موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)8%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 679

الجزء ١ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 212479 / تحميل: 11106
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

الفصل الثالث

خُطبته الأُولى بين الركن والمقام وبيعته

وينبغي أن نتكلَّم في هذا الفصل عن عدَّة جهات:

الجهة الأُولى: في الأخبار الدالَّة على أنَّ المهدي (ع) يظهر أول ما يظهر بين الركن والمقام، وقد وردت بذلك الأخبار من الفريقين:

أخرج أبو داود(١) عن أُمِّ سلمة زوج النبي (ص) عن النبي (ص) قال: ( يكون اختلاف عند موت خليفة، فيخرج رجل من أهل المدينة هارباً إلى مكَّة، فيأتيه ناس من أهل مكَّة فيخرجونه وهو كاره، فيُبايعونه بين الركن والمقام، ويبعث إليه بعث من أهل الشام، فيُخسَف بهم بالبيداء بين مكَّة والمدينة، فإذا رأى الناس ذلك أتاه أبدال الشام وعصائب أهل العراق، فيُبايعونه بين الركن والمقام... ) الحديث.

وأخرج السيوطي في الحاوي(٢) ، عن الطبراني في الأوسط والحاكم عن أمِّ سلمة، قالت: قال رسول الله (ص): ( يُبايع لرجل بين الركن والمقام عدَّة أهل بدر، فيأتيه عصائب أهل العراق وأبدال أهل الشام، فيغزوه جيش من أهل الشام، حتى إذا كانوا بالبيداء خُسِفَ بهم ).

وأخرج أيضاً(٣) ، عن نعيم بن حماد عن قتادة، قال رسول الله (ص): ( يخرج المهدي من المدينة إلى مكَّة، فيستخرجه الناس من بينهم

____________________

(١) انظر سُنن أبي داود، ص٤٢٣ ج٢

(٢) الحاوي ج٢ص١٢٩

(٣) المصدر ص١٥٢

٢٢١

فيُبايعونه بين الركن والمقام، وهو كاره )، وكذلك الخبر الذي قبله.

وأخرج المفيد في الإرشاد(١) ، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله الصادق (ع)، في حديث يقول فيه: ( لكأنِّي يوم السبت العاشر من المـُحرَّم قائماً بين الركن والمقام... ) الحديث.

وروى الشيخ في الغيبة(٢) ، عن علي بن مهزيار عن أبي جعفر الباقر (ع) قال:

قال أبو جعفر (ع): ( كأنِّي بالقائم يوم عاشوراء، يوم السبت، قائماً بين الركن والمقام... ) الحديث.

وأخرج النعماني في الغيبة(٣) ، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع)، في حديث يقول فيه: ( فإذا تحرَّك مُتحرِّك ( مُتحرِّكنا ) فاسعوا إليه ولو حَبواً! والله، لكأنِّي أنظر إليه بين الركن والمقام... ) الحديث.

إلى أخبار أُخرى كثيرة تدلُّ على ذلك.

الجهة الثانية: في سرد الأخبار الدالَّة على خُطبته التي يُلقيها (ع) في موقفه ذاك بين الركن والمقام.

أخرج النعماني في الغيبة(٤) ، بإسناده عن جابر بن يزيد الجعفي، قال:

قال أبو جعفر محمد بن علي الباقر (ع) – في حديث طويل -: ( والقائم يومئذ بمكَّة، وقد أسند ظهره إلى البيت الحرام مُستجيراً، فيُنادي: يا أيها الناس، إنَّا نستنصركم الله، ومَن ( فمَن ) أجابنا من الناس، وإنَّا ( فإنَّا ) أهل بيت نبيِّكم محمد، ونحن أوْلى الناس بالله وبمحمد (ص).

فمَن حاجَّني في آدم، فأنا أوْلى الناس بآدم، ومَن حاجَّني في نوح، فأنا أوْلى الناس بنوح، ومَن حاجَّني في إبراهيم، فأنا أوْلى الناس

____________________

(١) ص٣٤١.

(٢) ص٢٧٤.

(٣) الحاوي ج٢ ص١٠٢.

(٤) ص١٥٠.

٢٢٢

بإبراهيم، ومَن حاجَّني في محمد، فأنا أوْلى الناس بمحمد، ومَن حاجَّني بالنبيِّين، فأنا أوْلى الناس بالنبيِّين، أليس الله يقول في مُحكم كتابه:( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (١) ، فأنا بقيَّةٌ من آدم، وذخيرةٌ من نوح، ومصطفى من إبراهيم، وصفوة من محمد صلى الله عليهم أجمعين.

ألا ومَن حاجَّني في كتاب الله، فأنا أوْلى الناس بكتاب الله، ألا ومَن حاجَّني في سنَّة رسول الله، فأنا أوْلى الناس بسنَّة رسول الله.

فأنشد الله مَن سمع كلامي اليوم لما بلغ منكم الشاهد الغائب.

وأسألكم بحقِّ الله وبحقِّ رسوله وبحقِّي؛ فإنَّ لي عليكم حقَّ القُربى من رسول الله، إلاَّ أعنتمونا ومنعتمونا ممَّن يظلمنا، فقد أُخفنا وظُلِمنا وطُرِدنا من ديارنا وأبنائنا، وبُغي علينا ودُفعنا عن حقِّنا، فافترى أهل الباطل علينا، فالله الله فينا! لا تخذلونا! وانصرونا ينصركم الله!... ) الحديث.

وأخرج المجلسي في البحار(٢) ، بالإسناد عن الفضل بن محبوب، رفعه إلى أبي جعفر (ع) قال - في حديث –: ( والقائم يومئذ بمكَّة عند الكعبة مُستجيراً، يقول: أنا وليُّ الله، أنا أوْلى بالله وبمحمد (ص)، فمَن حاجَّني في آدم فأنا أوْلى بآدم، ومَن حاجّني في نوح، فأنا أوْلى الناس بنوح، ومَن حاجّني في إبراهيم، فأنا أوْلى الناس بإبراهيم، ومَن حاجّني في النبيِّين، فأنا أوْلى الناس بالنبيِّين، إن الله تعالى يقول:( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) .

فأنا بقيَّة آدم، وذخيرة نوح، ومصطفى إبراهيم وصفوة محمد، ألا ومَن حاجَّني بكتاب الله، فأنا أوْلى بكتاب الله، ومَن حاجَّني في سنَّة رسول الله (ص) فأنا أوْلى الناس بسنَّة رسول الله وسيرته.

وأنشد الله مَن سمع كلامي، لما يبلغ الشاهد الغائب ).

____________________

(١) آل عمران ٣٤.

(٢) ج١٣ص١٧٩.

٢٢٣

وأخرج الطبرسي في أعلام الورى(١) عن المفضل بن عمر – في حديث - قال:

وسمعت أبا عبد الله (ع) يقول: ( إذا أذِن الله تعالى للقائم بالخروج صعد المنبر، فدعا الناس إلى الله عزَّ وجلَّ وخوَّفهم بالله، ودعاهم إلى حقِّه، على أن يسير فيهم بسيرة رسول الله (ص)، ويعمل فيهم بعمله... ) الحديث.

وأخرج في البحار(٢) ، عن علي بن الحسين ( عليهما السلام )، في حديث قال: ( فيقوم هو بنفسه (يعني بعد مقتل النفس الزكية ) فيقول: أيُّها الناس، أنا فلان بن فلان، أنا ابن نبي الله، أدعوكم إلى ما دعاكم إليه نبي الله. فيقومون إليه ليقتلوه، فيقوم ثلثمئة أو نيِّف على الثلثمئة فيمنعونه ).

وأخرج أيضاً(٣) ، عن أبي بصير، عن أبي جعفر الباقر (ع): ( إنَّه يأتي المسجد الحرام، فيُصلِّي فيه عند مقام إبراهيم أربع ركعات، ويُسند ظهره إلى الحجر الأسود، ثمَّ يحمد الله ويُثني عليه، ويذكر النبي (ص) ويُصلِّي عليه، ويتكلَّم بكلام لم يتكلَّم به أحد من الناس... ).

الجهة الثالثة: في الالتفات إلى نقاط من الأخبار السابقة.

النقطة الأُولى: أنَّ الأخبار الدالَّة على وقوف المهدي (ع) في أول ظهوره بين الركن والمقام قابلة لإثبات التاريخي، لكثرتها وتظافرها.

وأمَّا الأخبار الدالَّة على خُطبته، فلا شكَّ أنَّها بمجموعها مُتضافرة، غير أنَّ هذا المجموع لا يُثبت أكثر من كونه (ع) يَقِفُ خطيباً في أول ظهوره، وأمَّا مضمون الخُطبة فلن نستطيع أن نتعرَّف عليه إلاَّ بعد التوثُّق من صحَّة الإسناد للأخبار الناقلة لها واحداً واحداً... أو أن يوجد مضمون واحد، ممَّا يقوله (ع) في الخُطبة مُكرَّراً في عدَّة روايات، ليكون قابلاً للإثبات التاريخي.

أمَّا الخبر الأول الذي نقلناه للخُطبة عن النعماني، فهو يرويه عن أحمد بن محمد بن

____________________

(١) إعلام الورى بأعلام الهُدى ص٤٣١

(٢) ص١٨٠ ج ١٣

(٣) المصدر والصفحة.

٢٢٤

سعيد قال: حدَّثنا محمد بن الفضل، وسعدان بن إسحاق بن سعيد، وأحمد بن الحسين بن عبد الملك، ومحمد بن أحمد بن الحسن جميعاً، عن الحسن بن محبوب، أخبرنا محمد بن يعقوب الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه: قال: وحدَّثني محمد بن يحيى بن عمران، قال: حدَّثنا أحمد بن محمد بن عيسى، قال: وحدَّثنا علي بن محمد وغيره عن سهل بن زياد جميعاً عن الحسن بن محبوب قال: حدَّثنا عبد الواحد بن عبد الله الموصلي، عن أبي أحمد بن محمد بن أبي ياسر ( ناشر )، عن الحسن بن محبوب، عن عمر بن أبي مقدام، عن جابر بن يزيد الجعفي.

فأنت ترى أنَّ للشيخ النعماني ثلاثة طُرق من الرواة إلى الحسن بن محبوب:

الطريق الأول: أحمد بن محمد بن سعيد، قال: حدَّثنا محمد بن الفضل وسعدان بن إسحاق بن سعيد، وأحمد بن الحسين بن عبد الملك ومحمد بن أحمد بن الحسن جميعاً عن الحسن بن محبوب.

الطريق الثاني: ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه ( إبراهيم بن هاشم ). قال: وحدَّثني محمد بن يحيى بن عمران، قال: حدَّثنا أحمد بن محمد بن عيسى. قال: وحدَّثنا علي بن محمد وغيره، عن سهل بن زياد جميعاً، عن الحسن بن محبوب.

الطريق الثالث: الكليني ( أو أحمد بن محمد بن سعيد )، قال: حدَّثنا عبد الواحد بن عبد الله الموصلي، عن أبي علي أحمد بن محمد بن (أبي) ياسر ( ناشر ) عن الحسن بن محبوب.

والحسن بن محبوب بدوره يروي عن عمر بن أبي المقدام، عن جابر بن يزيد الجعفي، عن الإمام الباقر.

والطُرق الثلاثة – باعتبار تعدُّدها – للإثبات التاريخي.

وأمَّا الحسن بن محبوب، فهو من العلماء الثقات الأجلاَّء.

وأمَّا عمر بن المقدام، فقد مُدِح ولم يطعن فيه طاعن.

وأمَّا جابر بن يزيد، فهو من خاصَّة أصحاب الإمامين، الباقر والصادق ( عليهما السلام )، وثَّقه بعض، ونسبه إلى التخليط عند شيخوخته بعض آخرون.

والمـُلاحَظ أنَّ شيخوخته مُعاصرة للإمام الصادق (ع)، في حين أنَّ الخبر مروي عن الإمام الباقر (ع)، فيكون من رواه جابر قبل شيخوخته، ومن ثمَّ قبل أن يكون مُخلِّطاً، ومعه ففي الإمكان أن يكون قابلاً للإثبات التاريخي.

٢٢٥

وأمَّا الخبر الثاني الذي نقلناه من أخبار الخُطبة عن البحار، فقد رواه السيد علي بن عبد الحميد، بإسناده إلى كتاب الفضل بن شاذان، عن ابن محبوب رفعه إلى أبي جعفر (ع)، فهو خبر مرفوع يعني أنَّ فيه واسطة ساقطة مجهولة كالمـُرسل... فلا يكون قابلاً للإثبات التاريخي.

نعم، يتَّحدُ هذا الخبر في كثير من مضامينه مع الخبر السابق، فيكون قابلاً لإثبات من هذه الناحية... وكذلك الأخبار الأُخرى التي تنقل - في الواقع - عدداً من مضامين الخطبة، فتكون قابلة للإثبات بهذا المقدار... فلا حاجة إلى استعراض أسانيدها ورواتها.

النقطة الثانية: يقف الإمام المهدي (ع) في أول ظهوره قريباً من الكعبة المـُشرّفة، مُستدبِراً لها، ومواجهاً للجماهير؛ لكي يقول فيهم كلمته الأُولى.

ويكون وقوفه بين (الركن والمقام) والركن واحد الأركان، وأركان الكعبة المـُشرّفة زواياها الأربعة التي هي مُلتقى جوانبها الأربعة، وقد سُمِّي كل ركن باسم البلد الذي يتَّجه إليه عند الصلاة، فالشمالي هو الركن العراقي، والجنوبي هو الركن اليماني، والغربي هو الركن الشامي، وأما الشرقي فيُسمَّى بالركن الأسود؛ لأنَّه يحتوي على ( الحجر الأسود ) الذي منه مبدأ الطواف حول الكعبة.

وأمَّا المقام، فهو مقام إبراهيم الخليل (ع)، وهو أرض مُربعة صغيرة نسبياً، ذات بُنْيَة جميلة، تبعد عن الكعبة من جهة الشرق عدَّة أمتار.

وإذا قيل: (الركن). بدون وصف، فُهِمَ منه الركن الأسود بطبيعة الحال، باعتبار أهمِّيَّته؛ لاحتوائه على الحجر الأسود وابتداءِ الطواف منه، ويكون هو على يسار الواقف مُستقبلاً للكعبة ومُستدبراً مقام إبراهيم، ويكون إلى يمين الواقف الركن العراقي، وتقع باب الكعبة إلى نفس هذه الجهة الشرقية، قريباً من الركن الأسود.

ومن هنا نستطيع أن نقول: إنَّ باب الكعبة يقع ( بين الركن والمقام )؛ لأنَّ الركن الأسود على يمينها بحوالي نصف متر من جدار الكعبة، والمقام عن يسارها، وإن كان بعيداً عن الكعبة بعدَّة أمتار، والأرض التي أمام باب الكعبة حتى تصل إلى مقام إبراهيم واقعة ( بين الركن والمقام ) بطبيعة الحال.

ومن هنا؛ يكون وقوف الإمام المهدي (ع) بين الركن والمقام مُستدبراً الكعبة... يعني مُستدبراً الجدار الذي فيه باب الكعبة، جاعلاً الحجر الأسود عن يمينه، ومقام إبراهيم عن يساره، ومواجهاً للجماهير ليقول كلمته الأُولى.

٢٢٦

وقد سمعنا في بعض الروايات: أنَّه يُسنِد ظهره إلى البيت الحرام، يعني الكعبة المـُشرَّفة، وأنَّه يُسند ظهره إلى الحجر الأسود.

فإذا فهمنا ذلك مع الحفاظ على كون وقوفه ( بين الركن والمقام )، فيكون من اللازم أن نتصوَّره مُستدبراً جدار الكعبة الذي بين الباب والركن الأسود، وهي مسافة نصف متر أو تزيد قليلاً، فيصدق أنَّه واقف بين الركن والمقام، كما يصدق أنَّه مُسنِد ظهره إلى الكعبة، وإلى الحجر الأسود أيضاً؛ لأنَّ الحجر سيكون قريباً جدَّاً منه عن يمينه إلى جهة ظهره.

النقطة الثالثة: في ارتباط خُطبة المهدي (ع) بالتخطيط العام، وتعبيرها عن نتائجه.

إنَّ هذه الخُطبة المباركة بصفتها واقعة في آخر التخطيط العام السابق على الظهور، ومُعبِّرة عن نتائجه، ومن هنا كانت لوحة كاملة عمَّا ينبغي أن يُعلَن ساعتئذٍ من نتائج ذلك التخطيط، ويظهر من عدَّة زوايا.

الزاوية الأُولى: ما عرفناه من التخطيط، من أنَّ (اليوم الموعود) إنَّما هو نتيجة لجهود البشرية منذ أول وجودها إلى زمن وجوده، وإنَّ خطَّ الأنبياء والأولياء، والصالحين والشهداء، والمـُصلِحين، إنَّما هو واقع في طريقه والتمهيد إليه بشكل قريب وبعيد... وسيأتي في الكتاب الآتي من الموسوعة ما يزيد ذلك برهاناً.

وإذا كان الأمر كذلك، وكان المهدي (ع) هو قائد اليوم الموعود ومؤسِّس العدل الكامل في العالم، إذن؛ فمن حقِّه أن يقول: (... فأنا بقية آدم، وخيرة نوح، ومصطفى إبراهيم، وصفوة محمد ).

الزاوية الثانية: ما عرفناه في التخطيط من تركيزه بشكل خاص على تربية الجانب القيادي في شخصية القائد المذخور للثورة العالمية، وقد برهنَّا على ذلك بكل تفصيل في الكتاب السابق(١) ، وها قد أنتج هذا التخطيط نتيجته، وها هو القائد الكامل يواجه الناس ليبدأ بمُمارسة قيادته التي ذُخِر من أجلها.

فمن المنطقي، وهو خير البشر في زمانه، بل خير البشر بعد صدر الإسلام إلى عصر ظهوره، من المنطقي أن يكون أوْلى من جميع الناس، بالأنبياء والمـُرسلين، بما فيهم نبي الإسلام (ص)، فهو أقرب إليهم علماً وعملاً وعدلاً من أيِّ إنسان آخر.

____________________

(١) انظر ص(٤٩٧) وما بعدها إلى عدّة صفحات.

٢٢٧

ومن هنا نسمعه قول: ( فمَن حاجّني في آدم، فأنا أوْلى الناس بآدم، ومَن حاجَّني بنوح، فأنا أوْلى الناس بنوح، ومَن حاجَّني في إبراهيم، فأنا أولى الناس بإبراهيم، ومَن حاجَّني في محمد، فأنا أوْلى الناس بمحمد، ومَن حاجَّني في النبيِّين فأنا أوْلى الناس بالنبيِّين ).

الزاوية الثالثة: ما عرفناه في التخطيط العام، من إنتاج التمحيص الساري المفعول خلاله، لانحراف وضلال الأعمِّ الأغلب من الناس، وبذلك تمتلئ الأرض جوراً وظلماً.

كما ورد في الخبر التواتر عن النبي (ص)، ويكون تطرُّف المـُتطرِّفين منهم شديداً، كما يكون تطرُّف المؤمنين إلى جانب الإيمان شديداً، وسمعنا في التاريخ السابق(١) ما تفعله الأكثرية المـُنحرفة بالأقلِّية المؤمنة من مظالم وشرور.

النقطة الرابعة: تحتوي الخُطبة المباركة أيضاً، بعض النقاط من تخطيطات المـُستقبل، الذي تندرج خصائصه في التخطيط العام لما بعد الظهور.

ويُمكن الالتفات إلى ذلك ضمن عدَّة زوايا أيضاً:

الزاوية الأُولى: وجوب طاعة المهدي (ع) وبذل النصر له، من أجل تطبيق العدل الكامل في العالم كلِّه، حيث نسمع المهدي (ع) يقول: ( فالله الله فينا! لا تخذلونا! وانصرونا ينصركم الله ).

وسيكون أول المـُبادرين إلى تطبيق هذا الأمر، أولئك الصفوة المـُخلصين المـُمحَّصين، ذوو العدد الكافي لغزو العالم بالعدل، وسيأتي تفصيل ذلك غير بعيد.

الزاوية الثانية: إنَّ المهدي يَعِدُ الناس في خُطبته بتطبيق الأُطروحة العادلة الكاملة في دولته العالمية،( أن يسير فيهم بسيرة رسول الله (ص) ويعمل فيهم بعلمه ) ، كما سمعنا من إحدى الروايات، وكما سبق أن برهنَّا على ذلك في فصل سابق.

ونعني بسيرة رسول الله (ص): القواعد والمفاهيم العامة التي كان ينطلق منها النبي (ص)

____________________

(١) انظر مثلاً ص٢٦٦ وما بعدها أيضاً.

٢٢٨

إلى أعماله، لا السيرة بكل خصائصها وتفاصيلها بطبيعة الحال؛ لوضوح اختلاف المصالح الزمنية بين العصرين بكثير... بل سيأتي في بعض الروايات وجود بعض الاختلاف في تطبيقات الإمام المهدي (ع) عن تطبيقات رسول الله (ص)، فالمهدي (ع) يُدرِك الهارب، ويُجهِز على الجريح ويقتل المـُنحرف، وإن كان مسلماً، وإن كان على نفس مذهبه الإسلامي، ويقضي بعلمه ولا بالبيِّنة - كما في بعض الأخبار - وكل ذلك ممَّا لم يعمله رسول الله (ص)، وهذه الأمور ونحوها لو ثبتت تُعتبر تخصيصاً واستثناءً من المفهوم الذي بيَّنته الخُطبة... وهو أن يسير بسيرة النبي (ص) على تفاصيلها.

الزاوية الثالثة: تكفُّله (ع) بتطبيق وتفسير كتاب الله وسنَّة رسول الله (ص)... من حيث إنَّه أوْلى الناس بهما وأشدُّهم اطِّلاعاً على تفاصيلهما وقدرةً على فَهْم مغازيهما ومراميهما.

النقطة الخامسة: دلَّت رواية ممَّا سبق أنَّ المهدي (ع) يصعد المنبر ويخطب، فإن كان المراد منبراً يوضع له وقتيَّاً في المكان المـُشار إليه سابقاً، فهو إن كان المراد به المنبر المبني فعلاً في المسجد الحرام، فهو أبعد عن الكعبة المـُشرّفة من مقام إبراهيم، ومن ثَمَّ لا يصدق عليه أنَّه وقوف بين الركن والمقام.

ومعه؛ تكون هذه الروايات معارضة للروايات الدالَّة على وقوفه بين الركن والمقام.

ومعه؛ تكون هذه الروايات مُقدَّمة على تلك الرواية، فيُنتج الالتزام بأنَّه (ع) لا يصعد المنبر الموجود حالياً، بل يقف بين الركن والمقام، ولو فوق منبر آخر.

النقطة السادسة: دلَّت رواية ممَّا سبق أنَّ المهدي (ع) يبدأ كلامه بتقديم نفسه إلى الناس، بذكر اسمه الحقيقي واسم أبيه، بينما سكتت الروايات الأُخرى عن ذلك، بحيث يبدو أنَّه يُهمِل ذلك تماماً.

وفي كلٍّ من هذين الموقفين نقطة قوَّة ونقطة ضعف مُحتمَلة.

فإنَّه (ع) إن أهمل ذكر اسمه للناس - كما عليه أكثر الروايات - كانت هناك نقطة قوَّة ونقطة ضعف:

نقطة القوَّة: إنَّ فيه حماية من أعدائه في وقت حاجته إلى الحماية في أول حركته، فإنَّ الأعداء إن فهموا أنَّه المهدي الموعود، فإنَّهم سوف يقضون على حركته بأسرع وقت، بخلاف ما لو لم يظهر للعالم بصفته المهدي الموعود.

نقطة الضعف: إنَّ الناس سوف لن يفهموا أنَّه هو المهدي بالمرَّة، ومن ثَمَّ سوف لن

٢٢٩

ينصره المؤمنون، ولن يسمع لكلامه الناس.

فلو انطلقنا من ( أُطروحة خفاء العيون ) التي عرفناها، كان معنى إخفاء اسمه أنَّه لا زال في غيبته، وأنَّه يُخاطب الناس بـ ( شخصيَّته الثانوية ) لا بشخصيَّته الحقيقية، فإنَّها هي الشخصية الوحيدة التي يعرفها الناس منه، وهذا لا معنى له بالنسبة إلى المهدي (ع) منذ ذلك الحين.

وأمَّا إذا اختار (ع) أن يذكر اسمه للناس، فهذا الموقف يحتوي - في النظر - على نقطة قوَّة ونقطة ضعف مُقابلتين لذينك النقطتين.

نقطة القوَّة: أنَّه (ع) حين يكشف شخصَّيته الحقيقية للناس، يرفع بذلك غيبته التي آن له رفعها وحُرِّم عليه استمرارها، ويُصرِّح بانتساب الخُطبة وطلب النُّصرة إليه بتلك الصفة.

نقطة الضعف: أنَّ كشفه لحقيقته سوف يؤلِّب عليه الأعداء، في وقت هو شديد الحاجة فيه إلى الحماية والمنعة.

ويمكن أن نفهم من هذه الروايات ( أُطروحة ) نحصل بها على كلتا نقطتي القوَّة، وندفع بها كلتا نقطتي الضعف، وهي أنَّه يذكر اسمه الحقيقي واسم أبيه، من دون الإلماع إلى أنَّه المهدي الموعود.

فإنَّه بذلك يرفع غيبته ويكشف شخصيَّته الحقيقية، ويُصرِّح بانتساب الخُطبة وطلب النُّصرة إليه بتلك الصفة، وبذلك يُحرز نقطة القوَّة الأخيرة، وفي نفس الوقت يُحرز حمايته من الأعداء المـُتربِّصين له بصفته مهدياً، يملاً الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً.

فيُحرز نقطة القوَّة الأُولى ويدفع نقطة الضعف الثانية.

وأمَّا نقطة القوَّة الأُولى: فلن تحصل بصراحة وشمول، وإنَّما تحصل بالمقدار الذي ينبغي لها أن تحصل، إنَّ المؤمنين المـُمحَّصين الذين يُمثِّلون العدد الكافي لغزو العالم، وكذلك مَن كان في الدرجة الثانية من الإخلاص من الدرجات الأربعة التي عرفناها في التاريخ السابق(١) ، كلهم سيعرفون أنَّ هذا الشخص هو المهدي الموعود، ومن ثَمَّ سيؤيِّدونه تأييداً كاملاً.

وأمَّا الناس الآخرون، من أعداء مُتربِّصين، وأشخاص مُحايدين من مسلمين وغيرهم، وحتى عدد كبير ممَّن على المذهب الإسلامي الذي يتبنَّاه المهدي (ع)، فسوف

____________________

(١) انظر ص٢٤٨وما بعدها.

٢٣٠

لن يعرفوا هذه الحقيقة الكبرى، إلاَّ في الحدود التي تقتضيها المصلحة، ويُخطِّط لها المهدي (ع ) نفسه.

والروايات لم تدلَّ على أكثر من ذلك، وإنَّ المهدي يُسمِّي نفسه وأباه، تماماً كما فعل (النداء) من قبل، وليس في أيٍّ منهما تصريح بأنَّه المهدي الموعود.

النقطة السابعة: في مدى ارتباط الخُطبة بالتصوُّر الإمامي للمهدي.

من الواضح أنَّ الوقوف بين الركن والمقام، وإلقاء الخُطبة على الجماهير غير خاص بالمهدي (ع) بالتصوُّر الإمامي، بل يشمل المهدي بالتصوُّر الآخر، بل يشمل أيَّ إنسان ذو قدرة وجدارة، وإنَّما المـُهمُّ من ذلك مضمون الخُطبة أولاً، ونتائجها ثانياً.

أمَّا النتائج، وأهمُّها السيطرة على العالم كله بالعدل، وتأسيس الدولة العالمية العادلة... فهذا ما سيكون صفة للمهدي الواقعي في التخطيط الإلهي العام أيَّاً كان.

ويُهمُّنا الآن تطبيق مضامين الخُطبة على التصوُّر الآخر للمهدي، بعد العلم على أنَّها منطبقة مع التصوُّر الإمامي تماماً.

إنَّ المهدي – بهذا التصوُّر - يستطيع أن يُصرِّح بعدَّة أمور من الخُطبة:

١ - أن يدعو الناس إلى الله ويُخوِّفهم به.

٢ - أن يُقسِم عليهم بحقِّ القُربى من رسول الله (ص)... فإنَّه على أيِّ حال من وُلْد فاطمة، ومن أولاد الحسين (ع).

٣ - أن يُشير إلى الظلم والمـُطاردة والتنكيل الذي وقع على المؤمنين المـُخلصين خلال عصر التمحيص والامتحان السابق على الظهور.

٤ - أن يطلب من الناس نُصرته وتأييده، توخِّياً لنُصرة الحقِّ، باعتباره المـُمثِّل الرئيسي له.

٥ - أن يعدهم أنَّه إذا تمَّ له الاستيلاء على منطقة أو أكثر واستتبَّت له الأمور، أن يُطبِّق القانون الإسلامي العادل المـُتمثِّل بكتاب الله الكريم، وسنَّة رسوله العظيم.

ولكن سوف لن يكون المراد من كتاب الله وسنَّة رسوله، إلاَّ المستوى الذي وصل إليه الفكر الإسلامي إلى ذلك الحين، نتيجةً للتخطيط السابق، ولن يستطيع هذا المهدي أن يسير خطوات مُهمَّة في تربية هذا الفكر، وإعطاء الفَهم المـُتكامل للكتاب والسنَّة.

٢٣١

إنَّ المهدي - طبقاً لهذا التصوُّر - لن يكون - كما قلنا في التاريخ السابق(١) - أكثر من فرد اعتيادي، له في الإخلاص والعلم أقصى ما اقتضاه التخطيط السابق، وله من القابليَّات النفسية ما يتوقَّع بها لنفسه أن يقوم بالتطبيق الإسلامي، ومثل هذا الشخص لا يُمكنه بأيِّ حال أن يقوم بعبادة الدولة العالمية، كما سبق أن برهنَّا.

كما لا يستطيع أن يُقدِّم للكتاب والسنَّة فَهْمَاً أعمق من المستوى الذي وصل إليه الفكر الإسلامي في عصره، ولن يقدِّم لهما الفهم الذي له أهليَّة مُمارسة الحُكم العادل الكامل في العالم كلِّه.

ومن هنا؛ يتعذَّر عليه أن يقول عدَّة مضامين واردة في الخُطبة وضرورية الثبوت للمهدي الموعود، ليكون هو القائد العالمي المنشود فهو:

١ - لن يستطيع أن يدَّعي أنَّه أوْلى بكتاب الله وسنَّة رسوله من أيِّ شخص آخر... حتى من قادة الفكر الإسلامي الذين تقدَّموا به وأوصلوه إلى المستوى المـُعاصر له.

وإنَّما يدَّعي ذلك، مَن له الفهم الكامل لهذين المصدرين الإسلاميين المـُقدَّسين بالرواية عن النبي (ص) وقادة الإسلام الأوائل، بالشكل الذي يكفل سعادة البشرية العاجلة وتربيتها العُلْيَا في الآجل.

وباختصار: أن يتقدَّم بالفكر الإسلامي بخطوات جبَّارة لا تُقاس بأيِّ مُفكِّر آخر، سنُشير إلى ما يُقدِّمه المهدي (ع) في هذا المجال.

٢ - وهو ليس بقيَّةً من آدم، وذخيرة من نوح، ومصطفى إبراهيم، وصفوة من محمد صلى الله عليهم أجمعين.

وكونه من المـُخلصين الكاملين لا يُبرِّر هذه النسبة، إلاَّ كما يُبرِّرها في أيِّ شخص آخر مُتَّصف بهذا المقدار من الإخلاص والإيمان... وهم يومئذ عدد غير قليل... كما عرفنا في نتائج التخطيط.

٣ - وهو ليس أوْلى الناس بالنبيِّين... فإنَّ مَن يكون كذلك إنَّما هو القائد المذخور الذي يُكلِّل جهود كل الأنبياء بالنجاح في تطبيق العدل الكامل في العالم... وأمَّا الذي يتصدَّى لذلك من دون أن يُحرز نجاح حركته، أو لا تكون له قابلية القيادة العالمية، كما قلنا في التاريخ السابق(٢) ، فلن يُمكن أن يكون مُتَّصفاً بالأولوية.

____________________

(١) انظر ص٢٤٨وما بعدها.

(٢) انظر ص٥٠١ وما بعدها.

٢٣٢

٤ - ومن هنا نعرف أنَّه لن يتكلَّم بكلام لم يتكلَّم به أحد من الناس ( فإنَّ مَن يكون من حقِّه ذلك، بحيث يكون كل ما يقوله صادقاً عليه كل الصدق ومُنطبقاً تمام الانطباق، هو ذلك الشخص المؤهَّل للقيادة العالمية، والوارث لخطِّ الأنبياء، والذي هو أوْلى بهم وبكتاب الله وسنَّة رسوله، من أيِّ شخص آخر، إنَّ هذا هو الذي يتكلَّم الكلام الجديد ويُعطي المفاهيم بالأُسلوب التربوي الجديد العادل، الذي لم يكن يخطر قبل الظهور على بالٍ... دون أيِّ شخص آخر.

... هذا آخر ما نودُّ التعرُّض إليه من خصائص الخُطبة المباركة... موكلين الخصائص الأُخرى إلى فطنة القارئ.

الجهة الرابعة - من هذا الفصل -: إنَّ مُقتضى التسلسل المنطقي للدعوة الإلهية، التي يُمثِّل المهدي (ع) حلقة من أكبر حلقاتها، هو أن يُقيم المعجزة في أول ظهوره؛ إثباتاً لصدق مُدَّعاه: بأنَّه المهدي الموعود الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً. ولا أقلَّ أمام المؤمنين المـُخلصين ممَّن سيُصبحون خاصَّته؛ لوضوح أنَّه لولا ذلك لأمكن لأيِّ شخص جريء أن يقِفَ في المسجد الحرام بين الركن والمقام ويُلقي مثل هذا الخطاب، وخاصة بعد أن يقرأ الخُطبة في مصادرها، فكيف يمكن أن نُصدِّق من شخص أنَّه هو المهدي لمـُجرَّد أن يقِفَ هذا الموقف.

تماماً، كما هو الحال في النبوَّة، فإنَّه لا يمكن تصديق أيِّ شخص مُدَّعٍ للنبوَّة، ما لم تقترن دعواه بدليل يوجب القطع بكونه نبيَّاً مُرسَلاً؛ ومن هنا أقام نبي الإسلام (ص) معجزات كدلائل على صدقه، تقطع حجَّة المـُنكرين، كان أهمُّها القرآن الكريم نفسه.

وقد أسلفنا في التاريخ السابق أنَّ المهدي (ع) عند مُقابلاته مع الناس خلال غيبته، كان يُقيم الدلالة على حقيقته، وهي دلالة تحتوي دائماً على عنصر إعجازي، وإلاَّ لاستحال التعرُّف على حقيقته، أو تصديقه في دعواه إذا قال لنا: إنَّه هو المهدي (ع).

وقد سبق أن عرفنا في التاريخ المـُشار إليه(١) وغيره من بحوثنا، أنَّ المعجزة لا توجد عشوائياً، وإنَّما لها قانونها العام، وهو أنَّه تقع في طريق إقامة الحجَّة (إذا كانت مُنتفية) أو إتمامها (إذا كانت ناقصة)، ومن الواضح جدَّاً، أنَّ إقامة المهدي (ع) للمعجزة بعد ظهوره يكون في طريق إثبات الحجَّة على صدقه، توصُّلاً إلى تطبيق العدل الإلهي الكامل على وجه الأرض، وهو الهدف الإلهي المـُهمُّ الذي عاشت البشرية التخطيط له

____________________

(١) ص٣٢

٢٣٣

وباتجاهه، منذ ولادتها إلى ذلك الحين؛ لوضوح أنَّه ما لم تثبت شخصيته الحقيقية لا يستطيع هو أن يحصل على المؤيِّدين والمؤمنين، ومن ثَمَّ لا يستطيع القيام بهذا التطبيق والوصول إلى ذلك الهدف.

إذن؛ فقد يستنتج من هذه المـُقدَّمات لزوم أن يُقيم المهدي (ع) معجزة واضحة منذ موقفه الأول، ليُثبت حقيقته بكلِّ صراحة ووضوح تجاه العالم، مع العلم أنَّنا لا نجد في الروايات الناقلة لهذا الموقف أيَّ إشارة إلى كونه مُقيماً للمعجزة في ذلك الحين.

ويمكن الجواب على ذلك من عدَّة وجوه:

الوجه الأول: إنَّ الإمام المهدي ليس بحاجة في موقفه هذا إلى إقامة المعجزة على الإطلاق.

ذلك؛ لوجود الإرهاصات الكافية لظهوره في زمن قريب، وهي قائمة على إعجاز عظيم، وأوضحها معجزتا الكسوف والخسوف في غير أوانهما... والخسف بالجيش الذي يُحاول قتله... والنداء باسمه صراحة في إسماع الخلق؛ فيكون القطع بصدق مَن اجتمعت فيه هذه الخصائص ضرورياً لازماً.

وأمَّا احتمال: أنّ شخصاً مُحتالاً يستغلُّ الموقف، بعد حدوث الخسف وقتل النفس الزكية بالمضمون السابق للخطبة، فهو في غاية البُعد... ولو حدَّثته نفسه بذلك فإنَّه يُقتل لا محالة في موقفه ذاك، أو يُلقى عليه القبض ويفشل مُخطَّطه ألبتَّة... ولن يستطيع الحصول على العدد الكافي لغزو العالم بالعدل، ولا بعض منه.

إذن؛ فكلُّ مَن يحصل له ذلك، هو المهدي الحقيقي بكل تأكيد.

الوجه الثاني: هناك في العالم - طبقاً للتصوُّر الإمامي لفكرة المهدي (ع) - عدد غير قليل من الناس يعرف المهدي بشخصه، ولا يحتاج إلى إقامة المـُعجزة للتعرُّف عليه؛ لأنَّه رآه خلال غيبته مرَّة أو عدَّة مرَّات، وهم كل الأفراد المـُخلصين من الدرجة الأُولى، وبعض الأفراد المـُخلصين من الدرجة الثانية، من الدرجات التي أشرنا إليها سابقاً.

وقد كان هؤلاء هم وسائطه إلى الناس - بشكل وآخر - خلال غيبته، وسيكونون لنا بأنفسهم رادةَ الحق والعدل، واللسان الناطق، والسيف الضارب بين يدي قائدهم المهدي (ع).

فمن الممكن - بغضِّ النظر عن أيِّ شيء آخر - أن يكون هؤلاء هم الشاهد الصادق في تعريف قائدهم إلى الناس، ريثما يثبت من مجموع أعماله وأقواله صدقه وعظمة

٢٣٤

أهدافه، ومعه لا حاجة إلى إقامة المعجزة.

الوجه الثالث: إنَّ المهدي (ع) ليس بحاجة إلى المعجزة، بل يستطيع أن يعتمد على المستوى الفكري والعقائدي والمفاهيمي الذي يُعلنه لإثبات صدقه وعظمة أهدافه.

فإنَّ المعجزة مطلوبة لأجل إقناع الفكر البشري غير المـُعقَّد، وهذا ما سيحصل بشكل عميق وأكيد عند إعلان المستوى الفكري الجديد... فيكون الاتجاه نحو المعجزة أمراً مُستأنفاً.

ويمكن تقسيم المستوى الفكري الذي يُقيمه الإمام المهدي في أول ظهوره إلى مُستويين:

المستوى الأول: ما يقوله (ع) في خطبته ممَّا، وردنا وسمعناه، وممَّا لم يردنا ولم نسمعه، فإنَّه لا دليل على اقتصاره (ع) في حديثه على هذا المقدار، بل لعلَّه يذكر أموراً أُخرى لم يكن المستوى الفكري السابق في عصر صدور النصوص مُناسباً للتصريح بها في الأخبار طبقاً لقانون:( كلِّم الناس على قدر عقولهم ) .

ولعمري، أنَّ في هذا المضمون الذي سمعناه ما يكفي لإقامة الحجَّة، لولا احتمال أن يكون منقولاً عن المصادر المـُتوفِّرة.

المستوى الثاني: استعداده (ع) للجواب على أيِّ سؤال مهما كان صعباً، فيما إذا عرفت أنَّ السائل موضوعي الفكرة مُطالباً للحق... وأنَّه إنَّما يسأله لأجل التأكُّد من صدقه، طبقاً للشكِّ (الديكارتي) الذي لا يستقيم بدونه أيُّ برهان.

وقد وردت حول ذلك رواية: هي ما أخرجه ثقة الإسلام الكليني(١) ، بسنده عن مفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: ( لصاحب هذا الأمر غيبتان: إحداهما يرجع منه إلى أهله، والأُخرى يُقال: هلك في أيِّ واد سَلَكَ؟ ).

قلت: فكيف نصنع(٢) إذا كان كذلك؟

قال: ( إذا ادَّعاها مُدَّعٍ فاسألوه عن أشياء يُجيب فيها مثله ).

وهذا الأمر أوضح من أن يُستند فيه إلى رواية؛ لأنَّه هو المفهوم من الاتجاه العام للإمام المهدي (ع)، بل من كل مَن يدَّعي منزلة عالية في القيادة، أو في العلم، أو في التقوى، أو في جميعها... فإنَّه يمكن للفرد أن يختار السؤال الذي يعتقد بأنَّ الجواب

____________________

(١) انظر الكافي ( الأصول ) نسخة مخطوطة (باب في الغيبة )

(٢) في المصدر المخطوط: بضنع وهو تحريف.

٢٣٥

الصحيح يدلُّ على صدق المـُجيب وجدارته على مستوى مُدَّعاه، فإن جاء الجواب صحيحاً لم يكن للسائل أن يشكَّ من جديد، إلاَّ إذا كان مُعقَّداً غير طبيعي التفكير.

فليفكِّر القارئ في السؤال الذي يرغب بتوجيهه إلى المهدي (ع) عند ظهوره.

فهذين المـُستويين الفكريين، يمكن له (ع) الانطلاق منهما لإثبات صدقه في أول ظهوره.

وأمَّا بعد ذلك، فستكون المستويات أو الحقول الفكرية الجديدة أكثر من أن تُعَدَّ، وأوضح من أن تُذكَر.

الوجه الرابع: أنَّنا لو غضضنا النظر عن كل ما سبق، وفرضنا حاجة المهدي (ع) إلى إقامة المعجزة بعد ظهوره مباشرة لإثبات صدقه وحقيقته، وهو – لا محالة – قادر على ذلك؛ طبقاً لكلا التصوُّرين الإمامي والآخر عن المهدي (ع)، وستقع المعجزة – لو قام بها - مُطابقة لقانون المعجزات، أنَّها واقعة في طريق إقامة الحق والعدل والهدى، وهي الطريق المـُنحصر إليه – بعد غضِّ النظر عن الوجوه السابقة -... لأنَّها الطريق الوحيد لمعرفته، ولا يمكن إقامة الحق والهُدى بدون معرفته، وكلَّما انحصرت إقامة الحق على المعجزة أوجدها الله تعالى في البشرية - طبقاً لقانون المعجزات - لا يُفرِّق في ذلك بين نبيٍّ أو وليٍّ.

فإذا تمَّ ذلك، كان لنا أن نقول: إنَّنا لا نستطيع أن نقطع بعدم إقامة المهدي (ع) للمعجزة... فإذا اقتضتها القواعد العامة في الإسلام كان ذلك إثباتاً كافياً لها، وعدم النقل لا يدلُّ على عدم الوجود، ويمكن أن يكون عدم النقل مُستنداً إلى السبب الآتي، وهو أنَّنا نستطيع أن نُقسِّم المعجزة - في حدود ما نحتاجه الآن - إلى خاصة وعامة: والعامة منها إلى معجزة (كلاسيكية) أو تقليدية، ومعجزة (علمية)!.. وما يمكن نقله إلينا قسم واحد فقط - كما سنوضح - في حين أنَّ المهدي (ع ) قد يقتصر على القسمين الآخرين، فيكون ورود نقله في الأخبار مُتعذِّراً.

ونقصد بالمعجزات الخاصة ما يقع بين إمام وشخص واحد، أو جماعة محدودة من خوارق... كما لو أخبر الإمام شخصاً بما في ذهنه أو أجابه قبل سؤاله، أو عبَّر عن أيِّ شيء لا يمكن بحسب القوانين المعروفة للكون أن يكون عالماً به، كما يعلم به الفرد المواجه للإمام وجداناً.

ونقصد بالمعجزات العامة، تلك الخوارق التي تكون مُعلنة أمام الناس، وهي تختلف عن المعجزات الخاصة بأمر رئيسي:

وهو أنَّ المعجزات العامة لا بدَّ أن تكون

٢٣٦

واضحة الإعجاز أمام الناس، ومُقنعة للذهن البشري الاعتيادي بحسب المستوى العام للجيل المـُعاصر للمعجزة، وأمَّا المعجزة الخاصة، فحسبها أن تكون مُناسبة لمستوى الفرد المواجه للإمام ومُقنعة له، وقد لا تكون مُقنعة للآخرين، أو لا يعرف الغير أنَّها معجزة على الإطلاق.

ويمكن تقسيم المعجزة العامة إلى قسمين:

القسم الأول: ما سمَّيناه بالمعجزات الكلاسيكية، وهي التي تقوم على تغيير خارق واضح وسريع في نظام الكون، بحيث يراه ويفهمه عامة الناس.

وهذا القسم هو الذي يغلب على معاجز الأنبياء السابقين، ومن هنا سمَّيناه بـ ( الكلاسيكي)، والغرض منه إعطاء أكبر مقدار من الزخم العاطفي والعقلي في مجتمع لم يكن يفهم التعمُّق والتحليل، كانقلاب العصا ثعباناً، وانفلاق البحر، وإحياء الموتى، وانقسام القمر إلى قسمين وغيرها.

القسم الثاني: ما سمَّيناه بالمعجزات (العلمية)، وهي التي تقوم فكرتها الإعجازية على التدقيق والتحليل... قد لا يلتفت الفرد الاعتيادي إلى وجود شيء خارق لنظام الطبيعة فوراً، وإنَّما ينبغي أن يلتفت الناس على ذلك بالتدريج.

وأوضح وأقدم شكل لهذا القسم هو ( القرآن الكريم )، أهمُّ معجزات نبي الإسلام، ومن هذا القسم يمكن أن تنطلق معجزات القائد المهدي (ع) - كما سنُمثِّل - ويتلخَّص الفرق بين القسمين بعدَّة أُمور:

أولاً: ما ذكرناه من فوريَّة الالتفات إلى الإعجاز في القسم الأول دون الثاني، فإنَّه يحتاج إلى مضيِّ زمان لكي يُفهَم.

ثانياً: إنَّ القسم الأول يُناسب المستويات الاجتماعية غير المـُتقدِّمة والمـُعمَّقة من البشرية.

ثالثاً: إنَّ القسم الأول يقصد به النتيجة الواضحة، وإن أوجبت خرق عدَّة نقاط من النظام الكوني، بخلاف القسم الثاني؛ فإنَّ المقصود منه نقطة واحدة فقط من النظام الكوني، أو عدَّة مُحدَّدة تماماً ومُعلنة بوضوح، فالقرآن الكريم تجاوز المستوى الفكري والبياني البشري عموماً، وفي الإمكان تقليل الجاذبية في منطقة وزمان مُعيَّنَين، كما لو أعلن أنَّ جاذبية الأرض في مدينة (بغداد) ستُصبح بمقدار نصف ما كانت عليه أسبوعاً مُحدَّداً من الزمن.

٢٣٧

كما يمكن أن يُعلن تحديد زمان لتقليل سرعة النور في منطقة ما، أو في حدود مُعيَّنة، أو زيادة في سرعة دوران الأرض قليلاً، وهكذا.

إنَّ أمثال هذه المعاجز لن يحسَّ الفرد العادي بحدوث التغيُّر إلاَّ بعد أن يُشاهد تطبيقاته في الخارج... ولقد رأينا أنَّ الفرد الاعتيادي لا يُدرك لأوَّل وهلة وجود الإعجاز في آية يسمهعا من آيات القرآن الكريم.

رابعاً: إنَّ القسم الثاني من المعجزات قابل للدوام والاستمرار جيلاً أو عدَّة أجيال من البشر، أو إلى نهاية البشرية كما في القرآن الكريم نفسه، وقد يمكن الاستمرار في بعض تلك الأمثلة إلى أزمنة طويلة أيضاً.

أمَّا القسم الأول، فهو وقتي الحدوث، لا يمكن استمرار الأعجاز فيه، وهذا يُمثِّل إحدى الفوارق بين معجزات الأنبياء السابقين على الإسلام التي كانت كلها وقتيَّة الحدوث... وبين معجزات نبي الإسلام التي استطاعت على الدوام والاستمرار، مُتمثِّلة بالقرآن الكريم.

وإلى هنا عرفنا ثلاثة أقسام من المعجزات: المعجزات الخاصة، والمعجزات العامة (الكلاسيكية)، والمعجزات العامة (العلمية).

وما يمكن أن نسمع نقله في الأخبار قسم واحد - كما قلنا - وهي المعجزات العامة الكلاسيكية، دون المعجزات الخاصة والمعجزات العلمية.

وأمَّا إمكان نقل هذا القسم، فباعتبار كونه مفهوماً فَهْماً اجتماعياً عاماً، وموافقاً مع مستوى الجيل الذي سمعت عنها، وأمَّا عدم إمكان نقل المعجزات العلمية في الأخبار، فواضح أيضاً، باعتبار عدم انسجامها مع المستوى العقلي والفكري والثقافي للمجتمع الذي صدرت فيه هذه الأخبار لأول مرَّة، فكما يكون نشازاً في ذلك المجتمع التنبُّؤ صراحة بحدوث الطائرة أو الصواريخ الموجَّهة، كذلك يكون التنبُّؤ بحدوث معجزة على هذا المستوى العلمي الرفيع.

وقد يخطر في الذهن: أنَّ بعض المعجزات العلمية كانت موجودة يومئذ، مُتمثِّلة بالقرآن الكريم، إذن؛ فلم يكن هذا القسم أعلى من مستوى الفكر الاجتماعي.

وجوابه من عدَّة وجوه نذكر منها اثنين:

الوجه الأول: إنَّ الأُسس التي قام إعجاز القرآن الكريم على أساسها، أو بتعبير أصحِّ: إنَّ (القانون) الذي خرقه القرآن بإعجازه... كان مفهوماً للمجتمع يومئذ.

٢٣٨

وهو المستوى الأدبي البلاغي للُّغة العربية، على حين لم تكن الأُسس التي تقوم عليها المعجزات (العلمية) التي مثَّلنا لها، مفهومة بالمرَّة.

الوجه الثاني: بالرغم من كون الأُسس لإعجاز القرآن كانت مفهومة، إلاَّ أنَّ فكرة إعجازه وفكرة كونه معجزة خالدة وإيضاح مُميِّزاته عموماً، لم يقم القادة الإسلاميون بإعطائها دُفعةً واحدة، بل كانت تُعطى بالتدرُّج طبقاً للخطِّ التربوي العام... ابتداءً بالتحدِّي القرآني نفسه وانتهاء بالسنَّة الشريفة وما بعدها من عناصر الفكر الإسلامي التي شرحت مُميِّزات القرآن الكريم.

فإذا كان الحال بالقرآن الكريم مع وضوح أُسُسه، هو ذلك، فكيف بالمعجزات التي لا تكون واضحة الأُسس.

ومعه؛ فمن غير المـُحتمل أن نسمع في الأخبار أيَّ نقل، عن المعجزات (العلمية) التي ستكون الأسلوب الرئيسي للإعجاز في عصر الإمام المهدي على المظنون.

وأمَّا عدم نقل المعجزات (الخاصة) معجزةً معحزةً، فهو أوضح؛ لما عرفناه من أنَّ الآخرين قد لا يُدركون فكرة إعجازها بالمرَّة... حتى وإن وقعت أمامهم، فضلاً عمَّا إذا نُقلِت إليهم بالأخبار.

وقد يخطر في الذهن: أنَّ في إمكان الأخبار أن تُشير إلى قيام المهدي (ع) ببعض المعجزات الخاصة إجمالاً... فلماذا لم تفعل؟!

وجوابه: أنَّ هذا النوع من المعجزات، حيث كان نطاقه شخصياً، فيكون ذكره في الأخبار مُستأنفاً، ولا يبعد أنَّنا نجد في الأخبار شيئاً من ذلك... ولكنَّه قليل وغير مُلفِت للنظر، باعتبار أنَّ الاهتمام مركَّز في الأخبار إلى ما هو أشمل من أعمال الإمام المهدي وصفات أصحابه ودولته.

إذن؛ فكل ما في الأمر أنَّنا نتوقَّع أن نسمع من الأخبار إقامة المهدي (ع) معجزات (كلاسيكية) على غرار الأنبياء والأولياء السابقين، على حين أنَّه (ع) سوف يعرض عن هذا النوع؛ لكونه قاصراً عن المستوى الذي يكون عليه المجتمع يوم ظهوره... وإنَّما كان مُناسباً فقط مع الأزمة السابقة، المعاصرة مع الأنبياء والأولياء الأقدمين

وأمَّا النوع أو الأنواع التي يُقيمها المهدي (ع) من المعجزات، فلا يُناسب ذكرها في الأخبار؛ لكونها أعلى من مستوى عصر صدور الأخبار، وعدم فَهْم المجتمع

٢٣٩

لأُسسها، واعتياده على الأسلوب الكلاسيكي للمعجزات يومئذ.

الجهة الخامسة - من هذا الفصل -: وردت بعض الأخبار تقول: بأنَّ المهدي(ع) يظهر من قرية يُقال لها: كرعة. - بالكاف الفارسية على الظاهر -، وهي تُنافي الروايات التي سمعناها في هذا الفصل من كونه (ع) يظهر في مكَّة بين الركن والمقام.

أخرج الكنجي في كتابه البيان(١) ، بإسناده عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله ( ص):( يخرج المهدي من قرية يُقال لها: كرعة ) .

قلت: هذا حديث حسن رزقناه عالياً، أخرجه أبو الشيخ الأصبهاني في عواليه كما سقناه، ورواه أبو نعيم في مناقب المهدي (ع). انتهى كلام الكنجي.

وقال السيوطي في الحاوي(٢) : وأخرج أبو نعيم وأبو بكر بن المقري في مُعجمه عن ابن عمرو، قال: قال النبي (ص):( يخرج المهدي من قرية يُقال لها: كرعة ) .

وروى الأربلي(٣) عن الأربعين حديثاً للحافظ أبي نعيم، بإسناده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال النبي (ص):( يخرج النبي من قرية يُقال لها: كرعة ) .

وروى ابن طاووس(٤) ، عن كتاب الفتن للسليلي، بإسناده عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله (ص):( يخرج المهدي من قرية يُقال لها: كرعة ) .

فكيف يمكن أن نوفِّق بين هذه الروايات وتلك...؟

ويمكن الانطلاق في الجواب عن ذلك من عدَّة زوايا:

____________________

(١) انظر ص٩١ منه.

(٢) انظر ج٢ ص١٣٧.

(٣) انظر كشف الغمَّة للأربلي ج٣ ص٢٥٩.

(٤) انظر الملاحم والفتن لابن طاووس ص١١٤.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

بإطلاقه لفظ الغنيمة فيه ثم عطفه الأكل عليها لم لم ينف ما تضمنه من التمليك كما لو قال كلوا مما ملكتم لم يكن إطلاق لفظ الأكل مانعا من صحة الملك ويدل على ذلك دخول الفاء عليه كأنه قال قد ملكتكم ذلك فكلوا* والغنيمة اسم لما أخذ من أموال المشركين بقتال فيكون خمسه لله تعالى وأربعة أخماسه للغانمين بقوله تعالى( واعلموا أنما غنمتم من شىء فإن لله خمسه ) وأما الفيء فهو كل ما صار من أموال المشركين إلى المسلمين بغير قتال روى هذا الفرق بينهما عن عطاء بن السائب وعن سفيان الثوري أيضا* قال أبو بكر الفيء كل ما صار من أموال المشركين إلى المسلمين بقتال أو بغير قتال إذ كان سبب أخذه الكفر قال أصحابنا الجزية فيء والخراج وما يأخذه الإمام من العدو على وجه الهدنة والموادعة فهو فيء أيضا وقال الله عز وجل( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ) الآية فقيل إن هذا فيما لم يوجف عليه المسلمون مثل فدك وما أخذ من أهل نجران فكان للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم صرفه في هذه الوجوه وقيل إن هذه كانت في الغنائم فنسخت بقوله تعالى( واعلموا أنما غنمتم من شىء فأن لله خمسه ) وجائز عندنا أن لا تكون منسوخة وأن تكون آية الغنيمة فيما أوجف عليه المسلمون بخيل أو ركاب وظهر عليهم بالقتال وآية الفيء التي في الحشر فيما لم يوجف عليه المسلمون وأخذ منهم على وجه الموادعة والهدنة كما فعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بأهل نجران وفدك وسائر ما أخذه منهم بغير قتال والله أعلم بالصواب.

باب التوارث بالهجرة

قال الله تعالى( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شىء حتى يهاجروا ) الآية حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر ابن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيدة قال حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ) الآية قال كان المهاجر لا يتولى الأعرابى ولا يرثه وهو مؤمن ولا يرث الأعرابى المهاجر فنسختها( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) وروى عبد الرحمن بن عبد الله بن المسعودي عن القاسم قال آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الصحابة وآخى بين عبد الله بن مسعود والزبير بن العوام أخوة يتوارثون بها

٢٦١

لأنهم هاجروا وتركوا أقرباءهم حتى أنزل الله آية المواريث* قال أبو بكر اختلف السلف في أن التوارث كان ثابتا بينهم بالهجرة والأخوة التي آخى بها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بينهم دون الأرحام وأن ذلك مراد هذه الآية وأن قوله تعالى( أولئك بعضهم أولياء بعض ) قد أريد به إيجاب التوارث بينهم وأن قوله( ما لكم من ولايتهم من شىء حتى يهاجروا ) قد نفى إثبات التوارث بينهم بنفيه الموالاة بينهم وفي هذا دلالة على أن إطلاق الموالاة يوجب التوارث وإن كان قد يختص به بعضهم دون جميعهم على حسب وجود الأسباب المؤكدة له كما أن النسب سبب يستحق به الميراث وإن كان بعض ذوى الأنساب أولى به في بعض الأحوال لتأكد سببه وفي هذا دليل على أن قوله تعالى( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ) موجب لإثبات القود لسائر ورثته وأن النساء والرجال في ذلك سواء لتساويهم في كونهم من مستحقي ميراثه ويدل أيضا على أن الولاية في النكاح مستحقة بالميراث وأن قوله صلّى الله عليه وآله وسلم لا نكاح إلا بولي مثبت للولاية لجميع من كان من أهل الميراث على حسب القرب وتأكيد السبب وأنه جائز للأم تزويج أولادها الصغار إذا لم يكن لهم أب على ما يذهب إليه أبو حنيفة إذ كانت من أهل الولاية في الميراث* وقد كانت الهجرة فرضا حين هاجر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إلى أن فتح النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مكة فقال لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية فنسخ التوارث بالهجرة بسقوط فرض الهجرة وأثبت التوارث بالأنساب بقوله تعالى( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) قال الحسن كان المسلمون بتوارثون بالهجرة حتى كثر المسلمون فأنزل الله تعالى( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض ) فتوارثوا بالأرحام وروى الأوزاعى عن عبدة عن مجاهد عن ابن عمر قال انقطعت الهجرة بعد الفتح وروى الأوزاعى أيضا عن عطاء ابن أبى رباح عن عائشة مثله وزاد فيه ولكن جهاد ونية وإنما كانت الهجرة إلى الله ورسوله والمؤمنون يفرون بدينهم من أن يفتنوا عنه وقد أذاع الله الإسلام وافشاء فتضمنت هذه الآية إيجاب التوارث بالهجرة والمؤاخاة دون الأنساب وقطع الميراث بين المهاجرين وبين من لم يهاجر واقتضى أيضا إيجاب نصرة المؤمن الذي لم يهاجر إذا استنصر المهاجر على من لم يكن بينهم وبينه عهد بقوله تعالى( وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ) وقد روى في قوله تعالى( ما لكم من ولايتهم

٢٦٢

من شىء حتى يهاجروا ) ما قد بينا ذكره في نفى الميراث عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة في آخرين وقيل إنه أراد نفى إيجاب النصرة فلم تكن حينئذ على المهاجر نصرة ومن لم يهاجر إلا أن يستنصر فتكون عليه نصرته إلا على من كان بينه وبينه عهد فلا ينقض عهده وليس يمتنع أن يكون نفى الولاية مقتضيا للأمرين جميعا من نفى التوارث والنصرة ثم نسخ نفى الميراث بإيجاب التوارث بالأرحام مهاجرا كان أو غير مهاجر وإسقاطه بالهجرة فحسب ونسخ نفى إيجاب النصرة بقوله تعالى( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ) وقوله تعالى( والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ) قال ابن عباس والسدى يعنى في الميراث وقال قتادة في النصرة والمعاونة وهو قول ابن إسحاق* قال أبو بكر لما كان قوله تعالى( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا ـ إلى قوله ـأولئك بعضهم أولياء بعض ) موجبا لإثبات التوارث بالهجرة وكان قوله تعالى( والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شىء حتى يهاجروا ) نافيا للميراث وجب أن يكون قوله تعالى( والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ) موجبا لإثبات التوارث بينهم لأن الولاية قد صارت عبارة عن إثبات التوارث بينهم فاقتضى عمومه إثبات التوارث بين سائر الكفار بعضهم من بعض مع اختلاف مللهم لأن الاسم يشملهم ويقع عليهم ولم يفرق الآية بين أهل الملل بعد أن يكونوا كفارا ويدل أيضا على إثبات ولاية الكفار على أولادهم الصغار لاقتضاء اللفظ له في جواز النكاح والتصرف في المال في حال الصغر والجنون* وقوله تعالى( إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ) يعنى والله أعلم إن تفعلوا ما أمرتم به في هاتين الآيتين من إيجاب الموالاة والتناصر والتوارث بالأخوة والهجرة ومن قطعها بترك الهجرة تكن فتنة في الأرض وفساد كبير وهذا مخرجه مخرج الخبر ومعناه الأمر وذلك لأنه إذا لم يتول المؤمن الفاضل على ظاهر حاله من الإيمان والفضل بما يدعو إلى مثل حاله ولم يتبرأ من الفاجر والضال بما يصرف عن ضلاله وفجوره أدى ذلك إلى الفساد والفتنة قوله تعالى( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) نسخ به إيجاب التوارث وبالهجرة والحلف والموالاة ولم يفرق فيه بين العصبات وغيرهم فهو حجة في إثبات ميراث ذوى الأرحام الذين لا تسمية لهم ولا تعصيب وقد ذكرنا فيما سلف في سورة النساء وذهب عبد الله بن مسعود إلى أن ذوى الأرحام أولى من مولى

٢٦٣

العتاقة واحتج فيه بظاهر الآية وليس هو كذلك عند سائر الصحابة وقد روى أن ابنة حمزة اعتقت عبدا ومات وترك بنتا فجعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم نصف ميراثه لابنته ونصفه لابنه حمزة بالولاية فجعلها عصبة والعصبة أولى بالميراث من ذوى الأرحام وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب * وقوله تعالى( فى كتاب الله ) قيل فيه وجهان أحدهما في اللوح المحفوظ كما قال( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ) والثاني في حكم الله تعالى.

سورة براءة

قال الله تعالى( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ) قال أبو بكر البراءة هي قطع الموالاة وارتفاع العصمة وزوال الأمان وقيل إن معناه هذه براءة من الله ورسوله ولذلك ارتفع وقيل هو ابتداء وخبره الظرف في إلى فاقتضى قوله عز وجل( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ) نقض العهد الذي كان بين النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وبينهم ورفع الأمان وإعلام نصب الحرب والقتال بينه وبينهم وهو على نحو قوله تعالى( وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء ) فكان ما ذكر في هذه الآية من البراءة نبذا إليهم ورفعا للعهد وقيل إن ذلك كان خاصا فيمن أضمروا الخيانة وهموا بالغدر وكان حكم هذا اللفظ أن يرفع العهد في حال ذكر ذلك لهم إلا أنه لما عقبه بقوله تعالى( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) بين به أن هذه البراءة وهذا النبذ إليهم إنما هي بعد أربعة أشهر وأن عهد ذوى العهد من هذا القبيل منهم باق إلى آخر هذه المدة قال الحسن فمن كان منهم عهده أكثر من أربعة أشهر حط إليها ومن كان منهم عهده أقل رفع إليها وقيل إن هذه الأربعة الأشهر التي هي أشهر العهد أولها من عشرين من ذي القعدة وذو الحجة والمحرم وصفر وعشرة أيام من شهر ربيع الأول لأن الحج في تلك السنة التي حج فيها أبو بكر وقرأ فيها على بن أبى طالب سورة براءة على الناس بمكة بأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان في ذي القعدة ثم صار الحج في السنة الثانية وهي السنة التي حج فيها النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في في ذي الحجة وهو الوقت الذي وقته الله تعالى للحج لأن المشركين كانوا ينسئون الشهور فاتفق عود الحج في السنة التي حج فيها النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إلى الوقت الذي فرضه الله تعالى فيه بديا على إبراهيم وأمره فيه بدعاء الناس إليه بقوله( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا )

٢٦٤

ولذلك قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وهو واقف بعرفات ألا إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض فثبت الحج في اليوم التاسع من ذي الحجة وهو يوم عرفة والنحر وهو اليوم العاشر منه فهذا قول من يقول إن الأربعة الأشهر التي جعلها للسياحة وقطع بمضيها عصمة المشركين وعهدهم وقد قيل في جواز نقض العهد قبل مضى مدته على جهة النبذ إليهم وإعلامهم نصب الحرب وزوال الأمان وجوه أحدها أن يخاف غدرهم وخيانتهم والآخر أن يثبت غدرهم سرا فينبذ إليهم ظاهرا والآخر أن يكون في شرط العهد أن يقرهم على الأمان ما يشاء وينقضه متى شاء كما قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لأهل خيبر أقركم ما أقركم الله والآخر أن العهد المشروط إلى مدة معلومة فيه ثبوت الأمان من حربهم وقتالهم من غير علمهم وأن لا يقصدوا وهم غارون وأنه متى أعلمهم رفع الأمان من حربهم فذلك جائز لهم وذلك معلوم في مضمون العهد وسواء خاف غدرهم أو لم يخف وكان في شرط العهد أن لناقضه متى شئنا أو لم يكن فإن لنا متى رأينا ذلك خطا للإسلام أن ننبذ إليهم وليس ذلك بغدر منا ولا خيانة ولا خفر للعهد لأن خفر الأمان والعهد أن يأتيهم بعد الأمان وهم غارون بأماننا فأما متى نبذنا إليهم فقد زال الأمان وعادوا حربا ولا يحتاج إلى رضاهم في نبذ الأمان إليهم ولذلك قال أصحابنا أن للإمام أن يهادن العدو إذا لم تكن بالمسلمين قوة على قتالهم فإن قوى المسلمون وأطاقوا قتالهم كان له أن ينبذ إليهم ويقاتلهم وكذلك كل ما كان فيه صلاح للمسلمين فللإمام أن يفعله وليس جواز رفع الأمان موقوفا على خوف الغدر والخيانة من قبلهم وقد روى عن ابن عباس أن هذه الأربعة الأشهر الحرم هي رجب وذو القعدة وذو الحجة إلى آخر المحرم وقد كانت سورة براءة نزلت حين بعث النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أبا بكر على الحج وكان الحج في تلك السنة في ذي القعدة فكأنهم على هذا القول إنما بقي عهدهم إلى آخر الأربعة الأشهر التي هي أشهر الحرم وقد روى جرير بن عن مغيرة عن الشعبي عن المحرر بن أبى هريرة عن أبيه قال كنت مع على حين بعثه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ببراءة إلى المشركين فكنت أنادى حتى صحل صوتي وكان أمرنا أن نقول لا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا مؤمن ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فأجله إلى أربعة أشهر فإذا مضت الأربعة الأشهر فان الله برىء من المشركين ورسوله وجائز أن تكون هذه الأربعة الأشهر من وقت

٢٦٥

ندائه وإعلامهم إياه وجائز أن يريد بها تمام أربعة أشهر من الأشهر الحرم وقد روى سفيان عن أبى إسحاق عن زيد بن يثيع عن على أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بعثه يوم الحج الأكبر أن لا يطوف أحد بالبيت عريانا ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ولا يحج مشرك بعد عامه هذا ومن كان بينه وبين النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عهد فاجعله إلى مدته فجمل في حديث على من له عهد عهده إلى أجله ولم يخصص أربعة أشهر من غيره وقال في حديث أبى هريرة فعهده إلى أربعة أشهر وجائز أن يكون المعنيان صحيحين وأن يكون جعل أجل بعضهم أربعة أشهر أو تمام أربعة أشهر التي هي أشهر الحرم وجعل أجل بعضهم إلى مدته طالت المدة أو قصرت وذكر الأربعة الأشهر في حديث أبى هريرة موافق لقوله تعالى( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) وذكر إثبات المدة التي أجلها في حديث على موافق لقوله تعالى( إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ) فكان أجل بعضهم وهم الذين خيف غدرهم وخيانتهم أربعة أشهر وأجل من لم يخش غدرهم إلى مدته وقد روى يونس عن أبى إسحاق قال بعث النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أميرا على الحج من سنة تسع فخرج أبو بكر ونزلت براءة في نقض ما بين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم والمشركين من العهد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم أن لا يصد عن البيت أحد ولا يخاف أحد في الشهر الحرام وكان ذلك عهدا عاما بينه وبين أهل الشرك وكانت بين ذلك عهود بين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وبين قبائل العرب خصائص إلى أجال مسماة فنزلت( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ) أهل العهد العام من أهل الشرك من العرب( فسيحوا في الارض اربعة أشهر ) أن الله برىء من المشركين بعده هذه الحجة وقوله( إلا الذين عاهدتم من المشركين ) يعنى العهد الخاص إلى الأجل المسمى( فإذا انسلخ الأشهر الحرم ) يعنى الأربعة التي ضربه لهم أجلا وقوله( إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ) من قبائل بنى بكر الذين كانوا دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية إلى المدة التي كانت بين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وبين قريش فلم يكن نقضها إلا هذا الحي من قريش وبنو الدئل فأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بإتمام العهد لمن لم يكن نقضه من بنى بكر إلى مدته( فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ) وروى معاوية بن صالح عن على بن أبى طلحة عن ابن عباس في قوله( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) قال جعل الله للذين عاهدوا رسول

٢٦٦

الله صلّى الله عليه وآله وسلم أربعة أشهر يسيحون فيها حيث شاءوا وأجل من ليس له عهد انسلاخ الأشهر الحرم خمسين ليلة وأمره إذا انسلخ الأشهر الحرم أن يضع السيف فيمن عاهدوا ولم يدخلوا في الإسلام ونقض ما سمى لهم من العهد والميثاق* قال أبو بكر جعل ابن عباس في هذا الحديث الأربعة الأشهر التي هي أشهر العهد لمن كان له منهم عهد ومن لم يكن منهم عهد جعل أجله انسلاخ المحرم وهو تمام خمسين ليلة من وقت الحج وهو العشر من ذي الحجة وذلك آخر وقت أشهر الحرم وروى ابن جريج عن مجاهد في قوله( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ) إلى أهل العهد من خزاعة ومدلج ومن كان له عهد من غيرهم قال ثم بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أبا بكر وعليا فآذنوا أصحاب العهود أن يأمنوا أربعة أشهر وهي الأشهر الحرم المتواليات من عشر من ذي الحجة إلى عشر يخلو من شهر ربيع الآخر ثم لا عهد لهم قال وهي الحرم من أجل أنهم آمنوا فيها قال أبو بكر فجعل مجاهد الأشهر الحرم في أشهر العهد وذهب إلى أنها إنما سميت بذلك لتحريم القتال فيها وليست هي الأشهر التي قال الله فيها( أربعة حرم ) وقال( يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه ) لأنه لا خلاف أن هذه الأشهر هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب وكذلك قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم والذي قاله مجاهد في ذلك محتمل وقال السدى( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) قال عشرون يبقى من ذي الحجة إلى عشر من ربيع الآخر ثم لا أمان لأحد ولا عهد إلا الإسلام أو السيف وحدثنا عبد الله بن إسحاق المروزى حدثنا الحسن بن أبى الربيع الجرجانى أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري في قوله( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) قال نزلت في شوال وهي أربعة أشهر شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم وقال قتادة عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وعشر من ربيع الآخر كان ذلك في العهد الذي بينهم قال أبو بكر قول قتادة موافق لقول مجاهد الذي حكيناه أما قول الزهري فأظنه وهما لأن الرواة لم يختلفوا أن سورة براءة نزلت في ذي الحجة في الوقت الذي بعث النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أبا بكر على الحج ثم نزلت بعد خروجه سورة براءة فثبت بها مع على ليقرأها على الناس فثبت بما ذكرنا من هذه الأخبار أنه قد كان بين النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وبين المشركين عهد عام وهو أن لا يصد أحدا منهم عن البيت ولا يخاف أحد في الشهر الحرام فجعل الله تعالى عهدهم أربعة أشهر بقوله تعالى( فسيحوا في الأرض

٢٦٧

أربعة أشهر ) وكان بينه وبين خواص منهم عهود إلى آجال مسماة وأم بالوفاء لهم وإتمام عهودهم إلى مدتهم إذا لم يخش غدرهم وخيانتهم وهو قوله تعالى( إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ) وهذا يدل على أن مدتهم إما أن تكون إلى آخر الأشهر الحرم التي قد كان الله تعالى حرم القتال فيها وجائز أن تكون مدتهم إلى آخر الأربعة الأشهر من وقت النبذ إليهم وهو يوم النحر وأخره عشر مضين من شهر ربيع الآخر فسماها الأشهر الحرم على ما ذكره مجاهد لتحريم القتال فيها فلم يكن لأحد منهم بعد ذلك عهد وأوجب بمضى هذه المدة دفع العهود كلها سواء من كان له منهم عهد خاص أو سائر المشركين الذين عمهم عهده في ترك منعهم من البيت وحظره قتلهم في أشهر الحرم وجائز أن يكون مراده انسلاخ المحرم الذي هو آخر الأشهر الحرم التي كان الله تعالى حظره القتال فيها وقد رويناه عن ابن عباس قوله تعالى( وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر ) يعنى إعلام من الله ورسوله يقال أذننى بكذا أى أعلمنى فعلمت واختلف في يوم الحج الأكبر فروى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في بعض الأخبار أنه يوم عرفة وعن على وعمرو ابن عباس وعطاء ومجاهد نحو ذلك على اختلاف من الرواية فيه وروى أيضا عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه يوم النحر وعن على وابن عباس وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن أبى أو في وإبراهيم وسعيد بن جبير على اختلاف فيه من الرواة وعن مجاهد وسفيان الثوري أيام الحج كلها وهذا شائع كما يقال يوم صفين وقد كان القتال في أيام كثيرة وروى حماد عن مجاهد أيضا قال الحج الأكبر القران والحج الأصغر الإفراد وقد ضعف هذا التأويل من قبل أنه يوجب أن يكون للإفراد يوم بعينه وللقران يوم بعينه وقد علم أن يوم القران هو يوم الإفراد للحج فتبطل فائدة تفضيل اليوم الحج الأكبر فكان يجب أن يكون النداء بذلك في يوم القران وقوله تعالى( يوم الحج الأكبر ) لما كان يوم عرفة أو يوم النحر وكان الحج الأصغر العمرة وجب أن يكون أيام الحج غير أيام العمرة فلا تفعل العمرة في أيام الحج وقد روى عن ابن سيرين أنه قال إنما قال( يوم الحج الأكبر ) لأن أعياد الملل اجتمعت فيه وهو العام الذي حج فيه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقيل هذا غلط لأن الإذن بذلك كانت في السنة التي حج فيها أبو بكر ولأنه في السنة التي حج فيها النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لم يحج فيها المشركون لتقدم النهى عن ذلك في السنة

٢٦٨

الأولى وقال عبد الله بن شداد الحج الأكبر يوم النحر والحج الأصغر العمرة وعن ابن عباس العمر هي الحجة الصغرى وعن عبد الله بن مسعود مثله قال أبو بكر قوله( الحج الأكبر) قد اقتضى أن يكون هناك حج أصغر وهو العمرة على ما روى عن عبد الله بن شداد وابن عباس وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال العمرة الحجة الصغرى وإذا ثبت أن اسم الحج يقع على العمرة ثم قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم للأقرع بن حابس حين سأله فقال الحج في كل عام أو حجة واحدة فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لا بل حجة واحدة وهذا يدل على نفى وجوب العمرة لنفى النبي الوجوب إلا في حجة واحدة وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم الحج عرفة وهذا يدل على أن يوم الحج الأكبر هو يوم عرفة ويحتمل أن يكون يوم النحر لأن فيه تمام قضاء المناسك والتفث ويحتمل أيام منى على ما روى عن مجاهد وخصه بالأكبر لأنه مخصوص بفعل الحج فيه دون العمرة وقد قيل إن يوم النحر أولى بأن يكون يوم الحج الأكبر من يوم عرفة لأنه اليوم الذي يجتمع فيه الحج لقضاء المناسك وعرفة قد يأتيها بعضهم ليلا وبعضهم نهارا وأما النداء بسورة براءة فجائز أن يكون يوم عرفة وجائز يوم النحر قال الله تعالى( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) روى معاوية بن صالح عن على بن أبى طلحة عن ابن عباس في قوله( لست عليهم بمصيطر ) وقوله( وما أنت عليهم بجبار ) وقوله تعالى( فاعف عنهم واصفح ) وقوله( قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ) قال نسخ هذا كله قوله تعالى( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) وقوله تعالى( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) الآية وقال موسى بن عقبة قد كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قبل ذلك يكف عمن لم يقاتله بقوله تعالى( وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ) ثم نسخ ذلك بقوله( براءة من الله ورسوله ) ثم قال( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين ) قال أبو بكر عمومه يقتضى قتل سائر المشركين من أهل الكتاب وغيرهم وأن لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف إلا أنه تعالى خص أهل الكتاب بإقرارهم على الجزية بقوله تعالى( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) الآية وأخذ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه كان إذا بعث سرية قال إذا لقيتم المشركين فادعوهم إلى الإسلام فإن أبوا فادعوهم إلى أداء الجزية فإن فعلوا فخذوه منهم وكفوا عنهم وذلك عموم في سائر المشركين

٢٦٩

فحصصنا منه لم يكن من مشركي العرب بالآية وصار قوله تعالى( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) خاصا في مشركي العرب دون غيرهم وقوله تعالى( وخذوهم واحصروهم ) يدل على حبسهم بعد الأخذ والاستبقاء بقتلهم انتظارا لإسلامهم لأن الحصر هو الحبس ويدل أيضا على جواز حصر الكفار في حصونهم ومدنهم إن كان فيهم من لا يجوز قتله من النساء والصبيان وأن يلقوا بالحصار قوله تعالى( فاقتلوا المشركين ) يقتضى عمومه جواز قتلهم على سائر وجوه القتل إلا أن السنة قد وردت بالنهى عن المثلة وعن قتل الصبر بالنبل ونحوه وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أعف الناس قتلة أهل الإيمان وقال إذا قتلتم فأحسنوا القتلة وجائز أن يكون أبو بكر الصديق رضى الله عنه حين قتل أهل الردة بالإحراق والحجارة والرمي من رءوس الجبال والتنكيس في الأبار إنما ذهب فيه إلى ظاهر الآية وكذلك على بن أبى طالب رضى الله عنه حين أحرق قوما مرتدين جائز أن يكون اعتبر عموم الآية.

قوله عز وجل( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ) لا يخلوا قوله تعالى( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ) من أن يكون وجود هذه الأفعال منهم شرطا في زوال القتل عنهم ويكون قبول ذلك والانقياد لأمر الله تعالى فيه هو الشرط دون وجود الفعل ومعلوم أن وجود التوبة من الشرك شرط لا محالة في زوال القتل ولا خلاف أنهم لو قبلوا أمر الله في فعل الصلاة والزكاة ولم يكن الوقت وقت صلاة أنهم مسلمون وأن دمائهم محظورة فعلمنا أن شرط زوال القتل عنهم هو قبول أوامر الله والاعتراف بلزومها دون فعل الصلاة والزكاة ولأن إخراج الزكاة لا يلزم بنفس الإسلام إلا بعد حول فغير جائز أن يكون إخراج الزكاة شرطا في زوال القتل وكذلك فعل الصلاة ليس بشرط فيه وإنما شرطه قبول هذه الفرائض والتزامها والاعتراف بوجوبها فإن قيل لما قال الله تعالى( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ) فشرط مع التوبة قبل الصلاة والزكاة ومعلوم أن التوبة إنما هي الإقلاع عن الكفر والرجوع إلى الإيمان فقد عقل بذكره التوبة التزام هذه الفرائض والاعتراف بها إذ لا تصح التوبة إلا به ثم لما شرط مع التوبة الصلاة والزكاة دل على أن المعنى المزيل للقتل هو اعتقاد الإيمان بشرائطه وفعل الصلاة والزكاة فأوجب ذلك قتل تارك الصلاة والزكاة في وقت وجوبهما

٢٧٠

وإن كان معتقدا للإيمان معترفا بلزوم شرائعه قيل له لو كان فعل الصلاة والزكاة من شرائط زوال القتل لما زال القتل عمن أسلم في غير وقت الصلاة وعم لم يؤد زكاته مع إسلامه فلما اتفق الجميع على زوال القتل عمن وصفنا أمره بعد اعتقاده للإيمان للزوم شرائعه ثبت بذلك أن فعل الصلاة والزكاة ليس من شرائط زوال القتل وأن شرطه إظهار الإيمان وقبول شرائعه ألا ترى أن قبول الإيمان والتزام شرائعه لما كان شرطا في ذلك لم يزل عنه القتل عند إخلاصه ببعض ذلك وقد كانت الصحابة سبت ذراري مانعي الزكاة وقتلت مقاتلتهم وسموهم أهل الردة لأنهم امتنعوا من التزام الزكاة وقبول وجوبها فكانوا مرتدين بذلك لأن من كفر بآية من القرآن فقد كفر به كله وعلى ذلك أجرى حكمهم أبو بكر الصديق مع سائر الصحابة حين قاتلوهم ويدل على أنهم مرتدون بامتناعهم من قبول فرض الزكاة ما روى معمر عن الزهري عن أنس قال لما توفى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ارتدت العرب كافة فقال عمر يا أبا بكر أتريد أن تقاتل العرب كافة فقال أبو بكر إنما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة منعونى دماءهم وأموالهم والله لو منعونى عقالا مما كانوا يعطون إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم عليه وروى مبارك بن فضالة عن الحسن قال ما قبض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ارتدت العرب عن الإسلام إلا أهل المدينة فنصب أبو بكر لهم الحرب فقالوا فإذا تشهد أن لا إله إلا الله ونصلى ولا نزكى فمشى عمر والبدريون إلى أبى بكر وقالوا دعهم فإنهم إذا استقر الإسلام في قلوبهم وثبت أدوا فقال والله لو منعونى عقالا مما أخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لقتالتهم عليه وقاتل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم على ثلاث شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وقال الله تعالى( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ) والله لا أسئل فوقهن ولا أقصر دونهن فقالوا له يا أبا بكر نحن نزكى ولا ندفعها إليك فقال لا والله حتى آخذها كما أخذها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأضعها مواضعها وروى حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين مثله وروى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبى هريرة قال لما قبض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم واستخلف أبو بكر وارتد من ارتد من العرب بعث أبو بكر لقتال من ارتد عن الإسلام فقال له عمر يا أبا بكر ألم تسمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا فعلوا ذلك عصموا

٢٧١

منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله فقال لو منعونى عقالا مما كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم عليه فأخبر جميع هؤلاء الرواة إن الذين ارتدوا من العرب إنما كان ردتهم من جهة امتناعهم من أداء الزكاة وذلك عندنا على أنهم امتنعوا من أداء الزكاة على جهة الرد لها وترك قبولها فسموا مرتدين من أجل ذلك وقد أخبر أبو بكر الصديق أيضا في حديث الحسن أنه يقاتلهم على ترك التزامها والاعتراف بوجوبها مرتد وأن مانعها من الإمام بعد الاعتراف بها يستحق القتال فثبت أن من أدى صدقة مواشيه إلى الفقراء إن الإمام لا يحتسب له بها وأنه متى امتنع من دفعها إلى الإمام قاتله عليها وكذلك قال أصحابنا في صدقات المواشي وأما زكاة الأموال فإن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر وعمر قد كانوا يأخذونها كما يأخذون صدقات المواشي فلما كان أيام عثمان خطب الناس فقال هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده ثم ليزك بقية ماله فجعل الأداء إلى أرباب الأموال وصاروا بمنزلة الوكلاء للإمام في أدائها وهذا الذي فعله أبو بكر في مانعي الزكاة بموافقة الصحابة إياه كان من غير خلاف منهم بعد ما تبينوا صحة رأيه واجتهاده في ذلك ويحتج من أوجب قتل تارك الصلاة ومانع الزكاة عامدا بهذه الآية وزعم أنها توجب قتل المشرك إلا أن يؤمن ويقيم الصلاة ويؤتى الزكاة وقد بينا المعنى في قوله تعالى( وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ) وأن المراد قبول لزومهما والتزام فرضهما دون فعلهما وأيضا فليس في الآية ما ادعوا من الدلالة على ما ذهبوا إليه من قبل أنها إنما أوجبت قتل المشركين ومن تاب من الشرك ودخل في الإسلام والتزم فروضه وأقربها فهو غير مشرك باتفاق فلم تقتض الآية قتله إذ كان حكمها مقصورا في إيجاب القتل على من كان مشركا وتارك الصلاة ومانع الزكاة ليس بمشرك فإن قالوا إنما أزال القتل عنه بشرطين أحدهما التوبة وهي الإيمان وقبول شرائعه والوجه الثاني فعل الصلاة وأداء الزكاة قيل له إنما أوجب بديا قتل المشركين بقوله تعالى( فاقتلوا المشركين ) فمتى زالت عنهم سمة الشرك فقد وجب زوال القتل ويحتاج في إيجابه إلى دلالة أخرى من غيره فإن قال هذا يؤدى إلى إبطال فائدة ذكر الشرطين في الآية قيل له ليس الأمر على ما ظننت وذلك

٢٧٢

لأن الله تعالى إنما جعل هذين القربين من فعل الصلاة وإيتاء الزكاة شرطا في وجوب تخلية سبيلهم لأنه قال( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ) وذلك بعد ذكره القتل للمشركين بالحصر فإذا زال القتل بزوال سمة الشرك فالحصر والحبس باق لترك الصلاة ومنع الزكاة لأن من ترك الصلاة عامدا وأصر عليه ومنع الزكاة جاز للإمام حبسه فحينئذ لا يجب تخليته إلا بعد فعل الصلاة وأداء الزكاة فانتظمت الآية حكم إيجاب قتل المشرك وحبس تارك الصلاة ومانع الزكاة بعد الإسلام حتى يفعلهما قوله تعالى( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ) قد اقتضت هذه الآية جواز أمان الحربي إذا طلب ذلك منا ليسمع دلالة صحة الإسلام لأن قوله تعالى( استجارك ) معناه استأمنك وقوله تعالى( فأجره ) معناه فأمنه حتى يسمع كلام الله الذي فيه الدلالة على صحة التوحيد وعلى صحة نبوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وهذا يدل على أن الكافر إذا طلب منا إقامة الحجة عليه وبيان دلائل التوحيد والرسالة حتى يعتقدهما لحجة ودلالة كان علينا إقامة الحجة وبيان توحيد الله وصحة نبوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وأنه غير جائز لنا قتله إذا طلب ذلك منا إلا بعد بيان الدلالة وإقامة الحجة لأن الله قد أمرنا بإعطائه الأمان حتى يسمع كلام الله وفيه الدلالة أيضا على أن علينا تعليم كل من التمس منا تعريفه شيئا من أمور الدين لأن الكافر الذي استجارنا ليسمع كلام الله إنما قصد التماس معرفة صحة الدين وقوله تعالى( ثم أبلغه مأمنه ) يدل على أن على الإمام حفظ هذا الحربي المستجير وحياطته ومنع الناس من تناوله بشر لقوله( فأجره ) وقوله( ثم أبلغه مأمنه ) وفي هذا دليل أيضا على أن على الإمام حفظ أهل الذمة والمنع من أذيتهم والتخطي إلى ظلمهم وفيه الدلالة على أنه لا يجوز إقرار الحربي في دار الإسلام مدة طويلة وأنه لا يترك فيها إلا بمقدار قضاء حاجته لقوله تعالى( حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ) فأمر برده إلى دار الحرب بعد سماعه كلام الله وكذلك قال أصحابنا لا ينبغي للإمام أن يترك الحربي في دار الإسلام مقيما بغير عذر ولا سبب يوجب إقامته وأن عليه أن يتقدم إليه بالخروج إلى داره فإن أقام بعد التقدم إليه سنة في دار الإسلام صار ذميا ووضع عليه الخراج قوله تعالى( كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ) قال أبو بكر ابتداء السورة يذكر قطع العهد بين النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وبين المشركين بقوله( براءة من

٢٧٣

الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ) وقد قيل إن هؤلاء قد كان بينهم وبين النبي عهد فغدروا وأسروا وهموا به فأمر الله نبيه بالنبذ إليهم ظاهرا وفسح لهم في مدة أربعة أشهر بقوله( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) وقيل إنه أراد العهد الذي كان بينه وبين المشركين عامة في أن لا يمنع أحد من المشركين من دخوله مكة للحج وأو لا يقاتلوا ولا يقتلوا في الشهر الحرام فكان قول( براءة من الله ورسوله ) في أحد هذين الفريقين ثم استثنى من هؤلاء قوما كان بينهم وبين رسول الله عهد خاص ولم يغدروا ولم يهموا به فقال( إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ) ففرق بين حكم هؤلاء الذين ثبتوا على عهدهم ولم ينقصوكم ولم يعاونوا أعداءهم عليهم وأمر بإتمام عهدهم إلى مدتهم وأمر بالنبذ إلى الأولين وهم أحد فريقين من غادر قاصدا إليه أو لم يكن بينه وبين النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عهد خاص في سائر أحواله بل في دخول مكة الحج والأمان في الأشهر الحرم الذي كان يأمن فيه جميع الناس* وقوله تعالى( ولم يظاهروا عليكم أحدا ) يدل على أن المعاهد متى عاون علينا عدوا لنا فقد نقض عهده ثم قال تعالى( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين ) فرفع بعد انقضاء أشهر الحرم عهد كل ذي عهد من خاص ومن عام ثم قال تعالى( كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ) لأنهم غدروا ولم يستقيموا ثم استثنى منهم الذين عاهدوهم عند المسجد الحرام قال أبو إسحاق هم قوم من بنى كنانة وقال ابن عباس هم من قريش وقال مجاهد هم من خزاعة فأمر المسلمين بالوفاء بعهدهم ما استقاموا لهم في الوفاء به وجائز أن تكون مدة هؤلاء في العهد دون مضى أشهر الحرم لأنه قال( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) وعمومه يقتضى رفع سائر العهود التي كانت بين المسلمين والكفار وجائز أن تكون مدة عهدهم بعد انقضاء الأشهر الحرم وكانوا مخصوصين ممن أمروا بقتلهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم وإن ذلك إنما كان خاصا في قوم منهم كانوا أهل غدر وخيانة لأنه قال( فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ) يدل على أن من أظهر لنا الإيمان وأقام الصلاة وآتى الزكاة فعلينا موالاته في الدين على ظاهر أمره مع وجود أن يكون اعتقاده في المغيب خلافه* قوله تعالى( وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم

٢٧٤

فقاتلوا أئمة الكفر ) فيه دلالة على أن أهل العهد متى خالفوا شيئا مما عوهدوا عليه وطعنوا في ديننا فقد نقضوا العهد وذلك لأن نكث الأيمان يكون بمخالفة بعض المحلوف عليه إذا كانت اليمين فيه على وجه النفي كقوله والله لا كلمت زيدا ولا عمرو ولا دخلت هذه الدار ولا هذه أيهما فعل حنث ونكث يمينه ثم لما ضم إلى ذلك الطعن في الدين دل على أن أهل العهد من شروط بقاء عهدهم تركهم للطعن في ديننا وإن أهل الذمة ممنوعون من إظهار الطعن في دين المسلمين وهو يشهد لقول من يقول من الفقهاء إن من أظهر شتم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من أهل الذمة فقد نقض عهده ووجب قتله وقد اختلف الفقهاء في ذلك فقال أصحابنا يعزر ولا يقتل وهو قول الثوري وروى ابن القاسم عن مالك فيمن شتم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من اليهود والنصارى قتل إلا أن يسلم وروى الوليد بن مسلم عن الأوزاعى ومالك فيمن سب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قالا هي ردة يستتاب فإن تاب نكل وإن لم يتب قتل قال يضرب مائة ثم يترك حتى إذا هن برىء ضرب مائة ولم يذكر فرقا بين المسلم والذمي وقال الليث في المسلم يسب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إنه لا يناظر ولا يستتاب ويقتل مكانه وكذلك اليهود والنصارى وقال الشافعى ويشترط على المصالحين من الكفار أن من ذكر كتاب الله أو محمدا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بما لا ينبغي أو زنى بمسلمة أو أصابها باسم نكاح أو فتن مسلما عن دينه أو قطع عليه طريقا أو أعان أهل الحرب بدلالة على المسلمين أو آوى عينا لهم فقد نقض عهده وأحل دمه وبرئت منه ذمة الله وذمة رسوله وظاهر الآية يدل على أن من أظهر سب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من أهل العهد فقد نقض عهده لأنه قال تعالى( وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر ) فجعل الطعن في ديننا بمنزلة نكث الأيمان إذ معلوم أنه لم يرد أن يجعل نكث الأيمان والطعن في الدين بمجموعهما شرطا في نقض العهد لأنهم لو نكثوا الأيمان بقتال المسلمين ولم يظهروا الطعن في الدين لكانوا ناقضين للعهد وقد جعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم معاونة قريش بنى بكر على خزاعة وهم حلفاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلم نقضا للعهد وكانوا يفعلون ذلك سرا ولم يكن منهم إظهار طعن في الدين فثبت بذلك أن معنى الآية وان نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر فإذا ثبت ذلك كان من أظهر سب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من أهل العهد ناقضا للعهد إذ سب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم من أكثر في الدين فهذا وجه يحتج به القائلون

٢٧٥

بما وصفنا* ومما يحتج به لذلك ما روى أبو يوسف عن حصين بن عبد الرحمن عن رجل عن أبى عمران أن رجلا قال له إنى سمعت راهبا سب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقال لو سمعته لقتله إنا لم نعطهم العهد على هذا وهو إسناد ضعيف وجائز أن يكون قد شرط عليهم أن لا يظهروا سب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وقد روى سعيد عن قتادة عن أنس يهوديا مر على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقال السام عليك فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أتدرون ما قال فقالوا نعم ثم رجع فقال مثل ذلك فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا عليك وروى الزهري عن عروة عن عائشة قالت دخل رهط من اليهود على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقالوا السام عليكم قالت ففهمتها فقالت وعليكم السام واللعنة فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مهلا يا عائشة فإن الله يحب الرفق في الأمر كله فقلت يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قلت عليكم ومعلوم أن مثله لو كان من مسلم لصار به مرتدا مستحقا للقتل ولم يقتلهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بذلك وروى شعبة عن هشام بن يزيد عن أنس بن مالك أن امرأة يهودية أتت النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بشاة مسمومة فأكل منها فجيء بها فقالوا ألا تقتلها قال لا قال فما زلت أعرفها في سهوات رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ولا خلاف بين المسلمين أن من قصد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بذلك فهو ممن ينتحل الإسلام أنه مرتد يستحق القتل ولم يجعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مبيحة لدمها بما فعلت فكذلك إظهار سب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من الذمي مخالف لإظهار المسلم له* وقوله( فقاتلوا أئمة الكفر ) روى ابن عباس ومجاهد أنهم رؤساء قريش وقال قتادة أبو جهل وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة وسهيل بن عمرو وهم الذين هموا بإخراجه قال أبو بكر ولم يختلف في أن سورة براءة نزلت بعد فتح مكة وأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بعث بها مع على بن أبى طالب ليقرأها على الناس في سنة تسع وهي السنة التي حج فيها أبو بكر وقد كان أبو جهل وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة قد كانوا قتلوا يوم بدر ولم يكن بقي من رؤساء قريش أحد يظهر الكفر في وقت نزول براءة وهذا يدل على أن رواية من روى ذلك في رؤساء قريش وهم اللهم إلا أن يكون المراد قوما من قريش قد كانوا أظهروا الإسلام وهم الطلقاء من نحو أبي سفيان وأحزابه ممن لم ينق قلبه من الكفر فيكون مراد الآية هؤلاء دون أهل العهد من المشركين الذين لم يظهروا الإسلام وهم الذين كانوا هموا بإخراج الرسول من مكة وبدرهم بالقتال والحرب بعد الهجرة وجائز أن يكون مراده هؤلاء الذين ذكرنا وسائر رؤساء العرب الذين كانوا

٢٧٦

معاضدين لقريش على حرب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وقتال المسلمين فأمر الله تعالى بقتالهم وقتلهم إن هم نكثوا أيمانهم وطعنوا في دين المسلمين وقوله تعالى( أنهم لا أيمان لهم ) معناه لا أيمان لهم وافية موثوقا بها ولم ينف به وجود الأيمان منهم لأنه قد قال بديا( وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم ) وعطف على ذلك أيضا قوله( ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم ) فثبت أنه لم برد بقوله( لا أيمان لهم ) نفى الأيمان أصلا وإنما أراد به نفى الوفاء بها وهذا يدل على جواز إطلاق لا والمراد نفى الفضل دون نفى الأصل ولذلك نظائر موجودة في السنن وفي كلام الناس كقوله صلّى الله عليه وآله وسلم لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد وليس بمؤمن من لا يأمن جاره بوائقه ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله ونحو ذلك فأطلق الإمامة في الكفر لأن الإمام هو المقتدى به المتبع في الخير والشر قال الله تعالى( وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ) وقال في الخير( وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا ) فالإمام في الخير هاد مهتد والإمام في الشر ضال مضل قد قيل إن هذه الآية نزلت في اليهود الذين كانوا غدروا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونكثوا ما كانوا أعطوا من العهود والأيمان على أن لا يعينوا عليه أعداءه من المشركين وهموا بمعاونة المنافقين والكفار على إخراج النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من المدينة وأخبر أنهم بدءوا بالغدر ونكث العهد وأمر بقتالهم بقوله( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ) وجائز أن يكون جميع ذلك مرتبا على قوله( وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم ) وجائز أن يكون قد كانوا نقضوا العهد بقوله( ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم ) قوله تعالى( أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة ) فإن معناه أم حسبتم أن تتركوا ولم تجاهدوا لأنهم إذا جاهدوا علم الله ذلك منهم فأطلق اسم العلم وأراد به قيامهم بفرض الجهاد حتى يعلم الله وجود ذلك منهم وقوله( ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة ) يقتضى لزوم اتباع المؤمنين وترك العدول عنهم كما يلزم اتباع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وفيه دليل على لزوم حجة الإجماع وهو كقوله( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ) والوليجة المدخل يقال ولج إذا دخل كأنه قال لا يجوز أن يكون له مدخل غير مدخل المؤمنين ويقال إن الوليجة بمعنى الدخيلة والبطانة وهي من المداخلة والمخالطة والمؤانسة فإن كان المعنى هذا فقد دل على النهى عن مخالطة غير المؤمنين ومداخلتهم

٢٧٧

وترك الاستعانة بهم في أمور الدين كما قال( لا تتخذوا بطانة من دونكم ) .

قوله تعالى( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ) عمارة المسجد تكون بمعنيين أحدهما زيارته والسكون فيه والآخر ببنائه وتجديد ما استرم منه وذلك لأنه يقال اعتمر إذا زار ومنه العمرة لأنها زيارة البيت وفلان من عمار المساجد إذا كان كثير المضي إليها والسكون فيها وفلان يعمر مجلس فلان إذا أكثر غشيانه له فاقتضت الآية منع الكفار من دخول المساجد ومن بنائها وتولى مصالحها والقيام بها لانتظام اللفظ للأمرين قوله تعالى( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ) فيه نهى للمؤمنين عن موالاة الكفار ونصرتهم والاستنصار بهم وتفويض أمورهم إليهم وإيجاب التبري منهم وترك تعظيمهم وإكرامهم وسواء بين الآباء والإخوان في ذلك إلا أنه قد أمر مع ذلك بالإحسان إلى الأب الكافر وصحبته بالمعروف بقوله تعالى( ووصينا الإنسان بوالديه ـ إلى قوله ـوإن جاهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا ) وإنما أمر المؤمنين بذلك يتميزوا من المنافقين إذا كان المنافقون يتولون الكفار ويظهرون إكرامهم وتعظيمهم إذا لقوهم ويظهرون لهم الولاية والحياطة فجعل الله تعالى ما أمر به المؤمن في هذه الآية علما يتميز به المؤمن من المنافق وأخبر أن من لم يفعل ذلك فهو ظالم لنفسه مستحق للعقوبة من ربه* قوله تعالى( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) إطلاق اسم النجس على المشرك من جهة أن الشرك الذي يعتقده يجب اجتنابه كما يجب اجتناب النجاسات والأقذار فلذلك سماهم نجسا والنجاسة في الشرع تنصرف على وجهين أحدهما نجاسة الأعيان والآخر نجاسة الذنوب وكذلك الرجس والرجز ينصرف على هذين الوجهين في الشرع قال الله تعالى( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان ) وقال في وصف المنافقين( سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ) فسماهم رجسا كما سمى المشركين نجسا وقد أفاد قوله( إنما المشركون نجس ) منعهم عن دخول المسجد إلا لعذر إذ كان علينا تطهير المساجد من الأنجاس* وقوله تعالى( فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) قد تنازع معناه أهل العلم فقال مالك والشافعى لا يدخل المشرك المسجد الحرام قال مالك

٢٧٨

ولا غيره من المساجد إلا لحاجة من نحو الذمي يدخل إلى الحاكم في المسجد للخصومة وقال الشافعى يدخل كل مسجد إلا المسجد الحرام خاصة وقال أصحابنا يجوز للذمي دخول سائر المساجد وإنما معنى الآية على أحد وجهين إما أن يكون النهى خاصا في المشركين الذين كانوا ممنوعين من دخول مكة وسائر المساجد لأنهم لم تكن لهم ذمة وكان لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف وهم مشركوا العرب أو أن يكون المراد منعهم من دخول مكة للحج ولذلك أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالنداء يوم النحر في السنة التي حج فيها أبو بكر فيما روى الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبى هريرة أن أبا بكر بعثه فيمن يؤذن يوم النحر بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك فنبذ أبو بكر إلى الناس فلم يحج في العام الذي حج فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم مشرك فأنزل الله تعالى في العام الذي نبذ فيه أبو بكر إلى المشركين( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس ) الآية وفي حديث على حين أمره النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن يبلغ عنه سورة براءة نادى ولا يحج بعد العام مشرك وفي ذلك دليل على المراد بقوله( فلا يقربوا المسجد الحرام ) ويدل عليه قوله تعالى في نسق التلاوة( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ) وإنما كانت خشية العيلة لانقطاع تلك المواسم بمنعهم من الحج لأنهم كانوا ينتفعون بالتجارات التي كانت تكون في مواسم الحج فدل ذلك على أن مراد الآية الحج ويدل عليه اتفاق المسلمين على منع المشركين من الحج والوقوف بعرفة والمزدلفة وسائر أفعال الحج وإن لم يكن في المسجد ولم يكن أهل الذمة ممنوعين من هذه المواضع ثبت أن مراد الآية هو الحج دون قرب المسجد لغير الحج لأنه إذا حمل على ذلك كان عموما في سائر المشركين وإذا حمل على دخول المسجد كان خاصا في ذلك دون ما قرب المسجد والذي في الآية النهى عن قرب المسجد فغير جائز تخصيص المسجد به دون ما يقرب منه وقد روى حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن عن عثمان بن أبى العاص أن وفد ثقيف لما قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضرب لهم قبة في المسجد فقالوا يا رسول الله قوم أنجاس فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنه ليس على الأرض من أنجاس الناس شيء إنما أنجاس الناس على أنفسهم وروى يونس عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن أبا سفيان كان يدخل مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو كافر غير أن ذلك لا يحل في المسجد الحرام لقول الله تعالى فلا يقربوا المسجد الحرام قال أبو بكر فأما وفد ثقيف فإنهم جاءوا بعد فتح مكة

٢٧٩

إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم والآية نزلت في السنة التي حج فيها أبو بكر وهي سنة تسع فأنزلهم النبي صلّى الله عليه وسلّم في المسجد وأخبر أن كونهم أنجاسا لا يمنع دخولهم المسجد وفي ذلك دلالة على أن نجاسة الكفر لا يمنع الكافر من دخول المسجد وأما أبو سفيان بأنه جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم لتجديد الهدنة وذلك قبل الفتح وكان أبو سفيان مشركا حينئذ والآية وإن كان نزولها بعد ذلك فإنما اقتضت النهى عن قرب المسجد الحرام ولم تقتض المنع من دخول الكفار سائر المساجد فإن قيل لا يجوز للكافر دخول الحرم إلا أن يكون عبدا أو صبيا أو نحو ذلك لقوله تعالى( فلا يقربوا المسجد الحرام ) ولما روى زيد بن يثيع عن على رضى الله عنه أنه نادى بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يدخل الحرم مشرك قيل له إن صح هذا اللفظ فالمراد أن لا يدخله للحج وقد روى في أخبار عن على أنه نادى أن لا يحج بعد العام مشرك وكذلك في حديث أبى هريرة فثبت أن المراد دخول الحرم للحج وقد روى شريك عن أشعث عن الحسن عن جابر بن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لا يقرب المشركون المسجد الحرام بعد عامهم هذا إلا أن يكون عبدا أو أمة يدخله لحاجة فأباح دخول العبد والأمة للحاجة لا للحج وهذا يدل على أن الحر الذمي له دخوله لحاجة إذ لم يفرق أحد بين العبد والحر وإنما خص العبد والأمة والله أعلم بالذكر لأنهما لا يدخلانه في الأغلب الأعم للحج وقد حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزى قال حدثنا الحسن بن أبى الربيع الجرجانى قال أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرنى أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله تعالى( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام ) إلا أن يكون عبدا أو واحدا من أهل الذمة فوقفه أبو الزبير على جابر وجائز أن يكون صحيحين فيكون جابر قد رفعه تارة وأفتى بها اخرى وروى ابن جريج عن عطاء قال لا يدخل المشرك وتلا قوله تعالى( فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) قال عطاء المسجد الحرام الحرم كله قال ابن جريج وقال لي عمرو بن دينار مثل ذلك قال أبو بكر والحرم كله يعبر عنه بالمسجد إذ كانت حرمته متعلقة بالمسجد وقال الله تعالى( والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ) والحرم كله مراد به وكذلك قوله تعالى( ثم محلها إلى البيت العتيق ) قد أريد به الحرم كله لأنه في أى الحرم نحر البدن أجزأه فجائز على هذا أن يكون المراد بقوله تعالى( فلا يقربوا المسجد الحرام ) الحرم كله للحج إذ

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679