موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)8%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 679

الجزء ١ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 212473 / تحميل: 11106
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الإداريّة، والقدرة على التدبير والدراية ما للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى يخلّفه في سياسة الاُمّة، وتسيير اُمورها الاجتماعيّة والفرديّة.

وربّما يتصوّر أنّنا نقسوا على الصحابة مع ما يكيل لهم الجمهور من تجليل واحترام كبيرين، غير أنّ من يرجع إلى القرآن الكريم، يجد بأنّنا لم نقس على أحد منهم، بل القرآن الكريم هو الذي يقسمهم إلى صنفين، فيمدح صنفاً ويذم صنفاً بصراحة كاملة.

فالصنف الأوّل الذين يمدحهم القرآن ويذكر عنهم بخير يشمل السابقين الأوّلين إلى الإسلام والتابعين لهم، حيث يقول عنهم :

١.( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ( التوبة: ١٠٠ ).

٢.( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) ( الفتح: ١٨ ).

٣.( لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) ( الحشر: ٨ ).

٤.( مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) ( الفتح: ٢٩ ).

__________________

(١) لا يخفى أنّ الرضاية الإلهيّة الواردة في الآية مقيّدة بظرفها ووقتها ( أي ظرف المبايعة ووقتها ) لقوله( إِذْ يُبَايِعُونَكَ ) ، فبقاء الرضاية يحتاج إلى دليل، كما أنّ ادّعاء نفيها يحتاج أيضاً إلى دليل.

٨١

غير أنّ هناك آيات جمّة ـ إلى جانب ذلك ـ تدلّ على عدم كون الصحابة كلّهم عدولاً، بل وممدوحين، إذ فيهم المنافق الذي يقلّب الاُمور على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وفيهم من مرد على النفاق ونبت عليه:( وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ ) ( التوبة: ١٠١).

ومنهم من خلط عملاً صالحاً بعمل سيّئ:( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا ) ( التوبة: ١٠٢ ).

وطائفة قد بلغ ضعف إيمانهم إلى حدّ الدنوّ إلى الارتداد والعودة إلى الجاهليّة:( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ ) ( آل عمران: ١٥٤ ).

وطائفة قد بلغ مبلغ إيمانهم بالله ورسوله أنّهم كلّما أعتورهم الخوف وداهمهم الخطر، لاذوا بالفرار، قال سبحانه عنهم:( إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا *هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا *وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إلّا غُرُورًا *وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إلّا فِرَارًا *وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إلّا يَسِيرًا *وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولاً *قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ المَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إلّا قَلِيلاً *قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا *قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إلّا قَلِيلاً *أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ أُولَٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا *يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ

٨٢

يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إلّا قَلِيلاً ) ( الأحزاب: ١٠ ـ ٢٠ ).

وهذه الآيات، تشرح بصراحة ما عليه جماعة كثيرة من أصحاب النبيّ ولا تختصّ بالمنافقين، لقوله سبحانه:( إِذْ جَاءُوكُم مِن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ) وقوله سبحانه:( وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ) عاطفاً لها على المنافقين فقال( وَالَّذِينَ ) ولم يقل ( الذين ).

نعم كانت في صحابة النبيّ ثلة جليلة بالغة منتهى الإيمان والعمل، وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله:( ولـمّارَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا *مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) . ( الأحزاب: ٢٢ ـ ٢٣ ).

إجابةٌ عن سؤال

ولعل القائل يقول: بأنّهم كيف لم يبلغوا الدرجة الكاملة في أمر القيادة مع أنّهم، حطّموا امبراطوريتين كبيرتين، وبنوا فوق أنقاضها صرح الإسلام، أضف إلى ذلك، أنّه سبحانه وصفهم في سورة الفتح بقوله:( فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ ) ( الفتح: ٢٩ ).

فهو يدل على كفاءتهم في أمر القيادة والاعتماد على أنفسهم، حيث شبّههم بالزرع المستغلظ القائم على سوقه.

ولكن الإجابة على هذا السؤال سهلة بعد الوقوف على ما نذكره :

١. إنّ التسلّط على الامبراطوريّتين لم يكن نتيجة قوة القيادة وصحتها، بل كان لقوّة تعاليم الإسلام، أكبر سهم في نفوذهم وسيطرتهم عليهما، حيث كانت التعاليم بمجرّدها تسحر القلوب، وتجذب العقول وتفتح الطريق خاصّة بين تلك الشعوب التي طالما عاشت الضغط والحرمان، وعانت من الظلم والاضطهاد المرير.

٨٣

٢. إنّ التأريخ يشهد، بأنّ الامبراطوريتين كانتا تلفظا أنفاسهما الأخيرة، وكانتا قد بلغتا درجةً كبيرةً من الضعف، فساعد الإسلام على سقوطها واندحارها.

ويشهد على ذلك، أنّ الشعوب التي كانت تعيش تحت حكميهما كانت تسارع إلى استقبال الفتح الإسلامي وترحّب بحكم المسلمين ونظامهم، فتفتح أبواب المدن لعساكر الإسلام وتبدي رغبتها الشديدة في العيش تحت لواء الحكومة الإسلامية.

روى البلاذريّ: ( لـمّا ردّ المسلمون على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج، وقالوا: قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم، فأنتم على أمركم، قال أهل حمص لهم :

لولايتكم وعدلكم أحبّ إلينا ممّا كنّا فيه من الظلم والغشم، ولندفعنّ جند هرقل عن المدينة مع عاملكم. و

ونهض اليهود وقالوا: والتوراة، لايدخل عامل هرقل مدينة حمص إلّا أن نغلب ونجهد. فأغلقوا الأبواب وحرسوها، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود.

وقالوا: إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنّا عليه وإلاّ فإنّا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد فلمّا هزم الله الكفرة وأظهر المسلمين فتحوا مدنهم وأخرجوا المقلسين فلعبوا وأدّوا الخراج )(١) .

٣. إنّ المراجع للتأريخ الإسلاميّ يجد أنّ أمير المؤمنين عليّاًعليه‌السلام كان له السهم الأوفر في القيادة، وتحقيق الانتصارات التي أصابها المسلمون بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويدلّ على تلك المساهمة الفعلية، ما قاله عليّعليه‌السلام عندما شاوره عمر بن الخطاب في الخروج بنفسه إلى غزو الروم: « إنّك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك، فتلقهم فتنكب، لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم. ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلاً محرباً، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهر الله فذاك ما تحب، وإن

__________________

(١) فتوح البلدان للبلاذريّ: ١٤٣.

٨٤

تكن الاخرى كنت ردءاً للناس ومثابةً للمسلمين »(١) .

وبالرغم من أنّهعليه‌السلام قد اقصي عن الخلافة، ولم يكن يخطر بباله أنّ العرب تزعج هذا الأمر ـ من بعد النبيّ ـ عن أهله، فإّنه لم يمسك يده عن نصرة المسلمين، عندما لاحظ رجوع الناس عن الإسلام يريدون محق دين محمد، والعودة إلى الجاهلية وفي ذلك يكتب إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لـمّا ولاّه إمارتها ويقول: « حتّى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان، كما يزول السراب أو كما يتقشّع السحاب فنهضت في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل وزهق، واطمأنّ الدين وتنهنه »(٢) .

٤. إنّ الفرق الكبير بين قيادتهم وقيادة من كان يجب أن يسلّم الأمر إليه إنّا يعلم، لو باشرت تلك الطائفة الاخرى أمر القيادة، فعند ذلك نعلم مدى صحة قيادة الطائفة الاولى.

وبما أنّ الأمر لم يسلّم إلى من كان يجب تسليم الأمر إليه. صارت قيادتهم عندنا قيادةً عاريةً عن الضعف والنقص.

والذي يدل على ذلك. أنّ القيادة بعد النبيّ جرّت على المسلمين أكبر المآسي والويلات، خصوصاً عندما أخذت بنو اميّة وبنو العباس زمام الأمر، وعادت الخلافة الإسلاميّة ملكاً عضوضاً وحكماً قيصرياً كسروياً.

وللبحث عن أحوال الصحابة ومواقفهم في القرآن الكريم، مجال آخر ربّما نتوفّق للبحث عنها في وقت آخر. ولا نريد بهذه الكلمة تعكير الصفو، أو تمزيق الوحدة، وإنّما نريد أن نوقف القارئ الكريم على الحقيقة على وجه الإجمال.

وخلاصة القول، أنّ الصحابة ليس كلّهم عدولاً يقتدى بهم ويستضاء بنورهم ،

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١٣٠ ( طبعة عبده ).

(٢) نهج البلاغة: قسم الكتب الرقم (٦٢).

٨٥

بل هم على أقسام تحدّث عنها القرآن الكريم، ويقف عليها من استشفّ الحقيقة عن كثب، كما لم تبلغ الاُمّة إلى حد الإكتفاء الذاتي في القيادة، كما هو محط البحث.

ب ـ الاُمّة الإسلاميّة والخطر الثلاثيّ

من الواضح لكل مطلع على أوضاع الاُمّة الإسلاميّة قبيل وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ الدولة الإسلاميّة الحديثة التأسيس كانت محاصرة من جهتي الشمال والغرب بأكبر إمبراطوريّتين عرفهما تأريخ تلك الفترة، إمبراطوريّتان كانتا على جانب كبير من القوة والبأس والقدرة العسكرية المتفوّقة مما لم يتوصّل المسلمون إلى أقل درجة منها وتلك الامبراطوريّتان هما: الروم، وإيران.

هذا من الخارج.

وأمّا من الداخل، فقد كان الإسلام والمسلمون يعانون من جماعة المنافقين الذين كانوا يشكّلون العدوّ الداخلي المبطّن ( أو ما يسمى بالطابور الخامس ).

ولأجل أن نعرف مدى الخطر المتوجّه من هذه الجهات الثلاث على الاُمّة والدولة الإسلاميّة يجدر بنا أن ندرس كلّ واحدة منها بالتفصيل :

١. خطر إمبراطوريّة إيران

لقد كانت إيران إمبراطوريّةً ضخمةً، ذات حضارة متقدمة زاهرة، وذات سلطان عريض فرضته على عدد كبير من المستعمرات أحقاباً مديدةً من السنين، ممّا أكسبت ملوكها وزعماءها روح التسلّط والسيطرة، وأصبح من العسير أن يعترفوا بسيادة أمّة طالما كانت تعيش تحت سلطانهم في العراق واليمن، وهم الذين لم يعترفوا بالسيادة لأحد قروناً طويلةً، فلأجل هذه الغطرسة والأنانية شمخ الامبراطور الفارسيّ (خسرو برويز ) بأنفه عندما أتته دعوة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فمزّق رسالته المباركة التي كتبهاصلى‌الله‌عليه‌وآله يدعوه فيها إلى الإسلام وعبادة الله تعالى وكتب إلى عامله باليمن :

٨٦

( ابعث إلى هذا الرجل بالحجاز [ ويعني الرسول ] رجلين من عندك جلدين فليأتياني به )(١) .

٢. خطر الروم

كانت الامبراطوريّة البيزنطيّة تقع في شمال الجزيرة العربية، وكانت تشغل بال النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله دائماً، ولم يبارحه التفكير في خطرها حتى رحل إلى ربّه.

ولقد كان لهذا القلق مبرّره، فإنّ هذه الامبراطورية على غرار الامبراطوريّة الإيرانية، كانت ذات صفة توسّعيّة، وكان قادتها يقمعون أي حركة ومحاولة من مستعمراتهم للخروج من فلكها.

ولقد وقعت بين هذه الامبراطوريّة وبين المسلمين اشتباكات عديدةً. وكان أوّل اشتباك مسلّح وأوّل صدام عسكريّ عنيف هو الذي وقع في السنة الثامنة من الهجرة، وذلك عندما بعث النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ( الحارث بن عمير الأزدي ) مع رسالة إلى ( الحارث بن أبي شمر الغساني ) يدعوه فيها وقومه إلى الإسلام، فلمّا وصل إلى ( مؤتة ) تعرّض له ( شرحبيل بن عمرو الغساني )، وضرب عنقه(٢) .

ولمّا كان قتل الرسل أمراً ممنوعاً في جميع الحالات والظروف، وكان يعني أعتداءً على الجهة المرسلة، فإنّ هذا الفعل ( اعني قتل رسول النبيّ ) كشف عن استهانتهم بقوة الإسلام وأمره، وعن تعصبهم ضدّه، وعدم اعترافهم بكيانه السياسيّ، وقد حملت هذه الاُمور النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله على، أن يجهّز لهم جيشاً من ثلاثة آلاف مقاتل، ويوجّهه إلى ( مؤتة ) وقد قتل في هذه الموقعة من اختارهم لقيادة الجيش وهم جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة، وأخذ اللواء بعدهم خالد بن الوليد، ورجع الجيش الإسلاميّ من تلك الواقعة منهزماً أمام الجيش البيزنطيّ.

__________________

(١) الكامل للجزري ٢: ١٤٥.

(٢) اُسد الغابة ١: ٣٤١ ـ ٣٤٢.

٨٧

ولقد أثار إخفاق المسلمين وهزيمتهم في هذه المعركة، واستشهاد القادة الثلاثة، لوعةً ونقمةً في نفوس المسلمين اتّجاه الروم. كما أنّه زاد من جرأة جيوش الروم، ولأجل ذلك توجّه الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى تبوك في السنة التاسعة يقصد غزو ذلك الجيش المعادي، ولكنّه لم يلق أحداً فأقام في تبوك أياماً، وصالح أهلها على الجزية، وقد حققت هذه الحملة هدفاً كبيراً وبعيداً على الصعيد السياسيّ وأنست تقهقر الجيش الإسلاميّ المحدود في طاقاته، أمام جحافل الروم المجهّزة بأحسن تجهيز(١) .

ولم يكتف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بهذه الحملة، بل عمد في أخريات حياته إلى بناء جيش إسلاميّ بقيادة ( أسامة بن زيد ) لمواجهة جيش الروم(٢) .

٣. خطر المنافقين

إنّ الدارس للمجتمع الإسلاميّ إبّان الدعوة الإسلاميّة، والمطّلع على تركيبته يجد، أنّ ذلك المجتمع كان يزخر بوجود المنافقين بين صفوفه.

والمنافقون هم الذين استسلموا للمدّ الإسلاميّ وأسلموا بألسنتهم دون قلوبهم إمّا خوفاً أو طمعاً. فكانوا يتجاهرون بالولاء للإسلام والمودّة للمسلمين، ولكنّهم يضمرون لهم كل سوء ويتحيّنون الفرص، لتوجيه الضربات إلى الدين الجديد، وضرب المسلمين بعضهم ببعض، وإضعاف الدولة الإسلاميّة من الداخل بإثارة الفتن، بين أفرادها وأبنائها، والسعي لتمزيق صفوفهم وإشعال الحروب الداخليّة فيما بينهم بإيقاظ النخوة الجاهليّة التي طهّر الإسلام أرض الجزيرة منها.

وربّما كانوا يتربّصون بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله الدوائر، حتّى أنّهم كادوا له ذات مرّة، وأرادوا أن يجفلوا به بعيره في العقبة عند عودته من حجة الوداع، وربّما اتّفقوا مع اليهود والمشركين لتوجيه الضربات إلى الكيان الإسلاميّ من الداخل تخلّصاً من هذا الدين الذي هدّد

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام ٢: ٥١٥ ـ ٥٢٩.

(٢) الملل والنحل ١: ٢٩ ( طبعة القاهرة )، الطبقات الكبرى ٤: ٦٥، الكامل في التاريخ ٢: ٢١٥.

٨٨

مصالحهم.

ولقد كان المنافقون ولايزالون أشدّ خطراً من أي شيء آخر على الإسلام وذلك، لأنّهم كانوا يوجّهون ضرباتهم بصورة ماكرة وخفية، وبنحو يخفى على العاديين من الناس(١) .

وإليك طرفاً ممّا ذكره القرآن الكريم حولهم، فهم متآمرون يبيّتون خلاف ما يظهرونه ويبدونه أما م النبيّ إذ يقول:( وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ) ( النساء: ٨١ ).

وهم يريدون الشر للمسلمين دائماً، ولذلك يذيعون الشائعات التي من شأنها إضعاف معنويات المسلمين إذ يقول عنهم:( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ) ( النساء: ٨٣ ).

وهم يريدون الفتنة دائماً، لذلك يقلبون الوقائع ويخفون الحقائق كما يقول القرآن:( لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّىٰ جَاءَ الحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ) ( التوبة: ٤٨ ).

وهم لا يرتدعون عن أي عمل يحقّق مصالحهم وأغراضهم المضادّة للإسلام، حتّى ولو كان بالتحالف مع المشركين والكفار، بل حتّى ولو كان باعطاء الوعود الكاذبة لهم، والتغرير بهم وخذلانهم عند اللقاء، وعدم الوفاء بالوعد:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ *لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ ) ( الحشر: ١١ ـ ١٢ ).

__________________

(١) لقد تصدّى القرآن الكريم، لفضح المنافقين والتشهير بجماعتهم، وخططهم، الجهنّمية ضدّ الدين والنبيّ والاُمّة في أكثر السور القرآنيّة، مثل البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والعنكبوت والأحزاب ومحمّد والفتح والمجادلة والحديد والحشر، كما نزلت في حقّهم سورة خاصّة تسمّى بسورة المنافقين.

٨٩

ولذلك، شدّد القرآن الكريم في ذكر عذابهم أكثر من أي جماعة اخرى إذ يقول:( إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) ( النساء: ١٤٥ ).

ويحدثنا التأريخ كيف لعب المنافقون دوراً خبيثاً، وخطيراً في تعكير الصفو وإفساح المجال أمام أعداء الإسلام الأجانب ـ سواء قبل قوة الإسلام وبعدها ـ للمكر بالإسلام والكيد له، والمؤامرة عليه، بحيث لولا وجود النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لأتوا على ذلك الدين، ولقضوا على كيانه وأطاحوا بصرحه، وأطفأوا نوره.

وقد كان من المحتمل ـ بقوة ـ أن يتّحد هذا الثلاثي الخطر ( الفرس والروم والمنافقون ) لاكتساح الإسلام واجتثاث جذوره، وخاصّة بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وغياب شخصه عن الساحة.

وكان من المحتمل جداً، أن يتفق هذا الثلاثي ـ الناقم على الإسلام ـ على محو الدين، وهدم كلّ ما بناه الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله طوال ثلاثة وعشرين عاماً من الجهود والمتاعب، وتضييع كلّ ما قدّمه المسلمون من تضحيات في سبيل إقامته.

ج ـ العشائريّات تمنع من الاتّفاق على قائد

لقد كان من أبرز ما يتميّز به المجتمع العربيّ قبل الإسلام، هو النظام القبلي، والتقسيمات العشائرية التي كانت تحتلّ ـ في ذلك المجتمع ـ مكانةً كبرى، وتتمتّع بأهمّية عظيمة.

فلقد كان شعب الجزيرة العربية، غارقاً في هذا النظام الذي كان سائداً في كلّ أنحائها.

صحيح أنّ جميع القبائل العربية ـ آنذاك ـ كانت ترجع ـ في الأصل ـ إلى قبيلتي، القحطانيين ( وهم اليمنيّون ) والعدنانيين ( وهم الحجازيّون )، إلّا أنّ هذا التقسيم الثنائيّ قد تحوّل بمرور الزمن، إلى تقسيمات كثيرة وعديدة، حتّى أصبح من العسير، إحصاء القبائل العربيّة وأفخاذها وفروعها وبطونها.

٩٠

فمن يراجع الكتب التالية: ( بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب ) تأليف السيد محمود شكري الآلوسي، و ( المفصّل في تأريخ العرب ) تأليف علي جواد، الجزء (٤) الفصل (٤٦)، و ( معجم قبائل العرب القديمة والحديثة ) تأليف عمر رضا كحالة الجزء (٣). من يراجع هذه المؤلفات التي تشرح النظام القبليّ وأبعاده في المجتمع العربيّ قبل الإسلام، يعرف ـ معرفةً كاملةً ـ مدى تغلغل وتوسّع النمط القبليّ عند العرب، ومدى تأثير القبيلة وعدد بطونها وأفخاذها وفروعها، تلك القبائل والأفخاذ والبطون التي كانت تبدأ أسماؤها ـ في الغالب ـ بلفظة ( آل ) مثل، آل النعمان وآل جفنة، أو لفظة ( بنو)، كبني أشجع وبني بكر وبني تغلب، أو كان يطلق على جميع أبنائها اسم الجدّ الأعلى للقبيلة مثل، غطفان وخزاعة ( وهما ـ في الحقيقة ـ اسمان للجدود ولكنّهما اطلقا على القبيلة ).

ولقد كان للقبيلة أكبر الدور في الحياة العربية ـ قبل الإسلام ـ وعلى أساسها كانت تدور المفاخرات وتنشد القصائد، وتبنى الأمجاد، كما كانت هي، منشأ أكثر الحروب وأغلب المنازعات التي ربّما كانت تستمرّ قرناً أو قرنين من الزمان، كما حدث بين الأوس والخزرج، أكبر قبيلتين عربيّتين في يثرب ( المدينة )، وكلّفهم آلاف القتلى قبل دخول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة.

كما أنّ التأريخ يشهد لنا، كيف كاد التنازع القبليّ في قضية بناء الكعبة الشريفة ووضع الحجر الأسود في موضعه أيام الجاهلية، أن يؤدي إلى الاختلاف فالصراع الدموي، والاقتتال المرير، لولا تدخّل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي حسم الأمر بطريقة أرضت جميع القبائل المتنافسة، وأطفأت نار الفتنة التي كادت أن تأكل كلّ أخضر ويابس(١) .

ونظراً لما كان يتمتع به رؤساء هذه القبائل من نفوذ، وكانت تلك الجماعات تملك من قوّة ورابطة ـ في ذات الوقت ـ فقد سعى الرسول الأكرم ـ وبحكمة كبرى ـ أن

__________________

(١) راجع السيرة النبويّة لابن هشام ١: ١٩٦ تحت عنوان اختلاف قريش فيمن يضع الحجر ولعقة دم، ومروج الذهب ٢: ٢٧٨ تحت عنوان بناء قريش الكعبة واختلافهم في وضع الحجر الأسود وحكم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فيهم.

٩١

يستفيد من قدرة تلك القبائل ونفوذ رؤسائها، في إنجاح الدعوة الإسلامية وتقوية أركانها، والتغلّب على أعدائها من الكفّار والمشركين وغيرهم من المعارضين.

إلاّ أنّ هذا النظام ( القبلي ) لما كان ينطوي عليه ـ في نفس الوقت ـ من سيئات جسيمة، وتبعات لا يمكن التغاضي عنها، ومنافاتها مع ما ينشده الإسلام ويدعو اليه من الوحدة والاتّحاد بين جميع أفراد المسلمين، فقد سعى الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله في محو الروح القبلية، وتذويب الفوارق العشائرية. وصهر تلك التجمّعات المتشتّتة المتباينة في بوتقة الإيمان الموحّد، والصف الإسلامي الواحد، ولكنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله رغم ما أوجده في ضوء التعاليم الإسلامية من تحوّلات عظيمة في حياة العرب، إلّا أنّ أكثر هذه التحوّلات كانت تتعلّق بقضايا العقيدة، والمسائل الأخلاقية والروابط الاجتماعية ولم يكن من الممكن أن ينقلب شكل النظام القبليّ العربيّ في خلال ( ٢٣ عاماً ) ويتبدل كليةً. ويدلّ على ذلك، وجود بقايا من هذا النظام في القسم الأكبر من شبه الجزيرة العربية مثل اليمن ونجد والحجاز و و.

إنّ اُصول هذه العشائر ـ في ابّان العهد الإسلاميّ ـ وإن كانت عبارةً عن حمير وكهلان وقضاعة ومضر وربيعة، إلّا أنّ هذه القبائل الأساسية تفرّعت وتشعّبت باستمرار، إلى قبائل وأفخاذ وفروع، وكان لكل قبيلة وفخذ منها شيخ ورئيس يرأس الجماعة وتكون له الكلمة والقيادة وتعطي له الإحترام والطاعة.

وقد كانت النفسيات والأخلاق العشائرية، المتوغّلة في نفوسهم بحيث لم تنعدم انعداماً كلياً، رغم ما تلقاه اُولئك من التعاليم الإسلاميّة والتربية القرآنية، ولذلك كانت تظهر بين الفينة والاخرى، وينشأ بسببها النزاع ويكاد يتوسّع لولا حكمة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وتدبيره.

فقد ذكر ابن هشام، حادثةً عند عودة النبيّ والمسلمين من غزو بني المصطلق، بدأت من قضية صغيرة وكادت أن تتطوّر إلى نزاع قبليّ واسع لولا تصرّف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال: ( بينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عائداً من غزو بني المصطلق وقد نزل عند ماء، وردت

٩٢

واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له: جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهنيّ حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهنيّ: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين(١) ، فغضب عبد الله بن أبي بن سلول وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم، غلام حدث، فقال: أو قد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدنا وجلابيب قريش [ أي من أسلم من المهاجرين ] إلّا كما قال الأوّل: سمّن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ، ثم أقبل على من حضره من قومه، فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير داركم، فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك عند فراغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من عدوّه، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب فقال: مر به عباد بن بشر فليقتله، فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أنّ محمّداً يقتل أصحابه ؟ لا، ولكن أذّن بالرحيل، وذلك في ساعة لم يكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يرتحل فيها فارتحل الناس(٢) .

كما أنّ هناك حادثةً اخرى تدلّ على أنّ مادة الاختلاف كانت كامنةً في أعماقهم، وكانت مستعدةً للإنفجار في كلّ لحظة، وبأقل تحريك، وإيقاد للعصبيات والرواسب القبليّة الجاهليّة.

فها هو ابن هشام ينقل: أنّ شأس بن قيس وكان شيخاً من اليهود قد أسنّ، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم، مرّ ذات يوم على نفر من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدّثون فيه، فغاضه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من

__________________

(١) قال السهيليّ: ( لـمّا سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الكلمات قال: « دعوها فإنّها دعوة منتنة » يعني أنّها كلمة خبيثة لأنّها من دعوى الجاهليّة، وجعل الله المؤمنين إخوةً وحزباً واحداً، فإنّما ينبغي أن تكون الدعوة للمسلمين ).

(٢) السيرة النبويّة لابن هشام ٢: ٢٩٠ ـ ٢٩١.

٩٣

العداوة في الجاهلية. فقال: قد اجتمع ملأُ بني قيلة بهذه البلاد لا والله مالنا معهم إذا اجتمع ملأهم بها من قرار، فأمر فتىً شابّاً من يهود كان معهم، فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثمّ اذكر يوم بعاث وما كان قبله، وانشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار.

وكان يوم بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه يومئذ للأوس على الخزرج، وكان على الأوس يومئذ حضير بن سماك الأشهليّ، أبو أسيد بن حضير، وعلى الخزرج عمرو النعمان البياضيّ، فقتلا جميعاً

قال ابن هشام: قال أبو قيس بن الأسلت :

على أن قد فجعت بذي حفاظ

فعاودني له حزن رصين

فأما تقتلوه فإنّ عمراً

أعض برأسه عضب سنين

وهذان البيتان في قصيدة له، وحديث يوم بعاث أطول ممّا ذكرت.

قال ابن هشام: ففعل [ ذلك الشاب ما أراده شأس ] فتكلّم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتّى تواثب رجلان من الحييّن على الركب، أوس بن قيظي أحد بني حارثة بن الحارث من الأوس، وجبّار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فتقاولا ثمّ قال أحدهما لصاحبه، إن شئتم رددناها الآن جذعة [ أي رددنا الآخر إلى أوّله وأعدنا الاقتتال والتنازع ] فغضب الفريقان جميعاً وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة [ أي الحرّة ] السلاح السلاح فخرجوا إليها فبلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتّى جاءهم، فقال: « يا معشر المسلمين، الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألّف به بين قلوبكم » فعرف القوم أنّها نزعة [ أي إفساد بين الناس ] من الشيطان وكيد من عدوّهم، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثمّ انصرفوا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدوّ الله شأس بن قيس، فأنزل الله تعالى في شأس بن قيس وما صنع:( قُلْ يَا أَهْلَ

٩٤

الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعْمَلُونَ *قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) ( العمران: ٩٨ ـ ٩٩ ).

وأنزل الله في أوس بن قيظيّ وجبّار بن صخر ومن كان معهما من قومهما، الذين صنعوا ما صنعوا عمّا أدخل عليهم شأس من أمر الجاهلية:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ *وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * إلى أخر قوله تعالى ـوَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( آل عمران: ١٠٠ ـ ١٠٥ )(١) .

وممّا يدلّ أيضاً على وجود رواسب الخلاف عند قبيلتي الأوس والخزرج حتّى بعد دخولهم في الإسلام، وانضوائهم تحت لوائه في صف واحد، ما نقله الشيخ البخاري في صحيحه، في قصّة الإفك قال، قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو على المنبر: « يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلّا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلّا خيراً، وما يدخل على أهلي إلّا معي ».

قالت عائشة: فقام سعد بن معاذ(٢) أخو بني عبد الأشهل فقال: أنا يا رسول الله أعذرك، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا.

قالت: فقام رجل من الخزرج وهوسعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، قالت: وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحميّة، فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمرو الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل.

فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عمّ سعد [ بن معاذ ]، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمرو الله لنقتلنّه، فإنّك منافق تجادل عن المنافقين.

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام ١: ٥٥٥ ـ ٥٥٧.

(٢) فيه تأمل، فإنّ سعداً توفّي قبل غزو بني المصطلق.

٩٥

قالت عائشة: فصار الحيّان ( الأوس والخزرج ) حتّى همّوا أن يقتتلوا، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قائم على المنبر.

قالت: فلم يزل رسول الله يخفّضهم ( أي يهدّئهم )حتّى سكتوا وسكت(١) .

فكيف كان يجوز ـ والحال هذه ـ أن يترك الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله اُمّته المفطورة على العصبيّات القبليّة، وعلى الاستئثار بالسلطة والزعامة وحرصها على النفس، ورفض سلطة الآخر ؟

فهل كان يجوز للنبيّ أن يترك تعيين مصير الخلافة لتقوم به أمّة هذه حالها، وفي تعيينه قطع لدابر الاختلاف والفرقة ؟

وهل كان من المحتمل أن تتفق كلمة الاُمّة جمعاء على واحد ولا تخضع للرواسب القبليّة ولا تبرز إلى الوجود مرّة اخرى ما مضى من الصراعات والتطلّعات العشائرية، وما يتبع ذلك من حزازات ؟

أم هل يصلح لقائد يهتمّ ببقاء دينه واُمّته أن يترك أكبر الاُمور وأعظمها، وأشدّها دخالةً في حفظ الدين، إلى أمّة نشأت على الاختلاف، وتربّت على الفرقة، مع أنّه كان يرى الاختلاف منهم في حياته أحياناً أيضاً كما عرفت ؟

إنّ التأريخ يدلّ على أنّ هذا الأمر قد وقع فعلاً بعد وفاة النبيّ ـ في السقيفة التي سيأتي ذكرها مفصّلاً ـ حيث سارعت كلّ قبيلة إلى ترشيح نفسها للزعامة، منتحلةً لنفسها حججاً وأعذاراً وطالبةً ما تريد بكلّ ثمن حتّى بتجاهل المبادئ وتناسي التعاليم الإسلاميّة، والوصايا النبويّة.

فقد ذكر ابن هشام تحت عنوان « أمر سقيفة بني ساعدة، تفرّق الكلمة » نقلاً عن عمر بن الخطاب، ما يدلّ على اختلاف الكلمة وعدم الاتفاق على أحد :

قال عمر: لـمّا جلسنا ( أي في سقيفة بني ساعدة ) قام واحد من الأنصار فأثنى

__________________

(١) صحيح البخاري ٥: ١١٩ باب غزو بني المصطلق.

٩٦

على الله بما هو أهله ثمّ قال :

( أمّا بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منّا، وقد دفّت دافّة من قومكم ( أي جاء جماعة ببطء ) وإذا هم يريدون أن يحتازونا ( أي يدفعوننا ) من أصلنا، ويغصبونا الأمر ).

... فقام أبو بكر وقال :

( أمّا ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن تعرف العرب هذا الأمر ( أي الزعامة ) إلّا لهذا الحيّ من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيّهما شئتم ) وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجّراح :

ثمّ قام وقال قائل من الأنصار ( أنا جذيلها المحكّك، وعذيلها المرجّب، منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ).

قال عمر بن الخطاب: ( فكثر اللغط ( أي اختلاف الأصوات ودخول بعضها على بعض )، وارتفعت الأصوات حتّى تخوّفت الاختلاف )(١) .

ولم يقتصر اختلاف الاُمّة على هذا الذي ذكرناه، بل ظهرت مظاهر التشتت القبليّ حتّى بعد ما جرى في السقيفة من بيعة من فيها لأبي بكر، حيث راح المهاجرون والأنصار يتهاجون فيما بينهم، وجرت بينهم مشادات كلاميّة وشعريّة هجائيّة، هاجم فيها كلّ فريق الفريق الآخر بأشدّ أنواع الهجاء نقلها المؤرّخون ونذكر منها شيئاً :

فقد جاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد نقلاً عن كتاب الموفّقيّات: لـمّا بويع أبو بكر وراح أبو سفيان بن حرب يدّعي الفضل لقريش ويذكر اُموراً في هذا المجال، قال حسّان بن ثابت :

تنادى سهيل وابن حرب وحارث

وعكرمة الشاني لنا ابن أبي جهل

قتلنا أباه وانتزعنا سلاحه

فأصبح بالبطحا أذلّ من النعل

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام ٢: ٦٥٩ ـ ٦٦٠.

٩٧

فأمّا سهيل فاحتواه ابن دخشم

أسيراً ذليلاً لا يمرّ ولا يحلي

وصخر بن حرب قد قتلنا رجاله

غداة لوا بدر فمرجله يغلي

اولئك رهط من قريش تبايعوا

على خطّة ليست من الخطط الفضل

وأعجب منهم قابلوا ذاك منهم

كأنّا اشتملنا من قريش على ذحل

وكلّهم ثان عن الحقّ عطفه

يقول اقتلوا الأنصار بئس من فعل

نصرنا وآوينا النبيّ ولم نخف

صروف الليالي والبلاء على رجل

بذلنا لهم أنصاف مال أكفّنا

كقسمة أيسار الجزور من الفضل

ونحمي ذمار الحيّ فهو بن مالك

ونوقد نار الحرب بالحطب الجزل

فكان جزاء الفضل منّا عليهم

جهالتهم حمقاً وما ذاك بالعدل

فبلغ شعر حسّان قريشاً، فغضبوا وأمروا أبي عزّة شاعرهم أن يجيبه، فقال :

معشر الأنصار خافوا ربّكم

واستحيروا الله من شّر الفتن

إنّني أرهب حرباً لاقحاً

يشرق المرضع فيها باللبن

جرّها سعد وسعد فتنة

ليت سعد بن عبّاد لم يكن

خلف برهوت خفيّاً شخصه

بين بصرى ذي رعين وجدن

ليس ما قدّر سعد كائناً

ما جرى البحر وما دام حضن

ليس بالقاطع منّا شعرةً

كيف يرجى خير أمر لم يحن

ليس بالمدرك منها أبداً

غير أضغاث أماني الوسن

واتّفق أن اجتمع الأنصار والمهاجرين في مجلس، فأفاضوا الحديث عن يوم السقيفة، فقال عمرو بن العاص: والله لقد دفع الله عنّا من الأنصار عظيمةً، ولما دفع الله عنهم أعظم، كادوا والله أن يحلّوا حبل الإسلام كما قاتلوا عليه، ويخرجوا منه من أدخلوا فيه ؟ ولقد قاتلونا أمس فغلبونا، ولو قاتلناهم اليوم لغلبناهم على العاقبة، فلم يجبه أحد وانصرف إلى منزله وقد ظفر فقال :

٩٨

ألا قل لأوس إذا جئتها

وقل إذا ما جئت للخزرج

تمنّيتم الملك في يثرب

فأنزلت القدر لم تنضج

إلى آخر الأبيات.

فلمّا بلغ الأنصار مقالته وشعره، بعثوا إليه لسانهم وشاعرهم النعمان بن العجلان فقال لعمرو وهو في جماعة من قريش: ( والله يا عمرو ما كرهتم من حربنا إلّا ما كرهنا من حربكم، وما كان اللّه ليخرجكم من الإسلام بمن أدخلكم فيه، إن كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: « الأئمّة من قريش » فقد قال: « لو سلك النّاس شعباً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار » فأمّا المهاجرون والأنصار فلا فرق بينهم، ولكنّك وترت بني عبد مناف بمسيرك إلى الحبشة، لقتل جعفر وأصحابه، ووترت بني مخزوم بإهلاك عمارة بن الوليد ).

ثمّ أنشد أبياتاً يمتدح فيها قومه الأنصار ويهجو المهاجرين.

فلمّا انتهى شعر النعمان وكلامه إلى قريش غضب كثير منهم.

وقد طالت المماحكات والمشاجرات الكلاميّة وطال التهاجي الحاد بين الصحابة حتّى قال أحدهم :

أيال قريش أصلحوا ذات بيننا

وبينكم قد طال حبل التماحك

فلا خير فيكم بعدنا فارفقوا بنا

ولا خير فينا بعد فهر بن مالك

فلا تذكروا ما كان منّا ومنكم

ففي ذكر ما قد كان مشيُ التساوك(١)

إنّ ما نقلناه لك هنا، هو غيض من فيض ممّا جرى بين صحابة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من المنازعات والاختلافات في مسألة القيادة، فهل كان يجوز ترك مثل هذا المجتمع غير المتّفق في تطلعاته وآرائه دون نصب قائد يكون نصبه قاطعاً لدابر الاختلاف ومانعاً من مأساة التمزّق والتقاطع والفرقة ؟.

* * *

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦: ١٧ ـ ٣٨ ( طبعة مصر ).

٩٩

تلك محاسبات عقليّة واجتماعيّة من واقع المجتمع الإسلاميّ الأوّل، تدلّنا على أنّ الحقّ في مسألة القيادة في المجتمع الإسلاميّ بعد وفاة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله هو أن يستخلفصلى‌الله‌عليه‌وآله ( قائداً ) للاُمّة، وراعياً لمصالحها وشؤونها، لما في نفس التنصيب من مصلحة وقطع دابر الاختلاف.

فمثل هذه المحاسبات، تمنع القائد الحكيم أن يترك الاُمّة من بعده من دون أن يعيّن لها قيادةً تحافظ على الكيان الإسلاميّ الناشيء من الأخطار المحدقة به، وتقود الاُمّة الإسلاميّة الفتية في الطريق الشائك إلى الهدف المرسوم لها، والغاية المطلوبة.

إنّ القائد الحكيم، والرئيس المحنّك هو من يعتبر بالأوضاع الاجتماعيّة لاُمّتة والظروف المحيطة بها، ويأخذ بنظر الاعتبار ما يمكن أنّ يحدث لها جرّاء غيبته ووفاته، ثمّ يرسم على ضوء تلك الظروف والأحوال، والتوقّعات والمحاسبات ما يراه صالحاً للاُمّة ولمستقبلها، وأهم تلك الاُمور هو تعيين القائد لها، والمدير لشؤونها من بعده.

إنّ أوضاع المسلمين آنذاك، والظروف الحرجة المحيطة بهم، كانت تقتضي أن لا يدع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله تلك الاُمّة الحديثة العهد بالإسلام وتلك الدولة الفتية الجديدة البنيان، لآراء الاُمّة وإرادتها لتختار هي بنفسها قائدها ورئيسها، وهي في خضمّ تلك الأخطار، والظروف الحسّاسة البالغة الخطورة، إذ ربمّا كانت تبتلي ـ في ذلك الأمر ـ بالخلاف الذريع، والفرقة الكبيرة، فتسهل للخصم سبيل السيطرة عليها وتمكّنه من مؤامراته ونواياه.

إنّ عدم بلوغ الاُمّة الإسلاميّة حدّ الاكتفاء الذاتيّ في القيادة والادارة، مع الأخذ بنظر الاعتبار الأخطار التي كانت تحدق بها، والرواسب القبليّة الجاهليّة، وعدم قدرتها على التغلّب على كلّ ذلك لوحدها، كانت توجب على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بحكم العقل السليم، أن ينصّب للاُمّة قائداً يدبّر شؤونها ويجمع شتاتها ويحافظ على وحدتها، ويقود سفينتها إلى شاطيء الأمن والدعة والسلام.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وأمَّا حدوث ذلك في شهر رمضان دون غيره، فهذا على تقدير ثبوته، لا بدَّ من إيكال علمه إلى أهله، وسيأتي ما يوضِّحه فيما يلي:

الأطروحة الرابعة: أن يحدث الكسوف والخسوف بتوسُّط جرم آخر طارئ، ولكنَّه من الأجرام المنطلقة من الأرض لبعض الإغراض العلمية أو الحربية؛ إذ لعلَّ البشرية تتطوَّر حتى تصل إلى المستوى الذي يؤهِّلها لإطلاق الأجرام الضخمة المـُنتجة لمثل هذه النتائج الكبيرة.

وقد يرد في الذهن: أنَّه كان ذلك بفعل البشر، فكيف يكون ذلك علامة على اليوم الموعود.

وجوابه من عِدِّة وجوه:

أولاً: لعلَّ البشر يُطلقون الجرم لا لأجل إحداث الكسوف والخسوف، بل لغرض آخر، فيترتَّب عليه من حيث لا يعلمون، فإذا كان من الضروري أن تكون العلامة قهريَّة الوقوع، فهذه بمنزلة العلامة القهريَّة.

ثانياً: أنَّ البشر حتى لو كانوا مُلتفتين إلى إمكان حدوث الخسوف والكسوف من إطلاق الجرم، إلاَّ أنَّ الذين يُطلقونها لا يحملون عن المهدي (ع) وعلامات ظهوره أيَّة فكرة، فتكون هذه العملية بالنسبة إلى فكرة علاميَّتها كالقهريَّة.

ثالثاً: أنَّ البشر الذين يُطلقون الجرم حتى لو التفتوا إلى فكرة العلاميَّة، إلاَّ أنَّهم لا يمكن أن يُطلقوه إلاَّ بعد بلوغهم مستوى (مدنياً) مُعيَّناً، فمن الممكن أن تكون العلامة في الواقع هو هذا المستوى المدني العلمي، وإنَّما ذكرت الروايات وجود الكسوف والخسوف للإشارة إليه، بشكل لا يُنافي المستوى الفكري العام لعصر صدور الأخبار.

وأمَّا ورود المـُناقشات التي أوردناها عن الأُطروحة الثانية، فهو غير مُهمٍّ، كما هو واضح لمَن يُفكِّر، سوى حصول ذلك في شهر رمضان، وهو ما سيأتي إيضاحه.

وقد يخطر في الذهن: أنَّ الروايات دالَّة على حدوث هاتين الواقعتين قبل وجود البشرية، فكيف ينسجم ذلك مع هذه الأطروحة.

وجوابه واضح من زاوية أنَّ الروايات لم تدلَّ على أكثر من عدم حصوله خلال عمر البشرية ( منذ هبط آدم (ع) )، وأمَّا حصوله قبل ذلك، فليس لها ظهور تامٌّ في ذلك، وإن كانت مُشعرة به قليلاً، ويمكن الاستغناء عن هذا الإشعار مع تأكُّد هذه الأطروحة.

١٢١

فهذه جملة من الأطروحات الطبيعية، أعني حدوث هاتين العلامتين بشكل غير خارق لنظام الطبيعة، وهناك بعض الأُطروحات الأُخرى، منها ما هو مبتنٍ على النظرية النسبية، لا حاجة إلى التطويل بذكرها.

ويرد على هذه الأطروحة إشكال مُشترك: هو ما أشرنا إليه من التوقيت، سواء منه التوقيت بشهر رمضان أو بقُرب الظهور، فإنَّهما معاً قد يُستشكَل بعدم انسجامهما مع الحدوث الطبيعي لهاتين الواقعتين، بأيِّ أُطروحة كان.

ويمكن الجواب على هذا الإيراد من أكثر من وجه واحد، نذكر منها ما يلي:

الوجه الأول: الطعن بصحَّة هذا التوقيت، والالتزام بأنَّ أقصى ما يثبت هو وجود هاتين الواقعتين في غير أوانهما الطبيعي من الشهر، فإنَّ هذا المعنى تسالمت عليه الروايات، وأمَّا غير ذلك من الصفات فهو ممَّا استقلَّت به البعض دون البعض، فلا يكون له الإثبات التاريخي الكافي، فلا يكون هذا الإشكال المشترك وارداً.

إلاَّ أن هذا الوجه لا يتمُّ في بعض الصفات الأساسية، كحدوث الواقعتين قُرب الظهور... وإن صحَّ الاستغناء عن بعض الصفات الأُخرى.

الوجه الثاني: أنَّنا إذا سلَّمنا بثبوت التوقيت، لا يبقَ من إشكال إلاَّ في أصل جعلها علامة على الظهور، مع أنَّها حوادث مُستقبَلة، وهي ممَّا لا يمكن الاطِّلاع عليها من قِبل أحد، وهذا ما سبق أن ناقشناه في الكتاب السابق(١) ، ومع ارتفاعه وتسليم إمكان التنبُّؤ بالمـُستقبل من قِبل قادة الإسلام المعصومين (ع)، وتسليم ثبوت هذه الصفات - كما قلنا -... لا يبقى لهذا الإشكال مجال.

الأُطروحة الخامسة: أن يحدث هذا الخسوف والكسوف على نحو الإعجاز، بخرق نواميس الطبيعة.

وقد تؤيَّد هذه الأطروحة ببعض القرائن المؤيِّدة:

القرينة الأُولى: قوله في أكثر من رواية: ( أنَّهما آيتان لم تحدثا منذ أن هبط آدم (ع) إلى الأرض... )، إذ لو كانت هذه الحوادث طبيعية لحدثت خلال وجود البشرية أكثر من مرَّة.

____________________

(١) تاريخ الغيبة الكبرى ص٥٣٢.

١٢٢

إلّا أنَّ هذه القرينة لا تتمُّ مع ثبوت إحدى الأُطروحتين الأخيرتين، بل مع مُجرَّد احتمالهما، فإنَّهما يُعطيان التبرير (الطبيعي) لعدم حدوث هذه الوقائع خلال عُمر البشرية، فلا ينحصر أن يكون هذا إعجازياً.

القرينة الثانية: إنَّ إعجازية هذه الوقائع هي المناسبة مع جعلها علامة للظهور، ومُنبِّهة للمـُخلصين المـُمحَّصين، وأمَّا مع وجودها وجوداً طبيعياً، فتضعف فكرة جعلها علامة إلى حدٍّ كبير.

وهذه القرينة أيضاً قاصرة؛ لأنَّها تتضمَّن غفلة عن معنى جعل العلامة، الذي سبق أن ذكرناه في التاريخ السابق(١) ، وعرفنا هناك أنَّ السرَّ الأساسي فيه ليس منطلقاً من الإعجاز، بل من الإخبار نفسه، حيث يختار قادة الإسلام (ع) شيئاً مُهمَّاً مُلفِتاً للنظر، فيُخبرون به مرتبطاً بالظهور، حتى ما إذا وقعت الحادثة ثبت عند الجيل المعاصر لها صدق الإخبار عنها بالوجدان، فيثبت بالوجدان أيضاً صدق ما ارتبط بها في الرواية، وهو أصل الظهور إن كانت علامة مُطلقة، أو قربه إن كانت علامة قريبة.

وأضفنا هناك: ومن هنا لا معنى لكون بعض هذه الحوادث علامة، إلاَّ إذا ورد في الروايات ذكره، وجعل منها علامة على الظهور.

أقول: فالأساس في ذلك هو الإخبار لا الإعجاز، وما دام الإخبار موجوداً وكافياً للإثبات التاريخي، لا يكون حدوثها (الطبيعي)، مُخلاَّ ًبفكرة جعلها علامة.

هذا، وينبغي الإلماع إلى أنَّ في هذه الأُطروحة الإعجازيّة، نقطة ضعف ونقطة قوَّة، بالنسبة إلى ( قانون المعجزات )، فهي موافقة له من زاوية كون هذه الوقائع واقعة في طريق الهداية، كما أسلفنا في التاريخ السابق(٢) ، وهذه نقطة قوَّته، ولكنَّها مُخالفة له باعتبار عدم انحصار طريق الهداية بها، ولا أقلّ من الشكِّ في ذلك، ومعه لا تكون موافقة مع هذا القانون من جميع جهاته، فلا تكون صحيحة، فإذا انحصر الأمر بالأطروحة الإعجازيّة، كان اللازم رفض الأخبار الدالَّة عليها؛ لأنَّنا عرفنا عدم الانحصار بها، ومعه يتبيَّن رفض هذه الأُطروحة والحفاظ على الأخبار مع حملها على إحدى الأطروحات الطبيعية.

الجهة الثانية: الفَزْعة والصيحة

____________________

(١) انظر ص٥٢٩ وما بعدها.

(٢) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص٥٧٥.

١٢٣

وهما أيضاً من الحوادث المنقولة في الأخبار، وإنَّما دمجناهما في عنوان واحد، لاحتمال أن يكون المراد بهما شيء واحد، على ما سوف نُشير.

أخرج الصدوق(١) ، بإسناده إلى محمد بن مسلم، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (ع) في حديث، قال فيه: ( ومن علامات خروجه (ع)... وصيحة من السماء في شهر رمضان ).

وأخرج أيضاً، عن الحرث بن المغيرة، عن أبي عبد الله (ع): ( الصيحة التي في شهر رمضان تكون ليلة الجمعة، لثلاث وعشرين مَضَين من شهر رمضان ).

وأخرج عن عمر بن حنظلة، قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: ( قبل القائم خمس علامات محتومات... )، وعدَّ منها: الصيحة.

ونحوه أخرج النعماني في (الغيبة)(٢) ، إلاَّ أنَّه قال: (... والصيحة في السماء ).

وأخرج النعماني أيضاً(٣) ، عن داود الدجاجي، عن أبي جعفر محمد بن علي (ع) قال: ( سُئل أمير المؤمنين (ع) عن قوله تعالى:( فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ... ) . فقال: انتظروا الفرج من ثلاث! فقيل: يا أمير المؤمنين، وما هُنَّ؟ فقال:... والفزعة في شهر رمضان. فقيل: وما الفزعة في شهر رمضان؟ فقال: أوَ ما سمعتم قول الله عز وجل في القرآن:( إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ) ، هي آية تُخرِج الفتاة من خِدرها، وتوقِظ النائم، ويُفزِع اليقظان ).

وأخرج أيضاً(٤) ، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (ع) في حديث قال: ( وفزعة في شهر رمضان توقِظ النائم، وتُفزِع اليقظان، وتُخرِج الفتاة

____________________

(١) انظر إكمال الدين للصدوق (نسخة مخطوطة).

(٢) ص ١٣٣.

(٣) نفس الصفحة.

(٤) انظر غيبة النعماني ص ١٣٤، وكذلك الحديث الذي يليه.

١٢٤

من خِدرها ).

وفي حديث آخر، عن أبي بصير، عن أبي جعفر محمد بن علي (ع)، في حديث أنَّه قال: ( الصيحة لا تكون إلاَّ في شهر رمضان شهر الله، وهي صيحة جبرئيل إلى هذا الخلق - ثمَّ يقول بعد حديث طويل – إذا اختلف بنو فلان فيما بينهم. فعند ذلك فانتظروا الفرج، وليس فرجكم إلاَّ في اختلاف بني فلان، فإذا اختلفوا فتوقَّعوا الصيحة في شهر رمضان وخروج القائم، إنَّ الله يفعل ما يشاء... ) الخبر.

ولعلَّ من أهمِّ ما دلَّ على وقوع الصيحة من الأخبار، ما ورد في الخطاب الذي أخرجه السفير الرابع عن الإمام المهدي (ع)، والذي أعلن فيه المهدي (ع) انتهاء السفارة بموت هذا السفير، يقول فيه: ( إلاَّ فمَن ادَّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة، فهو كذَّاب مُفترٍ )(١) .

وأخرج القندوزي في ينابيع المودَّة بعض هذه الأخبار.

ونستطيع أن نُعطي لفهم هذه الصيحة، عدَّة أُطروحات، لنرى ما يصحُّ منها وما لا يصحُّ:

الأُطروحة الأُولى: إنَّ الصيحة والفزعة بمعنى واحد، ويُراد بها صوت عظيم يكون في السماء، يوقِظ النائم ويُفزِع اليقظان، ويُخرِج الفتاة من خِدرها خوفاً وفزعاً؛ ومن هنا سُمِّيت بالفزعة، ويكون الصوت حادثاً بالمعجزة، ولا يكون له مدلول كمداليل الكلام، وإنَّما هو صوت كالرعد أو الهَدَّة العظيمة.

إلاَّ أنَّ هذا ممَّا لا يكاد يصحُّ؛ فإنَّ أهمَّ ما يُنافيه في الروايات، قوله: ( وهي صيحة جبرئيل إلى هذا الخَلْق )، فإنَّ صحَّته تكون - لا محالة – ذات معنى كمعاني الكلام، لا أنَّها مُجرَّد صيحة صامتة، وسيأتي ما يدلُّ على ذلك في أخبار (النداء).

الأُطروحة الثانية: إنَّ المراد بالصيحة هو النداء الآتي ذكره، وهو نداء جبرئيل على ما سنسمعه من الأخبار، وفي التعبير بأنَّها صيحة جبرئيل، ما يؤيِّد ذلك.

____________________

(١) انظر الاحتجاج للطبرسي ط النجف ص٢٩٧، وانظر تاريخ الغيبة الصغرى ص٦٣٣ وما بعدها.

١٢٥

ويكون السبب في هذا الصوت شيء من قبيل المعجزة، فإنَّ سببه صادر من فوق الطبيعة المادِّية؛ لأنَّه صوت أحد الملائكة الكرام، كما سمعنا في الأخبار.

وعلى أيِّ من هاتين الأُطروحتين، يكون الصوت إعجازياً حادثاً من أجل مصالح مُعيَّنة، أهمُّها ما أشرنا إليه من التنبيه على قُرب الظهور، من أجل إيجاد الاستعداد النفسي لدى المـُخلصين والمسلمين لاستقباله.

الأُطروحة الثالثة: أن يكون المراد بالصيحة والفزعة معانٍ طبيعيَّة غير إعجازية، فالفزعة تعبير عن وجود رُعب عام لسبب من الأسباب، كتوقُّع حرب أو وباء مثلاً، ويكون المراد بالصيحة صوت عظيم صادر من بعض القنابل أو الصواريخ، أو من اختراق إحدى الطائرات حاجز الصوت، أو انفجار بعض المـُستودعات... ونحو ذلك

غير أنَّ الأُطروحة بعيدة للغاية عن مداليل هذه الأخبار وسياقها العام، وخاصة مع الاستدلال بقوله تعالى:( إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ) (١) .

وقد استدلَّ بهذه الآية على الفزعة، كما سبق أن سمعنا، وعلى الصيحة، فيما رواه الصافي في مُنتخب الأثر(٢) ، والقندوزي في الينابيع(٣) ، عن أبي عبد الله (ع)، وقال في آخره:... تلوتُ هذه الآية، أي: قوله تعالى:( إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً... ) الآية، فقلت: أهي الصيحة؟

قال: ( أما لو كانت الصيحة خضعت أعناق أعداء الله عزَّ وجل ).

وإنَّما تخضع أعناق أعداء الله نتيجةً لحادث كَوْنيِّ كبير غير معهود، فيه عنصر إعجازي، لا لحادث بسيط كصوت صاروخ أو طائرة.

ولعلَّ في تفسير الآية تارةً بالصيحة وأُخرى بالفزعة ما يوحي بالأُطروحة الأُولى.

أو أن تكون الفزعة بمعنى الصيحة، فإنَّهما آية واحدة تخضع لها أعناق أعداء الله سبحانه.

ويكون ذلك مُطابقاً للأُطروحة الثانية، ويكون الفزع ناشئاً من صوت جبريل الأمين، في قلوب أعداء الله.. وأمَّا المؤمنين، فيكون الصوت بشارةً كبرى لهم عن قُرب الفرج وتوقُّع الظهور.

ومن أجل هذا يحصل الاهتمام الكبير بهذا الصوت، ويستيقظ منه النائم، ويفزع

____________________

(١) الشعراء: ٢٦/٤.

(٢) ص٤٠٤.

(٣) ص ٤٢٦.

١٢٦

اليقظان، وتخرج الفتاة الحييَّة المـُخدَّرة من خدرها، ولا تتحدَّث عن الفتيات غير المـُتَّصفات بالحياء.

هذا، والظاهر من سياق هذه الأخبار، وخاصة مثل قوله: ( فتوقَّعوا الصيحة وخروج القائم... )، أن تكون الصيحة قبل الظهور بزمن قليل نسبيَّاً... وهو المقصود.

الجهة الثالثة: النداء.

والأخبار عن ذلك على ثلاثة أشكال:

الشكل الأول: ما كان دالاَّ ًعلى وجود النداء إجمالاً، وإنَّه من المحتوم.

أخرج الصدوق(١) ، بسنده إلى ميمون البان، عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال: ( خمس قبل قيام القائم... )، وعد منها: ( المـُنادي يُنادي من السماء ).

وروى المفيد، بسنده(٢) عن أبي حمزة الثمالي، قال: قلت لأبي جعفر (ع): خروج السفياني من المحتوم؟ قال: ( نعم، والنداء من المحتوم ). الحديث.

وأخرج النعماني(٣) ، بسنده عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (ع) أنَّه قال: ( النداء من المحتوم... ) الحديث.

الشكل الثاني: النداء بالحق وبالباطل، ويكون النداء بالحقِّ أولاً، ثمَّ النداء بالباطل.

أخرج الصدوق(٤) ، بسنده إلى ميمون البان، في حديث عن أبي جعفر (ع) قال: ثمَّ قال: ( يُنادي منادٍ من السماء: إنَّ فلان بن فلان هو الإمام باسمه، ويُنادي إبليس لعنه الله من الأرض، كما نادى برسول الله (ص) ليلة العقبة ).

وأخرج النعماني في الغيبة(٥) ، عن أبي بصير، عن أبي جعفر محمد بن علي (ع)، في

____________________

(١) إكمال الدين ( المخطوط ).

(٢) الإرشاد ص٣٣٨.

(٣) الغيبة ص١٣٤.

(٤) انظر إكمال الدين المخطوط ص١٣٤.

(٥) ص١٣٤.

١٢٧

حديث طويلٍ قال فيه:

(... يُنادي مُنادٍ من السماء باسم القائم، فيُسمع من بالمشرق ومن بالمغرب، لا يبقى راقد إلاَّ استيقظ، ولا قائم إلاَّ قعد، ولا قاعد إلاَّ قام على رجليه فزعاً من ذلك الصوت، فرحم الله عبداً اعتبر بذلك الصوت فأجاب، فإنَّ الصوت صوت جبرئيل الروح الأمين ).

وقال (ع): ( الصوت في شهر رمضان في ليلة جمعة، ليلة ثلاث وعشرين، فلا تشكُّوا في ذلك، واسمعوا وأطيعوا.

وفي آخر النهار صوت إبليس اللعين يُنادي: ألا إنَّ فلاناً قُتِل مظلوماً، ليُشكِّك الناس ويفتنهم، فكم ذلك اليوم من شاكٍّ مُتحيِّر قد هوى في النار.

فإذا سمعتم الصوت في شهر رمضان، فلا تشكُّوا فيه أنَّه صوت جبرئيل، وعلامة ذلك أنَّه يُنادي باسم القائم واسم أبيه (ع)، وحتى تسمعه العذراء في خدرها، فتُحرِّض أباها وأخاها على الخروج - إلى أن قال: - فاتَّبعوا الصوت الأول وإيِّاكم والأخير أن تُفتنوا به... ) الحديث.

وأخرج السيوطي في العُرف الوردي(١) ، قال: أخرج نعيم عن علي، قال: ( إذا نادى مُنادٍ من السماء: إنَّ الحق في آل محمد. فعند ذلك يظهر المهدي على أفواه الناس، ويُشْرَبون حُبَّة، ولا يكون لهم ذِكْر غيره ).

وأخرج أيضاً(٢) ، عن نعيم بن حماد أيضاً، عن أبي جعفر، قال: ( يُنادي مُنادٍ من السماء: إنَّ الحق في آل محمد، ويُنادي مُنادٍ من الأرض: إنَّ الحق في آل عيسى – أو قال: العباس شكَّ فيه – وإنَّما الصوت الأسفل كلمة الشيطان، والصوت الأعلى كلمة الله العُلْيَا ).

وأخرج القندوزي في الينابيع شيئاً من ذلك.

____________________

(١) انظر الحاوي للسيوطي ج٢ ص١٤٠

(٢) المصدر ص١٥١.

١٢٨

القسم الثالث: النداء باسم القائم (ع )، بدون أن يكون في الأخبار تعرُّض إلى نداء آخر:

أخرج الصدوق(١) ، بسنده إلى محمد بن مسلم، عن أبي جعفر الباقر (ع)، في حديث، قال: (... ومن علاماته خروج السفياني، ومُنادٍ نُادي باسمه واسم أبيه ).

وأخرج النعماني(٢) ، بسنده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع)، قال:

قلت له: جُعِلت فداك، متى خروج القائم. فقال: ( يا أبا محمد، إنَّا أهل بيت لا نوقِّت... - إلى أن قال: - ولا يخرج القائم حتى يُنادى باسمه في جوف السماء، في ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان، ليلة جمعة ).

قلت: بِمَ يُنادى؟

قال: ( باسمه واسم أبيه، ألا إنَّ فلان بن فلان قائم آل محمد، فاسمعوا له وأطيعوه ).

وأخرج الشيخ في الغيبة(٣) ، بسنده عن محمد بن مسلم، قال: ( يُنادي منادٍ من السماء باسم القائم، فيُسمع ما بين الشرق إلى الغرب، فلا يبقى راقد ولا قائم إلاَّ قعد، ولا قاعد إلاَّ قام على رجليه من ذلك الصوت، وهو صوت جبرئيل الروح الأمين ).

وأخرج أيضاً(٤) عن أبي بصير (ع) قال: قال أبو عبد الله (ع): ( إنَّ القائم صلوات الله عليه، يُنادى اسمه ثلاث وعشرين... ) الحديث.

إلى غير ذلك من الأخبار.

____________________

(١) انظر إكمال الدين المخطوط.

(٢) انظر غيبة النعماني ص١٣٤.

(٣) انظر ص٢٧٤.

(٤) الغيبة للطوسي ص٢٧٤.

١٢٩

والمعنى المفهوم من مجموع هذه الأخبار وأخبار الجهة السابقة: أنَّ أخبار الصيحة والفزعة وأخبار النداء بأقسامها، تُشير إلى معنى مُشترك وحادثة واحدة، لا اختلاف فيها، وإن تعدَّدت أساليب الأخبار، ولا تعارض بينها في الحقيقة، كما أنَّها لا تدلُّ على كثرة النداءات أكثر من صوتين لو تمَّ القسم الثاني من الأخبار.

وعلى ذلك عدَّة قرائن، من هذه الأخبار نفسها:

منها: أنَّ الصيحة والنداء معاً نُسِبا إلى جبرئيل (ع) بشكل مُستفيض.

ومنها: أنَّ وقتهما معاً في ليلة الجمعة الثالث والعشرين من شهر رمضان.

ومنها: أنَّها جميعاً تورِث الاهتمام الكبير، يستيقظ النائم، ويقوم القاعد، وتخرج العذراء من خدرها.

ومنها: أنّ الصيحة والنداء من المحتوم.

إلى غير ذلك ممَّا لا يخفى على المتتبِّع.

وبعد حمل المـُطلق على المقيَّد، والمـُجمَل على المـُفصَّل، ما يلي:

١- إنَّ المراد من النداء الذي هو من المحتوم هو نداء جبرائيل باسم القائم.

٢- إنَّ المراد من النداء بالحق ليس إلاَّ ذلك.

٣- إنَّ صيحة جبرئيل هي هذا النداء أيضاً.

٤- إنَّ الآية التي تخضع لها أعناق أعداء الله هو ذلك أيضاً.

٥- إنَّ الفزعة التي تُخرِج الفتاة من خدرها هو ذلك أيضاً.

٦- إنَّ التوقيت في الثالث عشر من شهر رمضان، توقيته أيضاً.

فإنَّ القسم الثالث من أخبار النداء، أعني النداء باسم القائم واسم (أبيه) هي أخصُّ هذه الأخبار جميعاً، بما فيها أخبار الصيحة والفزعة... فتصلح أن تكون مُفسِّرة لها وشارحة لمدلولها... كما ستكون الصفات الأُخرى المـُعطاة في تلك الأخبار، صفة للنداء أيضاً، كالتوقيت والحتميَّة وغيرهما.

وإذا تمَّ هذا الفَهْم العام، كانت الأخبار الدالَّة، على هذا المعنى المـُشترك متواترة، بل تزيد على التواتر، فإنَّ أخبار النداء وحدها مُستفيضة، فإذا أضفنا إليها أخبار الفزعة والصيحة كانت متواترة.

كما أنَّ بعض الخصائص المذكورة لها مُستفيضة، كحصول الاهتمام المتزايد

١٣٠

والتوقيت الذي عرفناه، وكونها من المحتوم، وكونها صوت جبرئيل الأمين، وأنَّها تكون بالحق وضدَّ أنصار الباطل.

لا يبقى بعد ذلك مجال للنقد إلاَّ في مستويين.

المـُستوى الأول: ما هو محتوى النداء؟

هذا ما بيَّنته الروايات التي سمعناها على شكلين:

الشكل الأول: النداء باسم المهدي واسم أبيه.

الشكل الثاني: النداء بأنَّ الحقَّ في آل محمد.

فقد تَحْصَل المـُعارضة بين هذه الروايات، ويبقى محتوى النداء خالياً من الدليل الصالح للإثبات.

والصحيح هو عدم التعارض، باعتبار إحدى النقاط:

النقطة الأُولى: إن افترضنا أنَّ كلاَّ ًمن الندائين ذو دليل كافٍ لإثباته، إذاً؛ فينبغي أن نلتزم بوجود نداء واحد يحتوي على كلا المدلولين، فهو يقول: إنَّ الحق في آل محمد، وإنَّ أمامكم فلان بن فلان. ولا تنافي بين الأمرين.

النقطة الثانية: أن نفهم الشكل الثاني للنداء راجع إلى الشكل الأول منه، وإنَّ ما يحصل في الخارج هو الشكل الأول فقط، وإنَّما ذكر الشكل الثاني نتيجةً لظروف تاريخية مُعيَّنة.

وخاصَّة إذا التفتنا أنَّ الأخبار الناقلة للندائين بالحق أوَّلاً، ثمَّ بالباطل، نقلت النداء الأول على شكلين، هما نفس الشكلين اللذين أشرنا إليهما، فيكون ما دلَّ على النداء هو من الشكل الأول قرينة على فَهْم مُعيَّن لما دلَّ على أنَّ النداء هو من الشكل الثاني، وأنَّه صدر في ظروف مُعيَّنة.

النقطة الثالثة: أنَّنا لو تنزَّلنا عن كلا النقطتين السابقتين، وافترضنا حصول التنافي بين الندائين، للعلم بأنَّ أحدهما غير حاصل. إذاً؛ يتعيَّن الأخذ بالشكل الأول من النداء، ورفض الشكل الثاني؛ لوفرة الأخبار الدالَّة على أنَّه يُنادى باسمه واسم أبيه، لأنَّ منها ما ورد مُستقلاًَّ، وهو القسم الثالث من الأخبار، ومنها ما ورد مع عطف النداء الباطل عليه، وهو أغلب القسم الثاني، فلا يكون ما دلَّ من الأخبار على الشكل الثاني للنداء معارضاً، لقلَّة عدد الأخبار فيه... فيكون مرفوضاً.

المستوى الثاني: هل الأخبار الدالَّة على وجود النداء بالباطل كافية للإثبات

١٣١

أو لا؟

هناك بعض المـُقدِّمات الفكرية الني يمكن أن تُنتج رفضها:

المـُقدِّمة الأُولى: إنَّ عدد الأخبار الدالَّة على النداء بالباطل أقلُّ بكثير من الأخبار الدالَّة على النداء بالحق، فبينما نرى الأخبار الدالَّة على النداء بالحق، أو باسم المهدي (ع) عديدة، فإذا ألحقنا بها أخبار الفزعة والصيحة - كما سبق - أصبحت متواترة... نرى أنَّ الأخبار الدالَّة على النداء بالباطل ذات عدد قليل، تُمثِّل قسماً من أخبار النداء فقط.

المـُقدِّمة الثانية: إنَّنا إذا سرنا على الفهم التقليدي لهذه الأخبار المـُطابق مع ظهورها الأُولي، وهو صدور النداء بالباطل بشكل إعجازي أو ميتافيزيقي، فيكون هذا مُعجزةً صادرة في جانب الباطل، وقد برهنَّا على استحالة ذلك في التاريخ السابق(١) ؛ لما فيه من التغرير بالجهل، والدفع إلى الفتنة والانحراف، وهو مُستحيل على الحكيم المـُطلق جلَّ وعلا.

فإذا تمَّت هاتان المـُقدِّمتان، لزمنا رفض هذه الأخبار؛ لأنَّها أخبار قليلة نسبيَّاً ودالَّة على أمر مُستحيل، فيكون الأخذ بمضمونها مُستحيلاً.

وهذا لا يعني إسقاط القسم الثاني من أخبار النداء كلِّه، بل الساقط هو الجزء الدالّ على وجود النداء بالباطل فقط، وأمَّا الجزء الدالُّ منها على النداء بالحق، فيبقى ساري المفعول، مُعتضداً بالأخبار الدالَّة على ذلك، وقد سبق أن برهنَّا على إمكان التبعيض في الأخذ بمدلول الخبر.

نعم، لو ناقشنا بالمـُقدِّمة الثانية، وأمكننا حمل النداء عموماً أو النداء بالباطل خصوصاً، على معنى (طبيعي) غير إعجازي، أمكن الأخذ بالأخبار الدالَّة عليه، غير أنَّ هذا سوف يكون قابلاً للمـُناقشة على ما سيأتي.

وإذا نُحاول تكوين فَهْمٍ مُتكامل عن هذين الندائين، نواجه عدَّة أُطروحات، منها الطبيعي، ومنها الإعجازي.

الأُطروحة الأُولى: أن نفهم من (جبرئيل) المـُنادي بالحق و(إبليس) المـُنادي بالباطل، أن نفهم منهما – ولو بنحو الرمز أو المجاز – التعبير عن أنصار الحق وأنصار الباطل، فجبرئيل كناية عن المهدي نفسه، ونداؤه نداء الحق، وإبليس عبارة عن أعداء المهدي والمـُنحرفين من البشر عموماً.

____________________

(١) انظر ص٥٧٧.

١٣٢

ويكون المراد بسِعَة الصوت وانتشاره إلى الشرق والغرب، أو إلى كل إنسان، كونه مبثوثاً عن طريق وسائل الإعلام الحديثة، كالإذاعة والتلفزيون، وما ورد من أنَّ الصوت من السماء، فباعتبار أنَّ البثَّ الإذاعي والتلفزيوني لا يكون التقاطه إلاَّ من الفضاء، وخاصة مع وجود الكواكب الصناعية للبثِّ الإذاعي والتلفزيوني.

ومعه؛ يكون من السهل - بل من الطبيعي - أن نتصوَّر أنَّ جبهة الإمام المهدي (ع) تُنادي باسمه بطريق الوسائل الحديثة... و(جبهة) أعدائه تُنادي بنداء مُضادٍّ - سوف نعرف مدلوله - تريد به الفتنة، وصرف الناس من الحق إلى الباطل.

ويكون السبب في التأثير النفسي البالغ، والاهتمام الذي يُحدِثه الصوت الحق في العالم، ليس هو ارتفاع الصوت، بل هو أهمِّيَّة المضمون، فإنَّ الإعلان العام عن ظهور المهدي (ع) لأول مرَّة، وإعطاء المفهوم الواضح لثورته العالمية، مع كون المسلمين عامة، بل أكثر البشر ممَّن يتوقَّع حدوث دولة الحق، سوف يحدث ردود فعل عنيفة مُختلفة في الناس بلا شكٍّ.

وهذه الأُطروحة وإن كانت واضحة منطقيَّاً، غير أنَّه يرد عليها بعض الإشكالات التي من أهمِّها: أنَّ ما يُستفاد من سياق هذه الأخبار من أنَّ النداء، صوت الحق وصوت الباطل، إنَّما يكون قبل ظهور المهدي (ع) وليس بعده... وهذا يكون مُنافياً مع مضمون هذه الأُطروحة؛ لأنَّها تنظر إلى دعوات الحق والباطل بعد الظهور.

الأُطروحة الثانية: أن نلتزم – طبقاً لظاهر الأخبار – بأنَّ هذين الصوتين يوجَدان قبل ظهور المهدي (ع)، لكن بطريق طبيعي أيضاً، وعن طريق وسائل الإعلام الحديثة، ويكون السبب في هذين الصوتين، وجود حركتين مُتناحرتين في العالم الإسلامي: إحداهما مُحقّة، تهدي الناس إلى الإسلام الصحيح، والأُخرى حركة مُبطلة، تغوي الناس وتخدعهم وتُثير فيهم الشبهات.

ويكون التأييد لحركة الحق، في أول قيامها تأثيراً كبيراً في الناس، حتى إنَّ المرأة تحثُّ أباها وأخاها على نُصرة هذه الحركة وتأييدها، ولكنَّ هذه الحركة لن تدوم طويلاً، بل تكون ضدَّها حركة مُبطلة، تُعلن عن رأيها، وتُصرِّح بمقاصدها، فتوقع الناس في بلبلة وشبهات في العقيدة الإسلامية أو ما يمتُّ لها بصِلَةٍ.

ويكون من نداءاتها وشعاراتها المـُهمَّة: أنَّ فلان قُتِل مظلوماً، والمراد به – والله العالم – ذلك الشخص الذي قتلته وقضت على حكمه الحركة الأُولى المـُحقَّة، ومن هنا

١٣٣

تُصرِّح الحركة الثانية بمظلوميَّته وانتهاج سبيله، والاحتجاج على قتله.

ولعلَّ التعبير يكون نداء الحركة الأُولى صادراً من السماء، ونداء الحركة الثانية صادراً من الأرض، باعتبار احترام النداء الأول، وكونه مُحقَّاً وانتقاص النداء الثاني باعتباره باطلاً وزُخرفاً.

إلاَّ أنَّ هذه الأُطروحة لا تصحُّ؛ لوضوح أنَّ نداء الحركة المـُحقَّة سوف يكون هو الدعوة إلى مبادئها وتأييدها، لا النداء باسم القائم المهدي (ع) واسم أبيه، كما صرَّحت به الأخبار العديدة، ومعه يبقى هذا النداء بلا تفسير من زاوية هذه الأُطروحة.

وأمَّا احتمال أن يكون المراد من لفظ القائم: قائد الحركة المـُحقَّة. باعتبار أنَّه قائم بالسيف، وناصر للحق بالسلاح في الجملة، وإن لم تكن حركته عالمية، فهذا الاحتمال غير صحيح، فإنَّ الأخبار صرَّحت بكونه قائمَ آل محمد وأنَّه المهدي، وفي بعضها وجود الصلاة والسلام عليه، وهو ممَّا لا ينطبق إلاَّ على المهدي الموعود.

الأُطروحة الثالثة: وهي المـُطابقة مع ظاهر الأخبار وسياقها العام... وهو أن نفهم الأسلوب الإعجازي للنداء بالحق، باسم القائم واسم أبيه، ويكون ذلك من المـُنبِّهات للاستعداد النفسي للظهور، كما قلنا.

وهو في عين الوقت يُضفي أهمِّيَّة عُظمى مُسبقة على يوم الظهور، ويُعيِّن اسم القائد العظيم فيه، ويكفي أن يُقال - بعد الظهور الذي يبدو أنَّه سوف لن يتأخَّر كثيراً بعد النداء -: أنَّ هذا القائد العظيم هو الذي هتف الهاتف باسمه، وحدثت المعجزة الضخمة آمرة بإطاعته والتسليم بأمره، وسوف يكون لذلك أعظم الأثر في نصره وانتشار دعوته، وقد عرفنا أنَّ يوم الظهور هو نتيجة جهود الأنبياء والأوصياء، والصالحين والشهداء، وهو الغرض الأسمى من خلق البشرية، فلا عجب أن يُمهِّد الله تعالى بمثل هذه المعجزات.

وهو ممَّا دلَّت الأخبار المتواترة عليه، كما عرفنا، وهو غير مُنافٍ مع قانون المعجزات؛ لوقوعه في طريق الهداية، إذاً؛ فلا بدَّ من التسليم به والاعتراف بوقوعه.

ويكون هذا الصوت في شهر رمضان في ليلة ثلاث وعشرين، التي هي – الأرجح – ليلة القدر، وهي أفضل ليالي السنة، ويكون التوجُّه الديني في ذلك الحين لدى المسلمين، وتقبُّل المفاهيم الدينية والأمور الروحية قد بلغ ذروته، فإنَّه يزداد في مُناسبات العبادة وخاصة في شهر رمضان، بالأخص في ليلة القدر.

وسيكون ردُّ الفعل بالاهتمام والفزع لهذا النداء، ناشئاً من عوامل ثلاثة مُقترنة.

١٣٤

العامل الأول: ارتفاع الصوت وانتشاره، بحيث يُسمع الآفاقَ كلَّها.

العامل الثاني: جانبه الإعجازي، الذي لا يكاد يمكن تفسيره مادِّياً.

العامل الثالث: مضمونه، من حيث كونه مُشيراً إلى القائد الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما مُلِئت ظلماً وجوراً.

وأودُّ أن أُلاحِظَ على النداء بعض المـُلاحظات.

المـُلاحظة الأُولى: هناك فَهْم تقليدي للنداء، بأنَّه يقع في لحظة الظهور، إعلاناً عنه وإيذاناً بوقوعه، وهذا ما لم نجد من الروايات شيئاً دالاَّ ًعليه، ومن هنا لا يمكن الالتزام بصحَّته.

ولكن لا يمكن - مع ذلك - رفع اليد عن فكرة الإيذان والإعلان عن الظهور، إلاَّ أنَّ هذا كما يمكن أن يحصل عند إيجاد النداء مع الظهور، كذلك يمكن أن يحصل مع إيجاد النداء قبله بقليل، ويبدو كأنَّ الظهور قائم على أساس النداء ومنطلق منه، وإن كان الأمر – في الواقع – بالعكس.

ولا يبعد القول بإمكان البرهنة على تقديم النداء قبل الظهور بفترة زمنية؛ وذلك أنَّ النداء إذا حصل مع الظهور، كان المـُتعيَّن عالمياً انطباقه على المهدي (ع)، الذي لا زال في أول ظهوره غير راسخ المـُلك والقوَّة؛ ومن هنا ينفتح احتمال توجُّه الأسلحة العالمية ضدَّه، وهو خلاف بعض الضمانات التي سنذكرها لانتصاره، بخلاف ما لو حصل النداء قبله، فإنَّ حركة المهدي (ع) في أول عهدها سوف لن تكون ضرورية الانطباق على ذلك النداء، عالمياً، وسوف لن يلتفت إلى ذلك إلاَّ المؤمنون به والمنطقة التي تُعاصر حركته الأُولى، وهذا هو الأنسب مع بعض الضمانات التي سنذكرها.

وحيث إنَّ النداء باسم المهدي (ع) مع ظهوره مُخلاَّ ًبانتصاره، إذاً؛ فيتعيَّن عدم حصوله ساعتئذٍ، وحيث ثبت وجود النداء إجمالاً، إذاً؛ فهو يحصل قبل الظهور، بزمن قليل لا يضرُّ مع وجود فكرة الإعلام والتنبيه.

المـُلاحظة الثانية: إنَّ حصول النداء قبل الظهور، معناه حصوله في عصر الغيبة، طبقاً للمفهوم الإمامي عن المهدي.

وهذا النداء عندئذٍ، لا يُنافي الغيبة الحاصلة في الفترة المـُتخلّلة بين النداء والظهور؛

١٣٥

لأنَّ المعنى الأساسي للغيبة - كما عرفناه في التاريخ السابق(١) - هو الجهل المطلق بحقيقة شخص المهدي (ع)، فبالرغم من أنَّ الناس يرون الإمام ويُعاشرونه، إلاَّ أنَّهم يعرفونه باسم آخر غير صفته الواقعية، ومن الواضح أنَّ هذا المعنى لا يتغيَّر بوجود النداء، ما لم يُطبِّقه المهدي نفسه على نفسه عند ظهوره.

وكذلك الحال مع الأُطروحة الأُخرى التي رفضناها هناك، وسميَّناها بـ (أُطروحة خفاء الشخص) حتى مع وجود النداء، ولا يرتفع إلاَّ مع الظهور.

المـُلاحظة الثالثة: كم هي الفترة المـُتخلِّلة بين النداء والظهور؟

دلَّت الروايات السابقة على وقوع النداء في ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان(٢) ، ولعلَّه هو الشهر الذي قع فيه الكسوف والخسوف على غير المألوف، أو رمضان آخر قريب منه نسبيَّاً.

والمـُلاحَظ أنَّ هذا التوقيت في روايات النداء مُستفيض صالح للإثبات التاريخي، إلاَّ أنَّ هذا التوقيت لم يبلغ إلى هذه الدرجة من الكثرة في روايات الخسوف والكسوف.

وسوف يأتي أنَّ الروايات تدلُّ على حصول الظهور في مساء اليوم العاشر من مُحرَّم الحرام... فإذا استطعنا أن نُبرهن - كما سبق - على قُصر المـُدَّة بين النداء والظهور، تعيَّن القول: إنَّ المـُحرَّم الذي يتمُّ فيه الظهور هو المـُحرَّم الذي يأتي بعد ذلك الرمضان الذي يوجَد فيه النداء، ويفصل بينها - في كل عام - ثلاثة من الأشهُر القمريَّة، فتكون المـُدَّة المـُتخلِّلة ثلاثة أشهُر وسبعة عشر يوماً، وإن كان شهر رمضان تامَّاً.

وستكون هذه المـُدَّة المـُتخلِّلة كافية لتنيبه المؤمنين، واجتماعهم لاستقبال إمامهم وقائدهم عند ظهوره، كما سيأتي.

فهذه المـُلاحظات، عن النداء بالحق، وهو الصالح للإثبات كما عرفنا، وأمَّا النداء بالباطل، فهو غير صالح للإثبات، فلا يُهمُّ التعرُّض إلى تفاصيله.

الجهة الرابعة: المطر.

أخرج الطبرسي في أعلام الورى(٣) ، عن عبد الكريم الخثعمي، عن أبي عبد الله

____________________

(١) تاريخ الغيبة الكبرى ص٣٤ وما بعدها.

(٢) المصدر ص٣١ومابعدها.

(٣) ص٤٣٢.

١٣٦

الصادق (ع)، في حديث عن القائم يقول فيه: ( وإذا آن قيامه، مُطِر الناس في جُمادى الآخرة وعشرة أيَّام من رجب مطراً لم يُرَ مثله... ) الحديث.

وذكر المفيد في الإرشاد(١) : قد جاءت الآثار بذكر علامات لزمان قيام القائم المهدي (ع)، وحوادث تكون أمام قيامه، وآيات ودلالات.

ثمَّ إنَّه (عليه الرحمة) ذكر العديد منها إلى أن قال:

ثمَّ يختم ذلك بأربع وعشرين مطرةٍ تتَّصل فتُحيى بها الأرض بعد موتها وتُعرَف بركاتها.

وأخرج الشيخ في (الغيبة)(٢) ، بإسناده عن سعيد بن جبير قال: السنة التي يقوم فيها المهدي تمطر أربعاً وعشرين مطراً يُرى أثرها وبركاتها.

ولا تخفى الحكمة من هذا المطر، وهو الاستعداد للظهور، بإنعاش الأرض إنعاشاً كافياً لتوفير الزراعة، ذلك التوفير العظيم الذي سنسمع عنه فيما يلي من الفصول:

وهذا التقديم خير من نزول المطر بعد الظهور بغزارة، بحيث قد يعيق عن جملة من الأعمال التي يريد القائد المهدي (ع) انجازها، ففي تقدُّمة على الظهور جني لفوائد المطر مع تفادي مُضاعفاته.

ونزول المطر ليس إعجازياً - بطبيعة الحال - إلاَّ أنَّ توقيته وكمِّيَّته، يبدو من سياق الروايات أنَّها بقصد إعجازي خاص من قِبل البارئ الحكيم، توصُّلاً للنتائج المطلوبة من ورائها.

غير أنَّ عدَّة نقاط ضعف تبرز في هذا الصدد.

النقطة الأُولى: ضعف الروايات من حيث السند؛ فإنَّ روايتي الطبرسي والمفيد مُرسلتان، ورواية الشيخ منقولة عن سعيد بن جبير، لا عن أحد الأئمة المعصومين، فلا تكون صالحة للإثبات التاريخي.

النقطة الثانية: قلَّة عدد الروايات الدالَّة على ذلك؛ فإنَّ منهجنا في هذا الكتاب وإن كان قائماً على أساس قبول الخبر الواحد، غير أنَّنا أشرنا إلى لزوم تطبيق (التشدُّد السندي)

____________________

(١) انظر ص٣٣٧.

(٢) انظر ص٢٦٩.

١٣٧

في روايات المـُعجزات، وهذه منها بلحاظ ما قلناه من التوقيت الاعجازي، فلا تكون هذه الروايات كافية للإثبات حتى ولو لم تكن مُرسلة.

النقطة الثالثة: إنَّ هذه الروايات لا تدلُّ على أمطار ضخمة جدَّاً، فإنَّ أربعاً وعشرين مطرة موزَّعة على شهر أو شهرين ممَّا يحدث في البلاد المتوسِّطة المطر، فضلاً عن الغزيرة الباردة، ومعه لا يمكن أن يكون هذا المطر علامة على الظهور؛ لأنَّ فكرة العلامة منطلقة من الإخبار عن شيء مُهمٍّ ومُلفت للنظر في التأريخ، وليس هذا المطر كذلك.

النقطة الرابعة: إنَّ هذه الروايات لا تدلُّ على مكان حدوث هذه الأمطار، فقد تكون بلاداً باردة مُمطرة، وقد تكون بلاداً جافَّة... كل ما يمكن قوله: إنَّ المطر سوف يحدث في بلاد الشرق الأوسط الإسلامية، إلاَّ أنَّ هذه البلاد نفسها تحتوي على كلا القسمين من المناخ، فهناك الباردة الممطرة كإيران ولبنان، وهناك الجافَّة المـُمحلة كالحجاز ونَجد على العموم.

نعم، يمكن أن يُقال - كـ ( أُطروحة ) من أجل اكتساب هذا المطر الأهمِّيَّة ومن ثمَّ تصدق عليه فكرة العلامية -: إنَّ مكان هذا المطر يمكن أن يكون على شكلين:

الشكل الأول: أنَّه ينزل في الأماكن المـُقدَّسة: مكَّة والمدينة، المـُشرَّفتين، وهي من البلاد الجافَّة المـُمحِلة، فيكون وجود هذه الكمِّيَّة من المطر فيه مُهمَّاً جدَّاً.

الشكل الثاني: أن ينزل في كل منطقة الشرق الأوسط جميعاً، وبشكل مشترك... بالعدد والزمان المـُحدَّدين السابقين؛ فيكتسب أهمِّيَّة كبيرة أيضاً.

غير أنَّ هذين الشكلين إنَّما يكتسبان الأهمِّيَّة، لو تمَّ إثباتهما التأريخي، وقد عرفنا في النقطتين الأوليتين عدم صلاحيَّة الروايات للإثبات التأريخي.

وإذا لم يثبت ذلك، كان العديد ممَّا ذُكِر في المصادر من الحوادث والعلامات القريبة للظهور، غير قابل للإثبات التأريخي أيضاً؛ لأنَّه ليس أحسن حالاً في النقل من هذه الحادثة على أيِّ حال؛ ومن ثَمَّ يكون الأحجى أن نُعرِض عنها، وندع العلم بها إلى أهله.

فهذا هو الكلام عن العلامات (الطبيعية)، أعني الكَوْنيَّة الخارجة عن المجتمع البشري، وعرفنا أنَّ أهمَّها وأوضحها اثنان فقط، هما النداء باسم القائم واسم أبيه، ويليه الكسوف الخسوف، وليس هناك ما يمكن إثباته من الحوادث والعلامات ( الطبيعية) غير ذلك، إذا مشينا على منهجنا في التمحيص التأريخي.

١٣٨

الفصل الثاني

الظواهر الاجتماعية

أعني الظواهر التي تنطلق من المجتمع وتصرُّفات

الناس وهي عِدَّة علامات، نذكر كلاَّ ًمنها بعنوان

الدجَّال:

وقد سبق أن عرضناه مُفصَّلاً في التاريخ السابق، وقدَّمنا هناك الفَهْم المـُتكامل عنه، والمـُناسب مع كل ما ورد وثبت عنه من الخصائص والصفات.

وإنَّما كرَّرنا العنوان في التاريخ، باعتبار ما دلَّت عليه بعض الأخبار، ممَّا سيأتي من قُرب ظهور الدجَّال إلى ظهور المهدي (ع)، فيكون من العلامات القريبة للظهور، التي نحن بصددها، وهذا ممكن الصدق على كلا الفهمين اللذين قدَّمناهما للدجَّال في التاريخ السابق.

وسوف لن نُكرِّر ما ذكرناه هناك - بطبيعة الحال - وإنَّما المـُهمُّ هنا أن نسير خطوات أُخرى إلى الأمام في فَهْم الدجَّال، ونؤكِّد على مدى علاقة الدجَّال بالمهدي والمسيح (ع)، وإيراد ما ورد في ذلك من الأخبار، ونحوها من الخصائص التي لم نتوفَّر على عرضها في التاريخ السابق.

الناحية الأولى: موقف الدجَّال من الأمَّة الإسلامية، ومدى تأثيره فيها، ذلك التأثير الذي نستطيع أن نفهم استمراره إلى حين الظهور، ويواجهنا بهذا الصدد عدد من الأخبار، نذكر ما أورده الشيخان من العامة وبعض الإمامية.

١٣٩

أخرج مسلم(١) ، بسنده عن حذيفة، قال: قال رسول الله (ص ): ( لأنا أعلم بما مع الدجَّال منه، معه نهران يجريان وأحدهما: رأى العين ماء أبيض، والآخر رأى العين نار تُأجَّج. فأمَّا أدركن أحد، فليأت النهر الذي يراه ناراً، وليُغمِض، ثمَّ ليُطأطِئ رأسه فيشرب منه، فإنَّه ماء بارد، وإنَّ الدجَّال ممسوح العين، عليها ظفرة غليظة ومكتوب بين عينيه: كافر. يقرأه كاتب وغير كاتب ).

وفي حديث آخر أخرجه(٢) أيضاً عن النواس بن سمعان، قال: ذكر رسول الله الدجَّال، إلى أن قال: ( إنَّه خارج خلَّة بين الشام والعراق، فعاث يميناً وعاث شمالاً، يا عباد الله، فاثبتوا - إلى أن قال: - فيدعوهم فيؤمنون ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتُنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذراً وأسبغه ضروعاً وأمدَّه خواصر.

ثمَّ يأتي القوم فيردُّون عليه قوله، فينصرف عنهم، فيُصبحون مُمحلين، ليس بأيديهم شيء من أموالهم... ) إلخ.

وأخرج البخاري(٣) عن أنس بن مالك، قال: قال النبي (ص ): ( يجيء الدجَّال حتى ينزل في ناحية المدينة، ثمَّ ترجف المدينة ثلاث رجفات، فيخرج إليه كلُّ كافر ومُنافق ).

وأخرج الصدوق، بإسناده عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) يتحدَّث عن الدجَّال ويقول عنه: ( يُنادي بأعلى صوته يُسمِع ما بين الخافقين... يقول: إليَّ أوليائي، أنا الذي خلق فسوى! وقدَّر فهدى أنا ربُّكم الأعلى. وكَذَب عدوُّ الله، إنَّه أعور يُطعَم الطعام ويمشي في الأسواق، وإنَّ ربَّكم ليس بأعور ولا يُطعَم ولا يمشي في الأسواق، ولا يزول، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

____________________

(١) انظر صحيح مسلم ج٨ ص١٩٥ ونحوه في البخاري ج٩ ص٧٥.

(٢) صحيح مسلم نفس الجزء والصفحة.

(٣) انظر الصحيح ج٩ ص٧١

(٤) أنظر كمال الدين المخطوط.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679