موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)0%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 679

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الصفحات: 679
المشاهدات: 202039
تحميل: 10344


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 202039 / تحميل: 10344
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء 3

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

من هنا، حتى يكون هلاك بني فلان على أيديهما، أما إنَّهم لا يُبقون منهم أحداً ).

ثمَّ قال: ( خروج السفياني واليماني والخراساني في سنة واحدة، في شهر واحد، كنظام الخرز، يتبع بعضه بعضاً ) الحديث.

وأخرج النعماني أيضاً(1) ، بسنده عن الحارث، عن أمير المؤمنين (ع) في حديث يقول فيه: (... وإذا كان ذلك، خرج السفياني، فيملك قدر حمل امرأة، تسعة أشهُر، يخرج بالشام، فينقاد له أهل الشام إلاَّ طوائف من المـُقيمين على الحق، يعصمهم الله من الخروج معه، ويأتي المدينة بجيش جرَّار، حتى إذا انتهى إلى بيداء المدينة خسف الله به، وذلك قول الله عزَّ وجلَّ في كتابه:( وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ) )(2) .

وأخرج أيضاً(3) ، بسنده عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (ع) قال: ( السفياني أحمر أصفر أزرق، لم يعبد الله قطُّ، ولم يرَ مكَّة ولا المدينة قطُّ، يقول: يا ربّ، ثأري والنار! يا ربّ، ثأري والنار! ).

وأخرج الشيخ في الغيبة(4) ، عن بشر بن غالب (قال):يُقبل السفياني من بلاد الروم مُنتصراً، في عُنقه صليب، وهو صاحب القول.

وأخرج أيضاً(5) ، عن أبي عبد الله (ع) قال: ( كأنِّي بالسُّفياني – أو لصاحب السفياني – قد طرح رحله في رحبتكم بالكوفة، فنادى مُناديه: مَن جاء برأس شيعة علي، فله ألف درهم، فيثبُ الجار على جاره، ويقول: هذا منهم. فيضرب عُنقه ويأخذ ألف درهم، أما إنَّ إماراتكم يومئذ، لا تكون إلاَّ لأولاد البغايا ).

ولعلَّ أهمَّ الأخبار التي تُحدِّد حركات السفياني وحروبه خبران:

____________________

(1) ص163.

(2) سبأ 34/51.

(3) الغيبة ص164.

(4) ص278.

(5) المصدر ص273.

١٦١

أحدهما: ما أخرجه الشيخ(1) ، عن عمار بن ياسر(أنّه قال):إنَّ دولة أهل بيت نبيِّكم في آخر الزمان، ولها إمارات... - إلى أن قال: -ويظهر ثلاثة نفر بالشام، كلهم يطلب المـُلك: رجل أبقع، ورجل أصهب، ورجل من أهل بيت أبي سفيان، يخرج من كلب، ويحضر الناس بدمشق، ويخرج أهل الغرب إلى مصر، فإذا دخلوا، فتلك إمارة السفياني.

ويخرج قبل ذلك مَن يدعو لآل محمد، وتنزل التُّرك الحِيرة، وتنزل الروم فلسطين، ويسبق عبدُ الله عبدَ الله حتى يلتقي جنودهما بقرقيسيا على النهر، ويكون قتالٌ عظيمٌ، ويسير صاحب المغرب فيقتل الدجَّال ويسبي النساء، ثمَّ يرجع في قيس حتى ينزل الجزيرة السفياني، فيسبق اليماني، ويحوز السفياني ما جمعوا، ثمَّ يسير إلى الكوفة، فيقتل أعوان آل محمد (ص)، ويقتل رجلاً من مُسمِّيهم، ثمَّ يخرج المهدي على لوائه شعيب بن صالح.

وإذا رأى أهل الشام قد اجتمع أمرها على ابن أبي سفيان، فألحقوا بمكَّة، فعند ذلك تُقتَل النفس الزكيَّة، وأخوه بمكَّة ضيعة، فيُنادي مُنادٍ من السماء: أيُّها الناس، أميركم فلان، وذلك هو المهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً.كما مُلئت ظلماً وجوراً ) .

ثانيهما: ما أخرجه النعماني(2) ، بسنده إلى جابر الجُعفي، عن أبي جعفر محمد بن علي (ع) في حديث طويل يقول فيه: ( يختلفون عند ذلك على ثلاث رايات: راية الأصهب، وراية الأبقع، وراية السفياني. فيلتقي السفياني بالأبقع فيقتتلون، فيقتله السفياني ومَن تبعه، ويقتل الأصهب. ثمَّ لا يكون له همَّة إلاَّ الإقبال نحو العراق. ويمرُّ جيشه بقرقسيا، فيقتتلون بها، فيُقتل بها من الجبَّارين مئة ألف. ويبعث السفياني جيشاً إلى الكوفة، وعدَّتهم سبعون ألفاً، فيُصيبون أهل الكوفة قتلاً وصلباً وسبياً، فبينما هم كذلك، إذ أقبلت رايات من خراسان، وتطوي المنازل طيَّاً حثيثاً، ومعهم نفر من أصحاب القائم.

____________________

(1) المصدر ص278

(2) انظر الغيبة للنعماني ص149

١٦٢

ثمَّ يخرج من موالي أهل الكوفة في ضعفاء، فيقتله أمير جيش السفياني بين الحِيرة والكوفة، ويبعث السفياني بعثاً إلى المدينة، فينفر المهدي (ع) منها إلى مكَّة، فيبلغ أمير جيش السفياني أنَّ المهدي قد خرج إلى مكَّة. فيبعث جيشاً على أثره، فلا يُدركه حتى يدخل مكَّة خائفاً يترقَّب على سنَّة موسى بن عمران ).

قال: ( وينزل أمير جيش السفياني البيداء، فيُنادي مُنادٍ من السماء: يا بيداء، أبيدي القوم. فيخسف بهم، فلا يفلت منهم إلاَّ ثلاثة نفر... ) الحديث.

ثمَّ يبدأ الحديث بشرح حوادث الظهور التي ستسمعها في القسم الثاني.

وسنذكر الأخبار الدالَّة على قتال السفياني للمهدي ومقتله على يده في ناحية آتية.

الناحية الثانية: في إمكان الاعتماد على هذه الأخبار في الإثبات التاريخي؛ طبقاً لمنهج الذي سردنا عليه في هذا الكتاب.

إنّ الاتجاه العام لهذه الأخبار مُنطبق على هذا المنهج، لولا بعض نقاط الضعف:

النقطة الأُولى: أنَّ الخبر الذي رواه الشيخ عن عمار بن ياسر، لم يروَ عن أحد المعصومين (ع)، بل عن عمار نفسه، وإن كان من المـُرجَّح أنَّه استقى هذه المعلومات عنهم (ع)، إلاَّ أنَّ الكلام كلامه؛ بدليل قوله في أول الخبر: أنَّ دولة أهل بيت نبيِّكم في آخر الزمان. الدالّ على أنّ المـُتحدِّث لم يعتبر نفسه من أهل البيت، وهذا ما لا يحدث لو كان المـُتحدِّث أحد المعصومين (ع)؛ ومعه يسقط الخبر عن الإثبات التاريخي، وتكون صحَّته مُتوقِّفة على القرائن أو اشتراك نقله مع الأخبار الأُخرى، أو تحقُّق ما أخبر به في العالم الخارجي.

وهذا هو الحال في الخبر الذي أخرجه الشيخ عن بشر بن غالب، فإنّ الظاهر منه أنّه هو المـُتكلِّم؛ فلا يكون قابلاً للإثبات التاريخي.

النقطة الثانية: أنّ خبر عمار غير مُرتّب من حيث الزمان، فهو يحتوي على حوادث مُختلطة، مُتقدِّمة ومتأخِّرة، وغير مُحدَّدة على ما يبدو.

فنزول التُّرك الحِيرة، تعبير عن السيطرة العثمانية على العراق، ونزول الروم فلسطين هو الغزو الصليبي.

وصاحب المغرب هو – على الأرجح – أبو عبد الله الشيعي،

١٦٣

الذي مهَّد بقتاله الواسع في شمال أفريقيا لحُكم المهدي الإفريقي (محمد بن عبد الله)(1) ، جدِّ الفاطميين الذين حكموا بعدئذ مصر ردحاً من الزمن.

وهذه الحوادث وردت في الحديث على عكس حدوثها التاريخي تماماً، كما يتَّضح بمراجعة التاريخ الإسلامي، وإذا كانت حوادث الماضي فيه غير مرتَّبة فلعلَّ حوادث المـُستقبل فيه كذلك.

النقطة الثالثة: أنَّ هناك تهافتاً بين بعض مضامين هذه الأخبار.

فمن ذلك: مدَّة بقاء حكم السفياني، فبينما يُصرِّح أحد الأخبار أنَّه يملك قدر حمل امرأة تسعة أشهُر، نرى خبراً آخر ينفي ذلك بصراحة، وأنَّه لا يملك إلاَّ ثمانية.

ومن ذلك: موعد وجود حركة السفياني، فبينما يظهر من بعض هذه الأخبار أنَّ زوال دولة بني العباس يكون على يده، إذا فهمنا من بني فلان وذلك كما هو الظاهر، ومعنى ذلك أن حركة السفياني قد وجِدت وانتهت منذ أمَدٍ بعيد، نجد – إلى جنب ذلك – ارتباط حركة السفياني بالخسف، وأنَّ المهدي (ع) نفسه هو الذي يقتله، ومعنى ذلك أنَّ حركته لم تحدث لحدِّ الآن، وكم بين هذين الموعدين من بُعْدٍ شاسع.

غير أنَّنا في التاريخ السابق(2) ناقشنا الخبر الدالَّ على إزالته لدولة بني العباس، ومعه يكون هذا الموعد مُنتفياً، ويتعيَّن الموعد الآخر.

ومن ذلك: تعيين دين السفياني، فبينما نسمع من أحد الأخبار أنَّه مسيحي بشكل وآخر ( في عُنقه الصليب )، نجد في خبر آخر أنَّه من المسلمين المـُهتمِّين باستئصال شيعة علي (ع)، مع الالتفات إلى أنَّ المسيحي قلَّما يكون له اهتمام خاص بذلك.

ومن ذلك: أنَّ هناك تشويشاً وتضارباً في تسمية القادة الموجودين قبل الظهور؛ فإنَّ ظاهر الأخبار تعاصر هذه الحركات تقريباً، وكلها ذات أهمِّية في المجتمع، إلى درجة يكون إهمال الخبر لذكر بعض قرينة على عدمه أساساً؛ لعدم إمكان الإغراض عن ذكره – عادة – مع وجوده.

____________________

(1) انظر تاريخ الغيبة الصغرى ص354.

(2) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص624.

١٦٤

ففي بعض الأخبار لا نجد غير السفياني، وفي بعضها نجد الخراساني والسفياني دون غيرهما، وفي أخبار أُخرى نسمع بوجود عدَّة قوَّاد: أبقع، وأصهب، وسفياني، ويماني.

وقلَّ مثل ذلك في المنطقة التي يحكمها السفياني، فإنَّ المقدار الواضح من الأخبار انطلاقه من دمشق وسيطرته عليها، إلى جنب عدم وصوله إلى مكّة والمدينة المـُشرّفتين.

وأمّا بالنسبة إلى باقي البلدان، فالأمر لا يخلو من تشويش.

ولعلّ من أوضح موارد التشويش هذه ( الكوفة )؛ حيث نسمع من بعض الأخبار ارتكازه فيها وسيطرته عليها، نجد في بعضها الآخر أنَّ (الخراساني) يحتلَّها معه أيضاً.

بل إنَّ انطلاقه من دمشق أيضاً لا يخلو من ظِلال، نظراً إلى الخبر القائل: بأنَّ السفياني يُقبِل من بلاد الروم.

غير أنَّ الذي يُهوِّن الخطب، أنَّ أكثر مُنطلقات هذه النقطة قابلة للتذليل مع شيء من التفكير، كما سوف نُطبِّق بعضه فيما يلي:

الناحية الثالثة: من الحديث عن السفياني، في مُحاولة فَهْم الحوادث التي تدلُّ عليها هذه الأخبار، ومُحاولة ضبطها وترتيبها، وانطلاقاً من ظاهرها على المستوى (الصريح) دون (الرمزي)... ما لم تَعنِّ الحاجة إلى الحمل على الرمز أحياناً.

إنَّ مُنطلق السفياني سيكون هو الشام دون بلاد الروم، وأمَّا الخبر الدالُّ على إقباله من هناك، فسنذكر له فَهْمَاً خاصَّاً في حديثنا عن علاقة السفياني بالدجَّال.

إنَّ دمشق ستكون في يوم من الأيّام مسرحاً لحروب داخلية، وصِدْامٍ مُسلَّح بين فئات ثلاث، كلُّها مُنحرفة عن الحق، وكلٌّ منها يريد الحكم لنفسه، ولا تُعبِّر لنا الأخبار عن اتجاهات هؤلاء وعقائدهم بوضوح، غير أنَّها توضِّح وجود الاختلاف بينها عن طريق اختلاف ألوانها... وهي تُعبِّر عن ألوان الأُمراء باعتبارهم مركز الثقل في التوجيه الفكري والعسكري لقواعدهم الشعبية، فأحدهم أبقع، والآخر أصهب، والآخر أحمر أصفر أزرق، وهو السفياني، وهو الذي يُكتب له النصر في المعمعة، ويستطيع السيطرة على الموقف في الشام، ويتبعه أهلها، إلاَّ أنَّ عدد قليل من الناس، يعصمهم الله تعالى عن اتِّباعه، وهم جماعة من المـُخلصين المـُمحَّصين الكاملين، المـُعبَّر عنهم في بعض الأخبار بالأولياء والأبدال، كما أسلفنا.

ويحكم السفياني الكور الخَمس: دمشق، وحمص،

١٦٥

وفلسطين، والأردن، وقنسرين(1) إلى جنب ما سوف يملكه من مُدن العراق.

وحين يستتبُّ له الأمر يطمع بالسيطرة على العراق، ويُفكِّر في غزوها عسكريّاً، فيوجِّه إليها جيشاً يكون هو قائده، فيلتقي في طريقه جيش أرسله حُكَّام العراق من أجل دفعه، فيقتتل الجيشان في منطقة تُسمَّى بقرقيسيا(2) ويكون قتالهم ضارباً، يُقتل فيه من الجبّارين حوالي مئة ألف، والجبّار العنيد هو كلُّ حاكم مُنحرف... وهو كناية عن أنّ كل مَن يُقتل يومئذ من أيِّ الجيشين هو من الفاسقين المـُنحرفين، وبذلك تتخلّص المنطقة من أهمِّ القوَّاد العسكريين الذين يُحتمل أن يُجابهوا المهدي (ع) عند ظهوره.

وعلى أيِّ حال، فالنصر سوف يكون للسفياني أيضاً، فيدخل العراق، ويضطرُّ إلى منازلة (اليماني) في أرض الجزيرة(3) ، فيسيطر عليه أيضاً ويحوز من جيش اليماني ما كان قد جمعه من المنطقة خلال عمليّاته العسكرية.

ثمّ يسير إلى الكوفة، فيُمعن فيها قتلاً وصلباً وسبياً... ويقتل أعوان آل محمد (ص)، ورجلاً من مُسمِّيهم يعني المحبوسين عليهم، وقد سمعت ما في أحد الأخبار من أنَّه يُنادي مُناديه في الكوفة: مَن جاء برأس من شيعة علي، فله ألف درهم، فيثبُ الجار على جاره، وهما على مذهبين مُختلفين في الإسلام، ويقول: هذا منهم، فيضرب عنقه، ويُسلِّم رأسه إلى سُلطات السفياني، فيأخذ منها ألف درهم.

ولا تستطيع حركة ضعيفة وتمرُّد صغير يحدث في الكوفة من قِبل مؤيِّدي اتِّجاه أهلها... لا تستطيع التخلُّص من سُلطة السفياني، بل سوف يفشل وسيتمكّن السفياني من قتل قائد الحركة بين الحِيرة والكوفة، وكأنّه يكون قد انهزم بعد فشل حركته، فيُلقي السفياني عليه القبض في الطريق فيقتله.

وفي بعض الأخبار أنّه تُراق بين الحِيرة والكوفة دماء كثيرة، وهو إشارة إلى هذه الحادثة... فيها الدلالة على أنَّ لقائد الحركة مركزاً مُهمَّاً هناك، لن يستطيع السفياني

____________________

(1) الكور جمع كورة، وهي المدية والبقعة (انظر أقرب الموارد ج2 ص1112)، وقنسرين كورة بالشام بالقرب من حلب، وهي إحدى أجناد الشام، قال ابن الأثير: وكان الجُند ينزلها في ابتداء الإسلام، ولم يكن لحلب معها ذِكْر ( تاج العروس ج3 ص508 مادة: قنسر ).

(2) في مراصد الإطلاع بالمدِّ: بلد على الخابور عند مصبِّه، وهي على الفرات، جانب منها على الخابور وجانب على الفرات، انظر ج3ص1080. أقول: وهي منطقة واقعة في سوريا الآن قريبة من الحدود العراقية.

(3) وهي أرض ما بين النهرين في العراق.

١٦٦

السيطرة عليه بسهولة.

وحين يستتبُّ له الأمر في العراق أيضاً، يطمع في غزو الأراضي المـُقدَّسة في الحجاز، فيُرسل جيشاً ضخماً إلى المدينة لاحتلالها، وظاهر أغلب الأخبار أنّ السفياني نفسه ليس فيه، فيسير هذا الجيش بعُدَّته وسلاحه مُتوجِّهاً نحو المدينة المنوَّرة، ويكون الإمام المهدي ( ع) يومئذ في المدينة، فيهرب منها إلى مكَّة فيعرف السفياني ذلك - عن طريق استخباراته - فيُرسل جيشاً في أثره مُتوجِّهاً نحو مكَّة، مُحاولاً قتله والإجهاز عليه وعلى أصحابه، وظاهر سياق الأخبار أنَّ الجيش المتوجِّه إلى مكَّة هو جزء من الجيش الذي كان مُتوجِّهاً إلى المدينة المنوَّرة.

إلاَّ أنَّ مكَّة حرم آمن بنصِّ القرآن الكريم، لا يمكن أن يخاف فيه المـُستجير، كما أنَّ الإمام المهدي (ع) قائد مذخور لليوم الموعود وهداية العالم، لا يمكن أن يُقتل، ولا بدّ من حمايته... ومن هنا تقتضي الضرورة إفناء هذا الجيش، والقضاء عليه بفعل إعجازي إلهي، فيُخسف به في البيداء، ولا ينجو منه إلاَّ نفر قليل - اثنين أو ثلاثة - يُخبرون الناس عمَّا حصل لرفاقهم.

إلاَّ أنَّ ذلك لا يعني الكفكفة من غلواء السفياني، بعد أن ملك سوريا والعراق، والأردن وفلسطين، ومنطقة واسعة من شبه الجزيرة العربية، وهدَّد الإمام المهدي وحاربه... بل سيبقى حُكمه ريثما يظهر المهدي (ع) بعد الخسف بقليل ويردُّ جيشه إلى العراق، ويُناجزه القتال فيُسيطر عليه ويقتله، كما سنذكر.

هذا وقد اعتبرنا في هذا الفهم لتسلسل الحوادث، أنَّ كل ما ورد في شيء من الأخبار من دون أن يكون له نافٍ أو مُعارِض في خبر آخر، فهو ثابت، وهذا صحيح في سائر الأخبار، غير الخبرين اللذين عرفنا ورودهما من غير المعصومين (ع)، وهما من نقاط الضعف في هذا الفهم.

كما أنَّها قد تواجه نقاط ضعف أُخرى، ينبغي عرضها ونقدها:

النقطة الأُولى: أنَّه قد يخطر في الذهن: أنَّ هذه التحرُّكات العسكرية وما رافقها من المـُلابسات، صيغت على غرار تحرُّكات الجيوش القديمة، التي كانت تُحارب خلال العصر العباسي – مثلاً - حيث لا يوجد قانون دولي ولا أُمَم مُتَّحدة ولا حدود مُعترَف بها، وأمَّا بعد أن تقدَّمت الحضارة وأسَّست هذه الأُسس، فمن غير المـُحتمَل أن تحدث مثل هذه التحرُّكات.

١٦٧

ويمكن عرض عدَّة أجوبة على هذه الأجوبة على النقطة، نذكر منها جوابين:

الجواب الأول: أنَّ قيمة القانون وما يستتبعه، من الاعتراف بالأُمم المـُتَّحدة والحدود الآمنة المـُعترَف بها، إنَّما تنطلق من المصلحة الخاصَّة ليس إلاَّ؛ لأنَّ الفرد أو الدولة إذا تنازلت عن شيء من المصلحة أمكن تبادل هذا التنازل مع الآخرين، وبذلك تنحفظ مصالح خاصّة أهمُّ وأشمل.

وأمَّا في الوقت الذي يُحرز الفرد أو الحاكم إمكان سيطرته على الآخرين، وحصوله على الربح مع إحراز دفع الضرر عن نفسه، فسيكون هو وبنود القانون على طرفي نقيض.

ومن هنا؛ لم يكن وجود القانون ولا الأُمم المـُتَّحدة، ولا محكمة العدل الدولية مانعاً عن أنواع الاعتداءات، وأشكال الغزو والسيطرة على الشعوب الضعيفة من قِبَل مُختلف الأنظمة، كما نُشاهده باستمرار، وليست حركة السفياني بأفضل من أيِّ واحد من هذه الاعتداءات.

الجواب الثاني: أنَّه من المـُحتمل – على الأقلِّ – أن تكون تحرُّكات السفيناي ذات طابع ( قانوني) مشروع في حدود الفهم الحديث لهذه المشروعية، كما لو كانت نتيجة لاتفاقيَّات بين الدول أو اتِّحاد في شكل الأنظمة فيما بينها، أو إعلان شكل من الاتِّحاد بين اثنين أو أكثر منها، وغير ذلك ممَّا لا حاجة إلى الدخول في الحديث عن تطبيقاته في عالم اليوم.

وبهذا يرتفع الإشكال الذي قد يرد إلى الذهن، من حيث إنَّ ظاهر الأخبار عدم وجود أيَّة مُقاومة ضدَّ جيش السفياني حين يدخل الحجاز... فإنَّ ذلك يكون نتيجةً لاتفاقات مُعيَّنة، أو لضعف الحكم القائم هناك يومئذ تجاه الجيش المـُحتلِّ ضعفاً شديداً.

النقطة الثانية: إنَّ ظاهر بعض الأخبار التي سمعناها، كون الإمام المهدي (ع) قبل ظهوره معروفاً للسفياني، ويبدو أنَّ الهدف الرئيسي للجيش الذاهب إلى الحجاز هو قتل المهدي (ع)؛ ومن هنا يخاف (ع) ويهرب من المدينة إلى مكَّة على سنَّة موسى بن عمران (ع) حين هرب إلى مَدْيَن... ويكون الخسف بالجيش إنقاذاً له، ويفهم السفياني بهرب المهدي (ع)، فيُرسل خلفه جيشاً فيُخسف به.

وهذا – بظاهره – مُنافٍ لمسلك الغيبة الذي يتَّخذه الإمام (ع) إلى حين ظهوره، وخاصة من الأعداء الذين يُحتمل فيهم أن يقتلوه أو يُشكِّلون خطراً عليه، ولو انحصر الأمر بذلك وجب رفض دلالة الخبر للجزم بثبوت الغيبة قبل الظهور.

لكنَّنا يمكن الاستغناء عن هذه النقطة أيضاً، لو التفتنا إلى (أُطروحة خفاء العنوان)

١٦٨

التي عرضناها في التاريخ السابق، والتي تقول: إنَّ المهدي (ع) خلال غيبته يرى الناس ويرونه ولا يعرفونه. وإنَّما تكون غيبته باعتبار غفلة الناس مُطلقة عن حقيقته... ويعرفونه بعنوان مُستعار وشخصيّة (ثانوية) يتّخذها المهدي (ع) في المجتمع.

ومعه؛ فمن الممكن أنَّ السفياني يعرف تلك (الشخصية الثانوية)، أعني ما اتَّخذه المهدي من عنوان مُستعار في ذلك العصر، ويُتابع أخباره بتلك الصفة، ويُرسل جيشاً لقتله بتلك الصفة أيضاً، وإنَّما عبَّر عنه في الأخبار بالمهدي باعتبار حقيقته، وإنَّما يُخسف بالجيش المـُعادي له باعتبار ذلك أيضاً، إلاَّ أنَّ السفياني لن يشعر أنَّه قاصد لقتل المهدي (ع) نفسه، ولن يشعر الناس بذلك أيضاً؛ لأنَّه، والناس إنَّما يعرفونه بشخصيَّته الثانوية دون الحقيقية.

النقطة الثالثة: أنَّه تبقى عدَّة فجوات في تسلسل الحوادث لم تنطق بها الأخبار بوضوح... ومن الصعب استدراكها بطبيعة الحال، نذكر لها بعض الأمثلة.

منها: دور الجماعة المـُقبلة من خراسان، وفيها بعض أصحاب القائم (ع) بقيادة الخراساني، ما هو دورها في العراق هل هو عسكري أو فكري أو ليس لها دور؟ ما هو موقف السفياني منها حين يُسيطر على البلاد؟

ومنها: دور اليماني عسكرياً وفكرياً وعقائدياً، وإن كان المظنون أنَّه هو المـُشار إليه في بعض الأخبار، بأنَّ رايته راية هُدى، كما سمعنا في التاريخ السابق(1) ، والسفياني سيُجْهِز عليه وسيُخلِّي الساحة العراقية منه، إلاَّ أنَّ فجوات أُخرى سوف تبقى غير قابلة للجواب.

ومنها: عدد أفراد الجيش الذين يتَّجهون إلى مكَّة المـُكَّرمة للقبض على المهدي (ع)، فهل هو جماعة كبيرة أو صغيرة، فبينما يُعبِّر عنه في عدد من الأخبار بالجيش، وهو يوحي بالعدد، ويؤيِّده ما في بعض الأخبار من أنَّهم ثمانون ألفاً(2) .

إلاَّ أنَّ بعض الأخبار تقول: فيُبعث إليه بعثٌ(3) ، وهو يوحي بالإرسالية الصغيرة نسبيَّاً، إلاَّ أنَّ الأغلب على التعبير بالجيش على أيِّ حال.

الناحية الرابعة: أنَّنا فهمنا في التاريخ السابق(4) ، من الأخبار التي تذكر خروج

____________________

(1) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص632.

(2) المصدر ص602. غير أنَّ الخبر مروي عن ابن عباس لا عن أحد المعصومين (ع).

(3) المصدر ص 599.

(4) المصدر ص 547.

١٦٩

الرايات السود من خراسان... فهمنا الإشارة إلى حركة أبي مسلم الخراساني، التي أجهزت على حُكم بني أُميَّة، ومهَّدت لحُكم العباسيين... ومعه فقد يخطر في الذهن: أنّ الخراساني المذكور في الأخبار التي ذكرناها هنا هو أبو مسلم أيضاً.

وهذا احتمال معقول لو استطعنا أن نفهم من (بني فلان) في الخبر الذي نقلنا عن النعماني في (الغيبة)... بني أُميَّة دون بني العباس. فكأنَّه قال: لابدَّ لبني أُميَّة أن يملكوا، فإذا ملكوا خرج عليهم الخراساني فأهلكهم، فيكون واضح الانطباق على أبي مسلم دون شكٍّ.

غير أنَّ هذا الفهم لا يخلو من بعض المصاعب:

أولاً: إنّ الخبر مروي عن الإمام محمد بن علي الباقر (ع)، وهو مُعاصر لدولة بني أُميَّة... فلا يكون لقوله: ( لا بدَّ لبني أُميَّة أن يملكوا ) معنى واضح، بل يتعيَّن حمله على الدولة التي لم تحدث في زمانه، وهي دولة بني العباس، ومن المعلوم أنَّ أبا مسلم أسَّس دولة العباسيين لا أنَّه أهلكها.

ثانياً: إنَّ الخبر كالصريح في تعاصر حركة الخراساني والسفياني، ومن المعلوم عدم تحقُّق حركة السفياني لحدِّ الآن!!

إذاً؛ فحركة الخراساني لم تتحقَّق... إذاً؛ فهي ليست مُنطبقة على حركة أبي مسلم على أيِّ حال.

ومعه؛ تكون الحركة المـُشار إليها في أخبار الرايات السود غير الحركة المـُشار إليها في هذه الأخبار بقيادة الخراساني، غير أنَّنا نخسر بذلك شيئاً ذا بالٍ، وهو: إنَّ الحادثة المـُشار إليها لو كانت واحدة، لاستطعنا ضمَّ أخبار الرايات السود إلى أخبار (الخراساني)، فتُصبِح كثيرة ومُستفيضة، إن لم تكن متواترة، وهذا غير ممكن مع تعدُّد الحادثة المقصودة.

ولكنَّ هذا لا يعني سقوط كلا الطائفتين من الأخبار عن إمكان الإثبات التاريخي، كلٌ بمُقدار قابليَّته.

الناحية الخامسة: قد ثبت بهذه الأخبار وغيرها، كون الخسف الذي استفاضت به الأخبار في مصادر الفريقين....إنَّما يكون بجيش السفياني، حين يقصد قتل الإمام المهدي (ع) وهو مُستجير بمكَّة.

وبذلك نحصل على شيء ذي بالٍ – على عكس الناحية السابقة – وهو انضمام أخبار الخسف المـُستفيضة إلى أخبار السفياني، وإن لم تذكر السفياني بالصراحة، فإذا علمنا أنَّ أخبار السفياني مُستفيضة، كان ضمُّ المستفيض إلى المـُستفيض مُنتِجاً للتواتر لا محالة.

١٧٠

الناحية السادسة: بقي علينا التعرُّض إلى مقتل السفياني على يد الإمام المهدي (ع)، ولا زلنا نتكلَّم طبقاً للفهم (الصريح) دون الرمزي لمفهوم السفياني، لنتوفَّر في الناحية الآتية على عرض الفهم الرمزي له.

وقد وردت في ذلك عدَّة أخبار:

قال في إسعاف الراغبين(1) ، وهو يُعدِّد ما ورد في الروايات من حوادث ظهور المهدي (ع)... قال:

وإنَّ السفياني يبعث إليه من الشام جيشاً، فيُخسف بهم البيداء، فلا ينجو منهم إلاَّ المـُخبِر، فيسير إليه السفياني بمَن معه، فتكون النصرة للمهدي، ويُذبح السفياني.

وروي في البحار(2) حديثاً طويلاً عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر الباقر (ع)، يتحدَّث فيه عن المهدي (ع) وظهوره وما يحدث بعد ذلك، إلى أن قال: (... ثمَّ يأتي الكوفة فيُطيل فيها المَكْث ما شاء الله أن يمكث، حتى يظهر عليها، ثمَّ يسير حتى يأتي العذرا(3) هو ومَن معه، وقد أُلحِقَ به ناس كثير والسفياني يومئذ بوادي الرملة، حتى التقوا وهم يوم الأبدال، يخرج أُناس كانوا مع السفياني من شيعة آل محمد (ص)، ويخرج ناس كانوا مع آل محمد إلى السفياني، فهم من شيعته حتى يلحقوا بهم، ويخرج كل ناس إلى رايتهم، وهو يوم الأبدال. قال أمير المؤمنين (ع): يُقتل يومئذ السفياني ومَن معه حتى لا يُدرك منهم مُخبِر، والخائب يومئذ مَن خاب من غنيمة كلب(4) ... ) الحديث.

وفي خبر مُطوَّل آخر أخرجه المجلسي في البحار أيضاً(5) ، عن عبد الأعلى الحلبي قال:

قال أبو جعفر (ع): ( يكون لصاحب هذا الأمر غيبة... إلى أن يقول لأصحابه: سيروا إلى هذا الطاغية، فيدعو إلى كتاب الله وسنَّة نبيِّه

____________________

(1) انظر ص138.

(2) ص160-161ج13.

(3) في مراصد الإطلاع بالمدِّ: قرية بغوطة دمشق معروفة إليها يُنسب مرج عذراء ج2 ص924.

(4) أخوال السفياني والمـُحاربين معه، كما يظهر من الخبر الآتي وغيره.

(5) انظر ج13 ص189.

١٧١

(ص)، فيُعطيه السفياني من البيعة سلماً، فيقول له كلب – وهم أخواله –: ما هذا؟! ما صنعت؟! والله، ما نُبايعك على هذا أبداً...

فيقول: ما أصنع؟!

فيقولون:... استقبله! فيستقبله.

ثمَّ يقول له القائم صلى الله عليه: خُذْ حذرك، فإنَّني أدَّيت إليك، وأنا مُقاتلك، فيُصبح فيُقاتلهم، فيمنحه الله أكتافهم، ويأخذ السفياني أسيراً، فينطلق به يذبحه بيده... ) الخبر.

ولا نجد في هذه الأخبار تنافياً يُذكر، مع الأخبار السابقة والفهم العام الذي فهمناه عنها، فإنَّ الجوَّ العام لها واحد، فينبغي الآن قصر الكلام على الحوادث الزائدة التي تُعرب عنها هذه الأخبار، ممَّا لم يكن موجوداً في الأخبار السابقة، ويكون فهمنا الآن تتمَّة للفهم العام السابق.

إنَّ مركز حُكم السفياني سيكون هو العراق بعد انتقاله عن الشام، ولن يوجب الجيش الذي تفشل مُهمَّته في الحجاز، انتقال مركز حُكمه إلى هناك.

ومن هنا سوف يواجه المهدي عند دخوله إلى العراق حُكم السفياني بكل جبروته، غير أنَّ السفياني – على ما يبدو – سوف يكره مُناجزته القتال؛ لأنَّ ذلك سوف يُثير ضدَّه مشاكل لا تُطاق، ومن هنا يدخل المهدي (ع) العراق سلماً، ويمكث في الكوفة ما شاء الله له ذلك كزعيم شعبي، حتى ما إذا اجتمع له من الرجال والسلاح ما يكفي للسيطرة على الحُكم استطاع مواجهة السفياني بصراحة.

وطبقاً للقواعد الإسلامية، سيبدأ المهدي (ع) بعرض العقائد الإسلامية الحقَّة على السفياني، فإن قَبِلَ بذلك وصار معه فهو... وإلاَّ ناجزه القتال.

وطبقاً للاتجاه النفسي لدى السفياني لمـُجاملة المهدي (ع)، سيُعطي للمهدي ما يطلبه من الشهادة، إلاَّ أنَّ بطانته سوف تحتجُّ على ذلك وتشجب موقفه، وتُلزمه بأن يواجه المهدي (ع) مواجهة كاملة.

ولعلَّ هذا الاتجاه النفسي، هو الذي يفسح المجال لتسرُّب كل المؤمنين المـُشتغلين في جيش السفياني إلى جيش المهدي (ع)، وفي نفس الوقت يميل الفسَّاق - الفاشلين في التمحيص من سكَّان الكوفة قبل الظهور - إلى الالتحاق بجيش السفياني، وهو يوم الإبدال.. أي تبادل الأصحاب، ويتمُّ ذلك في الفترة الأُولى قبل مُناجزة القتال.

وإذ يخضع السفياني لاقتراح بطانته، ينكمش ضدَّ المهدي (ع) ويتحدَّاه، فيُنذره

١٧٢

المهدي (ع) بالقتال، فيضطرُّ السفياني إلى الصمود ضدَّه، فتحدث المعركة بين المعسكرين، ويكون الفوز للقائد المهدي، وينتهي حكم السفياني، ويؤخَذ أسيراً، ويقتله المهدي في الأسر، وبذلك تتمُّ سيطرة المهدي على العراق.

بل سوف تتمُّ سيطرة المهدي (ع) على كلِّ المنطقة التي عرفناها محكومة للسفياني، وهي العراق والشام والأردن وفلسطين؛ ومن هنا سوف تنفتح الفرصة المؤاتية للغزو العالمي، كما سيأتي في القسم الثاني من الكتاب.

الناحية السابعة: في مُحاولة إعطاء الفهم الرمزي عن السفياني، مع الإلماع إلى علاقة السفياني بالدجَّال.

ويحتاج الفهم الرمزي إلى شرطين أساسين، لا يصحُّ إلاَّ من خلالهما، فإن فُقِدَ أحد الشرطين، فضلاً عنهما معاً، كان الفهم الرمزي ممَّا لا لزوم له.

الشرط الأول: أن يكون العمل بظاهر الأخبار مُتعذِّراً، والفهم (الصريح) منها مُمتنِعاً... باعتبار قيام القرائن على عدم صحَّته أو اقتضاء القواعد العامَّة لنفيه.

وهذا ما كنَّا نواجهه في مفهوم الدجَّال، أو مفهوم يأجوج ومأجوج، من حيث إنَّ ظاهر الأخبار نسبةُ الخوارق والمعجزات إلى المـُنتسبين إلى الباطل، وهو مستحيل، وهو يُعطي لهذين المفهومين صورة مُخالفة للبشر الاعتياديِّين، ممَّا يوثق بعدم صدقه؛ فيكون ذلك سبباً للانطلاق إلى الفهم الرمزي الذي يُذلِّل هذه المصاعب، مع أخذ الشرط الثاني بنظر الاعتبار.

الشرط الثاني: أن يكون الفهم الرمزي أقرب ما يمكن إلى الظواهر، مُعطياً صورة شاملة ومُتكاملة ومُتساندة لمجموع الظواهر والمفاهيم الواردة في الأخبار... بحيث لا يندُّ عن ذلك إلاَّ الخبر الشاذُّ، غير القابل للإثبات التاريخي أساساً.

وهذا ما حاولنا تطبيقه في فهمنا الرمزي لمفهوم الدجَّال، ومفهوم يأجوج ومأجوج.

غير أنَّ مفهوم السفياني فاقد للشرط الأول؛ إذ من الواضح بعد استعراض الأخبار السابقة وغيرها ممَّا ورد في السفياني، أنَّها خالية من أيَّة معجزات وخوارق منسوبة إليه، أو إلى غيره من المـُبطلين، بل هي تخلو من أيَّة معجزة سوى الخسف بالبيداء الذي يحدث دفاعاً عن الحق لا عن الباطل، وقد عرفنا مُبرِّره الكامل فيما سبق.

كما أنَّ هذه الأخبار تعرض البشر على حالهم في عصر التمحيص والفتن، فهناك الآراء المـُتعارضة والجيوش المـُتحاربة والحُكَّام الظالمون، والقلَّة المـُدافعة عن الحق، وكل هذه

١٧٣

الأمور صفات أساسيَّة للمجتمع المعاصر، وبالتالي فهي لا تُعطي صورة مُخالفة للبشر الاعتياديِّين ليكون الوثوق بعدم صدقها موجوداً، ليكون ذلك مُنطلقاً إلى الفهم الرمزي.

إذاً؛ فالفهم الرمزي الكامل ممَّا لا لزوم له، وإنَّما الشيء الممكن هو ملاحظة الخصائص والصفات حول هذا المفهوم، وإسقاط ما يمكن إسقاطه منها.

فإذا أسقطناها جميعاً أو الأعمَّ الأغلب منها، كان (الفهم) الذي ذكرناه في التاريخ السابق(1) صحيحاً، وهو أنَّ السفياني يُمثِّل خطَّ الانحراف داخل المعسكر الإسلامي ككل، فتندرج تحته كلُّ الحركات والعقائد التي تدَّعي الانتساب إلى الإسلام، ممَّا كان (بعد زوال الدولة العباسية) أو يكون إلى يوم الظهور الموعود.

وأمَّا إذا أخذنا عدداً من الصفات بنظر الاعتبار، ممَّا تسالمت الروايات على صحَّته، فإنَّ هذا المفهوم الواسع سوف يضيق، وسوف ينحصر في تطبيق واحد من تطبيقاته، فإنَّني أود أن أقول: إنَّ مفهوم السفياني يُعبِّر عن آخر حُكم مُنحرف للمنطقة قبل ظهور المهدي (ع)، ويُمكننا أن نصف هذا الحُكم ممَّا ثبت له من الصفات، كدخول سوريا والعراق تحت حُكم واحد أو مُتشابه، وحقده على أهل الحق، وإرساله الجيش ضدَّ المهدي ( أو ضدَّ جماعة من أهل الحقِّ المـُخلصين، يكون المهدي (ع) موجوداً فيهم بعنوان آخر غير حقيقته )، وحدوث الخسف على هذا الجيش.

وأمَّا الصفات الأُخرى، كتسميته بعثمان بن عنبسة، وخروجه من الوادي اليابس، وصفات جسمه وسيطرته على الأردن وفلسطين، وتفاصيل مواقفه العسكرية، فهي ممّا ينبغي إسقاطها تحت وطأة الفهم الرمزي، وإيكال علمها إلى أهله، وإن كان الوارد من الأخبار في بعض هذه الصفات صالح للإثبات التاريخي، وإن لم يكن أكيداً.

وانطلاقاً من فَهْمنا هذا، تتَّضح علاقة السفياني بالدجَّال بالمعنى الذي فهمناه

____________________

(1) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص647.

١٧٤

أيضاً، بعد أن برهنَّا في التاريخ السابق(1) ، على أنَّ هذين المفهومين يُعبِّران عن شيئين لا عن شيء واحد، فإنَّ للفهمين (الصريحين) التقليدين للسفياني والدجَّال، اتجاه إلى عزل أحدهما عن الآخر عزلاً تامَّاً، طبقاً للظهور الأوَّلي للأخبار... فالمسيح ينزل فيقتل الدجَّال في دمشق، بدون أن يكون السفياني موجوداً في العالم، والمهدي (ع) يظهر فيُحارب السفياني بدون أن يكون الدجَّال موجوداً في العالم.

ولكنَّنا إذا علمنا أنَّ زمن ظهور المهدي (ع) ونزول المسيح واحد، حتى إنَّ المسيح يُصلِّي وراء المهدي (ع) تكرمةً لهذه الأُمَّة، كما وردت بذلك الأخبار، وسنرويها فيما يلي؛ إذاً؛ سيكون هذا الاتجاه التقليدي مُبرهَن البطلان، ولا بدَّ من أن يكون الدجَّال والسفياني مُتعاصرين، ولابدّ من وجود العلاقة بينهما بشكل من الأشكال.

وإذا كان الدجّال عبارة عن الحضارة المادّية الحديثة بخطِّها الطويل، وكان السفياني آخر الحُكّام المـُنحرفين في الشرق، فسوف لا يصعب علينا تصوُّر العلاقة يبنهما، بعد أن أصبحنا نعيش بكل حواسِّنا تطبيقات الدجَّال والسفياني بكل وضوح... ونعلم الأشكال الصريحة والمـُبطَّنة لعلاقة أحدهما بالآخر، بشكل نكون في غنىً عن عرضه.

وهذا التحديد للعلاقة، منطلق من فهمنا لذينك المفهومين، بغضِّ النظر عمَّا اكتسبه مفهوم الدجَّال من رتوش مُحتملة عند الحديث عن علاقته بيأجوج ومأجوج، إذ مع الأخذ ببعض الأُطروحات التي ذكرناها هناك، سوف نحتاج إلى بعض التغيير في تصوُّر العلاقة... وهذا ما نوكِله إلى القارئ الذكي.

النفس الزكية:

وهو إنسان قُرِنت حركته ومقتله بظهور الإمام المهدي (ع)، في أخبار المصادر الخاصَّة على الأغلب.

وقد سبق في التاريخ السابق(2) أن بحثنا ذلك، وعرضنا الأخبار التي تُصرِّح بأنَّ مقتل النفس الزكية من المحتوم، وغيرها.

ولكنَّنا لم نستطع هناك – بما كان لنا من منهج في

____________________

(1) تاريخ الغيبة الكبرى ص630وما بعدها

(2) انظر ص604وما بعدها إلى عدَّة صفحات.

١٧٥

الإثبات التاريخي – أن ندفع احتمالاً مُعيَّناً، هو أن تكون النفس الزكيَّة هو محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع)، وحيث إنَّ مقتله قد حصل في العهد العباسي الأول، فلا ينبغي انتظار حادثة أُخرى لمقتل النفس الزكية في مُستقبل الدهر.

ولكنَّنا نُحاول الآن أن نبحث المطلب بشكل جديد، انطلاقاً من المنهج الذي اتَّخذناه في هذا التاريخ، وهو التنزُّل عن التشدُّد السندي وقبول الخبر الموثوق، وإن لم تَقُم القرائن على صدقه من الخارج، وهذه هي نقطة الاختلاف بين المنهجين، كما أشرنا في أول الكتاب.

وينبغي أن نتكلَّم عن (النفس الزكية) ضمن عدَّة نواحي:

الناحية الأُولى: في سرد الأخبار الواردة في هذا الموضوع، غير ما نقلناه في التاريخ السابق، إلاَّ القليل الذي نحتاجه فنُكرِّره.

روينا في التاريخ السابق(1) ، عن المفيد في الإرشاد(2) ، عن أبي جعفر الباقر (ع) والشيخ في الغيبة(3) والصدوق في إكمال الدين(4) ، عن أبي عبد الله الصادق (ع) بلفظ مُتقارب – واللفظ للمفيد -: أنَّه قال: ( ليس بين قيام القائم (ع) وقتل النفس الزكية، أكثر من خمس عشرة ليلة ).

وقال في الإرشاد(5) : قد جاءت الآثار بذكر علامات لزمان قيام القائم المهدي (ع)... وعدَّ منها:ذبح رجل هاشمي بين الركن والمقام.

وأخرج في البحار(6) ، عن السيد علي بن عبد الحميد، بالإسناد إلى أبي بصير، عن أبي جعفر (ع)، في حديث طويل، يقول فيه: (... يقول القائم (ع) لأصحابه: يا قوم، إنَّ أهل مكَّة لا يُريدونني، ولكنِّي مُرسَل إليهم لأحتجَّ عليهم بما ينبغي لمثلي أن يحتجَّ عليهم.

____________________

(1) المصدر ص605.

(2) ص339.

(3) ص271.

(4) انظر المصدر المخطوط.

(5) ص336.

(6) ج13 ص180.

١٧٦

فيدعو رجلاً من أصحابه، فيقول له: امضِ إلى أهل مكَّة، فقل: يا أهل مكَّة، أنا رسول فلان إليكم، وهو يقول: إنَّا أهل بيت الرحمة ومَعدِن الرسالة والخلافة، ونحن ذُرِّيَّة محمد وسُلالة النبيِّين، وإنَّا قد ظُلمنا واضطُهِدنا وقُهِرنا وابتُزَّ منَّا حقُّنا، منذ قُبض نبيُّنا إلى يومنا هذا، فنحن نستنصركم فانصرونا.

فإذا تكلَّم هذا الفتى بهذا الكلام، أتوا إليه فذبحوه بين الركن والمقام، وهو النفس الزكية... ) الحديث.

وأخرج أيضاً(1) عن الكافي، بسنده عن يعقوب السراج، عن أبي عبد الله (ع) في حديث عن المهدي (ع) يقول فيه: (... ويستأذن الله في ظهوره، فيطَّلع على ذلك بعض مواليه، فيأتي الحسني فيُخبره الخبر، فيبتدر الحسني إلى الخروج، فيشبُّ عليه أهل مكَّة، فيقتلونه، ويبعثون برأسه إلى الشام، فيظهر عند ذلك صاحب الأمر... ) الخبر.

وقال الرواندي في الخرايج والجرايج(2) :وروي أنَّ النفس الزكيَّة هو غلام من آل محمد، اسمه محمد بن الحسن يُقتل بلا جُرم، فإذا قُتِل فعند ذلك يبعث الله قائم آل محمد.

أقول: وأرسل الصافي في مُنتخب الأثر(3) هذا المعنى إرسال المـُسلَّمات.

وأخرج الصافي(4) ، عن غيبة الشيخ، بسنده عن سفيان بن إبراهيم الجريري أنَّه سمع أباه يقول:النفس الزكيَّة غلام من آل محمد، اسمه محمد بن الحسن، يُقتَل بلا جُرم ولا ذنب، فإذا قتلوه لم يبقَ لهم في السماء عاذر ولا في الأرض ناصر، فعند ذلك يبعث الله قائم آل محمد... الحديث.

فهذا هو كل ما وجدناه من الأخبار بهذا الصدد، وسنُمحِّصها بعد إعطاء الفهم المـُتكامل عنها.

____________________

(1) البحار ج13ص178.

(2) ص196.

(3) انظر ص454.

(4) ص455.

١٧٧

الناحية الثانية: في مُحاولة فَهْمِ هذه الأخبار ككلِّ، على تقدير صحَّتها وكفايتها للإثبات التاريخي، ويكون فهمنا هذا تتمَّةً – بشكل أو آخر – للفهم العام الذي ذكرناه للسفياني.

إنَّ المهدي (ع) مع خاصَّة أصحابه حين يهربون من وجه جيش السفياني المبعوث ضدَّهم، من المدينة المنوَّرة إلى مكَّة المـُكَّرمة، يُصبح من الواجب على أهل مكَّة نُصرته، بحسب تكليفهم في نُصرة المؤمنين المظلومين ضدَّ الظالمين، ممَّن كان على شاكلة السفياني.

ولكن لن يكون لأهل مكَّة استعداد للنُّصرة، إمَّا لأجل اختلاف مذهبهم عن مذهب المهدي (ع) في الإسلام، وإمَّا لأجل خوفهم من سطوة السفياني وسلطته، وحسبنا أنَّنا سمعنا أنَّ السفياني دخل الحجاز من دون مُقاومة عسكرية، لمدى الرهبة والخوف الذي زرعه في النفوس، ومن هنا يُحافظ أهل مكَّة على مصالحهم الخاصة وينكمشون ضدَّ المهدي (ع)، أعني: بعنوانه المـُعلَن وإن جهلوا حقيقته.

ويعلم الإمام المهدي (ع) بعدم استعدادهم لنُصرته، فيقول لخاصته: ( يا قوم، إنَّ أهل مكَّة لا يُريدونني.ولكنِّي مُرسل إليهم لأحتجَّ عليهم، بما ينبغي لمثلي أن يحتجَّ عليهم ).

ويكون هذا الاحتجاج إتماماً للحجَّة عليهم، ومواجهة صريحة لهم بالموقف؛ حتى لا يبقى منهم غافل أو مُماطل.

ومن هنا يُفكِّر المهدي (ع) بأن يُرسل شخصاً من قِبَله إلى أهل مكَّة ليقوم بهذا الاحتجاج، فيدعو بعض أصحابه، وهو من الهاشميين ومن المـُخلصين المـُمحَّصين - على ما سنعرف في الوجه فيه... - ويُحمِّله رسالة شفويَّة مُعيَّنة، ويأمره بأن يخطب بها في المسجد الحرام بين الركن والمقام، وقد سمعنا نصَّ الخُطبة في الأخبار.

وينبغي هنا أن نُلاحِظ أنَّه حين يقول: أنا رسول فلان إليكم... لا دليل على أنَّه يورِد اسم المهدي (ع) بحقيقته ويُعرِّف المـُخاطَبين أنَّه هو المهدي الموعود، بل لعلَّه يورِد الاسم أو العنوان المـُعلن اجتماعياً له (ع) في ذلك الحين.

وما أن يسمع أهل مكَّة هذه الخُطبة، حتى يجتمعون عليه ويقتلونه بين الركن والمقام، قُرب الكعبة المـُشرّفة في بيت الله الحرام، ولعلَّهم يقطعون رأسه ويُرسلونه إلى السفياني، ليكون لهم الزُّلفى لديه.

١٧٨

هكذا تقول إحدى الروايات السابقة، ولكنَّنا عرفنا أنَّ مركز السفياني يومئذ لن يكون هو الشام، بل هو العراق، وإن كان كلاَّ ًالقطرين تحت سيطرته وهذا له عدَّة توجيهات، أوضحها احتمال أن يكون السفياني في ذلك الوقت قد ترك مركزه وسافر إلى الشام لإنجاز بعض المصالح المـُعيَّنة، ريثما يعود مرَّة أُخرى.

وعلى أيِّ حال، فإنَّهم حين يفعلون ذلك، يكونون قد عصوا العديد من أهمِّ أحكام الإسلام وضروريَّات الدين.

منها: المـُحافظة على حُرمة البيت الحرام، الذي اعتبره القرآن الكريم حرماً آمناً.

ومنها: قتل النفس المؤمنة بدون جرم وبغير نفس.

ومنها: رفض نُصرة المـُستنصرين بالحق.

فيشتدُّ غضب الله تعالى على أهل الأرض، فيأمر الإمام المهدي (ع) بالظهور لأخذ الحق ودحر الظالمين.

ويكون رسول المهدي (ع) هذا هو النفس الزكية، الموعود قتلها بين الركن والمقام، وسوف لن يكون بين مقتلها وبين الظهور أكثر من خمس عشرة ليلة.

وهذا هو التصوُّر العام الذي تعكسه هذه الأخبار ولتاريخ تلك الفترة، وهو تصوُّر سليم إلى حدٍّ كبير، لا يكاد يرد عليه إلاَّ المـُناقشات القليلة الآتية التي لا تُغيِّر من جوهره شيئاً، ومعه لا حاجة إلى الحمل على الرمز، لمَّا قلناه: من أنَّه يتعيَّن ذلك عند قيام الدليل على بطلان المعنى (الصريح).

إلاَّ أنَّ ارتفاع هذا الفهم إلى مستوى الإثبات التاريخي، منوط بصحَّة تلك الأخبار وصلاحيَّتها للإثبات، وهذا ما سنبحثه غير بعيد.

الناحية الثالثة: في نقد بعض الاعتراضات التي تورَد على هذا الفهم العام:

الاعتراض الأول: أنَّه كيف تيسَّر لرجل واحد أن يُخاطب أهل بلدة بكاملها، بشكل طبيعي غير إعجازي؟

إلاَّ أنَّ هذا السؤال يحتوي على سذاجة واضحة؛ لوضوح كفاية قيام الفرد خطيباً في المسجد الحرام المـُحتشد بأهل مكَّة، مُستعملاً الأجهزة الحديثة لبثِّ الصوت وتكبيره؛ لكي يستطيع الفرد أن يُخاطب لأهل مكَّة جميعاً، ويُبلِّغ الحاضر منهم الغائب في أقلِّ من ساعة من نهار.

وقد يخطر في الذهن: أنَّه من أين للنفس الزكية حصول مثل هذا الجمع، واستعمال المـُكبِّرات.

وجوابه: أنَّنا لم نُلاحِظ إلى الآن في (النفس الزكية) إلاَّ جهته الخفيَّة، وهو أنَّه من

١٧٩

خاصة الإمام المهدي (ع) في أواخر عصر الغيبة، ولم يتيسَّر لنا مُلاحظة الجهة الاجتماعية المـُعلِنة له عادة.

إنَّ اختيار المهدي (ع) له لينوب عنه بالتبليغ ليس جزافياً، إلاَّ بعد إحراز النجاح في ذلك، أعني التبليغ، وله القابلية الفكرية والاجتماعية، المـُعلنة له دخيلة لا محالة في ترجيح اختياره.

فقد يكون هذا الرجل خطيباً معروفاً أو وجيهاً، أو له درجة من المسؤولية والسُّلطة في المجتمع، ومن الممكن له أن يجمع الناس ويخطب بهم بواسطة أجهزة التكبير.

وخاصَّة إذا عرفنا أنَّه سيقول قولته والناس لا زالت مجتمعة بعد الحج، فقد وردت روايات سنسمعها تُعرِب عن أنَّ الظهور سيتمُّ في اليوم العاشر من مُحرَّم الحرام، فإذا استثنينا من ذلك خمس عشرة ليلة، كان موعد خطاب النفس الزكية هو اليوم الخامس والعشرين من شهر ذي الحجَّة الحرام، أي بعد انتهاء أعمال الحج بحوالي عشرة أيَّام.

الاعتراض الثاني: أنَّه كيف أمكن للنفس الزكية أن يطَّلع على حقيقة الإمام المهدي (ع) خلال عصر غيبته، ويحمل منه الرسالة إلى أهل مكَّة، مع أن ذلك مُتعذِّر بالنسبة إلى كل أحد، إلى حين حصول الظهور؟

والجواب الأوَّلي الواضح لذلك: هو أنَّ الإرسال كان من قِبَل الإمام المهدي (ع) نفسه، وهو العالم بالمصالح، ويستطيع أن يكشف حقيقته للفرد، أيَّاً كان، في حدود ما يعرفه من ملابسات وحقائق.

لكنَّنا لو عبَّرنا عن الاعتراض بتعبير آخر، من زاوية ما عرفناه في التاريخ السابق(1) ، من أنَّ مصلحة الغيبة مُقدَّمة على كل مصلحة، فكيف جاز للإمام (ع) أن يكشف حقيقته أمام هذا الرجل، مهما كان صالحاً؟

يمكن الجواب على ذلك من عدَّة وجوه، نُلخِّصها فيما يلي:

الجواب الأول: أنَّ ما عرفناه من تقديم مصلحة الغيبة على كل مصلحة، وإن كان صحيحاً، إلاَّ أنَّ السرَّ الأساسي فيه هو أنَّ كشف الغيبة وارتفاعها مُنافٍ مع حفظ المهدي (ع) لليوم الموعود، ومن ثَمَّ تكون مصلحة الغيبة هي مصلحة اليوم الموعود.

____________________

(1) تاريخ الغيبة ص49.

١٨٠