موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)8%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 679

الجزء ١ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 212521 / تحميل: 11109
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

ألا وإنَّ أكثر أتباعه يومئذ أولاد الزِّنا، وأهل الطيالسة الخضر... ) إلخ الحديث، وغير ذلك من الأخبار.

قد أعطينا في التاريخ السابق أُطروحتان لفَهْم الدجَّال ( إحداهما: تقليديَّة تقول: إنَّ الدجَّال شخص مُعيَّن طويل العمر، سيظهر في آخر الزمان من أجل ضلال الناس وفتنتهم عن دينهم. ويدلُّ عليه قليل من الأخبار(١) .

والأُخرى: إنَّ الدجَّال عبارة عن مستوى حضاري أيديولوجي مُعيَّن، مُعادٍ للإسلام والإخلاص الإيماني ككل، وقد سبق هناك أن ناقشنا الأُطروحة الأُولى ورفضناها بالبرهان، ولا بدَّ من طرح ما دلَّ عليها من الأخبار، ودعمنا الأُطروحة الثانية وهي، التي ستكون منطلق كلامنا الآن.

ونحن نعلم، فيما يخصُّ الحضارة المادِّية المـُعاصرة، كيف استطاعت غزو المجتمع المـُسلم فكريَّاً وعسكريَّاً ونادت بأعلى صوتها فأسمعت ما بين الخافقين، عن طريق وسائل الإعلام الحديثة، فجمعت إليها أولياءها، وهم كل مَن يؤمِن بعظمتها وصدقها وأغراه العيش بين أكنافها.

ونرى كيف أنَّها أمدَّت هؤلاء بالخير الوفير والقوَّة والسيطرة (فتروح سارحتهم) أي أغنامهم، وهو كناية أو رمز عن كل مصدر للمال والقوَّة (أطول ما كانت ذراً وأسبغه وأمدَّه خواصر) يكنى بذلك عمَّا ينال المـُنحرفون من خير الحضارة المادِّية وما تستطيع هذه الحضارة أن تضمنه لهم من مُستقبل عريض.

على حين نرى الخاصَّة المـُخلصين، الذين شجبوا هذه الحضارة، وأنكروا عليها مادِّيَّتها ولا أخلاقيَّتها وظلمها، يعيشون في الضيق والضرر ( يُصبحون مُمحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم ) كما يقول الخبر.

(يجيء الدجَّال ) مُمثِّل هذه الحضارة (حتى ينزل في ناحية المدينة) أي مدينة، ليس له فيها إلاَّ مركز واحد غير مُلفت للنظر، قد يكون هو سفارة، وقد يكون مركز تبشير، وقد يكون مدرسة أو مُستشفى، ولكن بمضيِّ الأيَّام والليالي (ترجف المدينة ثلاث رجفات ) خلالها، وهو كناية أو رمز عن المصاعب والمِحن التي تمرُّ بها المجتمعات، وهي محن التمحيص دائماً ( فيخرج إليه كل كافر ومُنافق) فاشل في التمحيص.

____________________

(١) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص٥٧٨ وما بعدها وص٦١٧.

١٤١

وقد ذكرنا في التاريخ السابق(١) معنى ادِّعاء الدجَّال للربوبية، وإنَّ له نهرين... طبقاً لهذه الأُطروحة... فلا نُعيد.

(أكثر أتباعه أهل الطيالسة الخضر ) وهم – حسب ما يبدو – أهل الأموال والسُّمعة والسيطرة الاجتماعية في المجتمع المسلم المـُنحرف، و(أولاد الزنا) يمكن أن يُراد بذلك أحد معنيين:

المعنى الأول: أُولئك الذين انقطعوا عن آبائهم عقائديَّاً ومفاهيميَّاً... وأصبحوا أولاداً للناس الآخرين، الذين آمنوا بربوبيتهم وولايتهم ومبادئهم.

المعنى الثاني: إنَّ الإيمان بالاتجاه المادِّي الحديث، يُنتج إنكار عقد الزواج وتكوين الأُسرة بدونه، كما عليه عدد من الناس في البلاد الإسلامية الآن، فيُنتجون ذُرِّيَّة تكون لقمةً سائغةً في شدق السبع المادِّي الهائل.

وليس هذا موقف الحضارة المادِّية المـُعاصرة فقط، بل موقف كل حضارة مادِّية على مدى التاريخ، وخاصة فيما إذا استمرَّت في المـُستقبل عدداً مهمَّاً من الأجيال، ومفهوم (الدجَّال) شامل لمجموع الحضارة المادِّية على مدى التاريخ، لا خصوص حضارتنا المـُعاصرة المـُحترمة!!

وإذا كان للدجِّال أن يُعاصر ظهور المهدي ونزول المسيح، أو أن يوجَد قبل ذلك بقليل، ليكون من علاماته القريبة... فمعنى ذلك استمرار الحضارة المادِّية إلى ذلك الزمان، مهما كان بعيداً، لكي يستمرَّ التمحيص ويتعمَّق بالتدريح، حتى يُنتج نتيجته المطلوبة المـُنتظَرة.

والدجَّال يقتله المسيح والمهدي (ع)، كما سنسمع؛ لأنَّ نظامهما تماماً سيقضي على الحضارة المادِّية، وما ملأت به الأرض من الظلم والجور والانحراف، ويتبدَّل إلى القسط والعدل والإنصاف والرفاه.

الناحية الثانية: علاقة الدجَّال بالمسيح (ع) عند نزوله.

أخرج مسلم(٢) من حديث عن النواس بن سمعان، قال: ذكر رسول الله (ص) الدجَّال... إلى أن يقول: ( فبينما هو كذلك، إذ بعث الله المسيح

____________________

(١) انظر ص٦٤٢ و ص٧٤٥.

(٢) صحيح مسلم ص١٩٧- ١٩٨ ج٨.

١٤٢

ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين، واضعاً كفَّيه على أجنحة مَلكين، فيطلبه حتى يُدركه بباب لُدّ، فيقتله، ثمَّ يأتي عيسى بن مريم قوم قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويُحدِّثهم بدرجاتهم في الجنَّة... ) الحديث.

وفي حديث آخر لمسلم(١) قال: قال رسول الله (ص): ( يخرج الدجَّال في أُمَّتي فيمكث أربعين... فيبعث الله عيسى بن مريم، كأنَّه عروة بن مسعود، فيطلبه فيُهلكه، ثمّ يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة... ) الحديث.

وهناك في المصادر العامَّة الأُخرى أخبار بهذا لمضمون، ولكنّنا نقتصر على ما أخرجه مسلم.

والمصادر العامة اقتصرت على ذكر العلاقة بين الدجّال - بأيِّ معنى فهمناه - وبين المسيح (ع) على حادثة قتله، كما اقتصرت في قاتل الدجّال على المسيح (ع)، ولم تتعرّض للمهدي (ع) على ما سنسمع ذلك ونُناقشه.

وسنتعرّض إلى حادثة نزول المسيح في القسم الثاني من هذا التاريخ، وسنوافق عليها إجمالاً، فإذا تمّ ذلك، وهو لا يتمُّ إلاَّ بعد طغيان الدجّال واستفحال أمره - بأيِّ معنى فهمناه - كان من أهمِّ الأعمال التي يستهدفها هو القضاء على الدجّال والإجهاز على نظامه ومفاهيمه.

ومنطق الأشياء أن يسبق مقتل الدجّال حرب سجال بينه وبين المسيح، يُكتب فيها النصر للمسيح فيقتله، وأمّا فوزه عن طريق المـُعجزة، كما يظهر من البرزنجي في ( الإشاعة )(٢) ، فهو مُخالف لما قلناه: من أنَّ أُسلوب الدعوة الإلهية غير قائم على المعجزات، ما لم ينحصر بها الأمر، وإلاَّ كان نبي الإسلام (ص) في نصره على قريش أولى بالمعجزات، ولاستطاع السيطرة على كل العالم بين عشيِّةٍ وضحاها؛ ومن هنا لا نقول بوجود المعجزات في طريق نصر المهدي (ع) إلاَّ بمقدار الضرورة التي لا بديل عنها.

وقد سمعنا في هذه الأخبار عدَّة خصائص، من حيث إنَّ قتل الدجَّال سيكون في

____________________

(١) صحيح مسلم ج٨ ص٢٠١.

(٢) انظر ص١٣٥.

١٤٣

دمشق، وهو أمر يصعب إثباته تاريخياً، ولكنّه لو تمّ فهو يدلُّ على أنّ هذه البلدة ستُصبح مسرحاً مُهمَّاً ومركزاً رئيسيّاً للدجّال - بأيّ معنى فهمناه - ولا يخفى أنّه طبقاً للأُطروحة التي فهمناها للدجّال لا يكون لقتل الدجّال هناك أكثر من هذا المعنى، أعني تحويل دمشق من الانحراف إلى الإيمان.

وهذا ممَّا يُفسِّر لنا ما سيأتي من وجود عدد من المـُخلصين المـُمحّصين الراسخين في الإيمان في دمشق، على ما دلّت عليه الأخبار - وسيأتي في محلِّه من هذا الكتاب - فإنَّ انحراف المجتمع كلّما تزايد والظلم كلّما تضاعف، أوجب ذلك عمق التمحيص ودقّته؛ الأمر الذي يوجب زيادة عدد المؤمنين وزيادة إخلاص الموجود منهم... حتى وصِفوا في هذه الأخبار بالأولياء والأبدال، وهؤلاء وأمثالهم هم الذين يأتي إليهم عيسى بن مريم ( فيمسح عن وجوههم ويُحدِّثهم بدرجاتهم في الجنَّة)، كما سمعنا في الحديث.

غير أنَّ ظاهر الحديث أنَّه يأتي إليهم بعد أن يتمَّ قتل الدجَّال على يديه، لا أنّه يرتكز عليهم في قتاله، والصحيح أنَّ الحديث دالٌّ على أنَّه (ع) يأتي إليهم ويُبشِّرهم بالجنَّة بعد قتل الدجَّال، ولكنَّه لا يدلُّ على عدم مشاركة هؤلاء في قتله أو قتاله، بل لعلَّ الدرجات التي استحقُّوها في الجنَّة ناشئة إلى حدٍّ كبير من هذه الأعمال الكبرى.

الناحية الثالثة: في علاقة الدجَّال بالمهدي (ع).

وهذا ما وجدناه في المصادر الخاصة، دون العامة.

أخرج الشيخ الصدوق(١) ، بإسناده عن النزال بن سبرة، قال خطبنا علي بن أبي طالب (ع)، فحمد الله عز وجل وأثنى عليه، وصلَّى على محمد وآله، ثمَّ قال: ( سلوني قبل أن تفقدوني - ثلاثاً - ).

فقام إليه صعصعة بن صوحان.

فقال: يا أمير المؤمنين، متى يخرج الدجَّال؟

فقال له: ( اقعد، فقد سمع الله كلامك وعلم ما أردت... - إلى أن يقول بعد حديث طويل: - يقتله الله عزَّ وجلَّ بالشام على عقبة تُعرف بعقبة أَفيق، لثلاث ساعات مضت من يوم الجمعة على يد من(٢) يُصلِّي عيسى بن مريم خلفه... ) الحديث.

____________________

(١) انظر كمال الدين (المخطوط) باب حديث الدجّال وما يتَّصل به من أمر القائم صلوات الله وسلامه عليه

(٢) في المخطوط: على من يد من... وهو تحريف.

١٤٤

أقول: والذي يُصلِّي عيسى بن مريم خلفه هو المهدي (ع)، كما وردت بذلك الآثار المـُستفيضة، ومنها ما في الصحيحين(١) : ( كيف بكم إذا نزل عيسى بن مريم فيكم وإمامكم منكم ).

وأخرج الصدوق(٢) أيضاً، بإسناده عن المفضَّل بن عمر، قال: قال الصادق جعفر بن محمد (ع): ( إنَّ الله تبارك وتعالى خلق أربعة عشر نوراً قبل خَلِق الخلق بأربعة عشر ألف عام، فهي أرواحنا ).

فقيل له: يا بن رسول الله، ومَن الأربعة عشر؟

فقال: ( محمد وعلي وفاطمة و الحسن والحسين، والأئمَّة من وُلْد الحسين، آخرهم القائم الذي يقوم بعد غيبته فيقتل الدجَّال(٣) ، ويُطهِّر الأرض من كلِّ جور وظلم ).

وفي مُنتخب الأثر(٤) ، في حديث عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع) يقول فيه: ( ومنَّا رسول الله، ووصيُّه، وسيِّد الشهداء، وجعفر الطيار في الجنَّة، وسبطا هذه الأُمَّة، والمهدي الذي يقتل الدجَّال ).

ومن الغريب أنَّ الصحاح تذكر أحاديث في علاقة الدجَّال بالمسيح، وأحاديث في علاقة المسيح بالمهدي (ع)، ولا تورِد أيَّ خبر في علاقة المهدي بالدجَّال! مع أنَّه تفهم من تَيْنَك العلاقتين مُعاصرته له، ومن المعلوم كون المهدي (ع) هو رائد الحق في العالم، فكيف لا يكون له اليد الطَّولى في قتله وقتاله؟!

لو نظرنا من زاوية أُخرى، رأينا أنَّ تأخُّر نزول المسيح (ع) عن ظهور المهدي (ع) بفترة من الزمن - على ما سنسمعه عن المصادر العامة - يُنتج لنا: أنَّ السبب الرئيسي الوحيد في زوال الدجَّال هو عمل القائد المهدي (ع) ضدَّه، وتخطيطه للقضاء عليه، ومن المقطوع بزيفه وبطلانه باليقين أن يظهر الإمام المهدي (ع) فلا يُحارب الدجَّال – بأيِّ معنى فهمناه -، ويُرجئ قتاله إلى حين نزول المسيح من السماء، فإنَّ ذلك خالف تكليفه الإسلامي ووظيفته الإلهية، في قمع الكفر والانحراف ونشر الهداية في العالم.

كما أنَّ المقطوع ببطلانه: أن يُفترض أنَّ المهدي (ع) يُحارب الدجَّال فيندحر

____________________

(١) انظر صحيح البخاري ج٤ص٢٠٥، وصحيح مسلم ج١ ص٩٤

(٢) انظر إكمال الدين المخطوط.

(٣) كذا نقله في مُنتخب الأثر (ص٤٨٠) ولكنَّه في المخطوط: الرجَّال بالراء.

(٤) انظر ص١٧٢ وما بعدها.

١٤٥

أمامه، وينتصر الدجَّال ويُحاصر المهدي (ع) ورجاله، كما يظهر من البرزنجي في الإشاعة(١) ، وكيف يمكن أن يتحقَّق ذلك، وقد ثبت بضرورة الدين وتواتر الأخبار، وعن طريق البرهان على التخطيط العام الذي عرفناه، كون الإمام المهدي (ع) منصوراً مؤيَّداً حتى يفتح العالم بأجمعه، ويجمع البشر على الحق والعدل؟!

إذاً؛ فاليد الطَّولى في الإجهاز على الدجَّال ونظامه، للمهدي (ع) نفسه.

نعم، يمكن أن نفترض مشاركة المسيح (ع) من قَتل الدجَّال ضمن إحدى أُطروحتين:

الأُطروحة الأُولى: إنَّ المسيح (ع) يقتل الدجَّال بالمـُباشرة، والمهدي (ع) يقتل الدجَّال بالتسبُّب، أعني بصفته قائداً أعلى لا تصدر التعليمات الأساسية إلاَّ منه؛ فيكون إسناد القتل إلى المهدي (ع) من قبيل قولنا: فتح الأمير المدينة، يعني بأمر منه، والفاتح المـُباشر هو الجيش بطبيعة الحال.

وهذه الأُطروحة، كما تُناسب الفهم الكلاسيكي للدجَّال، وهو كونه شخصاً بعينه، كذلك تُناسب مع الفهم الرمزي الذي دعمناه، ويكون الإجهاز على الدجّال من قِبَل المسيح (ع) بصفته أحد القادة الرئيسين في دولة المهدي العالمية.

الأُطروحة الثانية: إنَّ المسيح (ع) إذا كان يتأخَّر نزوله عن ظهور المهدي (ع)، فقد نتصوَّر أنَّ المهدي (ع) عند ظهوره يُقاتل الدجّال، بأيِّ فَهْمٍ فهمناه، وبعد نزول المسيح يوكِل هذه المـُهمَّة إلى المسيح (ع).

ولا تُنافي بين هاتين الأُطروحتين، كما هو واضح لمَن يُفكِّر، وبها نجمع بين الأخبار الدالَّة على أنَّ المسيح يقتل الدجَّال والأخبار الدالَّة على أنَّ المهدي يقتله؛ فإن كلا هذين القسمين من الأخبار صادقاً، ولا تنافي بينهما.

يأجوج ومأجوج:

وهذا ما ورد عنه في القرآن الكريم، في أكثر من موضع... وتطاحنت التفاسير فيه، حتى لم تكَدْ ترسو على أمر مُشترك، وذُكِر لهم بعضها صفات غريبة، وليس المـُهمُّ الآن الدخول في تفاصيل ذلك، وإنَّما المقصود، هو معرفة مدى ارتباطه بالظهور، ومدى ما يمكن أن يكون مدى تأثيره لو كان له ارتباط.

____________________

(١) انظر ص١٣٥.

١٤٦

وقد ذكر في التاريخ السابق(١) شيئاً من الأخبار عن يأجوج ومأجوج، وتكلَّمنا عمَّا إذا كان القرآن بضمه إلى الإخبار دالاَّ ًعلى تقدُّم خروج يأجوج ومأجوج على الظهور، ولم نستطع أن نتميَّز ظهور القرآن في ذلك، بل بات الأمر مُحتملاً غير قابل للإثبات التاريخي، وإن كان مُحتملاً جدَّاً.

وقد روينا هناك(٢) ما أخرجه مسلم عن هؤلاء، نُكرِّر منه هذه الفقرة:

( ثمَّ يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر، وهو جبل بيت المقدس.

فيقولون: لقد قتلنا أهل الأرض، هلمَّ فلنقتُل مَن في السماء، فيرمون بنشَّابهم إلى السماء، فيردُّ الله عليهم نشَّابهم مخضوبة بالدم ) .

وأخرج ابن ماجة(٣) عن أبي سعيد الخدري، أنَّ رسول الله (ص)، قال:

( تفتح يأجوج ومأجوج، فيخرجون. كما قال الله تعالى:( ... وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ) ، فيعمُّون الأرض وينحاز منهم المسلمون، حتى تصير بقيَّة المسلمين في مدائنهم وحصونهم، ويضمُّون إليهم مواشيهم، حتى إنَّهم ليمرُّون بالنهر فيشربونه، حتى ما يذرون فيه شيئاً، فيمرُّ آخرهم على أثرهم، فيقول قائلهم: لقد كان بهذا المكان مرَّة ماء.

فبينما هم كذلك، إذ بعث الله دوابّ كنَغف الجُراد، فتأخذ بأعناقهم، فيموتون موت الجُراد، يركب بعضهم بعضاً.

فيصبح المسلمون لا يسمع لهم حسَّاً، فيقولون: مَن رجل يشري نفسه، وينظر ما فعلوا؟

فينزل منهم رجل قد وطَّن نفسه على أن يقتلوه، فيجدهم موتى، فيناديهم: ألا أبشروا، فقد هلك عدوُّكم. فيخرج الناس ويُخلُّون سبيل مواشيهم، فما يكون لهم رعي إلاَّ لحومهم، فتشكر

____________________

(١) انظر ص٦٣٣ وما بعدها.

(٢) المصدر والصفحة.

(٣) انظر السُّنن ج٢ ص١٣٦٣

١٤٧

عليها، كأحسن ما شكرت من نبات أصابته قطُّ ).

وأخرج الصحيحان(١) وغيرهما، بالإسناد عن زينب بنت جحش قالت: إنَّ النبي (ص) استيقظ من نومه وهو يقول: ( لا إله إلاَّ ألله، ويلٌ للعرب من شرٍّ قد اقترب! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ).

وعقد سفيان بيده عشرة.

قلت: يا رسول الله، أفَنَهْلَك وفينا الصالحون؟

قال: ( نعم، إذا كثر الخُبْث ).

وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، جوَّد سفيان هذا الحديث.

وأخرج أبو داوود(٢) ، بإسناده عن حذيفة الغفاري في حديث قال فيه: فقال رسول الله (ص): ( لن تكون أو لن تقوم الساعة حتى يكون قبلها عشر آيات:... - وعد منها - خروج يأجوج ومأجوج ).

وينبغي أن نتكلَّم حول هذه الأخبار في عدَّة نواحي:

الناحية الأُولى: أنَّه لا يمكن الأخذ بالدلالة (الصريحة) لهذه الأخبار، الأمر الذي يُعيِّن علينا الالتزام بالفهم (الرمزي) لها؛ وذلك لوجود عدَّة موانع عن الأخذ بصراحتها، نذكر منها ما يلي:

المانع الأول: وجود التهافت بين بعض مدلولاتها؛ الأمر الذي يُسقطها عن قابليَّة الإثبات التاريخي.

فإنَّ الخبر الذي أخرجه مسلم، ورويناه في التاريخ السابق، يدلُّ على وجود نبي الله عيسى بن مريم (ع) بين المسلمين، عند انتشار يأجوج ومأجوج، وقد أعرضتْ عنه سائر الأخبار الأُخرى، فتكون دالَّة على عدم وجوده؛ لأنَّ وجوده ليس بالواقعة البسيطة التي يمكن إهمالها.

كما أنَّ ذاك الخبر دالٌّ على أنَّ زوال يأجوج ومأجوج كان بدعاء المسيح وأصحابه، وإنَّ إزالة جُثثهم كان بدعائه أيضاً، والأخبار الأخرى خالية عن ذلك، ويدلُّ خبر ابن ماجة على أنَّهم يهلكون بإرادة مُباشرة من الله عزَّ وجلَّ.

كما أنَّ خبر مسلم يتضمَّن لوجود المَطر الذي يغسل الأرض من نَتْنِهم بعد زوال

____________________

(١) انظر صحيح البخاري ج٨ص ٧٦ وصحيح مسلم ج٨ ص ٢٦٥ واللفظ لمسلم.

(٢) انظر السنن ج٢ص٤٢٩.

١٤٨

جثثهم … وهذا ما سكتت عنه الأخبار الأُخرى، واعتبرته كأنَّه لا حاجة إليه.

كما أنَّ خبر مسلم دالٌّ على أنَّ الطير تنقل الجثث إلى حيث يشاء الله، ولكنَّ خبر ابن ماجة دالٌّ على أنَّ الأغنام تأكل لحومها، فتشكر عليها، أي تسمن أحسن من أكلها للنبات.

المانع الثاني: قيام عدد من الحوادث في نقل هذه الأخبار على المعجزات، بشكل يتنافى مع (قانون المعجزات) الذي تمَّ البرهان عليه في محلِّه.

منها: موت يأجوج ومأجوج، فجأة بطريق إعجازي، وهذا غير ممكن في قانون المعجزات، فإنَّ أُسلوب الدعوة الإلهية - كما قلنا - قائم على مقابلة السلاح بالسلاح، وتحصيل النصر بالكفاح، لا عن طريق المعجزات.

وبتعبير آخر: إنَّ كل ما يمكن حصوله بالطريق الطبيعي - مهما يكن صعباً وبعيداً - لا تقوم المعجزة بتحصيله، ومن الواضح أنَّ تربية وتأديب يأجوج ومأجوج، أو استئصالهم إذا لم يتأدَّبوا، أمر ممكن بالطريق الطبيعي.

ومنها: أنَّ افتراض أكل الماشية للحم، وهو أمر غريب ولا مُبرِّر له في قانون المعجزات، ويزيد غرابة استفادتهم الصحية من أكل اللحم أكثر من أكل النبات.

ومنها: ما ذكر من تصرُّفات يأجوج ومأجوج أنفسهم، كشربهم بُحْيرة طبرية حتى تجفُّ، كما في خبر مسلم، أو شربهم النهر حتى يجفُّ، كما في خبر أبن ماجة، فإنَّ هذا ممَّا لم يتَّضح فهمه، مهما تزايد عددهم وطال بقاؤهم، ومهما طالت أجسامهم، كما تقول الأساطير.

ومنها: إرسالهم السهام إلى السماء لأجل غزوها... وليس في هذا غرابة، إذا كانوا أغبياء إلى هذه الدرجة … وإنَّما الغرابة في أن تعود السهام مكسوَّة بالدم؛ من أجل إيهامهم بأنَّهم قد قتلوا الناس الموجودين في السماء... فإنَّه من الأساطير التي لا يمكن أن يكون لها أيُّ مُبرِّر، فضلاً عن موافقته لقانون المعجزات.

هذا، ولكنَّ أغلب هذه الأشياء ستُصبح حقائق، عند دمجها في تكوين مُتكامل من الفهم الرمزي، على ما سنذكر بعد قليل، ومعه تُصبح هذه الاعتراضات، واردة على الفهم التقليدي لمثل هذه الأخبار، لا للمقاصد الحقيقية منها.

الناحية الثانية: في عرض أُطروحة مُتكاملة لفهم يأجوج ومأجوج، منطلقة من الفهم الرمزي للأخبار.

١٤٩

مرّت البشرية - بحسب ما هو المقدر لها في التخطيط الإلهي العام - بشكلين مُنفصلين من الأيديولوجية:

الشكل الأول: الاتِّجاه الذي ينفي ارتباط العالم بخالقه بالكلِّية، ونستطيع أن نُسمِّيه بالمادِّية المحضة أو الإلحاد التام.

الشكل الثاني: الاتِّجاه الذي يربط العالم بوجود لخالقه، بشكل أو آخر.

ولكلٍّ من هذين الاتِّجاهين فروعه وانقساماته، التي تختلف باختلاف المستوى العقلي والحضاري للمجتمع البشري.

ويمكن القول: بأنَّ تاريخ البشرية على طوله عاش في الأعمِّ الأغلب الاتِّجاه الثاني، بمُختلف مستوياته، نتيجةً لجهود الأنبياء وتربية الصالحين، ومهما فسد المـُنحرفون والمصلحون، فإنَّهم لم يخرجوا عن الاعتراف الغامض بالخالق الحكيم، ويكفينا مثالاً على ذلك قوله تعالى على لسان مُشركي قريش:( ... مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى... ) (١) ، فهم بالرغم من تطرُّفهم بالكفر، مؤمنون بالخالق، ومن ثَمَّ مندرجون في الاتِّجاه الثاني، وعلى هذا الغرار.

يُقابل ذلك، الاتِّجاه الأول الرافض لوجود الخالق تماماً... والمـُعطي زمام قيادة الإنسان بيد نفسه، بالرغم من قصوره وتقصيره.

ولم يوجد - على مرِّ التاريخ - لهذا الاتجاه وجود مُهمٌّ، فيما عدا الأفكار الشخصية المـُتفرِّقة في التاريخ … ما عدا مرَّتين - فيما نعرف -:

المرَّة الأُولى: اتِّجاه المادِّية البدائية، المـُتمثِّلة بشكل رئيسي في قبائل يأجوج ومأجوج.

والمرَّة الثانية: اتِّجاه المادِّية الحديثة المـُعاصرة، بمختلف أشكالها وألوانها.

وقد كان المَدُّ المادِّي الأول خطراً - وبالغ الضرر - على ذوي الاتجاه الثاني عموماً، وبخاصة تلك الشعوب الصالحة المـُتَّبعة لدعوات الأنبياء، ولعل القسط الأهمَّ من الضرر لم يكن هو الإفساد العقيدي، وإن كان هذا موجوداً من أولئك المـُلحدين البدائيين … وإنَّما الأهمُّ من أشكال الضرر هو الضرر الاجتماعي والاقتصادي، وأشكال القتل والنهب الذي كانت توقِعه القبائل البدائية المـُلحِدة على المجتمع المؤمن.

ومن هنا؛ خطَّط الله تعالى للقضاء الحاسم على هذا المَدِّ الواسع، بإيجاد قائد كبير

____________________

(١) الزمر: ٢٩/٣

١٥٠

ذو حركة عالمية وقدرة واسعة، ومُمثِّل لأفضل أشكال الاتِّجاه المؤمن، هو الإسكندر ذو القَرنين.

وقد شكا المجتمع المـُتضرِّر لهذا القائد من حملات أولئك البدائيِّين:( قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا... ) (١) ، أي أُجرة، لكي تكفينا شرَّهم وتكسر شوكتهم.

وقد استطاع هذا القائد الكبير أن يُعلن دعوة الله في الأرض، ويحصر نشاط ذلك المَدِّ المادِّي في أضيق نطاق، وأن يُعيد المجتمع البشري إلى سابق عهده، من كون الاتِّجاه المـُسيطر هو الشكل الثاني للأيديولوجية، ويبقى الاتِّجاه الأول اتِّجاهاً شخصيَّاً مُتفرِّقاً.

وقد اتِّخذت تدابير ذي القرنين في هذا الصدد، شكلين أساسيّين:

الشكل الأوَّل: بناء السدِّ الموصوف في القرآن الكريم، المتكوِّن من الحديد والصفر، وهو يحتوي على الحماية (العسكرية) من هجمات القبائل البدائية المـُلحِدة.

الشكل الثاني: بناء السدِّ المعنوي في المجتمع المؤمن، وزرع المفاهيم وقوّة الإرادة الكافية ضدّ الانحراف والفساد.

ولعلّ في الإمكان مع بعض التوسُّع في فَهْمِ القرآن الكريم، أن نحمل السدّ الموصوف فيه على السدِّ المعنوي، الذي يفصل بين الحقِّ والباطل، وأنّ الحديد والصفر عبارة عن مكوِّناته المفاهيميَّة، إلاَّ أنَّنا نعرض ذلك كأُطروحة مُحتملة، على غير اليقين … وإن كان ذلك مُمكناً في لغة العرب، ولكنَّنا سنسير بهذا الاتِّجاه ريثما تتمُّ هذه الأطروحة.

( قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ... ) ، ممَّا لديكم من المال والحطام، بعد أن مكَّنه الله تعالى من المـُلك والهداية معاً.

وكان السدُّ الذي بناه ذو القرنين، ضخماً ومُهمَّاً إلى حدٍّ يكفي لكبح جِماح البدائيِّين المـُلحدين وردِّ عاديتهم،( فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً ) ، فإنَّ الاتِّجاهات المـُلحِدة تكون دائبة في نشر عقيدتها، واختراق السدِّ الإيماني، وقهر قوَّة الإرادة والإخلاص عند المؤمنين، وإلاَّ أنَّ سدَّ ذي القرنين كان منيعاً لا يمكن لهذه الاتِّجاهات أن تؤثِّر فيه.

ولكنَّه على أيِّ حال، لم يستطع القضاء عليه نهائياً، بل بقي بوجوده الضعيف مؤثِّراً في المجتمع الإنساني بمقدار ما يستطيع( وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ... ) ، ولم يكن

____________________

(١) الكهف: ١٨ / ٤٩

١٥١

مُقدَّراً في التخطيط الإلهي استئصاله عن الوجود؛ لإمكان مشاركته في التمحيص العام الذي حملنا عنه فكرة كافية، ولذا كان لا بدَّ من الاقتصار على كبح جماحه، وكسر شوكته فقط، ببناء السدِّ ضدَّه، على وجه الأرض، أو في نفوس المؤمنين.

ومن هنا بقي هذا الاتجاه في التاريخ، لكي يتمحَّض بعد حوالي ثلاثة آلاف عام من السيطرة الجديدة للمادِّيَّة على البشر للمرَّة الثانية، ولكنَّها في هذه المرَّة لست بدائيَّة، ولكنَّها مادِّية (تقدُّمية) ومُعقَّدة ومُفلسفة وذات شعارات برَّاقة، وذات قوَّة ومنعة بحيث يصعب مجرَّد التفكير في منازلتها، فضلاً عن القضاء عليها، وهو معنى قوله في أحد الأخبار السابقة:لا يدان لأحد في قتالهم.

لقد خرقت السدَّ القديم، ولم يعد كافياً للسيطرة عليهم وكبح جماحهم، إن ذلك السد كان مناسباً مع مستوى عصره العقلي والثقافي والعسكري، ولم يعد الآن كافياً( حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ) (١) ، أي من كل جهة ينتشرون، كذلك انتشرت المادّية الحديثة.

وتُسيطر الحضارة المادّية على خيرات البلاد الإسلامية، في ضمن سيطرتها على العالم كله، وتستولي مصادرها الطبيعية، فتشرب البحيرات والأنهار – كما أشارت الأخبار – بمعنى أنَّها تستغلُّها تماماً لصالحها، وتمنع أهلها من الاستفادة منها، فيحصل الفقر والقحط في البلاد المحكومة المستعمرة: (... حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مئة دينار لأحدكم اليوم ).

وتأتي الأجيال المتأخِّرة من أتباع الحضارة المادّية، فيقولون: (... لقد كان بهذا المكان ماء )، فإنَّهم عرفوا من التاريخ أنَّ هذه المنطقة كانت تغلُّ لأهلها وتُفيدهم، وأمَّا الآن – بعد سيطرة الحضارة الكافرة – فقد أصبحت الغلاَّت لها، وأصبح وجود الماء كالعدم بالنسبة إلى أهل البلاد.

وأمَّا المسلمون المـُخلصون، فينحازون عنهم ويبتعدون عن مُمالأتهم والسير في طريقهم، خوفاً على إيمانهم من الانهيار، وعلى سلوكهم من التفسُّخ والانحلال.

وحين تتمُّ للحضارة المادّية المـُلحدة، بسط السيطرة على الأرض، تتَّجه أطماعها إلى السماء، ومن هنا نجدهم يقولون: ( هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم، ولنُنازلنَّ أهل

____________________

(١)الأنبياء: ٢١/ ٩٦

١٥٢

السماء ). وهذا بمعناه – الرمزي – ممَّا حدث فعلاً؛ فإنَّ الحضارات المادَّية بعد أن أحكمت قبضتها على الأرض، طمعت بغزو السماء، بدئة بالأقرب من الكواكب، ومن هنا انبثقت فكرة غزو الفضاء الخارجي والسير بين الكواكب.

( فيرمون نشَّابهم إلى السماء، فيردُّ الله عليهم نشَّابهم مخضوبة بالدم )، وهذا – بمعناه الرمزي – مما حدث فعلاً، مُتمثِّلاً بإطلاق الأقمار الصناعية، والمركبات الفضائية والصواريخ الكونية، فأعجب لمثل هذه التنبُّؤ الصادق الذي لم يكن للنبي (ص) أن يُصرِّح به في عصره إلاَّ بمثل هذا الرمز، طبقاً لقانون( كَلِّم الناس على قدر عقولهم ) .

ومعنى كونها تعود مُخضَّبة بالدم، هو أنَّها مُحاولات ناجحة، تُنتج الأثر المطلوب المـُتوقَّع... فكما أنَّ المتوقَّع من القتل بالحربة أو السهم أن تتخضَّب بالدم، كذلك من المـُتوقَّع للمركبات أن تُنتج الخُبرات العلمية المطلوبة، وأن تجلب التراب من القمر مَثلاً.

ولعلَّ في التعبير بأنّ السهام ( ترجع عليها الدم الذي أجفظ ) أي فاض وغزر... فيه إشارة واضحة على ذلك... بعد العلم أنَّ السهم الاعتيادي لا يفيض منه الدم، وإنَّما يُراد بذلك التأكيد على مدى نجاح الرحلات الفضائية، وسعة ما تُنتجه من نتائج، ومن حيث العمق والانتشار في العالم.

وحين يتمُّ لهم ذلك، ينالهم الغرور بعلومهم ومدنيَّتهم، فقولون: ( قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء ). وكل حضارة ينالها الغرور، وتفشل في التمحيص الإلهي العام للبشرية، لا بدّ أن يُحكم عليها بالزوال، ويكون غرورها نذير فنائها واندثارها... طبقاً للقانون الذي يُعرب عنه قوله تعالى:( ... حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (١) .

وكما كان للإسكندر ذي القرنين الدور الأهمَّ في منازلة المادِّية الأُولى... سيكون للقائد المهدي (ع) الدور الأهمَّ في منازلة المادّية الحديثة؛ ولذا قورِن الإمام المهدي (ع) بذي القرنين بعدد من الروايات، كما سنسمع بعد ذلك.

وسيكون للمسيح (ع) مشاركة فعَّالة في هذا الصدد، تحت قيادة القائد المهدي

____________________

(١) يونس ١٠/٢٤

١٥٣

(ع)... إلى حدٍّ يمكن أن نُعبِّر عنه بأنَّه السبب المـُباشر لذلك، مع شيء من التجوُّز والتعميم؛ ومن هنا تسبّب موت يأجوج ومأجوج إلى عمله وجهوده، كما سمعنا من بعض الأخبار.

وأمّا أُسلوب موت هؤلاء، فيُمكن أن نطرح له أُطروحتان:

الأُطروحة الأُولى: موتهم عن طريق تفشِّي الأمراض والأوبئة فيهم... كما هو الموافق مع ظاهر الأخبار، على المستوى (الصريح) دون الرمزي، ففي خبر مسلم: ( فيُرسل الله عليهم النَّغف في رقابهم ).

وفي خبر ابن ماجة: ( فبينما هم كذلك، إذ بعث الله دواب كنَغف الجُراد، فتأخذ بأعناقهم فيموتون كموت الجُراد، يركب بعضهم بعضاً )، والنَّغف دود صغار يكون في الإبل، وكل ما هو حقير عند العرب فهو نغفة )(١) ؛ ومن هنا يكون الأرجح كونه تعبيراً عن مكنونات الأمراض (الميكروبات)، ومن هنا يكون الخبر نبوءة عن هلاك المادِّيين الجُدد عن طريق الأوبئة الفتاكة، أو الحرب الجرثومية ونحوها.

الأُطروحة الثانية: أن نفهم من الموت موت الكفرة الانحراف، لا موت الأبدان.

وهي المـُهمَّة الكبرى التي يقوم بها المهدي والمسيح (ع) في العالم، ولئن كان الكفر قاتلاً للإيمان، وهو أشدُّ من موت الأبدان( ... وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ... ) (٢) ، فإنَّ الإيمان قاتل للكفر، وهو أفضل شكلَي الحياة.

وهذا هو الذي يُفسِّر لنا ما يظهر من الأخبار السابقة، من أنَّ موتهم جميعاً يكون سريعاً وفي زمان مُتقارب جدَّاً، فإنَّه – طبقاً للأطروحة الثانية – نتيجة للجهود الكبيرة المركَّزة في السيطرة على العالم بالعدل وتربية البشرية باتِّجاه الكمال، وهو – أيضاً – دليل على النجاح الفوري لتلك الجهود في اليوم الموعود.

وستكون مُخلَّفات الحضارة المادِّية كبيرة جدَّاً من الناحية الصناعية والعلمية، وسيكون لذلك الأثر الكبير في دعم الدولة العاليمة العادلة، وترسيخ جذور التربية في المجتمع البشري، ( فما يكون لهم(٣) رعي إلاَّ لحومهم، فتشكر عليها كأحسن

____________________

(١) راجع أقرب الموارد، مادّة نغف.

(٢) البقرة: ٢/٢١٧ وانظر أيضاً: ٢/١٩١.

(٣) الضمير في العبارة راجع إلى المواشي، والملحوظ أنّه ضمير لمَن يعقل، ولو أراد الماشي على التعيين لقال: لها؛ ومن هنا يمكن أن نفهم التعميم

١٥٤

ما شكرت على نبات قط ).

فلحومهم – طبقاً لهذه الأُطروحة – مُخلَّفاتهم(١) ، ومن المعلوم أنَّ المستوى التكتيكي الرفيع إذا اقترن بمستوى اجتماعي عادل، وأنتج أضعافاً مُضاعفة من النتائج، ممَّا إذا لم يقترن بالمستوى الاجتماعي العادل.

ولم تَنجُ البشرية، ما بين المادّيتين: البدائية والتقدمية!! من جذور وبذور وإرهاصات للتجدُّد والاشتعال، ومن هنا تأسّف نبي الإسلام (ص) أسفاً شديداً؛ لأنّه قد ( فتح اليوم من رَدم يأجوج ومأجوج مثل هذه - وعقد عشراً - )، من حيث إنّ هذا الردم الإيماني قد بدأ بالتصدُّع مُقدّمة لوجود المادّية التقدمية...!!

غير أنّ موقف المهدي والمسيح (ع)، سيختلف عن موقف ذي القرنين، فلئن اكتفى ذو القرنين ببناء السدِّ، مع الحفاظ على وجودهم إجمالاً - طبقاً للتخطيط العام - فإنّ المهدي (ع) سيتّخذ موقف الاستئصال التام لكل العقائد المـُنحرفة والكفر والضلال، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، ( فيموتون موت الجُراد، يركب بعضهم بعضاً ).

الناحية الثالثة: في الفرق بين يأجوج ومأجوج، والدجّال.

فإنّه قد يرد إلى الذهن: أنّنا بعد أن فسّرنا الدجّال بالحضارة المادّية، كيف صحّ لنا أن نُفسِّر يأجوج ومأجوج بنفس التفسير، وهل يمكن أن نعترف أنّهما تعبيران عن حقيقة واحدة، مع العلم أنّ تعدُّد الأسماء والعناويين دليل على تعدُّد الحقائق.

ويمكن أن يُجاب ذلك بعدّة أجوبة، يصلح كلٌّ منها تفسيراً كاملاً للموقف:

الجواب الأول: إنَّ مفهوم (الدجَّال) ناظر إلى الحضارة المادّية ككُل، ومُستوعب لها على نحو المجموع، وأمّا مفهوم ( يأجوج ومأجوج) فيُقسِّم تلك الحضارة إلى قسمين مُتميِّزين؛ فإنّه بالرغم من أنّ للحضارة المادِّية ككُل مُميِّزاتها وخصائصها التي تفصلها عن الاتجاه الآخر بميزاته وخصائصه، ولها فروقها عن الحضارة الإسلامية والمفاهيم الدينية الإلهية.

وهذه الحضارة المادّية المنظور إليها بهذا الشكل، هي التي تُمثِّل مفهوم الدجّال.

____________________

(١) وأوضح في الاستفادة من المـُخلفّات ما أخرجه ابن ماجة (ج٢ص١٣٥٩ ): قال رسول الله (ص): ( سيوقد المسلمون من قسي يأجوج ومأجوج ونشّابهم وأترستهم سبع سنين ).

أقول: ذلك النشّاب الذي سمعنا أنَّهم يُرسلونها إلى السماء.

١٥٥

بالرغم من ذلك، فإنّ للحضارة المادّية انقساماتها الداخلية التي تجعلها في معرض الصراع الداخلي، الذي يكون في الأعمّ الأغلب عنيفاً وعميقاً، وهذا الانقسام هو المـُعبّر عنه بمفهوم (يأجوج) مرّة ومفهوم (مأجوج) أُخرى.

وهذا الانقسام ليس حديثاً، بل هو قديم قِدَم المادّية نفسها، فالمادّية البدائية كانت مُنقسمة، وكان انقسامها مشوباً بالشعور القبلي، والمادّية (التقدمية) مُنقسمة، ولكنّ انقسامها أيديولوجي ومصلحي معاً.

الجواب الثاني: إنّ مفهوم الدجّال يُمثِّل المادّية الحديثة... ولذا لم يُنقل عنه قبل الإسلام أيُّ وجود، وإنّما بدأت إرهاصاته - حسب إفادات الأخبار التي عرفناها في التاريخ السابق(١) - بعد بدء الإسلام، وكان وجوده الكامل مُتأخِّراً عنه بألف عام.

وأمّا مفهوم (يأجوج ومأجوج)، فهو يُمثِّل الخطَّ المادِّي بتاريخه الطويل؛ ولذا كان له وجود بدائي ووجود حديث، ولم يخلُ التاريخ المـُتوسِّط بينهما من التأثيرات والإرهاصات.

وهذا يعني أنّ الوجود الحديث ليأجوج ومأجوج، هو الدجَّال نفسه، وليس شيئاً آخر.

الجواب الثالث: إنَّ مفهوم يأجوج ومأجوج، يعني الحضارتين المادِّيتين بوجودهما الأصيل، وأمَّا عنوان الدجَّال فلا يعني ذلك بالضبط، وإنَّما النظر فيه إلى نقطة تأثُّر المسلمين بتلك الحضارة المادَّية، فالدجّال يُعبِّر عن عُملاء تلك الحضارة في البلاد الإسلامية، وهم مُتَّصفون بنفس أوصافهم ومُتّخذون نفس منهجهم في الحياة... وكثيراً ما مارسوا الحُكم وزرعوا الشبهات، وحاولوا فكَّ المسلمين عن دينهم، وإبعادهم عن طريق ربِّهم.

ويؤيِّد ذلك اتِّخاذ مفهوم الدجّال، الدالُّ على أنّه مُسلِم بالأصل، ولكنّه أصبح كافراً ومُنحرفاً، يدعو الناس إلى الكفر والانحراف، وقد ينطلق في إثبات أفكاره في الأذهان عن طريق الخداع والتمويه، باستعمال المفاهيم الإسلامية بشكل مُشوّه ومُستغلٍّ للمنافع الشخصية والنتائج الباطلة، كما يدلُّ عليه الحديث الذي أخرجه أبو داود(٢) ، قال: قال رسول الله (ص): ( مَن سمع الدجَّال فلينأ عنه! فوالله، إنَّ الرجل ليأتيه وهو يحسب أنَّه مؤمن، فيتبعه ممَّا يبعث به من الشبهات ).

____________________

(١) انظر ص٦٤٤.

(٢) انظر السُّنن ج٢ص٤٣١

١٥٦

وهناك أجوبة أُخرى مُحتملة للجواب على السؤال الذي ذكرناه في هذه الناحية، لا حاجة إلى سردها.

وللقارئ أن يختار أيَّاً من هذه الوجوه الثلاثة شاء... فإنَّ أيَّاً منها كافٍ في تصحيح تفسيرنا للدجَّال وليأجوج ومأجوج معاً.

الناحية الرابعة: طبقاً للأُطروحة التي فهمناها عن يأجوج ومأجوج، فإنَّ انتشارهما من ردمهما سيكون قبل عصر الظهور، وسيظهر المهدي (ع) وينزل المسيح عيسى بن مريم، وهم حلبة العالم، فيتمُّ القضاء عليهم تماماً، غير أنَّ بعض الأخبار دالٌّ على تأخُّر انتشارهما عن عصر الظهور.

منها: ما أخرجه الحاكم في المـُستدرَك(١) ، في حديث يتحدَّث فيه عن نزول المسيح، وسيطرة المسلمين وقتلهم لليهود، ويقول:( يظهر المسلمون فيكسرون الصليب ويقتلون الخنزير ويضعون الجزية، فبينما هم كذلك، أخرج الله أهل يأجوج ومأجوج... ) الحديث.

فإذا عرفنا أنَّ نزول المسيح وكسر الصليب وقتل الخنزير تعبير آخر عن قيام الدولة العالمية المهدوية العادلة... كان الحديث دالاَّ ًعلى خروج يأجوج ومأجوج بعد تأسيس هذه الدولة.

ومنها ما أخرجه مسلم(٢) ، ورويناه في التاريخ السابق(٣) ، في حديث يذكر فيه حادثة نزول المسيح، ثمَّ يقول: (... فبينما هو كذلك، إذ أوحى الله إلى عيسى أنِّي قد أخرجت عباداً لي لا يُدان لأحد بقتالهم، فحرز عبادي إلى الطور. ويبعث الله يأجوج ومأجوج،( ... وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ) ... ) الحديث.

فإذا استطعنا أن نُبرهن – كما سيأتي – على تأخُّر نزول المسيح (ع) عن ظهور المهدي (ع)، وكان انتشار يأجوج ومأجوج بعد نزول المسيح – كما قال الخبر – إذاً؛ فسيكون انتشارهم بعد ظهور المهدي (ع).

____________________

(١) انظر المـُستدرك على الصحيحين ج٤ص٤٩١.

(٢) انظر صحيح مسلم ج٨ ص١٩٧وما بعدها.

(٣) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص٦٣٣.

١٥٧

إلاَّ أنَّه يمكن المـُناقشة في هذه الأخبار من وجهين:

الوجه الأول: وجود الدلالات المـُعارضة في الأخبار لهذه الدلالة... تدلُّ على تقدُّم ظهور يأجوج ومأجوج على الظهور.

ولعلَّ أهمَّ ما يدلُّ على ذلك ما دلَّ من الأخبار على خوف المسلمين من فتح يأجوج ومأجوج، وهي عديدة وقد سمعنا بعضها، وهي دالَّة بوضوح على تحصُّن المسلمين منهم، وعجزهم عن قتالهم، وسحبهم لمواشيهم معهم، وهذا الخوف إنَّما يمكن تحقُّقه قبل تأسيس الدولة العالمية، بل قبل ظهور المهدي (ع) أساساً؛ إذ لا معنى للخوف بعد الظهور، حين يكون النصر مُحرزاً والأمن مُستتبَّاً... طبقاً لقوله تعالى:( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً... ) (١) .

إذاً؛ فيتعيَّن أن يكون انتشار يأجوج ومأجوج الموجب للخوف والتحرُّز بين المسلمين، سابقاً على الظهور، حين لا يكون للمسلمين قوَّة مهيمنة عُلْيَا.

وقد يخطر في الذهن: أنَّ هذه الأخبار دلَّت على وجود هذا الخوف بين المسلمين، بالرغم من وجود المسيح (ع) فيهم، وأنَّه (ع) مأمور بتحصينهم ضدَّ اعتداءات يأجوج ومأجوج، فإذا كان نزول المسيح (ع) بعد الظهور كما أسلفنا، إذاً؛ فسيكون فتح يأجوج ومأجوج بعده أيضاً.

والصحيح: أنَّ هذه الرواية إنَّما تدلُّ على تقدُّم نزول المسيح على الظهور، وأنَّه ينزل في زمان اضطراب المسلمين وضعفهم ووجود الفتن فيهم، وهذا ما سوف نُناقشه في القسم الثاني من هذا التاريخ... ويكفينا الآن أن نعلم بوجود عدد من الأخبار دالِّ على تأخُّر نزوله (ع) عن الظهور.

إذاً؛ فلا بدَّ من الالتزام بأنَّ انتشار يأجوج ومأجوج سابق على النزول والظهور

____________________

(١) النور: ٢٤/ ٥٥

١٥٨

معاً، ونرفع اليد عن دلالة هذا الخبر بهذا المقدار، وهو المطابق مع الأُطروحة التي عرفناها قبل قليل.

الوجه الثاني: وجود الدلالات المعارضة من ناحية أُخرى.

وذلك: أنَّنا سنسمع الروايات الواردة لسرد حوادث ما بعد الظهور، وسنجدها جميعاً خالية من التعرُّض ليأجوج ومأجوج، وإنَّما سنجد العالم هو العالم الذي نعرفه خالياً من الغرائب التي نُسبت إلى هاتين القبيلتين... يظهر المهدي (ع) وينزل المسيح (ع)، فيحكمان فيه بالعدل، ومعه تكون تلك الأخبار ككل دلالة على عدم انتشار يأجوج ومأجوج يومئذ.

وحيث علمنا من القرآن الكريم والسنَّة الشريفة، أنَّهم لا بدَّ أن ينتشروا في يوم ما، إذاً؛ فهذا واقع قبل الظهور لا محالة.

وهنا لا بدَّ لنا أن نتنازل عمَّا دلًَّت عليه بعض الأخبار السابقة، عن تأخُّر انتشار هاتين القبيلتين عن نزول المسيح تماماً، كما قلنا في الجواب السابق.

وينبغي أن نُلاحِظ - أيضاً - أنَّه طبقاً للأُطروحة التي فهمناها لا تكون هناك أيَّة معارضة بين أخبار يأجوج ومأجوج وبين الروايات التي تذكر حوادث ما بعد الظهور؛ لأنَّ هذه الأطروحة كما تقول بتقدُّم انتشار يأجوج ومأجوج المادّية على الظهور، تنفي عن هاتين القبيلتين كل الغرائب، وإنَّما هما يُمثِّلان العالم نفسه كما نعرفه، فيما عرفناه من دلالة الأخبار على سيطرة المهدي (ع) على العالم كما نعرفه، يكون مُنسجماً مع الأُطروحة كل الانسجام.

نعم، طبقاً للأُطروحة يكون عمل المهدي (ع) مُكرَّساً في أول ظهوره للسيطرة على يأجوج ومأجوج، أو المادِّية السابقة على ظهوره، وهذا المفهوم لم يرد في أخبار ما بعد الظهور، وهذا يعني تحوُّل المفهوم في هذه الأخبار، وترك التعرُّض إلى عنوان يأجوج ومأجوج... ولا يعني وجود الأشكال في هذه الأُطروحة.

السُّفياني:

وهو من الحركات الاجتماعية التي أكَّدت عليها المصادر الإمامية تأكيداً كبيراً،

١٥٩

وأهملتها مصادر العامة إلى حدٍّ كبير، على العكس من الدجَّال، كما أشرنا في التاريخ السابق(١) ، وقد سبق هناك أن ذكرنا العديد من تفاصيل أوصافه وأعماله، وأعطينا عنه فَهْماً خاصَّاً، وهو كونه يُمثِّل حركة الانحراف، أو حركةً مُنحرفةً واسعةَ النفوذ، في داخل المجتمع المسلم.

والمهمُّ في تاريخنا هذا، أن ننظر إلى أعمال السفياني، كشيءٍ سبق على الظهور بقليل، بحيث يتمُّ الظهور، ولا يزال السفياني يعمل عمله وينشر حُكمه ودعوته، كما عليه ظاهر الأخبار.

وينبغي أن نتكلَّم حول ذلك ضمن عدَّة نواحي.

الناحية الأُولى: في سرد الأخبار التي تُفيدنا في حدود الغرض الذي أشرنا إليه، بعد سردنا من أخبار السفياني في التاريخ السابق(٢) الشيء الكثير، وعرفنا أنَّها متواترة لا مناص من الأخذ بها إجمالاً.

أخرج الصدوق(٣) ، عن أبي منصور البجلي، قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن اسم السُّفياني.

فقال: ( وما تصنع باسمه؟! إذا مَلَكَ كور الشام الخَمْس: دمشق، وحمص، وفلسطين، والأردن، وقنسرين، فتوقَّعوا الفَرَج ).

قلت: يملك تسعة أشهُر؟

قال: ( لا، ولكن يملك ثمانية أشهُر لا يزيد يوماً ).

وأخرج النعماني في الغيبة(٤) ، عن أبي جعفر محمد بن علي (ع) في حديث طويل يقول فيه:

( لا بدَّ لبني فلان من أن يملكوا، فإذا ملكوا ثمَّ اختفوا تفرَّق مُلكهم أو تشتَّت أمرهم، حتى يخرج عليهم الخراساني والسُّفياني، هذا من المشرق وهذا من المغرب، يستبقان إلى الكوفة كفَرَسي رهان، هذا من هنا وهذا

____________________

(١) انظر ص٦٢١ وما بعدها.

(٢) انظر ص٦٢٢ وما بعدها.

(٣) انظر إكمال الدين ( المخطوط ).

(٤) ص١٣٥.

١٦٠

عن مظاهر معاوية الزائفة، ليبرز حينئذٍ هو وسائر أبطال (الأمويّة) كما هُم جاهليّين، لم تخفق صدورهم بروح الإسلام لحظة، ثأريّين لم تُنسِهم مواهب الإسلام ومراحمه شيئاً من أحقادِ بدرٍ وأُحد والأحزاب.

وبالجملة فإنّ هذه الخطّة ثورةٌ عاصفة في سلمٍ لم يكن منه بُد، أملاه ظرفُ الحسن، إذ التبس فيه الحقّ بالباطل، وتسنّى للطغيان فيه سيطرةٌ مسلّحةٌ ضارية.

وما كان الحسن ببادئ هذه الخطّة ولا بخاتمها، بل أخذها فيما أخذه من إرثه، وتركها مع ما تركه من ميراثه، فهو كغيره من أئمّة هذا البيت، يسترشد الرسالة في إقدامه وفي إحجامه، امتُحن بهذهِ الخطّة فرضَخ لها صابراً محتسباً وخرجَ منها ظافراً طاهراً، لم تُنجّسه الجاهليّة بأنجاسها، ولم تُلبسه من مُدلهمّات ثيابها.

أخذ هذه الخطّة من صلح (الحديبيّة) فيما أثَر من سياسة جدّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وله فيه أسوةٌ حسنة، إذ أنكر عليه بعضُ الخاصّة مِن أصحابه كما أنكر على الحسن صُلح (ساباط) بعض الخاصّة من أوليائه، فلم يهن بذلك عزمه، ولا ضاق به ذرعه.

تهيّأ للحسن بهذا الصلح أنْ يَغرس في طريق معاوية كميناً من نفسه، يثور عليه من حيث لا يشعر فيُرديه، وتسنّى له به أْن يلغم نصر الأمويّة ببارود الأمويّة نفسها، فيجعل نصرها جفاء، وريحا هباء.

لم يطل الوقت حتّى انفجرت أُولى القنابل المغروسة في شروط الصلح، انفجرت من نفس معاوية يوم نشوته بنصره، إذ انضم جيش العراق إلى لوائه في النخيلة، فقال - وقد قام خطيباً فيهم -:( يا أهل العراق، إنّي والله لم أُقاتلكم لتصلّوا ولا لتصوموا، ولا لتزكّوا، ولا لتحجّوا، وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وانتم كارهون.

ألا وأنّ كلّ شيء أعطيته للحسن بن عليّ جعلته تحتَ قدمَيَّ هاتين!) .

فلمّا تمّت له البيعة خطب فذكر عليّاً فنال منه، ونال من الحسن، فقام الحسين

١٦١

ليردّ عليه، فقال له الحسن:(على رسلك يا أخي) .

ثمّ قال (عليه السلام) فقال:(أيها الذاكر عليّاً! أنا الحسنُ وأبي عليّ، وأنتَ معاوية وأبوك صخر، وأُمّي فاطمة وأُمّك هند، وجدّي رسولُ الله وجدّك عتبة، وجدّتي خديجة وجدّتك فتيلة، فلعنَ الله أخملنا ذكراً وألأَمَنا حسباً، وشرّنا قديماً، وأقدمنا كفراً ونفاقاً!).

فقالت طوائف من أهل المسجد: (آمين).

ثمً تتابعت سياسة معاوية، تتفجّر بكلّ ما يُخالف الكتاب والسنة مِن كلّ منكرٍ في الإسلام، قتلاً للأبرار، وهتكاً للأعراض، وسلباً للأموال، وسجناً للأحرار، وتشريداً للمصلحين، وتأييداً للمفسدين الذين جعلهم وزراء دولته، كابن العاص، وابن شعبة، وابن سعيد، وابن ارطاة، وابن جندب، وابن السمط، وابن الحكَم، وابن مرجانة، وابن عقبة، وابن سميّة الذي نفاه عن أبيه الشرعي عبيد، وألحقه بالمسافح أبيه أبي سفيان ليجعله بذلك أخاه، يسلّطه على الشيعة في العراق، يسومهم سوء العذاب، يذبّح أبناءهم، ويستَحيي نساءهم، ويفرّقهم عباديد، تحت كلّ كوكب، ويحرق بيوتهم، ويصطفي أموالهم، لا يألو جهداً في ظلمهم بكلّ طريق.

ختم معاوية منكراته هذه بحمل خليعه المهتوك على رقاب المسلمين، يعيث في دينهم ودنياهم، فكان من خليعه ما كان يوم الطف، ويوم الحرّة، ويوم مكّة إذ نصب عليها العرادات والمجانيق!.

هذه خاتمة أعمال معاوية، وإنّها لتلائم كلّ الملاءمة فاتحة أعماله القاتمة.

ومهما يكن من أمر، فالمهم أنّ الحوادث جاءت تفسيرَ خطّة الحسن وتجلوها، وكان أهمّ ما يرمي إليه سلام الله عليه، أنْ يرفع اللثام عن هؤلاء الطغاة، ليحوّل بينهم وبين ما يبيتون لرسالة جدّه من الكيد.

وقد تمّ له كلّ ما أراد، حتّى برح الخفاء، وآذن أمر الأمويّة بالجلاء.

١٦٢

وبهذا استتب لصنوه سيّد الشهداء أنْ يثور ثورته التي أوضح الله بها الكتاب، وجعله فيها عبرة لأولي الألباب.

وقد كانا (عليهما السلام) وجهين لرسالة واحدة، كلّ وجه منهما في موضعه منها، وفي زمانه من مراحلها، يكافئ الآخر في النهوض بأعبائها ويوازنه بالتضحية في سبيلها.

فالحسن لم يبخل بنفسه، ولم يكن الحسين أسخى منه بها في سبيل الله، وإنّما صان نفسه، ويجنّدها في جهادٍ صامت، فلمّا حان الوقت كانت شهادة كربلاء شهادة حسنيّة، قبل أنْ تكون حسينيّة.

وكانا (عليهما السلام) كأنّهما متّفقان على تصميم الخطّة: أنْ يكون للحسن منها دورَ الصابر الحكيم، وللحسين دور الثائر الكريم، لتتألّف من الدورين خطّة كاملة ذاتَ غرضٍ واحد.

وقد وقف الناس - بعد حادثتَي ساباط والطف - يمعنون في الأحداث فيَرَون في هؤلاء الأمويّين عصبةً جاهليّةً منكرة، بحيث لو مثّلت العصبيّات الجلفة النذلة الظلُوم لم تكن غيرهم، بل تكون دونهم في الخطر على الإسلام وأهله.

نعم أدرك الرأي العام بفضل الحسن والحسين وحكمة تدبيرهما، كلّ خافيةٍ من أمر (الأمويّة) وأُمور مسدّدي سهمها على نحوٍ واضح.

أدرك - فيما يتّصل بالأمويّين - أنّ العلاقة بينهم وبين الإسلام إنّما هي علاقة عِداءٍ مُستحكَم، ضرورة أنّه إذا كان المُلك هو ما تَهدِف إليه الأمويّة، فقد بلغه معاوية، وأتاحه له الحسن، فما بالها تلاحقه بالسمّ وأنواع الظلم والهضم، وتتقصّى الأحرار الأبرار من أوليائه لتستأصل شأفتهم وتقتلع بذرتهم؟!..

وإذا كان المُلك وحده هو ما تهدف إليه الأمويّة، فقد أُزيح الحسين من الطريق، وتمّ ليزيد ما يُريد، فما بالها لا تكفّ ولا ترعوي، وإنّما تُسرف أقسى ما

١٦٣

يكون الإسراف والإجحاف في حركةٍ من حركات الإفناء على نمطٍ من الاستهتار، لا يُعهد في تاريخ الجزّارين والبرابرة!!..)(١) .

ثانياً: ردّ سيرة الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومعطياتها إلى أُصول نصرانيّة أو يهوديّة: فقد كتب المُستشرق(درمنغهام) في ذلك قائلاً: (إنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في إحدى الرحلات إلى الشام، التقى بالراهب بُحيرى في جوار مدينة بُصرى، وإنّ الراهب رأى فيه علامات النبوّة على ما تدلّه عليه أنباء الكُتب الدينيّة. وفي الشام عرفَ محمّد أخبار الروم ونصرانيّتهم وكتابهم، ومناوأة الفرس من عبّاد النار لهم وانتظار الوقيعة بهم).

ويستطرد درمنغهام في محاولته لإثبات تأثير النصرانيّة على سيرة الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيقول: (... لم تكن المضاربات الجدليّة لتصرفه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن التأثر بغير الحوادث ودروسها، وحوادثٌ أليمةٌ - كَوفاة أبنائه - جديرةٌ بأنْ تستوقف تفكيرهُ، وأنْ تصرفه كلّ واحدةٍ منها إلى ما كانت خديجة تتقرّب به إلى أصنام الكعبة، وتنحر لهُبَل واللات والعزّى ومناة الثالثة الأُخرى، تريد أنْ تفتدي نفسها من ألم الثكل، فلا يفيد القربان ولا تجدي النحور...

لا ريب إنْ كانت عبادة الأصنام قد بدأت تتزعزع في النفوس، تحت ضغط النصرانيّة الآتية من الشام مُنحدرةً إليها من الروم، ومن اليمن، متخطّية إليها من خليج العرب (البحر الاحمر من بلاد الحبشة). ويستمرّ درمنغهام في نظريّته لتنصير سيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في قومه فيقول: (... فلمّا كانت سنة ٦١٠م أو نحوها كانت الحالة النفسيّة التي يُعانيها محمّد على أشدّها، فقد أبهظت عاتقهُ العقيدة بأنّ أمراً جوهريّاً ينقصهُ وينقص قومه، وأنّ الناس نَسوا هذا الأمر الجوهري، وتشبّث كلٌ بصنم قومهِ وقبيلته، وخشيَ الناس الجنّ

____________________

(١) لمزيد من التفصيل في أسرار صلح الإمام الحسن (عليه السلام) راجع: آل ياسين، الإمام الشيخ راضي - صلح الحسن (عليه السلام).

١٦٤

والأشباح والبوارح، وأهملوا الحقيقة العليا، ولعلّهم لم ينكروها، ولكنّهم نسوها نسياناً هو موت الروح... ولقد عرف أنّ المسيحيّين في الشام ومكّة لهم دين أُوحيَ به (!) وأنّ أقواماً غيرهم نزلت عليهم كلمة الله، وأنّهم عرفوا الحقّ ووَعَوه أنْ جاءهم علم من أنبيّاء أُوحي إليهم به، وكلّما ضلّ الناس بعثت السماء إليهم نبيّاً يهديهم إلى الصراط المستقيم، ويذكرهم بالحقيقة الخالدة.

وهذا الدين الذي جاء بهِ الأنبياء في كلّ الأزمان دين واحد، فكلّما أفسده الناس جاءهم رسول من السماء يقوّم عوجهم، وقد كان الشعب العربي يومئذٍ في أشدّ تيهاء الضلال، أما آن لرحمة الله أنْ تظهر فيهم مرّة أُخرى وأنْ تهديهم إلى الحق؟)(١) .

ويتحدّث عن هذا التزوير للحقائق التاريخيّة الأُستاذ جواد عليّ قائلاً:( إنّ معظم المستشرقين النصارى هُم مِن طبقة رجال الدين، أو ممّن تخرّج من كليّات اللاهوت، وهُم عندما يتطرّقون إلى الموضوعات الحسّاسة من الإسلام يُحاولون جهد إمكانهم ردّها إلى أصل نصراني. وطائفة المستشرقين من اليهود يُجهدون أنفسهم لردّ كل ما هو إسلامي وعربي لأصلٍ يهودي، وكلتا الطائفتين في هذا الباب تبع لسلطان العواطف والأهواء)(٢) .

وفي كتابٍ آخر عمل مستشرق وهو قسّيس انجليكاني على عقد عدّة مقارنات ليظهر إن الإسلام كان حقّاً صورة غير محكمة أو مشوهة للنصرانيّة(٣) .

ثالثاً: اعتماد منهج كيفي مناقض للمنهج العلمي في تناول السيرة الشريفة للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام): وإلى ذلك أشار الدكتور جواد عليّ من أنْ (كيناني)

____________________

(١) درمنغهام، أميل - (حياة محمّد) عن رشيد رضا، محمّد (الوحي المحمّدي) ص١٠٠ - ص١٠٨.

(٢) علي، جواد - (تاريخ العرب في الإسلام) - الجزء الأوّل (السيرة النبويّة) ص٩ - ١١.

(٣) د. خليل، عماد الدين - (المستشرقون والسيرة النبويّة) - مجلّة منار الإسلام العدد ٧.

١٦٥

وهو من كِبار المستشرقين الأوائل الذين كتبوا عن حياة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كان يعتمد منهجاً معكوساً في البحث يذكّرنا بكثير من المختصّين الجُدد في حقل التاريخ الإسلامي، والذين يعملون وفْق منهج خاطئ من أساسه، إذ أنّهم يتبنّون فكرة مُسبقة ثمّ يجيئون إلى وقائع التاريخ لكي يستلّوا منها ما يؤيّد فكرتهم ويستبعدوا ما دون ذلك، فلقد كان (كيناني) ذا رأيٍ وفكرة، وضع رأيه وكونه في السيرة قبل الشروع في تدوينها.

فلمّا شرع فيها استعان بكلّ خبر من الأخبار ظفر به، ضعيفها وقويّها، وتمسّك بها كلّها ولا سيما ما يُلائم رأيه. لم يُبال بالخبر الضعيف، بل قوّاه وسنده وعدّه حجّة وبنى حكمه عليه، ومَن يدري فلعلّه كان يعلم بسلاسل الكذِب المشهورة والمعروفة عند العلماء، ولكنّه عفا عنها وغضَّ نظره عن أقوال أولئك العلماء فيها؛ لأنّه صاحب فكرة يريد إثباتها بأيّة طريقةٍ كانت، وكيف يتمكّن من إثباتها وإظهارها وتدوينها، إذا ترك تلك الروايات وعالجها معالجةَ نقدٍ وجرحٍ وتعديل على أساليب البحث الحديث؟)(١) .

وأشار أيضاً(ايتين القيم) إلى بعض الآراء حول هذا المنهج قائلاً: (لقد أصاب الدكتور سنوك هرمزونية بقوله:

(إنّ سيرة محمّد الحديثة تدلّ على أنّ البحوث التاريخيّة مقضيٌّ عليها بالعقم، إذا سُخّرت لأيّه نظريّةٍ أو رأيٍ سابق). هذه حقيقة يَجمل بمستشرقيّ العصر جميعاً أنْ يضعوها نصب أعينِهم، فإنّها تشفيهم من داء الأحكام السابقة، التي تكلّفهم من الجهود ما يُجاوز حدّ الطاقة فيصلون إلى نتائج لا شكّ خاطئة، فقد يحتاجون في تأييد رأيٍ من الآراء إلى هدم بعض الأخبار وليس هذا بالأمر الهيّن، ثمّ إلى بناء أخبار تقوم مقام ما هدموا، وهذا أمرٌ لا ريب مستحيل.

إنّ العالم في القرن العشرين يحتاج إلى معرفة كثير من العوامل

____________________

(١) علي، جواد - (تاريخ العرب في الإسلام) - الجزء الأوّل (السيرة النبويّة) ص٩٥.

١٦٦

الجوهريّة، كالزمن والبيئة والإقليم والعادات والحاجات والمطامع والميول إلى آخره، لا سيّما إدراك تلك القُوى الباطنة، التي لا تقع تحت مقاييس المعقول والتي يعمل بتأثيرها الأفراد والجماعات)(١) .

وهناك المئات من مفردات المنهج الكيفي والتفسير على ضوء المسبقات والخلفيّات الخاصّة للنصوص التاريخيّة، في العديد من مؤلّفات وكتابات المستشرقين خصوصاً الأوائل منهم، فمثلاً (بروكلمان)(٢) ، لا يشير إلى دور اليهود في تأليب الأحزاب على المدينة ولا إلى نقض بني قريظة عهدها مع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، في أشدّ ساعات محنته، لكنّه يقول: (ثمّ هاجم المسلمون بني قريظة الذين كان سلوكهم غامضاً على كلّ حال)(٣) ... أمّا (إسرائيل ولفنسون) فيتغاضى عن حادثة نعيم بن مسعود في معركة الخندق، كسببٍ في انعدام الثقة بين المشركين واليهود.

رابعاً: تصوير مواقف الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من اليهود وقبائل العرب الجاهليّة، على أنّها ظلمٌ وتعسّف. ومن أمثلة ذلك ما أشار إليه المستشرق (اسرائيل ولفنسون) بصدد مهاجمة يهود بني النضير، حيث إنّه لا يقرّ بما قاله مؤرّخو الإسلام، من أنّ سبب إعلان الحرب على يهود بني النضير هو محاولتهم اغتيال الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فيقول: (... لكنّ المستشرقين ينكرون صحّة هذه الرواية ويستدلّون على كذِبها بعدم وجود ذكر لها في سورة الحشر التي نزلت بعد إجلاء بني النضير. والذي يظهر

____________________

(١) القيم، ايتين - (الشرق كما يراه الغرب) - المقدّمة ص٤٣ - ٤٤.

(٢) بروكلمان، كارل ( pockelmann ١٨٦٨ - ١٩٥٦م): مستشرق ألماني يُعتبر أحد أبرز المستشرقين في العصر الحديث. أشهر آثاره: (تاريخ الأدب العربي) في خمسة مجلّدات (١٨٩٨ - ١٩٤٢م)، و(تاريخ الشعوب والدول الإسلاميّة)(عام ١٩٣٩م)، وقد نقلهُ إلى العربيّة نبيّه أمين فارس ومنير البعلبكّي / عن البعلبكّي، منير - موسوعة المورد - المجلّد الثاني ص١٢٠.

(٣) بروكلمان، كارل - (تاريخ الشعوب الإسلامية) ص٥٣ - ٥٤.

١٦٧

لكلّ ذي عينين أنّ بني النضير لم يكونوا ينوون الغدر بالنبيّ واغتياله على مثل هذه الصورة؛ لأنّهم كانوا يخشون عاقبة فعلهم من أنصاره، ولو أنّهم كانوا ينوون اغتياله غدراً لما كانت هناك ضرورة لإلقاء الصخرة عليه من فوق الحائط، كان في استطاعتهم أنْ يفاجئوه وهو يُحادثهم إذ لم يكن معه غير قليلٍ من أصحابه)(١) .

أمّا المستشرق(فلهاوزن) فيقول:( لم يبقَ الإسلام على تسامحه بعد بدر، بل شرَع في الأخذ بسياسة الإرهاب في داخل المدينة، وكانت إثارة مشكلة المنافقين علامة على ذلك التحوّل... أمّا اليهود فقد حاول أنْ يُظهرهم بمظهر المعتدين الناكثين للعهد، وفي غضون سنوات قليلة أخرج كلّ الجماعات اليهوديّة أو قضى عليها في الواحات المحيطة بالمدينة، حيث كانوا يكوّنون جماعات متماسكة كالقبائل العربيّة، وقد التمس لذلك أسباباً واهية...) (٢) .

ويتعاطف المستشرق(مرجليوث) مع اليهود، ويرى أنّ اقتحام خيبر محضَ ظلمٍ نزل باليهود لا مبرّر له على الإطلاق(٣) .. ويُؤاخذ المستشرق(نولدكه) القبائل العربيّة، على عدم تحالفهم الدقيق في مواجهة الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويتمنّى (لو أنّ القبائل العربيّة استطاعت أنْ تعقد بينها محالفات عربيّة دقيقة ضدّ محمّد؛ للدفاع عن طقوسهم وشعائرهم الدينيّة، والذود عن استقلالهم، إذن لأصبح جهادَ محمّد جندهَم غير مجدٍ، إلاّ أنّ عجم العربي عن أنْ يجمع شتات القبائل المتفرّقة قد سمح له أنْ يخضعهم لدينه، القبيلة تلو الأُخرى، وأنْ ينتصر عليهم بكلّ وسيلة، فتارةً بالقوّة وتارةً بالمحالفات الوديّة والوسائل السلميّة)(٤) .

____________________

(١) ولفنسون، إسرائيل - (تاريخ اليهود في بلاد العرب) - ص١٣٠ - ١٣٧.

(٢) فلهاوزن، يوليوس - (الدولة العربيّة وسقوطها) - ص١٥ - ١٦.

(٣) الدكتور خليل، عماد الدين - (المستشرقون والسيرة النبويّة) مجلّة منار الإسلام - العدد ٧.

(٤) نولدكه، ثيودور - (تاريخ العالم للمؤرّخين) الجزء ٨ - ص١١.

١٦٨

خامساً: تصوير سيرة النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على أنّها نتاج بيئته: يقول المستشرق(جب):

( إنّ محمّداً ككلّ شخصيّة مُبدعة، قد تأثّرت بضرورات الظروف الخارجيّة عنه المحيطة به، من جهة أُخرى قد شقّ طريقاً جديداً بين الأفكار والعقائد السائدة في زمانه، والدائرة في المكان الذي نشأ فيه... وقليل ما هو معروف - على سبيل التأكيد - عن حياته وظروفه المبكّرة... ولكن الشيء الذي يصحّ أنْ يُبحث ماضيه الاجتماعي....

لقد كان أحد سكان (مدينة) غير رئيسيّة، وليس هناك ما يصحّ أنْ يصوّره بأكثر من أنّه (بدوي)، شارك في الفكرة والنظرة في الحياة التي كانت للبدو الرُحّل من الناس، و(مكّة) في ذات الوقت لم تكن خلاءً بعيداً عن صخب العالم، وعن حركته في التعامل، بل كانت مدينة ذات ثروة اقتصاديّة، ولها حركة دائبة كمركز للتوزيع التجاري بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسّط.

و(سكّانها) مع احتفاظهم بطابع البساطة العربيّة الأوليّة في سلوكهم ومنشآتهم، اكتسبوا معارفَ واسعةً بالإنسان والمدن، عن طريق تبادلهم الاقتصادي والسياسي مع العرب الرحل، ومع الرسميّين من رجال الإمبراطوريّة الرومانيّة، وهذه التجارب قد كوّنت في زعماء مكّة ملَكات عقليّة، وضروباً من الفطنة وضبط النفس لم تكن موجودةً عند كثير من العرب.

ثمّ إنّ (السيادة الروحيّة) التي اكتسبها المكّيون من قديم الزمان على العرب الرحّل، زادت قوّةً ونموّاً بفضل الإشراف على عدد من (المقدّسات الدينيّة) التي وجِدت داخل مكّة وبالقرب منها، وانطباع هذا الماضي الممتاز لـ (مكّة)، يمكن أنْ نقف على أثره واضحاً في كلّ ادوار حياة محمّد...

وبتعبيرٍ إنساني: إنّ محمّداً نجح لأنّه كان واحداً من المكّيّين!... ولكن بجانب هذا الازدهار في(مكة)، كانت هناك ناحية أُخرى مظلمة خلّفتها تلك الشرور المعروفة لجماعة اقتصاديّة ثريّة، فيها فجوات واسعة من الغنى والفقر! هذه الناحية، هي ناحية الإجرام الإنساني الذي تمثّل في الأرقّاء

١٦٩

والخدَم وفي الحواجز الاجتماعيّة... وواضح من دعوة محمّد الصارخة إلى مكافحة الظلم الاجتماعي، أنّ هذه الناحية كانت سبباً من الأسباب العميقة لثورته الداخليّة (النفسيّة)) !(١)

ويستطرد (جب) في محاولته لإثبات أنّ الاتّجاه الديني للرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وسعْيه لإنشاء حكومة دينيّة وجماعة دينيّة، إنّما كان بتأثير الطابع القدسي الديني لمكّة وزعامتها الدينيّة لباقبي المدن العربيّة الأُخرى، وارتباط وضعها الاقتصادي بهذه الزعامة الدينيّة، الذي أدّى إلى وقوع الصراع بينهم وبين الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من أجل ذلك، فيقول (جب): (ولكن نواة هذه الثورة النفسيّة لم تظهر في صورة (إصلاح اجتماعي)، بل بدلاً من ذلك دفعته إلى (اتجاه ديني) أعلنه في اعتقادٍ ثابت لا يتأرجح: بأنّه رسولٌ من الله، لينذر أتباعه بإنذار الرسُل الساميّين القديم: توبوا، فجزاء الله حق!!. وكل ما وُجِد بعد ذلك كان نتيجةً منتظرة للتصادم بين هذا الاعتقاد (بأنّه رسول) وبين الكفر به، ومعارضته من فريقٍ بعد فريق....

وهناك حقيقة واحدة مؤكّدة (في تاريخه) وهي: أنّ الدافع له كان (دينيّاً) على الإطلاق، فمن بدء حياته كداعٍ كانت نظرته إلى الأشخاص والأحداث وحكمه عليها نظرة تأثر فيها، بما عنده من صورة عن الحكومة الدينيّة وأغراضها في عالم الإنسان!!.. ومحمّد في البداية، لم يكن نفسه على علمٍ بأنّه صاحب دعوةٍ إلى دين جديد! بل كانت معارضة المكّيّين له، وخصومتهم له من مرحلةٍ إلى أُخرى، هي التي قادته أخيراً وهو بالمدينة - بعد أنّ هاجر إليها - إلى إعلان الإسلام كجماعة دينيّة جديدة، بإيمانها الخاص، وبمنشآتها الخاصّة.

ويبدو أنّ معارضة المكّيّين له لم تكن محافظتهم وتمسّكهم بالقديم، أو

____________________

(١) جب، (المذهب المحمّدي) ص٤٧.

١٧٠

بسبب عدم رغبتهم في الإيمان، بل ترجع أكثر ما ترجع إلى أسباب سياسيّة واقتصاديّة، لقد تملّكهم الخوف من آثار دعوته، التي تؤثّر على ازدهارهم الاقتصادي وبالأخص تلك الآثار التي يجوز أنْ تلحق ضرراً بالقيمة الاقتصاديّة لمقدّساتهم... وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ المكيّين قد تصوّروا - أسرع ممّا تصوّر محمّدٌ نفسه - أنّ قبولهم لتعاليمه ربّما يُمهّد لنوعٍ معقّد من السلطة السياسيّة داخل جماعتهم، التي كانت تحكمها فئة قليلة حتّى ذلك الوقت)(١) .

سادساًَ: يقول الدكتور(رشدي فكار): إنّ محاولة المستشرقين تحقيق مخطّطاتهم بالنفاذ من باب السيرة النبويّة، والتعامل معها كتراث بشري دنيوي، لا كمعتبِر لوحي السماء. وقد قام المستشرق (جولد صيهر) بدور رئيس في التشكيك بصدق السنة النبويّة، حيث ادّعى هو وغيره أنّها جُمِعت بعد وفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بوقتٍ طويل، وهذا يفقدها الكثير من مصداقيّتها، بل راح إلى أبعد من ذلك، فادّعى أنّ الحديث النبوي هو نتيجة لتطوّر المسلمين.

أمّا المستشرق(الفريد غيوم) في كتابه (الحديث في الإسلام) والمستشرق(تريثون) في كتابه (الإسلام عقيدة وعمل)، فقد حاول كل منهما الطعن في طرق جمع السنة المطهرة، زاعمين أنّ السنة النبويّة الصحيحة لم يُكتب لها البقاء؛ لأنّها لم تدوّن، بل كانت تُتناقل شفاهةً بين الأفراد لمدّة قرنين من الزمان(٢) .

ويشير المستشرق(درمنغهام) إلى هذه الادّعاءات، ويذكر لنا نمطاً آخر منها فيقول: (من المؤسف حقّاً أنْ غالى بعض هؤلاء المتخصّصين - من أمثال (موبر) و(مرجليوث) و(نولدكه) و(سبرنجر) و(دوزي) و(كيتاني) و(مارسين) و(غريم) و(جولد صيهر) و(غود فروا) وغيرهم - في النقد أحيانا، فلم تزل كتبهم عاملَ هدمٍ على الخصوص، ومن المُحزن

____________________

(١) جب، (المذهب المحمّدي) - ص٢٧ - ٢٩.

(٢) الجندي، أنور - (أبرز أهداف المستشرقين) - مجلّة منار الإسلام - العدد ٨ السنة ١٤.

١٧١

ألاّ تزال النتائج التي انتهى إليها المستشرقون سلبيّةً ناقصة...

ومن دواعي الأسف أنْ كان الأب(لامانس)، الذي هو من أشهر المستشرقين المعاصرين من أشدّهم تعصّباً، وأنّه شوّه كتبه الرائعة الدقيقة وأفسدها بكرهه للإسلام ونبيّ الإسلام، فعند هذا العالِم اليسوعي أنّ الحديث إذا وافق القرآن كان منقولاً عن القرآن، فلا أدري كيف يُمكن تأليف التاريخ، إذا اقتضى تطابق الدليلين تهادمهما بحكم الضرورة، بدلاً من أنْ يؤيّد أحدهما الأخر؟)(١) .

والأكثر غرابة هو موقف بعض المستشرقين من القرآن كمصدر أساسي من مصادر السيرة النبويّة، فهم ينفون الكثير من وقائع السيرة إذا لم تكن واردة في القرآن الكريم، وهم بعبارةٍ أُخرى، يريدون أنْ يُوهموا بهذه الحجّة أنّ عمليّة انتقائهم المغرضة لبعض وقائع السيرة، وترك البعض الأخر - بهدف هدم هذه السيرة ونفيها - لم يكن جزافاً، بل كان على أساس الاتّكاء على المصدر الفيصل لدى المسلمين، في بيان حقائق دينهم ونبيّهم.

ومن الأمثلة على ذلك ما يدّعيه المستشرق(شبنغلر) (٢) من أنّ اسم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ورد في أربع سوِر من القرآن هي آل عمران والأحزاب ومحمّد والفتح، وكلّها سوِر مدنيّة، ومِن ثمّ فإنّ لفظة(محمّد) لم تكن اسم علَم للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قبل الهجرة، وإنّما اتّخذه بتأثير قراءته للإنجيل واتّصاله بالنصارى(٣) ، ومن الأمثلة أيضاً ما أشار إليه المستشرق(إسرائيل

____________________

(١) درمنغهام، إميل - (حياة محمّد) - المقدّمة ص٨، ١٠ - ١١.

(٢) شبنغلر، (أوزوولد Spengler Oswald ١٨٨٠ - ١٩٣٦م): فيلسوف ألماني قال بأنّ الحضارات تولد وتنضج ثمّ تموت كالكائنات الحيّة سَواء بسواء، وأنّ الحضارة الغربيّة المعاصرة هي في طريقها إلى الموت، وبأنّ حضارة أُخرى جديدة من آسيا سوف تحلّ محلّها، أهمّ آثاره: (انحطاط الغرب) وهو يقع في مجلّدين.

عن البعلبكّي، منير - موسوعة المورد م٩ ص١٠١.

(٣) علي، جواد. (تاريخ العرب في الإسلام) الجزء الأول ص٧٨ وهوامشها، ويمكننا أنْ ننقض على (شبنغلر) هذا فنسأله: إذا كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد التقط اسم محمّد من خلال قراءته لنبوءات الإنجيل، = فأين إذن (محمّد) الحقيقي الذي بُشر به في كتب النصارى؟

١٧٢

ولفنسون) - الذي مرّ ذكره - بصدد مهاجمة يهود بني النضير، من أنّ مؤرّخي المسلمين يذكرون سبباً آخر لإعلان الحرب على هذه الطائفة اليهوديّة، ذلك هو محاولتهم اغتيال الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

ويدّعي(ولفنسون) أنّ المستشرقين يقولون بغير ذلك فيقول: (لكنّ المستشرقين ينكرون صحّة هذه الرواية ويستدلّون على كذبها بعدم وجودِ ذكرٍ لها في سورة الحشر، التي نزلت بعد إجلاء بني النضير)(١) .

ويُعتبر ما ذكره(مونتغمري وات) - بصدد تثبيت الشبهات وتكريس الشكوك حول معطيات السيرة النبويّة، ومصداقيّتها القدسيّة، على أساس الدليل والحجّة القاطعة - قناعاً يقنع به ذلك المنهج الاعتباطي المُغرض؛ لأنّه هو نفسه لم يلتزم بما قاله، وكشف من خلال كتاباته زيف ادّعائه وحقيقة منهجه الكيفي، ممّا يجعلنا نتحفّظ من قوله: (إذا أردنا أنْ نصحّح الأغلاط المكتسبة من الماضي بصدد (محمّد)، فيجب علينا في كلّ حالة من الحالات لا يقوم الدليل القاطع على ضدّها أنْ نتمسّك بصلابة بصدقه، ويجب أنْ لا ننسى أيضاً أنّ الدليل القاطع يتطلّب لقبوله أكثر من كونه ممكناً، وأنّه في مثل هذا الموضوع يصعب الحصول عليه)(٢) .

سابعاً: الانطلاق من المنطق الوضعي العلماني، وطريقة التفكير الأوربيّة في تناول السيرة الشريفة للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام): حاول المستشرقون أنْ يخترقوا السيرة النبويّة، ويُخضعوا حياة نبيّ الإسلام (محمّد) (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام) لعلوم الغربيّين في التربية والسيكولوجيا(٣) .

إنّ المنطق الوضعي العلماني والرؤية الأوربيّة في منهج البحث التاريخي أدّى

____________________

(١) ولفنسون، إسرائيل - (تاريخ اليهود في بلاد العرب) - ص١٣٥ - ١٣٧.

(٢) وات، مونتغمري - (محمّد في مكّة) - ص٩٤.

(٣) الجندي، أنور - (أبرز أهداف المستشرقين) - مجلّة منار الإسلام العدد ٨ - السنة ١٤.

١٧٣

إلى أنْ تقع مجموعة من المستشرقين في تزوير وتحريف الحقائق التاريخيّة، منها قولهم: (إنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يكن يخطو خطوةً واحدة، وهو يعلم مسبقاً ما الذي يليها...)، أي إنّه كان يتحرّك وفق ما تمليه عليه الظروف الراهنة من متطلّبات ولوازم، دونما أيّ تخطيط شمولي وأُفقٍ عالمي، كما هو وارد في القرآن الكريم ومتواتر فيما نُقل من السيرة النبويّة.

ومن أبرز من تبنّى هذه المقولة هو المستشرق(فلهاوزن) ومجموعته الاستشراقيّة، إذ قالوا بإقليميّة دعوة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للإسلام في عصرها المكّي، وإنّه لم ينتقل إلى المرحلة العالميّة - في العصر المدني - إلاّ بعد أنْ أتاحت له الظروف ذلك، ولم يكن ليفكّر بذلك من قبل.

وقد أشار المستشرق(سير توماس أرنولد) إلى هذه الرؤية الخاطئة لدى زملائهِ بقوله: (من الغريب أنْ ينكر بعض المؤرّخين أنّ الإسلام قد قُصد به مؤسّسه في بادئ الأمر، أنْ يكون ديناً عالميّاً برغم هذه الآيات البيّنات)(١) .

وقد سبقَت الإشارة إلى أنّ المستشرق الفرنسي(دينيه)، الذي أعلن إسلامه قال في هذا الصدد أيضاً: (إنّه من المتعذّر إنْ لم يكن من المستحيل، أنْ يتجرّد المُستشرقون عن عواطفهم وبيئتهم نزعاتهم المختلفة، وإنّهم لذلك قد بلغ تحريفهم لسيرة النبيّ والصحابة مَبلغاً يُخشى على صورتها الحقيقيّة من شدّة التحريف فيها، ورغم ما يزعمون من أتباعهم لأساليب النقد البريئة ولقوانين البحث العلمي الجاد، فإنّا نلمس من خلال كتاباتهم محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يتحدّث بلهجةٍ ألمانيّة إذا كان المؤلّف ألمانيّاً، وبلهجةٍ إيطاليّة إذا كان الكاتب إيطاليّاً.

وهكذا تتغيّر صورة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بتغيّر جنسيّة الكاتب، وإذا بحثنا في هذهِ السيرة عن الصورة الصحيحة فأنا لا نكاد نجد لها من أثر.

إنّ المستشرقين يقدّمون لنا صوراً خياليّة

____________________

(١) أرنولد، سير توماس - (الدعوة إلى الإسلام) - ص٤٨.

١٧٤

هي أبعد ما تكون عن الحقيقة، إنّها أبعد عن الحقيقة من أشخاص القصص التأريخيّة التي يؤلّفها أمثال (وولتر سكوت) و(الكسندر دوماس).

وذلك أنّ هؤلاء يصوّرون أشخاصا من أبناء قومهم، فليس عليهم إلاّ أنْ يحسبوا حساب اختلاف الأزمنة، أمّا المُستشرقون فلم يمكنهم أنْ يلبسوا الصورة الحقيقيّة لأشخاص السيرة فصوّروهم حسب منطقهم الغربي وخيالهم العصري...).

ولتقريب الفكرة يضرب(دينيه) مثلاً عكسيّاً: (ما رأي الأوربيّين في عالم مِن أقصى الصين يتناول المتناقضات، التي تكثر عن مؤرّخي الفرنسيّين ويمحصّها بمنطقه الشرقي البعيد، ثمّ يهدم قصّة(الكاردينال ريشيليو) (١) كما نعرفها ليعيد إلينا ريشيليو آخر له عقليّة كاهن من كهنة بكّين وسماته وطباعه؟

إنّ مستشرقي العصر الحاضر قد انتهوا إلى مثل هذه النتيجة، فيما يتعلّق برسمهم الحديث لسيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويُخيّل الينا أنّنا نسمع محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يتحدّث في مؤلّفاتهم إمّا باللهجة الألمانيّة أو الانجليزيّة أو الفرنسيّة، ولا نتمثّلهُ قط بهذه العقليّة والطباع التي ألصقت به، يحدّثُ عُرباً باللغة العربيّة)، ويختم هذا المستشرق المسلم كلامه بالقول: (إنّ صورة نبيّنا الجليلة التي خلّفها المنقولٍ الإسلامي، تبدو أجمل وأسمى إذا قيست بهذه الصورة المصطنعة الضئيلة، التي صيغت في ظلال المكاتب بجهدٍ جهيد)(٢) ، وأخيرا فإنّ هذا النمط من أنماط النماذج المختارة في العقليّات

____________________

(١) (ريشيليو)، آرمان جان دوبليسي (١٥٨٥ - ١٦٤٢م) كاردينال وسياسي فرنسي، كبير وزراء لويس الثالث عشر والحاكم الفعلي لفرنسا (١٦٢٨ - ١٦٤٢م) قضى على نفوذ نبلاء الإقطاع ونفوذ البروتستانت السياسي. سعى إلى إذلال آل هابسبورغ في حرب الأعوام الثلاثين. أجرى إصلاحات ماليّة وعسكريّة وتشريعيّة، وشجّع التجارة، ورعى الفنون، وأنشأ الأكاديميّة الفرنسيّة. عن البعلبكّي، منير - (المورد) - الجزء الثامن - ص١٥٠.

(٢) دينيه، إيتين - (محمّد رسول الله) - ترجمة عبد الحليم محمود - المقدّمة ص٢٧ - ٢٨، ٤٣ - ٤٤.

١٧٥

الاستشراقيّة والمصبّات الموضوعيّة، التي وقع الجهد الاستشراقي عليها، يكشف لنا بوضوح مدى التعصّب والمنهجيّة المغرضة، والدوافع التبشيريّة والاستعماريّة في وقائع الحركة الاستشراقيّة وأعمال المستشرقين، فكانت النتائج التي تمخضّت والمعطيات التي أُفرِزت ذات ثلاثة أبعاد أساسيّة:

الأوّل: كان بمثابة مسح ميداني للشرق الإسلامي فكريّاً وحضاريّاً.

الثاني: التشويه الموضوعي للفكر الإسلامي والحضارة القائمة عليه، بهدف منع تأثّر المجتمع الأوربّي به، إضافةً إلى تكوين ارتكاز ذهني عن تخلّف المسلمين وجهلهم المركّب ليكون مبرّراً لاستعمارهم.

الثالث: النيل من العقائد الإسلاميّة (في القرآن وفي الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)... إلخ)، وتشويه حقائقها بهدف نفي قدسيّتها من نفوس المسلمين، وبذلك يمكن فكّ الارتباط بينهم وبين معتقداتهم، ليتم الجانب السلبي من عمليّة التغيير للمجتمعات الإسلاميّة.

وبهذه الأبعاد أو قل المقدّمات الثلاث تتهيّأ الأرضية المناسبة لقيام أوربّا بالغزو التبشيري والاستعماري للشرق الإسلامي فكريّاً وسياسيّاً وعسكريّاً، فيبرز الجانب الايجابي من عمليّة التغيير للمجتمعات الإسلامية إلى الواقع.

١٧٦

الفصل الخامس

نماذج من كبار المستشرقين في منهج

تناولهم للشّرق الإسلامي

* ارندجان فنسنك Arandjan Wensink

* صموئيل زويمر Samual Zwemer

* لويس ماسنيون Louis Massignon

١٧٧

١٧٨

طيلة قرون وحتّى فترة متأخّرة من القرن العشرين، لم تتعرّف الشعوب الغربيّة على الشرق الإسلامي، من خلال مصادره الخاصّة وتراثه المباشر، وإنّما عرفوه من خلال رجال متخصّصين، وعلى رأسهم المستشرقون الذين جالوا بلدان الشرق الإسلامي، وسجّلوا مشاهداتهم الحسيّة من الواقع، ونقلوا إلى جامعاتهم ومعاهدهم الآلاف من الكتب والمصادر والوثائق، وأخضعوها للدرس والتحليل.

وعلى أساس من خلفيّاتهم الغربيّة ومنطقهم العلماني وشعورهم الاستعدائي لكلّ ما ينتمي للإسلام فكراً ومجتمعاً، واستهدافهم المتناغم مع التطلّعات الاستعماريّة لدول الغرب، صوّروا الإسلام ومجتمعه للغربيّين، بل طرحوه لأُمم العالم وشعوبه بثوبٍ جديد نسجته عقولُهم على ضوء نظريّتهم وخلفيّاتهم تلك، فخرج مشوّهاً في حقيقته، مزيّناً بأثوابِ التحديث وبريق التقدّم الزائف، حتّى أصبحت كتبهم ومؤلّفاتهم عن الشرق الإسلامي هي المصادر الأساسيّة، ومراجع التعريف والدراسة الوحيدة تقريباً للشرق الإسلامي في جميع معاهد وجامعات الغرب، بل وأغلب الجامعات التي أُنشئت على المنهج الغربي في أنحاء العالم.

وفي سبيل تسليط الضوء على هذه الحقيقة، رأينا أنْ ندرس منهج تفكير وطريقة تناول نماذج من رجال الغرب، تُعتبر من أكبر مَن تصدّى لدراسة الشرق الإسلامي وتعريفه، والعمل على أرضه وفي وسط مجتمعاته، ولا يمكننا أنْ نخرج عن دائرة المستشرقين في هذه النماذج؛ لأنّهم هُم وحدهم الذين تتوفّر فيهم خصائص الشموليّة والتخصّص في مثل هذه الدراسات، خصوصاً وأنّ كبارهم هم أصحاب

١٧٩

مدارس متميّزة ورائدة في مجال دراسة الشرق الإسلامي إيديولوجيّاً واجتماعيّاً.

إنّ انتقاءنا لنماذج من كبار رجال الاستشراق، سيكون منسجماً مع هدفنا في تشخيص وتقويم منهج دراسة الغربيّين للشرق الإسلامي وتعريفه، كما أنّ الأساس الذي اعتمدناه في هذا الانتقاء هو الدور الخطير فكريّاً وميدانيّاً لهؤلاء الرجال، والذي سيكشف لنا عن الأثر السلبي الكبير الذي تركوه على الذهنيّة الغربيّة في فهم الإسلام ومجتمعاته من جهة، وعن التخريب الفكري والاجتماعي الذي أحدثوه في المجتمعات الإسلاميّة، عن طريق صياغة إيديولوجيّات وبرامج تغيير لحرف توجّهات هذه المجتمعات عن مسارها الإسلامي، ومحق هويّتها الدينيّة من جهة أُخرى.

وبذلك استغنى الاستعمار الغربي عن الأُسلوب العسكري المباشر في السيطرة على الشرق الإسلامي، واكتفى بالاستعمار الفكري والمنهجي، المتمثّل بجملة من المبادئ والأُطروحات الحديثة التي أُلبست ثوب القوميّة أو الوطنيّة تارة، وثوب التمدّن والتحديث تارةً أُخرى، وثوب الدفاع عن حقّ الشعوب وحريّتها الفكريّة تارةً ثالثة.

وفيما يلي ثلاثة نماذج رائدة في هذا المجال نتناولها تِباعاً:

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679