بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٤

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة6%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 639

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤
  • البداية
  • السابق
  • 639 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 247424 / تحميل: 8636
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

لم يكن جيش فرعون مانعا من العذاب الإلهي ، ولم تكن سعة مملكتهم وأموالهم وثراؤهم سببا لرفع هذا العذاب ، ففي النهاية أغرقوا في أمواج النيل المتلاطمة إذ أنّهم كانوا يتباهون بالنيل ، فبماذا تفكرون لأنفسكم وأنتم أقل عدّة وعددا من فرعون وأتباعه وأضعف؟! وكيف تغترون بأموالكم وأعدادكم القليلة؟!

«الوبيل» : من (الوبل) ويراد به المطر الشديد والثقيل ، وكذا يطلق على كل ما هو شديد وثقيل بالخصوص في العقوبات ، والآية تشير إلى شدّة العذاب النازل كالمطر.

ثمّ وجه الحديث إلى كفّار عصر بنيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويحذرهم بقوله :( فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً ) (١) (٢) .

بلى إنّ عذاب ذلك اليوم من الشدّة والثقيل بحيث يجعل الولدان شيبا ، وهذه كناية عن شدّة ذلك اليوم.

هذا بالنسبة لعذاب الآخرة ، وهناك من يقول : إنّ الإنسان يقع أحيانا في شدائد العذاب في الدنيا بحيث يشيب منها الرأس في لحظة واحدة.

على أي حال فإنّ الآية تشير إلى أنّكم على فرض أنّ العذاب الدنيوي لا ينزل عليكم كما حدث للفراعنة؟ فكيف بكم وعذاب يوم القيامة؟

في الآية الاخرى يبيّن وصفا أدقّ لذلك اليوم المهول فيضيف :( السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً ) .

إنّ الكثير من الآيات الخاصّة بالقيامة وأشراط الساعة تتحدث عن

__________________

(١) يوما مفعول به لتتقون ، و «تتقون» ذلك اليوم يراد به تتقون عذاب ذلك اليوم ، وقيل (يوم) ظرف لـ (تتقون) أو مفعول به لـ (كفرتم) والاثنان بعيدان.

(٢) «شيب» جمع (أشيب) ويراد به المسن ، وهي من أصل مادة شيب ـ على وزن عيب ـ والمشيب يعني تغير لون الشعر إلى البياض.

١٤١

انفجارات عظيمة وزلازل شديدة ومتغيرات سريعة ، والآية أعلاه تشير إلى جانب منها.

فما حيلة الإنسان الضعيف العاجز عند ما يرى تفطر السموات بعظمتها لشدّة ذلك اليوم؟!(١)

وفي النّهاية يشير القرآن إلى جميع التحذيرات والإنذارات السابقة فيقول تعالى :( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ) .

إنّكم مخيرون في اختيار السبيل ، فمن شاء اتّخذ إلى ربّه سبيلا ، ولا فضيلة في اتّخاذ الطريق إلى الله بالإجبار والإكراه ، بل الفضيلة أن يختار الإنسان السبيل بنفسه وبمحض إرادته.

والخلاصة أنّ الله تعالى هدى الإنسان إلى النجدين ، وجعلهما واضحين كالشمس المضيئة في وضح النهار ، وترك الإختيار للإنسان نفسه حتى يدخل في طاعته سبحانه بمحض إرادته ، وقد احتملت احتمالات متعددة في سبب الإشارة إلى التذكرة ، فقد قيل أنّها إشارة إلى المواعظ التي وردت في الآيات السابقة ، وقيل هي إشارة إلى السورة بكاملها ، أو إشارة إلى القرآن المجيد.

ولعلها إشارة إلى إقامة الصلاة وقيام الليل كما جاء في الآيات من السورة ، والمخاطب هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والآية تدل على توسعة الخطاب وتعميمه لسائر المسلمين ، ولهذا فإنّ المراد من «السبيل» في الآية هو صلاة الليل ، والتي تعتبر سبيل خاصّ ومهمّة تهدي إلى الله تعالى ، كما ذكرت في الآية (٢٦) من سورة الدهر بعد أن أشير إلى صلاة الليل بقوله تعالى :( وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ) .

ويقول بعد فاصلة قصيرة :( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً )

__________________

(١) «المنفطر» : من الانفطار بمعنى الإنشقاق ، والضمير (به) يعود لليوم ، والمعنى السماء منشقة بسبب ذلك اليوم والسماء جائزة للوجهين أي أنّه تذكر وتؤنث.

١٤٢

وهي بعينها الآية التي نحن بصدد البحث فيها(١) .

وبالطبع هذا التّفسير مناسب ، والأنسب منه أن تكون الآية ذات مفهوم أوسع حيث تستوعب هذه السورة جميع مناهج صنع الإنسان وتربيته كما أشرنا إلى ذلك سابقا.

* * *

ملاحظة

المراحل الأربع للعذاب الإلهي

الآيات السابقة تهدد المكذبين المغرورين بأربعة أنواع من العذاب الأليم : النكال ، الجحيم ، الطعام ذو الغصّة ، والعذاب الأليم ، هذه العقوبات في الحقيقة هي تقع في مقابل أحوالهم في هذه الحياة الدنيا.

فمن جهة كانوا يتمتعون بالحرية المطلقة.

الحياة المرفهة ثانيا.

لما لهم من الأطعمة السائغة من جهة ثالثة.

والجهة الرابعة لما لهم من وسائل الراحة ، وهكذا سوف يجزون بهذه العقوبات لما قابلوا هذه النعم بالظلم وسلب الحقوق والكبر والغرور والغفلة عن الله تعالى.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ١٤٧.

١٤٣

الآية

( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠) )

التّفسير

فاقرؤوا ما تيسر من القرآن :

هذه الآية هي من أطول آيات هذه السورة وتشتمل على مسائل كثيرة ، وهي مكملة لمحتوى الآيات السابقة ، وهناك أقوال كثيرة للمفسّرين حول ما إذا كانت

١٤٤

هذه الآية ناسخة لحكم صدر السورة أم لا ، وكذلك في مكّيتها أو مدنيتها ، ويتّضح لنا جواب هذه الأسئلة بعد تفسير الآية.

فيقول تعالى :( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ) (١) .

الآية تشير إلى نفس الحكم الذي أمر به الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صدر السورة من قيام الليل والصلاة فيه ، وما أضيف في هذه الآية هو اشتراك المؤمنين في العبادة مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بصيغة حكم استحبابي أو باحتمال حكم وجوبي لأنّ ظروف صدر الإسلام كانت تتجاوب مع بناء ذواتهم والاستعداد للتبليغ والدفاع عنه بالدروس العقائدية المقتبسة من القرآن المجيد ، وكذا بالعمل والأخلاق وقيام الليل ، ولكن يستفاد من بعض الرّوايات أنّ المؤمنين كانوا قد وقعوا في إشكالات ضبط الوقت للمدة المذكورة (الثلث والنصف والثلثين) ولذا كانوا يحتاطون في ذلك ، وكان ذلك يستدعي استيقاظهم طول الليل والقيام حتى تتورم أقدامهم ، ولذا بني هذا الحكم على التخفيف ، فقال :( عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) .

«لن تحصوه» : من (الإحصاء) وهو عد الشيء ، أي علم أنّكم لا تستطيعون إحصاء مقدار الليل الذي أمرتم بقيامه والإحاطة بالمقادير الثلاثة.

وقال البعض : إنّ معنى الآية أنّكم لا تتمكنون من المداومة على هذا العمل طيلة أيّام السنة ، ولا يتيسر لعامّة المكلّفين إحصاء ذلك لاختلاف الليالي طولا وقصرا ، مع وجود الوسائل التي توقظ الإنسان.

والمراد بـ( فَتابَ عَلَيْكُمْ ) خفف عليكم التكاليف ، وليس التوبة من الذنب ، ويحتمل أنّه في حال رفع الحكم الوجوبي لا يوجد ذنب من الأساس ، والنتيجة

__________________

(١) يجب الالتفات إلى أنّ (نصفه) و (ثلثه) معطوف على أدنى وليس على (ثلثي الليل) فيكون المعنى أنّه يعلم أنّك تقوم بعض الليالي أدنى من ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه ،. كذا الالتفات إلى أن أدنى تقال لما يقرب من الشيء ، وهنا إشارة إلى الزمن التقريبي.

١٤٥

تكون مثل المغفرة الإلهية.

وأمّا عن معنى الآية :( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) فقد قيل في تفسيرها أقوال ، فقال بعضهم : إنّها تعني صلاة الليل التي تتخللها قراءة الآيات القرآنية ، وقال الآخرون : إنّ المراد منها قراءة القرآن ، وإن لم تكن في أثناء الصلاة ، وفسّرها البعض بخمسين آية ، وقيل مائة آية ، وقيل مائتان ، ولا دليل على ذلك ، بل إنّ مفهوم الآية هو قراءة ما يتمكن عليه الإنسان.

وبديهي أنّ المراد من قراءة القرآن هو تعلم الدروس لبناء الذات وتقوية الإيمان والتقوى.

ثمّ يبيّن دليلا آخرا للتخفيف فيضيف تعالى :( عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) ، وهذا تخفيف آخر كما قلنا في الحكم ، ولذا يكرر قوله «فاقرؤوا ما تيسر منه» ، والواضح أنّ المرض والأسفار والجهاد في سبيل الله ذكرت بعنوان ثلاثة أمثلة للأعذار الموجهة ولا تعني الحصر ، والمعنى هو أنّ الله يعلم أنّكم سوف تلاقون ، كثيرا من المحن والمشاكل الحياتية ، وبالتالي تؤدي إلى قطع المنهج الذي أمرتم به ، فلذا خفف عليكم الحكم.

وهنا يطرح هذا السؤال ، وهو : هل أنّ هذا الحكم ناسخ للحكم الذي ورد في صدر السورة ، أم هو حكم استثنائي؟ طاهر الآيات يدل على النسخ ، وفي الحقيقة أنّ الغرض من الحكم الأوّل في صدر السورة هو إقامة المنهج العبادي ، وهذا ما حصل لمدّة معينة ثمّ نسخ بعد ذلك بهذه الآية ، وأصبح أخف من ذي قبل ، لأنّ ظاهر الآية يدل على وجود معذورين ، فلذا حفف الحكم على الجميع ، وليس للمعذورين فحسب ، ولذا لا يمكن أن يكون حكما استثنائيا بل هو حكم ناسخ.

ويرد سؤال آخر ، هو : هل أنّ الحكم المذكور بقراءة ما تيسّر من القرآن واجب أم مستحب؟ إنّه مستحب ، واحتمل البعض الآخر الوجوب ، لأنّ قراءة القرآن تبعث على معرفة دلائل التوحيد ، وإرسال الرسل ، وواجبات الدين ، وعلى

١٤٦

هذا الأساس تكون القراءة واجبة.

ولكن يجب الالتفات إلى أنّ الإنسان لا يلزم بقراءة القرآن ليلا أثناء صلاة الليل ، بل يجب على المكلّف أن يقرأ بمقدار ما يحتاجه للتعليم والتربية لمعرفة اصول وفروع الإسلام وحفظه وإيصاله إلى الأجيال المقبلة ، ولا يختص ذلك بزمان ومكان معينين ، والحقّ هو وجوب القراءة لما في ظاهر الأمر (فاقرؤا كما هو مبيّن في اصول الفقه) إلّا أن يقال بقيام الإجماع على عدم الوجوب ، فيكون حينها مستحبا ، والنتيجة هي وجوب القراءة في صدر الإسلام لوجود الظروف الخاصّة لذلك ، واعطي التخفيف بالنسبة للمقدار والحكم ، وظهر الاستحباب بالنسبة للمقدار الميسّر ، ولكن صلاة الليل بقيت واجبة على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طيلة حياته (بقرينة سائر الآيات والرّوايات).

ونقرأ في حديث ورد عن الإمام الباقرعليه‌السلام حيث يقول : «... متى يكون النصف والثلث نسخت هذه الآية( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) واعلموا أنّه لم يأت نبيّ قط إلّا خلا بصلاة الليل ، ولا جاء نبي قط صلاة الليل في أوّل الليل»(١) .

والملاحظ في الآية ذكر ثلاثة نماذج من الأعذار ، أحدها يتعلق بالجسم (المرض) ، والآخر بالمال (السفر) ، والثالث بالدين (الجهاد في سبيل الله) ، ولذا قال البعض : إنّ المستفاد من الآية هو السعي للعيش بمثابة الجهاد في سبيل الله! وقالوا : إنّ هذه الآية مدنيّة بدليل سياقها في وجوب الجهاد ، إلّا أنّ الجهاد لم يكن في مكّة ، ولكن بالالتفات إلى قوله :( سَيَكُونُ ) يمكن أن تكون الآية مخبرة على تشريع الجهاد في المستقبل ، أي بسبب ما لديكم من الأعذار وما سيكون من الأعذار ، لم يكن هذا الحكم دائميا ، وبهذا الصورة يمكن أن تكون الآية مكّية ولا منافاة في ذلك.

ثمّ يشير إلى أربعة أحكام اخرى ، وبهذه الطريقة يكمل البناء الروحي للإنسان فيقول:( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ٤٥١.

١٤٧

تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

هذه الأوامر الأربعة (الصلاة ، الزكاة ، القروض المستحبة ، الاستغفار) مع الأمر بالقراءة والتدبر في القران الذي ورد من قبل تشكّل بمجموعها منهجا للبناء الروحي ، وهذا مهم للغاية بالخصوص لمن كان في عصر صدر الإسلام.

والمراد من «الصلاة» هنا الصلوات الخمس المفروضة ، والمراد من «الزكاة» الزكاة المفروضة ومن إقراض الله تعالى هو إقراض الناس ، وهذه من أعظم العبارات المتصورة في هذا الباب ، فإنّ مالك الملك يستقرض بمن لا يملك لنفسه شيئا ، ليرغبهم بهذه الطريقة للإنفاق والإيثار واكتساب الفضائل منها وليتربى ويتكامل بهذه الطريقة.

وذكر «الاستغفار» في آخر هذه الأوامر يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى وإيّاكم والغرور إذا ما أنجزتم هذه الطاعات ، وبأنّ تتصوروا بأنّ لكم حقّا على الله ، بل اعتبروا أنفسكم مقصرين على الدوام واعتذروا لله.

ويرى البعض أنّ التأكيد على هذه الأوامر هو لئلا يتصور المسلّم أنّ التخفيف سار على جميع المناهج والأوامر الدينية كما هو الحال في التخفيف الذي امر به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه في قيام وقراءة القرآن ، بل إنّ المناهج والأوامر الدينية باقية على متانتها وقوّتها(١) .

وقيل إنّ ذكر الزكاة المفروضة في هذه الآية هو دليل آخر على مدنيّة هذه الآية ، لأنّ حكم الزكاة نزل بالمدينة وليس في مكّة ، ولكن البعض قال : إنّ حكم الزكاة نزل في مكّة من غير تعيين نصاب ومقدار لها ، والذي فرض بالمدينة تعيين الأنصاب والمقادير.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ١٥٦.

١٤٨

ملاحظات

١ ـ ضرورة الاستعداد العقائدي والثقافي

لغرض إيجاد ثورة واسعة في جميع الشؤون الحياتية أو إنجاز عمل اجتماعي ذي أهمية لا بدّ من وجود قوّة عزم بشرية قبل كل شيء ، وذلك مع الإعتقاد الراسخ ، والمعرفة الكاملة ، والتوجيه والفكري والثقافي الضروري والتربوي ، والتربية الأخلاقية ، وهذا ما قام به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة في السنوات الاولى للبعثة ، بل في مدّة حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولوجود هذا الأساس المتين للبناء أخذ الإسلام بالنمو السريع والرشد الواسع من جميع الجهات.

وما جاء في هذه السورة هو نموذج حي ومنطقي لهذا المنهج المدروس ، فقد خلّف القيام لثلثي الليل أو ثلثه وقراءة القرآن والتمعن فيه أثرا بالغا في أرواح المؤمنين ، وهيأهم لقبول القول الثقيل والسبح الطويل ، وتطبيق هذه الأوامر التي هي أشدّ وطأ وأقوم قيلا كما يعبّر عنه القرآن ، هي التي أعطتهم هذه الموفقية ، وجهزت هذه المجموعة المؤمنة القليلة ، والمستضعفة والمحرومة بحيث أهلتهم لإدارة مناطق واسعة من العالم ، وإذا ما أردنا نحن المسلمين إعادة هذه العظمة والقدرة القديمة علينا أن نسلك هذا الطريق وهذا المنهج ، ولا يجب علينا إزالة حكومة الصهاينة بالاعتماد على أناس عاجزين وضعفاء لم يحصلوا على ثقافة أخلاقية.

٢ ـ قراءة القرآن والتفكر

يستفاد من الرّوايات الإسلامية أنّ فضائل قراءة القرآن ليس بكثرة القراءة ، بل في حسن القراءة والتدبر والتفكر فيها ، ومن الطريف أنّ هناك رواية

وردت عن الإمام الرضاعليه‌السلام في تفسير ذيل الآية :( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ) رواها عن

١٤٩

جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما تيسّر منه لكم فيه خشوع القلب وصفاء السر»(١) ، لم لا يكون كذلك والهدف الأساس للقراءة هو التعليم والتربية.

والرّوايات في هذا المعنى كثيرة.

٣ ـ السعي للعيش كالجهاد في سبيل الله

كما عرفنا من الآية السابقة فإنّ السعي لطلب الرزق جعل مرادفا للجهاد في سبيل الله ، وهذا يشير إلى أنّ الإسلام يعير أهمية بالغه لهذا الأمر ، ولم لا يكون كذلك فلأمّة الفقيرة والجائعة المحتاجة للأجنبي لا يمكن لها أن تحصل على الاستقلال والرفاه ، والمعروف أنّ الجهاد الاقتصادي هو قسم من الجهاد مع الأعداء ، وقد نقل في هذا الصدد قول عن الصحابي المشهور عبد الله بن مسعود : «أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند الله بمنزلة الشهداء» ثمّ قرأ :( وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ ) (٢) .

اللهم! وفقنا للجهاد بكلّ أبعاده.

ربّنا! وفقنا لقيام الليل وقراءة القرآن الكريم وتهذيب أنفسنا بواسطة هذا النور السماوي.

ربّنا! منّ على مجتمعنا الإسلامي بمقام الرفعة والعظمة بالإلهام من هذه السورة العظيمة.

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة المزّمل

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٢.

(٢) مجمع البيان ، وتفسير أبي الفتوح ، وتفسير القرطبي ، ذيل الآية مورد البحث وقد نقل القرطبي حديثا عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشابه هذه الحديث ، فيستفاد من ذلك أنّ عبد الله بن مسعود قد ذكر الحديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس هو من قوله.

١٥٠
١٥١

سورة

المدّثّر

مكيّة

وعدد آياتها ستّ وخمسون آية

١٥٢

«سورة المدّثّر»

محتوى السورة :

لا شك أنّ هذه السورة هي من السور المكّية ولكن هناك تساؤل عن أنّ هذه السورة هل هي الاولى النازلة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم نزلت بعد سورة العلق؟

يتّضح من التمعن في محتوى سورة العلق والمدثر أنّ سورة العلق نزلت في بدء الدعوة ، وأنّ سورة المدثر نزلت في زمن قد امر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه بالدعوة العلنية ، وانتهاء فترة الدعوة السرّية ، لذا قال البعض أنّ سورة العلق هي أوّل سورة نزلت في صدر البعثة ، والمدثر هي السورة الاولى التي نزلت بعد الدعوة العلنية ، وهذا الجمع هو الصحيح.

ومهما يكن فإنّ سياق السور المكّية التي تشير إلى الدعوة وإلى المبدأ والمعاد ومقارعة الشرك وتهديد المخالفين وإنذارهم بالعذاب الإلهي واضح الوضوح في هذه السورة.

يدور البحث في هذه السورة حول سبعة محاور وهي :

١ ـ يأمر الله تعالى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإعلان الدعوة العلنية ، ويأمر أن ينذر المشركين ، وتمسك بالصبر والاستقامة في هذا الطريق والاستعداد الكامل لخوض هذا الطريق.

٢ ـ تشير إلى المعاد وأوصاف أهل النّار الذين واجهوا القرآن بالتكذيب والإعراض عنه.

١٥٣

٣ ـ الإشارة إلى بعض خصوصيات النّار مع إنذار الكافرين.

٤ ـ التأكيد على المعاد بالأقسام المكررة.

٥ ـ ارتباط عاقبة الإنسان بعمله ، ونفي كل أنواع التفكر غير المنطقي في هذا الإطار.

٦ ـ الإشارة إلى قسم من خصوصيات أهل النّار وأهل الجنّة وعواقبهما.

٧ ـ كيفية فرار الجهلة والمغرورين من الحقّ.

فضيلة السورة :

ورد في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قرأ سورة المدثر اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بمحمّد وكذب به بمكّة»(١) .

وورد في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام قال : «من قرأ في الفريضة سورة المدثر كان حقّا على الله أن يجعله مع مجمّد في درجته ، ولا يدركه في حياة الدنيا شقاء أبدا»(٢)

وبديهي أنّ هذه النتائج العظيمة لا تتحقق بمجرّد قراءة الألفاظ فحسب ، بل لا بدّ من التمعن في معانيها وتطبيقها حرفيا.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٣.

(٢) المصدر السابق.

١٥٤

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) )

التّفسير

قم وانذر النّاس :

لا شك من أنّ المخاطب في هذه الآيات هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن لم يصرح باسمه ، ولكن القرائن تشير إلى ذلك ، فيقول أوّلا :( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ ) فلقد ولى زمن النوم الاستراحة ، وحان زمن النهوض والتبليغ ، وورد التصريح هنا بالإنذار مع أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبشر ونذير ، لأنّ الإنذار له أثره العميق في إيقاظ الأرواح النائمة خصوصا في بداية العمل.

وأورد المفسّرون احتمالات كثيرة عن سبب تدثرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعوته إلى القيام والنهوض.

١ ـ اجتمع المشركون من قريش في موسم الحج وتشاور الرؤساء منهم

١٥٥

كأبي جهل وأبي سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وغيرهم في ما يجيبون به عن أسئلة القادمين من خارج مكّة وهم يناقشون أمر النّبي الذي قد ظهر بمكّة ، وفكروا في وأن يسمّي كلّ واحد منهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باسم ، ليصدوا الناس عنه ، لكنّهم رأوا في ذلك فساد الأمر لتشتت أقوالهم ، فاتفقوا في أن يسمّوه ساحرا ، لأنّ أحد آثار السحرة الظاهرة هي التفريق بين الحبيب وحبيبه ، وكانت دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أثّرت هذا الأثر بين الناس! فبلغ ذلك النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتأثر واغتم لذلك ، فأمر بالدثار وتدثر ، فأتاه جبرئيل بهذه الآيات ودعاه إلى النهوض ومقابلة الأعداء.

٢ ـ إنّ هذه الآيات هي الآيات الأولى التي نزلت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما نقله جابر بن عبد الله قال : جاوزت بحراء فلمّا قضيت جواري نوديت يا محمّد ، أنت رسول الله ، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ، ونظرت خلفي فلم أر شيئا ، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فملئت منه رعبا ، فرجعت إلى خديجة وقلت : «دثروني دثروني ، واسكبوا عليّ الماء البارد» ، فنزل جبرئيل بسورة :( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) .

ولكن بلحاظ أن آيات هذه السورة نظرت للدعوة العلنية ، فمن المؤكّد أنّها نزلت بعد ثلاث سنوات من الدعوة الخفية ، وهذا لا ينسجم والروية المذكورة ، إلّا أن يقال بأنّ بعض الآيات التي في صدر السورة قد نزلت في بدء الدعوة ، والآيات الأخرى مرتبطة بالسنوات التي تلت الدعوة.

٣ ـ إنّ النّبي كان نائما وهو متدثر بثيابه فنزل عليه جبرائيلعليه‌السلام موقظا إيّاه ، ثمّ قرأ عليه الآيات أن قم واترك النوم واستعد لإبلاغ الرسالة.

٤ ـ ليس المراد بالتدثر التدثر بالثياب الظاهرية ، بل تلبسهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنبوّة والرسالة كما قيل في لباس التقوى.

١٥٦

٥ ـ المراد به اعتزالهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانزواؤه واستعد لإنذار الخلق وهداية العباد(١) والمعني الأوّل هو الأنسب ظاهرا.

ومن الملاحظ أنّ جملة (فانذر) لم يتعين فيها الموضوع الذي ينذر فيه ، وهذا يدل على العمومية ، يعني إنذار الناس من الشرك وعبادة الأصنام والكفر والظلم والفساد ، وحول العذاب الإلهي والحساب المحشر إلخ (ويصطلح على ذلك بأن حذف المتعلق يدل على العموم). ويشمل ضمن ذلك العذاب الدنيوي والعذاب الاخروي والنتائج السيئة لأعمال الإنسان التي سيبتلى بها في المستقبل.

ثم يعطي للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمسة أوامر مهمّة بعد الدعوة إلى القيام والإنذار ، تعتبر منهاجا يحتذي به الآخرون ، والأمر الأوّل هو في التوحيد ، فيقول :( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) (٢) .

ذلك الربّ الذي هو مالكك مربيك ، وجميع ما عندك فمنه تعالى ، فعليك أن تضع غيره في زاوية النسيان وتشجب على كلّ الآلهة المصطنعة ، وامح كلّ آثار الشرك وعبادة الأصنام.

ذكر كلمة (ربّ) وتقديمها على (كبّر) الذي هو يدل على الحصر ، فليس المراد من جملة «فكبر» هو (الله أكبر) فقط ، مع أنّ هذا القول هو من مصاديق التكبير كما ورد من الرّوايات ، بل المراد منه أنسب ربّك إلى الكبرياء والعظمة اعتقادا وعملا ، قولا فعلا وهو تنزيهه تعالى من كلّ نقص وعيب ، ووصفه

__________________

(١) أورد الفخر الرازي هذه التفاسير الخمسة بالإضافة إلى احتمالات أخرى في تفسيره الكبير ، واقتبس منه البعض الآخر من المفسّرين (تفسير الفخر الرازي ، ج ٣٠ ، ص ١٨٩ ـ ١٩٠).

(٢) الفاء من (فكبر) زائدة للتأكيد بقول البعض ، وقيل لمعنى الشرط ، والمعنى هو : لا تدع التكبير عند كلّ حادثة تقع ، (يتعلق هذا القول بالآيات الاخرى الآتية أيضا).

١٥٧

بأوصاف الجمال ، بل هو أكبر من أن يوصف ، ولذا ورد في الرّوايات عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام في معنى الله أكبر : «الله أكبر من أن يوصف» ، ولذا فإنّ التكبير له مفهوم أوسع من التسبيح الذي هو تنزيهه من كل عيب ونقص.

ثمّ صدر الأمر الثّاني بعد مسألة التوحيد ، ويدور حول الطهارة من الدنس فيضيف :( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) ، التعبير بالثوب قد يكون كناية عن عمل الإنسان ، لأنّ عمل الإنسان بمنزلة لباسه ، وظاهره مبين لباطنه ، وقيل المراد منه القلب والروح ، أي طهر قلبك وروحك من كلّ الأدران ، فإذا وجب تطهير الثوب فصاحبه اولى بالتطهير.

وقيل هو اللباس الظاهر ، لأنّ نظافة اللباس دليل على حسن التربية والثقافة ، خصوصا في عصر الجاهلية حيث كان الاجتناب من النجاسة قليلا وإن ملابسهم وسخة غالبا ، وكان الشائع عندهم تطويل أطراف الملابس (كما هو شائع في هذا العصر أيضا) بحيث كان يسحل على الأرض ، وما ورد عن الإمام الصّادقعليه‌السلام في معنى أنّه : «ثيابك فقصر»(١) ، ناظر إلى هذا المعنى.

وقيل المراد بها الأزواج لقوله تعالى :( هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ ) (٢) ، والجمع بين هذه المعاني ممكن ، والحقيقة أنّ الآية تشير إلى أنّ القادة الإلهيين يمكنهم إبلاغ الرسالة عند طهارة جوانبهم من الأدران وسلامة تقواهم ، ولذا يستتبع أمر إبلاغ الرسالة ولقيام بها أمر آخر ، هو النقاء والطهارة.

ويبيّن تعالى الأمر الثّالث بقوله :( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) المفهوم الواسع للرجز كان سببا لأن تذكر في تفسيره أقوال مختلفة ، فقيل : هو الأصنام ، وقيل : المعاصي ، وقيل : الأخلاق الرّذيلة الذميمة ، وقيل : حبّ الدنيا الذي هو رأس كلّ خطيئة ، وقيل هو العذاب الإلهي النازل بسبب الترك والمعصية ، وقيل : كل ما يلهي

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٥.

(٢) البقرة ، ١٨٧.

١٥٨

عن ذكر الله.

والأصل أنّ معنى «الرجز» يطلق على الاضطراب والتزلزل(١) ثمّ اطلق على كل أنواع الشرك ، عبادة الأصنام ، والوساوس الشيطانية والأخلاق الذميمة والعذاب الإلهي التي تسبب اضطراب الإنسان ، فسّره البعض بالعذاب(٢) ، وقد اطلق على الشرك والمعصية والأخلاق السيئة وحبّ الدّنيا تجلبه من العذاب.

وما تجدر الإشارة إليه أنّ القرآن الكريم غالبا ما استعمل لفظ «الرجز» بمعنى العذاب(٣) ، ويعتقد البعض أنّ كلمتي الرجز والرجس مرادفان(٤) .

وهذه المعاني الثلاثة ، وإن كانت متفاوتة ، ولكنّها مرتبطة بعضها بالآخر ، وبالتالي فإنّ للآية مفهوما جامعا ، وهو الانحراف والعمل السيء ، وتشمل الأعمال التي لا ترضي اللهعزوجل ، والباعثة على سخر الله في الدنيا والآخرة ، ومن المؤكّد أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد هجر واتقى ذلك حتى قبل البعثة ، وتاريخه الذي يعترف به العدو والصديق شاهد على ذلك ، وقد جاء هذا الأمر هنا ليكون العنوان الأساس في مسير الدعوة إلى الله ، وليكون للناس أسوة حسنة.

ويقول تعالى في الأمر الرّابع :( وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ) .

هنا التعلق محذوف أيضا ، ويدل على سعة المفهوم كليته ، ويشمل المنّة على الله والخلائق ، أي فلا تمنن على الله بسعيك واجتهادك ، لأنّ الله تعالى هو الذي منّ عليك بهذا المقام المنيع.

ولا تستكثر عبادتك وطاعتك وأعمالك الصالحة ، بل عليك أن تعتبر نفسك مقصرا وقاصرا ، واستعظم ما وفقت إليه من العبادة.

__________________

(١) مفردات الراغب.

(٢) الميزان ، في ظلال القرآن.

(٣) راجع الآيات ، ١٣٤ ـ ١٣٥ من سورة الأعراف ، والآية ٥ من سورة سبأ ، والآية ١١ من سورة الجاثية ، والآية ٥٩ من سورة البقرة ، والآية ١٦٢ من سورة الأعراف ، والآية ٣٤ من سورة العنكبوت.

(٤) وذكر ذلك في تفسير الفخر الرازي بصورة احتمال ، ج ٣٠ ، ص ١٩٣.

١٥٩

وبعبارة أخرى : لا تمنن على الله بقيامك بالإنذار ودعوتك إلى التوحيد وتعظيمك لله وتطهيرك ثيابك وهجرك الرجز ، ولا تستعظم كل ذلك ، بل أعلم أنّه لو قدمت خدمة للناس سواء في الجوانب المعنوية كالإرشاد والهداية ، أم في الجوانب المادية كالإنفاق والعطاء فلا ينبغي أن تقدمها مقابل منّة ، أو توقع عوض أكبر ممّا أعطيت ، لأنّ المنّة تحبط الأعمال الصالحة :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ) (١) .

«لا تمنن» من مادة «المنّة» وتعني في هذه الموارد الحديث عن تبيان أهمية النعم المعطاة للغير ، وهنا يتّضح لنا العلاقة بينه وبين الاستكثار ، لأنّ من يستصغر عمله لا ينتظر المكافأة ، فكيف إذن بالاستكثار ، فإنّ الامتنان يؤدي دائما إلى الاستكثار ، وهذا ممّا يزيل قيمة النعم ، وما جاء من الرّوايات يشير لهذا المعنى : «لا تعط تلتمس أكثر منها»(٢) كما جاء في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير الآية : «لا تستكثر ما عملت من خير لله»(٣) وهذا فرع من ذلك المفهوم.

ويشير في الآية الأخرى إلى الأمر الأخير في هذا المجال فيقول :( وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ) ، ونواجه هنا مفهوما واسعا عن الصبر الذي يشمل كلّ شيء ، أي اصبر في طريق أداء الرسالة ، واصبر على أذى المشركين الجهلاء ، واستقم في طريق عبودية الله وطاعته ، واصبر في جهاد النفس وميدان الحرب مع الأعداء.

ومن المؤكّد أنّ الصبر هو ضمان لإجراء المناهج السابقة ، والمعروف أنّ الصبر هو الثروة الحقيقية لطريق الإبلاغ والهداية ، وهذا ما اعتمده القرآن الكريم

__________________

(١) البقرة ، ٢٦٤.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٥٤ ، وتفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٤٠٠.

(٣) المصدر السابق.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

و قال الحطيئة « و القول ينفذ ما لا ينفذ الابر »(١) .

و في ( أنساب البلاذري ) : كان خالد بن يزيد يقاتل قرقيسا مع كلب و هم أخواله لأن ام يزيد ميسون بنت بجدل من كلب ، فألخّ عليهم بالقتال و الرمي حتى كاد يظفر ، فقال رجل من بني كلاب : لاسمعنّه قولا لا يعود بعده إلى ما يصنع ، و لأكسرنه به ، فلمّا غدا خالد للمحاربة أشرف الكلابي عليه و هو يقول :

ماذا ابتغاء خالد و همّه

إذ سلب الملك و نيكت امّه

فأنكر و استحى و لم يعد إلى الحرب حتى انقضى .

و تقاذف عبد الرحمن بن حسّان و يحيى بن الحكم في امارة أخيه مروان ، فضرب مروان أخاه عشرين و عبد الرحمن ثمانين ، فقال عبد الرحمن :

ضربني مروان ضرب حر و ضرب أخاه حد نصف عبد ، فكان هذا القول أشد على يحيى من سبّه و أنفذ من صوله(٢) .

و في ( صفّين نصر ) : ذكروا أنّ عليّاعليه‌السلام أظهر أنه مصبح غدا معاوية و مناجزه ، ففزع أهل الشام لذلك و انكسروا و كان معاوية بن الضحّاك صاحب راية بني سليم مع معاوية و كان مبغضا له ، و كان يكتب بالأخبار إلى عبد اللَّه بن الطفيل العامري و يبعث بها إلى عليعليه‌السلام ، فبعث إلى عبد اللَّه إنّي قائل شعرا إذ عرّبه أهل الشام ، و كان معاوية لا يتهمه ، فقال ليلا ليسمع أصحابه :

ألا ليت هذا الليل أطبق سرمدا

علينا و انا لا نرى بعده غدا

و يا ليتنا ان جاءنا بصباحه

وجدنا إلى مجرى الكواكب مصعدا

حذار عليّ إنّه غير مخلف

مدى الدهر ما لبّى الملبّون موعدا

____________________

( ١ )

( ٢ ) لا وجود له في أنساب البلاذري ، ذكره ابن الأثير في الكامل ٤ : ٣٣٧ ٣٣٨ .

٦٠١

فاما فراري في البلاد فليس لي

مقام و لو جاوزت جابلق مصعدا

كأني به في الناس كاشف رأسه

على ظهر خوّار الرحالة أجردا

يخوض غمار الموت في مرجحنة

ينادون في نقع العجاج محمدا

فوارس بدر و النضير و خيبر

و احد يروّون الفصيح المهندا

و يوم حنين جالدوا عن نبيّهم

فريقا من الأحزاب حتى تبدّدا

هنالك لا تلوي عجوز على ابنها

و إن أكثرت في القول نفسي لك الفدا

فقل لابن حرب ما الّذي أنت صانع

أتثبت أم ندعوك في الحرب قعددا

و ظنّي بألاّ يصبر القوم موقفا

يقفه و ان لم نجر في الدهر للمدا

فلا رأي إلاّ تركنا الشام جهرة

و ان أبرق الفجفاح فيها و أرعدا

فلمّا سمع أهل الشام شعره أتوا به معاوية ، فهم بقتله ثم راقب فيه قومه و طرده عن الشام فلحق بمصر ، و قال معاوية : لقول السلمي أشدّ على أهل الشام من لقاء علي ، ما له قاتله اللَّه لو أصاب خلف جابلق مصعدا نفذه و جابلق مدينة بالمشرق و جابلص بالمغرب ليس بعدهما شي‏ء .

و قال هارون : لمّا سمع من وراء الستر محاجّة هشام بن الحكم مع المذاهب في اثبات أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى موسى بن جعفرعليه‌السلام ببراهين بيّنة :

لكلام هذا أشدّ عليّ من مائة ألف سيف ، و العجب كيف بقيت خلافتي مع وجود مثل هذا الرجل في الناس ، و همّ بقتله لكن توارى هشام و انصدع قلبه من الخوف فمات(١) .

و قد نقل شرحه ( الإكمال ) في آخر بابه الرابع و الثلاثين .

____________________

( ١ )

٦٠٢

٩٠ الحكمة ( ٣٩٥ ) و قالعليه‌السلام :

كُلُّ مُقْتَصَرٍ عَلَيْهِ كَافٍ و قالعليه‌السلام كما روى ( الكافي ) : من رضي من الدنيا بما يجزيه كان أيسر ما فيها يكفيه ، و من لم يرض من الدنيا بما يجزيه لم يكن فيها شي‏ء يكفيه(١) .

و قال الباقر أو الصادقعليهما‌السلام : من قنع بما رزقه اللَّه فهو أغنى الناس .

و نزل هارون في سفر في ظل ميل و كان معه أبو العتاهية فقال أبياتا و منها :

و ما تصنع بالدّنيا

و ظلّ الميل يكفيكا(٢)

٩١ الحكمة ( ٤٠٢ ) و قالعليه‌السلام :

لبعض مخاطبيه و قد تكلم بكلمة يستصغر عن قول مثلها : لَقَدْ طِرْتَ شَكِيراً وَ هَدَرْتَ سَقْباً أقول : في ( المعجم ) صاحب ابن جنّي الفارسي أربعين سنة ، و كان السبب في صحبته أن الفارسي اجتاز بالموصل فمرّ بالجامع و ابن جني في حلقة يقرى‏ء النحو و هو شاب ، فسأله الفارسي عن مسألة في التصريف فقصّر فيها ، فقال له الفارسي « زبّبت(٣) و أنت حصرم » فسأل عنه فقيل له هذا الفارسي ، فلزمه فلمّا مات الفارسي تصدّر ابن جني في مجلسه ببغداد(٤) .

قول المصنف ( و الشكير هاهنا أوّل ما ينبت من ريش الطائر قبل أن

____________________

( ١ ) الكافي للكليني ٢ : ١٤٠ ح ١١ رواه عن خان بن سدير رفعه .

( ٢ ) ديوان أبي العتاهية : ١٩١ ، و في الهامش نسبه المسعودي لهارون الرشيد .

( ٣ ) أي صرت زبيبا .

( ٤ ) الحموي ، معجم الأدباء ٦ : ٩١ في ترجمة عثمان بن جنّي .

٦٠٣

يقوى و يستحصف ) أي : يستحكم ، إنّما قال المصنف « و الشكير هاهنا » أي : في كلامهعليه‌السلام لأنّه يأتي الشكير بمعنى آخر كما في قول الشاعر :

و من عضة ما ينبتن شكيرها

بمعنى ما ينبت حول الشجرة من أصلها ، يقال شكرت الشجرة بالكسر كثر شكيرها ، إلاّ أنّ الظاهر أنّ الأصل واحد ، و هو أوّل ما نبت ريش الطائر و قولهم « شكرت الشجرة » استعارة و تشبيه بالطائر كقولهم « اشتكر الجنين » نبت عليه الزغب و كقول هلال بن مجاعة لمّا قال له عمر بن عبد العزيز : هل بقي من شيوخ مجاعة أحد « نعم و شكير كثير » أي :

و احداث كثير .

« و السقب الصغير من الإبل و لا يهدر » بالتخفيف و التشديد ، أي : لا يردّد صوته في حنجرته قال الوليد بن عقبة لمعاوية « تهدّر في دمشق فما تريم »(١) .

و في ( المثل ) « كالمهدّر في العنّة » يضرب للرجل يصيح و يجلب و ليس وراء ذلك شي‏ء كالبعير الذي يحبس في الحظيرة و يمنع من الضراب و هو يهدر « إلاّ بعد أن يستفحل » أي : يصير فحلا(٢) .

هذا و ليس في نسخة ( ابن ميثم ) بيان المصنف(٣) .

و من أمثالهم « قد استنوق الجمل » أي : صار الجمل ناقة قيل الأصل فيه ان شاعرا أنشد ملكا في وصف جمل ثم حوّله إلى ناقة ، فقال طرفة و كان حاضرا قد استنوق الجمل(٤) .

____________________

( ١ ) ابن الأثير ٣ : ٢٨٠ .

( ٢ ) الميداني ، معجم الأمثال ٢ : ١١٦ .

( ٣ ) راجع شرح ابن ميثم ٥ : ٤٣٩ رقم ٣٧٨ .

( ٤ ) الميداني ، مجمع الأمثال ٢ : ٥٦ .

٦٠٤

٩٢ الحكمة ( ٤٠٣ ) و قالعليه‌السلام :

مَنْ أَوْمَأَ إِلَى مُتَفَاوِتٍ خَذَلَتْهُ اَلْحِيَلُ أقول : قال ( ابن أبي الحديد ) : قيل في تفسير الكلام : من استدلّ بالمتشابه من القرآن في التوحيد و العدل انكشفت حيلته ، فإنّ علماء التوحيد قد أوضحوا تأويل ذلك(١) و قيل : من بنى عقيدته على أمرين مختلفين حقّ و باطل كان مبطلا و قيل : من أومى بطمعه إلى فائت قد مضى لن تنفعه حيلته ، أي لا يتبعن أحدكم امله ما قد فاته و هذا ضعيف لأن المتفاوت في اللغة غير الفائت .

و قال ابن ميثم : المتفاوت كالامور المتضادّة ، أو التي يتعذّر الجمع بينها في العرف و العادة ، فلا يمكنه الجمع بين ما يرومه من تلك الامور(٢) .

قلت : و الظاهر أنّ المراد عدم إمكان الجمع بين الحق و الباطل قال عامر بن الضرب العدواني لقومه : من جمع بين الحق و الباطل لم يجتمعا له ، و كان الباطل أولى به ، و إن الحق لم يزل ينفر من الباطل و لم يزل الباطل ينفر من الحق .

٩٣ الحكمة ( ٤٠٨ ) و قالعليه‌السلام :

مَنْ صَارَعَ اَلْحَقَّ صَرَعَهُ أقول : هو نظير قولعليه‌السلام في ١٥ ١ و في ١٨٨ ٣ « من ابدى صفحته

____________________

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٢٠ : ٥ .

( ٢ ) شرح ابن ميثم : ترجم نهج البلاغة ٥ : ٤٤ .

٦٠٥

للحق هلك »(١) .

قال الاسكافي في ( نقض عثمانيته ) : علم الناس كافة ان الدولة و السلطان لأرباب مقالة العثمانية و عرف كلّ أحد علو أقدار شيوخهم و علمائهم و امرائهم و ظهور كلمتهم و قهر سلطانهم و ارتفاع التقية عنهم ، و إعطاء الجائزة لمن روى في فضل أبي بكر و ما كان من تأكيد بني امية في ذلك و ما ولّده المحدّثون طلبا لمّا في أيديهم ، فكانوا لا يألون جهدا في طول ما ملكوا ان يخملوا ذكر عليعليه‌السلام و ولده و يطفئوا انوارهم و يكتموا فضائلهم و مناقبهم و سوابقهم و يحملوا الناس على سبّهم و لعنهم على المنابر ، و لم يزل السيف يقطر من دمائهم مع قلّة عددهم و كثرة عدوّهم ، فكانوا بين قتيل و أسير و شريد ، و هارب و مستخف ذليل و خائف مترقب و يتقدّم إليهم ألاّ يذكروا شيئا من فضائلهم ، و حتى بلغ من تقية المحدّث منهم إذا ذكر حديثا عن عليعليه‌السلام كنّى عن ذكره برجل من قريش ، و رأينا جميع المخالفين قد حاولوا نقض فضائله و وجهوا الحيل و التأويلات نحوها ، من خارجي مارق و ناصبي حنق و نابت مستبهم و ناشي معاند و منافق مكذب و عثماني حسود يطعن فيها ، و معتزلي قد نظر في الكلام و أبصر علم الاختلاف و عرف الشبهة و مواضع الطعن و ضرب التأويل ، قد التمس الحيل في إبطال مناقبه و تأوّل مشهور فضائله ، فمرّة يتأولها بما لا يحتملها و مرّة يقصد أن يضع من قدرها بقياس منتقض ، و لا يزداد مع ذلك إلاّ قوّة و رفعة .

و قد علمت أنّ معاوية و يزيد و بني مروان أيام ملكهم نحو ثمانين سنة لم يدعوا جهدا في حمل الناس على شتمه و اخفاء فضائله ، فقال ابن لعامر بن عبد اللَّه بن الزبير لولده : يا بنيّ لا تذكر عليّا إلاّ بخير ، فإنّ بني امية لعنوه على

____________________

( ١ ) راجع الكتاب .

٦٠٦

منابرهم ثمانين سنة فلم يزده اللَّه بذلك إلاّ رفعة ، ان الدّنيا لم تبن شيئا قط إلاّ رجعت على ما بنت فهدمته ، و ان الدين لم يبن شيئا قط و هدمه .

إلى أن قال بعد ذكر أخذ الحجّاج الناس بترك قراءة ابن مسعود و ابيّ و لزومهم قراءة عثمان و مهجورية قراءتهما و شيوع قراءته لذلك : و لقد كان الحجّاج و من ولاّه كعبد الملك و الوليد و من قبلهما و بعدهما من فراعنة بني امية على إخفاء محاسن عليعليه‌السلام و فضائل ولده و شيعته أحرص منهم على إسقاط قراءة الرجلين ، لأن قراءتهما لم تكن سببا لزوال ملكهم و في اشتهار فضل عليعليه‌السلام و ولده بوارهم ، فحرصوا في اخفاء فضائله و أبي اللَّه أن يزيد أمره و أمر ولده إلاّ استنارة و إشراقا و حبّهم إلاّ شغفا ، فلو لا أنّ فضائله كانت كالقبلة المنصوبة في الشهرة و كالسنن المحفوظة في الكثرة لم يصل إلينا منها في دهرنا حرف واحد مع ما قلنا(١) .

٩٤ الحكمة ( ١١٨ ) و قالعليه‌السلام :

إِضَاعَةُ اَلْفُرْصَةِ غُصَّةٌ أقول : و قالعليه‌السلام في قريب من هذا المعنى « التدبير قبل العمل يؤمنك من الندم بعده » و « الفرصة تمرّ مرّ السحاب »(٢) .

قال تعالى :( و أَنفقوا من مّا رزقناكم من قَبل أن يأتي أَحَدكُم المَوت فيقول ربِّ لو لا أَخّرتني إِلى أجلٍ قَريب فأصَّدَّقَ و أَكُن من الصالحين و لَن

___________________

( ١ ) نقل المؤلف هذا النص من شرح نهج البلاغة ١٣ : ٢١٨ ٢٢٣ بتصرف ، إذ ليس للأسكافي كتاب متداول بهذا الأسم ، فكل ما هو موجود هو ما جمعه محمد هارون المصري من هذا الكتاب ممّا رواه شرح ابن أبي الحديد في شرحه ثم طبعه في آخر كتاب العثمانية للجاحظ .

( ٢ ) من الكلمات القصار رقم ( ٢١ ) .

٦٠٧

يُؤخّر اللَّه نفساً إذا جاء أَجلُها و اللَّه خبير بما تعمَلُون ) (١) ( و اتَّبعوا أحسن ما أنزل إليكم من رَبكُم من قَبل أن يأتيَكُم العَذاب بغتَةً و أنتم لا تَشعرون أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرّطتُ في جنب اللَّه ) .(٢) .

و في الخبر : اغتنم خمسا قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، و صحتك قبل سقمك ، و غناك قبل فقرك ، و فراغك قبل شغلك ، و حياتك قبل موتك(٣) .

و في ( أخبار حكماء القفطي ) : كان أحمد بن محمد بن مروان الطبيب السرخسي تلميذ يعقوب بن إسحاق الكندي أحد المتفنّنين في علوم الفلسفة ، و كان الغالب عليه علمه لا عقله ، و كان أولا معلما للمعتضد ثم نادمه و كان يفضي إليه بأسراره ، فأفضى إليه بسر يتعلّق بالقاسم بن عبيد اللَّه و بدر غلام المعتضد ، فأذاعه بحيلة من القاسم عليه مشهورة ، فسلّمه المعتضد إليهما فاستصفيا ماله ثم أودعاه المطامير ، فلمّا خرج المعتضد لفتح آمد أفلت من المطامير جماعة و أقام أحمد في موضعه و كان قعوده سببا لمنيّته ، فأمر المعتضد القاسم بإثبات جماعة ممّا ينبغي أن يقتلوا ليستريح من تعلق القلب بهم ، فأثبتهم و أدخل أحمد في جملتهم فقتل و مضى بعد أن بلغ السماء رفعة(٤) .

٩٥ الحكمة ( ٤١١ ) و قالعليه‌السلام :

لاَ تَجْعَلَنَّ ذَرَبَ لِسَانِكَ أي حدته عَلَى مَنْ أَنْطَقَكَ وَ بَلاَغَةَ قَوْلِكَ

____________________

( ١ ) المنافقون : ١٠ ١١ .

( ٢ ) الزمر : ٥٥ ٥٦ .

( ٣ ) رواه الحاكم في المستدرك ٤ : ٣٠٦ و ذكره الفيض في المحجة مسندا عن ابن عباس ٨ : ٢٥ .

( ٤ ) أخبار القفطي : ٥٥ .

٦٠٨

عَلَى مَنْ سَدَّدَكَ أي اصلحك قال الشاعر :

فيا عجبا لمن ربيت طفلا

ألقمه بأطراف البنان

اعلمه الرماية كلّ يوم

فلمّا اشتد ساعده رماني

اعلمه الفتوة فلمّا

طر شاربه جفاني

و كم قد علمته نظم القوافي

فلمّا قال شعرا قد هجاني(١)

٩٦ الحكمة ( ٤١٦ ) و قالعليه‌السلام لابنه الحسن :

يَا بُنَيَّ لاَ تُخَلِّفَنَّ وَرَاءَكَ شَيْئاً فَإِنَّكَ تَخَلِّفُهُ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ إِمَّا رَجُلٌ عَمِلَ فِيهِ بِطَاعَةِ اَللَّهِ فَسَعِدَ بِمَا شَقِيتَ بِهِ وَ إِمَّا رَجُلٌ عَمِلَ فِيهِ بِمَعْصِيَةِ اَللَّهِ فَشَقِيَ بِمَا جَمَعْتَ لَهُ فَكُنْتَ عَوْناً لَهُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَ لَيْسَ أَحَدُ هَذَيْنِ حَقِيقاً عَلَى أَنْ تُؤْثِرَهُ عَلَى نَفْسِكَ في ( المروج ) كان المهدي محبّبا الى الخاص و العام ، لأنّه افتتح أمره بالنظر في المظالم(٢) ، و الكفّ عن القتل ، و أمن الخائف ، و إنصاف المظلوم ، و بسط يده في الاعطاء ، فأذهب جميع ما خلّفه المنصور و هو ستمائة ألف ألف درهم و أربعة عشر ألف ألف دينار سوى ما جباه في أيامه(٣) .

و في ( الطبري ) : قال محمد بن سليمان الهاشمي : كان المنصور لا يعزل أحدا من عمّاله إلاّ ألقاه في دار خالد البطين على شاطى‏ء دجلة ملاصقا لدار

____________________

( ١ )

( ٢ ) في نسخة أخرى في رد المظالم .

( ٣ ) المسعودي ، مروج الذهب ٣ : ٣٢٢ .

٦٠٩

صالح المسكين ، فيستخرج منه مالا ، فما أخذ من شي‏ء ، أمر به فعزل و كتب عليه اسم من أخذ منه و عزل في بيت المال و سمّاه بيت مال المظالم ، فكثر في ذلك البيت من المال و المتاع ، ثم قال للمهدي : إنّي قد هيّأت لك شيئا ترضي به الخلق و لا تغرم من مالك شيئا ، فإذا أنامت فادع هؤلاء الذين أخذت منهم هذه الأموال التي سميتها المظالم فاردد عليهم كلّ ما أخذ منهم فانّك تستحمد إليهم و إلى العامة ، ففعل ذلك المهدي لمّا ولي(١) .

قال المصنف ( و يروى هذا الكلام على وجه آخر ، و هو « أمّا بعد ، فإنّ الذي في يدك من الدنيا قد كان له أهل قبلك و هو صائر إلى أهل بعدك ) .

في ( الأنوار النعمانية ) : مرّ عيسىعليه‌السلام ذات يوم مع جماعة من أصحابه بزرع قد أمكن من الفرك ، فقالوا : يا نبي اللَّه إنّا جياع فاوحي إليه أن ائذن لهم في قوتهم ، فأذن لهم فتفرقوا في الزرع يفركون و يأكلون ، فبيناهم كذلك إذ جاء صاحب الزرع و هو يقول : زرعي و أرضي ورثتها من آبائي فبإذن من تأكلون ؟ فدعا عيسىعليه‌السلام ربه فبعث تعالى جميع من ملك تلك الأرض من لدن آدم إلى ساعته كلّ ينادي زرعي و أرضي ورثته من آبائي ففزع الرجل منهم و كان بلغه أمر عيسىعليه‌السلام ، فأتاه و قال : لم أعرفك ، زرعي لك حلال ، فقال :

ويحك هؤلاء كلّهم قد ورثوا هذه الأرض و عمروها و ارتحلوا عنها و أنت مرتحل عنها و لاحق بهم ليس لك أرض و لا مال(٢) .

( و انما أنت جامع لأحد رجلين رجل عمل فيما جمعته بطاعة اللَّه فسعد بما شقيت به ، و رجل عمل فيه بمعصية اللَّه فشقيت بما جمعت له ، و ليس أحد هذين أهلا أن تؤثره على نفسك و لا أن تحمل له على ظهرك ، فارج لمن مضى

____________________

( ١ ) تاريخ الامم و الملوك للطبري ٦ : ٣٢٤ .

( ٢ )

٦١٠

رحمة اللَّه و لمن بقي رزق اللَّه ) .

الأصل في هذه الرواية ( الروضة ) ، روي أن مولى لأمير المؤمنينعليه‌السلام سأله مالا فقال : يخرج عطائي فاقاسمك فقال : لا أكتفي ، و خرج إلى معاوية فوصله ، فكتبعليه‌السلام إليه : أما بعد الخ و زاد بين قوله « بعدك » و قوله « و انما » و انما لك ما مهدت لنفسك فآثر نفسك على اصلاح ولدك(١) .

٩٧ الحكمة ( ٤٢٩ ) و قالعليه‌السلام :

إِنَّ أَعْظَمَ اَلْحَسَرَاتِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ حَسْرَةُ رَجُلٍ كَسَبَ مَالاً فِي غَيْرِ طَاعَةِ اَللَّهِ فَوَرِثَهُ رَجُلٌ فَأَنْفَقَهُ فِي طَاعَةِ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ فَدَخَلَ بِهِ اَلْجَنَّةَ وَ دَخَلَ اَلْأَوَّلُ اَلنَّارَ هكذا في ( الطبعة المصرية )(٢) و الصواب : ( فورّثه رجلا ) كما في ابن أبي الحديد(٣) و ابن ميثم(٤) و الخطية(٥) .

« فأنفقه في طاعة اللَّه سبحانه فدخل به الجنة و دخل الأول به النار » .

قال ابن أبي الحديد : يقال لعمر بن عبد العزيز السعيد ابن الشقي ، و ذلك أنّ عبد العزيز ملك ضياعا كثيرة بمصر و الشام و العراق و المدينة من غير طاعة اللَّه لسلطان أخيه عبد الملك و بولايته مصر و غيرها ، ثم تركها لابنه عمر فكان ينفقها في طاعة اللَّه إلى أن أفضت الخلافة إليه ، فأخرج سجلات عبد الملك

____________________

( ١ ) روضة الكافي للكليني ٧٢ ، أخرجه عن علي بن إبراهيم عن بعض أصحابه مر ذكره ص ٢٨٧ .

( ٢ ) راجع افسيت النسخة المصرية : ٧٥٦ .

( ٣ ) راجع شرح ابن أبي الحديد ٢٠ : ٧١ .

( ٤ )

( ٥ )

٦١١

بها لأبيه فمزّقها و أعادها إلى بيت المال(١) .

قلت : تسميته سعيدا بذلك على أصول العامة ، و أمّا على أصول الخاصة فكان أشقى من أبيه حيث إنّه تصدّى للخلافة بغير حقّ ، و هو فوق أخذ الأملاك بغير حق ، و كان مصداق قوله تعالى( و حَمَلها الإنسانُ إنَّهُ كانَ ظلوماً جَهُولا ) (٢) .

ثم ان كلامهعليه‌السلام في انفاق الوارث المال في الطاعة محمول على جهله بغاصبية مورثه ، و إلاّ فالواجب عليه ردّه إلى صاحبه ، و قد رد عمر بن عبد العزيز فدك التي صارت إلى أبيه على أهلها ، مع ان الأصل في غصبها صدّيقهم و فاروقهم ، و قد قال له أقرباؤه إنّك في عملك هذا تطعن على الشيخين فلم يكترث بهم .

٩٨ الحكمة ( ٤٢٦ ) و قالعليه‌السلام :

لاَ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَثِقَ بِخَصْلَتَيْنِ اَلْعَافِيَةِ وَ اَلْغِنَى بَيْنَا تَرَاهُ مُعَافًى إِذْ سَقِمَ وَ بَيْنَا تَرَاهُ غَنِيّاً إِذِ اِفْتَقَرَ أقول : جزؤه الأول نظير قولهعليه‌السلام « ما المريض المبتلى بأحوج إلى الدعاء من الصحيح المعافى » .

و في ( دلالات الرضاعليه‌السلام : عاد بعض أعمامه و عمّه الآخر يبكي عليه ، فتبسّمعليه‌السلام و قال يبرأ المريض المحتضر المأيوس منه و يموت السالم الباكي

____________________

( ١ ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢٠ : ٧٤ .

( ٢ ) الأحزاب : ٧٢ .

٦١٢

على أخيه ، فصار كما قالعليه‌السلام (١) و من شعر الخليل :

و قبلك داوى الطبيب المريض

فعاش المريض و مات الطبيب

فكن مستعدّا لدار البقاء

فإنّ الذي هو آت قريب(٢)

و قال ابن أبي الحديد قال شاعر :

و ربّ غنيّ عظيم الثراء

أمسى مقلاّ عديما فقيرا

و كم بات من مترف في القصور

فعوّض في الصبح عنها القبورا(٣)

٩٩ الحكمة ( ٤٣٠ ) و قالعليه‌السلام :

إِنَّ أَخْسَرَ اَلنَّاسِ صَفْقَةً وَ أَخْيَبَهُمْ سَعْياً رَجُلٌ أَخْلَقَ بَدَنَهُ فِي طَلَبِ مَالِهِ وَ لَمْ تُسَاعِدْهُ اَلْمَقَادِيرُ عَلَى إِرَادَتِهِ فَخَرَجَ مِنَ اَلدُّنْيَا بِحَسْرَتِهِ وَ قَدِمَ عَلَى اَلْآخِرَةِ بِتَبِعَتِهِ قال الجوهري : يقال صفقة رابحة و صفقة خاسرة ، و الصفق الضرب الذي يسمع له صوت ، و صفقت له بالبيع و البيعة أي : ضربت يدي على يده(٤) .

« و أخيبهم سعيا » أي : أيأسهم من سعيه و جده .

« رجل أخلق بدنه » أي : جعله باليا .

« في طلب آماله و لم تساعده المقادير على إرادته ، فخرج من الدّنيا بحسرته و قدم على الآخرة بتبعته » .

في ( كامل الجزري ) : مات بركيارق بن ملكشاه السلجوقي في سنة

____________________

( ١ ) ذكره المجلسي بالمعنى في ٤٩ : ٣٢ رواية ٧ .

( ٢ ) الحموي ، معجم الأدباء ١١ : ٧٦ .

( ٣ ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢٠ : ٧١ .

( ٤ ) الجوهري ، الصحاح ٤ : ١٥٠٧ مادة (( صفق )) .

٦١٣

 ٤٩٨ ) عن خمس و عشرين سنة و مدّة وقوع اسم السلطنة عليه ( ١٢ ) سنة ، قاسى من الحروب و اختلاف الأمور عليه ما لم يقاسه أحد ، و أشرف في عدّة نوب بعد إسلام النعمة على ذهاب المهجة ، و لمّا أطاعه المخالفون أدركته المنية(١) .

و في ( معجم بلدان الحموي ) : قادس جزيرة غربي الأندلس ، و كان صاحبها من ملوك الروم قبل الإسلام ، و كانت له بنت ذات جمال خطبها ملوك النواحي إلى أبيها فقال : لا ازوجها إلاّ بمن يصنع في جزيرتي طلسما يمنع البربر من الدخول إليها بغضا منها لهم أو يسوق الماء إليها من البر بحيث يدور فيها الرحى ، فخطبها ملكان فاختار أحدهما سوق الماء و الآخر عمل الطلسم على أن من سبق منهما يكون هو صاحب البنت ، فسبق صاحب الماء فلم يظهر الملك أبو البنت ذلك خوفا من أن يبطل الآخر ، فلمّا فرغ صاحب الطلسم و لم يبق إلاّ صقله أجرى صاحب الرحاء الماء و دارت رحاه ، فقيل لصاحب الطلسم انّك قد سبقت ، فألقى نفسه من أعلى الموضع الذي عليه الطلسم فمات و صارت الجارية لصاحب الماء .

قالوا : و الطلسم من حديد مخلوط بصفر على صورة بربري له لحية و في رأسه ذؤابة من شعر جعد قائمة في رأسه لجعودتها متأبط صورة كساء قد جمع فضلتيه على يده اليسرى قائم على رأس بناء عال مشرف طوله نيّف و ستون ذراعا و طول الصورة قدر ستة أذرع قد مدّ يده اليمنى بمفتاح قفل في يده قابضا عليه مشيرا إلى البحر كأنّه يقول : لا عبور .(٢) .

و في ( جمل المفيد ) : قال الحسن البصري : خرج طلحة من رساتيق

____________________

( ١ ) ابن الأثير ، الكامل في التاريخ ١١ : ٣٨٥ بتصرف في النقل .

( ٢ ) الحموي ، معجم البلدان ٤ : ٢٩١ .

٦١٤

أقطعه إيّاها عثمان إذ كان يقبضها ينخ به ألف راكب ثم يروحون فلم يعرف له ذلك حتى سعى في دمه ، فلمّا كان يوم البصرة خرج للقتال و قد لبس درعا استجن به من السهام إذ أتاه سهم فأصابه و كان أمر اللَّه قدراً مقدوراً(١) و رأيته يقول حين أصابه السهم : ما رأيت كاليوم مصرع شيخ أضيع من مصرعي و قد كان قبل ذلك جاهد مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله و وقاه بيده فضيع أمر نفسه و لقد رأيت قبره مأوى الشقاء يضع عنده الغريب ثم يقضي عنده حاجته .

و أتى الزبير حيّا من أحياء العرب فقال أجيروني قال الحسن : و كنت يا زبير قبل ذلك تجير و لا يجار عليك و ما الذي أخافك و و اللَّه ما أخافك إلاّ ابنك فاتبعه ابن جرموز فقتله و و اللَّه ما رأيت مثله أحدا قط قد ضاع ، و هذا قبره بوادي السباع مخراة الثعالب ، فخرجا من الدّنيا لم يدركا ما طلبا و لم يرجعا إلى ما تركا قال الحسن : فعز عليّ هذه الشقوة التي كتبت عليهما(٢) .

( و فيه أيضا ) : لمّا انجلت الحرب بالبصرة و قتل طلحة و الزبير و حملت عائشة إلى قصر بني خلف ركب أمير المؤمنينعليه‌السلام و عمّار يمشي مع ركابه حتى خرج إلى القتلى يطوف عليهم ، فمرّ بعبد اللَّه بن خلف الخزاعي و عليه ثياب حسان مشهرة ، فقال الناس : هذا و اللَّه رأس الناس فقالعليه‌السلام : ليس برأس الناس و لكنه شريف منيع النفس ثم مرّ بعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد فقالعليه‌السلام : هذا يعسوب القوم و رأسهم ، ثم جعل يستعرض القتلى رجلا رجلا ، فلمّا رأى أشراف قريش صرعى في جملة القتلى قال : جدعت أنفي ، أما و اللَّه إن كان مصرعكم بغيضا إليّ و لقد تقدمت إليكم و حذرتكم عض السيوف و كنتم احداثا لا علم لكم بما ترون و لكن الحين و مصارع سوء

____________________

( ١ )

( ٢ ) جمل المفيد : ٢٠٥ ٢٠٦ .

٦١٥

نعوذ باللَّه من سوء المصرع .

ثم سار حتى وقف على كعب بن سوار القاضي و هو مجدّل بين القتلى و في عنقه المصحف ، فقال : نحّوا المصحف وضعوه في مواضع الطهارة ثم قال : أجلسوا لي كعبا ، فاجلس فقالعليه‌السلام : يا كعب قد وجدت ما وعدني ربي حقّا فهل وجدت ما وعد ربك حقّا ؟ ثم قال : أضجعوا كعبا ، فتجاوزه فرأى طلحة صريعا فقال : أجلسوه ، فاجلس ، فقال : يا طلحة قد وجدت ما وعدني ربي حقّا فهل وجدت ما وعد ربك حقّا ؟ ثم قال أضجعوه ، فوقف رجل من القرّاء أمامه و قال لهعليه‌السلام : ما كلامك ؟ هذه الهام قد صديت لا تسمع لك و لا ترد جوابا فقالعليه‌السلام : إنّهما ليسمعان كلامي كما سمع أصحاب القليب كلام الرسول ، و لو أذن لهما في الجواب لرأيت عجبا .

و مرّ بمعبد بن المقداد و هو في الصرعى ، فقالعليه‌السلام : رحم اللَّه أبا هذا ، إنّما كان رأيه فينا أحسن من رأي هذا فقال عمّار : الحمد للَّه الذي أوقعه و جعل خدّه الأسفل ، و اللَّه لا نبالي بمن عند عن الحق من والد و ولد فقالعليه‌السلام : رحمك اللَّه يا عمّار و جزاك عن الحق خيرا .

و مرّ بعبد اللَّه بن ربيعة و هو في القتلى ، فقالعليه‌السلام : هذا البائس ما كان أخرجه نصر عثمان ، و اللَّه ما كان رأي عثمان فيه و لا في أبيه بحسن .

و مرّ بمعبد بن زهير بن امية فقالعليه‌السلام : لو كانت الفتنة برأس الثريا لتناولها هذا الغلام ، و اللَّه ما كان فيها بذي مخبرة ، و لقد أخبرني من أدركه انّه يلوذ خوفا من السيف حتى قتل البائس ضياعا .

و مرّ بمسلم بن قرضة فقال : البر أخرج هذا و لقد سألني أن أكلم عثمان في شي‏ء يدّعيه عليه بمكّة فلم أزل به حتى أعطاه و قال لي : لو لا أنت ما أعطيته ان هذا ما علمت بئس العشيرة ، ثم جاء لحينه ينصر عثمان .

٦١٦

ثمّ مرّ بعبد اللَّه بن عمير بن زهير قال : هذا أيضا ممّن أوضع في قتالنا يطلب بزعمه دم عثمان و مرّ بعبد اللَّه بن حكيم بن حزام فقال : هذا خالف أباه في الخروج عليّ ، و إن أباه حيث لم ينصرنا بايع و جلس في بيته ، ما ألوم أحدا إذا كفّ عنا و عن غيرنا و لكن الملوم الذي يقاتلنا .

و مرّ بعبد اللَّه بن الأخنس فقال : أما هذا فقتل أبوه يوم قتل عثمان في الدار فخرج غضبا لمقتل أبيه و هو غلام لا علم له بعواقب الأمور و مرّ بعبد اللَّه بن الأخنس بن شريق فقال : أما هذا فاني أنظر إليه و قد أخذ القوم السيوف و انّه لهارب يعدو من السيف ، فنهيت عنه فلم يسمع حتى قتل(١) .

و أيضا مصداق ما ذكرهعليه‌السلام خلافة ابن المعتز ، فإنّه ولي الأمر ليلة ثم قتل(٢) .

١٠٠ الحكمة ( ٤٣٥ ) و قالعليه‌السلام :

مَا كَانَ اَللَّهُ لِيَفْتَحَ عَلَى عَبْدٍ بَابَ اَلشُّكْرِ وَ يُغْلِقَ عَنْهُ بَابَ اَلزِّيَادَةِ قال تعالى( لئن شَكرتُم لأَزيدَنّكُم ) .(٣) .

و قال الصادقعليه‌السلام : ما أنعم تعالى على عبد من نعمة فعرفها بقلبه و حمده تعالى بلسانه فتم كلامه حتى يؤمر له بالمزيد(٤) .

« و لا ليفتح على عبد باب الدعاء و يغلق عنه باب الإجابة » قال تعالى

____________________

( ١ )

( ٢ )

( ٣ ) إبراهيم : ٧ .

( ٤ ) أورده الحراني بهذا اللفظ : من أنعم اللَّه عليه نعمة فعرفها بقلبه و علم ان المنعم عليه اللَّه فقد أدّى شكرها و ان لم يحرّك لسانه ( تحف العقول ٢٧٥ ) .

٦١٧

( ادعُوني أَسَجِب لَكُم ) (١) ( و إذا سأَلك عبادي عَني فإنّي قَريب اُجيبُ دعوةَ الداعِ إذا دَعان فَليستَجيبوا لي و ليُؤمِنوا بي لعلَّهم يَرشُدون ) (٢) .

و في ( الكافي ) عن الصادقعليه‌السلام : انّ العبد ليدعو فيقول تعالى للملكين قد استجبت له و لكن احبسوه بحاجته فإنّي احبّ أن أسمع صوته ، و إنّ العبد ليدعو فيقول تعالى : عجّلوا له حاجته فإني أبغض صوته(٣) .

و عنهعليه‌السلام : خمس دعوات لا تحجبن عن الرّبّ تعالى : دعوة الإمام المقسط ، و المظلوم ، يقول تعالى : لأنتقمن لك و لو بعد حين ، و الولد الصالح لوالديه ، و الوالد الصالح لولده ، و المؤمن لأخيه بظهر الغيب و يقول : و لك مثله(٤) .

و عنهعليه‌السلام : أربعة لا يستجاب لهم دعوة : الرجل الجالس في بيته يقول :

اللّهم ارزقني فيقال له : ألم آمرك بالطلب ، و من كانت له امرأة سوء فدعا عليها فيقال له : ألم أجعل أمرها إليك ، و رجل كان له مال فأفسده فيقول : اللّهم ارزقني فيقال له ألم آمرك بالاقتصاد :( و الّذين إِذا أَنفَقُوا لم يُسرِفوا وَ لَم يقتُرُوا و كانَ بينَ ذلك قواماً ) (٥) و رجل كان له مال فأدانه بغير بيّنه فيقال له : ألم آمرك بالشهادة(٦) .

و عنهعليه‌السلام : كان في بني اسرائيل رجل فدعا اللَّه تعالى أن يرزقه غلاما ثلاث سنين ، فلمّا رأى انّه لا يجيبه قال : يا ربّ أبعيد أنا منك فلا تسمعني أم

____________________

( ١ ) غافر : ٦٠ .

( ٢ ) البقرة : ١٨٦ .

( ٣ ) الكافي للكليني ٢ : ٤٨٩ ح ٣ عن علي بن حديد .

( ٤ ) الكافي للكليني ٢ : ٥٠٩ رقم ٢ ، بحار الأنوار ٩٣ : ٣٥٨ رقم ١٦ .

( ٥ ) فرقان : ٦٧ .

( ٦ ) الكافي للكليني ٢ : ٥١١ رقم ( ٢ ) ، المجلسي ، بحار الأنوار ٧١ : ٣٤٤ رواية ١ .

٦١٨

قريب أنت منّي فلا تجيبني ، فأتى آت في منامه فقال : إنّك دعوته منذ ثلاث سنين بلسان بذيّ و قلب عات غير تقيّ و نيّة غير صادقة فأقلع عن بذائك و ليثق باللَّه تعالى قلبك و ليحسن نيتك ، ففعل الرجل ذلك ثم دعا فولد له(١) .

« و لا يفتح لعبد » هكذا في الطبعة المصرية(٢) ، و الصواب : ( على عبد ) كما في ابن أبي الحديد(٣) و ابن ميثم(٤) و الخطية ( باب التوبة و يغلق عنه باب المغفرة ) قال تعالى استَغفروا ربَّكُم إِنّه كان غفَّاراً يُرسِل السماء عليكم مدرارا(٥) ( و هو الذي يَقبل التوبة عن عباده و يعفوا عن السيّئات ) (٦) .

و في ( الكافي ) عن الصادقعليه‌السلام : إذا تاب العبد توبة نصوحا أحبه اللَّه تعالى فستر عليه ، ينسي ملكيه ما كانا يكتبان عليه ، و يوحي إلى جوارحه و إلى بقاعه أن اكتمي عليه ذنوبه ، فيلقى اللَّه تعالى حين يلقاه و ليس شي‏ء يشهد عليه بذنب(٧) .

و عن الباقرعليه‌السلام : أوحى تعالى إلى داودعليه‌السلام أن ائت عبدي دانيال فقل له انّك عصيتني فغفرت لك ، و عصيتني فغفرت لك ، و عصيتني فغفرت لك ، فإن أنت عصيتني الرابعة لم أغفر لك فأتاه داودعليه‌السلام و بلّغه ذلك فقال له دانيال : قد بلّغت يا نبيّ اللَّه ، فلمّا كان في السحر قام دانيال و ناجى ربّه فقال : يا ربّ إنّ داود أخبرني عنك كذا و كذا و عزّتك و جلالك لئن لم تعصمني لأعصينّك ثم

____________________

( ١ ) الكافي للكليني ٢ : ٣٢٥ ح ٧ .

( ٢ )

( ٣ )

( ٤ )

( ٥ )

( ٦ ) الشورى : ٢٥ .

( ٧ ) الكافي للكليني ٢ : ٤٣٦ ح ١٢ .

٦١٩

لأعصينك ثم لأعصينك(١) .

و أمّا قولهعليه‌السلام في الحكمة ١٣٥ : « من اعطي أربعا لم يحرم أربعا : من اعطي الدّعاء لم يحرم الإجابة ، و من اعطي التّوبة لم يحرم القبول ، و من اعطي الإستغفار لم يحرم المغفرة ، و من اعطي الشّكر لم يحرم الزّيادة » و تصديق ذلك في كتاب اللَّه قال اللَّه عز و جل في الدعاء( ادعُوني أستَجب لَكُم ) (٢) و قال في الاستغفار :( و مَن يَعمل سُوءً أو يَظلم نَفسَه ثُمَّ يَستَغفِر اللَّه يَجدِ اللَّهَ غَفوراً رحيماً ) (٣) و قال في الشكر( لَئِن شَكَرتُم لأزيدنّكُم ) (٤) و قال في التوبة :( إنَّما التوبةُ عَلى اللَّه لِلَّذينَ يَعمَلون السُّوَءَ بِجَهالةٍ ثمَّ يتُوبُونَ مِن قَريبٍ فأُولئكَ يَتُوبُ اللَّه عليهم و كانَ اللَّه عَليماً حَكيماً ) (٥) فلا يحتاج إلى شرح لأنّه في معنى سابقه ، و إنّما زيد في هذا الاستغفار مع أنّهعليه‌السلام استدل لكل منها بما في كتاب اللَّه تعالى .

و أمّا زيادة المصرية ، مطبعة الاستقامة جملة « قال الرضي » قبل قوله « و تصديق ذلك » فأخذتها من نقل ابن أبي الحديد و هو أخذها من حاشية و همية خلطت بالمتن(٦) .

و يدل على كونها وهما أنّه لو كان كلام الرضي لقال : « و تصديق قولهعليه‌السلام » لا « و تصديق ذلك » و ابن ميثم و الخطية(٧) لم ينقلا الجملة مع أنّ ابن

____________________

( ١ ) الكافي للكليني ٢ : ٤٣٦ ح ١١ .

( ٢ ) غافر : ٦٠ .

( ٣ ) النساء : ١١٠ .

( ٤ ) إبراهيم : ٧ .

( ٥ ) النساء : ١٧ .

( ٦ ) انظر ١٨ : ٣٣١ من شرح بن أبي الحديد ، كذلك راجع افسيت النسخة المصرية ٦٨٩ .

( ٧ ) نقل شرح ابن ميثم في النسخة المنقحة ٥ : ٣١٧ رقم ١٢٥ .

٦٢٠

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639