موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)8%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 679

الجزء ١ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 212428 / تحميل: 11106
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

[ المقام الأسنى في تفسير الأسماء الحسنى]

الأسماء الحسنى

وسنوردها هنا بثلاث عبارات :

الاُولى : ما ذكرها الشيخ جمال الدين أحمد بن فهد(1) رحمه‌الله في عدّته ، أنّ الرضاعليه‌السلام روى عن أبيه عن آبائه عن علي(2) عليه‌السلام : أنّ لله تسعة وتسعين اسماً من دعا بها استجيب له ومن أحصاها(3) دخل الجنّة ، وهي هذه :

الله ، الواحد ، الأحد ، الصمد ، الأول ، الآخر ، السميع ، البصير ، القدير ، القاهر ، العليّ ، الأعلى ، الباقي ، البديع ، الباري ، الأكرم ، الظاهر ، الباطن ، الحيّ ، الحكيم ، العليم ، الحليم ، الحفيظ ، الحقّ ، الحسيب ، الحميد ، الحفيّ ، الربّ ، الرحمن ، الرحيم ، الذاري ، الرازق ، الرقيب ، الرؤوف ، الرائي ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبّار ، المتكبّر ، السيّد ، السبّوح ، الشهيد ، الصادق ، الصانع ، الطاهر ،

__________________

(1) أبو العباس أحمد بن فهد الحلي ، يروي عن الشيخ أبي الحسن علي بن الخازن تلميذ الشهيد وغيره ، له عدة مصنفات ، منها : عدّة الداعي ونجاح الساعي ، في آداب الدعاء ، مشهور نافع مفيد في تهذيب النفس ، مرتّب على مقدّمة في تعريف الدعاء وستّة أبواب ، توفي سنة ( 841 ه‍ ).

الكنى والألقاب 1: 368 ، أعيان الشيعة 3: 147 ، الذريعة 15 : 228 ، معجم رجال الحديث 2 : 189.

(2) في العدة : « عن علي بن موسى الرضاعليه‌السلام عن آبائه عن عليعليهم‌السلام ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ لله عزّ وجلّ تسعة وتسعين اسماً من دعا الله بها استجاب له ومن أحصاها دخل الجنة ».

(3) في هامش (ر) : « قال الصدوقرحمه‌الله : معنى إحصائها هو الإحاطة بها والوقوف على معانيها ، وليس معنى الإحصاء عدّها ، قاله الشيخ جمال الدين في عدته.

ووجدتُ بخط الشيخ الزاهدرحمه‌الله : أن هذه الأسماء حجاب من كل سوء ، وهي للطاعة والمحبة وعقد الألسن ولإبطال السحر ولجلب الرزق نافع إن شاء الله تعالى. منهرحمه‌الله ».

اُنظر : التوحيد : 195 ، عدّة الداعي : 298.

٢١

العدل ، العفوّ ، الغفور ، الغنيّ ، الغياث ، الفاطر ، الفرد ، الفتّاح ، الفالق ، القديم ، الملك ، القدّوس ، القويّ ، القريب ، القيّوم ، القابض ، الباسط ، القاضي(4) ، المجيد ، الولي ، المنّان ، المحيط ، المبين ، المقيت ، المصوّر ، الكريم ، الكبير ، الكافي ، كاشف الضرّ ، الوتر ، النور ، والوّهاب ، الناصر ، الواسع ، الودود ، الهادي ، الوفيّ ، الوكيل ، الوارث ، البرّ ، الباعث ، التوّاب ، الجليل ، الجواد ، الخبير ، الخالق ، خير الناصرين ، الديّان ، الشكور ، العظيم ، اللطيف ، الشافي(5) .

الثانية : ما ذكرها الشهيد(6) رحمه‌الله في قواعده ، وهي : الله ، الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدّوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبّار ، المتكبّر ، الباري ، الخالق ، المصوّر ، الغفّار ، الوّهاب ، الرزّاق ، الخافض ، الرافع ، المعزّ ، المذلّ ، السميع ، البصير ، الحليم ، العظيم ، العليّ ، الكبير ، الحفيظ ، الجليل ، الرقيب ، المجيب ، الحكيم ، المجيد ، الباعث ، الحميد ، المبدي ، المعيد ، المحيي ، المميت ، الحيّ ، القيّوم ، الماجد ، التوّاب ، المنتقم ، الشديد العقاب ، العفّو ، الرؤوف ، الوالي ، الغني ، المغني ، الفتّاح ، القابض ، الباسط ، الحكم ، العدل ، اللطيف ، الخبير ، الغفور ، الشكور ، المقيت ، الحسيب ، الواسع ، الودود ، الشهيد ، الحقّ ، الوكيل ، القويّ ، المتين ، الوليّ ، المحصي ، الواجد ، الواحد ، الأحد ، الصمد ، القادر ، المقتدر ، المقدّم ، المؤخّر ، الأول ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، البرّ ، ذو الجلال والإكرام ، المُقِسط ، الجامع ، المانع ، الضارّ ، النافع ، النور ، البديع ، الوارث ، الرشيد ، الصبور ، الهادي ، الباقي(7) .

__________________

(4) في هامش (ر) : « قاضي الحاجات / خ ل ».

(5) عدّة الداعي : 298 ـ 299.

(6) أبو عبدالله محمد بن مكي العاملي الجزيني ، الشهيد الأول ، روى عن الشيخ فخر الدين محمد بن العلاّمة وغيره ، يروي عنه جماعة كثيرة منهم أولاده وبنته وزوجته ، له عدّة مصنّفات ، منها : القواعد والفوائد ، كتاب مختصر مشتمل على ضوابط كلية اُصولية وفرعية يستنبط منها الأحكام الشرعية ، استشهد مظلوماً سنة ( 786 ه‍ ).

رياض العلماء 5 : 185 ، الكنى والألقاب 2 : 342 ، تنقيح المقال 3 : 191 ، الذريعة 17 : 193.

(7) القواعد والفوائد 2: 166 ـ 174.

٢٢

قالرحمه‌الله : ورد في الكتاب العزيز من(8) الأسماء الحسنى : الربّ ، والمولى ، والنصير ، والمحيط ، والفاطر ، والعلاّم ، والكافي ، وذو الطّول ، وذو المعارج(9) .

الثالثة : ما ذكرها فخر الدين محمد بن محاسن(10) رحمه‌الله في جواهره ، وهي :

الله ، الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدّوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبّار ، المتكبّر ، الخالق ، الباري ، المصوّر ، الغفّار ، القهّار ، الوهّاب ، الرزّاق ، الفتّاح ، العليم ، القابض ، الباسط ، الخافض ، الرافع ، المعزّ ، المذلّ ، السميع ، البصير ، الحكم ، العدل ، اللطيف ، الخبير ، الحليم ، العظيم ، الغفور ، الشكور ، العليّ ، الكبير ، الحفيظ ، المقيت ، الحسيب ، الجليل ، الكريم ، الرقيب ، المجيب ، الواسع ، الحكيم ، الودود ، المجيد ، الماجد ، الباعث ، الشهيد ، الحقّ ، الوكيل ، القويّ ، المتين ، الوليّ ، الحميد ، المحصي ، المبدي ، المعيد ، المحيي ، المميت ، الحيّ ، القيوم ، الواحد ، الأحد ، الصمد ، القادر ، المقتدر ، المقدّم ، المؤخّر ، الأوّل ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، الوالي ، المتعالي ، البرّ ، التوّاب ، المنتقم ، العفوّ ، الرؤوف ، مالك الملك ، ذو الجلال والإكرام ، المُقسِط ، الجامع ، الغنيّ ، المُغني ، المانع ، الضارّ ، النافع ، النور ، الهادي ، البديع ، الباقي ، الوارث ، الرشيد ، الصبور. فهذه تسعة وتسعون اسماً رواها محمد بن إسحاق(11) في المأثور.

__________________

(8) في ( القواعد ) و (ر) و (م) : « في » وما أثبتناه من (ب) وهو الأنسب.

(9) القواعد والفوائد 2 : 174 ـ 175.

(10) لم أجد من تعرّض لترجمته ، حتّى أن الشيخ العلاّمة الطهراني في الذريعة 5 : 257 حينما ذكر الجواهر ، قال : للشيخ فخر الدين محمد بن محاسن ينقل عنه الكفعمي في آخر البلد الأمين ، فالظاهر أنّه لم يجد له ترجمة أيضاً ، بل إنّما عرف كتابه واسمه من نقل الكفعمي عنه ، ومحمد بن محاسن نفسه الذي يأتي بعنوان البادرائي.

(11) يحتمل أن يكون هو : محمد بن إسحاق بن محمد بن يوسف بن علي القونوي الرومي ، من كبار تلاميذ الشيخ محيي الدين ابن العربي ، بينه وبين نصير الدين الطوسي مكاتبات في بعض المسائل الحكمية ، له عدّة مصنّفات ، منها : شرح الأسماء الحسنى ، مات سنة ( 673 ه‍ ).

كشف الظنون 2: 1956 ، أعلام الزركلي 6 : 30.

٢٣

ولمّا كانت كلّ واحدة من هذه العبارات الثلاث تزيد على صاحبتيها بأسماء وتنقص عنهما بأسماء ، أحببت أن أضع عبارة رابعة مشتملة على أسماء العبارات الثلاث ، مع الإشارة إلى شرح كلّ اسم منها ، من غير إيجاز مخلّ ولا إسهاب مملّ.

وسمّيت ذلك بالمقام الأسنى في تفسير الأسماء الحسنى.

فنقول وبالله التوفيق :

الله :

اسم ، علم ، مفرد ، موضوع على ذات واجب الوجود.

وقال الغزّالي(12) : الله اسم للموجود الحق ، الجامع لصفات الإلهية ، المنعوت بنعوت الربوبية ، المتفرّد بالوجود الحقيقي ، فإن كلّ موجود سواه غير مستحقّ للوجود بذاته ، وإنّما استفاد الوجود منه(13) .

وقيل : الله اسم لمن هو الخالق لهذا العالم والمدبر له.

وقال الشهيد في قواعده : الله اسم للذات لجريان النعوت عليه ، وقيل : هو اسم للذات مع جملة الصفات الإلهية ، فإذا قلنا : الله ، فمعناه الذات الموصوفة بالصفات الخاصة ، وهي صفات الكمال ونعوت الجلال.

قالرحمه‌الله : وهذا المفهوم هو الذي يعبد ويوحد وينزه عن الشريك والنظير والمثل والند والضد(14) .

وقد اختلف في اشتقاق هذا الاسم المقدّس على وجوه عشرة ، ذكرناها

__________________

(12) أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزّالي ، الملقّب بحجّة الإسلام الطوسي ، تفقّه على أبي المعالي الجويني ، له عدّة مصنّفات ، منها : إحياء علوم الدين ، والمقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وغيرهما ، مات سنة ( 502 ه‍ ).

المنتظم 9 : 168 ، وفيات الأعيان 4 : 216 ، الكنى والألقاب 2 : 450.

(13) المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى : 14.

(14) القواعد والفوائد 2: 166.

٢٤

على حاشية الصحيفة في دعاء زين العابدينعليه‌السلام إذا أحزنه أمر(15) .

واعلم أنّ هذا الاسم الشريف قد امتاز عن غيره من أسمائه ـ تعالى ـ الحسنى بوجوه عشرة :

أ : أنّه أشهر أسماء الله تعالى.

ب : أنّه أعلاها محلاًّ في القرآن.

ج : أنّه أعلاها محلاًّ في الدعاء.

د : أنّه جعل أمام سائر الأسماء.

ه‍ : أنّه خصّت به كلمة الإخلاص.

و : أنّه وقعت به الشهادة.

ز : أنّه علم على الذات المقدّسة ، وهو مختصّ بالمعبود الحقّ تعالى ، فلا

__________________

(15) وهي كما في حاشية المصباح : 315 نقلاً عن الفوائد الشريفة في شرح الصحيفة :

« الأول : أنّه مشتقّ من لاه الشيء إذا خفي ، قال شعر :

لاهت فما عرفت يوماً بخارجةٍ

يا ليتها خرجت حتى عرفناها

الثاني : أنّه مشتقّ من التحيّر ، لتحيّر العقول في كنه عظمته ، قال :

ببيداء تيه تأله العير وسطها

مخفقـة بالآل جرد وأملق

الثالث : أنّه مشتقّ من الغيبوبة ، لأنّه سبحانه لا تدركه الأبصار ، قال الشاعر :

لاه ربّي عن الخلائق طراً

خالق الخلق لا يُرى ويرانا

الرابع : أنّه مشتقّ من التعبّد ، قال الشاعر :

لله درّ الغانيــات المُـدَّهِ

آلهن واسترجعن من تألّهي

الخامس : أنّه مشتق من أله بالمكان إذا أقام به ، قال شعر :

ألهنا بدارٍ لا يدوم رسومها

كأن بقاها وشامٌ على اليدِ

السادس : أنّه مشتقّ من لاه يلوه بمعنى ارتفع.

السابع : أنّه مشتقّ من وَلَهَ الفصيلُ باُمّه إذا ولع بها ، كما أنّ العباد مولهون ، أي : مولعون بالتضرّع إليه تعالى.

الثامن : أنّه مشتقّ من الرجوع ، يقال : ألهت إلى فلان ، أي : فزعت إليه ورجعت ، والخلق يفزعون إليه تعالى في حوائجهم ويرجعون إليه ، وقيل للمألوه [ إليه ] إله ، كما قيل للمؤتمّ به إمام.

التاسع : أنّه مشتقّ من السكون ، وألهت إلى فلان أي : سكنت ، والمعنى أنّ الخلق يسكنون إلى ذكره.

العاشر : أنّه مشتقّ من الإلهيّة. وهي القدرة على الاختراع ».

٢٥

يطلق على غيره حقيقةً ولا مجازاً ، قال تعالى :( هل تَعلَمُ لهُ سَميّاً ) (16) أي : هل تعلم أحداً يسمّى الله ؟ وقيل : سميّاً أي : مثلاً وشبيهاً.

ح : أنّ هذا الاسم الشريف دالّ على الذات المقدّسة الموصوفة بجميع الكمالات ، حتى لا يشذّ به شيء ، وباقي أسمائه تعالى لا تدلّ آحادها إلاّ على آحاد المعاني ، كالقادر على القدرة والعالم على العلم. أو فعل منسوب إلى الذات ، مثل قولنا : الرحمن ، فإنّه اسم للذات مع اعتبار الرحمة ، وكذا الرحيم والعليم. والخالق : اسم للذات مع اعتبار وصف وجودي خارجي. والقدّوس : اسم للذات مع وصف سلبي ، أعني التقديس الذي هو التطهير عن النقائص. والباقي : اسم اللذات مع نسبة وإضافة ، أعني البقاء ، وهو نسبة بين الوجود والأزمنة ، إذ هو استمرار الوجود في الأزمنة. والأبديّ : هو المستمرّ في جميع الأزمنة ، فالباقي أعمّ منه. والأزلي : هو الذي قارن وجوده جميع الأزمنة الماضية المحقّقة والمقدّرة. فهذه الاعتبارات تكاد تأتي على الأسماء الحسنى بحسب الضبط(17) .

ط : أنّه اسم غير صفة ، بخلاف سائر أسمائه تعالى ، فإنها تقع صفات ، أمّا أنّه اسم غير صفة ، فلأنّك تصف ولا تصف به ، فتقول : إله واحد ، ولا تقول : شيء إله ، وأمّا وقوع ما عداه من أسمائه الحسنى صفات ، فلأنّه يقال : شيء قادر وعالم وحيّ إلى غير ذلك.

ي : أن جميع أسمائه الحسنى يتسمّى بهذا الاسم ولا يتسمّى هو بشيء منها ، فلا يقال : الله اسم من أسماء الصبور أو الرحيم أو الشكور ، ولكن يقال : الصبور اسم من أسماء الله تعالى.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّه قد قيل : إنّ هذا الاسم المقدّس هو الاسم الأعظم. قال ابن فهد في عدّته : وهذا القول قريب جداً ، لأنّ الوارد في هذا المعنى

__________________

(16) مريم 19 : 65.

(17) القواعد والفوائد 2: 166.

٢٦

كثيراً(18) .

ورأيت في كتاب الدرّ المنتظم في السرّ الأعظم ، للشيخ محمد بن طلحة بن محمد ابن الحسين(19) : أنّ هذا الاسم المقدّس يدلّ على الأسماء الحسنى كلّها التي هي تسعة وتسعون اسماً ، لأنك إذا قسمت الاسم المقدّس في علم الحروف على قسمين كان كلّ قسم ثلاثة وثلاثين ، فتضرب الثلاثة والثلاثين في حروف الاسم المقدّس بعد إسقاط المكرر وهي ثلاثة تكون عدد الأسماء الحسنى ، وذكر أمثلة اُخر في هذا المعنى تركناها اختصاراً(20) .

ورأيت في كتاب مشارق الأنوار وحقائق الأسرار ، للشيخ رجب بن محمد بن رجب الحافظ(21) : أن هذا الاسم المقدس أربعة أحرف ـ الله ـ فإذا وقفت على الأشياء عرفت أنها منه وبه وإليه وعنه ، فإذ أُخذ منه الألف بقي لله ، ولله كلّ شيء ، فإن اُخذ اللام وترك الألف بقي إله ، وهو إله كلّ شيء ، وإن اُخذ

__________________

(18) عدّة الداعي : 50.

(19) أبو سالم محمد بن طلحة بن محمد بن الحسن القرشي الشافعي ، له عدّة مصنفات ، منها : الدرّ المنظم في السرّ الأعظم أو الدرّ المنظم في اسم الله الأعظم ، مات سنة ( 652 ه‍ ).

شذرات الذهب 5 : 259 ، أعلام الزركلي 6 : 175.

علماً بأنّ في (ر) و (ب) و (م) ذكر : الدرّ المنتظم وفي مصادر الترجمة : الدر المنظم ، وكذا ذكر في (ر) و (ب) : محمد بن طلحة بن محمد بن الحسين ، وفي المصادر : ابن الحسن ، فتأمّل.

(20) في حاشية (ر) : « منها : أنك إذا جمعت من الاسم المقدّس طرفيه ، وقسّمت عددهما على حروفه الأربعة ، وضربت ما يخرج القسمة فيما له من العدد في علم الحروف ، يكون عدد الأسماء الحسنى. وبيانه : أن تأخذ الألف والهاء وهما بستة ، وتقسِّمها على حروف الأربعة ، يقوم لكل حرف واحد ونصف ، فتضربة به فيما للإسم المقدّس من العدد وهو ستة وستين ، تبلغ تسعة وتسعين عدد الأسماء الحسنى. منهرحمه‌الله ».

(21) رضي الدين رجب بن محمد بن رجب البرسي الحلي المعروف بالحافظ ، من متأخّري علماء الإمامية ، كان ماهراً في أكثر العلوم ، له يد طولى في علم أسرار الحروف والأعداد ونحوها ، وقد أبدع في كتبه حيث استخرج أسامي النبي والأئمةعليهم‌السلام من الآيات ونحو ذلك من غرائب الفوائد وأسرار الحروف ، له أشعار لم يرعين الزمان مثلها في مدح أهل البيتعليهم‌السلام ، من مصنافته : مشارق أنوار اليقين في كشف حقائق أسرار أمير المؤمنين ، توفي في حدود سنة ( 813 ه‍ ).

رياض العلماء 2 : 304 ، الكُنى والألقاب 2 : 148 ، أعيان الشيعة 6 : 46.

٢٧

الألف من إله بقي له ، وله كلّ شيء ، فإن اُخذ من له اللام بقي هو ، وهو هو وحده لا شريك له ، وهو لفظ يوصل إلى ينبوع العزة ، ولفظ هو مركب من حرفين ، والهاء أصل الواو ، فهو حرف واحد يدل على الواحد الحق ، والهاء أول المخارج والواو أخرها ، فهو الأول والآخر والظاهر والباطن(22) .

ولمّا كان الاسم المقدّس الأقدس أرفع أسماء الله تعالى شأناً وأعلاها مكاناً ، وكان لكمالها جمالاً ولجمالها كمالاً ، خرجنا فيه بالإسهاب عن مناسبة الكتاب ، والله الموفّق للصواب.

الرحمن الرحيم :

قال الشهيدرحمه‌الله : هما اسمان للمبالغة من رحم ، كغضبان من غضب وعليم من علم ، والرحمة لغة : رقّة القلب وانعطاف يقتضي التفضل والإحسان ، ومنه : الرحم ، لانعطافها على ما فيها ، وأسماء الله تعالى إنّما تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادئ التي هي انفعال(23) (24) .

وقال صاحب العدّة : الرحمن الرحيم مشتقّان من الرحمة وهي النعمة ،

__________________

(22) مشارق الأنوار : 32 ـ 33 ، وفيه : « والقرآن له ظاهر وباطن ، ومعانيه منحصرة في أربع أقسام ، وهي أربع أحرف وعنها ظهر باقي الكلام ، وهي ( أل‍ ل‍ ه ) ، والألف واللام منه آلة التعريف ، فإذا وضعت على الأشياء عرفتها أنّها منه وله ، وإذا اُخذ منه الألف بقي لله ، ولله كل شيء ، وإذا اُخذ منه ( ل‍ ) بقي إله ، وهو إله كلّ شيء ، وإذا اُخذ منه الألف واللام بقي له ، وله كلّ شيء ، وإذا اُخذ الألف واللامان بقي هو ، وهو هو وحده لا شريك له. والعارفون يشهدون من الألف ويهيمنون من اللام ويصلون من الهاء. والألف من هذا الاسم إشارة إلى الهويّة التي لا شيء قبلها ولا بعدها وله الروح ، واللام وسطاً وهو إشارة إلى أنّ الخلق منه وبه وإليه وعنه ، وله العقل وهو الأول والآخر ، وذلك لأنّ الألف صورة واحدة في الخطّ وفي الهجاء ».

(23) القواعد والفوائد 2 : 166 ـ 167.

(24) في هامش (ر) : « وقال السيد المرتضى : ليست الرحمة عبارة عن رقّة القلب والشفقة ، وإنّما هي عبارة عن الفضل والإنعام وضروب الإحسان ، فعلى هذا يكون إطلاق لفظ الرحمة عليه تعالى حقيقة وعلى الأول مجاز. منهرحمه‌الله تعالى ».

٢٨

ومنه :( وما أرسلناك إلاّ رحمّة للعالمينّ ) (25) أي : نعمة ، ويقال للقرآن رحمة وللغيث رحمة ، أي : نعمة ، وقد يتسمّى بالرحيم غيره تعالى ولا يتسمّى بالرحمن سواه ، لأن الرحمن هو الذي يقدر على كشف الضر والبلوى ، ويقال لرقيق القلب من الخلق : رحيم ، لكثرة وجود الرحمة منه بسبب الرقة ، وأقلها الدعاء للمرحوم والتوجع له ، وليست في حقّه تعالى كذلك ، بل معناها إيجاد النعمة للمرحوم وكشف البلوى عنه ، فالحدّ الشامل أن تقول : هي التخلص من أقسام الآفات ، وإيصال الخيرات إلى أرباب الحاجات(26) .

وفي كتاب الرسالة الواضحة(27) : أنّ الرحمن الرحيم من أبنية المبالغة ، إلاّ أنّ فعلان أبلغ من فعيل ، ثم هذه المبالغة قد توجد تارة باعتبار الكمّية ، واُخرى باعتبار الكيفية :

فعلى الأول قيل : يا رحمن الدنيا ـ لأنّه يعمّ المؤمن والكافر ـ ورحيم الآخرة لأنه يخص الرحمة بالمؤمنين ، لقوله تعالى :( وكان بالمؤمنين رحيماً ) (28) .

وعلى الثاني قيل : يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا ، لأنّ النعم الاُخروية كلّها جسام ، وأمّا النعم الدنيوية فجليلة وحقيرة.

وعن الصادقعليه‌السلام : الرحمن اسم خاصّ بصفة عامة ، والرحيم اسم عامّ بصفة خاصة(29) .

وعن أبي عبيدة(30) : الرحمن ذو الرحمة ، والرحيم الراحم ، وكرر لضرب

__________________

(25) الأنبياء 21 : 107.

(26) عدّة الداعي : 303 ـ 304 ، باختلاف.

(27) الرسالة الواضحة في تفسير سورة الفاتحة ، للمصنف الشيخ علي بن إبراهيم الكفعمي : مخطوطة.

(28) الأحزاب 33 : 43.

(29) مجمع البيان 1 : 21.

(30) أبو عبيدة معمّر بن المثنى البصري النحوي اللغوي ، أول من صنّف غريب الحديث ، وكان أبو نؤاس الشاعر يتعلّم منه ويصفه ويذمّ الأصمعي ، له عدّة مصنفات ، منها : مجاز القرآن الكريم وغريب القرآن ومعاني القرآن ، مات سنة ( 209 ه‍ ) وقيل غير ذلك.

وفيات الأعيان 5 : 235 ، الكنى والألقاب 1 : 116.

٢٩

من التأكيد(31) .

وعن السيد المرتضى(32) رحمه‌الله : أن الرحمن مشترك فيه اللغة العربية والعبرانية والسريانية ، والرحيم مختصّ بالعربية.

قال الطبرسي(33) : وإنّما قدّم الرحمن على الرحيم ، لأن الرحمن بمنزلة الاسم العلم ، من حيث أنه لا يوصف به إلاّ الله تعالى ، ولهذا جمع بينهما تعالى في قوله :( قلِ ادعوا اللهَ أو ادعوا الرحمنَ ) (34) فوجب لذلك تقديمه على الرحيم ، لأنه يطلق عليه وعلى غيره(35) .

الملك :

التامّ الملك ، الجامع لأصناف المملوكات ، قاله البادرائي في جواهره.

__________________

(31) اُنظر : مجمع البيان 1 : 20.

(32) أبو القاسم علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام ، المشهور بالسيد المرتضى ، جمع من العلوم ما لم يجمعه أحد وحاز من الفضائل ما تفرّد به وتوحّد وأجمع على فضله المخالف والمؤالف ، كيف لا وقد أخذ من المجد طرفيه واكتسى بثوبيه وتردّى ببرديه ، روى عن جماعة عديدة من العامة والخاصة منهم الشيخ المفيد والحسين بن علي بن بابويه أخي الصدوق والتلعكبري ، روى عنه جماعة كثيرة من العامة والخاصة منهم : أبو يعلى سلار وأبو الصلاح الحلبي وأبو يعلى الكراجكي ومن العامة : الخطيب البغدادي والقاضي بن قدامة ، له عدّة مصنفات مشهورة ، منها الشافي في الإمامة لم يصنّف مثله والذخيرة ، توفي سنة ( 433 ه‍ ) وقيل ( 436 ه‍ ).

وفيات الأعيان 3 : 313 ، رياض العلماء 4 : 14، الكنى والألقاب 2 : 439.

(33) أبو علي الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي المشهدي ، من أكابر مجتهدي علمائنا ، يروي عن الشيخ أبي علي بن الشيخ الطوسي وغيره ، يروي عنه ولده الحسن وابن شهرآشوب والشيخ منتجب الدين وغيرهم ، له عدة مصنفات ، منها : مجمع البيان لعلوم القرآن ، وهو تفسير لم يعمل مثله عيّن كل سورة أنّها مكّية أو مدنية ثم يذكر مواضع الاختلاف في القراءة ثم يذكر اللغة والعربية ثم يذكر الإعراب ثم الأسباب والنزول ثم المعنى والتأويل والأحكام والقصص ثم يذكر انتظام الآيات ، توفي سنة ( 548 ه‍ ) في سبزوار وحمل نعشه إلى المشهد الرضوي ودفن في مغتسل الرضاعليه‌السلام وقبره مزار.

رياض العلماء 4 : 340 ، الكنى والألقاب 2 : 403 ، الذريعة 20 : 24.

(34) الإسراء 17 : 110.

(35) مجمع البيان 1 : 21 ، باختلاف.

٣٠

وقال الشهيد : الملك المتصرف بالأمر والنهي في المأمورين ، أو الذي يستغني في ذاته وصفاته عن كل موجود ، ويحتاج إليه كلّ موجود في ذاته وصفاته(36) .

والملكوت : ملك الله ، زيدت فيه التاء كما زيدت في رهبوت ورحموت ، من الرهبة والرحمة.

القدوس :

فعول من القدس وهو الطهارة ، فالقدّوس : الطاهر من العيوب المنزّه عن الأضداد والأنداد ، والتقديس : التطهير ، وقوله تعالى حكاية عن الملائكة :( ونحنُ نسبّحُ بحمدكَ ونقدّسُ لكَ ) (37) أي : ننسبك إلى الطهارة.

وسمّي بيت المقدس بذلك ، لأنه المكان الذي يتطهر فيه من الذنوب. وقيل للجنة : حظيرة القدس ، لأنها موضع الطهارة من الأدناس والآفات التي تكون في الدنيا.

السلام :

معناه ذو السلامة ، أي : سلم في ذاته عن كل عيب ، وفي صفاته عن كل نقص وآفة تلحق المخلوقين ، والسلام مصدر وصف به تعالى للمبالغة. وقيل : معناه المسلم ، لأن السلامة تنال من قبله.

وقوله :( لهم دارُ السلام ) (38) يجوز أن تكون مضافة إليه تعالى ، ويجوز أن يكون تعالى قد سمّى الجنة سلاماً ، لأن الصائر إليها يسلم من كلّ آفة.

* * *

__________________

(36) القواعد والفوائد 2 : 167.

(37) البقرة 2 : 30.

(38) الأنعام 6 : 127.

٣١

المؤمن :

المصدّق ، لأن الإيمان في اللغة التصديق ، ويحتمل ذلك وجهان :

أ : أنّه يصدق عبادّه وعده ، ويفي لهم بما ضمنه لهم.

ب : أنّه يصدق ظنون عباده المؤمنين ولا يخيّب آمالهم ، قاله البادرائي.

وعن الصادقعليه‌السلام : سمّي تعالى مؤمناً ، لأنه يؤمن عذابه من أطاعه(39) .

وفي الصحاح(40) : الله تعالى مؤمن ، وهو : الذي آمن عباده ظلمه(41) .

المهيمن :

قال العزيزي(42) في غريبه والشهيد في قواعده : هو القائم على خلقه بأعمالهم وآجالهم وأرزاقهم(43) .

وقال صاحب العدّة : المهيمن : الشاهد ، ومنه قوله تعالى :( ومهيمناً عليه ) (44) أي : شاهداً ، فهو تعالى الشاهد على خلقه بما يكون منهم من قول أو فعل ، وقيل : هو الرقيب على الشيء والحافظ له ، وقيل : هو الأمين(45) .

__________________

(39) التوحيد : 205.

(40) كتاب الصحاح لأبي نصر إسماعيل بن حمّاد الجوهري الفارابي ، ابن اُخت أبي إسحاق الفارابي صاحب ديوان الأدب ، له عدّة مصنّفات ، منها : هذا الكتاب ـ الصحاح ـ وهو أحسن من الجمهرة وأوقع من التهذيب وأقرب متناولاً من مجمل اللغة ، مات سنة ( 393 ه‍ ).

يتيمة الدهر 4 : 468 ، معجم الاُدباء 5 : 151، النجوم الزاهرة 4 : 207.

(41) الصحاح 5 : 2071 ، أمن.

(42) أبو بكر محمد بن عزيز السجستاني العزيزي. اشتهر بكتابه غريب القرآن ، وهو على حروف المعجم صنّفه في (15) سنة ، مات سنة ( 330 ه‍ ).

أعلام الزركلي 6 : 268.

(43) غريب القرآن ـ نزهة القلوب ـ : 209 ، القواعد والفوائد 2 : 167.

(44) المائدة 5 : 48.

(45) عدّة الداعي : 304 ـ 305 ، باختلاف.

٣٢

وإلى القول الأوسط ذهب الجوهري ، فقال : المهيمن الشاهد ، وهو من آمن غيره من الخوف(46) .

قلت : إنّما كان المهيمن من آمن ، لأن أصل مهيمن مؤيمن ، فقلبت الهمزة هاء لقرب مخرجهما ، كما في هرقت الماء وأرقته ، وإيهاب وهيهات ، وإبرية وهبرية للخزاز الذي في الرأس ، وقرأ أبو السرائر الغنوي(47) : هياك نعبد وهياك نستعين(48) .

قال الشاعر :

وهياك والأمر الذي إن توسعت

موارده ضاقت عليك مصادره

العزيز :

الغالب القاهر ، أو ما يمتنع الوصول إليه ، قاله الشهيد في قواعده(49) .

وقال الشيخ علي بن يوسف بن عبد الجليل(50) في كتابه منتهى السّؤول في شرح الفصول : العزيز هو الحظير الذي يقلّ وجود مثله ، وتشتدّ الحاجة إليه ، ويصعب الوصول إليه ، فليس العزيز المطلق إلاّ هو تعالى.

وقال صاحب العدّة : العزيز المنيع الذي لا يُغلب ، ويقال : من عزّ بزّ ،

__________________

(46) الصحاح 6 : 2217 ، همن.

(47) كذا ، ولم أجد هذا الاسم في كتب التراجم.

(48) قال الزمخشري في الكشّاف 1 : 62 : « وقرئ إياك بتخفيف الياء واياك بفتح الهمزة والتشديد وهياك بقلب الهمزة هاء ».

قال طفيل الغنوي :

فهياك والأمر الذي ان تراحبت موارده ضاقت عليك مصادره.

(49) القواعد والفوائد 2 : 167.

(50) ظهير الدين علي بن يوسف بن عبد الجليل النيلي ، عالم فاضل كامل ، من أجلة متكلمي الإمامية وفقهائهم ، يروي عن الشيخ فخر الدين ولد العلاّمة ، يروى عنه ابن فهد الحلي ، له عدة مصنفات ، منها : منتهى السّؤول في شرح الفصول ، وهو شرح على فصول خواجه نصير الدين الطوسي في اُصول الدين ، وهو شرحُ بالقول يعني قوله قوله.

رياض العلماء 4 : 293 ، الذريعة 23 : 10.

٣٣

أي : من غلب سلب ، ومنه قوله تعالى :( وعزّني في الخطابِ ) (51) أي : غلبني في محاورة الكلام ، وقد يقال العزيز للملك ، ومنه قوله تعالى :( يا أيها العزيزُ ) (52) أي : يا أيها الملك(53) .

والعزيز أيضاً : الذي لا يعادله شيء ، والذي لا مثل له ولا نظير.

الجبار :

القهار ، أو المتكبر ، أو المتسلّط ، أو الذي جبر مفاقر الخلق وكفاهم أسباب المعاش والرزق ، أو الذي تنفذ مشيته على سبيل الإجبار في كل أحد ولا تنفذ فيه مشية أحد. ويقال : الجبّار العالي فوق خلقه ، ويقال للنخل الذي طال وفات اليد : جبّار.

المتكبّر :

ذو الكبرياء ، وهو : الملك ، أو ما يرى الملك حقيراً بالنسبة إلى عظمته ، قاله الشهيد(54) .

وقال صاحب العدّة : المتكبّر المتعالي عن صفات الخلق ، ويقال : المتكبّر على عتاة خلقه ، وهو مأخوذ من الكبرياء ، وهم اسم التكبّر والتعظّم(55) .

الخالق :

هو المبدئ للخلق والمخترع لهم على غير مثال سبق ، قاله البادرائي في جواهره.

__________________

(51) ص 38 : 23.

(52) يوسف 12 : 78 ، 88.

(53) عدّة الداعي : 305.

(54) القواعد والفوائد 2 : 167.

(55) عدّة الداعي : 305 ، باختلاف.

٣٤

وقال الشهيد : الخالق ، المقدّر(56) .

قلت : وهو حسن ، إذ قد يراد بالخلق التقدير ، ومنه قوله تعالى :( إنّي أخلقُ لكم منَ الطينِ كهيئةِ الطيرِ ) (57) أي : اُقدّر.

البارئ :

الخالق ، والبرية : الخلق ، وبارئ البرايا أي : خالق الخلائق.

المصوّر :

الذي أنشأ خلقه على صور مختلفه ليتعارفوا بها ، قال تعالى :( وصوّركم فأحسنَ صوَركُم ) (58) .

وقال الغزّالي في تفسير أسماء الله تعالى الحسنى : قد يظنّ أنّ الخالق والبارئ والمصور ألفاظ مترادفة ، وأن الكلّ يرجع إلى الخلق والاختراع ، وليست كذلك ، بل كل ما يخرج من العدم إلى الوجود مفتقر إلى تقديره أولاً ، وإلى إيجاده على وفق التقدير ثانياً ، وإلى التصوير بعد الإيجاد ثالثاً ، والله تعالى خالق من حيث أنّه مقدر ، وبارئ من حيث أنه مخترع موجد ، ومصوّر من حيث أنه مرتب صور المخترعات أحسن ترتيب. وهذا كالبناء مثلاً ، فإنه يحتاج إلى مقدّر يقدّر ما لابدّ منه : من الخشب ، واللبن ، ومساحة الأرض ، وعدد الأبنية وطولها وعرضها ، وهذا يتولاّه المهندس فيرسمه ويصوّره ، ثم يحتاج إلى بنّاء يتولّى الأعمال التي عندها تحدث اُصول الأبنية ، ثم يحتاج إلى مزيّن ينقش ظاهره ويزيّن صورته ، فيتولاه غير البناء. هذه هي العادة في التقدير في البناء والتصوير ، وليس كذلك في أفعاله تعالى ، بل هو المقدّر والموجد والصانع ، فهو الخالق والبارئ والمصور(59) .

__________________

(56) القواعد والفوائد 2 : 167.

(57) آل عمران 3 : 49.

(58) غافر 40 : 64 ، التغابن 64 : 3.

(59) المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى : 18.

٣٥

الغفّار :

هو الذي أظهر الجميل وستر القبيح ، قاله الشهيد(60) .

وقال البادرائي : هو الذي يغفر ذنوب عباده ، وكلّما تكررت التوبة من المذنب تكررت منه تعالى المغفرة ، لقوله :( وإني لغفّارٌ لِمن تابَ ) (61) الآية. والغفر في اللغة : الستر والتغطية ، فالغفّار : الستّار لذنوب عباده.

القهّار القاهر :

بمعنى ، وهو : الذي قهر الجبابرة وقهر العباد بالموت ، غير أنّ قهّار وغفّار وجبّار ووهّاب ورزّاق وفتاح ونحو ذلك من أبنية المبالغة ، لأنّ العرب قد بنت مثال من كرر الفعل على فعّال ، ولهذا يقولون لكثير السؤال : سأّال وسأّالة.

قال :

سَأّالةٌ للفتى ما ليس في يده

ذهّابة بعقول القوم والمالي

وكذا ما بني على فعلان وفعيل كرحمن ورحيم ، إلاّ أن فعلان أبلغ من فعيل. وبنت مثال من بالغ في الأمر وكان قوياً عليه على فعول ، كصبور وشكور. وبنت مثال من فعل الشيء مرّة على فاعل ، نحو سائل وقاتل. وبنت مثال من اعتاد الفعل على مِفعال ، مثل امرأة مذكار إذا كان من عادتها أن تلد الذكور ، ومئناث إذا كان من عادتها أن تلد الإناث ، ومعقاب إذا كان من عادتها أن تلد نوبة ذكراً ونوبة اُنثى ، ورجل منعال ومفضال إذا كان ذلك من عادته.

الوهّاب :

هو من أبنية المبالغة كما مرّ آنفاً ، وهو الذي يجود بالعطايا التي لا تفنى ، وكّل من وهب شيئاً من أعراض الدنيا فهو واهب ولا يسمّى وهّاباً ، بل الوهّاب

__________________

(60) القواعد والفوائد 2 : 168.

(61) طه 20 : 82.

٣٦

من تصرّفت مواهبه في أنواع العطايا ودامت ، والمخلوقون إنّما يملكون أن يهبوا مالاً أو نوالاً في حال دون حال ، ولا يملكون أن يهبوا شفاء لسقيم ولا ولداً لعقيم ، قاله البادرائي.

وقال صاحب العدّة : الوّهاب الكثير الهبة ، والمفضال في العطية(62) .

وقال الشهيد : الوهّاب المعطي كل ما يحتاج إليه لكلّ من يحتاج إليه(63) .

الرزّاق الرازق :

بمعنى ، وهو : خالق الأرزقة والمرتزقة والمتكفّل بإيصالها لكلّ نفس ، من مؤمن وكافر ، غير أنّ في الرزّاق المبالغة.

الفتاح :

الحاكم بين عباده ، وفتح الحاكم بين الخصمين : إذا قضى بينهما ، ومنه :( ربّنا افتح بيننا وبينَ قومنا بالحقِ ) (64) أي : احكم.

وهو أيضاً الذي يفتح أبواب الرزق والرحمة لعباده ، وهو الذي بعنايته ينفتح كل مغلق.

العليم :

العالم بالسرائر والخفيات وتفاصيل المعلومات قبل حدوثها وبعد وجودها(65) .

__________________

(62) عدّة الداعي : 311.

(63) القواعد والفوائد 2 : 68.

(64) الأعراف 7 : 89.

(65) في هامش (ر) : « والعليم مبالغة في العالم ، لأنّ قولنا : عالم ، يفيد أنّ له معلوماً ، كما أنّ قولنا : سامع ، يفيد أنّ له مسموعاً ، وإذا وصفناه بأنّه عليم أفاد أنّه متى صحّ معلوم فهو عالم به ، كما أنّ سميعاً يفيد

٣٧

القابض الباسط :

هوالذي يوسع الرزق ويقدره بحسب الحكمة.

ويحسن القران بين هذين الاسمين ونظائرهما ـ كالخافض والرافع ، والمعزّ والمذلّ ، والضارّ والنافع ، والمبدئ والمعيد ، والمحيي والمميت ، والمقدّم والمؤخّر ، والأول ، والآخر ، والظاهر والباطن ـ لأنّه أنبأ عن القدرة ، وأدلّ على الحكمة ، قال الله تعالى :( واللهُ يقبضُ ويبسطُ ) (66) فإذا ذكرت القابض مفرداً عن الباسط كنت كأنك قد قصرت الصفة على المنع والحرمان ، وإذا وصلت أحدهما بالآخر فقد جمعت بين الصفتين. فالأولى لمن وقف بحسن الأدب بين يدي الله تعالى أن لا يفرد كلّ اسم عن مقابله ، لما فيه من الإعراب عن وجه الحكمة.

الخافض الرافع :

هو الذي يخفض الكفار بالإشقاء ويرفع المؤمنين بالاسعاد. وقوله :( خافضةُ رافعةٌ ) (67) أي : تخفض أقواماً إلى النار وترفع أقواماً إلى الجنة ، يعني : القيامة.

المعزّ المذلّ :

الذي يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممّن يشاء ، أو الذي أعزّ بالطاعة أولياءه ، فأظهرهم على أعدائه في الدنيا وأحلّهم دار الكرامة في العقبى ، وأذل أهل

__________________

أنّه متى وجد مسموع فلابدّ أن يكون سامعاً له ، والعلوم كلّها من جهته تعالى ، لأنّها لا تخلو من أن تكون ضرورية فهو الذي فعلها ، أو استدلالية فهو الذي أقام الأدلة عليها ، فلا علم لأحد إلاّ الله تعالى. منهرحمه‌الله ».

(66) البقرة 2 : 245.

(67) الواقعة 56 : 3.

٣٨

الكفر في الدنيا ، بأن ضربهم بالرق والجزية والصغار ، وفي الآخرة بالخلود في النار(68) .

السميع :

بمعنى السامع ، يسمع السّر والنجوى ، سواء عنده الجهر والخفوت والنطق والسكوت. وقد يكون السميع بمعنى القبول والإجابة ، ومنه قول المصلّي : سمع الله لمن حمده ، معناه : قبل الله حمد من حمده واستجاب له. وقيل : السميع العليم بالمسوعات ، وهي : الأصوات والحروف.

البصير :

العالم بالخفيّات ، وقيل : العالم بالمبصرات.

وفي عبارة الشهيد ،السميع : الذي لا يعزب عن إداركه مسموع خفيّ أو ظاهر ، والبصير : الذي لا يعزب عنه ما تحت الثرى ، ومرجعهما إلى العلم ، لتعاليه سبحانه عن الحاسّة والمعاني القديمة(69) .

الحَكَم :

هو الحاكم الذي سلّم له الحكم ، وسمّي الحاكم حاكماً لمنعه الناس من التظالم(70) .

__________________

(68) في هامش (ر) : « وقيل يعزّ المؤمن بتعظيمه والثناء عليه ، ويذلّ الكافر بالجزية والسبي ، وهو سبحانه وإن أفقر أولياءه وابتلاهم في الدنيا ، فإنّ ذلك ليس على سبيل الإذلال ، بل ليكرمهم بذلك في الآخرة ، ويحلّهم غاية الإغزاز والإجلال ، ذكر ذلك الكفعمي في كتابه جُنّة الأمان الواقية. منهرحمه‌الله ».

انظر : جُنّة الأمان الواقية ـ المصباح ـ : 322.

(69) القواعد والفوائد 2 : 168.

(70) في هامش (ر) : « قلت : ومن ذلك اُخذ معنى الحكمة ، لأنّها تمنع من الجهل. وحكمة الدابة ما أحاط بالحنك ، سمّيت بذلك لمنعها من الجماح ، وحكمت السفيه وأحكمته إذا أخذت على يده

٣٩

العدل :

أي : ذو العدل ، وهو مصدر اُقيم مقام الأصل ، وحفّ به تعالى للمبالغة لكثرة عدله. والعدل : هو الذي يجوز في الحكم ، ورجل عدل وقوم عدل وامرأة عدل ، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث.

اللطيف :

العالم بغوامض الأشياء ، ثم يوصلها إلى المستصلح برفق دون العنف ، أو البرّ بعباده الذي يوصل إليهم ما ينتفعون به في الدارين ويهيّئ لهم أسباب مصالحهم من حيث لا يحتسبون ، قاله الشهيد في قواعده(71) .

وقيل : اللطيف فاعل اللطف ، وهو ما يقرب معه العبد من الطاعة ويبعد من المعصية ، واللطف من الله التوفيق.

وفي كتاب التوحيد(72) عن الصادقعليه‌السلام : أنّ معنى اللطيف هو :

__________________

ومنعته مما أراد ، وحكمته أيضاً إذا فوّضت إليه الحكم ، وفي حديث النخعي : حكّم اليتيم كما تحكّم ولدك ، أي : امنعه من الفساد ، وقيل : أي حكّمه في ماله إذا صلح لذلك ، وفي الحديث : إنّ في الشعر لحكمة ، أي : من الشعر كلاماً نافعاً يمنع عن الجهل والسفه وينهى عنهما ، والحكم : الحكمة ، ومنه :( وآتيناه الحكم صبيّاً [ 19 : 12 ]) أي : الحكمة ، وقوله تعالى :( فوهب لي ربيّ حكماً [ 26 : 21 ]) أي : حكمة ، والصمت : حكم وقوله تعالى عن داودعليه‌السلام :( وآتيناه الحكمة [ 38 : 20 ]) قيل : هي الزبور ، وقيل : هي كلّ كلام وافق الحق ، والمحاكمة : المخاصمة إلى الحاكم ، من مغرب المطرزي ، وغريبي الهروي وصحاح الجوهري. منهرحمه‌الله ».

اُنظر : المغرب 1 : 133 حكم ، الصحاح 5 : 1901 حكم.

(71) القواعد والفوائد 2 : 170.

(72) كتاب التوحيد لأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي ، شيخ الحفظة ووجه الطائفة المستحفظة ، ولد بدعاء مولانا صاحب الأمر روحي له الفداء ، وصفه الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف في التوقيع الخارج من الناحية المقدّسة بأنّه : فقيه خيِّر مبارك ينفع الله به ، فعّمت بركته ببركة الإمام وانتفع به الخاصّ والعامّ ، له عدّة مصنفات ، منها : هذا الكتاب ـ التوحيد ـ توفي سنة ( 381 ه‍ ) بالري ، وقبره قرب قبر عبد العظيم الحسني معروف.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

الذي يوفِّر لنا طريقاً سهلاً، في معرفة التخطيط لو كان مُتوفِّراً،

إلى غير ذلك، ممَّا يحدونا إلى الكفكفة من غلواء البحث، والاقتصار في النتائج على مقدار الإمكان.

والكلام في ذلك يقع ضمن جهات ثلاث:

الجهة الأُولى: في الخصائص العامة للمجتمع الذي ينطلق منه التخطيط، وهو المجتمع العالمي الذي يتمُّ فيه حُكم الإمام المهدي (ع) وتطبيق العدل الكامل لأوَّل مرَّة.

وإزالة العوائق التي يُمكن أن تُشكِّل خطراً عليه، وليس معناه صياغة كل نفوس الأفراد صياغة إسلامية عادلة كاملة لأول وهْلَة.

إنَّ المهدي (ع) سيقتل عدداً كبيراً من الأفراد ممَّن فشل في التمحيص الموجود في التخطيط الإلهي السابق، وأصبح يُشكِّل خطراً على العدل الكامل في المجتمع الجديد، على ما سيأتي تفصيله... ولكن سيبقى مع ذلك عدَّة فجوات ونقاط ضعف في العالم - يكون على التخطيط الجديد بشكل عام، وعلى المهدي (ع) بشكل خاص، ملؤها وتذليل مصاعبها، ممَّا لا يؤثِّر فيه الفتح العسكري عادة -:

النقطة الأُولى: وجود أهل الذمَّة، وهم الشعوب التي تؤمِن بالأنبياء السابقين على الإسلام، وسيُسمح لها - بمقتضى القواعد الإسلامية المعروفة الآن - البقاء على دينها مع دفع الجزية... ويكون لها أن تدخل في دين الإسلام طواعية.

النقطة الثانية: وجود المذاهب المـُتعدِّدة من مُعتنقي الإسلام، ممَّن لا يُظهرون مُعارضةً للنظام الجديد.

النقطة الثالثة: نقص الثقافة الإسلامية العامة، بالنسبة إلى العالم الذي يواجه قوانين الإسلام لأول مرَّة، وهي الشعوب التي كانت كافرة قبل الظهور، ورضيت بالإسلام ديناً بعده.

النقطة الرابعة: نقص الثقافة الإسلامية العامة، في الأمَّة الإسلامية نفسها؛ نتيجة لبُعدها عن الإسلام في عصور الفتن والانحراف.

النقطة الخامسة: نقص الثقافة الإسلامية في الأمَّة خاصة وفي البشرية عامة،

١٠١

بالنسبة إلى القوانين الجديدة التي يُصدرها القائد المهدي (ع)، والأفكار العميقة التي يُعلنها، ريثما يتمُّ إعلانها وتوضيحها للناس.

النقطة السادسة: نقص الإخلاص وقوَّة الإرادة لدى الأعمِّ الأغلب من المسلمين، فإنَّ غاية ما تمخَّض عنه التخطيط الإلهي الأول، هو وجود الإخلاص العميق لدى جماعة من المسلمين، ولم يؤثِّر - بطبيعة الحال - نفس الأثر في مجموعهم، كيف وإنَّ الأرض امتلأت ظلماً وجوراً؟!

فهذه أهمُّ نقاط الضعف من الناحية الدينية، التي يزخر بها المجتمع الذي يواجهه المهدي (ع ) لأول وهْلَةٍ، وهي النقاط الأهمُّ تأثيراً في بناء الدولة العالمية، باعتبار ما عرفناه، من أنَّ الإسلام هو الأُطروحة العادلة الكاملة، التي يقوم الإمام المهدي (ع) بتطبيقها، والأُمَّة الإسلامية هي الأمَّة الرائدة في خِضَمِّ تلك الجهود البانية للدولة، فأيُّ صعوبة في هذه الأمَّة تعني الصعوبة في نيل الهدف أيضاً.

وأمَّا الصعوبات (الدنيوية) - لو صحَّ هذا التعبير - وأعني بها الصعوبات ونقاط الضعف الموجودة في الاتِّجاهات غير الدينية، وما أنتجته الناديَّة والعلمانيَّة من ويلات في العالم، فهي أكثر من أن تُذْكر أو تُحْصَر.

وإذ يواجه نظام الإمام المهدي (ع) كل هذه المصاعب، سيكون مسؤولاً عن اتِّخاذ الخطوات الحاسمة اللازمة لحلِّ كل مشكلة وتذليل كل عقبة، وسيكون على مستوى المسؤولية، بعد أن كان مُتدرِّعاً بالسلاح ومُتذرِّعاً بالإخلاص، ومُنطلقاً من الأطروحة العادلة الكاملة، ومُتَّصفاً بصفات شخصية عُلْيَا، حاولنا أن نحمل عنها فكرة في التاريخ السابق(١) الأمر الذي قلنا: إنَّه يُيسِّر له القيادة والتطبيق العادل في اليوم الموعود.

الجهة الثانية: يستهدف هذا التخطيط الثاني، الكمال الإنساني الأعلى للبشر، في الحدود المـُمكنة له على هذه الأرض، فهو يوفِّر الأرضية الكافية لتكامل الإنسان إلى غاية ما يمكن أن يحصل عليه من الكمال... حتى يكون بالتدريج البطيء في إمكان الفرد أن يكون معصوماً، وأن يتكامل في عصمته(٢) .

____________________

(١) انظر: من صفحة ٥٠٤ إلى ص٥٢٠.

(٢) أعني من العصمة ما يُسمَّى بـ (العصمة غير الواجبة)، وهي التي ينعدم فيها احتمال الظلم والعصيان دون الخطأ والنسيان، وسيأتي إيضاحه في الكتاب الآتي، وأمَّا التكامل فيما بعد العصمة، فقد برهنَّا من التاريخ السابق على إمكانه.

١٠٢

وليس معنى ذلك أنَّ البشر جميعاً يكونون لأول وهْلَة، على هذا المستوى العالي، بل معناه توفير الطريق لأن ينال كل فرد من هذا الهدف بمقدار قابليَّاته الشخصية، وبمقدار ما يؤدِّي من إطاعة وتضحيات في سبيل الحق والعدل.

وهو من هذه الناحية يُشبه ما رأيناه في التخطيط السابق على الظهور، فإنَّه كان يستهدف - فيما يستهدف إليه - تعميق الثقافة الإسلامية في الأمَّة(١) ، وتقوية الإرادة الإيمانية تجاه المشاكل، وقد رأينا كيف يأخذ الناس من هذه الأهداف بمقدار قابليَّاتهم ومقدار ما يؤدُّونه من تضحيات، وكيف يُنتج هذا التخطيط تكاملهم التدريجي البطيء.

غير أنَّ هذا التخطيط الجديد يختلف عن سابقه في نتيجته، فإنَّه بينما رأينا في التخطيط السابق أنَّه لم يتَّصف بالنجاح الحقيقي خلاله إلاَّ عدد قليل نسبيَّاً، فإنَّ هذا التخطيط الجديد سيشمل بالنجاح أكثر الأفراد، وسيصل في المدى البعيد كل الأفراد إلى المستوى المطلوب، بالتدريج البطيء.

وسيأتي في مستقبل هذا البحث أنَّ المجتمع البشري، نتيجة للتدابير الآتية التي تضعها الدولة العالمية، سيمرُّ بمرحلتين من العصمة:

المرحلة الأُولى: أن يكون الأفراد غير معصومين، ولكنَّ الرأي العام المـُتَّفق عليه بينهم معصوماً، وقد أشرنا في التاريخ السابق(٢) إلى ذلك مُختصراً، وسيأتي في مُستقبل البحث ما يزيده إيضاحاً.

المرحلة الثانية: أن يكون كل الأفراد معصومين... بتلك العصمة القائمة على أساس العدل الكامل مفاهيميَّاً وتشريعيَّاً، الذي كان ولا زال - في تلك الفترة - مُطبقَّاً منذ عهد بعيد، وسيأتي ما يوضِّح ذلك أيضاً.

الجهة الثالثة: في التعرُّف على تفاصيل التخطيط الإلهي العام لما بعد الظهور وأُسسه العامة بمقدار الإمكان، تلك التفاصيل والأُسس التي يُمكنها أن تُحوِّل المجتمع الذي عرفنا نقاط ضعفه في الجهة الأُولى، إلى الصفات الكبرى التي حملنا عنها فكرة كافية في الجهة الثانية.

____________________

(١) يسير هذا العُمق إلى جنب الشعور الديني... ومن هنا لم يكن وجود هذا العُمق في الثقافة الإسلامية لدى عدد كبير في الأُمَّة، مُنافياً مع وجود الضحالة من هذه الجهة لدى عدد كبير أيضاً، كما أشرنا غير بعيد، في النقطة الثالثة من نقاط الضعف.

(٢) تاريخ الغيبة الكبرى ص٤٨١.

١٠٣

ونحن إذ نتحدَّث عن هذه الأُسس، إنَّما نتحدَّث عمَّا يمكن أن يكون كذلك في الفترة الأُولى للدولة العالمية، وهي التي تسبق المجتكع المعصوم بكلا قسميه، فإنَّ هذا أقرب إلى إمكان التعرُّف عليه من تلك المجتمعات العُلْيَا المـُتأخِّرة، فإنَّنا سبق أن أكَّدنا عجز الباحث عن إدراك العُمق الحقيقي للفكر والتشريع لما بعد الظهور، وهذا ثابت منذ تأسيس الدولة العالمية، فضلاً عن المجتمعات المعصومة.

إذاً؛ فليس لنا أن نعرف عن المجتمعات المعصومة شيئاً مُفصَّلاً.

وما يمكن لنا الآن تصوُّره ولإثباته بالقواعد العامة، من الأُسس لتلك الفترة. ما يلي:

الأساس الأول: تربية العالم ثقافياً من جهة الإسلام الواقعي، أو العدل الكامل الذي يقوم عليه نظام المهدي (ع) في دولته العالمية.

ويُعطي من ذلك لكل فرد ولكل شعب ما يحتاجه من أساليب التثقيف ومقداره، بشكل تدريجي وعلى مراحل، وكلَّما طويت مرحلة، استحقَّ الفرد أو الجماعة مرحلة جديدة من الثقافة.

فالشعوب غير المسلمة، سوف تُدْعى إلى الإسلام، وسوف يعتنقونه باقتناع وسهولة؛ نتيجة للأسباب التي سوف نذكرها بعد ذلك، وكل مَن أسلم من جديد أو هو مُسلم سلفاً سوف يُربَّى على الثقافة الإسلامية العامة الضرورية لوجود الطاعة والابتعاد عن المعصية، إن لم يكن قد نال ذلك نتيجة للتخطيط الإلهي السابق.

وكل مَن تربَّى إلى هذه الدرجة، فإنَّه يُعطى الثقافة التي تؤهِّله استيعاب الأفكار والمفاهيم والقوانين الجديدة التي تُعلن في ذلك العهد، طبقاً للمصالح الموجودة يومئذ.

ثمَّ يبدأ التصاعد والتكامل الثقافي من هذه الدرجة أيضاً، ويأخذ كل فرد من البشر من ذلك بقدر قابليَّاته وجهوده أيضاً.

ولئن كانت المراحل الأُولى والأُسس الرئيسية من هذا التثقيف، سيُنجزها الإمام المهدي (ع) بسهولة وسرعة، على ما سوف نسمع في هذا التاريخ، إلاَّ أنَّ المراحل المـُتأخِّرة التي تُعتبَر تفريعاً وتطبيقاً للأُسس، سوف تكون تدريجية وبطيئة، طبقاً لتربية كل أُمَّة.

الأساس الثاني: تربية البشرية من حيث الإخلاص وقوَّة الإرادة تجاه المسؤوليات الجديدة في دولة العدل.

ويكون الأُسلوب العام في ذلك مُشابهاً في الفكرة للأُسلوب الذي كان متَّخذاً في

١٠٤

التخطيط الأول، وهو مرور الفرد بمصاعب وعقبات تجاه العدل، ليرى موقفه منها وردَّ فعله تجاهها، فإن وقف موقفاً إسلامياً عادلاً كان ناجحاً في هذا التمحيص، وإلاَّ كان فاشلاً.

لكن يختلف سبب التمحيص في التخطيط السابق عنه في هذا التخطيط الجديد، فإنَّنا قلنا في التخطيط الأول: إنَّ ظروف الظلم والانحراف كافية في التمحيص، من حيثُ ردِّ الفعل الإسلامي الصحيح من الفرد تجاهها، وأمَّا التخطيط الثاني، فسوف لن يكون لعصور الظلم وظروف الفساد أيُّ أثر، وإنَّما ينبثق التمحيص في العهد الجديد من المسؤوليَّات التي يفرضها التمسُّك بالعدل الكامل وتطبيقه، والمحافظة على بقائه في علاقة الفرد مع نفسه ومع ربِّه ومع الآخرين ومع النظام القائم... تلك العلاقات التي يتوقَّع من الفرد خلالها ردَّ فعل إسلامي عادل كامل.

وسوف يكون التمحيص شاملاً لكل فرد بمقدار قابليَّاته وثقافته؛ لأنَّه يتناسب دائماً مع ارتفاع الثقافة تناسباً طردياً مُطِّرداً... إذ يقبح على الله عز وجل أن يوفِّر للفرد امتحاناً وتمحيصاً يكون الفرد فيه فاشلاً باليقين، فإنَّ ذلك خلاف العدل الإلهي، وإنَّما يكون التمحيص على مقدار الثقافة والقابلية دائماً، حتى ما إذا وصلت الثقافة قمَّة عالية، كان التمحيص في غاية الدقَّة والصعوبة، وكان النجاح المتوقَّع منها نجاحاً مناسباً لتلك المرتبة، والفشل الصادر فيها مُسجَّلاً بأدقِّ الموازين وبأهون العثرات.

وقد وردت في أخبار - المصادر الخاصة - نماذج التمحيصات التي يقوم بها المهدي (ع) في الفترة الأُولى من عهده، تجاه الأمَّة عامة، وتجاه أصحابه الخاصَّين ممَّن نجحوا في تمحيص التخطيط الأول خاصة، على ما سوف نعرف تفصيله في ما يأتي.

وقد يخطر في الذهن: إنَّه ما الحاجة إلى التمحيص في التخطيط الإلهي الجديد، وإنَّما كانت الحاجة في التخطيط السابق إلى التمحيص، لإيجاد العدد الكافي من أفراد الجيش الفاتح للعالم بين يدي المهدي (ع)، وقد أنْجَزَ هذا الجيش عمله وانتفت الحاجة إلى مثله، فلماذا يستمرُّ التمحيص ساري المفعول في البشر؟

وجواب ذلك: أنَّ ناموس الله في خلقه هو تربيتهم عن طريق التمحيص، كما دلَّ عليه الكتاب الكريم في عدد من آياته، والسنَّة الشريفة، منها، قوله تعالى:( مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ... ) (١) .

____________________

(١) آل عمران: ٣/١٧٩.

١٠٥

فإنَّه قانون عام لاختبار طاعة الأفراد في عصر ما قبل التمحيص... وهو كل عصر يواجه فيه الناس دعوة جديدة وتربية جديدة لم تُختبَر مواقفهم تجاهها، ولم تُعرَف ردود فعلهم حيال المشاكل التي تعترضها، فلا بدَّ أن تمرَّ الأُمَّة المسلمة خلال هذا القانون؛ ليكون له الأثر الفعَّال في تربية الأفراد وتعميق إخلاصهم وتقوية إرادتهم تجاه المشاكل، وبذلك يتميَّز الخبيث من الطيِّب، ويُعرف مَن يكون له موقف إسلامي صحيح تجاه المصاعب والعقبات، ومَن يكون ذا موقف مُنحرِف باطل، وهذا مَيْز واقعي بين الأفراد يمتُّ إلى اختلاف قابليَّاتهم ومُسبقاتهم الفكرية والعقلية والنفسية بصِلَةٍ... قبل أن يكون مُجرَّد انكشاف لدى الآخرين.

وقد سمعنا كيف أنَّ هذا القانون، كان شاملاً لدعوات الأنبياء السابقين على الإسلام، ومشاركاً في تربيتهم مشاركةً فعَّالةً، وقد شرحناه في التاريخ السابق(١) وقلنا(٢) : إنَّ الحاجة - مع ذلك - تعنُّ إلى سريان قانون التمحيص إلى ما بعد الإسلام؛ لتتربَّى البشرية طبقاً لمفاهيم وتشريع الأطروحة العادلة الكاملة.

وكما واجه المجتمع المؤمن دعوة جديدة في صدر الإسلام، فكان مُقتضى هذا القانون تمحيص الأفراد على أساسه، خلال تربية الأجيال تربية بطيئة وطويلة، وهذا هو التمحيص الساري في تخطيط ما قبل الظهور، كذلك سوف يواجه المجتمع المؤمن والبشرية جمعاء دعوةً إسلاميةً جديدةً، بعد اندراس الإسلام وعوده غريباً، أو نسيان وعصيان الكثير من أحكامه، وسيواجه في هذه الدعوة الجديدة نظاماً وقوانين ومفاهيم، لم يكن له بها سابق عهد مضافاً إلى القواعد الإسلامية السابقة.

ومن هنا يكون المجتمع بالنسبة إلى هذه الدعوة الجديدة، مجتمع ما قبل التمحيص، ويحتاج بمقتضى هذا القانون الشامل إلى أن يمرَّ بعصر التمحيص خلال تربية طويلة وبطيئة، لتتميَّز مواقف الناس تجاه النظام الجديد والدعوات الجديدة، ويأخذ كل فرد على قدر قابليَّاته وجهوده من النجاح والتكامل خلال التمحيص، ما يستطيع.

وبينما كان التمحيص السابق يُنتج فشل الأعم الأغلب من البشر - كما عرفنا - فإنَّ هذا التمحيص وبصفته مُدعَماً بالأُسس، التي سنعرفها، ينتج نجاح الأعم الأغلب من البشر، وسيكون النجاح مُطِّرداً، حتى تصل البشرية في النتيجة إلى المجتمع المعصوم.

____________________

(١) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص٢٥٥ وما بعدها.

(٢) المصدر السابق ص٢٦٦

١٠٦

الأساس الثالث للتخطيط الجديد: توفير جوٍّ من السعادة والرفاه المادِّي المـُتزايد، تحت جوٍّ من الأُخوَّة والتضامن والعدل الكامل، بأساليب مُعيَّنة، ستأتي في القسم الثاني الآتي من الكتاب.

والأساس النظري لإيجاد هذا الرفاه، ليس هو مُجرَّد نيل اللَّذَّة؛ لأنَّها مهما كانت مُهمَّةً، فإنَّها لا تكفي وحدها للسير بالبشرية نحو هدفها المقصود النهائي... وإنَّما يلاحظ الرفاه المادِّي بمقدار ما يستطيع أن يؤثِّر في ذلك الهدف البعيد ويُربِّي البشرية باتِّجاهه.

وذلك من زاوية أنَّ الرفاه المادِّي مُتناسباً مُطَّرداً مع توفير الجوِّ الكافي لذلك، ولا يمكن أن يكون عائقاً عنه، بعد أن يتشرَّب الناس ذلك الأساس النظري، وهو ملاحظة الرفاه بصفته طريقاً نحو الهدف، لا أنَّه بنفسه الهدف، ومن ثمَّ ستكون زيادة الرفاه مؤيِّدة لتركيز التربية وترسيخ العدل، ومن ثمَّ المـُشاركة في بناء ذلك الهدف.

وهذا هو المؤدِّى الحقيقي لما سمعناه من الأخبار في فصل سابق، من كثرة المال في عهد الإمام المهدي (ع)، وأنَّه يُقسِّم المال ولا يَعدُّه... تلك الأخبار المرويَّة من قِبل الفريقين، وقد سمعنا ما ورد منها في الصحيحين.

وقد يخطر في الذهن: أنَّ توفير المال والرفاه إنَّما يكون من زيادة العمل، فيكون مُتناسباً عكسيّاً مع الهدف؛ لأنَّ زيادة العمل في سبيل الرفاه سوف يمتصُّ الجُهد الذي يمكن أن يُبذل في الجانب الأخلاقي والعبادي، ولا تكون زيادة الرفاه مؤيِّدة لتركيز التربية، كما قلنا.

والجواب على ذلك واضح جدَّاً لمَن استطاع استيعاب المفهوم الصحيح للعبادة مع المفهوم الصحيح للعمل، فإنَّه سيستغرب كيف تكون العبادة عائقاً عن العمل، مع أنَّه الأسلوب المـُهمُّ في حصول الرفاه الاقتصادي المطلوب من أجل العبادة نفسها، وكيف يكون العمل عائقاً عن العبادة، وهي الهدف الرئيسي للحياة؛ وبالنتيجة هُمْ معاً واقعين في طريق الهدف البشري الأعلى.

ومن هنا يمكن أن ننطلق إلى الجواب على مستويين:

المستوى الأول: أنَّنا إذا فَهْمِنا من العبادة معنى لا ينطبق على العمل، وأصبح

١٠٧

العمل المتزايد عائقاً عن العبادة، فإنَّ ذلك لا يمكن أن يحدث تحت ظلِّ النظام العالمي العادل؛ إذ يمكن التوفيق بين العبادة والعمل، وتنظمها تنظيماً عادلاً يكفل إيفاء كلٍّ منهما للحاجة التربويَّة، وتحصيله لنتيجته المطلوبة، تحت إشراف القانون والدولة.

المستوى الثاني: أنَّنا نفهم من العبادة معنى ينطبق على العمل، ولا يتنافى معه، فإنَّ العمل نفسه يمكن أن يُصبح عبادة، إذا كان واقعاً في طريق العبادة، ومُطابقاً للنظام العادل الكامل، فإنَّه يُصبح آنئذٍ من أفضل العبادات في علاقة الفرد مع الآخرين، ولا نريد بالعبادة خصوص الطقوس الفردية التي تربط الفرد بربِّه، وقد أعطينا في هذا الكتاب والكتاب السابق فكرة كافية عن ذلك.

... لكن بشرط أن يشعر الفرد العامل بهذا الترابط وهذا الاستهداف، فإنَّ شعوره بذلك يجعله مُتَّصفاً من خلال عمله بالعبادة وهو في معمله، أو مَتْجَره أو مَنْجَمه.

وهذا الشعور متوفِّر - بطبيعة الحال - تحت الإشراف التربوي للدولة العادلة.

لكنَّ العمل إذا انطلق من المفهوم، فلن يكون مُستهدَفاً لذاته، أو لمـُجرَّد الحصول على المال، فإنَّ العمل ما دام في سبيل المصالح العامة وتحقيق العبادة التامَّة... إذاً؛ فيجب أن يتحدَّد بحدودها، يكثر حين يقتضي كثرته، ويقلُّحين تقتضي تلك المصالح قلَّته، ولا معنى لأن يكون العمل مُعيقاً عن تحقيق المصالح والأهداف.

الأساس الرابع للتخطيط الثاني: الإشراف العام لدولة على تفاصيل التطبيق من الناحيتين القانونية والاجتماعية.

حيث تُشرِف الدولة العادلة على نشر الثقافة العامة، وتقوم ببعض التمحيصات على ما سنسمع، ونُراقب الأفراد من حيث رُقيِّهم في الدرجات المطلوبة من الكمال، وتُساعدهم على النجاح والتكامل بالمقدار اللازم، وتُسجِّل في سجِّل ضميرها مَن نجح من الأفراد ومَن فَشِل منهم في التمحيص، ومَن له قابلية الرُّقِّي ممَّن ليس له ذلك.

وسنرى كيف يكون للدولة من أثر مباشر في تربية الأفراد في العالم، والتدخُّل في حياتهم الروحية والعاطفية والعقلية والاجتماعية، وهذا ممَّا يؤكِّد نجاح الدعوة المهدوية والتطبيق الكامل للعدل، كما يؤكِّد اجتياز الأفراد للمراحل الأُولى من الكمال بنجاح وسرعة وسهولة، وهذا الأساس ممَّا يفترق به هذا التخطيط عن سابقه؛ نتيجةً لاختلافهما في الأهداف، فقد كان الهدف من التخطيط السابق تمييز الخبيث من الطيِّب وتكريس جهود

١٠٨

الطيِّبين، وتعميق إخلاصهم ليكونوا الطليعة الأُولى لدولة العدل العالمية في اليوم الموعود، ولم يكن هناك أيُّ تأكيد على إنجاح الراسبين أو توفير فرص النجاح، بل إنَّ الفرد إذا رسب في التمحيص وعصى الأحكام الإلهيَّة الإسلامية، فقد جنى بنفسه على نفسه، وسعى بظلفه إلى حتفه، فليس وراءه إلاَّ استحقاق العقاب.

ولذلك لم يكن هناك حاجة للإشراف المركزي على التثقيف أو التمحيص، وإن كان هذا راجحاً، إلاَّ أنَّه في إمكان التخطيط العام أن يصل إلى نتيجته وصولاً تلقائيَّاً وفي كل الظروف.

ولكنَّ التخطيط الثاني يختلف عن الأول في هذه النقطة؛ وذلك لأنَّه لا يستهدف مُجرَّد التمحيص، بل الوصول إلى الهدف الأعلى للإنسانية على الصعيد العالمي كلِّه، وهذا يستدعي القيام بأمرين مُقترنين:

الأمر الأول: تعميق التمحيصات تبعاً لتعميق الثقافة الإسلامية المـُعْلَنة في العالم يومئذ، وتشديد النكير على الراسبين في هذا التمحيص، إلى حدٍّ قد يؤدِّي بهم إلى القتل؛ لعدم انسجام الفرد الراسب في التمحيص مع مجتمع العدل المطلق.

الأمر الثاني: توفير الفرص الكافية للأفراد، ممَّن لا يتَّصف بالقابلية العُلْيَا والثقافة العميقة، إلى النجاح، تحت إشراف الدولة العادلة؛ ليكون الوصول إلى نتيجة التخطيط أسرع وأسهل وأوسع.

وليس بين هذين الأمرين تنافٍ، بل هما مُتَّفقان في الإيصال المطلوب إلى النتائج المـُتوخَّاة، وسوف يكون الأمر الأول أشدَّ وضوحاً وأهمِّيَّة مع وجود الأمر الثاني، فإنَّ مَن يرسب في التمحيص، بالرغم من وجود الفرص الكافية للنجاح، يكون أشدَّ إجراماً وأبعدَ عن الحق والعدل، ممَّن يرسب بدون هذه الفرص، كما هو واضح.

وهذا يُشكِّل إحدى الفروق في النتائج بين هذا التخطيط وسابقه، فبينما نجد أنَّ التخطيط السابق يتمخَّض عن ضعف المسؤولية، كما سبق أن برهنَّا في التاريخ السابق(١) نرى هذا التخطيط مُساوقاً مع عُمق المسؤوليَّة ودقَّتها.

ويرجع ذلك لعدَّة أسباب، لعلَّ من أوسعها وأوضحها، كون تطبيق العدل في التخطيط السابق مُخالفاً للاتِّجاه العام المملوء بالظلم والجور، حتى يكون القابض على دينه

____________________

(١) تاريخ الغيبة الكبرى ص ٤٥١ وما بعدها إلى عدَّة صفحات.

١٠٩

كالقابض على جمرة من النار - كما ورد في بعض الأخبار - ومن الواضح أنَّ القبض على الجمر يحتاج إلى قوَّة إرادة عُلْيَا، وإنَّ عدم القبض عليه لا يتضمَّن المسؤولية العُلْيَا والإجرام الكبير، بخلاف الحال في التخطيط الجديد، فإنَّ تطبيق العدل موافق للاتجاه العام المملوء قسطاً وعدلاً، ومن هذه الجهة يكون موافقاً للهوى، ويكون الانحراف مُخالفاً للاتجاه العام، فتكون مسؤوليته ذات درجة عُلْيَا من الأهمِّيَّة ومن استحقاق العقاب.

فهذه هي الأُسس الرئيسية التي يمكن التوصُّل إليها الآن، وبها وأشباهها يستطيع القائد المهدي (ع ) تربية الأُمَّة الإسلامية بسرعة وبسهولة، وأمَّا بالنسبة إلى سائر أجزاء العالم، فهذه الأُسس سوف تُشارك في تربيته بعد استتباب السيطرة عليه، وأمَّا حصول هذه السيطرة فلا، وكيفيَّتها، فهو ما سنذكره مُفصَّلاً في فصل قادم.

١١٠

الباب الثاني

حوادث ما قبل الظهور

ونعني بها الحوادث التي تقع قبل الظهور بزمن قليل، حسب ما نعرف من أدلَّتها، وهو ما سبق أن أجَّلنا الحديث عن الأعمِّ الأغلب من ( تاريخ الغيبة الكبرى ) إلى هذا التاريخ، باعتبار ما أُلصق به، وإن كانت هذه الحوادث - في واقعها - تحصل في عصر الغيبة الكبرى، إلاَّ أنَّ قصر الزمان نسبيَّاً، بينها وبين الظهور يجعلها أشدَّ ارتباطاً به ممَّا قبله، كما سيتَّضح فيما يلي من البحث.

١١١

١١٢

تمهيد

لا بدَّ لنا - في هذا الصدد - أن نأخذ بنظر الاعتبار، عدَّة أُمور:

الأمر الأول: أنَّنا سرنا في التاريخ السابق(١) على أُسلوب مُعيَّن في فَهْمِ غالب الحوادث الواردة في الأخبار، وهو أُسلوب الحمل على الرمزية؛ لوجود الاطمئنان - في كثير من الأحيان - بأنَّ المداليل اللفظية للأخبار الناقلة لهذه الحوادث غير مقصودة، وإنَّما المقصود من ورائها الإشارة إلى حوادث اجتماعية، ممَّا قد يتمخَّض عنها التخطيط السابق على الظهور، وإنَّما صيغت بأُسلوب الرمز لمصالح مُعيَّنة... لعلَّ من أهمِّها:

أولاً: عدم الموافقة بهذه الحوادث مع المـُستوى الفكري للعصر الذي صدرت فيه هذه الأخبار.

ثانياً: إنَّه لو صُرِّح بهذه الحوادث وشُرِحت بوضوح، لأمكن استغلالها واتِّخاذ مواقف سيِّئة منها، بنحو يُخلُّ بالتخطيط الإلهي العام.

ثالثاً: إنَّ مؤدَّى جملة كبيرة من الأخبار الناقلة للحوادث، ظاهر بأنَّها تحصل عن طريق إعجازي غير طبيعي، بشكل يكون مُنافياً مع قانون المعجزات الذي برهنَّا على صحَّته، فيدور الأمر بين طرح الحديث أساساً وبين حملة الرمز، وقلنا هناك(٢) : بأنَّ الحمل على الرمز أولى من الطرح، وخاصَّة فيما إذا كانت الحادثة منقولة بأخبار كثيرة، صالحة للإثبات التاريخي، ولا يمكن طرحها.

وهنا نواجه هذه النقاط مرَّة أخرى - وبشكل وآخر - في الأخبار الناقلة لحوادث ما بعد

____________________

(١) انظر - مثلاً - ص٢١٢ منه.

(٢) ص٢١٧ وما بعدها.

١١٣

الظهور، مع وجود اختلافين: أحدهما نقطة قوَّة، والأُخرى نقطة ضعف.

الاختلاف الأول: الذي يُمثِّل نقطة القوَّة، وهو أنَّنا هنا لن نواجه العقبة التي قلناها في تمهيد هذا التاريخ، وهي أنَّنا لا نستطيع التعرُّف على العُمق الحقيقي للحادثة أو لمجموع الحوادث؛ وذلك لأنَّ ذلك إنَّما يصدق على حوادث ما بعد الظهور، وأمَّا ما يكون موجوداً قبل الظهور - كما هو شأن العلامات التي نتحدَّث عنها في هذا الفصل - فاستيعاب فَهْمِه مُتيسِّر إلى حدٍّ كبير.

الاختلاف الثاني: الذي يُمثِّل نقطة الضعف، ينطلق من صعوبة اختيار المعنى المرموز إليه، في الموارد التي نحتاج فيها إلى ذلك، فإنَّه بعد أن يتبرهن الحمل على الرمزية، قد لا يتعيَّن المعنى المـُشار إليه بالرمز، ولعلَّه من الممكن انطباقه على أكثر من مفهوم أو عدَّة وقائع.

ومع وجود هذه المصاعب، قد لا يتعذَّر الاطِّلاع على المعنى المرموز إليه، إذ وجِدت من القرائن والمـُثبتات حوله ما يكفي، ولكن مع تعذُّر ذلك لا بدّ أن نبني البحث على أُسلوب الأُطروحات، بمعنى عرض أقرب المعاني المـُحتملة إلى الواقع وإلى القواعد العامة، وقد لا يكون المعنى المـُحتمل بلحاظ ذلك أكثر من معنى واحد، فيتعيَّن، وإن كان لا يعدو كونه (أُطروحة) باعتباره معنى مُحتمَلاً.

وتوجد هناك صعوبة أُخرى، قد نواجهها في فَهْم بعض الأخبار، وهي أنَّنا نجهل ما هو الرمزي - من ألفاظ الروايات - ممَّا هو صريح، فهل كل ألفاظها رمزيَّة؟ أو يوجد بعضها ما يمكن حمله على معناه الصريح؟ وهل يمكن التبعيض في ألفاظ الحديث الواحد؟ وهل نحن مُحتاجون إلى هذه الرواية، للحمل على الرمز أو لا؟

أمَّا من حيث أُسس ذلك، وهي إمكان التبعيض في ألفاظ الحديث الواحد، فالصحيح المطابق للفهم العام في الكلام، أنَّ ذلك ممكن إذا لم يكن مجموع الفَهم من ألفاظ الحديث مُتنافراً، بمعنى ضرورة الانسجام بين المعاني التي فهمناها، سواء الصريح منها والرمزي.

وأمّا الحاجة إلى الرمزية وعدمه، فهو ما سبق أن بحثناه في التاريخ السابق(١) ، وخلاصته عدم إمكان الحمل على الرمز، مع إمكان فَهْم المعنى اللفظي المطابقي نفسه، ومع

____________________

(١) تاريخ الغيبة الكبرى ص٢١٨ وما بعدها.

١١٤

إمكان الحمل على المجاز والكناية؛ إذ مع إمكانه لا حاجة إلى الرمز.

انطلاقا من هذه الأُسس سنقوم بتذليل هذه الصعوبة، أعني تعيين الرمز من الصريح من الألفاظ، عن طريق (القواعد العامة) ودلالة الأخبار الأُخرى أولاً، فإن تعذّر ذلك، كان أُسلوب (الأطروحات) كفيلاً بتذليل هذه المشكلة؛ لأنَّنا حين نعرض الأُطروحة المـُعيَّنة القريبة إلى الذهن، سنعرف بطبيعة الحال ما يدلُّ عليها من الأخبار بنحو الرمز، وما يدلُّ عليها بنحو الصراحة.

الأمر الثاني - من التمهيد -: في تمحيص ما ورد من الحوادث.

يمكن تقسيم هذه الحوادث - من حيث إعرابها عن المعجزات - إلى قسمين:

القسم الأول: ما كان بدلالته اللفظية، أو بعد حمله على الرمزية، دالاَّ ًعلى حوادث غير إعجازية، اجتماعية أو طبيعية.

القسم الثاني: ما كان دالاَّ ًعلى حوادث إعجازية، بشكل واضح، لا يمكن صرفه عنها.

ويختصُّ القسم الثاني بتحفُّظين لا حاجة إليهما في القسم الأول:

التحفُّظ الأول: إنَّ هذا القسم مربوط بقانون المعجزات، فما كان منه مُنسجماً معه أمكن الأخذ به لو تمَّ فيه التحفُّظ الثاني الآتي... وما لم يكن مُنسجماً معه، فلا بدَّ من رفضه على كلِّ حال.

التحفُّظ الثاني: إنَّ القسم الأول يمكن قبول حدوثه مع الانسجام مع المنهج العام الذي قلناه في هذا التمهيد العام لهذا التاريخ... في حين أنَّ القسم الثاني يحتاج إلى درجة أعلى من التشدُّد في القبول، كما عملنا عليه في التاريخ السابق(١) ، ففي الوقت الذي قبلنا فيه الخبر الموثوق الواحد المـُجرَّد عن القرائن المـُثبتة في التمهيد... لم نكن قد قبلناه في التاريخ السابق، ولا نستطيع قبوله في أخبار القسم الثاني المـُتكفِّل لنقل أخبار المعجزات، باعتبارٍ ما، فينقلها من مظنَّة الخطأ والدسِّ، كما سبق أن عرضناه في التاريخ السابق(٢) ، فنقتصر فيه على قبول الخبر المـُستفيض أو المحفوف بالقرائن الموافقة.

الأمر الثالث: سبق منَّا في التاريخ السابق(٣) أن ذكرنا حوادث ما قبل الظهور

____________________

(١) تاريخ الغيبة الكبرى ص٢٠٨.

(٢) المصدر ص٢٠٤.

(٣) المصدر فصل الأخبار الدالَّة على التنبُّؤ بالمـُستقبَل ص٢٨٠، وفصل علامات الظهور ص٥٢١.

١١٥

مُفصَّلة، وعرفنا ما حدث منها وما لم يحدث، وما هو محمول على الرمزية وما ليس كذلك، وعرفنا هناك خصائص كثيرة لا حاجة إلى تكرارها في هذا التاريخ.

إلاَّ أنَّ هذا التركيز فيما سبق، كان على حوادث ما قبل الظهور، ككل سواء منها البعيد عنه والقريب... بل كان التركيز على البعيد عنه أشدَّ، الحديث عنه أوسع... باعتباره بعضاً من حلقات تاريخ الغيبة الكبرى.

ومع تجنُّب التكرار في هذا التاريخ، والاستغناء عن ذكر الحوادث البعيدة أو المـُحتملة البُعْد عن يوم الظهور، يبقى على هذا الفصل أربعة مهامٍّ:

المـُهمَّة الأُولى: التعرُّض إلى بعض العلامات التي لم تكن قد ذُكِرت في التاريخ السابق، مع مُحاولة تمحيصها، وإعطائها الفَهْم اللازم.

المـُهمَّة الثانية: مُحاولة إثبات بعض العلامات التي سبق ذكرها، طبقاً لتغيير المنهج في الإثبات التاريخي، كما سبق أن أوضحنا في التمهيد.

المـُهمَّة الثالثة: مُحاولة إعطاء فَهم جديد لبعض العلامات القريبة، التي لم تكن قد أخذت حظَّها الكافي من البحث في التاريخ السابق... أو عرض جوانب جديدة منها، لم تكن قد عُرِضت هناك.

المـُهمَّة الرابعة: مُحاولة ضبط التسلسل التاريخي للحوادث مهما أمكن، وهذا ما لم نتوفَّر عليه في التاريخ السابق، في حين يكون استنتاجه مُهمَّاً في هذا التاريخ.

وإذا تمَّت هذه المهامُّ، فسيكون هناك فرق أساسي كبير بين بحث التاريخ السابق، وبين هذا الباب، كما سوف يظهر عند الدخول في التفاصيل.

وعلى أيِّ حال، فتنقسم هذه الحوادث، أعني القريبة إلى الظهور، إلى قسمين رئيسين:

الأول: الظواهر الطبيعية أو السماوية التي لا تمتُّ إلى اختيار الناس بصِلَةٍ.

الثاني: الظواهر الاجتماعية التي تعود إلى تصرُّفات الناس، وما يعود إلى الحوادث التي تحصل للأمًّة الإسلامية بين آونة وأُخرى.

وينبغي أن يقع الحديث عن القسم الأول سابقاً على الحديث عن القسم الثاني؛ لأجل أن تتَّصل حوادث القسم الثاني بما بعدها من التاريخ؛ حفظاً للتسلسل الزماني لها، وسنتحدَّث عن كل قسم في فصل مُستقلٍّ.

١١٦

الفصل الأوَّل

الظواهر الطبيعية والسماوية

ونريد بها الحوادث المنقول حدوثها في الطبيعة، وإن كانت صفتها إعجازية.

والمنقول منها أُمور عديدة، ونحن نقتصر - اختصاراً للكلام وتمحيصاً للروايات - على ما كان مُتَّصفاً بشرائطَ ثلاثة:

الشرط الأول: عقدنا من أجله هذا الباب، وهو خصوص الحوادث القريبة من الظهور، بحسب أدلَّتها دون البعيد منها.

الشرط الثاني: أن تكون الحادثة ممَّا يمكن إثباته، بحسب المنهج الذي اتَّخذناه مع مُحاولة تجنُّب ما لا يمكن إثباته.

الشرط الثالث: أن يكون ممَّا ورد ارتباطه في الأخبار نفسها بظهور المهدي (ع)، وبهذا نختصر هذه الحوادث بالمصادر الخاصة الإمامية، وليس في المصادر العامة منها إلاَّ النادر.

وما يبقى مُندرجاً تحت هذه الشروط، من الحوادث، عدَّة أمور، نذكر كلاَّ ًمنها في جهة:

الجهة الأُولى: الخسوف والكسوف:

ويُراد به حدوثهما بشكل يختلف عن الشكل الاعتيادي له، فبدلاً عن أن يحدث الكسوف في أول الشهر والخسوف في وسطه، كما هو المـُعتاد، فإنَّ حدوثهما سوف يكون بالعكس، فيحدث الكسوف في وسط الشهر والخسوف في أوله... بشكل لم يسبقْ له نظير منذ أول البشرية إلى حين حدوثه، وهذا ما تُعرِب عنه عدد من الروايات، ذكرنا ثلاث منها في التاريخ السابق(١) ، عن

____________________

(١) انظر ص٥٧٤

١١٧

الشيخ الطوسي، والشيخ المفيد، والشيخ النعماني.

وأخرج الشيخ الطوسي في ( الغيبة )(١) أيضاً، بسنده عن بدر الأزدي، قال:

قال أبو جعفر الباقر (ع): ( آيتان تكونان قبل القائم لم تكونا منذ هبط آدم (ع) إلى الأرض: تنكسف الشمس في النصف من شهر رمضان، والقمر في آخره ).

فقال رجل: يا بن رسول الله، تنكسف الشمس في آخر الشهر والقمر في النصف؟

فقال أبو جعفر: ( إنِّي لأعلم بما تقول! ولكنَّهما آيتان لم تكونا منذ هبط آدم (ع) ).

وأخرج السيوطي في العُرف الوردي(٢) ، عن الدار قطني في سُننه، عن محمد بن علي الإمام الباقر (ع)، قال: ( إنَّ لمهدينا آيتين لم تكونا منذ خلق الله السموات والأرض: ينخسف القمر لأول ليلة من رمضان، وتنكسف الشمس في النصف منه، ولم يكونا منذ خلق الله السموات والأرض ).

وفيما روينا هناك ما يدلُّ على أنَّ انخساف القمر يكون في الخامس والعشرين من رمضان، وأمَّا انكساف الشمس، فهو في ثلاث عشرة أو أربع أو خمس عشرة منه.

ويدل سياق هذه الرواية - وأكثر من رواية أخرى - على قُرب هذه العلامة من قيام القائم، أعني ظهور المهدي (ع).

وهذا العدد من الروايات يكفي للإثبات التاريخي حتى مع (التشدُّد السَّندي) الذي سِرْنا عليه في التاريخ السابق، وطبَّقناه هنا على الروايات الناقلة للمعجزات.

وقد أشرنا هناك إلى المـُبرِّر الذي دعا إلى إيجاد هاتين الواقعتين في التخطيط الإلهي لما قبل الظهور، وهو - باختصار - ترسيخ فكرة المهدي (ع) عند حدوث هذه العلامة، أولا، والإيعاز إلى المـُخلصين من الخاصة إلى قُرب الظهور ثانياً.

يبقى علينا الآن أن نتكلَّم عن المـُبرِّر الكوني لوجودها، وهل هو بطريق إعجازي أو طبيعي... وإذا كان طبيعياً، فكيف يحصل... وهذا ما لم نُفِضْ فيه الحديث في التاريخ السابق.

____________________

(١) ص٢٧٠

(٢) الحاوي للفتاوي ج٢ ص١٣٦

١١٨

إنَّ لحدوث هذه الوقائع عدَّة أُطروحات، لا بدَّ من استعراضها ونقدها:

الأُطروحة الأُولى: حصول الكسوف والخسوف بسببه (العلمي) الاعتيادي، لكن مع اختلاف بسيط، هو الاختلاف في الزمان، فإن ثبت في العلم الحديث أنَّ الكسوف يحصل بتوسُّط الأرض بين الشمس والقمر، أمكن حصول ذلك في زمان آخر جديد.

وهذه الأُطروحة هي الأوفق بالظاهر الأوَّلي من الروايات، لو فُرِض الالتزام بكون هذه الحوادث طبيعية غير إعجازية.

إلاَّ أنَّها واضحة المـُناقشة طبقاً للنظرية العلمية الحديثة، ومن ثمَّ لا بدَّ من التنازل عن هذا الظهور الأوَّلي في الروايات.

فإنَّ القمر - وهو يستمدُّ نوره من الشمس، والنور يسير بخطوط مُستقيمة لا يمكن أن تنعطف انعطافاً كبيراً -... أنَّ القمر لا يمكن أن يكسف الشمس حال كونه بدراً في وسط الشهر؛ لأنَّ انكساف الشمس به، يلازم بالضرورة كون الوجه المـُظلم من القمر مُتوجِّهاً إلى الأرض، وهذا يُنافي بالضرورة كونه بدراً.

كما أنَّ خسوف القمر لا يكون إلاَّ بوقوع ظلِّ الأرض على القمر، بعد توسُّطها بينه وبين الشمس، وهذا معناه: أنَّ الأرض أقرب إلى الشمس من القمر، وهذا لا يحدث إلاَّ في وسط الشهر حين يكون القمر بدراً.

ولا يمكن دفع هذه المـُناقشة، إلاَّ بالطعن بالنظرية العلمية، انطلاقاً من زاوية أنَّ النظريات العلمية مهما تأكَّدت، فإنَّها قائمة على الحساب الظنِّي، وإن كان راجحاً، ولا تُنتج يقيناً تامَّاً بأيِّ حال، وهذا موكول إلى وجدان القارئ.

الأطروحة الثانية: أن تكون رؤية الكسوف والخسوف في غير الأرض، بل في مناطق أو كواكب أُخرى من المجموعة الشمسية.

أمَّا بالنسبة إلى كسوف الشمس، فقد حدث فعلاً عام (١٣٩١ هـ – ١٩٧١م)، حين كان بعض روَّاد الفضاء على القمر، فشاهدوا الشمس مكسوفة كلِّيَّاً بتوسُّط الأرض بينهم وبينها، وهذا التوسُّط لا يحدث عادة إلاَّ في وسط الشهر.

وأمَّا الخسوف فلم يحدث إلى حدِّ الآن، لكن في الإمكان تصوُّر حدوثه، فيما إذا انتقل بعض أفراد الإنسان إلى كوكب آخر من المجموعة الشمسية، كالمرِّيخ أو الزهرة، فإنَّه قد تُصبح الأرض ما بين القمر وذلك الكوكب، فيحدث الخسوف في نظرهم. ومن

١١٩

الواضح أنَّ هذا غير مشروط بحدوثه في وسط الشهر القمري، بل قد يحدث في أوَّله أو آخره أيضاً.

ويمكن المـُناقشة في هذه الأُطروحة من أكثر من جهة:

أوَّلاً: أنَّ الظهور الأوَّلي للروايات يقتضي حدوث الكسوف بالنسبة إلى ساكني الأرض، لا بالنسبة إلى مَن في القمر أو المرِّيخ.

غير أنَّه يمكن الاستغناء عن هذا الظهور، من زاوية أنَّ ظهورها في أنَّ الإنسان هو الذي يرى هاتين الواقعتين، وهو أمر لا يختلف فيه الحال بين الأرض والمرِّيخ، ما دام الإنسان هو المـُشاهد.

ثانياً: إنَّ الظهور الأوَّلي للروايات يقتضي حدوث هاتين العلامتين في شهر واحد، هو شهر رمضان، وهذا ممَّا لم يتحقَّق في الخارج.

ثالثاً: إنَّ الظهور الواضح لهذه الروايات – كما قلنا – يقتضي قُرب هذه الوقائع إلى اليوم الموعود، فإذا كان قد حدث أحد الأمرين، إذن؛ فهو لم يحدث قريباً من اليوم الموعود.

الأُطروحة الثالثة: أن يحدث الكسوف والخسوف بتوسُّط جُرم آخر طارئ في الفضاء صدفة، من الأجرام التي تُعتبر علميَّاً تائهة في الفضاء، أو ذات مدار ضخم جدَّاً وغير مُحدَّد، فيحجب القمر عن الشمس، فيحدث الخسوف، أو يحجب الشمس عن الأرض في وسط الشهر، فيحدث الكسوف، ومن الواضح أنَّ مرور الجرم الطارئ غير مُحدَّد بزمان مُعيَّن في الشهر.

وقد يؤيَّد ذلك بقوله في أكثر من رواية: ( إنَّهما آيتان لم تحدثا منذ هبط آدم (ع) ).

فلعلَّ جُرماً ما قد أوجد هذه الظاهرة قبل وجود البشرية، ثمَّ يكون وقت مروره بالمجموعة الشمسية منوطاً بتاريخ مُعيَّن يُصادف قبل ظهور المهدي بقليل.

وهذه الأُطروحة لا ترد عليها المـُناقشة الأُولى للأطروحة السابقة، لفرض أنَّها تُرى من الأرض.

وأمَّا المناقشة الثانية، فمن حيث حصول الواقعتين في شهر واحد، أمر لا غبار عليه، إذا التفتنا إلى أنَّ جُرماً واحداً هو الذي يعمل كلا العملين، فإنَّ المـُذنَّب وأمثاله إذا ظهر قريباً من الأرض لا يختفي عادة لليلة واحدة، بل يبقى مدَّة من الزمن، حتى ينتهي عبوره فضاء المجموعة الشمسية، فيمكن أن يحدث خلال وجوده كلا هذين الأمرين.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679