موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)0%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 679

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الصفحات: 679
المشاهدات: 202131
تحميل: 10344


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 202131 / تحميل: 10344
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء 3

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الذي يوفِّر لنا طريقاً سهلاً، في معرفة التخطيط لو كان مُتوفِّراً،

إلى غير ذلك، ممَّا يحدونا إلى الكفكفة من غلواء البحث، والاقتصار في النتائج على مقدار الإمكان.

والكلام في ذلك يقع ضمن جهات ثلاث:

الجهة الأُولى: في الخصائص العامة للمجتمع الذي ينطلق منه التخطيط، وهو المجتمع العالمي الذي يتمُّ فيه حُكم الإمام المهدي (ع) وتطبيق العدل الكامل لأوَّل مرَّة.

وإزالة العوائق التي يُمكن أن تُشكِّل خطراً عليه، وليس معناه صياغة كل نفوس الأفراد صياغة إسلامية عادلة كاملة لأول وهْلَة.

إنَّ المهدي (ع) سيقتل عدداً كبيراً من الأفراد ممَّن فشل في التمحيص الموجود في التخطيط الإلهي السابق، وأصبح يُشكِّل خطراً على العدل الكامل في المجتمع الجديد، على ما سيأتي تفصيله... ولكن سيبقى مع ذلك عدَّة فجوات ونقاط ضعف في العالم - يكون على التخطيط الجديد بشكل عام، وعلى المهدي (ع) بشكل خاص، ملؤها وتذليل مصاعبها، ممَّا لا يؤثِّر فيه الفتح العسكري عادة -:

النقطة الأُولى: وجود أهل الذمَّة، وهم الشعوب التي تؤمِن بالأنبياء السابقين على الإسلام، وسيُسمح لها - بمقتضى القواعد الإسلامية المعروفة الآن - البقاء على دينها مع دفع الجزية... ويكون لها أن تدخل في دين الإسلام طواعية.

النقطة الثانية: وجود المذاهب المـُتعدِّدة من مُعتنقي الإسلام، ممَّن لا يُظهرون مُعارضةً للنظام الجديد.

النقطة الثالثة: نقص الثقافة الإسلامية العامة، بالنسبة إلى العالم الذي يواجه قوانين الإسلام لأول مرَّة، وهي الشعوب التي كانت كافرة قبل الظهور، ورضيت بالإسلام ديناً بعده.

النقطة الرابعة: نقص الثقافة الإسلامية العامة، في الأمَّة الإسلامية نفسها؛ نتيجة لبُعدها عن الإسلام في عصور الفتن والانحراف.

النقطة الخامسة: نقص الثقافة الإسلامية في الأمَّة خاصة وفي البشرية عامة،

١٠١

بالنسبة إلى القوانين الجديدة التي يُصدرها القائد المهدي (ع)، والأفكار العميقة التي يُعلنها، ريثما يتمُّ إعلانها وتوضيحها للناس.

النقطة السادسة: نقص الإخلاص وقوَّة الإرادة لدى الأعمِّ الأغلب من المسلمين، فإنَّ غاية ما تمخَّض عنه التخطيط الإلهي الأول، هو وجود الإخلاص العميق لدى جماعة من المسلمين، ولم يؤثِّر - بطبيعة الحال - نفس الأثر في مجموعهم، كيف وإنَّ الأرض امتلأت ظلماً وجوراً؟!

فهذه أهمُّ نقاط الضعف من الناحية الدينية، التي يزخر بها المجتمع الذي يواجهه المهدي (ع ) لأول وهْلَةٍ، وهي النقاط الأهمُّ تأثيراً في بناء الدولة العالمية، باعتبار ما عرفناه، من أنَّ الإسلام هو الأُطروحة العادلة الكاملة، التي يقوم الإمام المهدي (ع) بتطبيقها، والأُمَّة الإسلامية هي الأمَّة الرائدة في خِضَمِّ تلك الجهود البانية للدولة، فأيُّ صعوبة في هذه الأمَّة تعني الصعوبة في نيل الهدف أيضاً.

وأمَّا الصعوبات (الدنيوية) - لو صحَّ هذا التعبير - وأعني بها الصعوبات ونقاط الضعف الموجودة في الاتِّجاهات غير الدينية، وما أنتجته الناديَّة والعلمانيَّة من ويلات في العالم، فهي أكثر من أن تُذْكر أو تُحْصَر.

وإذ يواجه نظام الإمام المهدي (ع) كل هذه المصاعب، سيكون مسؤولاً عن اتِّخاذ الخطوات الحاسمة اللازمة لحلِّ كل مشكلة وتذليل كل عقبة، وسيكون على مستوى المسؤولية، بعد أن كان مُتدرِّعاً بالسلاح ومُتذرِّعاً بالإخلاص، ومُنطلقاً من الأطروحة العادلة الكاملة، ومُتَّصفاً بصفات شخصية عُلْيَا، حاولنا أن نحمل عنها فكرة في التاريخ السابق(1) الأمر الذي قلنا: إنَّه يُيسِّر له القيادة والتطبيق العادل في اليوم الموعود.

الجهة الثانية: يستهدف هذا التخطيط الثاني، الكمال الإنساني الأعلى للبشر، في الحدود المـُمكنة له على هذه الأرض، فهو يوفِّر الأرضية الكافية لتكامل الإنسان إلى غاية ما يمكن أن يحصل عليه من الكمال... حتى يكون بالتدريج البطيء في إمكان الفرد أن يكون معصوماً، وأن يتكامل في عصمته(2) .

____________________

(1) انظر: من صفحة 504 إلى ص520.

(2) أعني من العصمة ما يُسمَّى بـ (العصمة غير الواجبة)، وهي التي ينعدم فيها احتمال الظلم والعصيان دون الخطأ والنسيان، وسيأتي إيضاحه في الكتاب الآتي، وأمَّا التكامل فيما بعد العصمة، فقد برهنَّا من التاريخ السابق على إمكانه.

١٠٢

وليس معنى ذلك أنَّ البشر جميعاً يكونون لأول وهْلَة، على هذا المستوى العالي، بل معناه توفير الطريق لأن ينال كل فرد من هذا الهدف بمقدار قابليَّاته الشخصية، وبمقدار ما يؤدِّي من إطاعة وتضحيات في سبيل الحق والعدل.

وهو من هذه الناحية يُشبه ما رأيناه في التخطيط السابق على الظهور، فإنَّه كان يستهدف - فيما يستهدف إليه - تعميق الثقافة الإسلامية في الأمَّة(1) ، وتقوية الإرادة الإيمانية تجاه المشاكل، وقد رأينا كيف يأخذ الناس من هذه الأهداف بمقدار قابليَّاتهم ومقدار ما يؤدُّونه من تضحيات، وكيف يُنتج هذا التخطيط تكاملهم التدريجي البطيء.

غير أنَّ هذا التخطيط الجديد يختلف عن سابقه في نتيجته، فإنَّه بينما رأينا في التخطيط السابق أنَّه لم يتَّصف بالنجاح الحقيقي خلاله إلاَّ عدد قليل نسبيَّاً، فإنَّ هذا التخطيط الجديد سيشمل بالنجاح أكثر الأفراد، وسيصل في المدى البعيد كل الأفراد إلى المستوى المطلوب، بالتدريج البطيء.

وسيأتي في مستقبل هذا البحث أنَّ المجتمع البشري، نتيجة للتدابير الآتية التي تضعها الدولة العالمية، سيمرُّ بمرحلتين من العصمة:

المرحلة الأُولى: أن يكون الأفراد غير معصومين، ولكنَّ الرأي العام المـُتَّفق عليه بينهم معصوماً، وقد أشرنا في التاريخ السابق(2) إلى ذلك مُختصراً، وسيأتي في مُستقبل البحث ما يزيده إيضاحاً.

المرحلة الثانية: أن يكون كل الأفراد معصومين... بتلك العصمة القائمة على أساس العدل الكامل مفاهيميَّاً وتشريعيَّاً، الذي كان ولا زال - في تلك الفترة - مُطبقَّاً منذ عهد بعيد، وسيأتي ما يوضِّح ذلك أيضاً.

الجهة الثالثة: في التعرُّف على تفاصيل التخطيط الإلهي العام لما بعد الظهور وأُسسه العامة بمقدار الإمكان، تلك التفاصيل والأُسس التي يُمكنها أن تُحوِّل المجتمع الذي عرفنا نقاط ضعفه في الجهة الأُولى، إلى الصفات الكبرى التي حملنا عنها فكرة كافية في الجهة الثانية.

____________________

(1) يسير هذا العُمق إلى جنب الشعور الديني... ومن هنا لم يكن وجود هذا العُمق في الثقافة الإسلامية لدى عدد كبير في الأُمَّة، مُنافياً مع وجود الضحالة من هذه الجهة لدى عدد كبير أيضاً، كما أشرنا غير بعيد، في النقطة الثالثة من نقاط الضعف.

(2) تاريخ الغيبة الكبرى ص481.

١٠٣

ونحن إذ نتحدَّث عن هذه الأُسس، إنَّما نتحدَّث عمَّا يمكن أن يكون كذلك في الفترة الأُولى للدولة العالمية، وهي التي تسبق المجتكع المعصوم بكلا قسميه، فإنَّ هذا أقرب إلى إمكان التعرُّف عليه من تلك المجتمعات العُلْيَا المـُتأخِّرة، فإنَّنا سبق أن أكَّدنا عجز الباحث عن إدراك العُمق الحقيقي للفكر والتشريع لما بعد الظهور، وهذا ثابت منذ تأسيس الدولة العالمية، فضلاً عن المجتمعات المعصومة.

إذاً؛ فليس لنا أن نعرف عن المجتمعات المعصومة شيئاً مُفصَّلاً.

وما يمكن لنا الآن تصوُّره ولإثباته بالقواعد العامة، من الأُسس لتلك الفترة. ما يلي:

الأساس الأول: تربية العالم ثقافياً من جهة الإسلام الواقعي، أو العدل الكامل الذي يقوم عليه نظام المهدي (ع) في دولته العالمية.

ويُعطي من ذلك لكل فرد ولكل شعب ما يحتاجه من أساليب التثقيف ومقداره، بشكل تدريجي وعلى مراحل، وكلَّما طويت مرحلة، استحقَّ الفرد أو الجماعة مرحلة جديدة من الثقافة.

فالشعوب غير المسلمة، سوف تُدْعى إلى الإسلام، وسوف يعتنقونه باقتناع وسهولة؛ نتيجة للأسباب التي سوف نذكرها بعد ذلك، وكل مَن أسلم من جديد أو هو مُسلم سلفاً سوف يُربَّى على الثقافة الإسلامية العامة الضرورية لوجود الطاعة والابتعاد عن المعصية، إن لم يكن قد نال ذلك نتيجة للتخطيط الإلهي السابق.

وكل مَن تربَّى إلى هذه الدرجة، فإنَّه يُعطى الثقافة التي تؤهِّله استيعاب الأفكار والمفاهيم والقوانين الجديدة التي تُعلن في ذلك العهد، طبقاً للمصالح الموجودة يومئذ.

ثمَّ يبدأ التصاعد والتكامل الثقافي من هذه الدرجة أيضاً، ويأخذ كل فرد من البشر من ذلك بقدر قابليَّاته وجهوده أيضاً.

ولئن كانت المراحل الأُولى والأُسس الرئيسية من هذا التثقيف، سيُنجزها الإمام المهدي (ع) بسهولة وسرعة، على ما سوف نسمع في هذا التاريخ، إلاَّ أنَّ المراحل المـُتأخِّرة التي تُعتبَر تفريعاً وتطبيقاً للأُسس، سوف تكون تدريجية وبطيئة، طبقاً لتربية كل أُمَّة.

الأساس الثاني: تربية البشرية من حيث الإخلاص وقوَّة الإرادة تجاه المسؤوليات الجديدة في دولة العدل.

ويكون الأُسلوب العام في ذلك مُشابهاً في الفكرة للأُسلوب الذي كان متَّخذاً في

١٠٤

التخطيط الأول، وهو مرور الفرد بمصاعب وعقبات تجاه العدل، ليرى موقفه منها وردَّ فعله تجاهها، فإن وقف موقفاً إسلامياً عادلاً كان ناجحاً في هذا التمحيص، وإلاَّ كان فاشلاً.

لكن يختلف سبب التمحيص في التخطيط السابق عنه في هذا التخطيط الجديد، فإنَّنا قلنا في التخطيط الأول: إنَّ ظروف الظلم والانحراف كافية في التمحيص، من حيثُ ردِّ الفعل الإسلامي الصحيح من الفرد تجاهها، وأمَّا التخطيط الثاني، فسوف لن يكون لعصور الظلم وظروف الفساد أيُّ أثر، وإنَّما ينبثق التمحيص في العهد الجديد من المسؤوليَّات التي يفرضها التمسُّك بالعدل الكامل وتطبيقه، والمحافظة على بقائه في علاقة الفرد مع نفسه ومع ربِّه ومع الآخرين ومع النظام القائم... تلك العلاقات التي يتوقَّع من الفرد خلالها ردَّ فعل إسلامي عادل كامل.

وسوف يكون التمحيص شاملاً لكل فرد بمقدار قابليَّاته وثقافته؛ لأنَّه يتناسب دائماً مع ارتفاع الثقافة تناسباً طردياً مُطِّرداً... إذ يقبح على الله عز وجل أن يوفِّر للفرد امتحاناً وتمحيصاً يكون الفرد فيه فاشلاً باليقين، فإنَّ ذلك خلاف العدل الإلهي، وإنَّما يكون التمحيص على مقدار الثقافة والقابلية دائماً، حتى ما إذا وصلت الثقافة قمَّة عالية، كان التمحيص في غاية الدقَّة والصعوبة، وكان النجاح المتوقَّع منها نجاحاً مناسباً لتلك المرتبة، والفشل الصادر فيها مُسجَّلاً بأدقِّ الموازين وبأهون العثرات.

وقد وردت في أخبار - المصادر الخاصة - نماذج التمحيصات التي يقوم بها المهدي (ع) في الفترة الأُولى من عهده، تجاه الأمَّة عامة، وتجاه أصحابه الخاصَّين ممَّن نجحوا في تمحيص التخطيط الأول خاصة، على ما سوف نعرف تفصيله في ما يأتي.

وقد يخطر في الذهن: إنَّه ما الحاجة إلى التمحيص في التخطيط الإلهي الجديد، وإنَّما كانت الحاجة في التخطيط السابق إلى التمحيص، لإيجاد العدد الكافي من أفراد الجيش الفاتح للعالم بين يدي المهدي (ع)، وقد أنْجَزَ هذا الجيش عمله وانتفت الحاجة إلى مثله، فلماذا يستمرُّ التمحيص ساري المفعول في البشر؟

وجواب ذلك: أنَّ ناموس الله في خلقه هو تربيتهم عن طريق التمحيص، كما دلَّ عليه الكتاب الكريم في عدد من آياته، والسنَّة الشريفة، منها، قوله تعالى:( مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ... ) (1) .

____________________

(1) آل عمران: 3/179.

١٠٥

فإنَّه قانون عام لاختبار طاعة الأفراد في عصر ما قبل التمحيص... وهو كل عصر يواجه فيه الناس دعوة جديدة وتربية جديدة لم تُختبَر مواقفهم تجاهها، ولم تُعرَف ردود فعلهم حيال المشاكل التي تعترضها، فلا بدَّ أن تمرَّ الأُمَّة المسلمة خلال هذا القانون؛ ليكون له الأثر الفعَّال في تربية الأفراد وتعميق إخلاصهم وتقوية إرادتهم تجاه المشاكل، وبذلك يتميَّز الخبيث من الطيِّب، ويُعرف مَن يكون له موقف إسلامي صحيح تجاه المصاعب والعقبات، ومَن يكون ذا موقف مُنحرِف باطل، وهذا مَيْز واقعي بين الأفراد يمتُّ إلى اختلاف قابليَّاتهم ومُسبقاتهم الفكرية والعقلية والنفسية بصِلَةٍ... قبل أن يكون مُجرَّد انكشاف لدى الآخرين.

وقد سمعنا كيف أنَّ هذا القانون، كان شاملاً لدعوات الأنبياء السابقين على الإسلام، ومشاركاً في تربيتهم مشاركةً فعَّالةً، وقد شرحناه في التاريخ السابق(1) وقلنا(2) : إنَّ الحاجة - مع ذلك - تعنُّ إلى سريان قانون التمحيص إلى ما بعد الإسلام؛ لتتربَّى البشرية طبقاً لمفاهيم وتشريع الأطروحة العادلة الكاملة.

وكما واجه المجتمع المؤمن دعوة جديدة في صدر الإسلام، فكان مُقتضى هذا القانون تمحيص الأفراد على أساسه، خلال تربية الأجيال تربية بطيئة وطويلة، وهذا هو التمحيص الساري في تخطيط ما قبل الظهور، كذلك سوف يواجه المجتمع المؤمن والبشرية جمعاء دعوةً إسلاميةً جديدةً، بعد اندراس الإسلام وعوده غريباً، أو نسيان وعصيان الكثير من أحكامه، وسيواجه في هذه الدعوة الجديدة نظاماً وقوانين ومفاهيم، لم يكن له بها سابق عهد مضافاً إلى القواعد الإسلامية السابقة.

ومن هنا يكون المجتمع بالنسبة إلى هذه الدعوة الجديدة، مجتمع ما قبل التمحيص، ويحتاج بمقتضى هذا القانون الشامل إلى أن يمرَّ بعصر التمحيص خلال تربية طويلة وبطيئة، لتتميَّز مواقف الناس تجاه النظام الجديد والدعوات الجديدة، ويأخذ كل فرد على قدر قابليَّاته وجهوده من النجاح والتكامل خلال التمحيص، ما يستطيع.

وبينما كان التمحيص السابق يُنتج فشل الأعم الأغلب من البشر - كما عرفنا - فإنَّ هذا التمحيص وبصفته مُدعَماً بالأُسس، التي سنعرفها، ينتج نجاح الأعم الأغلب من البشر، وسيكون النجاح مُطِّرداً، حتى تصل البشرية في النتيجة إلى المجتمع المعصوم.

____________________

(1) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص255 وما بعدها.

(2) المصدر السابق ص266

١٠٦

الأساس الثالث للتخطيط الجديد: توفير جوٍّ من السعادة والرفاه المادِّي المـُتزايد، تحت جوٍّ من الأُخوَّة والتضامن والعدل الكامل، بأساليب مُعيَّنة، ستأتي في القسم الثاني الآتي من الكتاب.

والأساس النظري لإيجاد هذا الرفاه، ليس هو مُجرَّد نيل اللَّذَّة؛ لأنَّها مهما كانت مُهمَّةً، فإنَّها لا تكفي وحدها للسير بالبشرية نحو هدفها المقصود النهائي... وإنَّما يلاحظ الرفاه المادِّي بمقدار ما يستطيع أن يؤثِّر في ذلك الهدف البعيد ويُربِّي البشرية باتِّجاهه.

وذلك من زاوية أنَّ الرفاه المادِّي مُتناسباً مُطَّرداً مع توفير الجوِّ الكافي لذلك، ولا يمكن أن يكون عائقاً عنه، بعد أن يتشرَّب الناس ذلك الأساس النظري، وهو ملاحظة الرفاه بصفته طريقاً نحو الهدف، لا أنَّه بنفسه الهدف، ومن ثمَّ ستكون زيادة الرفاه مؤيِّدة لتركيز التربية وترسيخ العدل، ومن ثمَّ المـُشاركة في بناء ذلك الهدف.

وهذا هو المؤدِّى الحقيقي لما سمعناه من الأخبار في فصل سابق، من كثرة المال في عهد الإمام المهدي (ع)، وأنَّه يُقسِّم المال ولا يَعدُّه... تلك الأخبار المرويَّة من قِبل الفريقين، وقد سمعنا ما ورد منها في الصحيحين.

وقد يخطر في الذهن: أنَّ توفير المال والرفاه إنَّما يكون من زيادة العمل، فيكون مُتناسباً عكسيّاً مع الهدف؛ لأنَّ زيادة العمل في سبيل الرفاه سوف يمتصُّ الجُهد الذي يمكن أن يُبذل في الجانب الأخلاقي والعبادي، ولا تكون زيادة الرفاه مؤيِّدة لتركيز التربية، كما قلنا.

والجواب على ذلك واضح جدَّاً لمَن استطاع استيعاب المفهوم الصحيح للعبادة مع المفهوم الصحيح للعمل، فإنَّه سيستغرب كيف تكون العبادة عائقاً عن العمل، مع أنَّه الأسلوب المـُهمُّ في حصول الرفاه الاقتصادي المطلوب من أجل العبادة نفسها، وكيف يكون العمل عائقاً عن العبادة، وهي الهدف الرئيسي للحياة؛ وبالنتيجة هُمْ معاً واقعين في طريق الهدف البشري الأعلى.

ومن هنا يمكن أن ننطلق إلى الجواب على مستويين:

المستوى الأول: أنَّنا إذا فَهْمِنا من العبادة معنى لا ينطبق على العمل، وأصبح

١٠٧

العمل المتزايد عائقاً عن العبادة، فإنَّ ذلك لا يمكن أن يحدث تحت ظلِّ النظام العالمي العادل؛ إذ يمكن التوفيق بين العبادة والعمل، وتنظمها تنظيماً عادلاً يكفل إيفاء كلٍّ منهما للحاجة التربويَّة، وتحصيله لنتيجته المطلوبة، تحت إشراف القانون والدولة.

المستوى الثاني: أنَّنا نفهم من العبادة معنى ينطبق على العمل، ولا يتنافى معه، فإنَّ العمل نفسه يمكن أن يُصبح عبادة، إذا كان واقعاً في طريق العبادة، ومُطابقاً للنظام العادل الكامل، فإنَّه يُصبح آنئذٍ من أفضل العبادات في علاقة الفرد مع الآخرين، ولا نريد بالعبادة خصوص الطقوس الفردية التي تربط الفرد بربِّه، وقد أعطينا في هذا الكتاب والكتاب السابق فكرة كافية عن ذلك.

... لكن بشرط أن يشعر الفرد العامل بهذا الترابط وهذا الاستهداف، فإنَّ شعوره بذلك يجعله مُتَّصفاً من خلال عمله بالعبادة وهو في معمله، أو مَتْجَره أو مَنْجَمه.

وهذا الشعور متوفِّر - بطبيعة الحال - تحت الإشراف التربوي للدولة العادلة.

لكنَّ العمل إذا انطلق من المفهوم، فلن يكون مُستهدَفاً لذاته، أو لمـُجرَّد الحصول على المال، فإنَّ العمل ما دام في سبيل المصالح العامة وتحقيق العبادة التامَّة... إذاً؛ فيجب أن يتحدَّد بحدودها، يكثر حين يقتضي كثرته، ويقلُّحين تقتضي تلك المصالح قلَّته، ولا معنى لأن يكون العمل مُعيقاً عن تحقيق المصالح والأهداف.

الأساس الرابع للتخطيط الثاني: الإشراف العام لدولة على تفاصيل التطبيق من الناحيتين القانونية والاجتماعية.

حيث تُشرِف الدولة العادلة على نشر الثقافة العامة، وتقوم ببعض التمحيصات على ما سنسمع، ونُراقب الأفراد من حيث رُقيِّهم في الدرجات المطلوبة من الكمال، وتُساعدهم على النجاح والتكامل بالمقدار اللازم، وتُسجِّل في سجِّل ضميرها مَن نجح من الأفراد ومَن فَشِل منهم في التمحيص، ومَن له قابلية الرُّقِّي ممَّن ليس له ذلك.

وسنرى كيف يكون للدولة من أثر مباشر في تربية الأفراد في العالم، والتدخُّل في حياتهم الروحية والعاطفية والعقلية والاجتماعية، وهذا ممَّا يؤكِّد نجاح الدعوة المهدوية والتطبيق الكامل للعدل، كما يؤكِّد اجتياز الأفراد للمراحل الأُولى من الكمال بنجاح وسرعة وسهولة، وهذا الأساس ممَّا يفترق به هذا التخطيط عن سابقه؛ نتيجةً لاختلافهما في الأهداف، فقد كان الهدف من التخطيط السابق تمييز الخبيث من الطيِّب وتكريس جهود

١٠٨

الطيِّبين، وتعميق إخلاصهم ليكونوا الطليعة الأُولى لدولة العدل العالمية في اليوم الموعود، ولم يكن هناك أيُّ تأكيد على إنجاح الراسبين أو توفير فرص النجاح، بل إنَّ الفرد إذا رسب في التمحيص وعصى الأحكام الإلهيَّة الإسلامية، فقد جنى بنفسه على نفسه، وسعى بظلفه إلى حتفه، فليس وراءه إلاَّ استحقاق العقاب.

ولذلك لم يكن هناك حاجة للإشراف المركزي على التثقيف أو التمحيص، وإن كان هذا راجحاً، إلاَّ أنَّه في إمكان التخطيط العام أن يصل إلى نتيجته وصولاً تلقائيَّاً وفي كل الظروف.

ولكنَّ التخطيط الثاني يختلف عن الأول في هذه النقطة؛ وذلك لأنَّه لا يستهدف مُجرَّد التمحيص، بل الوصول إلى الهدف الأعلى للإنسانية على الصعيد العالمي كلِّه، وهذا يستدعي القيام بأمرين مُقترنين:

الأمر الأول: تعميق التمحيصات تبعاً لتعميق الثقافة الإسلامية المـُعْلَنة في العالم يومئذ، وتشديد النكير على الراسبين في هذا التمحيص، إلى حدٍّ قد يؤدِّي بهم إلى القتل؛ لعدم انسجام الفرد الراسب في التمحيص مع مجتمع العدل المطلق.

الأمر الثاني: توفير الفرص الكافية للأفراد، ممَّن لا يتَّصف بالقابلية العُلْيَا والثقافة العميقة، إلى النجاح، تحت إشراف الدولة العادلة؛ ليكون الوصول إلى نتيجة التخطيط أسرع وأسهل وأوسع.

وليس بين هذين الأمرين تنافٍ، بل هما مُتَّفقان في الإيصال المطلوب إلى النتائج المـُتوخَّاة، وسوف يكون الأمر الأول أشدَّ وضوحاً وأهمِّيَّة مع وجود الأمر الثاني، فإنَّ مَن يرسب في التمحيص، بالرغم من وجود الفرص الكافية للنجاح، يكون أشدَّ إجراماً وأبعدَ عن الحق والعدل، ممَّن يرسب بدون هذه الفرص، كما هو واضح.

وهذا يُشكِّل إحدى الفروق في النتائج بين هذا التخطيط وسابقه، فبينما نجد أنَّ التخطيط السابق يتمخَّض عن ضعف المسؤولية، كما سبق أن برهنَّا في التاريخ السابق(1) نرى هذا التخطيط مُساوقاً مع عُمق المسؤوليَّة ودقَّتها.

ويرجع ذلك لعدَّة أسباب، لعلَّ من أوسعها وأوضحها، كون تطبيق العدل في التخطيط السابق مُخالفاً للاتِّجاه العام المملوء بالظلم والجور، حتى يكون القابض على دينه

____________________

(1) تاريخ الغيبة الكبرى ص 451 وما بعدها إلى عدَّة صفحات.

١٠٩

كالقابض على جمرة من النار - كما ورد في بعض الأخبار - ومن الواضح أنَّ القبض على الجمر يحتاج إلى قوَّة إرادة عُلْيَا، وإنَّ عدم القبض عليه لا يتضمَّن المسؤولية العُلْيَا والإجرام الكبير، بخلاف الحال في التخطيط الجديد، فإنَّ تطبيق العدل موافق للاتجاه العام المملوء قسطاً وعدلاً، ومن هذه الجهة يكون موافقاً للهوى، ويكون الانحراف مُخالفاً للاتجاه العام، فتكون مسؤوليته ذات درجة عُلْيَا من الأهمِّيَّة ومن استحقاق العقاب.

فهذه هي الأُسس الرئيسية التي يمكن التوصُّل إليها الآن، وبها وأشباهها يستطيع القائد المهدي (ع ) تربية الأُمَّة الإسلامية بسرعة وبسهولة، وأمَّا بالنسبة إلى سائر أجزاء العالم، فهذه الأُسس سوف تُشارك في تربيته بعد استتباب السيطرة عليه، وأمَّا حصول هذه السيطرة فلا، وكيفيَّتها، فهو ما سنذكره مُفصَّلاً في فصل قادم.

١١٠

الباب الثاني

حوادث ما قبل الظهور

ونعني بها الحوادث التي تقع قبل الظهور بزمن قليل، حسب ما نعرف من أدلَّتها، وهو ما سبق أن أجَّلنا الحديث عن الأعمِّ الأغلب من ( تاريخ الغيبة الكبرى ) إلى هذا التاريخ، باعتبار ما أُلصق به، وإن كانت هذه الحوادث - في واقعها - تحصل في عصر الغيبة الكبرى، إلاَّ أنَّ قصر الزمان نسبيَّاً، بينها وبين الظهور يجعلها أشدَّ ارتباطاً به ممَّا قبله، كما سيتَّضح فيما يلي من البحث.

١١١

١١٢

تمهيد

لا بدَّ لنا - في هذا الصدد - أن نأخذ بنظر الاعتبار، عدَّة أُمور:

الأمر الأول: أنَّنا سرنا في التاريخ السابق(1) على أُسلوب مُعيَّن في فَهْمِ غالب الحوادث الواردة في الأخبار، وهو أُسلوب الحمل على الرمزية؛ لوجود الاطمئنان - في كثير من الأحيان - بأنَّ المداليل اللفظية للأخبار الناقلة لهذه الحوادث غير مقصودة، وإنَّما المقصود من ورائها الإشارة إلى حوادث اجتماعية، ممَّا قد يتمخَّض عنها التخطيط السابق على الظهور، وإنَّما صيغت بأُسلوب الرمز لمصالح مُعيَّنة... لعلَّ من أهمِّها:

أولاً: عدم الموافقة بهذه الحوادث مع المـُستوى الفكري للعصر الذي صدرت فيه هذه الأخبار.

ثانياً: إنَّه لو صُرِّح بهذه الحوادث وشُرِحت بوضوح، لأمكن استغلالها واتِّخاذ مواقف سيِّئة منها، بنحو يُخلُّ بالتخطيط الإلهي العام.

ثالثاً: إنَّ مؤدَّى جملة كبيرة من الأخبار الناقلة للحوادث، ظاهر بأنَّها تحصل عن طريق إعجازي غير طبيعي، بشكل يكون مُنافياً مع قانون المعجزات الذي برهنَّا على صحَّته، فيدور الأمر بين طرح الحديث أساساً وبين حملة الرمز، وقلنا هناك(2) : بأنَّ الحمل على الرمز أولى من الطرح، وخاصَّة فيما إذا كانت الحادثة منقولة بأخبار كثيرة، صالحة للإثبات التاريخي، ولا يمكن طرحها.

وهنا نواجه هذه النقاط مرَّة أخرى - وبشكل وآخر - في الأخبار الناقلة لحوادث ما بعد

____________________

(1) انظر - مثلاً - ص212 منه.

(2) ص217 وما بعدها.

١١٣

الظهور، مع وجود اختلافين: أحدهما نقطة قوَّة، والأُخرى نقطة ضعف.

الاختلاف الأول: الذي يُمثِّل نقطة القوَّة، وهو أنَّنا هنا لن نواجه العقبة التي قلناها في تمهيد هذا التاريخ، وهي أنَّنا لا نستطيع التعرُّف على العُمق الحقيقي للحادثة أو لمجموع الحوادث؛ وذلك لأنَّ ذلك إنَّما يصدق على حوادث ما بعد الظهور، وأمَّا ما يكون موجوداً قبل الظهور - كما هو شأن العلامات التي نتحدَّث عنها في هذا الفصل - فاستيعاب فَهْمِه مُتيسِّر إلى حدٍّ كبير.

الاختلاف الثاني: الذي يُمثِّل نقطة الضعف، ينطلق من صعوبة اختيار المعنى المرموز إليه، في الموارد التي نحتاج فيها إلى ذلك، فإنَّه بعد أن يتبرهن الحمل على الرمزية، قد لا يتعيَّن المعنى المـُشار إليه بالرمز، ولعلَّه من الممكن انطباقه على أكثر من مفهوم أو عدَّة وقائع.

ومع وجود هذه المصاعب، قد لا يتعذَّر الاطِّلاع على المعنى المرموز إليه، إذ وجِدت من القرائن والمـُثبتات حوله ما يكفي، ولكن مع تعذُّر ذلك لا بدّ أن نبني البحث على أُسلوب الأُطروحات، بمعنى عرض أقرب المعاني المـُحتملة إلى الواقع وإلى القواعد العامة، وقد لا يكون المعنى المـُحتمل بلحاظ ذلك أكثر من معنى واحد، فيتعيَّن، وإن كان لا يعدو كونه (أُطروحة) باعتباره معنى مُحتمَلاً.

وتوجد هناك صعوبة أُخرى، قد نواجهها في فَهْم بعض الأخبار، وهي أنَّنا نجهل ما هو الرمزي - من ألفاظ الروايات - ممَّا هو صريح، فهل كل ألفاظها رمزيَّة؟ أو يوجد بعضها ما يمكن حمله على معناه الصريح؟ وهل يمكن التبعيض في ألفاظ الحديث الواحد؟ وهل نحن مُحتاجون إلى هذه الرواية، للحمل على الرمز أو لا؟

أمَّا من حيث أُسس ذلك، وهي إمكان التبعيض في ألفاظ الحديث الواحد، فالصحيح المطابق للفهم العام في الكلام، أنَّ ذلك ممكن إذا لم يكن مجموع الفَهم من ألفاظ الحديث مُتنافراً، بمعنى ضرورة الانسجام بين المعاني التي فهمناها، سواء الصريح منها والرمزي.

وأمّا الحاجة إلى الرمزية وعدمه، فهو ما سبق أن بحثناه في التاريخ السابق(1) ، وخلاصته عدم إمكان الحمل على الرمز، مع إمكان فَهْم المعنى اللفظي المطابقي نفسه، ومع

____________________

(1) تاريخ الغيبة الكبرى ص218 وما بعدها.

١١٤

إمكان الحمل على المجاز والكناية؛ إذ مع إمكانه لا حاجة إلى الرمز.

انطلاقا من هذه الأُسس سنقوم بتذليل هذه الصعوبة، أعني تعيين الرمز من الصريح من الألفاظ، عن طريق (القواعد العامة) ودلالة الأخبار الأُخرى أولاً، فإن تعذّر ذلك، كان أُسلوب (الأطروحات) كفيلاً بتذليل هذه المشكلة؛ لأنَّنا حين نعرض الأُطروحة المـُعيَّنة القريبة إلى الذهن، سنعرف بطبيعة الحال ما يدلُّ عليها من الأخبار بنحو الرمز، وما يدلُّ عليها بنحو الصراحة.

الأمر الثاني - من التمهيد -: في تمحيص ما ورد من الحوادث.

يمكن تقسيم هذه الحوادث - من حيث إعرابها عن المعجزات - إلى قسمين:

القسم الأول: ما كان بدلالته اللفظية، أو بعد حمله على الرمزية، دالاَّ ًعلى حوادث غير إعجازية، اجتماعية أو طبيعية.

القسم الثاني: ما كان دالاَّ ًعلى حوادث إعجازية، بشكل واضح، لا يمكن صرفه عنها.

ويختصُّ القسم الثاني بتحفُّظين لا حاجة إليهما في القسم الأول:

التحفُّظ الأول: إنَّ هذا القسم مربوط بقانون المعجزات، فما كان منه مُنسجماً معه أمكن الأخذ به لو تمَّ فيه التحفُّظ الثاني الآتي... وما لم يكن مُنسجماً معه، فلا بدَّ من رفضه على كلِّ حال.

التحفُّظ الثاني: إنَّ القسم الأول يمكن قبول حدوثه مع الانسجام مع المنهج العام الذي قلناه في هذا التمهيد العام لهذا التاريخ... في حين أنَّ القسم الثاني يحتاج إلى درجة أعلى من التشدُّد في القبول، كما عملنا عليه في التاريخ السابق(1) ، ففي الوقت الذي قبلنا فيه الخبر الموثوق الواحد المـُجرَّد عن القرائن المـُثبتة في التمهيد... لم نكن قد قبلناه في التاريخ السابق، ولا نستطيع قبوله في أخبار القسم الثاني المـُتكفِّل لنقل أخبار المعجزات، باعتبارٍ ما، فينقلها من مظنَّة الخطأ والدسِّ، كما سبق أن عرضناه في التاريخ السابق(2) ، فنقتصر فيه على قبول الخبر المـُستفيض أو المحفوف بالقرائن الموافقة.

الأمر الثالث: سبق منَّا في التاريخ السابق(3) أن ذكرنا حوادث ما قبل الظهور

____________________

(1) تاريخ الغيبة الكبرى ص208.

(2) المصدر ص204.

(3) المصدر فصل الأخبار الدالَّة على التنبُّؤ بالمـُستقبَل ص280، وفصل علامات الظهور ص521.

١١٥

مُفصَّلة، وعرفنا ما حدث منها وما لم يحدث، وما هو محمول على الرمزية وما ليس كذلك، وعرفنا هناك خصائص كثيرة لا حاجة إلى تكرارها في هذا التاريخ.

إلاَّ أنَّ هذا التركيز فيما سبق، كان على حوادث ما قبل الظهور، ككل سواء منها البعيد عنه والقريب... بل كان التركيز على البعيد عنه أشدَّ، الحديث عنه أوسع... باعتباره بعضاً من حلقات تاريخ الغيبة الكبرى.

ومع تجنُّب التكرار في هذا التاريخ، والاستغناء عن ذكر الحوادث البعيدة أو المـُحتملة البُعْد عن يوم الظهور، يبقى على هذا الفصل أربعة مهامٍّ:

المـُهمَّة الأُولى: التعرُّض إلى بعض العلامات التي لم تكن قد ذُكِرت في التاريخ السابق، مع مُحاولة تمحيصها، وإعطائها الفَهْم اللازم.

المـُهمَّة الثانية: مُحاولة إثبات بعض العلامات التي سبق ذكرها، طبقاً لتغيير المنهج في الإثبات التاريخي، كما سبق أن أوضحنا في التمهيد.

المـُهمَّة الثالثة: مُحاولة إعطاء فَهم جديد لبعض العلامات القريبة، التي لم تكن قد أخذت حظَّها الكافي من البحث في التاريخ السابق... أو عرض جوانب جديدة منها، لم تكن قد عُرِضت هناك.

المـُهمَّة الرابعة: مُحاولة ضبط التسلسل التاريخي للحوادث مهما أمكن، وهذا ما لم نتوفَّر عليه في التاريخ السابق، في حين يكون استنتاجه مُهمَّاً في هذا التاريخ.

وإذا تمَّت هذه المهامُّ، فسيكون هناك فرق أساسي كبير بين بحث التاريخ السابق، وبين هذا الباب، كما سوف يظهر عند الدخول في التفاصيل.

وعلى أيِّ حال، فتنقسم هذه الحوادث، أعني القريبة إلى الظهور، إلى قسمين رئيسين:

الأول: الظواهر الطبيعية أو السماوية التي لا تمتُّ إلى اختيار الناس بصِلَةٍ.

الثاني: الظواهر الاجتماعية التي تعود إلى تصرُّفات الناس، وما يعود إلى الحوادث التي تحصل للأمًّة الإسلامية بين آونة وأُخرى.

وينبغي أن يقع الحديث عن القسم الأول سابقاً على الحديث عن القسم الثاني؛ لأجل أن تتَّصل حوادث القسم الثاني بما بعدها من التاريخ؛ حفظاً للتسلسل الزماني لها، وسنتحدَّث عن كل قسم في فصل مُستقلٍّ.

١١٦

الفصل الأوَّل

الظواهر الطبيعية والسماوية

ونريد بها الحوادث المنقول حدوثها في الطبيعة، وإن كانت صفتها إعجازية.

والمنقول منها أُمور عديدة، ونحن نقتصر - اختصاراً للكلام وتمحيصاً للروايات - على ما كان مُتَّصفاً بشرائطَ ثلاثة:

الشرط الأول: عقدنا من أجله هذا الباب، وهو خصوص الحوادث القريبة من الظهور، بحسب أدلَّتها دون البعيد منها.

الشرط الثاني: أن تكون الحادثة ممَّا يمكن إثباته، بحسب المنهج الذي اتَّخذناه مع مُحاولة تجنُّب ما لا يمكن إثباته.

الشرط الثالث: أن يكون ممَّا ورد ارتباطه في الأخبار نفسها بظهور المهدي (ع)، وبهذا نختصر هذه الحوادث بالمصادر الخاصة الإمامية، وليس في المصادر العامة منها إلاَّ النادر.

وما يبقى مُندرجاً تحت هذه الشروط، من الحوادث، عدَّة أمور، نذكر كلاَّ ًمنها في جهة:

الجهة الأُولى: الخسوف والكسوف:

ويُراد به حدوثهما بشكل يختلف عن الشكل الاعتيادي له، فبدلاً عن أن يحدث الكسوف في أول الشهر والخسوف في وسطه، كما هو المـُعتاد، فإنَّ حدوثهما سوف يكون بالعكس، فيحدث الكسوف في وسط الشهر والخسوف في أوله... بشكل لم يسبقْ له نظير منذ أول البشرية إلى حين حدوثه، وهذا ما تُعرِب عنه عدد من الروايات، ذكرنا ثلاث منها في التاريخ السابق(1) ، عن

____________________

(1) انظر ص574

١١٧

الشيخ الطوسي، والشيخ المفيد، والشيخ النعماني.

وأخرج الشيخ الطوسي في ( الغيبة )(1) أيضاً، بسنده عن بدر الأزدي، قال:

قال أبو جعفر الباقر (ع): ( آيتان تكونان قبل القائم لم تكونا منذ هبط آدم (ع) إلى الأرض: تنكسف الشمس في النصف من شهر رمضان، والقمر في آخره ).

فقال رجل: يا بن رسول الله، تنكسف الشمس في آخر الشهر والقمر في النصف؟

فقال أبو جعفر: ( إنِّي لأعلم بما تقول! ولكنَّهما آيتان لم تكونا منذ هبط آدم (ع) ).

وأخرج السيوطي في العُرف الوردي(2) ، عن الدار قطني في سُننه، عن محمد بن علي الإمام الباقر (ع)، قال: ( إنَّ لمهدينا آيتين لم تكونا منذ خلق الله السموات والأرض: ينخسف القمر لأول ليلة من رمضان، وتنكسف الشمس في النصف منه، ولم يكونا منذ خلق الله السموات والأرض ).

وفيما روينا هناك ما يدلُّ على أنَّ انخساف القمر يكون في الخامس والعشرين من رمضان، وأمَّا انكساف الشمس، فهو في ثلاث عشرة أو أربع أو خمس عشرة منه.

ويدل سياق هذه الرواية - وأكثر من رواية أخرى - على قُرب هذه العلامة من قيام القائم، أعني ظهور المهدي (ع).

وهذا العدد من الروايات يكفي للإثبات التاريخي حتى مع (التشدُّد السَّندي) الذي سِرْنا عليه في التاريخ السابق، وطبَّقناه هنا على الروايات الناقلة للمعجزات.

وقد أشرنا هناك إلى المـُبرِّر الذي دعا إلى إيجاد هاتين الواقعتين في التخطيط الإلهي لما قبل الظهور، وهو - باختصار - ترسيخ فكرة المهدي (ع) عند حدوث هذه العلامة، أولا، والإيعاز إلى المـُخلصين من الخاصة إلى قُرب الظهور ثانياً.

يبقى علينا الآن أن نتكلَّم عن المـُبرِّر الكوني لوجودها، وهل هو بطريق إعجازي أو طبيعي... وإذا كان طبيعياً، فكيف يحصل... وهذا ما لم نُفِضْ فيه الحديث في التاريخ السابق.

____________________

(1) ص270

(2) الحاوي للفتاوي ج2 ص136

١١٨

إنَّ لحدوث هذه الوقائع عدَّة أُطروحات، لا بدَّ من استعراضها ونقدها:

الأُطروحة الأُولى: حصول الكسوف والخسوف بسببه (العلمي) الاعتيادي، لكن مع اختلاف بسيط، هو الاختلاف في الزمان، فإن ثبت في العلم الحديث أنَّ الكسوف يحصل بتوسُّط الأرض بين الشمس والقمر، أمكن حصول ذلك في زمان آخر جديد.

وهذه الأُطروحة هي الأوفق بالظاهر الأوَّلي من الروايات، لو فُرِض الالتزام بكون هذه الحوادث طبيعية غير إعجازية.

إلاَّ أنَّها واضحة المـُناقشة طبقاً للنظرية العلمية الحديثة، ومن ثمَّ لا بدَّ من التنازل عن هذا الظهور الأوَّلي في الروايات.

فإنَّ القمر - وهو يستمدُّ نوره من الشمس، والنور يسير بخطوط مُستقيمة لا يمكن أن تنعطف انعطافاً كبيراً -... أنَّ القمر لا يمكن أن يكسف الشمس حال كونه بدراً في وسط الشهر؛ لأنَّ انكساف الشمس به، يلازم بالضرورة كون الوجه المـُظلم من القمر مُتوجِّهاً إلى الأرض، وهذا يُنافي بالضرورة كونه بدراً.

كما أنَّ خسوف القمر لا يكون إلاَّ بوقوع ظلِّ الأرض على القمر، بعد توسُّطها بينه وبين الشمس، وهذا معناه: أنَّ الأرض أقرب إلى الشمس من القمر، وهذا لا يحدث إلاَّ في وسط الشهر حين يكون القمر بدراً.

ولا يمكن دفع هذه المـُناقشة، إلاَّ بالطعن بالنظرية العلمية، انطلاقاً من زاوية أنَّ النظريات العلمية مهما تأكَّدت، فإنَّها قائمة على الحساب الظنِّي، وإن كان راجحاً، ولا تُنتج يقيناً تامَّاً بأيِّ حال، وهذا موكول إلى وجدان القارئ.

الأطروحة الثانية: أن تكون رؤية الكسوف والخسوف في غير الأرض، بل في مناطق أو كواكب أُخرى من المجموعة الشمسية.

أمَّا بالنسبة إلى كسوف الشمس، فقد حدث فعلاً عام (1391 هـ – 1971م)، حين كان بعض روَّاد الفضاء على القمر، فشاهدوا الشمس مكسوفة كلِّيَّاً بتوسُّط الأرض بينهم وبينها، وهذا التوسُّط لا يحدث عادة إلاَّ في وسط الشهر.

وأمَّا الخسوف فلم يحدث إلى حدِّ الآن، لكن في الإمكان تصوُّر حدوثه، فيما إذا انتقل بعض أفراد الإنسان إلى كوكب آخر من المجموعة الشمسية، كالمرِّيخ أو الزهرة، فإنَّه قد تُصبح الأرض ما بين القمر وذلك الكوكب، فيحدث الخسوف في نظرهم. ومن

١١٩

الواضح أنَّ هذا غير مشروط بحدوثه في وسط الشهر القمري، بل قد يحدث في أوَّله أو آخره أيضاً.

ويمكن المـُناقشة في هذه الأُطروحة من أكثر من جهة:

أوَّلاً: أنَّ الظهور الأوَّلي للروايات يقتضي حدوث الكسوف بالنسبة إلى ساكني الأرض، لا بالنسبة إلى مَن في القمر أو المرِّيخ.

غير أنَّه يمكن الاستغناء عن هذا الظهور، من زاوية أنَّ ظهورها في أنَّ الإنسان هو الذي يرى هاتين الواقعتين، وهو أمر لا يختلف فيه الحال بين الأرض والمرِّيخ، ما دام الإنسان هو المـُشاهد.

ثانياً: إنَّ الظهور الأوَّلي للروايات يقتضي حدوث هاتين العلامتين في شهر واحد، هو شهر رمضان، وهذا ممَّا لم يتحقَّق في الخارج.

ثالثاً: إنَّ الظهور الواضح لهذه الروايات – كما قلنا – يقتضي قُرب هذه الوقائع إلى اليوم الموعود، فإذا كان قد حدث أحد الأمرين، إذن؛ فهو لم يحدث قريباً من اليوم الموعود.

الأُطروحة الثالثة: أن يحدث الكسوف والخسوف بتوسُّط جُرم آخر طارئ في الفضاء صدفة، من الأجرام التي تُعتبر علميَّاً تائهة في الفضاء، أو ذات مدار ضخم جدَّاً وغير مُحدَّد، فيحجب القمر عن الشمس، فيحدث الخسوف، أو يحجب الشمس عن الأرض في وسط الشهر، فيحدث الكسوف، ومن الواضح أنَّ مرور الجرم الطارئ غير مُحدَّد بزمان مُعيَّن في الشهر.

وقد يؤيَّد ذلك بقوله في أكثر من رواية: ( إنَّهما آيتان لم تحدثا منذ هبط آدم (ع) ).

فلعلَّ جُرماً ما قد أوجد هذه الظاهرة قبل وجود البشرية، ثمَّ يكون وقت مروره بالمجموعة الشمسية منوطاً بتاريخ مُعيَّن يُصادف قبل ظهور المهدي بقليل.

وهذه الأُطروحة لا ترد عليها المـُناقشة الأُولى للأطروحة السابقة، لفرض أنَّها تُرى من الأرض.

وأمَّا المناقشة الثانية، فمن حيث حصول الواقعتين في شهر واحد، أمر لا غبار عليه، إذا التفتنا إلى أنَّ جُرماً واحداً هو الذي يعمل كلا العملين، فإنَّ المـُذنَّب وأمثاله إذا ظهر قريباً من الأرض لا يختفي عادة لليلة واحدة، بل يبقى مدَّة من الزمن، حتى ينتهي عبوره فضاء المجموعة الشمسية، فيمكن أن يحدث خلال وجوده كلا هذين الأمرين.

١٢٠