موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)8%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 679

الجزء ١ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 212467 / تحميل: 11106
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

المُستعربين(١) من الذين أثارهم مدى نفوذ الإسلام، وقوّة تأثير الثقافة الإسلاميّة واللغة العربيّة في واقع الشعب الأسباني، فتحرّكوا لمواجهة هذا النفوذ والعمل على تفريغ محتواه من نفوس الأسبان، عن طريق إذكاء حالة العداء الديني وتغذيتها بأشكال الإثارة الحادّة ليتسنّى لهم دقّ إسفين الخلاف، ومِن ثمّ صبّ ذلك في محور تحريضي مباشر تجاه الخلافة الإسلاميّة.

حتّى إنّ بعض المُغالين من الرهبان كان يصرّ على التعرّض للإسلام، والطعن في النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والنيل من المقدّسات الإسلاميّة للفوز بعقوبة الموت، مُعتقدين بأنّهم يكسبون بذلك شرف الشهادة الذي حُرِموه نتيجةً للتسامح الذي كان سِمةً من سِمات حكّامهم المسلمين في دار الخلافة بالأندلس.

وبالرغم من أنّ عدد هؤلاء المتعصّبين لم يكن كبيراً، إلاّ أنّ الحكومة قد خشيت آنذاك (سوء عاقبة هذه الحوادث وأوجست خيفة من أنّ احتقارهم سلطانهم، وعدم اكتراثهم بالقوانين التي سنّوها ضدّ مَن يطعن في دينهم (الإعدام)، قد يؤدّي إلى استفحال روح الكراهيّة، وذيوع حركة العصيان بين الأهلين كافّة)(٢) .

فعمدت إلى القضاء على حركة الاستشهاد، مستفيدةً من اعتدال الكثير من المُستعربين، وعدم تفاعلهم معها.

ولمّا كانت هذه الحركة عبارة عن إرهاص متشنّج يحكي حالة الرفض المتعصّب بطريقةٍ انفعاليّة هيمنت على أفكار المُتديّنين والقساوسة الأسبان - كما عبّر عنها(ريتشارد سوذرن) ووصفها: (بأنّها حركة ضدّ رضا العامّة بالحضارة العربيّة)(٣) - فقد خلقت أرضيّة لعمل فكري يهدف إلى معرفة وفهم

____________________

(١) استعرب: صار دخيلاً بين العرب. (القاموس المنجد، باب: عرب).

(٢) أرنولد، توماس - الدعوة إلى الإسلام - الترجمة العربيّة: ١٦٥ - ١٦٦.

(٣) سوذرن، ريتشارد - صورة الإسلام في أوربّا في العصور الوسطى: ٥٨.

٤١

العدوّ الإسلامي، ودراسة سرّ قوّته وتميّزه، ورفع الإبهام عن لغز تفوّقه وقدرته. أي بعبارةٍ أُخرى خلقت أرضيّة الاستشراق بروحه التبشيريّة.

أمّا لماذا لم يتم هذا العمل الفكري في الفترة التي كانت حركة الاستشهاد في أوجّها؟ فيقول (سوذرن): (إنّ كلاً من (أولوجيوس) و (ألبرو قرطبي) قائدَيّ الحركة كانا يعتقدان أنّ السيطرة الإسلاميّة هي بداية المقدّمة الضروريّة لظهور المسيح الدجّال، المذكور في كتبهم المقدّسة، وانسجم ذلك مع تأويلات خاطئة باقتراب يوم القيامة، وعلائمه التي كانت سائدة بين أوساط المجتمع الأوربّي المسيحي آنذاك.

إضافةً إلى أنّهما لم يكونا مؤهّلين للجهد الفكري المطلوب في معرفة وفهم العدوّ الإسلامي، كما وإنّهما - القائدَين - وأتباعهما لم يكونوا يريدون أنْ يعرفوا شيئاً)(١) لتَشبُّع قلوبهم بالبغض والكراهيّة والغضب على كلّ ما هو مُخالف لأفكارهم ومعتقداتهم الخرافيّة السائدة، وتأويلاتهم المنحرفة التي ما أنزل الله بها من سلطان.

ولم تكن الكنيسة الكاثوليكيّة بأحسن حالاً من هؤلاء، حيث لم تخرج عن دائرة هذا الجوّ العدائي.

فقد كانت أحد العوامل الرئيسيّة لتأجيج الصراع وتغذية الشعور المعادي للمسلمين، وإذكاء نار الحقد في صدور رعاياهم ضدهم بكلّ ما تهيّأ لها من وسائل وأُوتيت من قوّة، لما أدركته من تأثير الإسلام وسرعة نفوذه وكثرة المُقبلين عليه.

حيث يصف أحدُ المؤرّخين هذه الظاهرة فيقول: (بأنّ تأثّرهم بالإسلام كان بمحض إرادتهم في أغلب الأحيان)(٢) . وأخذت الكنيسة الكاثوليكيّة تدرك تدريجياً ومن موقع دفاعي ضرورة إعطاء النصارى أسباباً

____________________

(١) سوذرن، ريتشارد - صورة الإسلام في أوربّا في العصور الوسطى: ٥٩.

(٢) بروفنسال، ليفي (حضارة العرب في الأندلس) الترجمة العربيّة: ١٦ - ١٧.

٤٢

وجيهةً ليحافظوا على إيمانهم التقليدي الخاص، ويتحصّنوا داخله.

إلاّ أنّ هذه المساعي لم تنجح، فسرعان ما تأجّجت العصبيّات واستفحل العداء الشديد.

وعلى هذا نرى أنّ بدايات الاستشراق لم تكن منفصلة عن منظومة التنصير والتبشير، ولا عن الدوافع الدينيّة المتطرّفة التي كانت الأساس في نشأة الفهم الاستشراقي(١) ، فلا عجب إذن إذا رأينا الكثير من المُستشرقين يجهدون في تصوير العالم الإسلامي في كتاباتهم على أنّه بشعٌ في عاداته، قبيحٌ في أخلاقه، مليء بالبِدَع والانحرافات عن الدين السماوي الحقّ الذي جاء به المسيح النبيّ، ولا يتحرّزون عن اختلاق ما يدعم دعواهم تلك، وكلّ ما مِن شأنه زرع روح التشكيك في الإسلام وزعزعة اليقين بين أوساط المسلمين.

____________________

(١) راجع د. سلمان، سمير (الجذور التكوينيّة للاستشراق في الأندلس) مجلّة التوحيد - العدد ٣٢: ١١٦.

٤٣

نشأة الاستشراق بين النهج العلمي والاستعداء التبشيري

إنّ البدايات التي سجّلها الباحثون لنشأة الاستشراق لم تكن خارجة عن نطاق الصراع الذي تربّع أبطاله على صدر الأندلس، وتركوا آثار حقدهم وتعصّبهم شاخصةً على مرّ العصور، مُنزِلةً الضربة تلو الأُخرى بالوجود الإسلامي في الأندلس.

فالحرب التي شنّتها المسيحيّة على الإسلام حينذاك قد نحَت مَنحَيَيَن باتّجاهين مُتوازيين يعضد أحدهما الآخر، ويؤدّيان إلى هدفٍ واحد، ألا وهو القضاء على الخصم الذي غزاهم وهُم غارقون في سُباتٍ عميق.

الأوّل: كان يُريد تحقيق هذا الهدف بحدِّ السيف وإعلان الحرب المباشرة، لاجتثاث جذور الوجود الإسلامي بشكل سريع ونهائي.

والثاني: كان يرى أنّ دراسة العدو، واستثمار معارفه وعلومه، والاطلاع على مبادئه وأفكاره يشكّل الطريق السليم لمواجهة هذا العدوّ من خلال امتلاك سرّ قوّته، ومعرفة سُبل اجتثاثه من داخله.

إنّ الاختلاف الظاهري لهذين الاتّجاهين المعاديين للإسلام والذي أُريد له أنْ يبرز بشكلٍ مقصود، كان يُعبّئ الآخرين ويبرز ردود فعلٍ موسومةً بالتصلّب والتعدّي تارة، وبالمرونة وطَرقِ السُبل السلمية بغطاءِ العلم والمعرفة تارةً أُخرى.

إنّ ما قام به أسقف طُلَيطَلة مِن إخضاع النصارى الأسبان له، إثر تعرّض

٤٤

العلاقات والروابط بين الكرسي البابوي من جهة، والكنيسة من جهةٍ أُخرى للضعف والتردّي، أدّى إلى انفصال الأخيرة عن البابويّة، ممّا حدا بأسقف طُلَيطلة إلى إخراج ترجمات مبكّرة لبعض الكتب العلميّة العربيّة(١) .

وكما ذكر غابريلي في(تراث الإسلام) : (لقد استعربت المسيحيّة بسرعة لغويّاً وثقافيّاً)(٢) .

في الوقت الذي استمرّت الكنيسة على تصلّبها وأبرزت تعصّباً بالغ التزمّت تجاه أيّ تقاربٍ ومهادنة أو موقفِ صداقةٍ تفرضه الطبيعة العلميّة، أو ظروف التقارب الثقافي الذي قد يتّخذه بعض طلاب الثقافة والمعرفة الأوربيّين من الإسلام والثقافة الإسلاميّة.

ومِن أمثلة ردود الفعل المتعصّبة التي أفرزتها طبيعة الخلافات هذه، هو ما أعلنه البابا(غريغور التاسع) من أنّ فريدريك الثاني حاكم صِقلْيّة الذي أصبح إمبراطوراً لألمانيا في عام ١٢٢٠م قد خرج على الكنيسة، حيثُ كان(فريدريك) هذا مُستعرباً لغةً وثقافةً وعلوماً وعادات.

وقد أهدى كتباً فلسفيّة تُرجمت عن العربيّة إلى جامعات بولونيا وباريس، وعندما أصبح إمبراطوراً أسّس جامعة في نابولي سنة ١٢٢٤م، وجعل منها أكاديميّة لنقل المعارف الإسلاميّة إلى العالم الغربي(٣) .

وعليه فإنّ نشأة التبشير في الأندلس بدأت بهدف القضاء على الإسلام، والتبشير للمسيحيّة بين صفوف المسلمين الكَفَرَة - كما كانوا يسمّونهم - الذين قدموا من بلاد العرب وفتحوا الأندلس، أو الذين دخلوا الإسلام حديثاً والذين يطلق عليهم (المولدين)(٤) ، بعد أنْ ثبت لدى أغلب رجال الفكر

____________________

(١) زقزوق، محمود حمدي (الاستشراق والخلفيّة الفكريّة للصراع الحضاري): ٢٤.

(٢) غابريلي، فرانشسكو (تراث الإسلام) - القسم الأوّل - الترجمة العربيّة: ١٣٤.

(٣) رودنسون، مكسيم (جاذبيّة الإسلام) الترجمة العربيّة: ٣٢ و٣٣.

(٤) أُطلقت هذه التسمية على أبناء الأندلس القُدماء الذين انحدروا مِن آباء أسبان، وهؤلاء كانوا يمثّلون طبقة اجتماعيّة واسعة من المجتمع الأندلسي، دخلوا الإسلام أثناء الفتح، وحَسُن إسلام الكثير منهم. وكان منهم من أصحاب التآليف والتصانيف والمكانة العلميّة المرموقة. عن مجلّة نور الإسلام: ٢٧ - ٢٨/ (العصبيّات وآثارها في سقوط الأندلس).

٤٥

النصارى وعلمائهم أنّ الإسلام لا يُمكن القضاء عليه بالعمل العسكري، فدون ذلك خرط القتاد، وأنّ أيّ مواجهة سوف لنْ تثمر شيئاً ومحكومٌ عليها بالفشل والخُسران.

لذا فإنّ منظومة التبشير والتنصير قد تولّدت في أُتون الصراع المُستعِر بين الإسلام والكنيسة على الأرض الأندلسيّة، والتي شكّلت مُنذ القرن التاسع عشر الميلادي الخليّة الأولى في مشروع الاختراق الثقافي الأوربّي للوجود الإسلامي، تمهيداً للامتداد والسيطرة الاستعماريّة وبنشاطٍ منظّم.

فالتبشير مصطلحاً ونظريّة، يقوم على نشر المسيحيّة في جميع بقاع الأرض التي تخلو منها، وهو بمعنى آخر هجوم المسيحيّة على الديانات الأُخرى بهدف اقتلاعها مِن عقول ونفوس معتنقيها، والحلول محلّها بكلّ وسيلة (سلميّة) ممكنة، وتطرق في ذلك أبواباً شتّى للوصول إلى أهدافها، منها: معرفة لغة الناس المقصودين بالتبشير، ودراسة عاداتهم وقِيمهم ومعتقداتهم عن كثب، والتدخل (للمساعدة) في حلّ مشاكلهم الشخصيّة والاجتماعيّة والصحيّة(١) .

مستفيدين من حالة الجهل والأُميّة السائدة في أوساطهم، للتشكيك في عقائدهم كمقدّمة لزقّهم بالتعاليم النصرانيّة عن طريق مؤسّسات التربية والتعليم، كالمدارس والمعاهد والجامعات وأمثالها.

وهكذا بدأ التبشير حركتهُ الشاملة للقضاء على الوجود الإسلامي، متّخذاً صوراً وأشكالاً مختلفة، وكان الاستشراق أبرز صوره الفكريّة. وهكذا كان العلم والبحث العلمي الذي يفترض فيه سموّ الإنسان بتحصيله المتواصل للكمالات قد

____________________

(١) الطهطاوي، محمّد عزت إسماعيل (التبشير والاستشراق): ١ - ٣.

٤٦

استُخدِم أداةً مِن أدوات التخريب الحضاري لبلاد المسلمين، والاعتداء على تراثهم، والطعن بالباطل في دينهم. وكانت المآرب السياسيّة والتعصّب للدين من السمات الأساسيّة للحركة الاستشراقيّة، ومن العناوين الخفيّة للوحدة والانسجام بين الاستشراق والتبشير.

٤٧

مبدأ الاستشراق اختراق ثقافي لدحر المسلمين في أوربّا

لقد كان الصراع التدميري الذي خاضته الكنيسة ومن ورائها المستعربون المتعصبون من النصارى ضد المسلمين في الأندلس والذي برّز الاستشراق صورةً من صوره الفكريّة فيما بعد قد اتّخذ مسارين: الأوّل ديني، والثاني فكري وسياسي.

أوّلاً: المسار الديني:

يُمكن تلخيص الكاشف عن المسار الأوّل بما يلي:

أ - سعي الكنيسة الدائب لاسترداد أسبانيا مِن المسلمين وإعادتها إلى سلطتها، وأنّ تلكّؤ مساعيها في النجاح لا يعني هزيمتها، فحروب الأسبان (القدماء) كانت خاضعة للكرّ والفرّ، واستمرّت بأشكالٍ مختلفة، مِن حربِ عصاباتٍ إلى مناوشاتٍ مشحونةٍ بالعداء الديني، إلى تأجيج العصبيّات بصيغتها الدينيّة بين مختلف الطوائف والقبائل، حتّى استنزفت قُوى الدولة الأندلسيّة التي ما لبث التفكّك والتشرذم أنْ طال كيانها الناشئ، في الوقت الذي لم تحسم فيه المواجهة بين الطرفين المُتصارعين، واستمرّت تتناوب بين انكفاءٍ وتقدّم.

٤٨

وبدءاً بعام ٧٥٦م راحت الهَجَمَات الأسبانيّة تتوالى حتّى (أخذت شكلاً تكتّليّاً وحرباً مقدّسة صليبيّة بآخر المعاقل الإسلاميّة)(١) .

وهكذا استمرّ الحال حتّى سقوط غرناطة بأيدي الأسبان، ووصول الوجود الإسلامي في الأندلس إلى نهايته عام ١٤٩٢م بعد أنْ تواصل ثمانية قرون تقريباً.

ب - إنّ من جملة أسباب تفوّق الأسبان الأُوربّيّين في هذه الحرب هو أنّهم (استعاروا أُسلوب المسلمين في الجهاد المقدّس)(٢) فأفادت المسيحيّة الأسبانيّة من عقيدة خصمها، وخاضت غمار المواجهة بأحد أمضى أسلحة الخصم الإسلامي، وأنشأت (طوائف الفرسان الدينيّة في سانتياغو وكلاترافا وألكنترا، وفي الطوائف التي ذاع صيتها في السجلاّت التأريخيّة لحروب الاسترداد)(٣) . علماً (بأنّ الأُسلوب نفسه قد اعتمدته الحملات الصليبيّة أيضاً)(٤) .

ج - لقد ترك الصراع الذي خاضته الكنيسة ضدّ المسلمين في الأندلس آثاره على مسير الكاثوليكيّة الأسبانيّة، وجنَت منه فوائداً كبيرةً، منها تحوّل هذا الصراع إلى عامل أساسي في بناء أسبانيا، وتطوير تركيبتها الداخليّة الخاصّة وموقعها العام، خصوصاً على مستوى الحسّ الديني المُرهف الذي برز عند الأسبان أفراداً ومجتمعاً، مِن خلال ما تركته العلوم والآداب الإسلاميّة مِن آثار في أعماق وأُسُس الحضارة الأسبانيّة مُنذ العصور الوسطى وإلى يومنا هذا.

____________________

(١) زقزوق، محمود حمدي - (الاستشراق والخلفيّة الفكريّة للصراع الحضاري) مؤسّسة الرسالة، بيروت، ط٢، ١٩٨٥م.

(٢) لومبير، إيلي - (تطور العمارة الإسلاميّة في أسبانيا والبرتغال وشمال إفريقيا) الترجمة العربيّة: ١٤٤.

(٣) بروفنسال، ليفي - (حضارة العرب في الأندلس) الترجمة العربيّة: ١٦ و١٧.

(٤) قنواتي، جورج شحاته - (تراث الإسلام) القسم الثاني، الترجمة العربيّة: ٢٦٠.

٤٩

ثانياً: المسار الفكري والسياسي:

إنّ أبرز العوامل التي بلورت هذا المسار هي:

أ - إنّ النصارى مِن غلاة رجال الكنيسة والمُستعربين الأُوربّيّين الخاضعين للحكم الإسلامي، كانوا ينظرون إلى المسلمين على أنّهم محتلّون برابرة كَفَرة، ويحرّضهم على ذلك الشعور تعصّبهم الديني وجشعهم السياسي، وشهوة مُلوكهم التائقين إلى استرداد ما فقدوه بالقوّة عند الفتح الإسلامي.

ب - إنّ بعض الأُمراء الأمويّين لم يعملوا على إخضاع جميع المواقع المسيحيّة لحكمهم في شبه جزيرة أيبيريا، ممّا أعطى للأسبان فرصةً سانحةً في أنْ ينطلقوا لإثارة الحروب والفتن.

ج - السياسة غير الحكيمة التي مارسها أحياناً بعض الأُمراء الأمويّين ضدّ المُستعربين، وضدّ غيرهم مِن طوائف المجتمع الأندلسي كالصقالبة(١) ، والبربر(٢) ،

____________________

(١) الصقالبة: هم عند مؤرّخي العرب الشعوب السلافيّة القاطنة بين جبال الأورال والبحر الأدرياتيكي، وهُم من أُصول أوربيّة مختلفة، وينقسمون إلى قسمين: الأوّل منهم صقالبة الشمال (الروس والروس البيض والبولونيون)، وصقالبة الجنوب أو اليوغسلافيون (الصرب والكرواتيون والسلوفاكيون والبلغاريون).

وقد جيء بهم إلى الأندلس أطفالاً صغاراً ذكوراً وإناثاً، فنشأوا نشأةً عربيّة إسلاميّة في بلاط الملوك والحكّام. كان منهم العبيد المجنّدون في الخدمة العسكريّة، ومنهم القادة والكتّاب والأُدباء.

القاموس (المنجد في الأعلام) وكذلك مجلّة نور الإسلام، العددان ٢٧: ٢ و٢٨: ٣٤ من (العصبيّات وآثارها في سقوط الأندلس).

(٢) البَربَر: اسم يطلق على سكّان إفريقيا الشماليّة من برقة إلى المحيط، كانوا يتكلّمون لهجات أعجميّة قبل استعرابهم، ولا يزالون. ويرجع أصلهم إلى فِئات عرقيّة مختلفة استقرّت في البلاد قبل الميلاد، وعرفت بعض الازدهار مثل:(مملكة نوميديا ومملكة موريتانيا) .

لم يكونوا مرتاحين تماماً إلى حكم روما ولا إلى أسبانيا بقيادة أحدهم وهو طارق بن زياد، تبعوا الخوارج وأعلنوا العصيان على العباسيّين. توزعوا ممالك وسلالات، فكان منهم الأغالبة والرستميّون والمرابطون والموحّدون، ثمّ زالت دولتهم في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي، وقد تحمّلوا القسم الأعظم مِن أعباء الفتح فقتل منهم في هذا السبيل الآلاف، وقد تأثّروا كثيراً بالدين الإسلامي، وأبدوا تحمّساً لنشره والدفاع عنه.

عن القاموس (المنجد في الأعلام) وكذلك مجلّة نور الإسلام، العددان ٢٥: ١ و٢٦: ٨ في = (العصبيّات وآثارها في سقوط الأندلس).

٥٠

والمولدين، ممّا أدّى إلى تنامي الشعور القومي والحساسيّة العرقيّة لدى المواطنين من قدامى الأسبان، وكذلك الذين استعربوا، فكانت مناطقهم مركزاً للمقاومة من قدامى الأسبان، وكذلك الذين استعربوا.

فكانت مناطقهم مركزاً للمقاومة العسكريّة النصرانية، ممّا سهّل لهم لعب دورٍ كبيرٍ لخوض حرب إيديولوجيّة سياسيّة.

د - بروز أجواء متوتّرة ساعدت على اعتماد القمع العنصري والقبلي، من قِبل الحكّام كَرَدّة فعل على الاضطرابات والأجواء المشحونة بالقلاقل، والتي كانت مدعومةً أحياناً من النصارى والمُستعربين والمُتعصّبين.

هـ - بروز صراعات سياسيّة وقبليّة بين المسلمين العرب أنفسهم، منها العصبيّة التي ثارت بين القيسيّين واليمنيّين، وأخذت العرقيّة القبليّة تنبض في نفوس أصحابها، فتطاحنوا (وتذابحوا وذهبت ريحهم)(١) . فانتهز المتربّصون بالحكم الإسلامي، والذين يصطادون في الماء العكر من نصارى الأسبان الفرصة للعصيان وإشعال فتيل الفتن والاضطرابات والتهيّؤ للمستقبل، الذي يأملون فيه القضاء على الحكم الإسلامي في الأندلس. فتدافعوا وجمعوا قواهم، واستعدّوا.

و - الدعم المباشر الذي قدّمه بهذا الاتّجاه النصارى الأوربّيون من الفرنسيّين وغيرهم بقيادة شارلمان (٧٤٢ - ٨١٤م) المعروف بتصدّيه التاريخي للانتشار الإسلامي في أوربّا، تمّ بمباركة البابا (أُوربانس الثاني) - الذي تسبّب فيما بعد بتأجيج الحروب الصليبيّة - عبر النداء الشهير الذي أطلقه في ٢٧ تشرين الثاني عام ١٠٩٥م، ودعا فيه نصارى أوربّا إلى الجهاد ضدّ الكَفَرَة المسلمين، وحمل السلاح لغزو الشرق، وهو نفسه الذي أعدّ حملةً مؤلّفةً في معظمها من (فرسان جنوب فرنسا) عام ١٠٨٩م لمساعدة نصارى الأسبان في مقاتلة

____________________

(١) بالنتيا، أ. جـ (تأريخ الفكر الأندلسي) الترجمة العربيّة: ١٧.

٥١

المسلمين في الأندلس(١) .

ز - الدور الذكيّ والمُخادع الذي لَعِبهألفونس الثالث (٨٦٦ - ٩١٠م) ملك أشتوريش وليون الاسباني في العمل الجاهد لاختراق المسلمين في الداخل ونشر الفرقة بينهم، حتّى نجح في استمالة المُستعربين الذين أسلموا حديثاً، مستنفراً فيهم كوامن المذهبيّة والطائفيّة، ممّا حداهم إلى رفض الإسلام والتمرّد على السلطة المركزيّة في قرطبة (ووعدهم بمنحهم الاستقلال إذا انقلبوا في اللحظة الحاسمة، ووقفوا إلى جانبه في موعد الهجوم على ضواحي قرطبة ومناطقها الشماليّة، وذلك مِن أجل أنْ يعيشوا أحراراً في أرضهم التي انتزعها المسلمون منهم بالعنف.

وإنّ وعدهم نصرتهم الملك، تعني استمرارهم كوسائل اقتصاديّة فقط، وكمصدر لإغناء خزينة الخلافة الإسلاميّة)(٢) .

وهكذا كانت عمليّة اختراق الوجود الإسلامي مِن قبل المُستعربين في الأندلس قد تمّت من زاويتين رئيسيّتين:

الأولى: بشريّة تشكل قوّة عسكريّة كبيرة العدد مدعومةً بالقوّة الأوربّية قادرة على ترجيح الكفّة من الناحية الإستراتيجيّة للمسيحيّة.

الثانية: إيديولوجيّة حضاريّة، وهي مدار بحثنا هذا، وهي الأهم والتي يُمكن أنْ يلعب مِن خلالها المُستعربون دوراً كبيراً في تقويم أوربّا الرازحة تحت وطأة التخلّف الحضاري، والخواء الثقافي، ورفدها بالمعارف والعلوم الحيويّة لنهضتها المخطّط لها. ثمّ إنّ دورهم هذا هو دينٌ عليهم وردٌ للجميل الذي قدّمته أوربّا لهم بمساعدتها لضرب الحكم الإسلامي.

وقد بذلت الكنيسة ومؤسّساتها كامل الجهد لاستيعاب كل هذه الأهداف

____________________

(١) لومبير، ايلي - (تطور العمارة الإسلاميّة في إسبانيا...) الترجمة العربيّة: ١٤٤.

(٢) بروفنسال، ليفي - (حضارة العرب في الأندلس) الترجمة العربيّة: ٧٩.

٥٢

في تخطيطٍ شاملٍ، وبرعاية السلطة السياسيّة وتشكيلاتها.

وهكذا كان، فقد ابتكرت الكنيسة حرباً جديدة ومواجهة غير مرتقبة، سلاحُها العلم والفكر واغتنام المفردات الحضاريّة للمسلمين، وتكييفها بالشكل الذي يسدُّ نقصهم وثغراتهم الأيديولوجيّة، ويمنحهم القدرة للتفوّق في هذا الجانب الأساسي على العدوّ الإسلامي. فبعد أنْ كان النصارى الأسبان يتخبّطون في ظُلمات جهلهم إبّان الفتح الإسلامي، ضُعفاء لا يملكون أسباب القوّة للردّ والمواجهة، أدركوا الآن قانوناً أساسيّاً من قوانين مقارعة الخصم والذي يتمثّل في معرفة الخصم وفهم حقيقته، وذلك عن طريق اكتشاف عوامل كماله ونقصه، وأسباب قوّته وضعفه، ومواطن ذلك في وجوده، ومن الذي يكمن وراء تفوّقه وهيمنته. وخلال دورة زمنيّة لم تطل كثيراً استطاعوا بإتقان أنْ يصلوا إلى أهدافهم، ويستحوذوا على كافّة مستلزمات المواجهة الشاملة لدحر المسلمين.

وفي طليعة انجازاتهم هذه:

أ - ما قام به الرُهبان مع بداية القرن التاسع من تعلّم اللغة العربيّة الفصحى، ومن ثمّ الإقبال على الترجمة عنها، وذلك (بناءً على تعليمات أساقفتهم)(١) . كما

____________________

(١) إنّ أوّل ترجمة (مزعومة) للقرآن يرجع تأريخها إلى عام ١١٤٣م، عندما أنهى إنجليزي وهو(روبرت الكتوني) بين ١٦ أيار و٣١ كانون الأوّل، من العام المذكور ترجمة لبعض معاني القرآن من العربيّة إلى اللاتينيّة، واستناداً إلى فهمه الشخصي. وكان هذا الرجل قد تنقّل في بعض البلدان الآسيويّة قبل انتقاله إلى برشلونة عام ١١٣٦م. وقد كانت ترجمته هذه بالإضافة إلى ترجمة كتب أُخرى من العربيّة إلى اللاتينية قد نمت تحت إشراف ورعاية أحد الأساقفة، وهو(بطرس الموقر) رئيس دير(كلوني) الفرنسي، وهو الدير الذي تخرّج منه البابا (أُوربانس الثاني) مؤجّج الحروب الصليبيّة. وكان الموقر هذا يرى في الإسلام خطراً فكريّاً شديداً على المسيحيّة لابد من التعرّف عليه لتمكن مكافحته بغير الوسائل العسكريّة.

راجع ما يلي:

خدابخش، صلاح الدين - (حضارة الإسلام) الترجمة العربيّة: ٤١ - ٤٢. وكذلك سوذرن، ريتشارد. (صورة الإسلام في أوربّا في العصور الوسطى): ٨٠ - ٨٢.

٥٣

جاء على لسان المُستشرق(فرانز روزنتال) بقوله: (وبتعلّم اللغة العربيّة باعتبارها لغة العلوم والفلسفة والفكر آنذاك، وبالاطلاع على القرآن وترجمته إلى اللاتينيّة، بهدفٍ وحيد وهو الوصول إلى فهمٍ عميق للتفكير الديني الكلامي عند المسلمين، أملاً في أنْ يُصبح الرهبان أقدر على التعرّف على هذا التفكير، واستغلال ما كانوا يتصوّرون أنّه مواطن الضعف فيه)(١) .

ب - قيام القساوسة والرهبان الأوربّيون، وكذلك الأسبان بحملةٍ ضخمةٍ لترجمة الفكر والثقافة الإسلاميّة وعطاءاتها الحضاريّة الإنسانيّة، وبذلك تمكّنوا مِن تأسيس أوّل شبكة إيديولوجيّة للاستشراق الغربي، مستهدفين بذلك مقاومة الإسلام ومحاصرته سياسيّاً وفكرياً وعقائديّاً بعيداً عن أيّ هدفٍ علمي منزّه(٢) ، واضعين نصب أعينهم إعادة المجد التليد، والبريق القديم الذي فقدته النصرانيّة هدفاً لهم، مخطّطين لحملاتٍ ضخمةٍ للتنصير، عبر منهجَين متضادَين ومتوازيَين ظاهريّاً: أحدهما علمي يستند إلى البحث والدراسة بقصد المعرفة والكشف، والآخر سياسي تطويقي يهدف إلى تدمير وتصفية الخصم بأيّ وسيلةٍ ممكنة. وبذلك تتوظّف كلّ الجهود العلميّة والسياسيّة لتحقيق الهدف التنصيري.

ويشهد على ذلك قول(رودي بارت) : (كان موقف الغرب المسيحي في العصر الوسيط من الإسلام هو موقف الدفع والمشاحنة فحسب. صحيح أنْ العلماء ورجال اللاهوت في العصر الوسيط كانوا يتّصلون بالمصادر الأُولى في تعرّفهم على الإسلام، وكانوا يتّصلون بها على نطاق كبير، ولكن كلّ محاولةٍ لتقويم هذه

____________________

(١) فوك، يوهان - (المُستشرقون الألمان): ١٥.

(٢) سمايلو فيتش، أحمد - (فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر): ٤٩. وكذلك مقدّمة مصطفى محمود لكتاب سمايلو فيتش: ٣. وكذلك خدابخش، صلاح الدين في (حضارة الإسلام) الترجمة العربيّة: ٣٥.

٥٤

المصادر على نحوٍ موضوعي نوعاً ما كانت تصطدم بحكمٍ سابقٍ يتمثّل في أنّ الدين المعادي للمسيحيّة لا يُمكن أنْ يكون فيه خير)(١) .

ج - ودعماً لهذا المخطّط فقد رافقت تلك الفترة استخدام أبشع وسائل الاضطهاد، وممارسة شتّى أنواع التنكيل بالمسلمين، وارتكاب أفضع جرائم القهر الديني والسياسي بحقّهم، ومحاربتهم نفسيّاً واقتصاديّاً، وصُودرت نتاجاتهم العلميّة والثقافيّة ونُسِبت إلى غيرهم من أعدائهم، وعملت الكنيسة على تأسيس محاكم التفتيش(٢) التي نكّلت بمَن تبقّى من المسلمين الأندلسيّين بعد سقوط الأندلس وغرناطة في أواخر القرن الخامس عشر، وأُعطيت صلاحيّات استثنائيّة واسعة أيّامفرديناند (٣) ،وإيزابيلا (٤) ،وفيليب الثاني (٥) ، وشمِل التقتيل والإحراق

____________________

(١) كراتشقوفسكي، إغناطيوس. (دراسات في تأريخ الأدب العربي) الترجمة العربيّة: ٧٥.

(٢) يُعزى تأسيس محاكم التفتيش إلى البابا(غريغور السابع) عام ١٣٣٣م، عندما أمر بتشكيل لجنة من كلّ قريةٍ أو بلدةٍ يرأسها قسّ، وبعضوية شخصيّتين بارزتين وذلك للتفتيش عن الهراطقة ومحاكمتهم (وقد أطلقت تسمية الهراطقة عند النصارى على أهل البدعة في الدين. والمقصود بهم هنا الذين ينتمون إلى الدين الإسلامي في بلاد النصارى). ثمّ ما لبث أنْ تسلّم المحاكم هذه جماعة الدومنيكان وغيرهم من الرهبان. وجماعة الدومنيكان أو ما يُطلق عليهم: الأُخوة الواعظون: هُم أعضاء الرهبانيّة التي أسّسها القدّيسعبد الأحد لدحض البِدَع عام ١٣٠٦م، وكانوا أرباب التعليم الفلسفي واللاهوتي في القرون الوسطى. دخلوا البلاد الشرقيّة في القرن السابع عشر، أسّسوا كليريكيّة الموصل عام ١٨٨٢م (وهي البيع التي يخدم فيها الشمامسة والقساوسة والأساقفة)، وكانت لهم فيها مطبعة عربيّة شهيرة، ولهم في القدس مدرسة الكتاب المقدّس.

راجع، براندتراند، جون في (تراث الإسلام) الترجمة العربيّة: ٧٠، وكذلك (القاموس (المنجد في الإعلام)).

(٣) فرديناند: ملك أراغون وهو المعروف بالكاثوليكي، ملك قشتالة (١٤٧٤ - ١٥٠٤م) بعد زواجه وإرثه عرش قشتالة من إيزابيل، أخذ غرناطة من العرب (المسلمين) عام ١٤٩٢م ووحد إسبانيا تحت سلطته ونظم إداراتها. وفي عهده اكتشف كريستوفر كولومبس أميركا. عن (القاموس (المنجد في الإعلام)).

(٤) إيزابيلا: (١٤٥١ - ١٥٠٤م) ملّقبة بالكاثوليكيّة وهي ملكة قشتالة التي تزوّجها فرديناند، فتوحّدت بهذا الزواج الدولة الأسبانيّة، وأدّى ذلك إلى سقوط غرناطة عام ١٤٩٢م. عن (القاموس (المنجد في الأعلام)).

(٥) فيليب الثاني: (١٥٢٧ - ١٥٩٨م) ابن كارل الخامس ملك أسبانيا وهولندا (١٥٥٦م). ثمّ ملك = البرتغال عام ١٥٨٠م، ويعتبر عهده أوج السيطرة الأسبانية في أوربّا. عن (القاموس (المنجد في الأعلام)).

٥٥

والذبح جماعةً من المسلمين الذين تنصّروا ظاهراً، وأقاموا على عقيدتهم (الإسلاميّة) وظلّوا يمارسونها في الخفاء. وامتدّت صلاحيّات هذه المؤسّسة التنكيليّة لتنال من مصادر الفكر الإسلامي، وإحراق الكتب، وإتلاف كلّ ما يُؤدّي في نظر الأساقفة إلى إلحاق الضرر بالكنيسة.

وبالرغم من ذلك فقد (بقي المسلمون الذين ظلّوا في أسبانيا بعد استردادها (سقوط الأندلس) يحتفظون بكتبهم، باذلين غاية جهدهم لإخفائها عن أعيُن مكاتب التفتيش. ولمّا اضطرّوا إلى مغادرة وطنهم خبأوا كتبهم في فجوات الجدران، أو دفنوها تحت الأرض في بيوتهم المتروكة. وقد عثر في القرن الأخير مصادفة على عدّة مكتبات منها...)(١) . واستمرّت محاكم التفتيش قائمة في أسبانيا حتّى حلّها نابليون بونابرت عام ١٧٩٢م.

____________________

(١) كراتشقوفسكي، إغناطيوس (دراسات في تأريخ الأدب العربي) الترجمة العربيّة: ٧١ - ٧٢. ويذكر شكيب أرسلان في كتابه (الحلل السندسيّة في الأخبار والآثار الأندلسيّة) المجلد الأوّل: ٢٨٠ - ٣٨٣ الكثير من الأخبار عن صنوف الاضطهاد التي مُورست في حقّ مَن كانت محاكم التفتيش تشكّ بأنّه لا يزال على إسلامه من أهالي طليطلة، ومنها الإحراق بالنار ومصادرة الأملاك والتعزير.. إلخ. وذلك بتهم مثل عدم أكل لحم الخنزير، والامتناع عن شرب الخمرة وغيرها...

٥٦

الاستعراب(١) أولاً ثمّ الاستشراق

نشأت ظاهرة الاستعراب نتيجة للاحتكاك المباشر الذي حصل بين بعض الطوائف المسيحيّة التي كانت تقطن إسبانيا وبين المسلمين العرب فاتحي الأندلس، والذي أدّى بدوره إلى تعميق عُرى التمازج العرقي والتعايش الاجتماعي والاتّصال الثقافي فيما بينهم. وقد أفرزت هذه الحالة ظهور طبقة اجتماعيّة واسعة من المجتمع الأندلسي اندمجت مع أوساط المسلمين، وتشبّهت بهم في سيرتهم وسلوكهم اليومي، وقلّدتهم في إقامة مناسباتهم وشعائرهم الدينيّة، وحتّى في دقائق وجزئيّات أُمورهم الحيويّة فأقدم الكثير منهم على الاختتان وفق مراسم المسلمين، وامتنعوا عن معاقرة الخمر وأكل لحم الخنزير، وغيرها من الممارسات التي كانت مألوفة في المجتمع النصراني. وقد أُطلق على هؤلاء (المُستعربين) الذين كان جُلّهم من أبناء الأندلس القُدماء الذين انحدروا من آباء إسبان، ومن خلال البحث والاستقصاء عن أحوالهم أمكن تصنيفهم إلى صنفين:

الأوّل: ويضم الذين دخلوا الإسلام أثناء الفتح (فتح الأندلس) وحسُن إسلام الكثير منهم، فأقبلوا على دراسة الفكر الإسلامي، وتدرجوا في شتّى العلوم. فكانوا أصحاب التآليف والتصانيف، وصارت لهم مكانة علميّة مرموقة تميّزوا بها

____________________

(١) مصطلح يطلق على الذين صاروا دُخلاء بين العرب، ثمّ سرى استعماله لأُولئك الذين دخلوا الإسلام بعد أنْ تعلموا اللغة العربيّة وتشبّهوا بالمسلمين العرب خاصّة في عاداتهم وتقاليدهم.

٥٧

عمّن سواهم، وظهر فيهم العلماء والأُدباء والقادة العسكريّون، فحازوا إعجاب الحكام المسلمين وأصبح قسمٌ منهم ذوي نفوذ واسع في الحكم (ولكنّهم ظلّوا مع ذلك لا يجدون أنفسهم إلاّ مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة)(١) .

الثاني: كان يضم أُولئك الذين تشبّهوا بالمسلمين ظاهريّاً، ولم يدخل الإيمان في قلوبهم، وكان تأثّرهم سطحيّاً على قاعدة التمثّل بالفاتحين والتشبه بهم. كما يرى ابن خلدون ذلك (المغلوب يتشبّه أبداً بالغالب). وبالرغم من إقبالهم على تعلّم اللغة العربيّة ودراسة آثار المسلمين وأفكارهم، وكذلك إعجابهم بالمنجزات الحضاريّة لهم، وانبهارهم بالطرح الثقافي الإسلامي الجديد. إلاّ أنّ هذا لم يكن ليصرفهم عن عدائهم الشديد للرسالة الدينيّة والإيديولوجيّة الإسلاميّة، ولا ليثنيهم عن رفضهم القومي للسلطة السياسيّة التي يخضعون لها.

ولا سيّما أنّ بعض الحكّام آنذاك كانوا لأغراض سياسيّة يستخدمون أساليب مِن شأنها أنْ تثير روح العصبيّة بين طَبَقات المجتمع الأندلسي، كأنْ يُقرّبوا طائفة على حساب طائفة أُخرى، ممّا يُؤدّي إلى نشوء العداء مع السلطة، وبالتالي محاولة الانتقام أو التقليل من شأن الرسالة والفكر الذي ينتمي إليه هؤلاء الحكّام.

فمثلاً عند اشتداد الروح العصبيّة بين القبائل العربيّة المتنافسة في عهد عبد الرحمان الداخل ويأسه من القضاء عليها وإزالتها، واتّخاذها أُسلوب المواجهة والمنافسة مع الحكم، لجأ إلى تكوين طبقة الأعوان والقادة، وربّاهم بنفسه واستعان بهم على إدارة دفّة الحكم، ونفوذهم ينمو نتيجةً لقربهم من الطبقة الحاكمة حتّى صاروا شركاء للخليفة في الحكم، ثمّ صاروا يدبّرون المؤامرات لإدارة الحكم بأنفسهم(٢) .

____________________

(١) د. إحسان، عبّاس (تأريخ الأدب الأندلسي): ٨٩.

(٢) مجلّة نور الإسلام. العددان ٢٧ - ٢٨ (العصبيّات وآثارها في سقوط الأندلس): ٣٤.

٥٨

وعلى أثر ذلك تولّد الصراع بين العرب والمُستعربين، ولم يكن هذا الصراع سياسيّاً أو عسكريّاً فحسب، بل كان صراعاً يلتمس مبرّراته مِن أُطُر دينيّة، وينعكس على طبيعة التفكير الديني، الأمر الذي نشأ عنه نَمَطَان من التفكير: نمط يتَطرّف في تمجيد العرب دينيّاً، وآخر يتَطرّف في الاتّجاه المضاد.

وليس إلى الشكّ سبيل في أنّ ابتعاد الحكم العربي في الأندلس عن الإسلام، كان له الأثر الكبير في إعطاء الفرصة للمُستعربين كي ينتفضوا ويترجموا رفضهم بشكل حرب اتّخذت أبعاداً مختلفة، حتّى أنّ بعضاً منهم كان له الدور الكبير في إضرام فتنة طليطلة ضدّ قرطبة في بداية عهد الأمير محمّد بن عبد الرحمان التي تمخّضت عن المعارك التي خاضها ابن حفصون ضدّ الحكم العربي الإسلامي سنوات طوالاً بدأت من عام ٢٦٨هـ وانتهت بوفاته عام ٣٠٦هـ.

وصلت قوّة العداء بين الطرفين إلى الحدّ الذي دفع عمر بن حفصون، إلى الارتداد عن الإسلام والعودة إلى النصرانيّة، لكي يستميل النصارى إليه ويعينوه في قتاله ضدّ الحكم العربي، وذلك من خلال عمليّة أراد بها أنْ تكون انتقاماً من هذا الحكم.

وفي هذا الخضمّ المتلاطم مِن الفتن والصراعات والاضطرابات انتعشت الكنيسة، وبرزت الحوافز، وازدهرت الحركات الداعية إلى تقويض أركان الإمارة الأمويّة، واستُُنفرت القُوى المضادّة للإسلام، وارتفعت أصوات الغُلاة من النصارى برُدودِ فعلٍ متباينة، كان منها اندلاع حركة الاستشهاد كما أسلَفنا، وكذلك بُروز دعاوى مواجهة الوجود الإسلامي بأساليبٍ تتعدّى حدود المصادمات العسكريّة والمواجهات الدمويّة، تهدف إلى مقارعة المسلمين عن طريق الفهم العميق لإيديولوجيّتهم، ومعرفة أسباب قوّتهم ومنازلتهم بمناهجهم الفكريّة وقواعدهم الحضاريّة.

٥٩

وكان للمُستعربين الدور الفعلي في الاختراق البشري والثقافي والسياسي للمجتمع الأندلسي، فوظّف فعلهم هذا بقصد أو بدون قصد، في بعض الأحيان، في خضمّ المشروع المعادي للوجود الإسلامي.

وإذا كان الاستشراق علماً يختصّ بلغات الشرق، وبالانجازات الحضاريّة المعبّر عنها بتلك اللغة، وبأديانهم وقيمهم وثقافتهم. وإذا كان قد فتح أمام الغرب والأوربّيين بصورةٍ عامّة أبواب الفكر الإسلامي، وآفاق نظامه الدقيق بهدف فهم الأُطروحة الإسلاميّة، التي غزت العالم وغيّرت الكثير من الثقافات السائدة والنظُم المنحرفة عن الفطرة الإنسانيّة، وتداعت أمامها أغلب النظريّات المتهرّئة، كان لابدّ من استطلاع دواعي هذه الأطروحة بل والمعايشة المباشرة والشاملة للوضع الجديد الذي طرأ على العالم، إزاء التحوّلات الخطيرة التي حصلت بفعل الإسلام والمسلمين.

وعليه فلابدّ للباحث المتتبّع للوقائع التاريخيّة من الاعتقاد بأنّ بِدء تكوّن الاستشراق، قد حدث بعد انتهاء عمليّات الفتح الإسلامي لشبه الجزيرة الأيبيريّة، أي بعد سنة ٧١٥م وبِدء استيطان العرب للمناطق المفتوحة، وأنّ ظاهرة الاستعراب الثقافي والاجتماعي والتشبّه بالفاتحين في عاداتهم وممارساتهم، لا يمكن فصلها عن تطوّر حركة الاستشراق وشروطها، والأوليّات الاجتماعيّة لتكوّنها.

بالإضافة إلى هذا فقد برز طرحٌ آخر كان له الدور الكبير في بلْوَرة الاستشراق، كان أبطاله وأدوات تنفيذه اليهود الذين وجدوا في المسلمين الفاتحين طريقاً للخلاص من الاضطهاد القوطي(١) ، وظلم الكاثوليكيّة. فتعاونوا معهم

____________________

(١) القوط: مجموعة شعوب منهم الشرقيّون ومنهم الغربيّون. والقوط الشرقيّون: استقرّوا أوّلاً في وادي الدانوب الشرقي، ثُمّ غزوا إيطاليا وأسّسوا فيها مملكة في أواخر القرن الخامس الميلادي. قضى عليها بوستينياس عام ٥٥٢م. والقوط الغربيّون: أقاموا غربي الدانوب في القرن الرابع الميلادي واعتنقوا = المسيحيّة الآريوسيّة (وهي بِدعة لدى النصارى، تنسب آريوس إلى الكاهن الاسكندري). احتلّوا روما عام ٤١٠م ثُمّ جلوا عنها ليستقرّوا في جنوب غربي فرنسا. ثمّ إسبانيا حيث أسّسوا مملكة ظلّت قائمة حتّى الفتح الإسلامي عام ٧١١م (القاموس (المنجد في الإعلام)).

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ومصلحة ذلك اليوم مُقدَّمة على كل مصلحة.

وهذا البرهان لا يرد في واقعة إرسال النفس الزكية؛ لأنَّ مصلحة الظهور واليوم الموعود نفسه أصبحت مُتوقِّفة على انكشاف الغيبة بالنسبة إلى هذا الشخص، وتعرُّفه على حقيقة المهدي (ع)، بغضِّ النظر عن الأجوبة الآتية؛ فيكون مُقتضى تقديم مصلحة هو هذا الانكشاف لا الغيبة.

الجواب الثاني: أنَّنا قلنا في التاريخ السابق(١) أيضاً: إنَّ كل ناجح نجاحاً تامَّاً في التمحيص الإلهي، بحيث يكون مؤهَّلاً للمشاركة في مهامِّ عصر الظهور، يكون في إمكانه رؤية المهدي (ع) خلال عصر غيبته؛ إذ لا يحتمل أن يكون مورد خطر بالنسبة إليه، وقد دلَّت كثير من الروايات وعدد من أخبار المشاهدة، بأنَّ المجتمعين به (ع) في عصر الغيبة مُتعدِّدون، ممَّن يعرف هويَّته وصفته، وأنَّه يجمع إليه أنصارُه ممَّن بلغ في التمحيص غايته، ونجح فيه النجاح المطلوب، وإنَّ في ذلك من المصالح التي تمتُّ إلى مُمارسة هؤلاء للقيادة في اليوم الموعود، ما لا يخفى.

ويبدو من سياق الرواية التي تُعرِب عن إرسال النفس الزكية، أنَّ هذا الرجل إنَّما هو من هؤلاء الخاصة الذين يجمعهم المهدي (ع) ويُعرِّفهم بحقيقته؛ ومن هنا لا يكون في اطِّلاع النفس الزكية على حقيقة الإمام المهدي (ع) أي إشكال.

وينبغي أن نُلاحِظ هنا: أنَّ النفس الزكية حتى لو كان مُطَّلعاً على حقيقة المهدي (ع) حين إرساله، فإنَّه ليس من الضروري أن يُسمِّيه في خطبته، بل قد يذكر العنوان المـُعلَن للمهدي (ع)، ويتجنَّب ذكر الحقيقة بالرغم من معرفته لها، تبعاً لأمر إمامه وقائده (ع).

الجواب الثالث: أن ننطلق من الزاوية التي تصوَّرنا بها تعرُّف السفياني، على تحرُّكات الإمام المهدي (ع)، وهي اطِّلاعه عليه بعنوانه المـُعلَن لا بحقيقته.

فمن المـُحتمَل أن لا يكون (النفس الزكية) مُطَّلعاً على حقيقة الإمام المهدي (ع) الذي أرسله... بل يذهب لتبليغ الرسالة، وهو لا يعلم أكثر من كونها صادرة عن (فلان) الذي يُسمِّيه في خطبته، وهذا كافٍ في إقامة الحجَّة على الناس.

____________________

(١) ص١٥٠ وما بعدها.

١٨١

كما أنَّه كافٍ لتفسير مقتله؛ إذ لا دليل على أنَّهم يقتلونه باعتبار رسالته عن المهدي (ع) بالذات، بل باعتبار مضمون خُطبته، وقد يكون المهدي بعنوانه العلني مبغوضاً لديهم أيضاً، فينزعجون من تجاوب (النفس الزكية) معه، وقبوله لتحمُّل رسالته.

الاعتراض الثالث: إنَّ هذا التسلسل التاريخي الذي عرفناه في ( الفهم العام) مُنافٍ مع ما برهنَّا عليه، من أنَّ شرائط الظهور هي الحُكم الفصل في إنجازه عند تحقُّقها، وهذه الأخبار تدلُّ على أنَّ سبب الظهور هو تهديد السفياني للمهدي (ع) بالقتل، وقتل النفس الزكية فأيُّهم نأخذ؟

والجواب: إنَّ كلا الفكرتين صادقتان، وكلا السببين سبب صحيح في نفسه، وليس مقتل النفس الزكية وتهديد المهدي (ع) إلاَّ نتيجة من نتائج شرائط الظهور.

فإنَّ التخطيط العام السابق على الظهور، بما له من خصائص وصفات، عرفناها في التاريخ السابق، مُنتِجٌ لعدَّة نتائج يُهمُّنا الآن منها اثنتان:

النتيجة الأُولى: وجود العدد الكافي من الأفراد المـُخلصين المـُمحَّصين، لغزو العالم بالعدل بين يدي المهدي (ع)، وهذا هو الشرط الأخير المـُتبقِّي من شرائط اليوم الموعود الثلاثة التي عرفناها في التاريخ السابق(١) ، وبُمجرَّد نجازه يتمُّ الظهور ويُنجَز اليوم الموعود.

النتيجة الثانية: تطرُّف العدد الأكبر من أفراد المسلمين - فضلاً عن غيرهم - إلى جانب الانحراف والضلال، وأخذهم بالأفكار اللا إسلامية، وعصيانهم أحكام الإسلام.

وكلَّما ازداد الزمان، ازدادت نتائج التمحيص تركيزاً... وحصلت كلتا النتيجتين بشكل أوسع وأوضح، فيتكاثر في أحد الجانبين قوى الحق والإخلاص، ويتكاثر في الجانب الآخر انحراف المـُنحرفين وظلم الظالمين، على مُختلف المستويات الاجتماعية.

حتى يُصبح جانب الانحراف والفساد في المجتمع عاصياً لأوضح أحكام الإسلام، ومُنكِراً لضروريَّات الدين، ومُهدِّداً لحُرمات الشريعة من أجل مصالحه وشهواته... الأمر الذي يُنتج أفظع النتائج لدى احتكاك اجتماعي بين الجانبين.

ومعه تكون كلتا النتيجتين اللتين سمعناهما من الأخبار، طبيعية وواضحة، فموقف

____________________

(١) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص٤٧٥ وما بعدها إلى عدَّة صفحات.

١٨٢

المهدي (ع) من السفياني سوف لن يكون إلاَّ الشجب والاستنكار، في حدود المقدار الممكن له حال غيبته... الأمر الذي يولِّد ردَّ الفعل لدى السفياني، بإرسال الجيش وتهديده بالقتل، وأمَّا موقف النفس الزكية فواضح من خُطبته، وإن هو إلاَّ صورة أُخرى من صور الشجب والاستنكار، وسيكون ردُّ الفعل هو قتله من داخل بيت الله الحرام.

وستكون ردود الفعل هذه مُتطرِّفة إلى درجة إهدارها للأحكام الضرورية في الدين، الأمر الذي يكشف عن تمخُّض التخطيط والتمحيص الإلهيَّين عن نتائجهما المطلوبة... فيكون موعد اليوم الموعود قد تحقَّق.

الاعتراض الرابع: أنَّه قد يخطر في الذهن، أنَّ المـُستفاد من سباق الأخبار، أنَّ سبب الظهور هو إثارة غضب المهدي (ع) من الحادثتين المـُشار إليهما، وهذا غير صحيح، بعد أن قامت الضرورة القطعية لدى كل مؤمن بالمهدي كونه مذخوراً لإصلاح العالم برمَّته، وأنَّه ممَّن لا تُهمُّه مصالحه الشخصية على الإطلاق، فكيف يصحُّ أن يكون ظهوره ثأراً لهاتين الحادثتين؟!

والجواب على ذلك واضح ممَّا سبق، وواضح في ضمير كل مؤمن بعد وجود الضرورة القطعية المـُشار إليها:

إنَّ هاتين الحادثتين ستُغضبان الله تعالى، لا المهدي وحده... بما يستبطنان من إهدار لضروريات الدين، ولكنَّ الظهور سوف لن يكون ثأراً لأيٍّ منهما... فإنَّ مُهمَّة المهدي (ع) الموعود أوسع وأعمق من هذا المجال الضيِّق، بالرغم من أهمِّيَّته، كلَّما في الأمر أنَّ ظهوره سيكون قريباً منهما زماناً، باعتبار تحقُّق شرائط الظهور، وليس لهاتين الحادثتين من صلة بالظهور، إلاَّ ما قلناه من الكشف عن تحقُّق الشرائط، إلى جانب جعلها علامة عليه في الأخبار... الأمر الذي يُنبِّه المـُخلصين المـُمحَّصين إلى قُرب الظهور.

وهذا - في واقعه - يُمثِّل إحدى الفروق الجوهرية بين شرائط الظهور وعلاماته، تلك الفروق التي أنهيناها في التاريخ السابق(١) إلى سبعة.

الناحية الرابعة: في مُحاولة تمحيص تلك الأخبار التي ذكرناها في الناحية الأُولى، من حيث قابليّتها للإثبات التاريخي وعدمه.

وفي هذا الصدد نواجه عدَّة نقاط:

النقطة الأُولى: أنَّها روايات قليلة وغير مُستفيضة، بخلاف ما جاء في السفياني

____________________

(١) انظر ص٤٧٠ وما بعدها إلى عدَّة صفحات

١٨٣

أو الدجَّال، فإنَّه كثير، منها ما ذكرناه، ومنها ما تركناه.

إلاَّ أنَّ هذه النقطة غير مُضرَّة، تمشِّياً مع ميزان الإثبات التاريخي الذي سرنا عليه... لو كانت الروايات مُتَّفقة في المضمون، أو كان بعضها موثوقاً سنداً... ولم نكن نتوخَّى في الإثبات حصول الاستفاضة في الأخبار.

وقد يخطر في الذهن: أنَّ أخبار (النفس الزكيَّة) الموعودة، كثيرة العدد، ومُستفيضة، كما هو معلوم لمَن استعرضها... وليست قليلة كما قلناه.

والحق: أنَّنا إذا نظرنا إلى مجموع أخبار (النفس الزكيَّة)، بما فيها من الأخبار الدالَّة على أنَّ مقتل النفس الزكية من المحتوم، وأنَّه من علامات القائم، كانت الأخبار مُستفيضة حتماً.

إلاَّ أنَّ هذا المجموع، لا يُثبت إلاَّ مقتل النفس الزكية إجمالاً، وهذا لا يُفيدنا في صدد كلامنا الحاضر، لاحتمال انطباقها على محمد بن عبد الله الحسني، المـُلقَّب بالنفس الزكية، وأمَّا الأخبار التي تتحدَّث عن التفاصيل، والتي تُوضِّح أنَّ هناك شخصاً آخر بهذا اللقب سوف يُقتل في المستقبل، وهي ما سمعناه في أول الفصل، فليس مُستفيضاً، وإن لم يكن عدم الاستفاضة مُضرَّاً، كما أشرنا.

النقطة الثانية: إنَّ في هذه الأخبار عدداً من جوانب الضعف:

الجانب الأول: ما كان رواية عن غير المعصوم، كالخبر الذي نقله الشيخ، عن سفيان ابن إبراهيم الحريري عن أبيه... وكلام الصافي في مُنتخب الأخبار.

الجانب الثاني: ما كان مُرسلاً، بدون ذكر أيِّ راوٍ على الإطلاق، كخبر الإرشاد، وخبر الخرايج والجرايح.

الجانب الثالث: ما كان مرفوعاً مع وجود جزء من السند، أعني بعض الرواة وجهالة الباقي، وهو رواية البحار المـُتضمِّنة لخُطبة النفس الزكية... حيث رواها المجلسي عن السيد علي بن عبد الحميد، بإسناده إلى أحمد بن محمد الأيادي، يرفعه إلى أبي بصير عن أبي جعفر ( عليه السلام ).

الجانب الرابع: ما كان قاصراً في دلالته أساساً على ما فهمناه، مثل خبر الإرشاد الذي يذكر من العلامات: ذبح رجل هاشمي بين الركن والمقام، فإنَّه لا يتعيَّن أن يكون هو النفس الزكية، المـُسمَّى بمحمد بن الحسن في الأخبار الأُخرى، وإن كان المظنون هو ذلك، لاستبعاد أن يُقتَل قبل الظهور بين الركن والمقام شخصان... مع قدسيَّة بيت الله

١٨٤

الحرام لدى المسلمين ووضوح حُرمته.

وكذلك الخبر الثاني للبحار، فإنَّه يُصرِّح باسم النفس الزكية، وإنَّما قال:فيبتدر الحسني إلى الخروج. وهو أيضاً غير مُتعيِّن الانطباق عليه.

الجانب الخامس: وجود التعارض في دلالات بعض هذه الأخبار.

فلو حاولنا أن نعرف أنَّ النفس الزكيَّة هل هو مُرسل من قِبَل المهدي (ع) أو لا؟

نجد أنَّ الخبر المـُطوَّل الذي نقلناه عن البحار، يُصرِّح بالإيجاب، ونجد الخبر الثاني ينفيه بقوله:فيبتدر الحسني للخروج. وهو واضح في عدم استئذانه من المهدي (ع)، فضلاً عن تحمُّل الرسالة عنه، مع افتراض أنَّه هو النفس الزكية والغضِّ عما سبق.

النقطة الثالثة: وفي هذه الأخبار بعض جوانب القوَّة، وإن لم تكن تعدل جميع جوانب الضعف السابقة.

الجانب الأول: إنَّ الخبر القائل: ( ليس بين القائم وبين قتل النفس الزكيَّة إلاَّ خمس عشرة ليلة )، خبر موثوق قابل للإثبات التاريخي، بحسب منهج هذا الكتاب.

فقد رواه الشيخ المفيد في الإرشاد(١) ، عن ثعلبة بن ميمون، عن شعيب الحداد، عن صالح بن ميثم (الجمَّال)، قال: سمعت أبا جعفر ( عليه السلام ).

وكل هؤلاء الرجال موثقون أجلاَّء، وكان بودِّي أن أُشير إلى تصريحات العلماء لولا أنَّه يطول به المقام، فنوكله إلى القارئ الباحث.

ورواه الشيخ الطوسي في الغيبة(٢) ، عن الفضل بن شاذان، عن الحسن بن علي بن فضَّال، عن ثعلبة إلى آخر السند. وكلاهما من العلماء الثقات.

وعليه؛ فما ذكرناه في التاريخ السابق(٣) من المـُناقشة في سند هذا الحديث مبنيٌّ على التشدُّد السندي الذي التزمناه هناك... وقد رفعنا اليد عن الالتزام به هنا.

الجانب الثاني: أنَّ الخبر الثاني الذي نقله عن البحار موثوق أيضاً، فقد نقله(٤) عن الكافي

____________________

(١) ص٣٣٩.

(٢) ص٢٧١.

(٣) ص٦١٣.

(٤) ص١٧٨.

١٨٥

لثقة الإسلام الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن يعقوب السراج، عن الإمام أبي عبد الله الصادق ( عليه السلام ) وكلُّهم ثقات أجلاَّء.

الجانب الثالث: أنَّنا يمكن أن نستفيد من مجموع هذه الأخبار، ومن كلمات مَن سمعنا تصريحاتهم، كالراوندي، والصافي، وإبراهيم الحريري، الذين اعتبروا الأمر في عداد المـُسلَّمات، فنستفيد وجود التسالم أو الشهرة الواسعة على أنَّ مقتل النفس الزكية يكون قبل الظهور بقليل بين الركن والمقام، وأنَّه غير مقتل الثائر الحسني المـُلقَّب بهذا اللقب.

غير أنَّ هذا الجانب لا يخلو من المناقشة:

أولاً: لأنَّه لم يثبت وجود شهُرة وتسالم أوسع من الأخبار الموجودة، لتكون قرينة عليها، وكلمات الراوندي والصافي وغيرهما قد تكون اعتماداً على هذه الأخبار فقط.

ثانياً: إنَّ الشهرة - لو ثبتت - تدفع احتمال انطباق مقتل النفس الزكية على الثائر الحسني السابق، إلاَّ أنَّها لا تُثبت كل الخصائص المطلوبة، ككونه رسول المهدي (ع) إلى الناس وخُطبته فيهم، ويكون سبب مقتله بين الركن والمقام مجهولاً.

غير أنَّ الأخذ بهذا الجانب الثالث قريب من النفس، وإن لم يصل إلى درجات الإثبات التاريخي.

فهذه هي النُّخبة من الحوادث الاجتماعية المرويَّة، لما قبل الظهور، وهناك أُمور مُتفرِّقة مرويَّة أيضاً أعرضنا عنها؛ لقصورها عن الإثبات التاريخي، فيكون الدخول في تفاصيلها تطويلاً بلا طائل.

كما أنَّ هناك تفاصيل في تحديد الوضع العالمي قبل الظهور، ممَّا يمتُّ إلى إيجاد الظرف المـُناسب للنصر بعد الظهور بصِلَةٍ، وهي تفاصيل مُهمَّة، سنعرض إلى مُحتملاتها والاستدلال عليها في القسم الثاني الآتي عند عرض ضمانات النصر للمهدي (عليه السلام).

١٨٦

القسم الثاني

حوادث الظهور وإقامة الدولة العالمية

إلى وفاة المهدي عليه السلام

وتندرج في هذا القسم عدَّة أبواب

١٨٧

١٨٨

الباب الاول

في معنى الظهور وكيفيته وما يليه من الحوادث

إلى حين مسير الامام المهدي (عج) إلى العراق

ويتم الكلام في ذلك ضمن عدة فصول

١٨٩

١٩٠

تمهيد

حين يُنتج التخطيط الإلهي العام لعصر الغيبة نتيجته، ويتمخَّض عن وجود العدد الكافي لغزو العالم بالحق والعدل، يترتَّب على ذلك نتيجتان كبيرتان:

النتيجة الأُولى: إمكان الحفاظ على حياة الإمام المهدي (عج) بالطريق الطبيعي الاعتيادي، بالرغم من معروفيَّته وانكشاف حقيقته للناس، وذلك لوجود العدد الكافي من الأفراد الذين يُمكنهم بإخلاص أن يذودوا الأخطار بعون الله عزَّ وجلَّ عن إمامهم وقائدهم العظيم.

وبذلك ترتفع الحاجة إلى الغيبة بكلا شكليها: الإعجازي والطبيعي، أعني ( أُطروحة خفاء الشخص ) الإعجازية، و( أُطروحة خفاء العنوان ) الطبيعية، ومع ارتفاع الحاجة إلى الغيبة، لا معنى لاستمرارها.

بل سيكون استمرارها مانعاً عن تحقيق الغرض الإلهي المطلوب في اليوم الموعود؛ ومن هنا تكون مُحرَّمة على الإمام المهدي (عج)... باعتبار أنَّه يجب عليه بحُكم الله عزَّ وجلَّ تنفيذ ذلك الغرض الذي ذُخِر من أجله، وقد أصبح بعد نجاز التخطيط مُمكناً.

فكل ما يكون مانعاً عنه أو حائلاً عن تنفيذ، ممَّا يعود إلى عمله الشخصي واختياره، يكون مُحرَّماً عليه.

النتيجة الثانية: إمكان الفتح العالمي بالحق والعدل، بهذا العدد الكافي المـُهيّأ لهذه المـُهمَّة، وهو ما لم يتوفَّر لأحد من الأنبياء والأولياء، والعظماء والمصلحين السابقين عليه (ع)، وإنَّما شارك كل واحد منهم بقسط من الأعداد طبقاً للتخطيط العام، وبقيت النتيجة مؤجَّلة ومنوطة بالمهدي (عج)، عندما يتمخَّض هذا التخطيط عن نتائجه.

وإذ يكون الفتح العالمي بهذا العدد المـُتوفِّر مُمكناً، ويكون واجباً لا محالة طبقاً

١٩١

للتكليف الإسلامي في كل زمان ومكان، والمتكوِّن من أمرين:

الأمر الأول: أنَّ الفتح الإسلامي لأيِّ مقدار ممكن من الأرض المسكونة، واجب... طبقاً لمفاهيم وأحكام الجهاد المنصوصة في الكتاب والسنَّة، فإذا كان الفتح لمجموع الكرة الأرضية ممكناً كان واجباً لا محالة.

الأمر الثاني: إنَّ امتثال كل تكليف في الإسلام، بما فيه وجوب الفتح الإسلامي منوط في الشريعة بإمكان حصوله وتوفُّر مُقدِّماته... فمتى كان المـُكلَّف قادراً على امتثال التكليف - أيَّاً كان - وجب عليه، وكان مُعاتَباً ومُعاقبَاً على تركه، وإذا كان الفرد عاجزاً عن الامتثال؛ باعتبار قصوره أو قصور فيه أو في الظروف المـُحيطة به، كان التكليف ساقطاً عن الذمَّة؛ لأنَّ الله لا يُكلِّف نفساً إلاَّ وسعها، وليس معنى عدم وجود التكليف في الشريعة، وإنَّما معناه إناطته بحال القُدرة والاستطاعة.

إذا عرفنا ذلك، استطعنا أن نُشخِّص بوضوح أنَّ النبي (ص) والأئمة المعصومين الماضين (ع)، حيث لم يكن لديهم العدد الكافي من الأفراد لغزو العالم بالعدل، كان التكليف به ساقطاً عنهم؛ لأنَّ الغزو في تلك الظروف التي عاشوها لم يكن مُمكناً إلاَّ بالمـُعجزة، وهو ما لم تَقُمْ الدعوة الإلهية على اتِّخاذه على طول التاريخ... بل كان يقتصر كل منهم على المقدار الممكن له من الأعمال المؤثِّرة في إقامة الحق.

وقد كان للنبي (ص) عدداً كافياً لفتح منطقة من الأرض، فكان يجب عليه المـُبادرة إلى ذلك، وقد كان (ص) على مستوى المسؤولية فأدَّى تكليفه على أحسن وجه، وبذلك انتشر الإسلام.

ثمَّ إنَّ الله عزَّ وجلَّ خطَّط خلال عصر الغيبة - كما عرفنا - لوجود العدد الكافي من المـُخلصين لغزو العالم... وإنَّ التكليف بذلك عند نجاز هذا الشرط، وسيكون هذا التكليف مُتوجِّهاً إلى الإمام المهدي (عج)، وسيكون هو على مستوى المسؤولية، وفي أعلى مراتب الحِكمة وأفضل أشكال القيادة... بعد الذي عرفناه من آثار طول الغيبة في ترسيخ وتعميق القيادة لديه.

وعلى أيِّ حال، فسيكون الظهور والقيام بالسيف أو التحرُّك العسكري من قِبَل الإمام المهدي، عند نجاز التخطيط، مُتعيِّناً لازماً، بحسب الوعد الإلهي في القرآن الكريم، والغرض الأسمى من خلق البشرية، وبحسب التكليف الإسلامي للإمام المهدي نفسه.

وليس الإمام وحده مُكلَّفاً، بل مع تحقيق الإمكان، تكون كل البشرية مُكلَّفة

١٩٢

بذلك، كل ما في الأمر، أنَّ مَن يكون على مستوى المسؤولية الكاملة لإطاعة هذا الحُكم وتنفيذه، هو الإمام المهدي (ع) وأصحابه... دون الكفَّار والمـُنحرفين الذين يكون العدل مُنافياً لمصالحهم الشخصية.

ومن هنا أيضاً؛ كان من اللازم على كل فرد التجاوب مع ثورة المهدي (ع) بأقصى إمكانه، فإن استطاع الجهاد العسكري وجب، وإلاَّ فعليه التجاوب مع مفاهيمه وقوانينه وتطبيقها تطبيقاً دقيقاً.

١٩٣

١٩٤

الفصل الأول

في معنى الظهور وكيفيَّته

وأُسلوب معرفة المهدي (ع) للوقت الملائم

للظهور معنيان مُقترنان يصدقان معاً بالنسبة إلى المهدي (ع)، طبقاً للفهم الإمامي، ويصدق أحدهما طبقاً للفهم الآخر، وله معنى ثالث لا يصدق إلاَّ في زمن مُتأخِّر نسبيَّاً.

المعنى الأول: أن يُراد من الظهور: البروز والانكشاف بعد الاحتجاب والاستتار.

وهذا ما يحصل فعلاً بالنسبة إلى الإمام المهدي (ع)، عند تعرُّف الناس إليه بعد غيبته واستتاره، وهو خاص بالفهم الإمامي الذي يرى حصول الغيبة.

المعنى الثاني: أن يُراد بالظهور: إعلان الثورة (في منطق العصر الحاضر)، أو القيام بالسيف (في منطق العصر القديم).

وهو صادق بالنسبة إلى المهدي (ع) على كلا الفهمين الإمامي وغيره؛ لوضوح كونه عليه السلام الثائر الأكبر ضدَّ الظلم والطغيان، والتخلُّف على وجه الأرض.

ومن هنا نعرف؛ أنَّ كلا المعنيين صادقان من زاوية (إمامية)؛ إذ نجد الإمام المهدي (ع) يظهر بعد الاستتار، ثائراً على الظلم والطغيان.

المعنى الثالث: أن يُراد الظهور: الانتصار والسيطرة، يُقال: ظهر عليه. إذا انتصر ضدَّه وسيطر عليه. وهذا المعنى يصدق عند استتباب الأمر للمهدي (ع) على العالم كلِّه، وهو غير ما نُريده من كلمة الظهور.

إذن؛ فينحصر معنى الظهور في لحظاته الأُولى، بالمعنيين الأوَّلين.

ونحن حين ننظر إلى الظهور مُقابلاً للغيبة والاحتجاب، نحتاج إلى التساؤل عن كيفيَّته وطريقة تحقُّقه، كما أنَّنا حين ننظر إلى الظهور بوصفه ثورة عالمية وتنفيذاً لليوم الموعود، نحتاج إلى التساؤل في أُسلوب معرفة الإمام المهدي (ع) للوقت الملائم له،

١٩٥

وطريقة اطِّلاعه على تمخُّض التخطيط الإلهي عن نتائجه.

فباعتبار هذين التساؤلين، ينبغي أن نتكلَّم في جهتين:

الجهة الأُولى: في كيفيَّة الظهور بعد الغيبة.

وإذا نظرنا إلى الظهور من هذه الزاوية، نجد أنَّ له معنيين مُقترنين، عملي ونظري يصدقان معاً:

المعنى الأول: وهو المعنى العملي... وهو أن يرى الناس الإمام المهدي (ع) في أول ظهوره، فيُعرِّفهم بنفسه، ويكشف لهم عن صفته الحقيقية، ويُطالبهم بنصره ومؤازرته، وهذا ما سنعرف تفاصيله في هذا القسم من التاريخ.

المعنى الثاني: وهو المعنى النظري... ويتلخَّص بارتفاع الغيبة التي كان عليه السلام قد اتَّخذها مسلكاً لنفسه، طبقاً للتخطيط الإلهي... سواء كان معنى الغيبة هو ( أُطروحة خفاء الشخص ) أم ( أُطروحة خفاء العنوان )، اللذين شرحناهما في التاريخ السابق، فيكون شخصه مكشوفاً وعنوانه معروفاً... تقديماً لإنجاز مهامِّه العالمية، المـُتوقَّعة منه منذ الآن.

فإن صحَّت ( أُطروحة خفاء الشخص ) الإعجازية، كان معنى الظهور ارتفاع المعجزة عنه، وانكشاف جسمه للناس، مُضافاً على ضرورة تعريفه إيَّاهم بنفسه وإطلاعهم على حقيقته، فإنَّ هذه المعجزة إنَّما كانت سارية المفعول في إخفائه لأجل حفظه من الأعداء والطوارئ؛ ليتولَّى القيادة الكبرى في اليوم الموعود، فإذا حلَّ اليوم الموعود، واجتمعت شرائطه، لم يكن لبقاء ذلك الاختفاء من موضوع.

وإن صحَّت ( أُطروحة خفاء العنوان ) التي هي طريق لحفظ الإمام، يُغني عن الطريق الإعجازي، إلاَّ في أوقات الخطر، كما سبق أن ذهبنا إليه في التاريخ السابق... وكل ما في الأمر أنَّه عليه السلام يعيش ( بشخصيَّة ثانوية )، مُتكوِّنة من اسم مُستعار، وعمل مُعيَّن وأُسلوب في الحياة غير مُلفت للنظر، ولا يمتُّ إلى الإمامة والقيادة بصِلَةٍ.

ومُقتضى هذه الأُطروحة، أنَّه ليس هناك أيُّ إعجاز في الاختفاء ليحتاج إلى زواله، بل يكفي في الظهور: أن يُبدِّل المهدي (ع) شخصيَّته الثانوية بشخصيّته الحقيقية، ويُعرِّف الناس بصراحة بصفته الواقعية، ويُقيم الحجّة على ذلك، بالأُسلوب الذي سوف يأتي.

فيثبت باليقين على أنَّ هذا الشخص الذي كان يُسمَّى بفلان ويعمل كيت، إنَّما هو المهدي الموعود، وقد باشر من الآن مُهمَّاته الكبرى.

١٩٦

ويؤيِّد ذلك من الأخبار ما رأيته في بعض المصادر التي لا تحضرني الآن، من أنَّه ( عليه السلام ) حين يظهر، يقول عدد من الناس: إنَّنا كنَّا رأينا هذا الشخص قبل هذا.

أقول: وهو أيضاً من الأخبار الصريحة في نفي الأُطروحة.

وهنا ينبغي أن نتذكَّر ما عرضناه من أُسلوب تعرُّف (السفياني) على تحرُّكات المهدي (ع)، ومُطاردته له في عصر غيبته... فإنَّه ممَّا لا موضوع له مع صدق الأُطروحة الأُولى، فتكون كل الأخبار الدالّة على ذلك دالَّة على صدق الأُطروحة الثانية.

ومعه؛ فإتماماً للفهم العام السابق، نفهم أنَّ هذا الشخص الذي كان السفياني يُطارده، وقد حصل الخسف من أجله، ولم يؤثِّر موقف (النفس الزكية) في ترجيح كفَّة الميزان الاجتماعية إلى جهته، إنَّ هذا الشخص سوف يذهب إلى المسجد الحرام، فيُعلن عن شخصيَّته الحقيقية، ويطلب من الناس نُصرته والفداء في سبيل أهدافه، ضدَّ السفياني وغير السفياني من الطُّغاة الظالمين.

الجهة الثانية: في أُسلوب معرفة الإمام المهدي (ع) بالوقت المـُناسب للظهور، ذلك الوقت الذي يكون التخطيط الإلهي قد أنتج به نتائجه الكبرى.

والسؤال عن ذلك ينبغي أن يتوجَّه تارةً إلى الفهم غير الإمامي للمهدي، وأُخرى إلى الفهم الإمامي عنه.

أمَّا طبقاً للفهم غير الإمامي، وهو أنَّ المهدي رجل يولَد في عصره، فيوفَّق للثورة العالمية، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما مُلئت ظُلماً وجوراً.

فطبقاً لذلك؛ لا نكاد نحسُّ بالحاجة إلى السؤال، إذ يكون شأن المهدي شأن أيِّ قائد آخر تتوفَّر له الظروف الموضوعية للثورة، ويُدرِك إمكان نجاح حركته، كما يُدرك أيُّ قائد ذلك لنفسه، وإنَّما يبقى الفرق بينه وبين سائر القادة، بأمرين:

الأمر الأول: أنَّه بينما يُفسِّر سائر القادة الأوضاع الاجتماعية من زواياهم الشخصيَّة، وينظرون الظروف والفرص من مُنظار مصالهم الخاصة، فإنَّ المهدي ينظر إلى ذلك من زاوية مصالح الإسلام الذي هو ( الأُطروحة العادلة الكاملة )، الذي يُخرج البشر من الظلمات إلى النور والحق والعدل.

الأمر الثاني: أنَّه يتلقَّى الإلهام من الله عز وجل، ويكون مؤيَّداً ومُسدَّداً من

١٩٧

عنده كما يذهب إليه أبن عربي في الفتوحات المكِّيَّة(١) وغيره، وإن لم نجد دليلاً واضحاً على ذلك من المصادر العامَّة، ممَّا اضطرَّ ابن عربي أن ينسبه إلى ( الكشف الصحيح ) دون الكتاب الكريم والسنَّة الشريفة.

ونحن ذهبنا في التاريخ السابق(٢) إلى صحَّة ثبوت الإلهام للمهدي... لكنَّ ذلك باعتبار الفهم الإمامي، وإما طبقاً للفهم الآخر، فيكاد أن يكون إثباته مُتعذِّراً.

وأمَّا التعرُّف على إنتاج التخطيط الإلهي لشرائط الظهور، فيكون هذا موكولاً إلى الله تعالى وحده؛ ومن هنا سيُقدَّر ميلاد المهدي في الزمان الذي يكون نُضجه الكامل شخصياً مُساوقاً ومُعاصراً مع إنتاج التخطيط واجتماع الشرائط، فإذا حان الوقت، فسيعرف المهدي بفطنته وجود الفرصة المؤاتية والعدد الكافي من الأفراد لغزو العالم مُتوفِّراً، فيصدع بمُهمَّته الكبرى.

وأمَّا لو أخذنا بالفهم الإمامي، فسيكون هذا السؤال وجيهاً... باعتبار أنَّ أيَّام الغيبة مُتساوية النسبة بالنظر السطحي، تجاه موعد الظهور، فلا يكون في بعض الأيام أوْلى من بعض لإنجاز ذلك، ما لم يحصل هناك علم إضافي أو انتباه خاص حول الموضوع.

وهذا العلم لا شكَّ في أنَّه سيحصل للإمام الغائب (ع)، فإنَّ الله عزَّ وجلَّ بحكمته الأزليَّة وتخطيطه العام سيُمكِّن المهدي (ع) من العلم بموعد ظهوره؛ لتوقُّف نجاحه عليه، وتوقُّف تنفيذ الوعد الحق والغرض الأسمى على الظهور، فيتوقَّف ذلك الغرض على العلم بحلول الموعد، فيكون علمه عليه السلام ضرورياً بالبرهان.

وإنَّما ينفتح السؤال عن أُسلوب علمه ذلك، وأنَّه هل هو بطريق إعجازي أو طبيعي؟ وهو ما أجابت عليه جملة من الأخبار الخاصة، فتحصَّلت عندنا عدَّة أُطروحات في مقام الجواب على ذلك... وقد لا تكون مُتنافية فيما بينها، بل في الإمكان صدقها جميعاً لو صحّت بالدليل عليها، وتمّ عليها الإثبات التاريخي:

الأُطروحة الأُولى: أن يكون علم المهدي (ع) بموعد ظهوره وثورته، بنحو الرواية عن آبائه المعصومين، عن جدِّه الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله.

وتُتصوَّر هذه الرواية على أشكال، تكون كل واحدة في واقعها منها أُطروحة مُستقلَّة:

____________________

(١) ج٣ ص٣٢٧وما بعدها.

(٢) ص٥٠٥ وما بعدها.

١٩٨

الشكل الأول: أن يُحدَّد له الزمان في تاريخ مُعيَّن، في ساعة من يوم من شهر من عام بعينه... يكون معلوماً عنده مجهولاً عندنا.

الشكل الثاني: أن تُحدَّد له حادثة مُعيَّنة أو عدَّة حوادث، تكون مُعاصرة للموعد المطلوب في حكمة الله عزَّ وجلَّ وتخطيطه، كمقتل النفس الزكية أو الخسف أو أيِّ شيء آخر.

الشكل الثالث: أن يوصَف له جيل مُعيَّن، بأسماء أشخاصه وأعمالهم، أو أحد منهم، أو أكثر، ويكون الموعد نقطة مُعيَّنة من عمر ذلك الجيل.

إلى غير ذلك من الأشكال... كلُّها مُمكنة ومُحتملة، إلاَّ أنَّه لم يدلَّ عليها نصٌّ مُعيَّن في القرآن الكريم ولا السنَّة الشريفة، بحسب تتبُّعنا، غير أنَّ توقُّع وجود نصٍّ على ذلك ممَّا لا معنى له؛ لأنَّ النصَّ لا يرد إلاَّ فيما أُريد إبلاغه إلى الآخرين، إلى الناس، وأمَّا ما كان خاصَّاً بشخص المهدي (ع) فلا معنى لوروده في دليل عام، أعني واسع الانتشار، ومعه فتبقى هذه الأُطروحة ذات احتمال مُحتَرم.

وهذا هو أحد الفروق الرئيسية التي تمتاز بها الأُطروحة الإمامية عن غيرها؛ إذ لا يُتصوَّر بمن يوجد مُتأخِّراً عن صدر الإسلام، أن يتحمَّل مثل هذه الرواية، دون أن تشتهر وتتناقلها الألسن.

الأطروحة الثانية: أن يكون علم الإمام المهدي (ع) بموعد ظهوره إعجازيَّاً، بمعنى أنَّه يحين الموعد الذي يراه الله عزَّ وجلَّ صالحاً للظهور وانتصار الثورة العالمية، فإنَّه عزَّ وجلَّ يُحقِّق أمام الإمام المهدي (ع) مُعجزة بشكل وآخر توجِب إلفاته إلى ذلك... كما سنسمع.

وذلك بأحد أُسلوبين، أو بالأُسلوبين معاً، وإن لم يكن أحدهما مُغنياً عن الآخر.

الأُسلوب الأول: وهو أوضحهما وأصرحهما بالإعجاز، ما لم يُحمَل على الرمز، لو أمكن.

فمن ذلك: ما أخرجه الراوندي(١) ، مُرسلاً عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، في حديث عن القائم يقول فيه: ( إذا كان وقت خروجه انتشر العَلَم بنفسه،

____________________

(١) انظر الخرايج والجرايح ص١٩٨

١٩٩

فناداه العلم: اخرُج يا وليَّ الله، اقتل أعداء الله. وله سيف الله، إذا حان وقت خروجه اقتُلِع السيف من عنده (غمده) فناداه السيف: اخرُج يا ولي الله، فلا يحلُّ لك أن تقعد عن أعداء الله )، وروي ذلك مُرسَلاً مُكرَّراً أيضاً(١) .

وهذا الأُسلوب، كما ترى، فيه عدَّة نقاط ضعف:

النقطة الأُولى: أنَّ رواياته قليلة، وكلُّها مُرسَلة، لم يذكر لها الراوندي أيَّ سند؛ ومعه فلا يمكن الأخذ بها طبقاً لأبسط وأوضح الموازين.

النقطة الثانية: أنَّها مُنافية لقانون المعجزات، القائل: بأنَّ المعجزة لا تقوم مع إمكان وجود البديل الطبيعي عنها، المـُنتِج لنفس النتيجة، ومن المعلوم - بوضوح - وجود البديل عن أمثال هذه المعاجز المنقولة من هذه الأخبار؛ فإن معرفة الإمام لمهدي (ع) بموعد الظهور لا ينحصر بها، ولا يتوقَّف عليها، بعد إمكان الأُطروحة الأُولى والثالثة، اللتان ترجعان إلى معنى طبيعي غير إعجازي.

النقطة الثالثة: أنَّها مُبتنية على المفاهيم القديمة في تصوُّر الحرب، وأنَّ سلاح الإمام المهدي (ع) في ظهوره سوف يكون هو السيف على التعيين، وإنّ قيادته سوف تكون بالراية وهي العلم الكبير، وكل هذا ممَّا ثبت بالوجدان تغيُّره وتطوُّره.

وقد يخطر في الذهن: أنَّنا سنحمل فيما يلي من البحث معنى السيف على كل سلاح، ونحمل معنى الراية على القيادة العقائدية ككل... فلماذا لا نحملها هنا على ذلك أيضاً؟

والجواب على ذلك: أنَّ من الأخبار ما يكون قابلاً للحمل على ذلك، وبعضها ما يكون كالصريح فيه، كما سنسمع، وأمَّا مثل هذه الأخبار المـُرسلة، فلا يمكن أن تُحمل على ذلك... لوضوح أنَّ القيادة المعنوية لا يُتصوَّر فيها النطق والكلام، حتى وإن كان إعجازياً، كما أنَّ حَمْلَ السيف على المدفع أو الصواريخ الموجَّهة مثلاً، فتكون هي الناطقة بدل السيف... بعيد جدَّاً، كما هو واضح.

الأُسلوب الثاني: أنَّ الإمام المهدي (ع) يعرف موعد ظهوره عن طريق الإلهام.

فمن ذلك: ما أخرجه الصدوق في إكمال الدين(٢) ، عن عمر بن إبان بن تغلب، قال:

____________________

(١) المصدر ص١٢٩ وص١٦٢

(٢) انظر المصدر المخطوط.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679