوله الكريم ـ الذي يشمل المؤمنين أيضا ـ مع ما عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الإيمان الراسخ ، كان يعكس الخوف والرجاء معا في آن واحد. فكيف بكم أنتم أيّها الكافرون؟ وما الذي تفكّرون به لأنفسكم؟

ولكن التّفسير الأوّل أنسب حسب الظاهر.

واستمرارا لهذا البحث ، يضيف تعالى :( قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

وهذا يعني أنّنا إذا آمنا بالله ، واتّخذناه وليّا ووكيلا لنا ، فإنّ ذلك دليل واضح على أنّه الربّ الرحمن ، شملت رحمته الواسعة كلّ شيء ، وغمر فيض ألطافه ونعمه الجميع (المؤمن والكافر) ، إنّ نظرة عابرة إلى عالم الوجود وصفحة الحياة تشهد

__________________

(١) الطور ، الآية ٣٠.

٥٠٧

على هذا المدّعى ، أمّا الذين تعبدونهم من دون الله فما ذا عملوا؟ وما ذا صنعوا؟

وبالرغم من أنّ ضلالكم واضح هنا في هذه الدنيا ، إلّا أنّه سيتّضح بصورة أكثر في الدار الآخرة. أو أنّ هذا الضلال وبطلان دعاواكم الفارغة ستظهر في هذه الدنيا عند ما ينتصر الإسلام بالإمدادات الإلهية على جيش الكفر بشكل إعجازي وخارق للعادة ، عندئذ ستتبيّن الحقيقة أكثر للجميع.

إنّ هذه الآية ـ في الحقيقة ـ نوع من المواساة للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ، كي لا يظنّوا أو يتصوّروا أنّهم وحدهم في هذا الصراع الواسع بين الحقّ والباطل ، حيث أنّ الرحمن الرحيم خير معين لهم ونعم الناصر.

ويقول تعالى في آخر آية ، عارضا لمصداق من رحمته الواسعة ، والتي غفل عنها الكثير من الناس :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ ) .

إنّ للأرض في الحقيقة قشرتين متفاوتين : (قشرة قابلة للنفوذ) يدخل فيها الماء ، واخرى (غير قابلة للنفوذ) تحفظ بالماء ، وجميع العيون والآبار والقنوات تولّدت من بركات هذا التركيب الخاصّ للأرض ، إذ لو كانت القشرة القابلة للنفوذ لوحدها على سطح الكرة الأرضية جميعا ولأعماق بعيدة ، فإنّ جميع المياه التي تدخل جوف الأرض لا يقرّ لها قرار ، وعندئذ لا يمكن أن يحصل أحد على قليل من الماء. ولو كانت قشرة الأرض غير قابلة للنفوذ لتجمّعت المياه على سطحها وتحوّلت إلى مستنقع كبير ، أو أنّ المياه التي تكون على سطحها سرعان ما تصبّ في البحر ، وهكذا يتمّ فقدان جميع الذخائر التي هي تحت الأرض.

إنّ هذا نموذج صغير من رحمة الله الواسعة يتعلّق بموت الإنسان وحياته.

«معين» من مادّة (معن) ، على وزن (طعن) بمعنى جريان الماء.

وقال آخرون : إنّها مأخوذة من (عين) والميم زائدة. لذا فإنّ بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّ معنى (معين) تعني الماء الذي يشاهد بالعين بغضّ النظر عن جريانه.

إلّا أنّ الغالبية فسّروه بالماء الجاري.

٥٠٨

وبالرغم من أنّ الماء الصالح للشرب لا ينحصر بالماء الجاري ، إلّا أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ الماء الجاري يمثّل أفضل أنواع ماء الشرب ، سواء كان من العيون أو الأنهار أو القنوات أو الآبار المتدفّقة

ونقل بعض المفسّرين أنّ أحد الكفّار عند ما سمع قوله تعالى :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ ) قال : (رجال شداد ومعاول حداد) وعند نومه ليلا نزل الماء الأسود في عينيه ، وفي هذه الأثناء سمع من يقول : أتي بالرجال الشداد والمعاول الحداد ليخرجوا الماء من عينيك.

ومن الواضح أنّه في حالة عدم وجود القشرة الصلبة وغير القابلة للنفوذ ، فإنّه لا يستطيع أي إنسان قوي ولا أي معول حادّ أن يستخرج شيئا من الماء(١) .

* * *

تعقيب

جاء في الروايات عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ المراد من الآية الأخيرة من هذه السورة هو ظهور الإمام المهديعليه‌السلام وعدله الذي سيعمّ العالم.

فقد جاء في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «نزلت في الإمام القائمعليه‌السلام ، يقول : إن أصبح إمامكم غائبا عنكم ، لا تدرون أين هو؟ فمن يأتيكم بإمام ظاهر يأتيكم بأخبار السموات والأرض ، وحلال الله وحرامه؟ ثمّ قال : والله ما جاء تأويل هذه الآية ، ولا بدّ أن يجيء تأويلها»(٢) .

والروايات في هذا المجال كثيرة ، وممّا يجدر الانتباه له أنّ هذه الروايات هي من باب (التطبيق).

وبعبارة اخرى فإنّ ظاهر الآية مرتبط بالماء الجاري ، والذي هو علّة حياة

__________________

(١) أبو الفتوح الرازي ، ج ١١ ، ص ٢١٩.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٨٧.

٥٠٩

الموجودات الحيّة. أمّا باطن الآية فإنّه يرتبط بوجود الإمامعليه‌السلام وعلمه وعدالته التي تشمل العالم ، والتي هي الاخرى تكون سببا لحياة وسعادة المجتمع الإنساني.

ولقد ذكرنا مرّات عدّة أنّ للآيات القرآنية معاني متعدّدة ، حيث لها معنى باطن وظاهر ، إلّا أنّ فهم باطن الآيات غير ممكن إلّا للرسول والإمام المعصوم ، ولا يحقّ لأي أحد أن يطرح تفسيرا ما لباطن الآيات. وما نستعرضه هنا مرتبط بظاهر الآيات ، أمّا ما يرتبط بباطن الآيات فعلينا أن نأخذه من المعصومينعليهم‌السلام فقط.

لقد بدأت سورة الملك بحاكمية الله ومالكيته تعالى ، وانتهت برحمانيته ، والتي هي الاخرى فرع من حاكميته ومالكيته سبحانه ، وبهذا فإنّ بدايتها ونهايتها منسجمتان تماما.

اللهمّ ، أدخلنا في رحمتك العامّة والخاصّة ، وأرو ظمآنا من كوثر ولاية أولياءك.

ربّنا ، عجّل لنا ظهور عين ماء الحياة الإمام المهدي ، واطفئ عطشنا بنور جماله

ربّنا ، ارزقنا اذنا صاغية وعينا بصيرة وعقلا كاملا ، فأقشع عن قلوبنا حجب الأنانية والغرور لنرى الحقائق كما هي ، ونسلك إليك على الصراط المستقيم بخطوات محكمة وقامة منتصبة

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة الملك

* * *

٥١٠
٥١١

سورة

القلم

مكيّة

وعدد آياتها اثنتان وخمسون آية

٥١٢

«سورة القلم»

محتوى السورة :

بالرغم من أنّ بعض المفسّرين شكّك في كون السورة بأجمعها نزلت في مكّة ، إلّا أنّ نسق السورة ومحتوى آياتها ينسجم تماما مع السور المكيّة ، لأنّ المحور الأساسي فيها يدور حول مسألة نبوّة رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومواجهة الأعداء الذين كانوا ينعتونه بالجنون وغيره ، والتأكيد على الصبر والاستقامة وتحدّي الصعاب ، وإنذار وتهديد المخالفين لهذه الدعوة المباركة بالعذاب الأليم.

وبشكل عامّ يمكن تلخيص مباحث هذه السورة بسبعة أقسام :

١ ـ في البداية تستعرض السورة بعض الصفات الخاصّة لرسول الإنسانية محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخصوصا أخلاقه البارّة السامية الرفيعة ، ولتأكيد هذا الأمر يقسم البارئعزوجل في هذا الصدد.

٢ ـ ثمّ تتعرّض بعض الآيات الواردة في هذه السورة إلى قسم من الصفات السيّئة والأخلاق الذميمة لأعدائه.

٣ ـ كما يبيّن قسم آخر من الآيات الشريفة قصّة (أصحاب الجنّة) والتي هي بمثابة توجيه إنذار وتهديد للسالكين طريق العناد من المشركين.

٤ ـ وفي قسم آخر من السورة ذكرت عدّة امور حول القيامة والعذاب الأليم للكفّار في ذلك اليوم.

٥ ـ كما جاء في آيات اخرى جملة إنذارات وتهديدات للمشركين.

٥١٣

٦ ـ ونلاحظ في آيات اخرى من السورة الأمر الإلهي للرسول العظيم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يواجه الأعداء بصبر واستقامة وقوّة وصلابة.

٧ ـ وأخيرا تختتم السورة موضوعاتها بحديث حول عظمة القرآن الكريم ، وطبيعة المؤامرات التي كان يحوكها الأعداء ضدّ الرّسول محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

انتخاب (القلم) اسما لهذه السورة المباركة ، كان بلحاظ ما ورد في أوّل آية منها ، وذكر البعض الآخر أنّ اسمها (ن).

ويستفاد من بعض الروايات التي وردت في فضيلة هذه السورة أنّ اسمها «ن والقلم».

فضيلة تلاوة سورة القلم :

نقل عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فضيلة تلاوة هذه السورة أنّه قال : «من قرأ (ن والقلم) أعطاه الله ثواب الذين حسن أخلاقهم»(١) .

كما نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «من قرأ سورة (ن والقلم) في فريضة أو نافلة ، آمنه الله أن يصيبه في حياته فقر أبدا ، وأعاذه إذا مات من ضمّة القبر ، إن شاء الله»(٢) .

وهذا الأجر والجزاء يتناسب تناسبا خاصّا مع محتوى السورة ، والهدف من التأكيد على هذا النوع من الأجر من تلاوة السورة هو أن تكون التلاوة مقرونة بالوعي والمعرفة ومن ثمّ العمل بمحتواها.

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٨٧.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٣٠.

٥١٤

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) )

التّفسير

عجبا لأخلاقك السامية :

هذه السورة هي السورة الوحيدة التي تبدأ بحرف (ن) حيث يقول تعالى :( ن ) .

وقد تحدّثنا مرّات عديدة حول الحروف المقطّعة ، خصوصا في بداية سورة (البقرة) و (آل عمران) و (الأعراف) والشيء الذي يجدر إضافته هنا هو ما اعتبره البعض من أنّ (ن) هنا تخفيف لكلمة (الرحمن) فهي إشارة لذلك. كما أنّ البعض الآخر فسّرها بمعنى (اللوح) أو (الدواة) أو (نهر في الجنّة) إلّا أنّ كلّ تلك الأقوال ليس لها دليل واضح.

٥١٥

وبناء على هذا فإنّ الحرف المقطّع هنا لا يختلف عن تفسير بقيّة الحروف المقطّعة والتي أشرنا إليها سابقا.

ثمّ يقسم تعالى بموضوعين يعتبران من أهمّ المسائل في حياة الإنسان ، فيقول تعالى :( وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ) .

كم هو قسم عجيب؟ وقد يتصوّر أنّ القسم هنا يتعلّق ظاهرا بمواضيع صغيرة ، أي قطعة من القصب ـ أو شيء يشبه ذلك ـ وبقليل من مادّة سوداء ، ثمّ السطور التي تكتب وتخطّ على صفحة صغيرة من الورق.

إلّا أنّنا حينما نتأمّل قليلا فيه نجده مصدرا لجميع الحضارات الإنسانية في العالم أجمع ، إنّ تطور وتكامل العلوم والوعي والأفكار وتطور المدارس الدينية والفكرية ، وبلورة الكثير من المفاهيم الحياتية كان بفضل ما كتب من العلوم والمعارف الإنسانية في الحقول المختلفة ، ممّا كان له الأثر الكبير في يقظة الأمم وهداية الإنسان وكان ذلك بواسطة (القلم).

لقد قسّمت حياة الإنسان إلى عصرين : (عصر التأريخ) و (عصر ما قبل التأريخ) وعصر تأريخ البشر يبدأ منذ أن اخترع الإنسان الخطّ واستطاع أن يدوّن قصّة حياته وأحداثها على الصفحات ، وبتعبير آخر ، يبدأ عند ما أخذ الإنسان القلم بيده ، ودوّن للآخرين ما توصّل إليه (وما يسطرون) تخليدا لماضيه.

وتتّضح عظمة هذا القسم بصورة أكثر عند ما نلاحظ أنّ هذه الآيات المباركة حينما نزلت لم يكن هنالك كتاب ولا أصحاب قلم ، وإذا كان هنالك أشخاص يعرفون القراءة والكتابة ، فإنّ عددهم في كلّ مكّة ـ التي تمثّل المركز العبادي والسياسي والاقتصادي لأرض الحجاز ـ لم يتجاوز ال (٢٠) شخصا. ولذا فإنّ القسم بـ (القلم) في مثل ذلك المحيط له عظمة خاصّة.

والرائع هنا أنّ الآيات الاولى التي نزلت على قلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في (جبل النور) أو (غار حراء) قد أشير فيها أيضا إلى المنزلة العليا للقلم ، حديث يقول تعالى :

٥١٦

( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ) (١) .

والأروع من ذلك كلّه أنّ هذه الكلمات كانت تنطلق من فمّ شخص لم يكن يقرأ أو يكتب ، ولم يذهب للمكاتب من أجل التعليم قطّ ، وهذا دليل أيضا على أنّ ما ينطق به لم يكن غير الوحي السماوي.

وذكر بعض المفسّرين أنّ كلمة (القلم) هنا يقصد بها : (القلم الذي تخطّ به ملائكة الله العظام الوحي السماوي) ، (أو الذي تكتب به صفحة أعمال البشر) ، ولكن من الواضح أنّ للآية مفهوما واسعا ، وهذه الآراء تبيّن مصاديقها.

كما أنّ لجملة( ما يَسْطُرُونَ ) مفهوما واسعا أيضا ، إذ تشمل جميع ما يكتب في طريق الهداية والتكامل الفكري والأخلاقي والعلمي للبشر ، ولا ينحصر بالوحي السماوي أو صحائف أعمال البشر(٢) .

ثمّ يتطرّق سبحانه لذكر الأمر الذي أقسم من أجله فيقول تعالى :( ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ) .

إنّ الذين نسبوا إليك هذه النسبة القبيحة هم عمي القلوب والأبصار ، وإلّا فأين هم من كلّ تلك النعم الإلهية التي وهبها الله لك؟ نعمة العقل والعلم الذي تفوّقت بها على جميع الناس ونعمة الأمانة والصدق والنبوّة ومقام العصمة إنّ الذين يتّهمون صاحب هذا العقل الجبّار بالجنون هم المجانين في الحقيقة ، إنّ ابتعادهم عن دليل الهداية وموجّه البشرية لهو الحمق بعينه.

ثمّ يضيف تعالى بعد ذلك :( وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ) أي غير منقطع ، ولم لا

__________________

(١) العلق ، الآية ١ ـ ٥.

(٢) اعتبر البعض أنّ (ما) في (ما يسطرون) مصدرية ، واعتبرها بعض آخر بأنّها (موصولة) والمعنى الثاني أنسب ، والتقدير هكذا : (ما يسطرونه) ، كما اعتبرها البعض أيضا بمعنى (اللوح) أو (القرطاس) الذي يكتب عليه ، وفي التقدير (ما يسطرون فيه) كما اعتبر البعض (ما) هنا إشارة لذوي العقول والأشخاص الذين يكتبون هذه السطور ، إلّا أنّ المعنى الذي ذكرناه في المتن أنسب من الجميع حسب الظاهر.

٥١٧

يكون لك مثل هذا الأجر ، في الوقت الذي وقفت صامدا أمام تلك التّهم والافتراءات اللئيمة ، وأنت تسعى لهدايتهم ونجاتهم من الضلال وواصلت جهدك في هذا السبيل دون تعب أو ملل؟

«ممنون» من مادّة (منّ) بمعنى (القطع) ويعني الأجر والجزاء المستمرّ الذي لا ينقطع أبدا ، وهو متواصل إلى الأبد ، يقول البعض : إنّ أصل هذا المعنى مأخوذ من «المنّة» ، بلحاظ أنّ المنّة توجب قطع النعمة.

وقال البعض أيضا : إنّ المقصود من( غَيْرَ مَمْنُونٍ ) هو أنّ الله تعالى لم تكن لديه منّة مقابل هذا الأجر العظيم. إلّا أنّ التّفسير الأوّل أنسب.

وتعرض الآية اللاحقة وصفا آخر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك بقوله تعالى :( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) .

تلك الأخلاق التي لا نظير لها ، ويحار العقل في سموّها وعظمتها من صفاء لا يوصف ، ولطف منقطع النظير ، وصبر واستقامة وتحمّل لا مثيل لها ، وتجسيد لمبادئ الخير حيث يبدأ بنفسه أوّلا فيما يدعو إليه ، ثمّ يطلب من الناس العمل بما دعا إليه والالتزام به.

عند ما دعوت ـ يا رسول الله ـ الناس ـ لعبادة الله ، فقد كنت أعبد الناس جميعا ، وإذ نهيتهم عن سوء أو منكر فإنّك الممتنع عنه قبل الجميع ، تقابل الأذى بالنصح ، والإساءة بالصفح ، والتضرّع إلى الله بهدايتهم ، وهم يؤلمون بدنك الطاهر رميا بالحجارة ، واستهزاء بالرسالة ، وتقابل وضعهم للرماد الحارّ على رأسك الشريف بدعائك لهم بالرشد.

نعم لقد كنت مركزا للحبّ ومنبعا للعطف ومنهلا للرحمة ، فما أعظم أخلاقك؟

«خلق» من مادّة (الخلقة) بمعنى الصفات التي لا تنفكّ عن الإنسان ، وهي ملازمة له ، كخلقة الإنسان.

وفسّر البعض الخلق العظيم للنبي بـ (الصبر في طريق الحقّ ، وكثرة البذل

٥١٨

والعطاء ، وتدبير الأمور ، والرفق والمداراة ، وتحمّل الصعاب في مسير الدعوة الإلهية ، والعفو عن المتجاوزين ، والجهاد في سبيل الله ، وترك الحسد والبغض والغلّ والحرص ، وبالرغم من أنّ جميع هذه الصفات كانت متجسّدة في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّ الخلق العظيم له لم ينحصر بهذه الأمور فحسب ، بل أشمل منها جميعا.

وفسّر الخلق العظيم أيضا بـ (القرآن الكريم) أو (مبدأ الإسلام) ومن الممكن أن تكون الموارد السابقة من مصاديق المفهوم الواسع للآية أعلاه.

وعلى كلّ حال فإنّ تأصّل هذا (الخلق العظيم) في شخصية الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو دليل واضح على رجاحة العقل وغزارة العلم له ونفي جميع التّهم التي تنسب من قبل الأعداء إليه.

ثمّ يضيف سبحانه بقوله :( فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ) .

( بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ ) أي من منكم هو المجنون(١) .

«مفتون» : اسم مفعول من (الفتنة) بمعنى الابتلاء ، وورد هنا بقصد الابتلاء بالجنون.

نعم ، إنّهم ينسبون هذه النسب القبيحة إليك ليبعدوا الناس عنك ، إلّا أنّ للناس عقلا وإدراكا ، يقيّمون به التعاليم التي يتلقّونها منك ، ثمّ يؤمنون بها ويتعلّمونها تدريجيّا ، وعندئذ تتّضح الحقائق أمامهم ، وهي أنّ هذه التعاليم العظيمة مصدرها البارئعزوجل ، أنزلها على قلبك الطاهر بالإضافة إلى ما منحك من نصيب عظيم في العقل والعلم.

كما أنّ مواقفك وتحرّكاتك المستقبلية المقرونة بالتقدّم السريع لانتشار الإسلام ، ستؤكّد بصورة أعمق أنّك منبع العلم والعقل الكبيرين ، وأنّ هؤلاء الأقزام

__________________

(١) (الباء) في (بأيّكم) زائدة و (أيّكم) مفعول للفعلين السابقين.

٥١٩

الخفافيش هم المجانين ، لأنّهم تصدّوا لمحاربة نور هذه الشمس العظيمة المتمثّلة بالحقّ الإلهي والرسالة المحمّدية.

ومن الطبيعي فإنّ هذه الحقائق ستتوضّح أمامهم يوم القيامة بصورة دامغة ، ويخسر هنالك المبطلون ، حيث تتبيّن الأمور وتظهر الحقيقة.

وللتأكيد على المفهوم المتقدّم يقول سبحانه مرّة اخرى :( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) .

وبلحاظ معرفة البارئعزوجل بسبيل الحقّ وبمن سلكه ومن جانبه وتخلّف أو انحرف عنه ، فإنّه يطمئن رسوله الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه والمؤمنون في طريق الهداية والرشد ، أمّا أعداؤه فهم في متاه الضلالة والغواية.

وجاء في حديث مسند أنّ قريشا حينما رأت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقدم الإمام عليعليه‌السلام على الآخرين ويجلّه ويعظّمه ، غمزه هؤلاء وقدحوا بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : (لقد فتن محمّد به) هنا أنزل الله تعالى قرآنا وذلك قوله :( ن وَالْقَلَمِ ) وأقسم بذلك ، وإنّك يا محمّد غير مفتون ومجنون حتّى قوله تعالى :( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) حيث الله هو العالم بالأشخاص الذين ضلّوا وانحرفوا عن سواء السبيل ، وهي إشارة إلى قريش التي كانت تطلق هذه الاتّهامات ، كما أنّه تعالى أعرف بمن اهتدى ، وهي إشارة إلى الإمام عليعليه‌السلام (١) .

* * *

بحثان

١ ـ دور القلم في حياة الإنسان

إنّ من أهمّ معالم التطور في الحياة البشرية ـ كما أشرنا سابقا ـ هو ظهور

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٣٤ ، (نقل الطبرسي هذا الحديث بسنده عن أهل السنّة).

٥٢٠

و عن الباقرعليه‌السلام : قال تعالى : و عزّتي و جلالي لا يؤثر عبد مؤمن هواي على هواه في شي‏ء من أمر الدّنيا إلاّ جعلت غناه في نفسه و همّه في آخرته ، و ضمنت السماوات و الأرض رزقه ، و كنت له من وراء تجارة كلّ تاجر(١) .

و في ( المروج ) كان إسحاق بن إبراهيم بن مصعب على بغداد أي : في خلافة المتوكل فرأى في منامه كأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول له « أطلق القاتل » ، فارتاع لذلك روعا عظيما و نظر في الكتب الواردة لأصحاب الحبوس فلم يجد فيها ذكر قاتل ، فأمر باحضار السندي و عباس فسألهما هل رفع إليهما أحد ادّعي عليه بالقتل فقال له العباس : نعم و قد كتبنا بخبره ، فأعاد النظر فوجد الكتاب في أضعاف القراطيس و اذا الرجل قد شهد عليه بالقتل و أقر به ، فأمر باحضاره و قال له : إن صدقتني أطلقتك ، فذكر أنّه كان هو وعدّة من أصحابه يرتكبون كلّ عظيمة و يستحلّون كلّ محرم و أنّه كان اجتماعهم في منزل بمدينة المنصور يعكفون فيه على كلّ بلية ، فلمّا كان في هذا اليوم جاءتهم عجوز تختلف إليهم للفساد و معها جارية بارعة الجمال ، فلمّا توسط الجارية الدار صرخت صرخة ، فبادرت إليها من بين أصحابي فأدخلتها بيتا و سكّنت روعتها و سألتها عن قصتها فقالت : اللَّه اللَّه فيّ فإنّ هذه العجوز خدعتني و أعلمتني أنّ في خزانتها حقا لم ير مثله ، فشوّقتني إلى النظر إليه فخرجت معها واثقة بقولها فهجمت بي عليكم ، و جدّي رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله و امّي فاطمةعليها‌السلام و أبي الحسن بن عليعليهما‌السلام فاحفظوهم فيّ ، فضمنت خلاصها و خرجت إلى أصحابي فعرّفتهم ، فكأنّي أغريتهم بها و قالوا : لمّا قضيت حاجتك منها أردت صرفنا عنها ، و بادروا إليها و قمت دونها أمنع عنها ، فتفاقم الأمر بيننا إلى أن نالتني جراح ، فعمدت إلى أشدّهم في أمرها و أكلبهم على هتكها فقتلته ، و لم

____________________

( ١ ) بحار الأنوار ٧٠ : ٧٥ رواية ٢ .

٥٢١

أزل أمنع عنها إلى أن خلّصتها و أخرجتها من الدار فقالت : سترك اللَّه كما سترتني و كان لك كما كنت لي و سمع الجيران الضجّة فتبادروا إلينا و السكين في يدي و الرجل يتشحّط في دمه ، فرفعت على هذه الحالة فقال له إسحاق : قد عرفت لك ما كان من حفظك للمرأة و وهبتك للَّه و لرسوله قال :

فوحق من وهبتني له لا عاودت معصية و لا دخلت في ريبة حتى ألقى اللَّه تعالى ، فأخبره إسحاق بالرؤيا التي رآها و أنّ اللَّه لم يضيّع له ذلك ، و عرض عليه برّا واسعا فأبى قبول شي‏ء(١) .

و في ( المعجم ) عن المبرد أنّ يهوديا بذل للمازني مائة دينار ليقرئه كتاب سيبويه ، فامتنع من ذلك فقيل : لم امتنعت مع حاجتك و عيلتك ؟ فقال : إنّ في كتاب سيبويه كذا و كذا آية من كتاب اللَّه فكرهت أن أقرى‏ء كتاب اللَّه للذمة ، فلم يمض على ذلك إلاّ مديدة حتى أرسل الواثق في طلبه و أخلف اللَّه عليه أضعاف ما تركه للَّه ، فبعث إليه يسأله عن قول الشاعر :

أظليم إن مصابكم رجلا

أهدى السّلام تحية ظلم(٢)

هل يصحّ رفع « رجل » ؟ فأجابه : لا لأنّه ليس بخبر و إنّما الخبر « ظلم » لأن به يتمّ الكلام ، فأمر له بألف دينار و في كل شهر مائة(٣) .

و في الأول : « و من كان له من نفسه واعظ كان عليه من اللَّه حافظ » قال تعالى :

( و الَّذينَ جاهَدُوا فينا لَنهديَنَّهُم سُبلنا ) (٤) و في الثاني : « من أصلح سريرته

____________________

( ١ ) مروج الذهب للمسعودي ٤ : ١٢ .

( ٢ ) ذكره ابن خلكان في وفيات الأعيان ١ : ٢٨٤ و نسبه إلى العرجي ، و نسبه البغدادي في خزانة الأدب ١ : ٣١٧ ، إلى الحارث بن خالد المخزومي .

( ٣ ) معجم الأدباء لياقوت الحموي ٧ : ١١١ ١١٢ ، و ذكرها البيهقي في المحاسن و المساوى : ٤٠ ، ( طبع بيروت ) .

( ٤ ) العنكبوت : ٦٩ .

٥٢٢

أصلح اللَّه علانيته » نقل كشكول البهائي(١) عن تفسير القاضي(٢) قال : روى الحارث الهمداني عن أمير المؤمنين كرّم اللَّه وجهه قال : قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا علي ما من عبد إلاّ و له جوّاني و برّاني يعني سريرة و علانية فمن أصلح جوانيه أصلح اللَّه برّانيه ، و من أفسد جوانيه أفسد اللَّه برانيه ، و ما من أحد إلاّ و له صيت في أهل السماء ، فإذا حسن وضع اللَّه له ذلك في أهل الأرض ، و إذا ساء صيته في السماء وضع له ذلك في الأرض ، فسئل عن صيته ما هو ، قال : ذكره .

و أقول : الصيت يقال له بالفارسية : « آوازه » .

٤٥ الحكمة ( ١٠٦ ) و قالعليه‌السلام :

لاَ يَتْرُكُ اَلنَّاسُ شَيْئاً مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ لاِسْتِصْلاَحِ دُنْيَاهُمْ إِلاَّ فَتَحَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُوَ أَضَرُّ مِنْهُ في ( الكافي ) عن الصادقعليه‌السلام ، ما من عبد يمنع درهما في حقّه إلاّ أنفق اثنين في غير حقّه ، و ما من رجل يمنع حقّا من ماله إلاّ طوقه اللَّه تعالى به حيّة من نار يوم القيامة(٣) .

و في ( الفقيه ) عن الباقرعليه‌السلام : ما من عبد يؤثر على الحجّ حاجة من حوائج الدنيا إلاّ نظر إلى المحلّقين قد انصرفوا قبل أن يقضى له تلك الحاجة(٤) .

و في ( الكافي ) عن الصادقعليه‌السلام قال لسماعة : مالك لا تحجّ العام ؟ قال :

معاملة كانت بيني و بين أقوام و أشغال و عسى أن يكون ذلك خيره فقال : لا

____________________

( ١ ) كشكول البهائي : ١٠٢ طبع القاهرة .

( ٢ ) تفسير البيضاوي للقاضي : لم يرد هذا النص في تفسير البيضاوي ، و قد وقع ذلك سهوا من العلاّمة التستري أنظر الكشكول .

( ٣ ) الكافي للكليني ٣ : ٥٠٤ من حديث عبيد بن زراره .

( ٤ ) من لا يحضره الفقيه ٢ : ٢٢٠ ح ٢٢٢٦ .

٥٢٣

و اللَّه ما فعل اللَّه لك في ذلك من خيره ثم قال : ما حبس عبد عن هذا البيت إلاّ بذنب و ما يعفو أكثر(١) .

و عنهعليه‌السلام : إذا قام العبد في الصلاة فخفّف صلاته قال تعالى لملائكته :

أما ترون إلى عبدي كأنّه يرى ان قضاء حوائجه بيد غيري ، أما يعلم أن قضاء حوائجه بيدي(٢) .

٤٦ الحكمة ( ١١٤ ) و قالعليه‌السلام :

إِذَا اِسْتَوْلَى اَلصَّلاَحُ عَلَى اَلزَّمَانِ وَ أَهْلِهِ ثُمَّ أَسَاءَ رَجُلٌ اَلظَّنَّ بِرَجُلٍ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ خَزْيَةٌ فَقَدْ ظَلَمَ هكذا في ( الطبعة المصرية )(٣) و يصدقها ابن ميثم(٤) و في ابن أبي الحديد بدل « خزية » حوبة(٥) ، و المعنى واحد لكن ما هنا أجود .

قال ابن أبي الحديد : روى جابر أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نظر إلى الكعبة فقال : ما أعظم حرمتك ، و إنّ المؤمن أعظم حرمة منك ، لأنّ اللَّه تعالى حرّم منك واحدة و من المؤمن ثلاثة : دمه و ماله و أنّ يظنّ به الظنّ السّوء(٦) .

« و إذا استولى الفساد على الزمان و أهله فأحسن رجل الظن برجل فقد غرّر » قال ابن أبي الحديد : قال شاعر :

____________________

( ١ ) الكافي للكليني ٣ : ٢٦٩ ح ٦٠ من حديث هشام بن سالم .

( ٢ ) الكافي للكليني ٣ : ٢٦٩ ح ٦٠ من حديث هشام بن سالم .

( ٣ ) هناك اضافة في الطبعة المصرية هي و إذا ( استولى الفساد . ) : ٦٨٢ رقم ١١٥١ .

( ٤ ) في شرح ابن ميثم بلفظ « خزية » ٥ : ٣٠٢ .

( ٥ ) راجع ابن أبي الحديد ١٨ : ٢٧٨ بلفظ « حوية » أيضا .

( ٦ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٢٧٨ .

٥٢٤

و قد كان حسن الظن بعض مذاهبي

فأدّبني هذا الزمان و أهله(١)

و قيل لصوفي : ما صناعتك ؟ قال حسن الظن باللَّه و سوء الظن بالناس(٢) .

قلت : كلامهعليه‌السلام هنا من حيث الزمان ، و أمّا من حيث الشخص فقد قالعليه‌السلام كما في ( ١٥٩ ) من وضع نفسه مواضع التهمة فلا يلومنّ من أساء به الظنّ .

٤٧ الحكمة ( ١٢١ ) و قالعليه‌السلام :

شَتَّانَ مَا بَيْنَ عَمَلَيْنِ عَمَلٍ تَذْهَبُ لَذَّتُهُ وَ تَبْقَى تَبِعَتُهُ وَ عَمَلٍ تَذْهَبُ مَئُونَتُهُ وَ يَبْقَى أَجْرُهُ أقول : هكذا في ( الطبعة المصرية ) « ما بين » و الصواب : ( بين ) بدون « ما » كما في ابن أبي الحديد و ابن ميثم و النسخة الخطية(٣) .

و روي انّهعليه‌السلام كان أيام إقامته بالكوفة يبكّر كلّ يوم إلى السوق و يعظهم صنفا صنفا و يقول : قدّموا الاستخارة ، و تبرّكوا بالسهولة ، و اقتربوا من المبتاعين ، و تزيّنوا بالحلم ، و تناهوا عن اليمين ، و جانبوا الكذب ، و تجافوا عن الظلم ، و أنصفوا المظلومين ،( و لا تبخسوا النّاسَ أشياءهُم و لا تَعثَوا في الأرض مُفسِدِينَ ) (٤) ثم ينادي :

____________________

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٢٧٩ .

( ٢ ) المصدر نفسه .

( ٣ ) ورد في النسخة المصرية : ٦٨٤ رقم ( ١٢٢ ) و شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٣١٠ رقم ( ١١٧ ) و شرح ابن ميثم ٥ : ٣٠٦ رقم ( ١١٢ ) بلفظ « ما بين » ، و النسخة الخطية بين ( بدون ما ) : ٣١٩ .

( ٤ ) هود : ٨٥ .

٥٢٥

تفنى اللّذاذة ممّن نال صفوتها

من الحرام و يبقى الإثم و العار

تبقى عواقب سوء في مغبّتّها

لا خير في لذّة من بعدها النار(١)

٤٨ الحكمة ( ٤٣٣ ) و قالعليه‌السلام :

اُذْكُرُوا اِنْقِطَاعَ اَللَّذَّاتِ وَ بَقَاءَ اَلتَّبِعَاتِ فِي الذُّنُوبِ و المَعَاصِي حَتَّى يَسْهُلَ عَلَيْكُمْ تَرْكُهَا وَ يَكْبُرَ عَلَيْكُمُ ارْتِكَابُهَا و في ( دعاء التوبة ) : من ذنوب أدبرت لذاتها فذهبت و أقامت تبعاتها فلزمت ، و قال الشاعر :

ما كان ذاك العيش إلاّ سكرة

رحلت لذاذتها و حلّ خمارها

٤٩ الحكمة ( ١٢٦ ) و قالعليه‌السلام :

عَجِبْتُ لِلْبَخِيلِ يَسْتَعْجِلُ اَلْفَقْرَ اَلَّذِي مِنْهُ هَرَبَ وَ يَفُوتُهُ اَلْغِنَى اَلَّذِي إِيَّاهُ طَلَبَ فَيَعِيشُ فِي اَلدُّنْيَا عَيْشَ اَلْفُقَرَاءِ وَ يُحَاسَبُ فِي اَلْآخِرَةِ حِسَابَ اَلْأَغْنِيَاءِ وَ عَجِبْتُ لِلْمُتَكَبِّرِ اَلَّذِي كَانَ بِالْأَمْسِ نُطْفَةً وَ يَكُونُ غَداً جِيفَةً وَ عَجِبْتُ لِمَنْ شَكَّ فِي اَللَّهِ وَ هُوَ يَرَى خَلْقَ اَللَّهِ وَ عَجِبْتُ لِمَنْ نَسِيَ اَلْمَوْتَ وَ هُوَ يَرَى اَلْمَوْتَى وَ عَجِبْتُ لِمَنْ أَنْكَرَ اَلنَّشْأَةَ اَلْأُخْرَى وَ هُوَ يَرَى اَلنَّشْأَةَ اَلْأُولَى وَ عَجِبْتُ لِعَامِرٍ دَارَ اَلْفَنَاءِ وَ تَارِكٍ دَارَ اَلْبَقَاءِ في ( الطبري ) قيل لجعفر بن محمدعليه‌السلام : إنّ المنصور يعرف بلباس جبّة هروية مرقوعة و انه يرقع قميصه ، فقالعليه‌السلام : الحمد للَّه الذي لطف له حتى ابتلاه بفقر نفسه أو قال بالفقر في ملكه .

____________________

( ١ ) بحار الأنوار للمجلسي ٤١ : ١٠٤ رواية ٥ و قد وردت الأبيات الشعرية في ديوان أمير المؤمنين : ٤٨ .

٥٢٦

و قال محمد بن سليمان الهاشمي : بلغني أنّ المنصور أخذ الدواء في يوم شائت شديد البرد ، فأتيته أسأله عن موافقة الدواء ، فادخلت مدخلا من القصر لم أدخله قط ، ثم صرت إلى حجرة صغيرة و فيها بيت واحد و رواق بين يديه في عرض البيت و عرض الصحن على أسطوانة ساج و قد سدل على وجه الرواق بواري كما يصنع بالمساجد ، فدخلت فإذا في البيت مسح ليس فيه شي‏ء غيره إلاّ فراشه و مرافقه و دثاره ، فقلت له : هذا بيت أربأبك عنه فقال : يا عم هذا بيت مبيتي قلت له : ليس هنا غير الذي أرى قال : ما هو إلاّ ما ترى .

و مثل البخيل مثل الطائر الذي لا يروى من البحر لئلاّ ييبس ، و الدود الذي لا يشبع من التراب لئلاّ يفنى .

و قال واضع مولى المنصور : قال لي المنصور : انظر ما عندك من الثياب الخلقان فاجمعها و جئني بها و ليكن معها رقاع ، ففعلت و دخل عليه المهدي و هو يقدّر الرقاع فضحك و قال : من هاهنا يقول الناس : نظروا في الدينار و الدرهم و ما دون ذلك و لم يقل دانق فقال المنصور : إنّه لا جديد لمن لا يصلح خلقه ، و هذا الشتاء قد حضر و نحتاج إلى كسوة للعيال و الولد فقال المهدي : فعليّ كسوتك و كسوة عيالك و ولدك فقال له : دونك فافعل .(١) .

كان عمله هكذا مع انّه قال لابنه : قد جمعت لك من الأموال ما ان كسر عليك الخراج عشر سنين كان عندك كفاية لأرزاق الجند و النفقات و عطاء الذرية و مصلحة الثغور .

« فيعيش في الدنيا عيش الفقراء و يحاسب في الآخرة حساب الأغنياء » في ( الكافي ) عن الصادقعليه‌السلام : إنّ فقراء المؤمنين يتقلّبون في رياض الجنّة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا و قال : سأضرب لك مثل ذلك ، إنّما مثله مثل سفينتين

____________________

( ١ ) تاريخ الامم و الملوك للطبري ٦ : ٣٢٤ .

٥٢٧

مرّ بهما على عاشر ، فنظر في إحداهما فلم ير فيها شيئا فقال : أسربوها ، و نظر في الاخرى فإذا هي موقرة فقال : إحبسوها .

و عنهعليه‌السلام : إذا كان يوم القيامة قام عنق من الناس حتى يأتوا باب الجنّة فيقولون : من أنتم ؟ فيقولون : نحن الفقراء فيقال لهم : أقبل الحساب فيقولون :

ما أعطيتمونا شيئا تحاسبونا عليه فيقول اللَّه تعالى : صدقوا ، ادخلوا الجنّة(١) .

« و عجبت للمتكبّر الذي كان بالأمس نطفة و يكون غدا جيفة » و خرج من مبال إلى مبال ثم يخرج منه ، فإن لم يخرج من الثاني فمن الأول لا محالة .

فقالوا : كان أحمد بن سهل و هو من ولد يزدجرد ماتت امّه و هو في بطنها ، فشق عنه فكان يتيه على الناس ، و إذا شتم أحدا قال له : ابن البضع ، و كان يفخر على أبناء الملوك بأنّه لم يخرج من بضع(٢) .

« و عجبت لمن شكّ في اللَّه و هو يرى خلق اللَّه » مع عدم تجويز عقل حصول بناء محقّر بدون بان ، و قال تعالى :( أَلم يأتِكُم نَبأُ الّذين من قَبلكم قوم نُوحٍ و عادٍ و ثَمودَ و الّذين من بَعدِهم لا يَعلمُهُم إِلاّ اللَّه جَاءَتهُم رُسُلهم بالبيّنات فردُّوا أيديهم في أَفواهِهِم و قالوا إِنّا كفرنا بما اُرسلتُم بِهِ و إِنّا لَفي شك ممّا تدعوننا إِليه مُريب قالت رُسُلهم أَفي اللَّه شكّ فاطِر السّماوات و الأرض ) (٣) .

« و عجبت لمن نسي الموت و هو يرى الموتى » هكذا في ( الطبعة المصرية )(٤) ، و الصواب ما في ( ابن أبي الحديد(٥) و ابن ميثم )(٦) و النسخة

____________________

( ١ ) الكافي للكليني ٢ : ٢٦٤ ح ١٨ ، من حديث هشام بن الحكم .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٧ : ٢٠٤ .

( ٣ ) إبراهيم : ٩ ١٠ .

( ٤ ) انظر النسخة المصرية : ٦٨٦ رقم ( ١٢٧ ) .

( ٥ ) في شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٣١٥ بلفظ « من يموت » .

( ٦ ) في شرح ابن ميثم ٥ : ٣٠٩ رقم ( ١١٦ ) بلفظ « الموتى » .

٥٢٨

الخطية(١) ( و هو يرى من يموت ) لصحّة تلك النسخ دون الطبعة المصرية ، و لأنّ العجب في رؤية أحياء مثله يموتون و ينساه دون مجرّد رؤية موتى لاحتمال حكم وهمه بكونهم أمواتا أبدا ، و أما الذين رآهم ماتوا فلا مجال لحكم و هم فيهم .

ثمّ العجب أنّه يرى أنّ أكثرهم كان منه أشدّ قوّة و أصحّ مزاجا و أسمن بدنا و أكثر أملا و ينسى .

و في الخبر : ما خلق اللَّه يقينا أشبه بالشكّ من الموت(٢) .

« و عجبت لمن أنكر النشأة الاخرى و هو يرى النشأة الأولى » أَوَ لَم يرَ الإنسانُ أَنّا خَلقناهُ مِن نُطفَةٍ فإذا هُو خَصيمٌ مبين و ضَرَبَ لَنا مَثلاً وَ نَسي خَلقَه قالَ مَن يُحيي العِظامَ و هي رَميم( قُل يُحييها الّذي أَنشأها أَوّلَ مرّةٍ وَ هو بِكُلِّ خَلقٍ عَليم ) (٣) أَو لَيسَ الَّذي خَلَقَ السَّماواتِ و الأرض بقادرٍ عَلى أَن يَخلقَ مِثلَهم بَلى وَ هُو الخَلاّقُ العليم إِنّما أَمرُهُ إِذا أَرادَ شَيئاً أَن يَقولَ لَهُ كُن فيكون( فَسُبحانَ الّذي بِيَده مَلكُوتُ كُلِّ شَي‏ءٍ و إِليهِ تُرجَعُون ) (٤) .

« و عجبت لعامر دار الفناء و تارك دار البقاء »( انّما هذه الحياة الدُّنيا متاع و إنَّ الآخرة هي دار القرار ) (٥) .

هذا ، و في الخبر : عجبت لأقوام يحتمون من الطعام مخافة الأذى كيف لا يحتمون من الذنوب مخافة النار ، عجبت لمن يشتري المماليك بماله كيف لا

____________________

( ١ ) النسخة الخطية ( المرعشي ) : ٣٢٠ .

( ٢ ) أورده ( من لا يحضره الفقيه ) هكذا : لم يخلق اللَّه عزّ و جلّ يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت و نسبه إلى الإمام الصادقعليه‌السلام ١ : ١٢٤ ، نقله المجلسي في البحار ٦ : ١٢٧ .

( ٣ ) يس : ٧٧ ٧٩ .

( ٤ ) يس : ٨١ ٨٣ .

( ٥ ) غافر : ٣٩ .

٥٢٩

يشتري الأحرار بمعروفه(١) .

٥٠ الحكمة ( ١٢٧ ) و قالعليه‌السلام :

مَنْ قَصَّرَ فِي اَلْعَمَلِ اُبْتُلِيَ بِالْهَمِّ وَ لاَ حَاجَةَ لِلَّهِ فِيمَنْ لَيْسَ لِلَّهِ فِي مَالِهِ وَ نَفْسِهِ نَصِيبٌ أقول : هكذا في ( الطبعة المصرية )(٢) من كون الجميع عنوانا واحدا ، لكن ابن أبي الحديد(٣) جعل قوله « و لا حاجة . » عنوانا آخر ، و الأصحّ ما هنا لتصديق ابن ميثم(٤) له و نسخته من النهج بخط المصنف .

( من قصّر في العمل ابتلي بالهم ) و المراد أنّ من قصّر في عمل من الدنيا أو الآخرة كان الإتيان به واجبا و قصّر فيه يبتلى بالهمّ و الحسرة لم قصّر ، قال تعالى في الثاني( و اتَّبعُوا أَحسَنَ ما اُنزلَ إِليكم من ربِّكم من قَبل أَن يأتيكم العذابُ بَغتةً و أَنتُم لا تَشعُرون أن تقول نفسٌ يا حَسرتى على ما فَرَّطتُ في جَنبِ اللَّه و إن كُنتُ لَمِنَ الساخرين ) (٥) .

« و لا حاجة للَّه في من ليس للَّه في ماله و نفسه نصيب » هكذا في ( الطبعة المصرية )(٦) و الصواب ما في ابن أبي الحديد و ابن ميثم ( و لا حاجة للَّه في من

____________________

( ١ ) بحار الأنوار للمجلسي ٧٨ : ٤٠ نسبه للإمام عليعليه‌السلام .

( ٢ ) انظر النسخة المصرية : ٦٨٦ رقم ( ١٢٨ ) الموافقة لنسخة شرح ابن ميثم ٥ : ٣١٠ رقم ( ١١٧ ) .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٣١٦ .

( ٤ ) شرح ابن ميثم ٥ : ٣١٠ .

( ٥ ) الزمر : ٥٥ ٥٦ .

( ٦ ) النسخة المصرية شرح محمّد عبده : ٦٨٦ رقم ( ١٢٨ ) نسخة شرح ابن ميثم المنقحة مطابقة للنسخة المصرية شرح محمّد عبده ٥ : ٣١٠ ، و راجع ابن أبي الحديد ١٨ : ٣١٧ .

٥٣٠

ليس في نفسه و ماله نصيب ) فوقع في ( الطبعة المصرية ) زيادة و تقديم و تأخير .

أراد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نكاح امرأة كلبية أو سلمية ، فقال أبوها : من صفتها كذا و كذا و كفاك من صحّة بدنها أنّها لم تمرض قط و لم تصدع فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : لا حاجة لنا فيها(١) .

قال البلاذري : قال بعضهم : عرض الضحّاك الكلابي ابنته على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله و قال : إنها لم تمرض و لم تصدع فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : لا حاجة لنا فيها و قال الكلبي : التي قال أبوها انها لم تصدع قط و عرضها على النبي فقال لا حاجة لنا بها سلمية و أما الكلابية فاختارت قومها فذهبت عقلها فكانت تقول : أنا الشقية(٢) .

و في ( الكافي ) عن الصادقعليه‌السلام : دعي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى طعام فنظر إلى دجاجة فوق حائط قد باضت فتقع البيضة على وتد في حائط فتثبت عليه ، فتعجب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له الرجل : أعجبت من هذه البيضة فو الذي بعثك بالحق ما رزئت شيئا قط فنهض النبي و لم يأكل شيئا من طعامه و قال : من لم يرزأ فما للَّه فيه من حاجة(٣) .

و قال ابن أبي الحديد بروي أنّه دخل على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أعرابي ذو جثمان عظيم ، فقال له متى عهدك بالحمّى قال : ما أعرفها قال : بالصداع ؟ قال : ما أدري ما هو قال : فاصبت بمالك ؟ قال : لا قال : فرزئت بولدك ؟ قال : لا فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ اللَّه تعالى ليكره العفريت النفريت الذي لا يرزأ في ولده و لا يصاب بماله(٤) .

____________________

( ١ ) أنساب الأشراف للبلاذري ١ : ٤٥٥ .

( ٢ ) المصدر نفسه ١ : ٤٥٥ و هي فاطمة الكلابية .

( ٣ ) الكافي للكليني ٢ : ٢٥٦ ح ٢٠ .

( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٣١٧ .

٥٣١

و عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لأصحابه : أيّكم يحبّ أن يصح فلا يسقم ؟ قالوا :

كلّنا قال : أتحبّون أن تكونوا كالحمر الصائلة ، ألا تحبّون أن تكونوا أصحاب بلايا و أصحاب كفّارات ، و الذي بعثني بالحق إنّ الرجل ليكون له الدرجة في الجنّة و لا يبلغها بشي‏ء من عمله فيبتليه اللَّه ليبلغه تلك الدرجة(١) .

و في الخبر : مرّ موسىعليه‌السلام برجل كان يعرفه مطيعا للَّه تعالى قد مزقت السباع لحمه ، فوقف متعجّبا فاوحي إليه : إنّه سألني درجة لم يبلغها بعمله فجعلت له سبيلا بذلك(٢) .

و عن جابر رفعه : يود أهل العافية يوم القيامة أنّ لحومهم كانت تقرض بالمقاريض لمّا يرون من ثواب أهل البلاء(٣) .

و عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : ان اللَّه ليتعاهد عبده المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الوالد ولده بالطعام ، و اللَّه يحمي عبده المؤمن كما يحمي أحدكم المريض من الطعام(٤) .

٥١ الحكمة ( ١٢٨ ) و قالعليه‌السلام :

تَوَقَّوُا اَلْبَرْدَ فِي أَوَّلِهِ وَ تَلَقَّوْهُ فِي آخِرِهِ فَإِنَّهُ يَفْعَلُ فِي اَلْأَبْدَانِ كَفِعْلِهِ فِي اَلْأَشْجَارِ أَوَّلُهُ يُحْرِقُ وَ آخِرُهُ يُورِقُ قال ابن ميثم إنّما وجب اتّقاء البرد في أوّله لأنّ الصيف و الخريف يشتركان في اليبس ، فإذا ورد البرد ورد على أبدان استعدت بحرارة الصيف

____________________

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٣١٧ ، في حديث عبد اللَّه بن انس .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٣١٨ .

( ٣ ) المصدر نفسه ١٨ : ٣١٨ في حديث جابر بن عبد اللَّه .

( ٤ ) الكافي للكليني ٢ : ٢٥٩ ح ٢٨ نسبه إلى الصادقعليه‌السلام و نسبه ابن أبي الحديد إلى الرسول الأكرم صلّى اللَّه عليه و آله ١٨ : ٣١٨ .

٥٣٢

و يبسه للتخلخل و تفتح المسام ، فاشتد انفعال البدن عنه و أسرع في قهر الحرارة الغريزية فيقوى في البدن البرد و اليبس و هما طبيعة الموت ، فيكون بذلك يبس الأشجار و ضمور الأبدان ، و وجب تلقّيه في آخره لأن الشتاء و الربيع يشتركان في الرطوبة و يفترقان بأنّ الشتاء بارد و الربيع حار ، فالبرد المتأخّر إذا امتزج بحرارة الربيع و انكسرت سورتها بها لم يكن له بعد ذلك نكاية في الأبدان ، فقويت الحرارة الغريزية و كان منه النمو و قوّة الأبدان و بروز الأوراق و الثمار(١) .

٥٢ الحكمة ( ١٤١ ) و قالعليه‌السلام :

قِلَّةُ اَلْعِيَالِ أَحَدُ اَلْيَسَارَيْنِ أقول : هو من حديثهعليه‌السلام في الأربعمائة ، و نظيره قولهم : « العيال سوس المال » و قيل : « لا مال لكثير العيال » .

هذا ، و في ( الطبري ) قال الوضين بن عطاء : استزارني المنصور و كانت بيني و بينه خلالة قبل الخلافة ، فصرت إلى بغداد فخلونا يوما فقال لي : ما مالك ؟ قلت : القدر الذي يعرفه الخليفة قال : و ما عيالك ؟ قلت : ثلاث بنات و المرأة و خادم لهن فقال : أربع في بيتك ؟ قلت : نعم فو اللَّه لردد ذلك عليّ حتى ظننت انّه سيموّلني ثم رفع رأسه الي فقال لي : أنت أيسر العرب أربع مغازل يدرن في بيتك(٢) .

____________________

( ١ ) شرح ابن ميثم ٥ : ٣١١ رقم ١١٨ .

( ٢ ) تاريخ الامم و الطبري للطبري ٦ : ٣٢٠ .

٥٣٣

٥٣ الحكمة ( ١٤٢ ) و قالعليه‌السلام :

اَلتَّوَدُّدُ نِصْفُ اَلْعَقْلِ و الحكمة ( ١٤٣ ) و قالعليه‌السلام :

اَلْهَمُّ نِصْفُ اَلْهَرَمِ أقول : هكذا في ابن أبي الحديد جعلهما عنوانين(١) ، و أخذ منه ( الطبعة المصرية الثانية ) و اما الأولى فليس الأول فيه رأسا(٢) ، و الصواب كون الكلامين عنوانا واحدا كما في ابن ميثم لأن نسخته بخط المصنّف(٣) ، و لأنّهما في سياق واحد ، و لأن في مستندهما هما معا ، فرواه مناقب ابن الجوزي كذلك(٤) ، بل هما جزء العنوان السابق « قلّة العيال أحد اليسارين » كما في ابن أبي الحديد و النسخة الخطية(٥) و إنّ جعله ابن أبي الحديد أيضا مستقلا .

ثم قال ابن أبي الحديد في شرح عنوانه الأول : كأن يقال : قلّ من تودّد إلاّ صار محبوبا و المحبوب مستور العيوب و قال في الثاني : قال الشاعر :

هموم قد أبت إلاّ التباسا

تبتّ الشّيب في رأس الوليد

و تقعد قائما بشجا حشاه

و تطلق للقيام جثى القعود

و أضحت خشّعا منها نزار

مركّبة الرواجب في الخدود

____________________

( ١ ) انظر ابن أبي الحديد ١٨ : ٣٤٠ ٣٤١ .

( ٢ ) في الطبعة المصرية المنقحة هي « قلّة العيال أحد اليسارين » : ٦٩٠ رقم ( ١٤٢ ) .

( ٣ ) شرح نهج البلاغة لابن ميثم ٥ : ٣١٩ رقم ( ١٣٠ ) .

( ٤ ) لم نعثر على كتاب المناقب لابن الجوزي .

( ٥ ) في النسخة الخطية : ٣٢٢ هما جزء العنوان السابق « قلة العيال أحد اليسارين » .

٥٣٤

و قال أبو تمام :

شاب رأسي و ما رأيت مشيب

الرأس إلاّ من فضل شيب الفؤاد

كذلك(١) القلوب في كلّ بؤس

و نعيم طلايع الأجساد

طال انكاري البياض و لو عمّر

ت شيئا أنكرت لون السّواد(٢)

قلت : و في ( الطبري ) قال ابن هبيرة : ما رأيت رجلا قط في حرب و لا سمعت به في سلم أمكر و لا أبدع و لا أشد تيقّظا من المنصور ، لقد حصرني في مدينتي تسعة أشهر و معي فرسان العرب ، فجهدنا كلّ الجهد أن ننال من عسكره شيئا نكسره به و ما تهيّا ، و لقد حصرني و ما في رأسي بيضاء فخرجت إليه و ما في رأسي سوداء(٣) .

٥٤ الحكمة ( ١٥٧ ) و قالعليه‌السلام :

قَدْ بُصِّرْتُمْ إِنْ أَبْصَرْتُمْ وَ قَدْ هُدِيتُمْ إِنِ اِهْتَدَيْتُمْ وَ أُسْمِعْتُمْ إِنِ اِسْتَمَعْتُمْ التبصير التعريف و الايضاح ، و أمّا الأبصار فقد يجي‏ء بمعنى التبصير كما في قوله تعالى( فلَمّا جاءَتهُم آياتُنا مبصِرَةً ) (٤) و قد يجي‏ء بمعنى الرؤية كما في قولهعليه‌السلام هذا .

و الأصل في كلامهعليه‌السلام قوله تعالى( قَد جاءَكُم بصائِرُ من ربِّكم فمَن أَبصَرَ فَلِنَفسِه و من عَمي فَعَليها و ما أَنا عليكُم بِحفيظٍ ) (٥) .

____________________

( ١ ) كذاك في الديوان : ٧٥ ، و أظنه خطأ طباعي و الأوفق : و كذاك كما في شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٣٤١ .

( ٢ ) ديوان أبي تمام : ٧٥ كذا ذكره شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٣٤١ .

( ٣ ) تاريخ الامم و الملوك للطبري ٦ : ٣٢١ .

( ٤ ) النمل : ١٣ .

( ٥ ) الأنعام : ١٠٤ .

٥٣٥

« و قد هديتم ان اهديتم »( فمن تبع هداي فلا خَوفٌ عليهم و لا هم يحزَنون ) (١) ( قُل يا أيُّها الناسُ قد جاءَكم الحقُّ من ربّكُم فَمَن اهتَدى فإنّما يهتدي لِنَفسه و من ضَلَّ فإنّما يَضلُّ عليها و ما أَنا عليكُم بوَكيلٍ ) (٢) .

« و اسمعتم إن استمعتم »( فَبَشِّر عِباد الذين يستَمِعُون القَولَ فيتَّبِعُون أَحسنه أولئك الذين هداهُم اللَّه و أولئكَ هُم اُولوا الأَلبابِ ) (٣) ( و ما أنت بمسمع من في القبور ) (٤) ( و لو ترى إذ المُجرمون ناكسوا رؤُوسهم عندَ ربهم ربَّنا أَبصرنا و سَمعنا فأرجعنا نعمَل صالحاً إِنّا موقنون ) (٥) .

٥٥ الحكمة ( ١٦٤ ) و قالعليه‌السلام :

مَنْ قَضَى حَقَّ مَنْ لاَ يَقْضِي حَقَّهُ فَقَدْ عَبَدَهُ قرأ ابن أبي الحديد « عبده » بالتشديد ، فجعل مدحا(٦) ، و قرأه ابن ميثم بالتخفيف(٧) فجعله ذمّا .

قال الأول : المعنى مدح من يقضي حق من لا يقضي حقّه لأنّه استعبده ، لأنّه ما فعل به ما فعل مكافأة بل انعاما مبتدئا .

و قال الثاني : أي قضاء حق من كان كذلك في صورة عبادة له .

____________________

( ١ ) البقرة : ٣٨ .

( ٢ ) يونس : ١٠٨ .

( ٣ ) الزمر : ١٧ ١٨ .

( ٤ ) فاطر : ٢٢ .

( ٥ ) السجدة : ١٢ .

( ٦ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٣٨٨ رقم ( ١٦٦ ) .

( ٧ ) شرح ابن ميثم ٥ : ٣٣٥ رقم ( ١٥٠ ) .

٥٣٦

قلت : و الأظهر الثاني ، لأن في خط الرضي لا بد أنّه كان بلا تشديد ، لأن نسخة ابن ميثم(١) من النهج كانت بخطه ، و لأن المعنى الذي ذكر ابن أبي الحديد(٢) ليس بصحيح ، فليس كل من تقضي حقّه و هو ما قضى حقك تستعبده كما هو مقتضى عموم « من » ، لاحتمال كون صاحبك رذلا غير أهل ، مع عدم مناسبة « لا يقضي » الظاهر في الاستمرار مع تعبيده ، فإذا صار عبده لا بدّ أن يقضي حقه كاملا ، و إنّما كان مناسبا لو كان بلفظ « لم يقض » و بالجملة ما ذكره ابن أبي الحديد غير جيّد لفظا و معنى .

٥٦ الحكمة ( ١٦٩ ) و قالعليه‌السلام :

قَدْ أَضَاءَ اَلصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ أقول : قد ذكره العسكري(٣) و الميداني(٤) في كتابيهما في الأمثال بدون أن يبيّنا أصله .

و قد ذكره الجرجاني في كنايته مع ذكر أصل له ، فقال : قرأت في كتاب الأمثال عن مؤرّج بن عمرو السدوسي قال : حدّث أبو خالد الكلابي أنّ الأحوص بن جعفر اتي فقيل له : أتانا رجل لا نعرفه ، فلمّا دنا من القوم حيث يرونه نزل عن راحلته فعلّق و طبا من لبن و وضع في بعض أغصان شجرة حنظلة و وضع صرّة من تراب و صرّة شوك ، ثم استوى على راحلته فنظر القوم و الأحوص من أمره ، فقال الأحوص : أرسلوا إلى قيس بن زهير ،

____________________

( ١ ) راجع شرح ابن ميثم ٥ : ٣٣٩ .

( ٢ ) راجع شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٣٨٨ .

( ٣ ) جمهرة الأمثال للعسكري ٢ : ١٢٥ بهامش مجمع الأمثال : يضرب مثلا للأمر ينكشف و يظهر .

( ٤ ) مجمع الأمثال للميداني ٢ : ٣١ ، و قال يضرب للأمر يظهر كل الظهور .

٥٣٧

فأرسلوا إليه فأتى فقال له الأحوص : ألم تخبرني أنّه لا يرد عليك أمر إلاّ عرفت مأتاه ما لم ترم بنواصي الخيل فقال : ما الخبر ؟ فأعلمه فقال : « قد تبيّن الصبح لذي عينين » فصار مثلا يضرب لوضوح الشي‏ء قال : أمّا صرّة التراب فإنّه يزعم أنّه قد أتاكم عدد كثير ، و أمّا الحنظلة فإنّ حنظلة أتاكم و قد أدركتكم ، و أمّا الشوك فإنّ لهم شوكة ، و أمّا اللبن فدليل على مقدار قرب القوم و بعدهم ، فإن كان حلوا فقد أتتكم الخيل و ان كان لا حلوا و لا حامضا فعلى قدر ذلك ، و إنّما ترك الكلام لأنّه اخذت عليه العهود ، و قال : أنذرتكم(١) .

فإن كان الأصل في المثل قيس بن زهير كما روى فلا بدّ أنّهعليه‌السلام تمثّل به لا أنّهعليه‌السلام الأصل كما فعل المصنّف .

٥٧ الحكمة ( ١٧١ ) و قالعليه‌السلام :

كَمْ مِنْ أَكْلَةٍ مَنَعَتْ أَكَلاَتٍ هكذا في ( الطبعة المصرية ) بلفظ « منعت »(٢) و يصدقها ابن ميثم(٣) و لكن في ابن أبي الحديد(٤) و الخطية(٥) بدله « تمنع » و ما هنا أنسب و أصحّ حيث إنّ نسخة ابن ميثم بخط مصنفه .

في بخلاء الجاحظ : كان الحكم بن أيوب الثقفي عاملا للحجّاج على البصرة و استعمل على العراق جرير بن بيهس المازني و لقب جرير العطرّق

____________________

( ١ ) الكنايات للجرجاني : ٧٩ ٨٠ .

( ٢ ) النسخة المصرية شرح محمّد عبده : ٦٩٨ رقم ( ١٧١ ) .

( ٣ ) شرح ابن ميثم ٥ : ٣٣٦ رقم ١٥٧ .

( ٤ ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٨ : ٣٩٧ رقم ( ٢٧٣ ) .

( ٥ ) سقط النصّ من النسخة الخطية ( المرعشي ) .

٥٣٨

فخرج الحكم يتنزه و هو باليمامة ، فدعا العطرّق إلى غذائه ، فأكل معه فتناول درّاجة كانت بين يديه ، فعزله و ولّى مكانه نويرة المازني ابن عمه ، فقال نويرة :

قد كان في العرق صيد لو قنعت به

غنى لك عن درّاجة(١) الحكم

و في عوارض لا تنفكّ تأكلها

لو كان يشفيك لحم الجزر من قرم(٢)

و بلغ الحكم ان نويرة ابن عم جرير العطرق فعزله فقال نويرة :

أبا يوسف لو كنت تعرف طاعتي

و نصحي إذا ما بعتني بالمحلّق(٣)

و لا انهلّ سرّاق العراقة صالح

عليّ و لا كلّفت ذنب العطرّق(٤)

و تناول رجل من قدام أمير كان لنا ضخم بيضة ، فقال خذها فانّها بيضة القروء فلم يزل محجوبا حتى مات(٥) .

و قال ابن أبي الحديد كان الطعام الذي مات منه سليمان أنّه قال لديرانيّ كان صديقه قبل الخلافة : ويحك لا تقطعني ألطافك التي كنت تلطفني بها قال :

فأتيته بزنبيلين كبيرين أحدهما بيض مسلوق و الآخرتين قال : ألقمنيها فكنت أقشر البيضة و أقرنها بالتينة و القمه حتى أتى على الزنبيلين ، فأصابته تخمة عظيمة و مات(٦) .

هذا ، و قد كان ابن عيّاش المنتوف يمازح المنصور فيحتمله على انّه كان جدّا كله فقدم المنصور يوما لجلسائه ببطة كثيرة الدهن ، فأكلوا و جعل

____________________

( ١ ) الدراج : طائر من طير العراق .

( ٢ ) العوارض : الناقة الشابة أو الشاة يصيبها دائر أو كسر فتخر قرم : شهوة اللحم .

( ٣ ) أبو يوسف : كنية الحكم المحلق : لقب الّذي حل مكانه بعد عزله .

( ٤ ) العراقة : العظم عليه لحم .

( ٥ ) البخلاء للجاحظ : ٢١٦ ٢١٧ .

( ٦ ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٨ : ٣٩٩ .

٥٣٩

يأمرهم بالازدياد من الأكل لطيبها ، فقال له ابن عياش علمت غرضك انما تريد أن ترميهم منها بالهيضة فلا يأكلوا إلاّ عشرة أيام(١) .

و في المثل : « أكلة أبي خارجة » ، قال أعرابي بباب الكعبة : « اللّهم ميتة كميتة أبي خارجة » فسألوه فقال : أكل حملا و شرب وطبا من اللبن و تروّى من النبيذ و نام في الشمس فمات ، فلقي اللَّه شبعان ريّان دفئان(٢) .

و ورد أعرابيّ على الحجّاج فقدّم له الطعام و كان مع الطعام حلواء ، فقعد الأعرابي يأكل و ينظر إلى الحجّاج نظرة و إلى الحلواء أخرى ، فقال الحجّاج : كلّ من أكل من هذا الحلواء ضربت عنقه ، ففكّر الأعرابي ساعة و قبض على لحيته ساعة ثم قال للحجّاج : أوصيك في الأولاد خيرا ، و أخذ يأكل فضحك الحجّاج و الحاضرون .

٥٨ الحكمة ( ٢٠٤ ) و قالعليه‌السلام :

لاَ يُزَهِّدَنَّكَ فِي اَلْمَعْرُوفِ مَنْ لاَ يَشْكُرُهُ لَكَ فَقَدْ يَشْكُرُكَ عَلَيْهِ مَنْ لاَ يَسْتَمْتِعُ بِشَيْ‏ءٍ مِنْهُ وَ قَدْ تُدْرِكُ مِنْ شُكْرِ اَلشَّاكِرِ أَكْثَرَ مِمَّا أَضَاعَ اَلْكَافِرُ وَ اَللَّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ ١٤ ١٧ ٣ : ١٣٤ أقول : و عن الباقرعليه‌السلام إنّ اللَّه عز و جل جعل للمعروف أهلا من خلقه حبّب إليهم فعاله ، و وجّه لطلاّب المعروف الطلب إليهم ، و يسّر لهم قضاءه كما يسّر الغيث للأرض المجدبة ليحييها و يحيي به أهلها ، و إنّ اللَّه تعالى جعل للمعروف أعداء من خلقه بغّض إليهم المعروف و بغّض إليهم أفعاله ، و حظر على طلاّب

____________________

( ١ ) المصدر نفسه ١٨ : ٣٩٧ .

( ٢ ) المصدر نفسه ١٨ : ٣٩٨ .

٥٤٠

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639