موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)8%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 679

الجزء ١ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 212493 / تحميل: 11107
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

الذي يوفِّر لنا طريقاً سهلاً، في معرفة التخطيط لو كان مُتوفِّراً،

إلى غير ذلك، ممَّا يحدونا إلى الكفكفة من غلواء البحث، والاقتصار في النتائج على مقدار الإمكان.

والكلام في ذلك يقع ضمن جهات ثلاث:

الجهة الأُولى: في الخصائص العامة للمجتمع الذي ينطلق منه التخطيط، وهو المجتمع العالمي الذي يتمُّ فيه حُكم الإمام المهدي (ع) وتطبيق العدل الكامل لأوَّل مرَّة.

وإزالة العوائق التي يُمكن أن تُشكِّل خطراً عليه، وليس معناه صياغة كل نفوس الأفراد صياغة إسلامية عادلة كاملة لأول وهْلَة.

إنَّ المهدي (ع) سيقتل عدداً كبيراً من الأفراد ممَّن فشل في التمحيص الموجود في التخطيط الإلهي السابق، وأصبح يُشكِّل خطراً على العدل الكامل في المجتمع الجديد، على ما سيأتي تفصيله... ولكن سيبقى مع ذلك عدَّة فجوات ونقاط ضعف في العالم - يكون على التخطيط الجديد بشكل عام، وعلى المهدي (ع) بشكل خاص، ملؤها وتذليل مصاعبها، ممَّا لا يؤثِّر فيه الفتح العسكري عادة -:

النقطة الأُولى: وجود أهل الذمَّة، وهم الشعوب التي تؤمِن بالأنبياء السابقين على الإسلام، وسيُسمح لها - بمقتضى القواعد الإسلامية المعروفة الآن - البقاء على دينها مع دفع الجزية... ويكون لها أن تدخل في دين الإسلام طواعية.

النقطة الثانية: وجود المذاهب المـُتعدِّدة من مُعتنقي الإسلام، ممَّن لا يُظهرون مُعارضةً للنظام الجديد.

النقطة الثالثة: نقص الثقافة الإسلامية العامة، بالنسبة إلى العالم الذي يواجه قوانين الإسلام لأول مرَّة، وهي الشعوب التي كانت كافرة قبل الظهور، ورضيت بالإسلام ديناً بعده.

النقطة الرابعة: نقص الثقافة الإسلامية العامة، في الأمَّة الإسلامية نفسها؛ نتيجة لبُعدها عن الإسلام في عصور الفتن والانحراف.

النقطة الخامسة: نقص الثقافة الإسلامية في الأمَّة خاصة وفي البشرية عامة،

١٠١

بالنسبة إلى القوانين الجديدة التي يُصدرها القائد المهدي (ع)، والأفكار العميقة التي يُعلنها، ريثما يتمُّ إعلانها وتوضيحها للناس.

النقطة السادسة: نقص الإخلاص وقوَّة الإرادة لدى الأعمِّ الأغلب من المسلمين، فإنَّ غاية ما تمخَّض عنه التخطيط الإلهي الأول، هو وجود الإخلاص العميق لدى جماعة من المسلمين، ولم يؤثِّر - بطبيعة الحال - نفس الأثر في مجموعهم، كيف وإنَّ الأرض امتلأت ظلماً وجوراً؟!

فهذه أهمُّ نقاط الضعف من الناحية الدينية، التي يزخر بها المجتمع الذي يواجهه المهدي (ع ) لأول وهْلَةٍ، وهي النقاط الأهمُّ تأثيراً في بناء الدولة العالمية، باعتبار ما عرفناه، من أنَّ الإسلام هو الأُطروحة العادلة الكاملة، التي يقوم الإمام المهدي (ع) بتطبيقها، والأُمَّة الإسلامية هي الأمَّة الرائدة في خِضَمِّ تلك الجهود البانية للدولة، فأيُّ صعوبة في هذه الأمَّة تعني الصعوبة في نيل الهدف أيضاً.

وأمَّا الصعوبات (الدنيوية) - لو صحَّ هذا التعبير - وأعني بها الصعوبات ونقاط الضعف الموجودة في الاتِّجاهات غير الدينية، وما أنتجته الناديَّة والعلمانيَّة من ويلات في العالم، فهي أكثر من أن تُذْكر أو تُحْصَر.

وإذ يواجه نظام الإمام المهدي (ع) كل هذه المصاعب، سيكون مسؤولاً عن اتِّخاذ الخطوات الحاسمة اللازمة لحلِّ كل مشكلة وتذليل كل عقبة، وسيكون على مستوى المسؤولية، بعد أن كان مُتدرِّعاً بالسلاح ومُتذرِّعاً بالإخلاص، ومُنطلقاً من الأطروحة العادلة الكاملة، ومُتَّصفاً بصفات شخصية عُلْيَا، حاولنا أن نحمل عنها فكرة في التاريخ السابق(١) الأمر الذي قلنا: إنَّه يُيسِّر له القيادة والتطبيق العادل في اليوم الموعود.

الجهة الثانية: يستهدف هذا التخطيط الثاني، الكمال الإنساني الأعلى للبشر، في الحدود المـُمكنة له على هذه الأرض، فهو يوفِّر الأرضية الكافية لتكامل الإنسان إلى غاية ما يمكن أن يحصل عليه من الكمال... حتى يكون بالتدريج البطيء في إمكان الفرد أن يكون معصوماً، وأن يتكامل في عصمته(٢) .

____________________

(١) انظر: من صفحة ٥٠٤ إلى ص٥٢٠.

(٢) أعني من العصمة ما يُسمَّى بـ (العصمة غير الواجبة)، وهي التي ينعدم فيها احتمال الظلم والعصيان دون الخطأ والنسيان، وسيأتي إيضاحه في الكتاب الآتي، وأمَّا التكامل فيما بعد العصمة، فقد برهنَّا من التاريخ السابق على إمكانه.

١٠٢

وليس معنى ذلك أنَّ البشر جميعاً يكونون لأول وهْلَة، على هذا المستوى العالي، بل معناه توفير الطريق لأن ينال كل فرد من هذا الهدف بمقدار قابليَّاته الشخصية، وبمقدار ما يؤدِّي من إطاعة وتضحيات في سبيل الحق والعدل.

وهو من هذه الناحية يُشبه ما رأيناه في التخطيط السابق على الظهور، فإنَّه كان يستهدف - فيما يستهدف إليه - تعميق الثقافة الإسلامية في الأمَّة(١) ، وتقوية الإرادة الإيمانية تجاه المشاكل، وقد رأينا كيف يأخذ الناس من هذه الأهداف بمقدار قابليَّاتهم ومقدار ما يؤدُّونه من تضحيات، وكيف يُنتج هذا التخطيط تكاملهم التدريجي البطيء.

غير أنَّ هذا التخطيط الجديد يختلف عن سابقه في نتيجته، فإنَّه بينما رأينا في التخطيط السابق أنَّه لم يتَّصف بالنجاح الحقيقي خلاله إلاَّ عدد قليل نسبيَّاً، فإنَّ هذا التخطيط الجديد سيشمل بالنجاح أكثر الأفراد، وسيصل في المدى البعيد كل الأفراد إلى المستوى المطلوب، بالتدريج البطيء.

وسيأتي في مستقبل هذا البحث أنَّ المجتمع البشري، نتيجة للتدابير الآتية التي تضعها الدولة العالمية، سيمرُّ بمرحلتين من العصمة:

المرحلة الأُولى: أن يكون الأفراد غير معصومين، ولكنَّ الرأي العام المـُتَّفق عليه بينهم معصوماً، وقد أشرنا في التاريخ السابق(٢) إلى ذلك مُختصراً، وسيأتي في مُستقبل البحث ما يزيده إيضاحاً.

المرحلة الثانية: أن يكون كل الأفراد معصومين... بتلك العصمة القائمة على أساس العدل الكامل مفاهيميَّاً وتشريعيَّاً، الذي كان ولا زال - في تلك الفترة - مُطبقَّاً منذ عهد بعيد، وسيأتي ما يوضِّح ذلك أيضاً.

الجهة الثالثة: في التعرُّف على تفاصيل التخطيط الإلهي العام لما بعد الظهور وأُسسه العامة بمقدار الإمكان، تلك التفاصيل والأُسس التي يُمكنها أن تُحوِّل المجتمع الذي عرفنا نقاط ضعفه في الجهة الأُولى، إلى الصفات الكبرى التي حملنا عنها فكرة كافية في الجهة الثانية.

____________________

(١) يسير هذا العُمق إلى جنب الشعور الديني... ومن هنا لم يكن وجود هذا العُمق في الثقافة الإسلامية لدى عدد كبير في الأُمَّة، مُنافياً مع وجود الضحالة من هذه الجهة لدى عدد كبير أيضاً، كما أشرنا غير بعيد، في النقطة الثالثة من نقاط الضعف.

(٢) تاريخ الغيبة الكبرى ص٤٨١.

١٠٣

ونحن إذ نتحدَّث عن هذه الأُسس، إنَّما نتحدَّث عمَّا يمكن أن يكون كذلك في الفترة الأُولى للدولة العالمية، وهي التي تسبق المجتكع المعصوم بكلا قسميه، فإنَّ هذا أقرب إلى إمكان التعرُّف عليه من تلك المجتمعات العُلْيَا المـُتأخِّرة، فإنَّنا سبق أن أكَّدنا عجز الباحث عن إدراك العُمق الحقيقي للفكر والتشريع لما بعد الظهور، وهذا ثابت منذ تأسيس الدولة العالمية، فضلاً عن المجتمعات المعصومة.

إذاً؛ فليس لنا أن نعرف عن المجتمعات المعصومة شيئاً مُفصَّلاً.

وما يمكن لنا الآن تصوُّره ولإثباته بالقواعد العامة، من الأُسس لتلك الفترة. ما يلي:

الأساس الأول: تربية العالم ثقافياً من جهة الإسلام الواقعي، أو العدل الكامل الذي يقوم عليه نظام المهدي (ع) في دولته العالمية.

ويُعطي من ذلك لكل فرد ولكل شعب ما يحتاجه من أساليب التثقيف ومقداره، بشكل تدريجي وعلى مراحل، وكلَّما طويت مرحلة، استحقَّ الفرد أو الجماعة مرحلة جديدة من الثقافة.

فالشعوب غير المسلمة، سوف تُدْعى إلى الإسلام، وسوف يعتنقونه باقتناع وسهولة؛ نتيجة للأسباب التي سوف نذكرها بعد ذلك، وكل مَن أسلم من جديد أو هو مُسلم سلفاً سوف يُربَّى على الثقافة الإسلامية العامة الضرورية لوجود الطاعة والابتعاد عن المعصية، إن لم يكن قد نال ذلك نتيجة للتخطيط الإلهي السابق.

وكل مَن تربَّى إلى هذه الدرجة، فإنَّه يُعطى الثقافة التي تؤهِّله استيعاب الأفكار والمفاهيم والقوانين الجديدة التي تُعلن في ذلك العهد، طبقاً للمصالح الموجودة يومئذ.

ثمَّ يبدأ التصاعد والتكامل الثقافي من هذه الدرجة أيضاً، ويأخذ كل فرد من البشر من ذلك بقدر قابليَّاته وجهوده أيضاً.

ولئن كانت المراحل الأُولى والأُسس الرئيسية من هذا التثقيف، سيُنجزها الإمام المهدي (ع) بسهولة وسرعة، على ما سوف نسمع في هذا التاريخ، إلاَّ أنَّ المراحل المـُتأخِّرة التي تُعتبَر تفريعاً وتطبيقاً للأُسس، سوف تكون تدريجية وبطيئة، طبقاً لتربية كل أُمَّة.

الأساس الثاني: تربية البشرية من حيث الإخلاص وقوَّة الإرادة تجاه المسؤوليات الجديدة في دولة العدل.

ويكون الأُسلوب العام في ذلك مُشابهاً في الفكرة للأُسلوب الذي كان متَّخذاً في

١٠٤

التخطيط الأول، وهو مرور الفرد بمصاعب وعقبات تجاه العدل، ليرى موقفه منها وردَّ فعله تجاهها، فإن وقف موقفاً إسلامياً عادلاً كان ناجحاً في هذا التمحيص، وإلاَّ كان فاشلاً.

لكن يختلف سبب التمحيص في التخطيط السابق عنه في هذا التخطيط الجديد، فإنَّنا قلنا في التخطيط الأول: إنَّ ظروف الظلم والانحراف كافية في التمحيص، من حيثُ ردِّ الفعل الإسلامي الصحيح من الفرد تجاهها، وأمَّا التخطيط الثاني، فسوف لن يكون لعصور الظلم وظروف الفساد أيُّ أثر، وإنَّما ينبثق التمحيص في العهد الجديد من المسؤوليَّات التي يفرضها التمسُّك بالعدل الكامل وتطبيقه، والمحافظة على بقائه في علاقة الفرد مع نفسه ومع ربِّه ومع الآخرين ومع النظام القائم... تلك العلاقات التي يتوقَّع من الفرد خلالها ردَّ فعل إسلامي عادل كامل.

وسوف يكون التمحيص شاملاً لكل فرد بمقدار قابليَّاته وثقافته؛ لأنَّه يتناسب دائماً مع ارتفاع الثقافة تناسباً طردياً مُطِّرداً... إذ يقبح على الله عز وجل أن يوفِّر للفرد امتحاناً وتمحيصاً يكون الفرد فيه فاشلاً باليقين، فإنَّ ذلك خلاف العدل الإلهي، وإنَّما يكون التمحيص على مقدار الثقافة والقابلية دائماً، حتى ما إذا وصلت الثقافة قمَّة عالية، كان التمحيص في غاية الدقَّة والصعوبة، وكان النجاح المتوقَّع منها نجاحاً مناسباً لتلك المرتبة، والفشل الصادر فيها مُسجَّلاً بأدقِّ الموازين وبأهون العثرات.

وقد وردت في أخبار - المصادر الخاصة - نماذج التمحيصات التي يقوم بها المهدي (ع) في الفترة الأُولى من عهده، تجاه الأمَّة عامة، وتجاه أصحابه الخاصَّين ممَّن نجحوا في تمحيص التخطيط الأول خاصة، على ما سوف نعرف تفصيله في ما يأتي.

وقد يخطر في الذهن: إنَّه ما الحاجة إلى التمحيص في التخطيط الإلهي الجديد، وإنَّما كانت الحاجة في التخطيط السابق إلى التمحيص، لإيجاد العدد الكافي من أفراد الجيش الفاتح للعالم بين يدي المهدي (ع)، وقد أنْجَزَ هذا الجيش عمله وانتفت الحاجة إلى مثله، فلماذا يستمرُّ التمحيص ساري المفعول في البشر؟

وجواب ذلك: أنَّ ناموس الله في خلقه هو تربيتهم عن طريق التمحيص، كما دلَّ عليه الكتاب الكريم في عدد من آياته، والسنَّة الشريفة، منها، قوله تعالى:( مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ... ) (١) .

____________________

(١) آل عمران: ٣/١٧٩.

١٠٥

فإنَّه قانون عام لاختبار طاعة الأفراد في عصر ما قبل التمحيص... وهو كل عصر يواجه فيه الناس دعوة جديدة وتربية جديدة لم تُختبَر مواقفهم تجاهها، ولم تُعرَف ردود فعلهم حيال المشاكل التي تعترضها، فلا بدَّ أن تمرَّ الأُمَّة المسلمة خلال هذا القانون؛ ليكون له الأثر الفعَّال في تربية الأفراد وتعميق إخلاصهم وتقوية إرادتهم تجاه المشاكل، وبذلك يتميَّز الخبيث من الطيِّب، ويُعرف مَن يكون له موقف إسلامي صحيح تجاه المصاعب والعقبات، ومَن يكون ذا موقف مُنحرِف باطل، وهذا مَيْز واقعي بين الأفراد يمتُّ إلى اختلاف قابليَّاتهم ومُسبقاتهم الفكرية والعقلية والنفسية بصِلَةٍ... قبل أن يكون مُجرَّد انكشاف لدى الآخرين.

وقد سمعنا كيف أنَّ هذا القانون، كان شاملاً لدعوات الأنبياء السابقين على الإسلام، ومشاركاً في تربيتهم مشاركةً فعَّالةً، وقد شرحناه في التاريخ السابق(١) وقلنا(٢) : إنَّ الحاجة - مع ذلك - تعنُّ إلى سريان قانون التمحيص إلى ما بعد الإسلام؛ لتتربَّى البشرية طبقاً لمفاهيم وتشريع الأطروحة العادلة الكاملة.

وكما واجه المجتمع المؤمن دعوة جديدة في صدر الإسلام، فكان مُقتضى هذا القانون تمحيص الأفراد على أساسه، خلال تربية الأجيال تربية بطيئة وطويلة، وهذا هو التمحيص الساري في تخطيط ما قبل الظهور، كذلك سوف يواجه المجتمع المؤمن والبشرية جمعاء دعوةً إسلاميةً جديدةً، بعد اندراس الإسلام وعوده غريباً، أو نسيان وعصيان الكثير من أحكامه، وسيواجه في هذه الدعوة الجديدة نظاماً وقوانين ومفاهيم، لم يكن له بها سابق عهد مضافاً إلى القواعد الإسلامية السابقة.

ومن هنا يكون المجتمع بالنسبة إلى هذه الدعوة الجديدة، مجتمع ما قبل التمحيص، ويحتاج بمقتضى هذا القانون الشامل إلى أن يمرَّ بعصر التمحيص خلال تربية طويلة وبطيئة، لتتميَّز مواقف الناس تجاه النظام الجديد والدعوات الجديدة، ويأخذ كل فرد على قدر قابليَّاته وجهوده من النجاح والتكامل خلال التمحيص، ما يستطيع.

وبينما كان التمحيص السابق يُنتج فشل الأعم الأغلب من البشر - كما عرفنا - فإنَّ هذا التمحيص وبصفته مُدعَماً بالأُسس، التي سنعرفها، ينتج نجاح الأعم الأغلب من البشر، وسيكون النجاح مُطِّرداً، حتى تصل البشرية في النتيجة إلى المجتمع المعصوم.

____________________

(١) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص٢٥٥ وما بعدها.

(٢) المصدر السابق ص٢٦٦

١٠٦

الأساس الثالث للتخطيط الجديد: توفير جوٍّ من السعادة والرفاه المادِّي المـُتزايد، تحت جوٍّ من الأُخوَّة والتضامن والعدل الكامل، بأساليب مُعيَّنة، ستأتي في القسم الثاني الآتي من الكتاب.

والأساس النظري لإيجاد هذا الرفاه، ليس هو مُجرَّد نيل اللَّذَّة؛ لأنَّها مهما كانت مُهمَّةً، فإنَّها لا تكفي وحدها للسير بالبشرية نحو هدفها المقصود النهائي... وإنَّما يلاحظ الرفاه المادِّي بمقدار ما يستطيع أن يؤثِّر في ذلك الهدف البعيد ويُربِّي البشرية باتِّجاهه.

وذلك من زاوية أنَّ الرفاه المادِّي مُتناسباً مُطَّرداً مع توفير الجوِّ الكافي لذلك، ولا يمكن أن يكون عائقاً عنه، بعد أن يتشرَّب الناس ذلك الأساس النظري، وهو ملاحظة الرفاه بصفته طريقاً نحو الهدف، لا أنَّه بنفسه الهدف، ومن ثمَّ ستكون زيادة الرفاه مؤيِّدة لتركيز التربية وترسيخ العدل، ومن ثمَّ المـُشاركة في بناء ذلك الهدف.

وهذا هو المؤدِّى الحقيقي لما سمعناه من الأخبار في فصل سابق، من كثرة المال في عهد الإمام المهدي (ع)، وأنَّه يُقسِّم المال ولا يَعدُّه... تلك الأخبار المرويَّة من قِبل الفريقين، وقد سمعنا ما ورد منها في الصحيحين.

وقد يخطر في الذهن: أنَّ توفير المال والرفاه إنَّما يكون من زيادة العمل، فيكون مُتناسباً عكسيّاً مع الهدف؛ لأنَّ زيادة العمل في سبيل الرفاه سوف يمتصُّ الجُهد الذي يمكن أن يُبذل في الجانب الأخلاقي والعبادي، ولا تكون زيادة الرفاه مؤيِّدة لتركيز التربية، كما قلنا.

والجواب على ذلك واضح جدَّاً لمَن استطاع استيعاب المفهوم الصحيح للعبادة مع المفهوم الصحيح للعمل، فإنَّه سيستغرب كيف تكون العبادة عائقاً عن العمل، مع أنَّه الأسلوب المـُهمُّ في حصول الرفاه الاقتصادي المطلوب من أجل العبادة نفسها، وكيف يكون العمل عائقاً عن العبادة، وهي الهدف الرئيسي للحياة؛ وبالنتيجة هُمْ معاً واقعين في طريق الهدف البشري الأعلى.

ومن هنا يمكن أن ننطلق إلى الجواب على مستويين:

المستوى الأول: أنَّنا إذا فَهْمِنا من العبادة معنى لا ينطبق على العمل، وأصبح

١٠٧

العمل المتزايد عائقاً عن العبادة، فإنَّ ذلك لا يمكن أن يحدث تحت ظلِّ النظام العالمي العادل؛ إذ يمكن التوفيق بين العبادة والعمل، وتنظمها تنظيماً عادلاً يكفل إيفاء كلٍّ منهما للحاجة التربويَّة، وتحصيله لنتيجته المطلوبة، تحت إشراف القانون والدولة.

المستوى الثاني: أنَّنا نفهم من العبادة معنى ينطبق على العمل، ولا يتنافى معه، فإنَّ العمل نفسه يمكن أن يُصبح عبادة، إذا كان واقعاً في طريق العبادة، ومُطابقاً للنظام العادل الكامل، فإنَّه يُصبح آنئذٍ من أفضل العبادات في علاقة الفرد مع الآخرين، ولا نريد بالعبادة خصوص الطقوس الفردية التي تربط الفرد بربِّه، وقد أعطينا في هذا الكتاب والكتاب السابق فكرة كافية عن ذلك.

... لكن بشرط أن يشعر الفرد العامل بهذا الترابط وهذا الاستهداف، فإنَّ شعوره بذلك يجعله مُتَّصفاً من خلال عمله بالعبادة وهو في معمله، أو مَتْجَره أو مَنْجَمه.

وهذا الشعور متوفِّر - بطبيعة الحال - تحت الإشراف التربوي للدولة العادلة.

لكنَّ العمل إذا انطلق من المفهوم، فلن يكون مُستهدَفاً لذاته، أو لمـُجرَّد الحصول على المال، فإنَّ العمل ما دام في سبيل المصالح العامة وتحقيق العبادة التامَّة... إذاً؛ فيجب أن يتحدَّد بحدودها، يكثر حين يقتضي كثرته، ويقلُّحين تقتضي تلك المصالح قلَّته، ولا معنى لأن يكون العمل مُعيقاً عن تحقيق المصالح والأهداف.

الأساس الرابع للتخطيط الثاني: الإشراف العام لدولة على تفاصيل التطبيق من الناحيتين القانونية والاجتماعية.

حيث تُشرِف الدولة العادلة على نشر الثقافة العامة، وتقوم ببعض التمحيصات على ما سنسمع، ونُراقب الأفراد من حيث رُقيِّهم في الدرجات المطلوبة من الكمال، وتُساعدهم على النجاح والتكامل بالمقدار اللازم، وتُسجِّل في سجِّل ضميرها مَن نجح من الأفراد ومَن فَشِل منهم في التمحيص، ومَن له قابلية الرُّقِّي ممَّن ليس له ذلك.

وسنرى كيف يكون للدولة من أثر مباشر في تربية الأفراد في العالم، والتدخُّل في حياتهم الروحية والعاطفية والعقلية والاجتماعية، وهذا ممَّا يؤكِّد نجاح الدعوة المهدوية والتطبيق الكامل للعدل، كما يؤكِّد اجتياز الأفراد للمراحل الأُولى من الكمال بنجاح وسرعة وسهولة، وهذا الأساس ممَّا يفترق به هذا التخطيط عن سابقه؛ نتيجةً لاختلافهما في الأهداف، فقد كان الهدف من التخطيط السابق تمييز الخبيث من الطيِّب وتكريس جهود

١٠٨

الطيِّبين، وتعميق إخلاصهم ليكونوا الطليعة الأُولى لدولة العدل العالمية في اليوم الموعود، ولم يكن هناك أيُّ تأكيد على إنجاح الراسبين أو توفير فرص النجاح، بل إنَّ الفرد إذا رسب في التمحيص وعصى الأحكام الإلهيَّة الإسلامية، فقد جنى بنفسه على نفسه، وسعى بظلفه إلى حتفه، فليس وراءه إلاَّ استحقاق العقاب.

ولذلك لم يكن هناك حاجة للإشراف المركزي على التثقيف أو التمحيص، وإن كان هذا راجحاً، إلاَّ أنَّه في إمكان التخطيط العام أن يصل إلى نتيجته وصولاً تلقائيَّاً وفي كل الظروف.

ولكنَّ التخطيط الثاني يختلف عن الأول في هذه النقطة؛ وذلك لأنَّه لا يستهدف مُجرَّد التمحيص، بل الوصول إلى الهدف الأعلى للإنسانية على الصعيد العالمي كلِّه، وهذا يستدعي القيام بأمرين مُقترنين:

الأمر الأول: تعميق التمحيصات تبعاً لتعميق الثقافة الإسلامية المـُعْلَنة في العالم يومئذ، وتشديد النكير على الراسبين في هذا التمحيص، إلى حدٍّ قد يؤدِّي بهم إلى القتل؛ لعدم انسجام الفرد الراسب في التمحيص مع مجتمع العدل المطلق.

الأمر الثاني: توفير الفرص الكافية للأفراد، ممَّن لا يتَّصف بالقابلية العُلْيَا والثقافة العميقة، إلى النجاح، تحت إشراف الدولة العادلة؛ ليكون الوصول إلى نتيجة التخطيط أسرع وأسهل وأوسع.

وليس بين هذين الأمرين تنافٍ، بل هما مُتَّفقان في الإيصال المطلوب إلى النتائج المـُتوخَّاة، وسوف يكون الأمر الأول أشدَّ وضوحاً وأهمِّيَّة مع وجود الأمر الثاني، فإنَّ مَن يرسب في التمحيص، بالرغم من وجود الفرص الكافية للنجاح، يكون أشدَّ إجراماً وأبعدَ عن الحق والعدل، ممَّن يرسب بدون هذه الفرص، كما هو واضح.

وهذا يُشكِّل إحدى الفروق في النتائج بين هذا التخطيط وسابقه، فبينما نجد أنَّ التخطيط السابق يتمخَّض عن ضعف المسؤولية، كما سبق أن برهنَّا في التاريخ السابق(١) نرى هذا التخطيط مُساوقاً مع عُمق المسؤوليَّة ودقَّتها.

ويرجع ذلك لعدَّة أسباب، لعلَّ من أوسعها وأوضحها، كون تطبيق العدل في التخطيط السابق مُخالفاً للاتِّجاه العام المملوء بالظلم والجور، حتى يكون القابض على دينه

____________________

(١) تاريخ الغيبة الكبرى ص ٤٥١ وما بعدها إلى عدَّة صفحات.

١٠٩

كالقابض على جمرة من النار - كما ورد في بعض الأخبار - ومن الواضح أنَّ القبض على الجمر يحتاج إلى قوَّة إرادة عُلْيَا، وإنَّ عدم القبض عليه لا يتضمَّن المسؤولية العُلْيَا والإجرام الكبير، بخلاف الحال في التخطيط الجديد، فإنَّ تطبيق العدل موافق للاتجاه العام المملوء قسطاً وعدلاً، ومن هذه الجهة يكون موافقاً للهوى، ويكون الانحراف مُخالفاً للاتجاه العام، فتكون مسؤوليته ذات درجة عُلْيَا من الأهمِّيَّة ومن استحقاق العقاب.

فهذه هي الأُسس الرئيسية التي يمكن التوصُّل إليها الآن، وبها وأشباهها يستطيع القائد المهدي (ع ) تربية الأُمَّة الإسلامية بسرعة وبسهولة، وأمَّا بالنسبة إلى سائر أجزاء العالم، فهذه الأُسس سوف تُشارك في تربيته بعد استتباب السيطرة عليه، وأمَّا حصول هذه السيطرة فلا، وكيفيَّتها، فهو ما سنذكره مُفصَّلاً في فصل قادم.

١١٠

الباب الثاني

حوادث ما قبل الظهور

ونعني بها الحوادث التي تقع قبل الظهور بزمن قليل، حسب ما نعرف من أدلَّتها، وهو ما سبق أن أجَّلنا الحديث عن الأعمِّ الأغلب من ( تاريخ الغيبة الكبرى ) إلى هذا التاريخ، باعتبار ما أُلصق به، وإن كانت هذه الحوادث - في واقعها - تحصل في عصر الغيبة الكبرى، إلاَّ أنَّ قصر الزمان نسبيَّاً، بينها وبين الظهور يجعلها أشدَّ ارتباطاً به ممَّا قبله، كما سيتَّضح فيما يلي من البحث.

١١١

١١٢

تمهيد

لا بدَّ لنا - في هذا الصدد - أن نأخذ بنظر الاعتبار، عدَّة أُمور:

الأمر الأول: أنَّنا سرنا في التاريخ السابق(١) على أُسلوب مُعيَّن في فَهْمِ غالب الحوادث الواردة في الأخبار، وهو أُسلوب الحمل على الرمزية؛ لوجود الاطمئنان - في كثير من الأحيان - بأنَّ المداليل اللفظية للأخبار الناقلة لهذه الحوادث غير مقصودة، وإنَّما المقصود من ورائها الإشارة إلى حوادث اجتماعية، ممَّا قد يتمخَّض عنها التخطيط السابق على الظهور، وإنَّما صيغت بأُسلوب الرمز لمصالح مُعيَّنة... لعلَّ من أهمِّها:

أولاً: عدم الموافقة بهذه الحوادث مع المـُستوى الفكري للعصر الذي صدرت فيه هذه الأخبار.

ثانياً: إنَّه لو صُرِّح بهذه الحوادث وشُرِحت بوضوح، لأمكن استغلالها واتِّخاذ مواقف سيِّئة منها، بنحو يُخلُّ بالتخطيط الإلهي العام.

ثالثاً: إنَّ مؤدَّى جملة كبيرة من الأخبار الناقلة للحوادث، ظاهر بأنَّها تحصل عن طريق إعجازي غير طبيعي، بشكل يكون مُنافياً مع قانون المعجزات الذي برهنَّا على صحَّته، فيدور الأمر بين طرح الحديث أساساً وبين حملة الرمز، وقلنا هناك(٢) : بأنَّ الحمل على الرمز أولى من الطرح، وخاصَّة فيما إذا كانت الحادثة منقولة بأخبار كثيرة، صالحة للإثبات التاريخي، ولا يمكن طرحها.

وهنا نواجه هذه النقاط مرَّة أخرى - وبشكل وآخر - في الأخبار الناقلة لحوادث ما بعد

____________________

(١) انظر - مثلاً - ص٢١٢ منه.

(٢) ص٢١٧ وما بعدها.

١١٣

الظهور، مع وجود اختلافين: أحدهما نقطة قوَّة، والأُخرى نقطة ضعف.

الاختلاف الأول: الذي يُمثِّل نقطة القوَّة، وهو أنَّنا هنا لن نواجه العقبة التي قلناها في تمهيد هذا التاريخ، وهي أنَّنا لا نستطيع التعرُّف على العُمق الحقيقي للحادثة أو لمجموع الحوادث؛ وذلك لأنَّ ذلك إنَّما يصدق على حوادث ما بعد الظهور، وأمَّا ما يكون موجوداً قبل الظهور - كما هو شأن العلامات التي نتحدَّث عنها في هذا الفصل - فاستيعاب فَهْمِه مُتيسِّر إلى حدٍّ كبير.

الاختلاف الثاني: الذي يُمثِّل نقطة الضعف، ينطلق من صعوبة اختيار المعنى المرموز إليه، في الموارد التي نحتاج فيها إلى ذلك، فإنَّه بعد أن يتبرهن الحمل على الرمزية، قد لا يتعيَّن المعنى المـُشار إليه بالرمز، ولعلَّه من الممكن انطباقه على أكثر من مفهوم أو عدَّة وقائع.

ومع وجود هذه المصاعب، قد لا يتعذَّر الاطِّلاع على المعنى المرموز إليه، إذ وجِدت من القرائن والمـُثبتات حوله ما يكفي، ولكن مع تعذُّر ذلك لا بدّ أن نبني البحث على أُسلوب الأُطروحات، بمعنى عرض أقرب المعاني المـُحتملة إلى الواقع وإلى القواعد العامة، وقد لا يكون المعنى المـُحتمل بلحاظ ذلك أكثر من معنى واحد، فيتعيَّن، وإن كان لا يعدو كونه (أُطروحة) باعتباره معنى مُحتمَلاً.

وتوجد هناك صعوبة أُخرى، قد نواجهها في فَهْم بعض الأخبار، وهي أنَّنا نجهل ما هو الرمزي - من ألفاظ الروايات - ممَّا هو صريح، فهل كل ألفاظها رمزيَّة؟ أو يوجد بعضها ما يمكن حمله على معناه الصريح؟ وهل يمكن التبعيض في ألفاظ الحديث الواحد؟ وهل نحن مُحتاجون إلى هذه الرواية، للحمل على الرمز أو لا؟

أمَّا من حيث أُسس ذلك، وهي إمكان التبعيض في ألفاظ الحديث الواحد، فالصحيح المطابق للفهم العام في الكلام، أنَّ ذلك ممكن إذا لم يكن مجموع الفَهم من ألفاظ الحديث مُتنافراً، بمعنى ضرورة الانسجام بين المعاني التي فهمناها، سواء الصريح منها والرمزي.

وأمّا الحاجة إلى الرمزية وعدمه، فهو ما سبق أن بحثناه في التاريخ السابق(١) ، وخلاصته عدم إمكان الحمل على الرمز، مع إمكان فَهْم المعنى اللفظي المطابقي نفسه، ومع

____________________

(١) تاريخ الغيبة الكبرى ص٢١٨ وما بعدها.

١١٤

إمكان الحمل على المجاز والكناية؛ إذ مع إمكانه لا حاجة إلى الرمز.

انطلاقا من هذه الأُسس سنقوم بتذليل هذه الصعوبة، أعني تعيين الرمز من الصريح من الألفاظ، عن طريق (القواعد العامة) ودلالة الأخبار الأُخرى أولاً، فإن تعذّر ذلك، كان أُسلوب (الأطروحات) كفيلاً بتذليل هذه المشكلة؛ لأنَّنا حين نعرض الأُطروحة المـُعيَّنة القريبة إلى الذهن، سنعرف بطبيعة الحال ما يدلُّ عليها من الأخبار بنحو الرمز، وما يدلُّ عليها بنحو الصراحة.

الأمر الثاني - من التمهيد -: في تمحيص ما ورد من الحوادث.

يمكن تقسيم هذه الحوادث - من حيث إعرابها عن المعجزات - إلى قسمين:

القسم الأول: ما كان بدلالته اللفظية، أو بعد حمله على الرمزية، دالاَّ ًعلى حوادث غير إعجازية، اجتماعية أو طبيعية.

القسم الثاني: ما كان دالاَّ ًعلى حوادث إعجازية، بشكل واضح، لا يمكن صرفه عنها.

ويختصُّ القسم الثاني بتحفُّظين لا حاجة إليهما في القسم الأول:

التحفُّظ الأول: إنَّ هذا القسم مربوط بقانون المعجزات، فما كان منه مُنسجماً معه أمكن الأخذ به لو تمَّ فيه التحفُّظ الثاني الآتي... وما لم يكن مُنسجماً معه، فلا بدَّ من رفضه على كلِّ حال.

التحفُّظ الثاني: إنَّ القسم الأول يمكن قبول حدوثه مع الانسجام مع المنهج العام الذي قلناه في هذا التمهيد العام لهذا التاريخ... في حين أنَّ القسم الثاني يحتاج إلى درجة أعلى من التشدُّد في القبول، كما عملنا عليه في التاريخ السابق(١) ، ففي الوقت الذي قبلنا فيه الخبر الموثوق الواحد المـُجرَّد عن القرائن المـُثبتة في التمهيد... لم نكن قد قبلناه في التاريخ السابق، ولا نستطيع قبوله في أخبار القسم الثاني المـُتكفِّل لنقل أخبار المعجزات، باعتبارٍ ما، فينقلها من مظنَّة الخطأ والدسِّ، كما سبق أن عرضناه في التاريخ السابق(٢) ، فنقتصر فيه على قبول الخبر المـُستفيض أو المحفوف بالقرائن الموافقة.

الأمر الثالث: سبق منَّا في التاريخ السابق(٣) أن ذكرنا حوادث ما قبل الظهور

____________________

(١) تاريخ الغيبة الكبرى ص٢٠٨.

(٢) المصدر ص٢٠٤.

(٣) المصدر فصل الأخبار الدالَّة على التنبُّؤ بالمـُستقبَل ص٢٨٠، وفصل علامات الظهور ص٥٢١.

١١٥

مُفصَّلة، وعرفنا ما حدث منها وما لم يحدث، وما هو محمول على الرمزية وما ليس كذلك، وعرفنا هناك خصائص كثيرة لا حاجة إلى تكرارها في هذا التاريخ.

إلاَّ أنَّ هذا التركيز فيما سبق، كان على حوادث ما قبل الظهور، ككل سواء منها البعيد عنه والقريب... بل كان التركيز على البعيد عنه أشدَّ، الحديث عنه أوسع... باعتباره بعضاً من حلقات تاريخ الغيبة الكبرى.

ومع تجنُّب التكرار في هذا التاريخ، والاستغناء عن ذكر الحوادث البعيدة أو المـُحتملة البُعْد عن يوم الظهور، يبقى على هذا الفصل أربعة مهامٍّ:

المـُهمَّة الأُولى: التعرُّض إلى بعض العلامات التي لم تكن قد ذُكِرت في التاريخ السابق، مع مُحاولة تمحيصها، وإعطائها الفَهْم اللازم.

المـُهمَّة الثانية: مُحاولة إثبات بعض العلامات التي سبق ذكرها، طبقاً لتغيير المنهج في الإثبات التاريخي، كما سبق أن أوضحنا في التمهيد.

المـُهمَّة الثالثة: مُحاولة إعطاء فَهم جديد لبعض العلامات القريبة، التي لم تكن قد أخذت حظَّها الكافي من البحث في التاريخ السابق... أو عرض جوانب جديدة منها، لم تكن قد عُرِضت هناك.

المـُهمَّة الرابعة: مُحاولة ضبط التسلسل التاريخي للحوادث مهما أمكن، وهذا ما لم نتوفَّر عليه في التاريخ السابق، في حين يكون استنتاجه مُهمَّاً في هذا التاريخ.

وإذا تمَّت هذه المهامُّ، فسيكون هناك فرق أساسي كبير بين بحث التاريخ السابق، وبين هذا الباب، كما سوف يظهر عند الدخول في التفاصيل.

وعلى أيِّ حال، فتنقسم هذه الحوادث، أعني القريبة إلى الظهور، إلى قسمين رئيسين:

الأول: الظواهر الطبيعية أو السماوية التي لا تمتُّ إلى اختيار الناس بصِلَةٍ.

الثاني: الظواهر الاجتماعية التي تعود إلى تصرُّفات الناس، وما يعود إلى الحوادث التي تحصل للأمًّة الإسلامية بين آونة وأُخرى.

وينبغي أن يقع الحديث عن القسم الأول سابقاً على الحديث عن القسم الثاني؛ لأجل أن تتَّصل حوادث القسم الثاني بما بعدها من التاريخ؛ حفظاً للتسلسل الزماني لها، وسنتحدَّث عن كل قسم في فصل مُستقلٍّ.

١١٦

الفصل الأوَّل

الظواهر الطبيعية والسماوية

ونريد بها الحوادث المنقول حدوثها في الطبيعة، وإن كانت صفتها إعجازية.

والمنقول منها أُمور عديدة، ونحن نقتصر - اختصاراً للكلام وتمحيصاً للروايات - على ما كان مُتَّصفاً بشرائطَ ثلاثة:

الشرط الأول: عقدنا من أجله هذا الباب، وهو خصوص الحوادث القريبة من الظهور، بحسب أدلَّتها دون البعيد منها.

الشرط الثاني: أن تكون الحادثة ممَّا يمكن إثباته، بحسب المنهج الذي اتَّخذناه مع مُحاولة تجنُّب ما لا يمكن إثباته.

الشرط الثالث: أن يكون ممَّا ورد ارتباطه في الأخبار نفسها بظهور المهدي (ع)، وبهذا نختصر هذه الحوادث بالمصادر الخاصة الإمامية، وليس في المصادر العامة منها إلاَّ النادر.

وما يبقى مُندرجاً تحت هذه الشروط، من الحوادث، عدَّة أمور، نذكر كلاَّ ًمنها في جهة:

الجهة الأُولى: الخسوف والكسوف:

ويُراد به حدوثهما بشكل يختلف عن الشكل الاعتيادي له، فبدلاً عن أن يحدث الكسوف في أول الشهر والخسوف في وسطه، كما هو المـُعتاد، فإنَّ حدوثهما سوف يكون بالعكس، فيحدث الكسوف في وسط الشهر والخسوف في أوله... بشكل لم يسبقْ له نظير منذ أول البشرية إلى حين حدوثه، وهذا ما تُعرِب عنه عدد من الروايات، ذكرنا ثلاث منها في التاريخ السابق(١) ، عن

____________________

(١) انظر ص٥٧٤

١١٧

الشيخ الطوسي، والشيخ المفيد، والشيخ النعماني.

وأخرج الشيخ الطوسي في ( الغيبة )(١) أيضاً، بسنده عن بدر الأزدي، قال:

قال أبو جعفر الباقر (ع): ( آيتان تكونان قبل القائم لم تكونا منذ هبط آدم (ع) إلى الأرض: تنكسف الشمس في النصف من شهر رمضان، والقمر في آخره ).

فقال رجل: يا بن رسول الله، تنكسف الشمس في آخر الشهر والقمر في النصف؟

فقال أبو جعفر: ( إنِّي لأعلم بما تقول! ولكنَّهما آيتان لم تكونا منذ هبط آدم (ع) ).

وأخرج السيوطي في العُرف الوردي(٢) ، عن الدار قطني في سُننه، عن محمد بن علي الإمام الباقر (ع)، قال: ( إنَّ لمهدينا آيتين لم تكونا منذ خلق الله السموات والأرض: ينخسف القمر لأول ليلة من رمضان، وتنكسف الشمس في النصف منه، ولم يكونا منذ خلق الله السموات والأرض ).

وفيما روينا هناك ما يدلُّ على أنَّ انخساف القمر يكون في الخامس والعشرين من رمضان، وأمَّا انكساف الشمس، فهو في ثلاث عشرة أو أربع أو خمس عشرة منه.

ويدل سياق هذه الرواية - وأكثر من رواية أخرى - على قُرب هذه العلامة من قيام القائم، أعني ظهور المهدي (ع).

وهذا العدد من الروايات يكفي للإثبات التاريخي حتى مع (التشدُّد السَّندي) الذي سِرْنا عليه في التاريخ السابق، وطبَّقناه هنا على الروايات الناقلة للمعجزات.

وقد أشرنا هناك إلى المـُبرِّر الذي دعا إلى إيجاد هاتين الواقعتين في التخطيط الإلهي لما قبل الظهور، وهو - باختصار - ترسيخ فكرة المهدي (ع) عند حدوث هذه العلامة، أولا، والإيعاز إلى المـُخلصين من الخاصة إلى قُرب الظهور ثانياً.

يبقى علينا الآن أن نتكلَّم عن المـُبرِّر الكوني لوجودها، وهل هو بطريق إعجازي أو طبيعي... وإذا كان طبيعياً، فكيف يحصل... وهذا ما لم نُفِضْ فيه الحديث في التاريخ السابق.

____________________

(١) ص٢٧٠

(٢) الحاوي للفتاوي ج٢ ص١٣٦

١١٨

إنَّ لحدوث هذه الوقائع عدَّة أُطروحات، لا بدَّ من استعراضها ونقدها:

الأُطروحة الأُولى: حصول الكسوف والخسوف بسببه (العلمي) الاعتيادي، لكن مع اختلاف بسيط، هو الاختلاف في الزمان، فإن ثبت في العلم الحديث أنَّ الكسوف يحصل بتوسُّط الأرض بين الشمس والقمر، أمكن حصول ذلك في زمان آخر جديد.

وهذه الأُطروحة هي الأوفق بالظاهر الأوَّلي من الروايات، لو فُرِض الالتزام بكون هذه الحوادث طبيعية غير إعجازية.

إلاَّ أنَّها واضحة المـُناقشة طبقاً للنظرية العلمية الحديثة، ومن ثمَّ لا بدَّ من التنازل عن هذا الظهور الأوَّلي في الروايات.

فإنَّ القمر - وهو يستمدُّ نوره من الشمس، والنور يسير بخطوط مُستقيمة لا يمكن أن تنعطف انعطافاً كبيراً -... أنَّ القمر لا يمكن أن يكسف الشمس حال كونه بدراً في وسط الشهر؛ لأنَّ انكساف الشمس به، يلازم بالضرورة كون الوجه المـُظلم من القمر مُتوجِّهاً إلى الأرض، وهذا يُنافي بالضرورة كونه بدراً.

كما أنَّ خسوف القمر لا يكون إلاَّ بوقوع ظلِّ الأرض على القمر، بعد توسُّطها بينه وبين الشمس، وهذا معناه: أنَّ الأرض أقرب إلى الشمس من القمر، وهذا لا يحدث إلاَّ في وسط الشهر حين يكون القمر بدراً.

ولا يمكن دفع هذه المـُناقشة، إلاَّ بالطعن بالنظرية العلمية، انطلاقاً من زاوية أنَّ النظريات العلمية مهما تأكَّدت، فإنَّها قائمة على الحساب الظنِّي، وإن كان راجحاً، ولا تُنتج يقيناً تامَّاً بأيِّ حال، وهذا موكول إلى وجدان القارئ.

الأطروحة الثانية: أن تكون رؤية الكسوف والخسوف في غير الأرض، بل في مناطق أو كواكب أُخرى من المجموعة الشمسية.

أمَّا بالنسبة إلى كسوف الشمس، فقد حدث فعلاً عام (١٣٩١ هـ – ١٩٧١م)، حين كان بعض روَّاد الفضاء على القمر، فشاهدوا الشمس مكسوفة كلِّيَّاً بتوسُّط الأرض بينهم وبينها، وهذا التوسُّط لا يحدث عادة إلاَّ في وسط الشهر.

وأمَّا الخسوف فلم يحدث إلى حدِّ الآن، لكن في الإمكان تصوُّر حدوثه، فيما إذا انتقل بعض أفراد الإنسان إلى كوكب آخر من المجموعة الشمسية، كالمرِّيخ أو الزهرة، فإنَّه قد تُصبح الأرض ما بين القمر وذلك الكوكب، فيحدث الخسوف في نظرهم. ومن

١١٩

الواضح أنَّ هذا غير مشروط بحدوثه في وسط الشهر القمري، بل قد يحدث في أوَّله أو آخره أيضاً.

ويمكن المـُناقشة في هذه الأُطروحة من أكثر من جهة:

أوَّلاً: أنَّ الظهور الأوَّلي للروايات يقتضي حدوث الكسوف بالنسبة إلى ساكني الأرض، لا بالنسبة إلى مَن في القمر أو المرِّيخ.

غير أنَّه يمكن الاستغناء عن هذا الظهور، من زاوية أنَّ ظهورها في أنَّ الإنسان هو الذي يرى هاتين الواقعتين، وهو أمر لا يختلف فيه الحال بين الأرض والمرِّيخ، ما دام الإنسان هو المـُشاهد.

ثانياً: إنَّ الظهور الأوَّلي للروايات يقتضي حدوث هاتين العلامتين في شهر واحد، هو شهر رمضان، وهذا ممَّا لم يتحقَّق في الخارج.

ثالثاً: إنَّ الظهور الواضح لهذه الروايات – كما قلنا – يقتضي قُرب هذه الوقائع إلى اليوم الموعود، فإذا كان قد حدث أحد الأمرين، إذن؛ فهو لم يحدث قريباً من اليوم الموعود.

الأُطروحة الثالثة: أن يحدث الكسوف والخسوف بتوسُّط جُرم آخر طارئ في الفضاء صدفة، من الأجرام التي تُعتبر علميَّاً تائهة في الفضاء، أو ذات مدار ضخم جدَّاً وغير مُحدَّد، فيحجب القمر عن الشمس، فيحدث الخسوف، أو يحجب الشمس عن الأرض في وسط الشهر، فيحدث الكسوف، ومن الواضح أنَّ مرور الجرم الطارئ غير مُحدَّد بزمان مُعيَّن في الشهر.

وقد يؤيَّد ذلك بقوله في أكثر من رواية: ( إنَّهما آيتان لم تحدثا منذ هبط آدم (ع) ).

فلعلَّ جُرماً ما قد أوجد هذه الظاهرة قبل وجود البشرية، ثمَّ يكون وقت مروره بالمجموعة الشمسية منوطاً بتاريخ مُعيَّن يُصادف قبل ظهور المهدي بقليل.

وهذه الأُطروحة لا ترد عليها المـُناقشة الأُولى للأطروحة السابقة، لفرض أنَّها تُرى من الأرض.

وأمَّا المناقشة الثانية، فمن حيث حصول الواقعتين في شهر واحد، أمر لا غبار عليه، إذا التفتنا إلى أنَّ جُرماً واحداً هو الذي يعمل كلا العملين، فإنَّ المـُذنَّب وأمثاله إذا ظهر قريباً من الأرض لا يختفي عادة لليلة واحدة، بل يبقى مدَّة من الزمن، حتى ينتهي عبوره فضاء المجموعة الشمسية، فيمكن أن يحدث خلال وجوده كلا هذين الأمرين.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

٢

السلطة التنفيذيّة

المراد بالسلطة التنفيذيّة في مصطلح اليوم هو هيئة الوزراء، وما يتبعها من دوائر ومديريّات منتشرة في أنحاء البلاد، ويكون مهمّتها تنفيذ ما يقرّره مجلس الشورى من تصميمات، وقرارات، ومخطّطات في شتّى حقول الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، وبالتالي يقع على عاتقها مهمّة إدارة البلاد بصورة مباشرة، وهذه السطة لا تتحدّد ـ في عصرنا ـ بتشكيلات محدّدة كمّاً أو كيفاً بحيث لا تتعدّاها بل تختلف من بلد إلى بلد، ومن زمن إلى زمن فهي تزيد أو تنقص، وتضاف مديريّة أو تحذف، أو يدمج بعض في بعض تبعاً للحاجة.

وهيئة الوزراء التي تتصدّر هذه السلطة إمّا أن :

أ ـ ينتخبها الحاكم الأعلى المنتخب للبلاد رأساً.

ب ـ أو ينتخبها مجلس الشورى.

ج ـ أو تنتخبها الاُمّة مباشرةً، وإن كان هذا نادراً.

وعلى أي تقدير فإنّ الذي لا بدّ منه هو أن تكون السلطة التنفيذيّة ـ وفي مقدمتها الوزراء موضع رضا الاُمّة، وذلك يحصل بإحدى الطرق المذكورة، وإن كان الدارج الآن

٢٨١

هو انتخابها عن طريق الحاكم الأعلى، مع موافقة مجلس الشورى.

وإنّما يجب أن تكون هذه السلطة موضع رضا الاُمّة لأنّها تتسلّم زمام السلطة المباشرة على نفوس الناس وأموالهم وأرواحهم، وهذا التسلّط والتصرّف يؤول إلى الاستبداد إذا لم يكن منوطاً برضا الناس، وموافقتهم وإرادتهم.

وهذا هو ما أكّد عليه الدين الإسلاميّ في نظامه السياسيّ، فقد أشار الإمام عليّ ابن أبي طالبعليه‌السلام إلى ذلك ـ في عهده المعروف للأشتر النخعيّ لـمّا ولاّه على مصر حيث وصّاه بأن يتحرّى رضا الرعيّة إذ قال: « وليكن أحبّ الاُمور أليك أوسطها في الحقِّ، وأعمَّها في العدل، وأجمعها لرضا الرَّعيَّة، فإنَّ سخط الخاصَّة ـ يُجحفُ برضا العامّة، وإنَّ سخط الخاصَّة يُغتفرُ مع رضا العامّة »(١) .

هذا والحديث عن السلطة التنفيذيّة يستدعي البحث في ثلاثة اُمور :

أوّلاً: إثبات ضرورة وجود هذه السلطة في الحياة الاجتماعيّة جنباً إلى جنب مع السلطة التشريعيّة، والحاكم الأعلى للبلاد.

ثانياً: استعراض ما كانت عليه هذه السلطة في ( العهد النبوي ) خاصّةً وما آلت إليه فيما بعد.

ثالثاً: بيان الكيفيّة التي يجب أن تكون عليه الآن.

وإليك بيان هذه الاُمور تدريجياً.

ضرورة السلطة التنفيذيّة :

لا ريب أنّ القوانين الإسلاميّة التي شرّعها الله سبحانه للبشريّة وأنزلها عليهم، وكذا ما يستنبطه الفقهاء والمجتهدون أو تقرّره السلطة التشريعيّة من برامج على ضوء التعاليم الإسلاميّة لم تكن إلّا لإدارة المجتمع. فلم يكن تشريع كلّ تلك الشرائع، ولا

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة (٥٣).

٢٨٢

وضع جميع تلك البرامج عملاً اعتباطيّاً، بل كانت لأجل التنفيذ والتطبيق، وتنظيم الحياة الاجتماعيّة وفقها، فالقانون مهما كان راقياً وصالحاً ليس بكاف وحده في إصلاح المجتمع وإصلاح شؤونه، بل لا بدّ من إجرائه، وتنفيذه في الصعيد العمليّ.

إنّ الكتاب والسنّة زاخران بأحكام حقوقيّة ومدنيّة وجزائيّة وسياسيّة كثيرة وواسعة الأطراف والأبعاد وهي غير خافية على كلّ من له أدنى إلمام بهذين المصدرين الإسلاميّين العظيمين.

ففيهما الأمر الصريح والأكيد بقطع يد السارق:( فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) ( المائدة: ٣٨ ) وجلد الزاني والزانية:( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ) ( النور: ٢ ).

إلى غير ذلك من القوانين والحدود. ولقد حثّ الشارع الكريم على إجراء هذه الحدود وتنفيذ هذه القوانين، والتعاليم حثّاً أكيداً لا يترك لمتعلّل عذراً فقد ورد عن الإمام عليّعليه‌السلام أنّه قال: « سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: لن تقدس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقَّه من القوي غير متعتع »(١) .

وروى ابن أبي الحديد المعتزليّ أنَّه خرج رجل من أهل الشام في وقعة صفين فنادى بين الصفّين: يا عليّ ابرز أليّ، فخرج إليه عليّعليه‌السلام فقال: إنّ لك يا عليّ لقدماً في الإسلام والهجرة، فهل لك في أمر أعرضه عليك يكون فيه حقن دماء المسلمين وتأخّر هذه الحروب حتّى ترى رأيك ؟ فقالعليه‌السلام : « وما هو ؟ » قال: ترجع إلى عراقك فنخلّي بينك وبين العراق، ونرجع نحن إلى شامنا فتخلّي بيننا وبين الشام ؟ فقال عليّعليه‌السلام : « قد عرفت ما عرضت إنّ هذه لنصيحة وشفقة، ولقد أهمَّني هذا الأمر وأسهرني وضربت أنفه وعينه، فلم أجد إلّا القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

إنّ الله تعالى ذكره لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون، لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر فوجدت القتال أهون عليَّ من معالجة في الأغلال في جهنَّم »(٢) .

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة (٥٣).

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢: ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

٢٨٣

ولـمـّا سرقت المرأة المخزوميّة ما سرقت ـ في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وأراد اُسامة بن زيد الشفاعة في حقّها، فكلّم النبيّ في أمرها، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أتشفع في حدّ من حدود الله » ؟!

ثمّ قام فخطب وقال: « أيّها الناسُ إنَّما هلك الَّذين من قبلكُم أنَّهم كانوا إذا سرق فيهم الشَّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضَّعيف أقاموا عليه الحدَّ »(١) .

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « ساعة إمام عادل أفضل من عبادة سبعين سنة وحدّ يقام لله في الأرض أفضل من مطر أربعين صباحاً »(٢) .

وفي حديث مفصّل وقضية مطوّلة قال الإمام عليّعليه‌السلام : « أللّهم إنّك قلت لنبيّك فيما أخبرته من دينك: يا محمّد من عطَّل حدَّاً من حدودي فقد عاندني وطلب بذلك مضادَّتي »(٣) .

وقال الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أيضاً: « لابدَّ للنَّاس من إمام يقوم بأمرهم وينهاهم ويقيم فيهم الحدود ويجاهد فيهم العدوَّ، ويقسّم الغنائم ويفرض الفرائض أبواب ما فيه صلاحهم ويحذّرهم ما فيه مضارّهم، إذا كان الأمر والنهي أحد أسباب بقاء الخلق وإلاّ سقطت الرغبة والرهبة ولم يرتدع ويفسد التدبير وكان ذلك سبباً لهلاك العباد فتمام أمر البقاء والحياة في الطَّعام والشَّراب والمساكن والنكاح من النّساء والحلال الأمر والنَّهي »(٤) .

وعن الإمام الباقر محمد بن عليّعليه‌السلام : « إنّ الله تعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الاُمّةُ ـ إلى يوم القيامة ـ إلّا أنزله في كتابه، وبيَّنه لرسوله. وجعل لمن تعدَّى الحدَّ حدَّاً »(٥) .

وعنهعليه‌السلام أيضاً أنّه قال: « حدّ يقام في الأرض أزكى فيها من مطر أربعين

__________________

(١) صحيح مسلم ٥: ١١٤.

(٢) وسائل الشيعة ١٨: ٣٠٨، والخراج: ١٦٤.

(٣) وسائل الشيعة ١٨: ٣٠٨.

(٤) رسالة المحكم والمتشابه للسيد المرتضى نقلاً عن تفسير النعمانيّ: ٥٠.

(٥) وسائل الشيعة ١٨: ٣١١.

٢٨٤

ليلة وأيّامها »(١) .

وعنهعليه‌السلام أيضاً أنه قال: « لا تبطل حدود الله في خلقه ولا تبطل حقوق المسلمين بينهم »(٢) .

وقال الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إقامة حدّ خير من مطر أربعين صباحاً »(٣) .

وقال الإمام الكاظم موسى بن جعفرعليه‌السلام في تفسير قول الله عز وجل:( يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ) ( الروم: ١٩ ): « ليس يحييها بالقطر، ولكن يبعث الله رجالاً فيحيون العدل فتحيا الأرض لأحياء العدل، لإقامة الحدّ فيه أنفع في الأرض من القطر أربعين صباحاً »(٤) .

إلى غير ذلك من الأحاديث الصريحة التي تحث على إجراء الحدود، مضافاً إلى الآيات القرآنيّة الكريمة التي تحثّ بدورها على العمل بأحكام الله سبحانه، دون فرق بين ما تعلّق منها بالفرد أو المجتمع وتندّد بالذين يعلمون الكتاب، ويعرفون ما فيه من التعاليم والأحكام ولا يعملون بها.

بيد أنّ تنفيذ الأحكام والقوانين المتعلّقة بالمجتمع، وإجراء الحدود لا يمكن أن يفوّض إلى عامّة الناس وسوادهم فلا يعني ذلك إلّا شيوع الفوضى، وضياع الحقوق، واضطراب الحدود بين الافراط والتفريط، ولهذا لابدّ من جهاز تنفيذيّ خاصّ يتولّى هذه المهمّة الاجتماعيّة الحساسّة ويقوم بهذا الدور الخطير.

ومن العجيب أنّ موضوع الهيئة التنفيذيّة رغم كونه من أبرز ما أشار إليه الإسلام بل وصرّح به في نظام الحكومة الإسلاميّة ؛ قد تعرّض لتجاهل بعض الباحثين حول الإسلام بل وإنكارهم ؛ فقد أخذ بعض المستشرقين ـ فيما أخذ ـ على الإسلام فقدانه لجهاز تنفيذيّ ونظام حكوميّ يضمن تنفيذ القوانين، ويضفي على الإسلام طابع المنهج

__________________

(١ و ٢) وسائل الشيعة ١٨: ٣٠٨، ٣١٥.

(٣ و ٤) نفس المصدر: ٣٠٨.

٢٨٥

الصالح لقيادة البشريّة حتّى في الصعيد السياسيّ فقال ما ملخّصه: « إنّ الإسلام مشتمل على قوانين وسنن رفيعة تتكفّل سعادة المجتمع فرديّاً واجتماعيّاً بيد أنّ ما جاء به الإسلام لا يتجاوز حدود التوصية الاخلاقيّة والإرشاد المعنويّ دون أن يكون لديه ما يضمن تنفيذها من سلطات وأجهزة، فإنّنا لم نلمس في التعاليم الإسلاميّة الموجودة أي إشارة إلى هيئة تنفيذيّة تقوم بإجراء الأحكام، وتنفيذ القوانيين ولذلك تعتبر الشريعة الإسلاميّة غير كافية من هذه الناحية، وعاجزةً عن التطبيق ».

هذا هو خلاصة ماقاله بعض المستشرقين، ولكن لو رجع صاحب هذه المقالة إلى الكتاب والسنّة، ولاحظ ما طفحت به الكتب الفقهيّة الإسلاميّة من سياسات اجتماعيّة، وحقوق مدنيّة، وتدابير جزائيّة عهد إجراؤها إلى الحاكم الإسلامي ؛ للمس وجود الهيئة التنفيذيّة في النظام الإسلاميّ بجوهره وحقيقته وإن لم يكن بتفصيله المتعارف الآن.

فأيّ تصريح بوجود الجهاز التنفيذيّ أكثر صراحةً من إيكال قسم كبير من القضايا الاجتماعيّة، والاُمور الجزائيّة إلى ( الحاكم الشرعي ) حيث نجد الكتب الفقهيّة زاخرةً بعبارات: عزّره الحاكم، أدّبه الحاكم، نفاه الحاكم، طلّق عنه الحاكم، حبسه الحاكم، خيّره الحاكم(١) . وما شابه من الاُمور المخوّلة إلى الحاكم الإسلاميّ، وهو يوحي بوجود جهاز تنفيذيّ في النظام الإسلاميّ، لأنّ أكثر تلك المهام هي من صلاحيات السلطة التنفيذيّة المتعارفة الآن.

هذا مضافاً إلى أنّ موضوع ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) الذي يؤكّد عليهما الدين الإسلاميّ أشدّ تأكيد يعتبر من أوضح الأدلّة على لزوم مثل هذا الجهاز التنفيذيّ حتّى يمكن القول ـ بدون مبالغة ـ أنّ المقصود بالقائمين بهذه الفريضة الكبرى، والوظيفة العظمى هو ( الهيئة التنفيذيّة ).

__________________

(١) راجع هذا الجزء: ٢٣ ـ ٣٠.

٢٨٦

الآمرون بالمعروف هم السلطة التنفيذيّة :

إنّ النظر العميق في فريضة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) وأحكامهما ومسائلهما، وشروطهما يقضي بأنّ الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر هم ( السلطة التنفيذيّة ) التي تقع على عاتقها مهمّة إجراء الأحكام، وتنفيذها وصيانتها في المجتمع الإسلاميّ. ولابدّ ـ قبل إثبات هذا الأمر ـ من تقديم مقدّمة حول هذه الفريضة الإسلاميّة العظمى فنقول: تعتبر وظيفة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) أصلاً مبتكراً، وفريضةً بديعةً جاء بها الإسلام وهي ممّا لم يعهد لها نظير في الأنظمة الوضعيّة البشريّة فقد فرض الدين الإسلاميّ ـ بموجب هذه الفريضة ـ على أتباعه أن ينشروا الخير والمعروف بين الناس، ويزجروا عن الشرّ والمنكر، ولا يكونوا متفرّجين أو ساكتين اتّجاه ما يجري في المجتمع ويقع من إظهار المنكر أو تضييع للمعروف.

ولقد انطلق الإسلام ـ في إيجابه لهذه الفريضة العظيمة ـ من حقيقة اجتماعيّة مسلّمة وهي: أنّ أعضاء المجتمع الواحد الذين يعيشون في بيئة واحدة، مشتركون في المصير فلو كان هناك خير لعمّ الجميع ولم يقتصر على فاعله، ولو كان هناك شرّ لشمل الجميع أيضاً ولم يختصّ بمرتكبه. ومن هناك يجب أن تتحدّد تصرّفات الأفراد في هذا المجتمع، وتتحدّد حريّاتهم بمصالح الاُمّة، ولا تتخطّاها.

ولقد شبّه الرسول الأكرم وحدة المصير للمجتمع الواحد بأحسن تشبيه حيث مثّل أفراد المجتمع بركاب سفينة في عرض البحر، إذا تهددها خطر تهدّد الجميع ولم يختصّ بأحد دون أحد ولذلك لا يجوز لأحد ركّابها أن يثقب موضع قدمه بحجّة أنّه مكان يختصّ به. ولا يرتبط بالآخرين، لأنّ ضرر هذا العمل يعود إلى الجميع ولا يعود إليه خاصّةً. وهذا هو أفضل تشبيه لاشتراك المجتمع الواحد في المصير، والمسير(١) .

كما أنّه لو أصيب أحد أفراد المجتمع بالوباء لم يجز له أن يتجوّل في البلاد بحجّة

__________________

(١) راجع روض الجنان للشيخ أبي الفتوح الرازيّ.

٢٨٧

أنّه حرّ ؛ لأنّ ذلك يعرّض سلامة الآخرين للخطر، فلا بدّ أن يتحدّد تجوّله، تجنيباً للمجتمع من كوارث ذلك المرض.

إنّ هذه الأمثلة وأشباهها توضّح أهميّة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) ومكانتهما ومدى أثرهما في سلامة المجتمع واستقامته وصلاحه، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نظارة عموميّة، ورقابة صارمة تمنع من تفشّي المنكر وتساعد على نمو الخير، وازدهاره. وهما إلى جانب ذلك سبب قويّ في بقاء الدين، واستمرار الرسالة الإلهيّة.

ولقد وردت في التأكيد على هذه المهمّة الخطيرة آيات قرآنيّة كثيرة، وأحاديث، تأمر الجميع بالقيام بالدعوة إلى الخير، وإنكار المنكر، وهي معلومة وواضحة لكلّ من له أدنى إلمام بالشريعة الإسلاميّة.

نعم، ربّما يُتوهّم من بعض الآيات خلاف ذلك، وهي تلك الآيات التي يتمسّك بها بعض طلاب الراحة والعافية واتّباع الهوس لسدّ باب التبليغ والدعوة، أو للتخلّص من تحمّل مشكلاتها، وصعوبتها، ومن تلك الآيات قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( المائدة: ١٠٥ ).

وقد رفع المفسّرون النقاب عن وجه هذه الآية وفسّرها الأمين الطبرسيّ في تفسيره مجمع البيان بقوله: « إنّ الآية لا تدل على جواز ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل توجب أنّ المطيع لربّه لا يؤخذ بذنوب العاصي »(١) .

بيد أنّ لنا توضيحاً آخر لمفاد هذه الآية وهو: أنّ الآية تشير إلى سيرة عقلائيّة وقضيّة عقليّة وهي أنّ على من يريد إصلاح المجتمع أن يبدأ بنفسه ثمّ يتعرّض لإصلاح الآخرين فما لم يصلح المرء نفسه ليس له أن يؤدّب غيره، وإلى ذلك يشير الإمام عليّعليه‌السلام قائلاً: « من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تأديبهُ بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلمُ نفسه ومؤدّبها أحقّ بالإجلال من معلّم الناس

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ٣: ٢٥٤.

٢٨٨

ومؤدّبهم »(١) .

وبالجملة أنّ الآية ناظرة إلى الاجتماعات الفاسدة الغارقة في الفساد والانحراف فإنّ الطريق الوحيد لإصلاحها هو الابتداء بإصلاح الذات وعدم توقّع أي إصلاح للغير قبل ذلك ؛ وأن لا يترك إصلاح نفسه بحجّة أنّ المجتمع فاسد وإليه يشير قوله سبحانه:( لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) ويؤيد ذلك قول النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء ».

فقيل: يا رسول، من الغرباء ؟ فقال: « الَّذين يصلحون إذا أفسد الناس من سنَّتي »(٢) .

وهذا الحديث يرفع التوهّم حول الآية خصوصاً إذا قرئ قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يصلحون » بصيغة اللازم، فإلى هذا المعنى تشير الآية المذكورة. وعلى أي تقدير فالآية لا ترتبط بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا تمتّ بهما بصلة.

ولقد كفى في أهميّة هذه الوظيفة أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد بلغا من الأهميّة والأثر حتّى صارا أفضل من الجهاد إذ قال الإمام عليّعليه‌السلام : « وما أعمال البرّ كلّها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلّا كنفثة في بحر لجّيّ »(٣) .

ووجه هذه الأفضليّة على الجهاد وسائر أعمال البرّ هو أنّ ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) بكلا قسميه ( الفرديّ والاجتماعيّ ) كما سيوافيك بيانهما مكافحة داخليّة، والجهاد كفاح خارجيّ. والاُولى متقدّمة على الثانية، فلو لم يصلح الداخل لم يصلح الخارج، وما دام الداخل غير مستعدّ للإصلاح لا يمكن للمسلمين أن يخطوا أيّة خطوة لإصلاح الخارج.

كما ويؤكّد ضرورة إنكار المنكر وحرمة تركه قوله تعالى:( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي

__________________

(١) نهج البلاغة: ـ الحكم ـ الرقم (٧٣).

(٢) جامع الاُصول ١٠: ٢١٢، أخرجه الترمذي.

(٣) نهج البلاغة: قصار الحكم الرقم (٣٧٤).

٢٨٩

الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ) ( النساء: ١٤٠ ).

فهذه الآية تدلّ على أنّ السكوت على المنكر يوجب أن يكون الساكت على الذنب كالمرتكب له، ولأجل ذلك قال الإمام عليّعليه‌السلام : « إنَّما يجمع الناسُ الرِّضى والسَّخطُ وإنَّما عقر ناقة ثمود رجُل واحد فعمَّهُم الله بالعذاب لـمّا عمّوهُ بالرِّضى »(١) .

ثمّ إنّ الغور في هذه الوظيفة الإسلاميّة ومعرفة شروطها وفروعها وآثارها الحيويّة يستدعي إفراد رسالة مفصّلة خاصّة بذلك.

غير أنّنا نقتصر هنا على ذكر ما يرتبط ببحثنا وهو إثبات وجود ( السلطة التنفيذيّة ) في نظام الحكم الإسلاميّ فنقول: إنّ النظر في مهمّة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) يقضي بأنّ الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر يتمثّلون ـ في الحكومة الإسلاميّة ـ في ( الهيئة التنفيذيّة ) فليست هذه السلطة في حقيقة الأمر إلّا القائمين بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على صعيدهما الاجتماعيّ العموميّ. والوقوف على هذا المطلب يحتاج إلى التنبيه على أنّ فريضة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) تنقسم إلى وظيفتين :

١. وظيفة فرديّة.

٢. وظيفة اجتماعيّة عموميّة.

وهما يختلفان ماهيّةً وشروطاً حسبما نعرف ذلك من الكتاب والسنّة كما سيوافيك بيانه.

أمّا الكتاب فنجده يوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تارةً على المجتمع، أي على كلّ فرد فرد من أعضاء الاُمّة الإسلاميّة، وتارةً على جماعة خاصّة من المجتمع الإسلاميّ وإلى القسم الأوّل ( الفردي ) يشير قوله تعالى:( وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة (٢٠١).

٢٩٠

أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة: ٧١ ).

وقوله تعالى:( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ ) ( التوبة: ١١٢ ).

وقوله سبحانه:( كُنتُمْ خَيْرَ أمّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ ) ( آل عمران: ١١٠ ).

إلى غير ذلك من الآيات، والخطابات الموجّهة إلى المجتمع بصورة عامّة.

وإلى القسم الثاني تشير الآيات التي تضع هذه الوظيفة على عاتق جماعة خاصّة وتعبّر عنها ب‍ ( أمّة ) وفي ذلك قوله سبحانه:( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أمّة يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) ( العمران: ١٠٤ ).

ومن المعلوم أنّ الاُمّة عبارة عن جماعة خاصّة تجمعهم رابطة العقيدة ووحدة الفكر، وهي وإن كانت تطلق أحياناً على الفرد الواحد كقوله سبحانه:( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أمّة قَانِتًا للهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( النحل: ١٢٠ ) لكنه إطلاق واستعمال غير شائع فلا تحمل الآية عليه. وقد فسّر الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام هذه الآية بقوله: « وسُئل عن الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أواجب هو على الاُمّة جميعاً ؟ فقال: لا، فقيل لهُ: ولم ؟ قال: إنَّما هُو على القوي الـمـُطاع العالم بالمعروف من المنكر لا على الضَّعيف والدَّليلُ على ذلك كتاب الله عزَّ وجلَّ قوله:( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أمّة يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ) فهذا خاص غير عام كما قال الله عزَّ وجلَّ:( وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أمّة يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) ( الأعراف: ١٥٩ ) ولم يقل: على أمّة موسى ولا على كُلِّ قومه، وهم يومئذ اُمم مختلفة والاُمّة واحد فصاعداً كما قال الله عزَّ وجلَّ:( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أمّة قَانِتًا للهِ ) »(١) .

__________________

(١) وسائل الشيعة ١١: ٤٠٠.

٢٩١

وقوله تعالى:( إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) ( الحج: ٤١ ).

فهذه الآية تشير ـ بوضوح ـ إلى أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المذكورين في الآية هو من النوع الذي يحتاج إلى المكنة والقدرة والسلطة، فالوصف فيه وصف للمؤمنين الذين تمكّنوا من السلطة وبالتالي فهو وصف للجهاز الحاكم والسلطة التنفيذيّة، ولا يمكن إرجاعه إلى عامّة المسلمين لأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتوجّبين على الكافة لا يختصّ بظرف المكنة في الأرض، ولا يتقيد بقيد السلطة، بل تجب مراتبه قلباً ولساناً في جميع الأحوال بل يمكن أن يقال أيضاً إنّ الدعوة والتبليغ حتى باللسان على قسمين :

قسم يمكن أن يقوم به كلّ مسلم عارف بضروريات الإسلام من واجبها وحرامها.

وقسم لا يمكن أن يقوم به إلّا فرقة من كلّ طائفة ممّن صرفوا أوقاتهم وأعمارهم في تعلّم الدين بعمقه وتفاصيله وجزئيّاته، وإلى ذلك يشير قوله تعالى:( وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) ( التوبة: ١٢٢ ).

وقد سئل الإمام الصادقعليه‌السلام عن قول رسول الله: « اختلافُ أُمّتي رحمة » فقال: « صدقوا في هذا النَّقل » فقلت: إن كان أختلافهم رحمةً فاجتماعهم عذاب قال: « ليس حيثُ تذهب وذهبوا، إنَّما أراد قولُ الله تعالى:( فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) فأمرهُم الله أن ينفروا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويختلفوا إليه فيتعلّموا ثمَّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم، إنّما أرادهم من البلدان لا اختلافهم في الدين إنّما الدّينُ واحد »(١) .

__________________

(١) تفسير البرهان ٢: ١٧٢ ومعاني الاخبار: ١٥٧ وعلل الشرائع ١: ٦٠ وقد نقلها صاحب الوسائل في ٨: ١٠١ ـ ١٠٢.

٢٩٢

وأمّا الأحاديث والأخبارُ الواردة في شأن وظيفة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر فهي أيضاً تُقسِّم هذه الفريضة إلى قسمين :

قسم لا يحتاج القيام به الى جهاز خاص وقدرة وتمكّن، لأنّه لا يتجاوز القلب واللسان والوجه. وقسم يتوقّف القيام به على الجهاز والقوَّة والسّلطة.

وإلى القسم الأوّل يشير ما روي عن الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام إذ قال: « من ترك إنكار المنكر بقلبه ولسانه فهو ميّت بين الأحياء »(١) .

وعنهعليه‌السلام أيضاً قال: « أمرنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرَّة »(٢) .

وقالعليه‌السلام أيضاً: « أدنى الإنكار أن تلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرّة »(٣) .

وعن الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام إذ قال: « حسبُ المؤمن غيراً ( أي غيرة ) إذا رأى منكر أن يعلم الله عزَّ وجلَّ من قلبهُ إنكاره »(٤) .

وهذا القسم من الأحاديث الحاثَّة على الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر يشملُ كلّ فرد من أفراد المسلمين ولا يتجاوز القلب والوجه واللسان ويمكن لأيِّ فرد من الأفراد القيام به ؛ إذ لا يحتاج إلى تكلّف مؤنة، ولا توفّر قوَّة وسلطة وهو بالتالي يعمُّ كلّ مسلم آمراً ومأموراً حاكماً ومحكوماً.

وأمّا القسم الثاني ؛ وهي الأحاديث التي تجعل الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر دعامةً لأقامة الفرائض، وسبيلاً إلى أمن الطرق والمسالك، وردِّ المظالم، وردع الظَّالم، ووسيلةً إلى عمارة الأرض والانتصاف من الأعداء وهي اُمور لا تتحقّق إلّا بجهاز قادر متمكِّن فهي كالتالي :

قال الإمام محمّد بن علي الباقرعليه‌السلام : « إنَّ الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض والنَّهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء بها

__________________

(١ و ٢) وسائل الشيعة ١١: ٤٠٤، ٤١٣.

(٣ و ٤) وسائل الشيعة ١١: ٤١٣، ٤٠٩.

٢٩٣

تأمن المذاهب، وتحلّ المكاسب، وتردّ المظالم وتعمّر الأرض، وينتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر »(١) .

ومن المعلوم أنّ الأمر والنّهي المؤدّيين إلى أمان الطّرق والمسالك وعمارة الأرض والانتصاف من الأعداء للمظلومين لا يتيسّر إلّا بجهاز تنفيذيّ قويّ، وسلطة إجرائيّة قادرة تتحمّل عبء الأمر والنّهي على المستوى العموميّ وبواسطة الأجهزة والتشكيلات، هذا مضافاً إلى أنّ ذكر الأنبياء في الحديث لعلّه يوحي بأنّ الأمر والنهي المذكورين هنا هو ما كان مقروناً بالحاكميّة والسلطة على غرار ما كان للأنبياء: حيث كانوا يمارسون مهمّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ غالباً ـ من موقع السلطة والحاكميّة والولاية لا من موقع الفرد ومن موضع التبليغ ومجرد الوعظ والإرشاد الفرديّ.

وعن النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « لا تزال اُمّتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البرِّ فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسلّط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء »(٢) .

وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام مع ردِّ المظالم، ومخالفة الظالم وقسمه الفيء وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقّها »(٣) .

ومن البين أنّ مخالفة الظالم وردعه وإيقافه عند حدّه، وتقسيم المال بين المسلمين بصورة عادلة وأخذ الصدقات والموارد الماليّة، الذي يعني التنظيم الاقتصاديّ على المستوى العام للمجتمع، لا يتأتّى عن طريق الأمر والنهي الفرديين والمنحصرين في إطار الموعظة بل يحصل ويتحقّق بوجود جهاز تنفيذيّ حاكم وسلطة إجرائيّة تتولّى إدارة دفّة البلاد وفق تعاليم الإسلام، فإنّ مثل هذا الأمر والنهي يحتاج إلى استعمال القوّة

__________________

(١ و ٢) وسائل الشيعة ١١: ٣٩٥، ٣٩٨.

(٣) وسائل الشيعة ١١: ٤٠٣، وقد ورد مثلها عن الإمام الحسين بن عليّ في تحف العقول: ١٧١ ( طبعة بيروت ).

٢٩٤

لإجراء الحدود والعقوبات وتنفيذ الأحكام الجزائيّة، وهي اُمور لا يمكن أن تتحقّق إلّا في ظلّ سلطة وجهاز تنفيذيّ.

من هنا ؛ تكون الوظيفة العموميّة وما يترتّب عليها من الحبس والتأديب والقصاص وما شابه ؛ مقتضية لوجود سلطة تنفيذيّة يعهد إليها الأمر والنهي الاجتماعيين العموميين، الذين فيهما صلاح عامّة الناس، واستقامة اُمورهم عامّة ويمكن إستفادة هذا المطلب من كلام للسيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام إذ قالت: « والأمرُ بالمعروف مصلحة للعامَّة »(١) .

إذ أي أمر بالمعروف يمكن أن يكون مصلحة للعامّة إذا لم يكن القائم به جهاز ذو قدرة وسلطان يقوم بذلك عن طريق التشكيلات والتنفيذ العام.

كما ويمكن استفادة ذلك أيضاً من كلام الإمام عليّعليه‌السلام إذ قال: « أخذ الله على العُلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم وسغب مظلوم »(٢) .

فكيف يمكن منع الظالم من ظلمه، ومنع المستغلّ من الاستئثار بلقمة الفقير، إلّا بجهاز وسلطة خاصّة، فليس العلماء المذكورون في هذا الحديث إلّا ذلك الجهاز التنفيذيّ القادر على الإجراء.

وكذا يستفاد هذا الأمر من كلام آخر للإمامعليه‌السلام وهو يتحدّث عن الوالي وماله وما عليه: « أللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن الّذي كان منّا منافسةً في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ولكن لنردَّ المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطَّلة من حدودك »(٣) .

__________________

(١) بلاغات النساء لابن طيفور ـ المتوفّى عام ( ٣٨٠ ه‍ ) ـ ص ١٢، ومعاني الأخبار: ٣٣٦.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة (٣).

(٣) نهج البلاغة: الخطبة (١٢٧) شرح عبده، وقد ورد نظيره عن الإمام الحسين بن عليّ إذ قال: « أللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام ولكن لنرى المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك » راجع تحف العقول: ١٧٢ ( طبعة بيروت ).

٢٩٥

فكيف يمكن أمان المظلومين، وإقامة الحدود المعطّلة وإظهار الإصلاح العام في البلاد وتطبيق سنن الله وأحكامه بلا استثناء إلّا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المعتمدين على السلطة والناشئين عن جهاز تنفيذيّ ؟

إذ كيف يمكن قيام الفرد أو الأفراد بكلّ ذلك وهو بحاجة إلى قدرة وتمكّن ونفوذ أمر وسلطان ؟

ويمكن تأييد ضرورة وجود هذه السلطة واختصاص هذا النوع من ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) الذي يتجاوز القلب والوجه واللسان ويتعدّاه إلى ( اليد ) وإستعمال القوة والسلطة ؛ بتنديد الله بالربانيّين والأحبار الذين تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهم المسؤولون عن ذلك لأنّهم كانوا في مقام الإمرة وفي موقع السلطة فقال الله تعالى:( وَتَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) ( المائدة: ٦٢ ـ ٦٣ ).

وقد أشار الإمام عليّعليه‌السلام إلى تفسير هذه بقوله: « أمّا بعد فإنّه إنّما هلك من كان قبلكم حينما عملوا من المعاصي ولم ينههم الرَّبانيون والأحبار عن ذلك وأنَّهم لـمّا تمادوا في المعاصي ولم ينههم الرَّبانيون والأحبار عن ذلك نزلت بهم العقوبات »(١) .

وهكذا تفيد نصوص الكتاب والسنّة وجود نوعين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ أحدهما وظيفة جميع الأفراد والآخر وظيفة سلطة قادرة

وبذلك يجمع بين الطائفتين من الآيات والروايات اللتين يضع قسم منها هذه الوظيفة على عاتق الجميع، وقسم منها على عاتق جماعة خاصّة ؛ فالأوّل راجع إلى الوظيفة الفرديّة منهما، فهو الذي يجب على الجميع، والثاني راجع إلى الوظيفة الاجتماعيّة التي تختصّ باُمّة متمكّنة من السلطة.

وممّا يدلّ على هذا إلى جانب تلك النصوص فتاوى الفقهاء ـ في باب الحدود ـ

__________________

(١) وسائل الشيعة ١١: ٣٩٥.

٢٩٦

والتي تضافرت على أنّه لو وجب قتل مسلم قصاصاً لم يجز لأحد أن يقتص منه غير ولي الدم بإذن الحاكم أو الحاكم نفسه، فلو قتله غيره كان عليه القود، ولا يتوهّم أنّ من وجب عليه إجراء الحدّ، يكون مهدور الدم بالنسبة إلى كلّ واحد فإنّه توهّم باطل فإنّ من وجب عليه الحد والقصاص على أقسام :

١. إمّا أن يكون مهدور الدم لكلّ أحد كساب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو الكافر الحربيّ، فإنّه إذا قتله المسلم أو الذمي لا قود عليهما. ولكنّهما يعزّران لتدخلهما في أمر الحاكم.

٢. أن يكون مهدور الدم بالنسبة إلى المسلمين كالمرتد الفطريّ، فإذا قتله المسلم لا قود عليه، ولو قتله الذميّ فعليه قود، ومع ذلك فيعزّر المسلم لو قتله للتدخّل المذكور.

٣. أن يكون مهدور الدم بالنسبة إلى من له القصاص ( أي وليّ الدم ) ومن إليه القصاص ( أي الحاكم ) كالقاتل المسلم ظلماً فلا يجوز لغير ولي الدم أو الحاكم قتله(١) .

٤. أن يكون مهدور الدم بالنسبة إلى من إليه الحكم، كاللائط والزاني المحصن.

كما أنّ ممّا يدلّ على وجود نوعين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أنّ الفقهاء ذكروا للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر شروطاً أربعة هي :

١. أن يكون عارفاً بالمعروف من المنكر.

٢. أن يحتمل تأثير إنكاره فلو غلب على ظنّه أو علم أنّه لا يؤثّر لم يجب عليه شيء.

٣. أن يكون الفاعل للمنكر مصرّاً على الاستمرار فلو لاحت منه إمارة الامتناع أو قلع عنه، سقط الإنكار.

٤. أن لا يكون في الإنكار مفسدة، فلو ظنّ توجّه الضرر إليه، أو إلى ماله أو إلى أحد من المسلمين سقط(٢) .

__________________

(١) راجع جواهر الكلام ونظائر هذه المسألة من ص ١٥٩ ـ ١٩٨ الجزء ٤١.

(٢) شرائع الإسلام: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

٢٩٧

ومن المعلوم ؛ أنّ الشرط الثاني ( احتمال التأثير ) والثالث ( الإصرار على المنكر ) من شروط القسم الفرديّ من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا الاجتماعيّ منهما إذ لا يعتبر في الاجتماعيّ من هذه الفريضة احتمال التأثير، بل للحاكم أن يجري الحدود والعقوبات المقرّرة فيقتصّ من القاتل أو الجارح، ويقطع يد السارق سواء أكان هناك تأثير أم لا.

كما أنّ للحاكم أن يجري الحدود والعقوبات المقرّرة سواء كرّر المجرم أم لم يكرّر جريمته ومعصيته، ولأجل هذا يجب التمييز والفصل بين الأمر والنهي الفردي، والأمر والنهي الاجتماعيّ العموميّ لاختلافهما في الشروط والغايات. ولا شكّ أنّ هذه المغايرة والتمايز يكشف ـ وبمعونة ما سبق وما يأتي من الأدّلة ـ عن أنّ القسم الثاني من هذه الفريضة هو من شأن سلطة تنفيذيّة وجهاز حكم وليس من شأن الأفراد.

دفع إشكال حول الأمر والنهي :

ربما يتوهّم أحد أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينطويان على مجرّد طلب فعل المعروف وطلب ترك المنكر وهذا ممّا لا يتحقّق في إجراء حدّ القتل أو الرجم على المحكوم بهما، فكيف يمكن أن نعتبرهما من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟

ولكن هذا الإشكال مدفوع بأنّ الطلب الإنشائي الذي هو من قبيل المفهوم، وإن لم يكن موجوداً في إجراء حدّ القتل والرجم لكنّه فيه واقعيّة الطلب وحقيقته وأثره، إذ باجراء هذين الحدّين تنعدم المنكرات واقعاً، ولو بالنسبة للآخرين، وهذا نظير قوله سبحانه:( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة: ١٧٩ ) فإن قتل القاتل وإن كان سلباً لحياته لكنّه إحياء للنفوس الاُخرى. وهو هدف القصاص، ولأجل ذلك كانت العرب تقول في مورد القصاص « القتل أنفى للقتل ».

وخلاصة القول أنّ الأثر المطلوب من إجراء الحدود وإن كان منفيّاً بالنسبة إلى الجاني نفسه ولكنّه موجود بالنسبة إلى المجتمع.

٢٩٨

هذا وممّا يؤكد وجود نوعين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنّ علماء الإسلام ذكروا للمحتسب وهو من يقوم بالأمر والنهي الاجتماعيّين شروطاً لا تعتبر في القسم الفرديّ من هذه الفريضة.

فقد قال ابن الاخوة القرشيّ في كتابه معالم القربة في أحكام الحسبة :

الحسبة من قواعد الاُمور الدينيّة، وقد كان أئمّة الصدر الأوّل يباشرونها بأنفسهم لعموم صلاحها وجزيل ثوابها وهي: أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله وإصلاح بين الناس، قال الله تعالى:( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إلّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ) ( النساء: ١١٤ ).

والمحتسب من نصبه الإمام أو نائبه للنظر في أحوال الرعيّة والكشف عن اُمورهم ومصالحهم ( وفي نسخة اُخرى: وبياعاتهم ومأكولهم ومشروبهم ومساكنهم وطرقاتهم ) وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.

ومن شروط المحتسب أن يكون: ( مسلماً ) ( حرّاً ) ( بالغاً ) ( عاقلاً ) ( عدلاً ) ( قادراً )(١) .

ومن المعلوم أنّ ( الحريّة ) و ( البلوغ ) و ( العدالة ) ليست شروطاً في القسم الفرديّ من وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فهذا التباين في الشرائط والصلاحيّات يكشف ـ بوضوح ـ عن تنوّع وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى نوعين مختلفين: فرديّ، وعموميّ، والأوّل هو وظيفة كلّ فرد من أفراد المسلمين، بينما يختصّ الثاني بجهاز وسلطة ويتطلّب وجودها في الحياة الإسلاميّة.

وظيفة المحتسب والسلطة التنفيذيّة :

وممّا يدلّ على اختصاص القسم الاجتماعيّ من وظيفة ( الأمر بالمعروف والنهي

__________________

(١) معالم القربة في أحكام الحسبة لابن الاخوة: ٧.

٢٩٩

عن المنكر ) والمسمّى بالحسبة، بالسلطة التنفيذيّة ؛ مطالبة الإمام عليّعليه‌السلام أحد ولاته على بعض الأمصار بأن يقوم بها ـ وهو في موقع الحكم ـ باعتبار أنّ ذلك أحد مسؤوليّاته ووظائفه وهو يتولّى اُمور المسلمين إذ قال: « من الحقّ عليك حفظُ نفسك والاحتسابُ على الرَّعيّة بجهدك فإنّ الّذي يصلُ إليك من ذلك ( أي من جانب الله ) أفضلُ من الّذي يصلُ بك ( أي من جانب الناس ) ».

وقد أشار صاحب كتاب معالم القربة في أحكام الحسبة فروقاً بين المحتسب والمتطوّع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ قال: ( وأمّا ما بين المحتسب المتولّي من السلطان وبين المنكر المتطوّع من عدّة أوجه :

أحدها: أنّ فرضه متعيّن على المحتسب ـ بحكم الولاية ـ وفرضه على غيره داخل تحت فرض الكفاية.

الثاني: أنّ قيام المحتسب به من حقوق تصرّفه الذي لا يجوز أن يتشاغل عنه بغيره، وقيام المتطوّع به من نوافل عمله الذي يجوز أن يتشاغل عنه بغيره.

الثالث: أنّه منصوب للاستعداء إليه في ما يجب إنكاره، وليس المتطوّع منصوباً للاستعداء.

الرابع: على المحتسب إجابة من استعداه وليس على المتطوّع إجابته.

الخامس: أنّ له أن يتّخذ على الإنكار أعواناً لأنّه عمل هو له منصوب، وإليه مندوب وليكون له أقهر، وعليه أقدر، وليس للمتطوّع أن يتّخذ لذلك أعواناً.

السادس: أنّ له أن يعزّر في المنكرات الظاهرة ولا يتجاوز بها الحدود، وليس للمتطوّع أن يعزّر.

السابع: أن يرتزق على حسبته من بيت المال وليس للمتطوّع أن يرتزق على إنكار منكر إلى غير ذلك.

فهذه وجوه الفرق بين من يحتسب بولاية السلطان ( أي يقوم بالقسم الاجتماعيّ

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679