موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)5%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 679

الجزء ١ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 212465 / تحميل: 11106
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

من هنا، حتى يكون هلاك بني فلان على أيديهما، أما إنَّهم لا يُبقون منهم أحداً ).

ثمَّ قال: ( خروج السفياني واليماني والخراساني في سنة واحدة، في شهر واحد، كنظام الخرز، يتبع بعضه بعضاً ) الحديث.

وأخرج النعماني أيضاً(١) ، بسنده عن الحارث، عن أمير المؤمنين (ع) في حديث يقول فيه: (... وإذا كان ذلك، خرج السفياني، فيملك قدر حمل امرأة، تسعة أشهُر، يخرج بالشام، فينقاد له أهل الشام إلاَّ طوائف من المـُقيمين على الحق، يعصمهم الله من الخروج معه، ويأتي المدينة بجيش جرَّار، حتى إذا انتهى إلى بيداء المدينة خسف الله به، وذلك قول الله عزَّ وجلَّ في كتابه:( وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ) )(٢) .

وأخرج أيضاً(٣) ، بسنده عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (ع) قال: ( السفياني أحمر أصفر أزرق، لم يعبد الله قطُّ، ولم يرَ مكَّة ولا المدينة قطُّ، يقول: يا ربّ، ثأري والنار! يا ربّ، ثأري والنار! ).

وأخرج الشيخ في الغيبة(٤) ، عن بشر بن غالب (قال):يُقبل السفياني من بلاد الروم مُنتصراً، في عُنقه صليب، وهو صاحب القول.

وأخرج أيضاً(٥) ، عن أبي عبد الله (ع) قال: ( كأنِّي بالسُّفياني – أو لصاحب السفياني – قد طرح رحله في رحبتكم بالكوفة، فنادى مُناديه: مَن جاء برأس شيعة علي، فله ألف درهم، فيثبُ الجار على جاره، ويقول: هذا منهم. فيضرب عُنقه ويأخذ ألف درهم، أما إنَّ إماراتكم يومئذ، لا تكون إلاَّ لأولاد البغايا ).

ولعلَّ أهمَّ الأخبار التي تُحدِّد حركات السفياني وحروبه خبران:

____________________

(١) ص١٦٣.

(٢) سبأ ٣٤/٥١.

(٣) الغيبة ص١٦٤.

(٤) ص٢٧٨.

(٥) المصدر ص٢٧٣.

١٦١

أحدهما: ما أخرجه الشيخ(١) ، عن عمار بن ياسر(أنّه قال):إنَّ دولة أهل بيت نبيِّكم في آخر الزمان، ولها إمارات... - إلى أن قال: -ويظهر ثلاثة نفر بالشام، كلهم يطلب المـُلك: رجل أبقع، ورجل أصهب، ورجل من أهل بيت أبي سفيان، يخرج من كلب، ويحضر الناس بدمشق، ويخرج أهل الغرب إلى مصر، فإذا دخلوا، فتلك إمارة السفياني.

ويخرج قبل ذلك مَن يدعو لآل محمد، وتنزل التُّرك الحِيرة، وتنزل الروم فلسطين، ويسبق عبدُ الله عبدَ الله حتى يلتقي جنودهما بقرقيسيا على النهر، ويكون قتالٌ عظيمٌ، ويسير صاحب المغرب فيقتل الدجَّال ويسبي النساء، ثمَّ يرجع في قيس حتى ينزل الجزيرة السفياني، فيسبق اليماني، ويحوز السفياني ما جمعوا، ثمَّ يسير إلى الكوفة، فيقتل أعوان آل محمد (ص)، ويقتل رجلاً من مُسمِّيهم، ثمَّ يخرج المهدي على لوائه شعيب بن صالح.

وإذا رأى أهل الشام قد اجتمع أمرها على ابن أبي سفيان، فألحقوا بمكَّة، فعند ذلك تُقتَل النفس الزكيَّة، وأخوه بمكَّة ضيعة، فيُنادي مُنادٍ من السماء: أيُّها الناس، أميركم فلان، وذلك هو المهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً.كما مُلئت ظلماً وجوراً ) .

ثانيهما: ما أخرجه النعماني(٢) ، بسنده إلى جابر الجُعفي، عن أبي جعفر محمد بن علي (ع) في حديث طويل يقول فيه: ( يختلفون عند ذلك على ثلاث رايات: راية الأصهب، وراية الأبقع، وراية السفياني. فيلتقي السفياني بالأبقع فيقتتلون، فيقتله السفياني ومَن تبعه، ويقتل الأصهب. ثمَّ لا يكون له همَّة إلاَّ الإقبال نحو العراق. ويمرُّ جيشه بقرقسيا، فيقتتلون بها، فيُقتل بها من الجبَّارين مئة ألف. ويبعث السفياني جيشاً إلى الكوفة، وعدَّتهم سبعون ألفاً، فيُصيبون أهل الكوفة قتلاً وصلباً وسبياً، فبينما هم كذلك، إذ أقبلت رايات من خراسان، وتطوي المنازل طيَّاً حثيثاً، ومعهم نفر من أصحاب القائم.

____________________

(١) المصدر ص٢٧٨

(٢) انظر الغيبة للنعماني ص١٤٩

١٦٢

ثمَّ يخرج من موالي أهل الكوفة في ضعفاء، فيقتله أمير جيش السفياني بين الحِيرة والكوفة، ويبعث السفياني بعثاً إلى المدينة، فينفر المهدي (ع) منها إلى مكَّة، فيبلغ أمير جيش السفياني أنَّ المهدي قد خرج إلى مكَّة. فيبعث جيشاً على أثره، فلا يُدركه حتى يدخل مكَّة خائفاً يترقَّب على سنَّة موسى بن عمران ).

قال: ( وينزل أمير جيش السفياني البيداء، فيُنادي مُنادٍ من السماء: يا بيداء، أبيدي القوم. فيخسف بهم، فلا يفلت منهم إلاَّ ثلاثة نفر... ) الحديث.

ثمَّ يبدأ الحديث بشرح حوادث الظهور التي ستسمعها في القسم الثاني.

وسنذكر الأخبار الدالَّة على قتال السفياني للمهدي ومقتله على يده في ناحية آتية.

الناحية الثانية: في إمكان الاعتماد على هذه الأخبار في الإثبات التاريخي؛ طبقاً لمنهج الذي سردنا عليه في هذا الكتاب.

إنّ الاتجاه العام لهذه الأخبار مُنطبق على هذا المنهج، لولا بعض نقاط الضعف:

النقطة الأُولى: أنَّ الخبر الذي رواه الشيخ عن عمار بن ياسر، لم يروَ عن أحد المعصومين (ع)، بل عن عمار نفسه، وإن كان من المـُرجَّح أنَّه استقى هذه المعلومات عنهم (ع)، إلاَّ أنَّ الكلام كلامه؛ بدليل قوله في أول الخبر: أنَّ دولة أهل بيت نبيِّكم في آخر الزمان. الدالّ على أنّ المـُتحدِّث لم يعتبر نفسه من أهل البيت، وهذا ما لا يحدث لو كان المـُتحدِّث أحد المعصومين (ع)؛ ومعه يسقط الخبر عن الإثبات التاريخي، وتكون صحَّته مُتوقِّفة على القرائن أو اشتراك نقله مع الأخبار الأُخرى، أو تحقُّق ما أخبر به في العالم الخارجي.

وهذا هو الحال في الخبر الذي أخرجه الشيخ عن بشر بن غالب، فإنّ الظاهر منه أنّه هو المـُتكلِّم؛ فلا يكون قابلاً للإثبات التاريخي.

النقطة الثانية: أنّ خبر عمار غير مُرتّب من حيث الزمان، فهو يحتوي على حوادث مُختلطة، مُتقدِّمة ومتأخِّرة، وغير مُحدَّدة على ما يبدو.

فنزول التُّرك الحِيرة، تعبير عن السيطرة العثمانية على العراق، ونزول الروم فلسطين هو الغزو الصليبي.

وصاحب المغرب هو – على الأرجح – أبو عبد الله الشيعي،

١٦٣

الذي مهَّد بقتاله الواسع في شمال أفريقيا لحُكم المهدي الإفريقي (محمد بن عبد الله)(١) ، جدِّ الفاطميين الذين حكموا بعدئذ مصر ردحاً من الزمن.

وهذه الحوادث وردت في الحديث على عكس حدوثها التاريخي تماماً، كما يتَّضح بمراجعة التاريخ الإسلامي، وإذا كانت حوادث الماضي فيه غير مرتَّبة فلعلَّ حوادث المـُستقبل فيه كذلك.

النقطة الثالثة: أنَّ هناك تهافتاً بين بعض مضامين هذه الأخبار.

فمن ذلك: مدَّة بقاء حكم السفياني، فبينما يُصرِّح أحد الأخبار أنَّه يملك قدر حمل امرأة تسعة أشهُر، نرى خبراً آخر ينفي ذلك بصراحة، وأنَّه لا يملك إلاَّ ثمانية.

ومن ذلك: موعد وجود حركة السفياني، فبينما يظهر من بعض هذه الأخبار أنَّ زوال دولة بني العباس يكون على يده، إذا فهمنا من بني فلان وذلك كما هو الظاهر، ومعنى ذلك أن حركة السفياني قد وجِدت وانتهت منذ أمَدٍ بعيد، نجد – إلى جنب ذلك – ارتباط حركة السفياني بالخسف، وأنَّ المهدي (ع) نفسه هو الذي يقتله، ومعنى ذلك أنَّ حركته لم تحدث لحدِّ الآن، وكم بين هذين الموعدين من بُعْدٍ شاسع.

غير أنَّنا في التاريخ السابق(٢) ناقشنا الخبر الدالَّ على إزالته لدولة بني العباس، ومعه يكون هذا الموعد مُنتفياً، ويتعيَّن الموعد الآخر.

ومن ذلك: تعيين دين السفياني، فبينما نسمع من أحد الأخبار أنَّه مسيحي بشكل وآخر ( في عُنقه الصليب )، نجد في خبر آخر أنَّه من المسلمين المـُهتمِّين باستئصال شيعة علي (ع)، مع الالتفات إلى أنَّ المسيحي قلَّما يكون له اهتمام خاص بذلك.

ومن ذلك: أنَّ هناك تشويشاً وتضارباً في تسمية القادة الموجودين قبل الظهور؛ فإنَّ ظاهر الأخبار تعاصر هذه الحركات تقريباً، وكلها ذات أهمِّية في المجتمع، إلى درجة يكون إهمال الخبر لذكر بعض قرينة على عدمه أساساً؛ لعدم إمكان الإغراض عن ذكره – عادة – مع وجوده.

____________________

(١) انظر تاريخ الغيبة الصغرى ص٣٥٤.

(٢) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص٦٢٤.

١٦٤

ففي بعض الأخبار لا نجد غير السفياني، وفي بعضها نجد الخراساني والسفياني دون غيرهما، وفي أخبار أُخرى نسمع بوجود عدَّة قوَّاد: أبقع، وأصهب، وسفياني، ويماني.

وقلَّ مثل ذلك في المنطقة التي يحكمها السفياني، فإنَّ المقدار الواضح من الأخبار انطلاقه من دمشق وسيطرته عليها، إلى جنب عدم وصوله إلى مكّة والمدينة المـُشرّفتين.

وأمّا بالنسبة إلى باقي البلدان، فالأمر لا يخلو من تشويش.

ولعلّ من أوضح موارد التشويش هذه ( الكوفة )؛ حيث نسمع من بعض الأخبار ارتكازه فيها وسيطرته عليها، نجد في بعضها الآخر أنَّ (الخراساني) يحتلَّها معه أيضاً.

بل إنَّ انطلاقه من دمشق أيضاً لا يخلو من ظِلال، نظراً إلى الخبر القائل: بأنَّ السفياني يُقبِل من بلاد الروم.

غير أنَّ الذي يُهوِّن الخطب، أنَّ أكثر مُنطلقات هذه النقطة قابلة للتذليل مع شيء من التفكير، كما سوف نُطبِّق بعضه فيما يلي:

الناحية الثالثة: من الحديث عن السفياني، في مُحاولة فَهْم الحوادث التي تدلُّ عليها هذه الأخبار، ومُحاولة ضبطها وترتيبها، وانطلاقاً من ظاهرها على المستوى (الصريح) دون (الرمزي)... ما لم تَعنِّ الحاجة إلى الحمل على الرمز أحياناً.

إنَّ مُنطلق السفياني سيكون هو الشام دون بلاد الروم، وأمَّا الخبر الدالُّ على إقباله من هناك، فسنذكر له فَهْمَاً خاصَّاً في حديثنا عن علاقة السفياني بالدجَّال.

إنَّ دمشق ستكون في يوم من الأيّام مسرحاً لحروب داخلية، وصِدْامٍ مُسلَّح بين فئات ثلاث، كلُّها مُنحرفة عن الحق، وكلٌّ منها يريد الحكم لنفسه، ولا تُعبِّر لنا الأخبار عن اتجاهات هؤلاء وعقائدهم بوضوح، غير أنَّها توضِّح وجود الاختلاف بينها عن طريق اختلاف ألوانها... وهي تُعبِّر عن ألوان الأُمراء باعتبارهم مركز الثقل في التوجيه الفكري والعسكري لقواعدهم الشعبية، فأحدهم أبقع، والآخر أصهب، والآخر أحمر أصفر أزرق، وهو السفياني، وهو الذي يُكتب له النصر في المعمعة، ويستطيع السيطرة على الموقف في الشام، ويتبعه أهلها، إلاَّ أنَّ عدد قليل من الناس، يعصمهم الله تعالى عن اتِّباعه، وهم جماعة من المـُخلصين المـُمحَّصين الكاملين، المـُعبَّر عنهم في بعض الأخبار بالأولياء والأبدال، كما أسلفنا.

ويحكم السفياني الكور الخَمس: دمشق، وحمص،

١٦٥

وفلسطين، والأردن، وقنسرين(١) إلى جنب ما سوف يملكه من مُدن العراق.

وحين يستتبُّ له الأمر يطمع بالسيطرة على العراق، ويُفكِّر في غزوها عسكريّاً، فيوجِّه إليها جيشاً يكون هو قائده، فيلتقي في طريقه جيش أرسله حُكَّام العراق من أجل دفعه، فيقتتل الجيشان في منطقة تُسمَّى بقرقيسيا(٢) ويكون قتالهم ضارباً، يُقتل فيه من الجبّارين حوالي مئة ألف، والجبّار العنيد هو كلُّ حاكم مُنحرف... وهو كناية عن أنّ كل مَن يُقتل يومئذ من أيِّ الجيشين هو من الفاسقين المـُنحرفين، وبذلك تتخلّص المنطقة من أهمِّ القوَّاد العسكريين الذين يُحتمل أن يُجابهوا المهدي (ع) عند ظهوره.

وعلى أيِّ حال، فالنصر سوف يكون للسفياني أيضاً، فيدخل العراق، ويضطرُّ إلى منازلة (اليماني) في أرض الجزيرة(٣) ، فيسيطر عليه أيضاً ويحوز من جيش اليماني ما كان قد جمعه من المنطقة خلال عمليّاته العسكرية.

ثمّ يسير إلى الكوفة، فيُمعن فيها قتلاً وصلباً وسبياً... ويقتل أعوان آل محمد (ص)، ورجلاً من مُسمِّيهم يعني المحبوسين عليهم، وقد سمعت ما في أحد الأخبار من أنَّه يُنادي مُناديه في الكوفة: مَن جاء برأس من شيعة علي، فله ألف درهم، فيثبُ الجار على جاره، وهما على مذهبين مُختلفين في الإسلام، ويقول: هذا منهم، فيضرب عنقه، ويُسلِّم رأسه إلى سُلطات السفياني، فيأخذ منها ألف درهم.

ولا تستطيع حركة ضعيفة وتمرُّد صغير يحدث في الكوفة من قِبل مؤيِّدي اتِّجاه أهلها... لا تستطيع التخلُّص من سُلطة السفياني، بل سوف يفشل وسيتمكّن السفياني من قتل قائد الحركة بين الحِيرة والكوفة، وكأنّه يكون قد انهزم بعد فشل حركته، فيُلقي السفياني عليه القبض في الطريق فيقتله.

وفي بعض الأخبار أنّه تُراق بين الحِيرة والكوفة دماء كثيرة، وهو إشارة إلى هذه الحادثة... فيها الدلالة على أنَّ لقائد الحركة مركزاً مُهمَّاً هناك، لن يستطيع السفياني

____________________

(١) الكور جمع كورة، وهي المدية والبقعة (انظر أقرب الموارد ج٢ ص١١١٢)، وقنسرين كورة بالشام بالقرب من حلب، وهي إحدى أجناد الشام، قال ابن الأثير: وكان الجُند ينزلها في ابتداء الإسلام، ولم يكن لحلب معها ذِكْر ( تاج العروس ج٣ ص٥٠٨ مادة: قنسر ).

(٢) في مراصد الإطلاع بالمدِّ: بلد على الخابور عند مصبِّه، وهي على الفرات، جانب منها على الخابور وجانب على الفرات، انظر ج٣ص١٠٨٠. أقول: وهي منطقة واقعة في سوريا الآن قريبة من الحدود العراقية.

(٣) وهي أرض ما بين النهرين في العراق.

١٦٦

السيطرة عليه بسهولة.

وحين يستتبُّ له الأمر في العراق أيضاً، يطمع في غزو الأراضي المـُقدَّسة في الحجاز، فيُرسل جيشاً ضخماً إلى المدينة لاحتلالها، وظاهر أغلب الأخبار أنّ السفياني نفسه ليس فيه، فيسير هذا الجيش بعُدَّته وسلاحه مُتوجِّهاً نحو المدينة المنوَّرة، ويكون الإمام المهدي ( ع) يومئذ في المدينة، فيهرب منها إلى مكَّة فيعرف السفياني ذلك - عن طريق استخباراته - فيُرسل جيشاً في أثره مُتوجِّهاً نحو مكَّة، مُحاولاً قتله والإجهاز عليه وعلى أصحابه، وظاهر سياق الأخبار أنَّ الجيش المتوجِّه إلى مكَّة هو جزء من الجيش الذي كان مُتوجِّهاً إلى المدينة المنوَّرة.

إلاَّ أنَّ مكَّة حرم آمن بنصِّ القرآن الكريم، لا يمكن أن يخاف فيه المـُستجير، كما أنَّ الإمام المهدي (ع) قائد مذخور لليوم الموعود وهداية العالم، لا يمكن أن يُقتل، ولا بدّ من حمايته... ومن هنا تقتضي الضرورة إفناء هذا الجيش، والقضاء عليه بفعل إعجازي إلهي، فيُخسف به في البيداء، ولا ينجو منه إلاَّ نفر قليل - اثنين أو ثلاثة - يُخبرون الناس عمَّا حصل لرفاقهم.

إلاَّ أنَّ ذلك لا يعني الكفكفة من غلواء السفياني، بعد أن ملك سوريا والعراق، والأردن وفلسطين، ومنطقة واسعة من شبه الجزيرة العربية، وهدَّد الإمام المهدي وحاربه... بل سيبقى حُكمه ريثما يظهر المهدي (ع) بعد الخسف بقليل ويردُّ جيشه إلى العراق، ويُناجزه القتال فيُسيطر عليه ويقتله، كما سنذكر.

هذا وقد اعتبرنا في هذا الفهم لتسلسل الحوادث، أنَّ كل ما ورد في شيء من الأخبار من دون أن يكون له نافٍ أو مُعارِض في خبر آخر، فهو ثابت، وهذا صحيح في سائر الأخبار، غير الخبرين اللذين عرفنا ورودهما من غير المعصومين (ع)، وهما من نقاط الضعف في هذا الفهم.

كما أنَّها قد تواجه نقاط ضعف أُخرى، ينبغي عرضها ونقدها:

النقطة الأُولى: أنَّه قد يخطر في الذهن: أنَّ هذه التحرُّكات العسكرية وما رافقها من المـُلابسات، صيغت على غرار تحرُّكات الجيوش القديمة، التي كانت تُحارب خلال العصر العباسي – مثلاً - حيث لا يوجد قانون دولي ولا أُمَم مُتَّحدة ولا حدود مُعترَف بها، وأمَّا بعد أن تقدَّمت الحضارة وأسَّست هذه الأُسس، فمن غير المـُحتمَل أن تحدث مثل هذه التحرُّكات.

١٦٧

ويمكن عرض عدَّة أجوبة على هذه الأجوبة على النقطة، نذكر منها جوابين:

الجواب الأول: أنَّ قيمة القانون وما يستتبعه، من الاعتراف بالأُمم المـُتَّحدة والحدود الآمنة المـُعترَف بها، إنَّما تنطلق من المصلحة الخاصَّة ليس إلاَّ؛ لأنَّ الفرد أو الدولة إذا تنازلت عن شيء من المصلحة أمكن تبادل هذا التنازل مع الآخرين، وبذلك تنحفظ مصالح خاصّة أهمُّ وأشمل.

وأمَّا في الوقت الذي يُحرز الفرد أو الحاكم إمكان سيطرته على الآخرين، وحصوله على الربح مع إحراز دفع الضرر عن نفسه، فسيكون هو وبنود القانون على طرفي نقيض.

ومن هنا؛ لم يكن وجود القانون ولا الأُمم المـُتَّحدة، ولا محكمة العدل الدولية مانعاً عن أنواع الاعتداءات، وأشكال الغزو والسيطرة على الشعوب الضعيفة من قِبَل مُختلف الأنظمة، كما نُشاهده باستمرار، وليست حركة السفياني بأفضل من أيِّ واحد من هذه الاعتداءات.

الجواب الثاني: أنَّه من المـُحتمل – على الأقلِّ – أن تكون تحرُّكات السفيناي ذات طابع ( قانوني) مشروع في حدود الفهم الحديث لهذه المشروعية، كما لو كانت نتيجة لاتفاقيَّات بين الدول أو اتِّحاد في شكل الأنظمة فيما بينها، أو إعلان شكل من الاتِّحاد بين اثنين أو أكثر منها، وغير ذلك ممَّا لا حاجة إلى الدخول في الحديث عن تطبيقاته في عالم اليوم.

وبهذا يرتفع الإشكال الذي قد يرد إلى الذهن، من حيث إنَّ ظاهر الأخبار عدم وجود أيَّة مُقاومة ضدَّ جيش السفياني حين يدخل الحجاز... فإنَّ ذلك يكون نتيجةً لاتفاقات مُعيَّنة، أو لضعف الحكم القائم هناك يومئذ تجاه الجيش المـُحتلِّ ضعفاً شديداً.

النقطة الثانية: إنَّ ظاهر بعض الأخبار التي سمعناها، كون الإمام المهدي (ع) قبل ظهوره معروفاً للسفياني، ويبدو أنَّ الهدف الرئيسي للجيش الذاهب إلى الحجاز هو قتل المهدي (ع)؛ ومن هنا يخاف (ع) ويهرب من المدينة إلى مكَّة على سنَّة موسى بن عمران (ع) حين هرب إلى مَدْيَن... ويكون الخسف بالجيش إنقاذاً له، ويفهم السفياني بهرب المهدي (ع)، فيُرسل خلفه جيشاً فيُخسف به.

وهذا – بظاهره – مُنافٍ لمسلك الغيبة الذي يتَّخذه الإمام (ع) إلى حين ظهوره، وخاصة من الأعداء الذين يُحتمل فيهم أن يقتلوه أو يُشكِّلون خطراً عليه، ولو انحصر الأمر بذلك وجب رفض دلالة الخبر للجزم بثبوت الغيبة قبل الظهور.

لكنَّنا يمكن الاستغناء عن هذه النقطة أيضاً، لو التفتنا إلى (أُطروحة خفاء العنوان)

١٦٨

التي عرضناها في التاريخ السابق، والتي تقول: إنَّ المهدي (ع) خلال غيبته يرى الناس ويرونه ولا يعرفونه. وإنَّما تكون غيبته باعتبار غفلة الناس مُطلقة عن حقيقته... ويعرفونه بعنوان مُستعار وشخصيّة (ثانوية) يتّخذها المهدي (ع) في المجتمع.

ومعه؛ فمن الممكن أنَّ السفياني يعرف تلك (الشخصية الثانوية)، أعني ما اتَّخذه المهدي من عنوان مُستعار في ذلك العصر، ويُتابع أخباره بتلك الصفة، ويُرسل جيشاً لقتله بتلك الصفة أيضاً، وإنَّما عبَّر عنه في الأخبار بالمهدي باعتبار حقيقته، وإنَّما يُخسف بالجيش المـُعادي له باعتبار ذلك أيضاً، إلاَّ أنَّ السفياني لن يشعر أنَّه قاصد لقتل المهدي (ع) نفسه، ولن يشعر الناس بذلك أيضاً؛ لأنَّه، والناس إنَّما يعرفونه بشخصيَّته الثانوية دون الحقيقية.

النقطة الثالثة: أنَّه تبقى عدَّة فجوات في تسلسل الحوادث لم تنطق بها الأخبار بوضوح... ومن الصعب استدراكها بطبيعة الحال، نذكر لها بعض الأمثلة.

منها: دور الجماعة المـُقبلة من خراسان، وفيها بعض أصحاب القائم (ع) بقيادة الخراساني، ما هو دورها في العراق هل هو عسكري أو فكري أو ليس لها دور؟ ما هو موقف السفياني منها حين يُسيطر على البلاد؟

ومنها: دور اليماني عسكرياً وفكرياً وعقائدياً، وإن كان المظنون أنَّه هو المـُشار إليه في بعض الأخبار، بأنَّ رايته راية هُدى، كما سمعنا في التاريخ السابق(١) ، والسفياني سيُجْهِز عليه وسيُخلِّي الساحة العراقية منه، إلاَّ أنَّ فجوات أُخرى سوف تبقى غير قابلة للجواب.

ومنها: عدد أفراد الجيش الذين يتَّجهون إلى مكَّة المـُكَّرمة للقبض على المهدي (ع)، فهل هو جماعة كبيرة أو صغيرة، فبينما يُعبِّر عنه في عدد من الأخبار بالجيش، وهو يوحي بالعدد، ويؤيِّده ما في بعض الأخبار من أنَّهم ثمانون ألفاً(٢) .

إلاَّ أنَّ بعض الأخبار تقول: فيُبعث إليه بعثٌ(٣) ، وهو يوحي بالإرسالية الصغيرة نسبيَّاً، إلاَّ أنَّ الأغلب على التعبير بالجيش على أيِّ حال.

الناحية الرابعة: أنَّنا فهمنا في التاريخ السابق(٤) ، من الأخبار التي تذكر خروج

____________________

(١) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص٦٣٢.

(٢) المصدر ص٦٠٢. غير أنَّ الخبر مروي عن ابن عباس لا عن أحد المعصومين (ع).

(٣) المصدر ص ٥٩٩.

(٤) المصدر ص ٥٤٧.

١٦٩

الرايات السود من خراسان... فهمنا الإشارة إلى حركة أبي مسلم الخراساني، التي أجهزت على حُكم بني أُميَّة، ومهَّدت لحُكم العباسيين... ومعه فقد يخطر في الذهن: أنّ الخراساني المذكور في الأخبار التي ذكرناها هنا هو أبو مسلم أيضاً.

وهذا احتمال معقول لو استطعنا أن نفهم من (بني فلان) في الخبر الذي نقلنا عن النعماني في (الغيبة)... بني أُميَّة دون بني العباس. فكأنَّه قال: لابدَّ لبني أُميَّة أن يملكوا، فإذا ملكوا خرج عليهم الخراساني فأهلكهم، فيكون واضح الانطباق على أبي مسلم دون شكٍّ.

غير أنَّ هذا الفهم لا يخلو من بعض المصاعب:

أولاً: إنّ الخبر مروي عن الإمام محمد بن علي الباقر (ع)، وهو مُعاصر لدولة بني أُميَّة... فلا يكون لقوله: ( لا بدَّ لبني أُميَّة أن يملكوا ) معنى واضح، بل يتعيَّن حمله على الدولة التي لم تحدث في زمانه، وهي دولة بني العباس، ومن المعلوم أنَّ أبا مسلم أسَّس دولة العباسيين لا أنَّه أهلكها.

ثانياً: إنَّ الخبر كالصريح في تعاصر حركة الخراساني والسفياني، ومن المعلوم عدم تحقُّق حركة السفياني لحدِّ الآن!!

إذاً؛ فحركة الخراساني لم تتحقَّق... إذاً؛ فهي ليست مُنطبقة على حركة أبي مسلم على أيِّ حال.

ومعه؛ تكون الحركة المـُشار إليها في أخبار الرايات السود غير الحركة المـُشار إليها في هذه الأخبار بقيادة الخراساني، غير أنَّنا نخسر بذلك شيئاً ذا بالٍ، وهو: إنَّ الحادثة المـُشار إليها لو كانت واحدة، لاستطعنا ضمَّ أخبار الرايات السود إلى أخبار (الخراساني)، فتُصبِح كثيرة ومُستفيضة، إن لم تكن متواترة، وهذا غير ممكن مع تعدُّد الحادثة المقصودة.

ولكنَّ هذا لا يعني سقوط كلا الطائفتين من الأخبار عن إمكان الإثبات التاريخي، كلٌ بمُقدار قابليَّته.

الناحية الخامسة: قد ثبت بهذه الأخبار وغيرها، كون الخسف الذي استفاضت به الأخبار في مصادر الفريقين....إنَّما يكون بجيش السفياني، حين يقصد قتل الإمام المهدي (ع) وهو مُستجير بمكَّة.

وبذلك نحصل على شيء ذي بالٍ – على عكس الناحية السابقة – وهو انضمام أخبار الخسف المـُستفيضة إلى أخبار السفياني، وإن لم تذكر السفياني بالصراحة، فإذا علمنا أنَّ أخبار السفياني مُستفيضة، كان ضمُّ المستفيض إلى المـُستفيض مُنتِجاً للتواتر لا محالة.

١٧٠

الناحية السادسة: بقي علينا التعرُّض إلى مقتل السفياني على يد الإمام المهدي (ع)، ولا زلنا نتكلَّم طبقاً للفهم (الصريح) دون الرمزي لمفهوم السفياني، لنتوفَّر في الناحية الآتية على عرض الفهم الرمزي له.

وقد وردت في ذلك عدَّة أخبار:

قال في إسعاف الراغبين(١) ، وهو يُعدِّد ما ورد في الروايات من حوادث ظهور المهدي (ع)... قال:

وإنَّ السفياني يبعث إليه من الشام جيشاً، فيُخسف بهم البيداء، فلا ينجو منهم إلاَّ المـُخبِر، فيسير إليه السفياني بمَن معه، فتكون النصرة للمهدي، ويُذبح السفياني.

وروي في البحار(٢) حديثاً طويلاً عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر الباقر (ع)، يتحدَّث فيه عن المهدي (ع) وظهوره وما يحدث بعد ذلك، إلى أن قال: (... ثمَّ يأتي الكوفة فيُطيل فيها المَكْث ما شاء الله أن يمكث، حتى يظهر عليها، ثمَّ يسير حتى يأتي العذرا(٣) هو ومَن معه، وقد أُلحِقَ به ناس كثير والسفياني يومئذ بوادي الرملة، حتى التقوا وهم يوم الأبدال، يخرج أُناس كانوا مع السفياني من شيعة آل محمد (ص)، ويخرج ناس كانوا مع آل محمد إلى السفياني، فهم من شيعته حتى يلحقوا بهم، ويخرج كل ناس إلى رايتهم، وهو يوم الأبدال. قال أمير المؤمنين (ع): يُقتل يومئذ السفياني ومَن معه حتى لا يُدرك منهم مُخبِر، والخائب يومئذ مَن خاب من غنيمة كلب(٤) ... ) الحديث.

وفي خبر مُطوَّل آخر أخرجه المجلسي في البحار أيضاً(٥) ، عن عبد الأعلى الحلبي قال:

قال أبو جعفر (ع): ( يكون لصاحب هذا الأمر غيبة... إلى أن يقول لأصحابه: سيروا إلى هذا الطاغية، فيدعو إلى كتاب الله وسنَّة نبيِّه

____________________

(١) انظر ص١٣٨.

(٢) ص١٦٠-١٦١ج١٣.

(٣) في مراصد الإطلاع بالمدِّ: قرية بغوطة دمشق معروفة إليها يُنسب مرج عذراء ج٢ ص٩٢٤.

(٤) أخوال السفياني والمـُحاربين معه، كما يظهر من الخبر الآتي وغيره.

(٥) انظر ج١٣ ص١٨٩.

١٧١

(ص)، فيُعطيه السفياني من البيعة سلماً، فيقول له كلب – وهم أخواله –: ما هذا؟! ما صنعت؟! والله، ما نُبايعك على هذا أبداً...

فيقول: ما أصنع؟!

فيقولون:... استقبله! فيستقبله.

ثمَّ يقول له القائم صلى الله عليه: خُذْ حذرك، فإنَّني أدَّيت إليك، وأنا مُقاتلك، فيُصبح فيُقاتلهم، فيمنحه الله أكتافهم، ويأخذ السفياني أسيراً، فينطلق به يذبحه بيده... ) الخبر.

ولا نجد في هذه الأخبار تنافياً يُذكر، مع الأخبار السابقة والفهم العام الذي فهمناه عنها، فإنَّ الجوَّ العام لها واحد، فينبغي الآن قصر الكلام على الحوادث الزائدة التي تُعرب عنها هذه الأخبار، ممَّا لم يكن موجوداً في الأخبار السابقة، ويكون فهمنا الآن تتمَّة للفهم العام السابق.

إنَّ مركز حُكم السفياني سيكون هو العراق بعد انتقاله عن الشام، ولن يوجب الجيش الذي تفشل مُهمَّته في الحجاز، انتقال مركز حُكمه إلى هناك.

ومن هنا سوف يواجه المهدي عند دخوله إلى العراق حُكم السفياني بكل جبروته، غير أنَّ السفياني – على ما يبدو – سوف يكره مُناجزته القتال؛ لأنَّ ذلك سوف يُثير ضدَّه مشاكل لا تُطاق، ومن هنا يدخل المهدي (ع) العراق سلماً، ويمكث في الكوفة ما شاء الله له ذلك كزعيم شعبي، حتى ما إذا اجتمع له من الرجال والسلاح ما يكفي للسيطرة على الحُكم استطاع مواجهة السفياني بصراحة.

وطبقاً للقواعد الإسلامية، سيبدأ المهدي (ع) بعرض العقائد الإسلامية الحقَّة على السفياني، فإن قَبِلَ بذلك وصار معه فهو... وإلاَّ ناجزه القتال.

وطبقاً للاتجاه النفسي لدى السفياني لمـُجاملة المهدي (ع)، سيُعطي للمهدي ما يطلبه من الشهادة، إلاَّ أنَّ بطانته سوف تحتجُّ على ذلك وتشجب موقفه، وتُلزمه بأن يواجه المهدي (ع) مواجهة كاملة.

ولعلَّ هذا الاتجاه النفسي، هو الذي يفسح المجال لتسرُّب كل المؤمنين المـُشتغلين في جيش السفياني إلى جيش المهدي (ع)، وفي نفس الوقت يميل الفسَّاق - الفاشلين في التمحيص من سكَّان الكوفة قبل الظهور - إلى الالتحاق بجيش السفياني، وهو يوم الإبدال.. أي تبادل الأصحاب، ويتمُّ ذلك في الفترة الأُولى قبل مُناجزة القتال.

وإذ يخضع السفياني لاقتراح بطانته، ينكمش ضدَّ المهدي (ع) ويتحدَّاه، فيُنذره

١٧٢

المهدي (ع) بالقتال، فيضطرُّ السفياني إلى الصمود ضدَّه، فتحدث المعركة بين المعسكرين، ويكون الفوز للقائد المهدي، وينتهي حكم السفياني، ويؤخَذ أسيراً، ويقتله المهدي في الأسر، وبذلك تتمُّ سيطرة المهدي على العراق.

بل سوف تتمُّ سيطرة المهدي (ع) على كلِّ المنطقة التي عرفناها محكومة للسفياني، وهي العراق والشام والأردن وفلسطين؛ ومن هنا سوف تنفتح الفرصة المؤاتية للغزو العالمي، كما سيأتي في القسم الثاني من الكتاب.

الناحية السابعة: في مُحاولة إعطاء الفهم الرمزي عن السفياني، مع الإلماع إلى علاقة السفياني بالدجَّال.

ويحتاج الفهم الرمزي إلى شرطين أساسين، لا يصحُّ إلاَّ من خلالهما، فإن فُقِدَ أحد الشرطين، فضلاً عنهما معاً، كان الفهم الرمزي ممَّا لا لزوم له.

الشرط الأول: أن يكون العمل بظاهر الأخبار مُتعذِّراً، والفهم (الصريح) منها مُمتنِعاً... باعتبار قيام القرائن على عدم صحَّته أو اقتضاء القواعد العامَّة لنفيه.

وهذا ما كنَّا نواجهه في مفهوم الدجَّال، أو مفهوم يأجوج ومأجوج، من حيث إنَّ ظاهر الأخبار نسبةُ الخوارق والمعجزات إلى المـُنتسبين إلى الباطل، وهو مستحيل، وهو يُعطي لهذين المفهومين صورة مُخالفة للبشر الاعتياديِّين، ممَّا يوثق بعدم صدقه؛ فيكون ذلك سبباً للانطلاق إلى الفهم الرمزي الذي يُذلِّل هذه المصاعب، مع أخذ الشرط الثاني بنظر الاعتبار.

الشرط الثاني: أن يكون الفهم الرمزي أقرب ما يمكن إلى الظواهر، مُعطياً صورة شاملة ومُتكاملة ومُتساندة لمجموع الظواهر والمفاهيم الواردة في الأخبار... بحيث لا يندُّ عن ذلك إلاَّ الخبر الشاذُّ، غير القابل للإثبات التاريخي أساساً.

وهذا ما حاولنا تطبيقه في فهمنا الرمزي لمفهوم الدجَّال، ومفهوم يأجوج ومأجوج.

غير أنَّ مفهوم السفياني فاقد للشرط الأول؛ إذ من الواضح بعد استعراض الأخبار السابقة وغيرها ممَّا ورد في السفياني، أنَّها خالية من أيَّة معجزات وخوارق منسوبة إليه، أو إلى غيره من المـُبطلين، بل هي تخلو من أيَّة معجزة سوى الخسف بالبيداء الذي يحدث دفاعاً عن الحق لا عن الباطل، وقد عرفنا مُبرِّره الكامل فيما سبق.

كما أنَّ هذه الأخبار تعرض البشر على حالهم في عصر التمحيص والفتن، فهناك الآراء المـُتعارضة والجيوش المـُتحاربة والحُكَّام الظالمون، والقلَّة المـُدافعة عن الحق، وكل هذه

١٧٣

الأمور صفات أساسيَّة للمجتمع المعاصر، وبالتالي فهي لا تُعطي صورة مُخالفة للبشر الاعتياديِّين ليكون الوثوق بعدم صدقها موجوداً، ليكون ذلك مُنطلقاً إلى الفهم الرمزي.

إذاً؛ فالفهم الرمزي الكامل ممَّا لا لزوم له، وإنَّما الشيء الممكن هو ملاحظة الخصائص والصفات حول هذا المفهوم، وإسقاط ما يمكن إسقاطه منها.

فإذا أسقطناها جميعاً أو الأعمَّ الأغلب منها، كان (الفهم) الذي ذكرناه في التاريخ السابق(١) صحيحاً، وهو أنَّ السفياني يُمثِّل خطَّ الانحراف داخل المعسكر الإسلامي ككل، فتندرج تحته كلُّ الحركات والعقائد التي تدَّعي الانتساب إلى الإسلام، ممَّا كان (بعد زوال الدولة العباسية) أو يكون إلى يوم الظهور الموعود.

وأمَّا إذا أخذنا عدداً من الصفات بنظر الاعتبار، ممَّا تسالمت الروايات على صحَّته، فإنَّ هذا المفهوم الواسع سوف يضيق، وسوف ينحصر في تطبيق واحد من تطبيقاته، فإنَّني أود أن أقول: إنَّ مفهوم السفياني يُعبِّر عن آخر حُكم مُنحرف للمنطقة قبل ظهور المهدي (ع)، ويُمكننا أن نصف هذا الحُكم ممَّا ثبت له من الصفات، كدخول سوريا والعراق تحت حُكم واحد أو مُتشابه، وحقده على أهل الحق، وإرساله الجيش ضدَّ المهدي ( أو ضدَّ جماعة من أهل الحقِّ المـُخلصين، يكون المهدي (ع) موجوداً فيهم بعنوان آخر غير حقيقته )، وحدوث الخسف على هذا الجيش.

وأمَّا الصفات الأُخرى، كتسميته بعثمان بن عنبسة، وخروجه من الوادي اليابس، وصفات جسمه وسيطرته على الأردن وفلسطين، وتفاصيل مواقفه العسكرية، فهي ممّا ينبغي إسقاطها تحت وطأة الفهم الرمزي، وإيكال علمها إلى أهله، وإن كان الوارد من الأخبار في بعض هذه الصفات صالح للإثبات التاريخي، وإن لم يكن أكيداً.

وانطلاقاً من فَهْمنا هذا، تتَّضح علاقة السفياني بالدجَّال بالمعنى الذي فهمناه

____________________

(١) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص٦٤٧.

١٧٤

أيضاً، بعد أن برهنَّا في التاريخ السابق(١) ، على أنَّ هذين المفهومين يُعبِّران عن شيئين لا عن شيء واحد، فإنَّ للفهمين (الصريحين) التقليدين للسفياني والدجَّال، اتجاه إلى عزل أحدهما عن الآخر عزلاً تامَّاً، طبقاً للظهور الأوَّلي للأخبار... فالمسيح ينزل فيقتل الدجَّال في دمشق، بدون أن يكون السفياني موجوداً في العالم، والمهدي (ع) يظهر فيُحارب السفياني بدون أن يكون الدجَّال موجوداً في العالم.

ولكنَّنا إذا علمنا أنَّ زمن ظهور المهدي (ع) ونزول المسيح واحد، حتى إنَّ المسيح يُصلِّي وراء المهدي (ع) تكرمةً لهذه الأُمَّة، كما وردت بذلك الأخبار، وسنرويها فيما يلي؛ إذاً؛ سيكون هذا الاتجاه التقليدي مُبرهَن البطلان، ولا بدَّ من أن يكون الدجَّال والسفياني مُتعاصرين، ولابدّ من وجود العلاقة بينهما بشكل من الأشكال.

وإذا كان الدجّال عبارة عن الحضارة المادّية الحديثة بخطِّها الطويل، وكان السفياني آخر الحُكّام المـُنحرفين في الشرق، فسوف لا يصعب علينا تصوُّر العلاقة يبنهما، بعد أن أصبحنا نعيش بكل حواسِّنا تطبيقات الدجَّال والسفياني بكل وضوح... ونعلم الأشكال الصريحة والمـُبطَّنة لعلاقة أحدهما بالآخر، بشكل نكون في غنىً عن عرضه.

وهذا التحديد للعلاقة، منطلق من فهمنا لذينك المفهومين، بغضِّ النظر عمَّا اكتسبه مفهوم الدجَّال من رتوش مُحتملة عند الحديث عن علاقته بيأجوج ومأجوج، إذ مع الأخذ ببعض الأُطروحات التي ذكرناها هناك، سوف نحتاج إلى بعض التغيير في تصوُّر العلاقة... وهذا ما نوكِله إلى القارئ الذكي.

النفس الزكية:

وهو إنسان قُرِنت حركته ومقتله بظهور الإمام المهدي (ع)، في أخبار المصادر الخاصَّة على الأغلب.

وقد سبق في التاريخ السابق(٢) أن بحثنا ذلك، وعرضنا الأخبار التي تُصرِّح بأنَّ مقتل النفس الزكية من المحتوم، وغيرها.

ولكنَّنا لم نستطع هناك – بما كان لنا من منهج في

____________________

(١) تاريخ الغيبة الكبرى ص٦٣٠وما بعدها

(٢) انظر ص٦٠٤وما بعدها إلى عدَّة صفحات.

١٧٥

الإثبات التاريخي – أن ندفع احتمالاً مُعيَّناً، هو أن تكون النفس الزكيَّة هو محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع)، وحيث إنَّ مقتله قد حصل في العهد العباسي الأول، فلا ينبغي انتظار حادثة أُخرى لمقتل النفس الزكية في مُستقبل الدهر.

ولكنَّنا نُحاول الآن أن نبحث المطلب بشكل جديد، انطلاقاً من المنهج الذي اتَّخذناه في هذا التاريخ، وهو التنزُّل عن التشدُّد السندي وقبول الخبر الموثوق، وإن لم تَقُم القرائن على صدقه من الخارج، وهذه هي نقطة الاختلاف بين المنهجين، كما أشرنا في أول الكتاب.

وينبغي أن نتكلَّم عن (النفس الزكية) ضمن عدَّة نواحي:

الناحية الأُولى: في سرد الأخبار الواردة في هذا الموضوع، غير ما نقلناه في التاريخ السابق، إلاَّ القليل الذي نحتاجه فنُكرِّره.

روينا في التاريخ السابق(١) ، عن المفيد في الإرشاد(٢) ، عن أبي جعفر الباقر (ع) والشيخ في الغيبة(٣) والصدوق في إكمال الدين(٤) ، عن أبي عبد الله الصادق (ع) بلفظ مُتقارب – واللفظ للمفيد -: أنَّه قال: ( ليس بين قيام القائم (ع) وقتل النفس الزكية، أكثر من خمس عشرة ليلة ).

وقال في الإرشاد(٥) : قد جاءت الآثار بذكر علامات لزمان قيام القائم المهدي (ع)... وعدَّ منها:ذبح رجل هاشمي بين الركن والمقام.

وأخرج في البحار(٦) ، عن السيد علي بن عبد الحميد، بالإسناد إلى أبي بصير، عن أبي جعفر (ع)، في حديث طويل، يقول فيه: (... يقول القائم (ع) لأصحابه: يا قوم، إنَّ أهل مكَّة لا يُريدونني، ولكنِّي مُرسَل إليهم لأحتجَّ عليهم بما ينبغي لمثلي أن يحتجَّ عليهم.

____________________

(١) المصدر ص٦٠٥.

(٢) ص٣٣٩.

(٣) ص٢٧١.

(٤) انظر المصدر المخطوط.

(٥) ص٣٣٦.

(٦) ج١٣ ص١٨٠.

١٧٦

فيدعو رجلاً من أصحابه، فيقول له: امضِ إلى أهل مكَّة، فقل: يا أهل مكَّة، أنا رسول فلان إليكم، وهو يقول: إنَّا أهل بيت الرحمة ومَعدِن الرسالة والخلافة، ونحن ذُرِّيَّة محمد وسُلالة النبيِّين، وإنَّا قد ظُلمنا واضطُهِدنا وقُهِرنا وابتُزَّ منَّا حقُّنا، منذ قُبض نبيُّنا إلى يومنا هذا، فنحن نستنصركم فانصرونا.

فإذا تكلَّم هذا الفتى بهذا الكلام، أتوا إليه فذبحوه بين الركن والمقام، وهو النفس الزكية... ) الحديث.

وأخرج أيضاً(١) عن الكافي، بسنده عن يعقوب السراج، عن أبي عبد الله (ع) في حديث عن المهدي (ع) يقول فيه: (... ويستأذن الله في ظهوره، فيطَّلع على ذلك بعض مواليه، فيأتي الحسني فيُخبره الخبر، فيبتدر الحسني إلى الخروج، فيشبُّ عليه أهل مكَّة، فيقتلونه، ويبعثون برأسه إلى الشام، فيظهر عند ذلك صاحب الأمر... ) الخبر.

وقال الرواندي في الخرايج والجرايج(٢) :وروي أنَّ النفس الزكيَّة هو غلام من آل محمد، اسمه محمد بن الحسن يُقتل بلا جُرم، فإذا قُتِل فعند ذلك يبعث الله قائم آل محمد.

أقول: وأرسل الصافي في مُنتخب الأثر(٣) هذا المعنى إرسال المـُسلَّمات.

وأخرج الصافي(٤) ، عن غيبة الشيخ، بسنده عن سفيان بن إبراهيم الجريري أنَّه سمع أباه يقول:النفس الزكيَّة غلام من آل محمد، اسمه محمد بن الحسن، يُقتَل بلا جُرم ولا ذنب، فإذا قتلوه لم يبقَ لهم في السماء عاذر ولا في الأرض ناصر، فعند ذلك يبعث الله قائم آل محمد... الحديث.

فهذا هو كل ما وجدناه من الأخبار بهذا الصدد، وسنُمحِّصها بعد إعطاء الفهم المـُتكامل عنها.

____________________

(١) البحار ج١٣ص١٧٨.

(٢) ص١٩٦.

(٣) انظر ص٤٥٤.

(٤) ص٤٥٥.

١٧٧

الناحية الثانية: في مُحاولة فَهْمِ هذه الأخبار ككلِّ، على تقدير صحَّتها وكفايتها للإثبات التاريخي، ويكون فهمنا هذا تتمَّةً – بشكل أو آخر – للفهم العام الذي ذكرناه للسفياني.

إنَّ المهدي (ع) مع خاصَّة أصحابه حين يهربون من وجه جيش السفياني المبعوث ضدَّهم، من المدينة المنوَّرة إلى مكَّة المـُكَّرمة، يُصبح من الواجب على أهل مكَّة نُصرته، بحسب تكليفهم في نُصرة المؤمنين المظلومين ضدَّ الظالمين، ممَّن كان على شاكلة السفياني.

ولكن لن يكون لأهل مكَّة استعداد للنُّصرة، إمَّا لأجل اختلاف مذهبهم عن مذهب المهدي (ع) في الإسلام، وإمَّا لأجل خوفهم من سطوة السفياني وسلطته، وحسبنا أنَّنا سمعنا أنَّ السفياني دخل الحجاز من دون مُقاومة عسكرية، لمدى الرهبة والخوف الذي زرعه في النفوس، ومن هنا يُحافظ أهل مكَّة على مصالحهم الخاصة وينكمشون ضدَّ المهدي (ع)، أعني: بعنوانه المـُعلَن وإن جهلوا حقيقته.

ويعلم الإمام المهدي (ع) بعدم استعدادهم لنُصرته، فيقول لخاصته: ( يا قوم، إنَّ أهل مكَّة لا يُريدونني.ولكنِّي مُرسل إليهم لأحتجَّ عليهم، بما ينبغي لمثلي أن يحتجَّ عليهم ).

ويكون هذا الاحتجاج إتماماً للحجَّة عليهم، ومواجهة صريحة لهم بالموقف؛ حتى لا يبقى منهم غافل أو مُماطل.

ومن هنا يُفكِّر المهدي (ع) بأن يُرسل شخصاً من قِبَله إلى أهل مكَّة ليقوم بهذا الاحتجاج، فيدعو بعض أصحابه، وهو من الهاشميين ومن المـُخلصين المـُمحَّصين - على ما سنعرف في الوجه فيه... - ويُحمِّله رسالة شفويَّة مُعيَّنة، ويأمره بأن يخطب بها في المسجد الحرام بين الركن والمقام، وقد سمعنا نصَّ الخُطبة في الأخبار.

وينبغي هنا أن نُلاحِظ أنَّه حين يقول: أنا رسول فلان إليكم... لا دليل على أنَّه يورِد اسم المهدي (ع) بحقيقته ويُعرِّف المـُخاطَبين أنَّه هو المهدي الموعود، بل لعلَّه يورِد الاسم أو العنوان المـُعلن اجتماعياً له (ع) في ذلك الحين.

وما أن يسمع أهل مكَّة هذه الخُطبة، حتى يجتمعون عليه ويقتلونه بين الركن والمقام، قُرب الكعبة المـُشرّفة في بيت الله الحرام، ولعلَّهم يقطعون رأسه ويُرسلونه إلى السفياني، ليكون لهم الزُّلفى لديه.

١٧٨

هكذا تقول إحدى الروايات السابقة، ولكنَّنا عرفنا أنَّ مركز السفياني يومئذ لن يكون هو الشام، بل هو العراق، وإن كان كلاَّ ًالقطرين تحت سيطرته وهذا له عدَّة توجيهات، أوضحها احتمال أن يكون السفياني في ذلك الوقت قد ترك مركزه وسافر إلى الشام لإنجاز بعض المصالح المـُعيَّنة، ريثما يعود مرَّة أُخرى.

وعلى أيِّ حال، فإنَّهم حين يفعلون ذلك، يكونون قد عصوا العديد من أهمِّ أحكام الإسلام وضروريَّات الدين.

منها: المـُحافظة على حُرمة البيت الحرام، الذي اعتبره القرآن الكريم حرماً آمناً.

ومنها: قتل النفس المؤمنة بدون جرم وبغير نفس.

ومنها: رفض نُصرة المـُستنصرين بالحق.

فيشتدُّ غضب الله تعالى على أهل الأرض، فيأمر الإمام المهدي (ع) بالظهور لأخذ الحق ودحر الظالمين.

ويكون رسول المهدي (ع) هذا هو النفس الزكية، الموعود قتلها بين الركن والمقام، وسوف لن يكون بين مقتلها وبين الظهور أكثر من خمس عشرة ليلة.

وهذا هو التصوُّر العام الذي تعكسه هذه الأخبار ولتاريخ تلك الفترة، وهو تصوُّر سليم إلى حدٍّ كبير، لا يكاد يرد عليه إلاَّ المـُناقشات القليلة الآتية التي لا تُغيِّر من جوهره شيئاً، ومعه لا حاجة إلى الحمل على الرمز، لمَّا قلناه: من أنَّه يتعيَّن ذلك عند قيام الدليل على بطلان المعنى (الصريح).

إلاَّ أنَّ ارتفاع هذا الفهم إلى مستوى الإثبات التاريخي، منوط بصحَّة تلك الأخبار وصلاحيَّتها للإثبات، وهذا ما سنبحثه غير بعيد.

الناحية الثالثة: في نقد بعض الاعتراضات التي تورَد على هذا الفهم العام:

الاعتراض الأول: أنَّه كيف تيسَّر لرجل واحد أن يُخاطب أهل بلدة بكاملها، بشكل طبيعي غير إعجازي؟

إلاَّ أنَّ هذا السؤال يحتوي على سذاجة واضحة؛ لوضوح كفاية قيام الفرد خطيباً في المسجد الحرام المـُحتشد بأهل مكَّة، مُستعملاً الأجهزة الحديثة لبثِّ الصوت وتكبيره؛ لكي يستطيع الفرد أن يُخاطب لأهل مكَّة جميعاً، ويُبلِّغ الحاضر منهم الغائب في أقلِّ من ساعة من نهار.

وقد يخطر في الذهن: أنَّه من أين للنفس الزكية حصول مثل هذا الجمع، واستعمال المـُكبِّرات.

وجوابه: أنَّنا لم نُلاحِظ إلى الآن في (النفس الزكية) إلاَّ جهته الخفيَّة، وهو أنَّه من

١٧٩

خاصة الإمام المهدي (ع) في أواخر عصر الغيبة، ولم يتيسَّر لنا مُلاحظة الجهة الاجتماعية المـُعلِنة له عادة.

إنَّ اختيار المهدي (ع) له لينوب عنه بالتبليغ ليس جزافياً، إلاَّ بعد إحراز النجاح في ذلك، أعني التبليغ، وله القابلية الفكرية والاجتماعية، المـُعلنة له دخيلة لا محالة في ترجيح اختياره.

فقد يكون هذا الرجل خطيباً معروفاً أو وجيهاً، أو له درجة من المسؤولية والسُّلطة في المجتمع، ومن الممكن له أن يجمع الناس ويخطب بهم بواسطة أجهزة التكبير.

وخاصَّة إذا عرفنا أنَّه سيقول قولته والناس لا زالت مجتمعة بعد الحج، فقد وردت روايات سنسمعها تُعرِب عن أنَّ الظهور سيتمُّ في اليوم العاشر من مُحرَّم الحرام، فإذا استثنينا من ذلك خمس عشرة ليلة، كان موعد خطاب النفس الزكية هو اليوم الخامس والعشرين من شهر ذي الحجَّة الحرام، أي بعد انتهاء أعمال الحج بحوالي عشرة أيَّام.

الاعتراض الثاني: أنَّه كيف أمكن للنفس الزكية أن يطَّلع على حقيقة الإمام المهدي (ع) خلال عصر غيبته، ويحمل منه الرسالة إلى أهل مكَّة، مع أن ذلك مُتعذِّر بالنسبة إلى كل أحد، إلى حين حصول الظهور؟

والجواب الأوَّلي الواضح لذلك: هو أنَّ الإرسال كان من قِبَل الإمام المهدي (ع) نفسه، وهو العالم بالمصالح، ويستطيع أن يكشف حقيقته للفرد، أيَّاً كان، في حدود ما يعرفه من ملابسات وحقائق.

لكنَّنا لو عبَّرنا عن الاعتراض بتعبير آخر، من زاوية ما عرفناه في التاريخ السابق(١) ، من أنَّ مصلحة الغيبة مُقدَّمة على كل مصلحة، فكيف جاز للإمام (ع) أن يكشف حقيقته أمام هذا الرجل، مهما كان صالحاً؟

يمكن الجواب على ذلك من عدَّة وجوه، نُلخِّصها فيما يلي:

الجواب الأول: أنَّ ما عرفناه من تقديم مصلحة الغيبة على كل مصلحة، وإن كان صحيحاً، إلاَّ أنَّ السرَّ الأساسي فيه هو أنَّ كشف الغيبة وارتفاعها مُنافٍ مع حفظ المهدي (ع) لليوم الموعود، ومن ثَمَّ تكون مصلحة الغيبة هي مصلحة اليوم الموعود.

____________________

(١) تاريخ الغيبة ص٤٩.

١٨٠

ومصلحة ذلك اليوم مُقدَّمة على كل مصلحة.

وهذا البرهان لا يرد في واقعة إرسال النفس الزكية؛ لأنَّ مصلحة الظهور واليوم الموعود نفسه أصبحت مُتوقِّفة على انكشاف الغيبة بالنسبة إلى هذا الشخص، وتعرُّفه على حقيقة المهدي (ع)، بغضِّ النظر عن الأجوبة الآتية؛ فيكون مُقتضى تقديم مصلحة هو هذا الانكشاف لا الغيبة.

الجواب الثاني: أنَّنا قلنا في التاريخ السابق(1) أيضاً: إنَّ كل ناجح نجاحاً تامَّاً في التمحيص الإلهي، بحيث يكون مؤهَّلاً للمشاركة في مهامِّ عصر الظهور، يكون في إمكانه رؤية المهدي (ع) خلال عصر غيبته؛ إذ لا يحتمل أن يكون مورد خطر بالنسبة إليه، وقد دلَّت كثير من الروايات وعدد من أخبار المشاهدة، بأنَّ المجتمعين به (ع) في عصر الغيبة مُتعدِّدون، ممَّن يعرف هويَّته وصفته، وأنَّه يجمع إليه أنصارُه ممَّن بلغ في التمحيص غايته، ونجح فيه النجاح المطلوب، وإنَّ في ذلك من المصالح التي تمتُّ إلى مُمارسة هؤلاء للقيادة في اليوم الموعود، ما لا يخفى.

ويبدو من سياق الرواية التي تُعرِب عن إرسال النفس الزكية، أنَّ هذا الرجل إنَّما هو من هؤلاء الخاصة الذين يجمعهم المهدي (ع) ويُعرِّفهم بحقيقته؛ ومن هنا لا يكون في اطِّلاع النفس الزكية على حقيقة الإمام المهدي (ع) أي إشكال.

وينبغي أن نُلاحِظ هنا: أنَّ النفس الزكية حتى لو كان مُطَّلعاً على حقيقة المهدي (ع) حين إرساله، فإنَّه ليس من الضروري أن يُسمِّيه في خطبته، بل قد يذكر العنوان المـُعلَن للمهدي (ع)، ويتجنَّب ذكر الحقيقة بالرغم من معرفته لها، تبعاً لأمر إمامه وقائده (ع).

الجواب الثالث: أن ننطلق من الزاوية التي تصوَّرنا بها تعرُّف السفياني، على تحرُّكات الإمام المهدي (ع)، وهي اطِّلاعه عليه بعنوانه المـُعلَن لا بحقيقته.

فمن المـُحتمَل أن لا يكون (النفس الزكية) مُطَّلعاً على حقيقة الإمام المهدي (ع) الذي أرسله... بل يذهب لتبليغ الرسالة، وهو لا يعلم أكثر من كونها صادرة عن (فلان) الذي يُسمِّيه في خطبته، وهذا كافٍ في إقامة الحجَّة على الناس.

____________________

(1) ص150 وما بعدها.

١٨١

كما أنَّه كافٍ لتفسير مقتله؛ إذ لا دليل على أنَّهم يقتلونه باعتبار رسالته عن المهدي (ع) بالذات، بل باعتبار مضمون خُطبته، وقد يكون المهدي بعنوانه العلني مبغوضاً لديهم أيضاً، فينزعجون من تجاوب (النفس الزكية) معه، وقبوله لتحمُّل رسالته.

الاعتراض الثالث: إنَّ هذا التسلسل التاريخي الذي عرفناه في ( الفهم العام) مُنافٍ مع ما برهنَّا عليه، من أنَّ شرائط الظهور هي الحُكم الفصل في إنجازه عند تحقُّقها، وهذه الأخبار تدلُّ على أنَّ سبب الظهور هو تهديد السفياني للمهدي (ع) بالقتل، وقتل النفس الزكية فأيُّهم نأخذ؟

والجواب: إنَّ كلا الفكرتين صادقتان، وكلا السببين سبب صحيح في نفسه، وليس مقتل النفس الزكية وتهديد المهدي (ع) إلاَّ نتيجة من نتائج شرائط الظهور.

فإنَّ التخطيط العام السابق على الظهور، بما له من خصائص وصفات، عرفناها في التاريخ السابق، مُنتِجٌ لعدَّة نتائج يُهمُّنا الآن منها اثنتان:

النتيجة الأُولى: وجود العدد الكافي من الأفراد المـُخلصين المـُمحَّصين، لغزو العالم بالعدل بين يدي المهدي (ع)، وهذا هو الشرط الأخير المـُتبقِّي من شرائط اليوم الموعود الثلاثة التي عرفناها في التاريخ السابق(1) ، وبُمجرَّد نجازه يتمُّ الظهور ويُنجَز اليوم الموعود.

النتيجة الثانية: تطرُّف العدد الأكبر من أفراد المسلمين - فضلاً عن غيرهم - إلى جانب الانحراف والضلال، وأخذهم بالأفكار اللا إسلامية، وعصيانهم أحكام الإسلام.

وكلَّما ازداد الزمان، ازدادت نتائج التمحيص تركيزاً... وحصلت كلتا النتيجتين بشكل أوسع وأوضح، فيتكاثر في أحد الجانبين قوى الحق والإخلاص، ويتكاثر في الجانب الآخر انحراف المـُنحرفين وظلم الظالمين، على مُختلف المستويات الاجتماعية.

حتى يُصبح جانب الانحراف والفساد في المجتمع عاصياً لأوضح أحكام الإسلام، ومُنكِراً لضروريَّات الدين، ومُهدِّداً لحُرمات الشريعة من أجل مصالحه وشهواته... الأمر الذي يُنتج أفظع النتائج لدى احتكاك اجتماعي بين الجانبين.

ومعه تكون كلتا النتيجتين اللتين سمعناهما من الأخبار، طبيعية وواضحة، فموقف

____________________

(1) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص475 وما بعدها إلى عدَّة صفحات.

١٨٢

المهدي (ع) من السفياني سوف لن يكون إلاَّ الشجب والاستنكار، في حدود المقدار الممكن له حال غيبته... الأمر الذي يولِّد ردَّ الفعل لدى السفياني، بإرسال الجيش وتهديده بالقتل، وأمَّا موقف النفس الزكية فواضح من خُطبته، وإن هو إلاَّ صورة أُخرى من صور الشجب والاستنكار، وسيكون ردُّ الفعل هو قتله من داخل بيت الله الحرام.

وستكون ردود الفعل هذه مُتطرِّفة إلى درجة إهدارها للأحكام الضرورية في الدين، الأمر الذي يكشف عن تمخُّض التخطيط والتمحيص الإلهيَّين عن نتائجهما المطلوبة... فيكون موعد اليوم الموعود قد تحقَّق.

الاعتراض الرابع: أنَّه قد يخطر في الذهن، أنَّ المـُستفاد من سباق الأخبار، أنَّ سبب الظهور هو إثارة غضب المهدي (ع) من الحادثتين المـُشار إليهما، وهذا غير صحيح، بعد أن قامت الضرورة القطعية لدى كل مؤمن بالمهدي كونه مذخوراً لإصلاح العالم برمَّته، وأنَّه ممَّن لا تُهمُّه مصالحه الشخصية على الإطلاق، فكيف يصحُّ أن يكون ظهوره ثأراً لهاتين الحادثتين؟!

والجواب على ذلك واضح ممَّا سبق، وواضح في ضمير كل مؤمن بعد وجود الضرورة القطعية المـُشار إليها:

إنَّ هاتين الحادثتين ستُغضبان الله تعالى، لا المهدي وحده... بما يستبطنان من إهدار لضروريات الدين، ولكنَّ الظهور سوف لن يكون ثأراً لأيٍّ منهما... فإنَّ مُهمَّة المهدي (ع) الموعود أوسع وأعمق من هذا المجال الضيِّق، بالرغم من أهمِّيَّته، كلَّما في الأمر أنَّ ظهوره سيكون قريباً منهما زماناً، باعتبار تحقُّق شرائط الظهور، وليس لهاتين الحادثتين من صلة بالظهور، إلاَّ ما قلناه من الكشف عن تحقُّق الشرائط، إلى جانب جعلها علامة عليه في الأخبار... الأمر الذي يُنبِّه المـُخلصين المـُمحَّصين إلى قُرب الظهور.

وهذا - في واقعه - يُمثِّل إحدى الفروق الجوهرية بين شرائط الظهور وعلاماته، تلك الفروق التي أنهيناها في التاريخ السابق(1) إلى سبعة.

الناحية الرابعة: في مُحاولة تمحيص تلك الأخبار التي ذكرناها في الناحية الأُولى، من حيث قابليّتها للإثبات التاريخي وعدمه.

وفي هذا الصدد نواجه عدَّة نقاط:

النقطة الأُولى: أنَّها روايات قليلة وغير مُستفيضة، بخلاف ما جاء في السفياني

____________________

(1) انظر ص470 وما بعدها إلى عدَّة صفحات

١٨٣

أو الدجَّال، فإنَّه كثير، منها ما ذكرناه، ومنها ما تركناه.

إلاَّ أنَّ هذه النقطة غير مُضرَّة، تمشِّياً مع ميزان الإثبات التاريخي الذي سرنا عليه... لو كانت الروايات مُتَّفقة في المضمون، أو كان بعضها موثوقاً سنداً... ولم نكن نتوخَّى في الإثبات حصول الاستفاضة في الأخبار.

وقد يخطر في الذهن: أنَّ أخبار (النفس الزكيَّة) الموعودة، كثيرة العدد، ومُستفيضة، كما هو معلوم لمَن استعرضها... وليست قليلة كما قلناه.

والحق: أنَّنا إذا نظرنا إلى مجموع أخبار (النفس الزكيَّة)، بما فيها من الأخبار الدالَّة على أنَّ مقتل النفس الزكية من المحتوم، وأنَّه من علامات القائم، كانت الأخبار مُستفيضة حتماً.

إلاَّ أنَّ هذا المجموع، لا يُثبت إلاَّ مقتل النفس الزكية إجمالاً، وهذا لا يُفيدنا في صدد كلامنا الحاضر، لاحتمال انطباقها على محمد بن عبد الله الحسني، المـُلقَّب بالنفس الزكية، وأمَّا الأخبار التي تتحدَّث عن التفاصيل، والتي تُوضِّح أنَّ هناك شخصاً آخر بهذا اللقب سوف يُقتل في المستقبل، وهي ما سمعناه في أول الفصل، فليس مُستفيضاً، وإن لم يكن عدم الاستفاضة مُضرَّاً، كما أشرنا.

النقطة الثانية: إنَّ في هذه الأخبار عدداً من جوانب الضعف:

الجانب الأول: ما كان رواية عن غير المعصوم، كالخبر الذي نقله الشيخ، عن سفيان ابن إبراهيم الحريري عن أبيه... وكلام الصافي في مُنتخب الأخبار.

الجانب الثاني: ما كان مُرسلاً، بدون ذكر أيِّ راوٍ على الإطلاق، كخبر الإرشاد، وخبر الخرايج والجرايح.

الجانب الثالث: ما كان مرفوعاً مع وجود جزء من السند، أعني بعض الرواة وجهالة الباقي، وهو رواية البحار المـُتضمِّنة لخُطبة النفس الزكية... حيث رواها المجلسي عن السيد علي بن عبد الحميد، بإسناده إلى أحمد بن محمد الأيادي، يرفعه إلى أبي بصير عن أبي جعفر ( عليه السلام ).

الجانب الرابع: ما كان قاصراً في دلالته أساساً على ما فهمناه، مثل خبر الإرشاد الذي يذكر من العلامات: ذبح رجل هاشمي بين الركن والمقام، فإنَّه لا يتعيَّن أن يكون هو النفس الزكية، المـُسمَّى بمحمد بن الحسن في الأخبار الأُخرى، وإن كان المظنون هو ذلك، لاستبعاد أن يُقتَل قبل الظهور بين الركن والمقام شخصان... مع قدسيَّة بيت الله

١٨٤

الحرام لدى المسلمين ووضوح حُرمته.

وكذلك الخبر الثاني للبحار، فإنَّه يُصرِّح باسم النفس الزكية، وإنَّما قال:فيبتدر الحسني إلى الخروج. وهو أيضاً غير مُتعيِّن الانطباق عليه.

الجانب الخامس: وجود التعارض في دلالات بعض هذه الأخبار.

فلو حاولنا أن نعرف أنَّ النفس الزكيَّة هل هو مُرسل من قِبَل المهدي (ع) أو لا؟

نجد أنَّ الخبر المـُطوَّل الذي نقلناه عن البحار، يُصرِّح بالإيجاب، ونجد الخبر الثاني ينفيه بقوله:فيبتدر الحسني للخروج. وهو واضح في عدم استئذانه من المهدي (ع)، فضلاً عن تحمُّل الرسالة عنه، مع افتراض أنَّه هو النفس الزكية والغضِّ عما سبق.

النقطة الثالثة: وفي هذه الأخبار بعض جوانب القوَّة، وإن لم تكن تعدل جميع جوانب الضعف السابقة.

الجانب الأول: إنَّ الخبر القائل: ( ليس بين القائم وبين قتل النفس الزكيَّة إلاَّ خمس عشرة ليلة )، خبر موثوق قابل للإثبات التاريخي، بحسب منهج هذا الكتاب.

فقد رواه الشيخ المفيد في الإرشاد(1) ، عن ثعلبة بن ميمون، عن شعيب الحداد، عن صالح بن ميثم (الجمَّال)، قال: سمعت أبا جعفر ( عليه السلام ).

وكل هؤلاء الرجال موثقون أجلاَّء، وكان بودِّي أن أُشير إلى تصريحات العلماء لولا أنَّه يطول به المقام، فنوكله إلى القارئ الباحث.

ورواه الشيخ الطوسي في الغيبة(2) ، عن الفضل بن شاذان، عن الحسن بن علي بن فضَّال، عن ثعلبة إلى آخر السند. وكلاهما من العلماء الثقات.

وعليه؛ فما ذكرناه في التاريخ السابق(3) من المـُناقشة في سند هذا الحديث مبنيٌّ على التشدُّد السندي الذي التزمناه هناك... وقد رفعنا اليد عن الالتزام به هنا.

الجانب الثاني: أنَّ الخبر الثاني الذي نقله عن البحار موثوق أيضاً، فقد نقله(4) عن الكافي

____________________

(1) ص339.

(2) ص271.

(3) ص613.

(4) ص178.

١٨٥

لثقة الإسلام الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن يعقوب السراج، عن الإمام أبي عبد الله الصادق ( عليه السلام ) وكلُّهم ثقات أجلاَّء.

الجانب الثالث: أنَّنا يمكن أن نستفيد من مجموع هذه الأخبار، ومن كلمات مَن سمعنا تصريحاتهم، كالراوندي، والصافي، وإبراهيم الحريري، الذين اعتبروا الأمر في عداد المـُسلَّمات، فنستفيد وجود التسالم أو الشهرة الواسعة على أنَّ مقتل النفس الزكية يكون قبل الظهور بقليل بين الركن والمقام، وأنَّه غير مقتل الثائر الحسني المـُلقَّب بهذا اللقب.

غير أنَّ هذا الجانب لا يخلو من المناقشة:

أولاً: لأنَّه لم يثبت وجود شهُرة وتسالم أوسع من الأخبار الموجودة، لتكون قرينة عليها، وكلمات الراوندي والصافي وغيرهما قد تكون اعتماداً على هذه الأخبار فقط.

ثانياً: إنَّ الشهرة - لو ثبتت - تدفع احتمال انطباق مقتل النفس الزكية على الثائر الحسني السابق، إلاَّ أنَّها لا تُثبت كل الخصائص المطلوبة، ككونه رسول المهدي (ع) إلى الناس وخُطبته فيهم، ويكون سبب مقتله بين الركن والمقام مجهولاً.

غير أنَّ الأخذ بهذا الجانب الثالث قريب من النفس، وإن لم يصل إلى درجات الإثبات التاريخي.

فهذه هي النُّخبة من الحوادث الاجتماعية المرويَّة، لما قبل الظهور، وهناك أُمور مُتفرِّقة مرويَّة أيضاً أعرضنا عنها؛ لقصورها عن الإثبات التاريخي، فيكون الدخول في تفاصيلها تطويلاً بلا طائل.

كما أنَّ هناك تفاصيل في تحديد الوضع العالمي قبل الظهور، ممَّا يمتُّ إلى إيجاد الظرف المـُناسب للنصر بعد الظهور بصِلَةٍ، وهي تفاصيل مُهمَّة، سنعرض إلى مُحتملاتها والاستدلال عليها في القسم الثاني الآتي عند عرض ضمانات النصر للمهدي (عليه السلام).

١٨٦

القسم الثاني

حوادث الظهور وإقامة الدولة العالمية

إلى وفاة المهدي عليه السلام

وتندرج في هذا القسم عدَّة أبواب

١٨٧

١٨٨

الباب الاول

في معنى الظهور وكيفيته وما يليه من الحوادث

إلى حين مسير الامام المهدي (عج) إلى العراق

ويتم الكلام في ذلك ضمن عدة فصول

١٨٩

١٩٠

تمهيد

حين يُنتج التخطيط الإلهي العام لعصر الغيبة نتيجته، ويتمخَّض عن وجود العدد الكافي لغزو العالم بالحق والعدل، يترتَّب على ذلك نتيجتان كبيرتان:

النتيجة الأُولى: إمكان الحفاظ على حياة الإمام المهدي (عج) بالطريق الطبيعي الاعتيادي، بالرغم من معروفيَّته وانكشاف حقيقته للناس، وذلك لوجود العدد الكافي من الأفراد الذين يُمكنهم بإخلاص أن يذودوا الأخطار بعون الله عزَّ وجلَّ عن إمامهم وقائدهم العظيم.

وبذلك ترتفع الحاجة إلى الغيبة بكلا شكليها: الإعجازي والطبيعي، أعني ( أُطروحة خفاء الشخص ) الإعجازية، و( أُطروحة خفاء العنوان ) الطبيعية، ومع ارتفاع الحاجة إلى الغيبة، لا معنى لاستمرارها.

بل سيكون استمرارها مانعاً عن تحقيق الغرض الإلهي المطلوب في اليوم الموعود؛ ومن هنا تكون مُحرَّمة على الإمام المهدي (عج)... باعتبار أنَّه يجب عليه بحُكم الله عزَّ وجلَّ تنفيذ ذلك الغرض الذي ذُخِر من أجله، وقد أصبح بعد نجاز التخطيط مُمكناً.

فكل ما يكون مانعاً عنه أو حائلاً عن تنفيذ، ممَّا يعود إلى عمله الشخصي واختياره، يكون مُحرَّماً عليه.

النتيجة الثانية: إمكان الفتح العالمي بالحق والعدل، بهذا العدد الكافي المـُهيّأ لهذه المـُهمَّة، وهو ما لم يتوفَّر لأحد من الأنبياء والأولياء، والعظماء والمصلحين السابقين عليه (ع)، وإنَّما شارك كل واحد منهم بقسط من الأعداد طبقاً للتخطيط العام، وبقيت النتيجة مؤجَّلة ومنوطة بالمهدي (عج)، عندما يتمخَّض هذا التخطيط عن نتائجه.

وإذ يكون الفتح العالمي بهذا العدد المـُتوفِّر مُمكناً، ويكون واجباً لا محالة طبقاً

١٩١

للتكليف الإسلامي في كل زمان ومكان، والمتكوِّن من أمرين:

الأمر الأول: أنَّ الفتح الإسلامي لأيِّ مقدار ممكن من الأرض المسكونة، واجب... طبقاً لمفاهيم وأحكام الجهاد المنصوصة في الكتاب والسنَّة، فإذا كان الفتح لمجموع الكرة الأرضية ممكناً كان واجباً لا محالة.

الأمر الثاني: إنَّ امتثال كل تكليف في الإسلام، بما فيه وجوب الفتح الإسلامي منوط في الشريعة بإمكان حصوله وتوفُّر مُقدِّماته... فمتى كان المـُكلَّف قادراً على امتثال التكليف - أيَّاً كان - وجب عليه، وكان مُعاتَباً ومُعاقبَاً على تركه، وإذا كان الفرد عاجزاً عن الامتثال؛ باعتبار قصوره أو قصور فيه أو في الظروف المـُحيطة به، كان التكليف ساقطاً عن الذمَّة؛ لأنَّ الله لا يُكلِّف نفساً إلاَّ وسعها، وليس معنى عدم وجود التكليف في الشريعة، وإنَّما معناه إناطته بحال القُدرة والاستطاعة.

إذا عرفنا ذلك، استطعنا أن نُشخِّص بوضوح أنَّ النبي (ص) والأئمة المعصومين الماضين (ع)، حيث لم يكن لديهم العدد الكافي من الأفراد لغزو العالم بالعدل، كان التكليف به ساقطاً عنهم؛ لأنَّ الغزو في تلك الظروف التي عاشوها لم يكن مُمكناً إلاَّ بالمـُعجزة، وهو ما لم تَقُمْ الدعوة الإلهية على اتِّخاذه على طول التاريخ... بل كان يقتصر كل منهم على المقدار الممكن له من الأعمال المؤثِّرة في إقامة الحق.

وقد كان للنبي (ص) عدداً كافياً لفتح منطقة من الأرض، فكان يجب عليه المـُبادرة إلى ذلك، وقد كان (ص) على مستوى المسؤولية فأدَّى تكليفه على أحسن وجه، وبذلك انتشر الإسلام.

ثمَّ إنَّ الله عزَّ وجلَّ خطَّط خلال عصر الغيبة - كما عرفنا - لوجود العدد الكافي من المـُخلصين لغزو العالم... وإنَّ التكليف بذلك عند نجاز هذا الشرط، وسيكون هذا التكليف مُتوجِّهاً إلى الإمام المهدي (عج)، وسيكون هو على مستوى المسؤولية، وفي أعلى مراتب الحِكمة وأفضل أشكال القيادة... بعد الذي عرفناه من آثار طول الغيبة في ترسيخ وتعميق القيادة لديه.

وعلى أيِّ حال، فسيكون الظهور والقيام بالسيف أو التحرُّك العسكري من قِبَل الإمام المهدي، عند نجاز التخطيط، مُتعيِّناً لازماً، بحسب الوعد الإلهي في القرآن الكريم، والغرض الأسمى من خلق البشرية، وبحسب التكليف الإسلامي للإمام المهدي نفسه.

وليس الإمام وحده مُكلَّفاً، بل مع تحقيق الإمكان، تكون كل البشرية مُكلَّفة

١٩٢

بذلك، كل ما في الأمر، أنَّ مَن يكون على مستوى المسؤولية الكاملة لإطاعة هذا الحُكم وتنفيذه، هو الإمام المهدي (ع) وأصحابه... دون الكفَّار والمـُنحرفين الذين يكون العدل مُنافياً لمصالحهم الشخصية.

ومن هنا أيضاً؛ كان من اللازم على كل فرد التجاوب مع ثورة المهدي (ع) بأقصى إمكانه، فإن استطاع الجهاد العسكري وجب، وإلاَّ فعليه التجاوب مع مفاهيمه وقوانينه وتطبيقها تطبيقاً دقيقاً.

١٩٣

١٩٤

الفصل الأول

في معنى الظهور وكيفيَّته

وأُسلوب معرفة المهدي (ع) للوقت الملائم

للظهور معنيان مُقترنان يصدقان معاً بالنسبة إلى المهدي (ع)، طبقاً للفهم الإمامي، ويصدق أحدهما طبقاً للفهم الآخر، وله معنى ثالث لا يصدق إلاَّ في زمن مُتأخِّر نسبيَّاً.

المعنى الأول: أن يُراد من الظهور: البروز والانكشاف بعد الاحتجاب والاستتار.

وهذا ما يحصل فعلاً بالنسبة إلى الإمام المهدي (ع)، عند تعرُّف الناس إليه بعد غيبته واستتاره، وهو خاص بالفهم الإمامي الذي يرى حصول الغيبة.

المعنى الثاني: أن يُراد بالظهور: إعلان الثورة (في منطق العصر الحاضر)، أو القيام بالسيف (في منطق العصر القديم).

وهو صادق بالنسبة إلى المهدي (ع) على كلا الفهمين الإمامي وغيره؛ لوضوح كونه عليه السلام الثائر الأكبر ضدَّ الظلم والطغيان، والتخلُّف على وجه الأرض.

ومن هنا نعرف؛ أنَّ كلا المعنيين صادقان من زاوية (إمامية)؛ إذ نجد الإمام المهدي (ع) يظهر بعد الاستتار، ثائراً على الظلم والطغيان.

المعنى الثالث: أن يُراد الظهور: الانتصار والسيطرة، يُقال: ظهر عليه. إذا انتصر ضدَّه وسيطر عليه. وهذا المعنى يصدق عند استتباب الأمر للمهدي (ع) على العالم كلِّه، وهو غير ما نُريده من كلمة الظهور.

إذن؛ فينحصر معنى الظهور في لحظاته الأُولى، بالمعنيين الأوَّلين.

ونحن حين ننظر إلى الظهور مُقابلاً للغيبة والاحتجاب، نحتاج إلى التساؤل عن كيفيَّته وطريقة تحقُّقه، كما أنَّنا حين ننظر إلى الظهور بوصفه ثورة عالمية وتنفيذاً لليوم الموعود، نحتاج إلى التساؤل في أُسلوب معرفة الإمام المهدي (ع) للوقت الملائم له،

١٩٥

وطريقة اطِّلاعه على تمخُّض التخطيط الإلهي عن نتائجه.

فباعتبار هذين التساؤلين، ينبغي أن نتكلَّم في جهتين:

الجهة الأُولى: في كيفيَّة الظهور بعد الغيبة.

وإذا نظرنا إلى الظهور من هذه الزاوية، نجد أنَّ له معنيين مُقترنين، عملي ونظري يصدقان معاً:

المعنى الأول: وهو المعنى العملي... وهو أن يرى الناس الإمام المهدي (ع) في أول ظهوره، فيُعرِّفهم بنفسه، ويكشف لهم عن صفته الحقيقية، ويُطالبهم بنصره ومؤازرته، وهذا ما سنعرف تفاصيله في هذا القسم من التاريخ.

المعنى الثاني: وهو المعنى النظري... ويتلخَّص بارتفاع الغيبة التي كان عليه السلام قد اتَّخذها مسلكاً لنفسه، طبقاً للتخطيط الإلهي... سواء كان معنى الغيبة هو ( أُطروحة خفاء الشخص ) أم ( أُطروحة خفاء العنوان )، اللذين شرحناهما في التاريخ السابق، فيكون شخصه مكشوفاً وعنوانه معروفاً... تقديماً لإنجاز مهامِّه العالمية، المـُتوقَّعة منه منذ الآن.

فإن صحَّت ( أُطروحة خفاء الشخص ) الإعجازية، كان معنى الظهور ارتفاع المعجزة عنه، وانكشاف جسمه للناس، مُضافاً على ضرورة تعريفه إيَّاهم بنفسه وإطلاعهم على حقيقته، فإنَّ هذه المعجزة إنَّما كانت سارية المفعول في إخفائه لأجل حفظه من الأعداء والطوارئ؛ ليتولَّى القيادة الكبرى في اليوم الموعود، فإذا حلَّ اليوم الموعود، واجتمعت شرائطه، لم يكن لبقاء ذلك الاختفاء من موضوع.

وإن صحَّت ( أُطروحة خفاء العنوان ) التي هي طريق لحفظ الإمام، يُغني عن الطريق الإعجازي، إلاَّ في أوقات الخطر، كما سبق أن ذهبنا إليه في التاريخ السابق... وكل ما في الأمر أنَّه عليه السلام يعيش ( بشخصيَّة ثانوية )، مُتكوِّنة من اسم مُستعار، وعمل مُعيَّن وأُسلوب في الحياة غير مُلفت للنظر، ولا يمتُّ إلى الإمامة والقيادة بصِلَةٍ.

ومُقتضى هذه الأُطروحة، أنَّه ليس هناك أيُّ إعجاز في الاختفاء ليحتاج إلى زواله، بل يكفي في الظهور: أن يُبدِّل المهدي (ع) شخصيَّته الثانوية بشخصيّته الحقيقية، ويُعرِّف الناس بصراحة بصفته الواقعية، ويُقيم الحجّة على ذلك، بالأُسلوب الذي سوف يأتي.

فيثبت باليقين على أنَّ هذا الشخص الذي كان يُسمَّى بفلان ويعمل كيت، إنَّما هو المهدي الموعود، وقد باشر من الآن مُهمَّاته الكبرى.

١٩٦

ويؤيِّد ذلك من الأخبار ما رأيته في بعض المصادر التي لا تحضرني الآن، من أنَّه ( عليه السلام ) حين يظهر، يقول عدد من الناس: إنَّنا كنَّا رأينا هذا الشخص قبل هذا.

أقول: وهو أيضاً من الأخبار الصريحة في نفي الأُطروحة.

وهنا ينبغي أن نتذكَّر ما عرضناه من أُسلوب تعرُّف (السفياني) على تحرُّكات المهدي (ع)، ومُطاردته له في عصر غيبته... فإنَّه ممَّا لا موضوع له مع صدق الأُطروحة الأُولى، فتكون كل الأخبار الدالّة على ذلك دالَّة على صدق الأُطروحة الثانية.

ومعه؛ فإتماماً للفهم العام السابق، نفهم أنَّ هذا الشخص الذي كان السفياني يُطارده، وقد حصل الخسف من أجله، ولم يؤثِّر موقف (النفس الزكية) في ترجيح كفَّة الميزان الاجتماعية إلى جهته، إنَّ هذا الشخص سوف يذهب إلى المسجد الحرام، فيُعلن عن شخصيَّته الحقيقية، ويطلب من الناس نُصرته والفداء في سبيل أهدافه، ضدَّ السفياني وغير السفياني من الطُّغاة الظالمين.

الجهة الثانية: في أُسلوب معرفة الإمام المهدي (ع) بالوقت المـُناسب للظهور، ذلك الوقت الذي يكون التخطيط الإلهي قد أنتج به نتائجه الكبرى.

والسؤال عن ذلك ينبغي أن يتوجَّه تارةً إلى الفهم غير الإمامي للمهدي، وأُخرى إلى الفهم الإمامي عنه.

أمَّا طبقاً للفهم غير الإمامي، وهو أنَّ المهدي رجل يولَد في عصره، فيوفَّق للثورة العالمية، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما مُلئت ظُلماً وجوراً.

فطبقاً لذلك؛ لا نكاد نحسُّ بالحاجة إلى السؤال، إذ يكون شأن المهدي شأن أيِّ قائد آخر تتوفَّر له الظروف الموضوعية للثورة، ويُدرِك إمكان نجاح حركته، كما يُدرك أيُّ قائد ذلك لنفسه، وإنَّما يبقى الفرق بينه وبين سائر القادة، بأمرين:

الأمر الأول: أنَّه بينما يُفسِّر سائر القادة الأوضاع الاجتماعية من زواياهم الشخصيَّة، وينظرون الظروف والفرص من مُنظار مصالهم الخاصة، فإنَّ المهدي ينظر إلى ذلك من زاوية مصالح الإسلام الذي هو ( الأُطروحة العادلة الكاملة )، الذي يُخرج البشر من الظلمات إلى النور والحق والعدل.

الأمر الثاني: أنَّه يتلقَّى الإلهام من الله عز وجل، ويكون مؤيَّداً ومُسدَّداً من

١٩٧

عنده كما يذهب إليه أبن عربي في الفتوحات المكِّيَّة(1) وغيره، وإن لم نجد دليلاً واضحاً على ذلك من المصادر العامَّة، ممَّا اضطرَّ ابن عربي أن ينسبه إلى ( الكشف الصحيح ) دون الكتاب الكريم والسنَّة الشريفة.

ونحن ذهبنا في التاريخ السابق(2) إلى صحَّة ثبوت الإلهام للمهدي... لكنَّ ذلك باعتبار الفهم الإمامي، وإما طبقاً للفهم الآخر، فيكاد أن يكون إثباته مُتعذِّراً.

وأمَّا التعرُّف على إنتاج التخطيط الإلهي لشرائط الظهور، فيكون هذا موكولاً إلى الله تعالى وحده؛ ومن هنا سيُقدَّر ميلاد المهدي في الزمان الذي يكون نُضجه الكامل شخصياً مُساوقاً ومُعاصراً مع إنتاج التخطيط واجتماع الشرائط، فإذا حان الوقت، فسيعرف المهدي بفطنته وجود الفرصة المؤاتية والعدد الكافي من الأفراد لغزو العالم مُتوفِّراً، فيصدع بمُهمَّته الكبرى.

وأمَّا لو أخذنا بالفهم الإمامي، فسيكون هذا السؤال وجيهاً... باعتبار أنَّ أيَّام الغيبة مُتساوية النسبة بالنظر السطحي، تجاه موعد الظهور، فلا يكون في بعض الأيام أوْلى من بعض لإنجاز ذلك، ما لم يحصل هناك علم إضافي أو انتباه خاص حول الموضوع.

وهذا العلم لا شكَّ في أنَّه سيحصل للإمام الغائب (ع)، فإنَّ الله عزَّ وجلَّ بحكمته الأزليَّة وتخطيطه العام سيُمكِّن المهدي (ع) من العلم بموعد ظهوره؛ لتوقُّف نجاحه عليه، وتوقُّف تنفيذ الوعد الحق والغرض الأسمى على الظهور، فيتوقَّف ذلك الغرض على العلم بحلول الموعد، فيكون علمه عليه السلام ضرورياً بالبرهان.

وإنَّما ينفتح السؤال عن أُسلوب علمه ذلك، وأنَّه هل هو بطريق إعجازي أو طبيعي؟ وهو ما أجابت عليه جملة من الأخبار الخاصة، فتحصَّلت عندنا عدَّة أُطروحات في مقام الجواب على ذلك... وقد لا تكون مُتنافية فيما بينها، بل في الإمكان صدقها جميعاً لو صحّت بالدليل عليها، وتمّ عليها الإثبات التاريخي:

الأُطروحة الأُولى: أن يكون علم المهدي (ع) بموعد ظهوره وثورته، بنحو الرواية عن آبائه المعصومين، عن جدِّه الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله.

وتُتصوَّر هذه الرواية على أشكال، تكون كل واحدة في واقعها منها أُطروحة مُستقلَّة:

____________________

(1) ج3 ص327وما بعدها.

(2) ص505 وما بعدها.

١٩٨

الشكل الأول: أن يُحدَّد له الزمان في تاريخ مُعيَّن، في ساعة من يوم من شهر من عام بعينه... يكون معلوماً عنده مجهولاً عندنا.

الشكل الثاني: أن تُحدَّد له حادثة مُعيَّنة أو عدَّة حوادث، تكون مُعاصرة للموعد المطلوب في حكمة الله عزَّ وجلَّ وتخطيطه، كمقتل النفس الزكية أو الخسف أو أيِّ شيء آخر.

الشكل الثالث: أن يوصَف له جيل مُعيَّن، بأسماء أشخاصه وأعمالهم، أو أحد منهم، أو أكثر، ويكون الموعد نقطة مُعيَّنة من عمر ذلك الجيل.

إلى غير ذلك من الأشكال... كلُّها مُمكنة ومُحتملة، إلاَّ أنَّه لم يدلَّ عليها نصٌّ مُعيَّن في القرآن الكريم ولا السنَّة الشريفة، بحسب تتبُّعنا، غير أنَّ توقُّع وجود نصٍّ على ذلك ممَّا لا معنى له؛ لأنَّ النصَّ لا يرد إلاَّ فيما أُريد إبلاغه إلى الآخرين، إلى الناس، وأمَّا ما كان خاصَّاً بشخص المهدي (ع) فلا معنى لوروده في دليل عام، أعني واسع الانتشار، ومعه فتبقى هذه الأُطروحة ذات احتمال مُحتَرم.

وهذا هو أحد الفروق الرئيسية التي تمتاز بها الأُطروحة الإمامية عن غيرها؛ إذ لا يُتصوَّر بمن يوجد مُتأخِّراً عن صدر الإسلام، أن يتحمَّل مثل هذه الرواية، دون أن تشتهر وتتناقلها الألسن.

الأطروحة الثانية: أن يكون علم الإمام المهدي (ع) بموعد ظهوره إعجازيَّاً، بمعنى أنَّه يحين الموعد الذي يراه الله عزَّ وجلَّ صالحاً للظهور وانتصار الثورة العالمية، فإنَّه عزَّ وجلَّ يُحقِّق أمام الإمام المهدي (ع) مُعجزة بشكل وآخر توجِب إلفاته إلى ذلك... كما سنسمع.

وذلك بأحد أُسلوبين، أو بالأُسلوبين معاً، وإن لم يكن أحدهما مُغنياً عن الآخر.

الأُسلوب الأول: وهو أوضحهما وأصرحهما بالإعجاز، ما لم يُحمَل على الرمز، لو أمكن.

فمن ذلك: ما أخرجه الراوندي(1) ، مُرسلاً عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، في حديث عن القائم يقول فيه: ( إذا كان وقت خروجه انتشر العَلَم بنفسه،

____________________

(1) انظر الخرايج والجرايح ص198

١٩٩

فناداه العلم: اخرُج يا وليَّ الله، اقتل أعداء الله. وله سيف الله، إذا حان وقت خروجه اقتُلِع السيف من عنده (غمده) فناداه السيف: اخرُج يا ولي الله، فلا يحلُّ لك أن تقعد عن أعداء الله )، وروي ذلك مُرسَلاً مُكرَّراً أيضاً(1) .

وهذا الأُسلوب، كما ترى، فيه عدَّة نقاط ضعف:

النقطة الأُولى: أنَّ رواياته قليلة، وكلُّها مُرسَلة، لم يذكر لها الراوندي أيَّ سند؛ ومعه فلا يمكن الأخذ بها طبقاً لأبسط وأوضح الموازين.

النقطة الثانية: أنَّها مُنافية لقانون المعجزات، القائل: بأنَّ المعجزة لا تقوم مع إمكان وجود البديل الطبيعي عنها، المـُنتِج لنفس النتيجة، ومن المعلوم - بوضوح - وجود البديل عن أمثال هذه المعاجز المنقولة من هذه الأخبار؛ فإن معرفة الإمام لمهدي (ع) بموعد الظهور لا ينحصر بها، ولا يتوقَّف عليها، بعد إمكان الأُطروحة الأُولى والثالثة، اللتان ترجعان إلى معنى طبيعي غير إعجازي.

النقطة الثالثة: أنَّها مُبتنية على المفاهيم القديمة في تصوُّر الحرب، وأنَّ سلاح الإمام المهدي (ع) في ظهوره سوف يكون هو السيف على التعيين، وإنّ قيادته سوف تكون بالراية وهي العلم الكبير، وكل هذا ممَّا ثبت بالوجدان تغيُّره وتطوُّره.

وقد يخطر في الذهن: أنَّنا سنحمل فيما يلي من البحث معنى السيف على كل سلاح، ونحمل معنى الراية على القيادة العقائدية ككل... فلماذا لا نحملها هنا على ذلك أيضاً؟

والجواب على ذلك: أنَّ من الأخبار ما يكون قابلاً للحمل على ذلك، وبعضها ما يكون كالصريح فيه، كما سنسمع، وأمَّا مثل هذه الأخبار المـُرسلة، فلا يمكن أن تُحمل على ذلك... لوضوح أنَّ القيادة المعنوية لا يُتصوَّر فيها النطق والكلام، حتى وإن كان إعجازياً، كما أنَّ حَمْلَ السيف على المدفع أو الصواريخ الموجَّهة مثلاً، فتكون هي الناطقة بدل السيف... بعيد جدَّاً، كما هو واضح.

الأُسلوب الثاني: أنَّ الإمام المهدي (ع) يعرف موعد ظهوره عن طريق الإلهام.

فمن ذلك: ما أخرجه الصدوق في إكمال الدين(2) ، عن عمر بن إبان بن تغلب، قال:

____________________

(1) المصدر ص129 وص162

(2) انظر المصدر المخطوط.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679