موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)0%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 679

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الصفحات: 679
المشاهدات: 202153
تحميل: 10344


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 202153 / تحميل: 10344
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء 3

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الزاوية الأُولى: إنَّ هذا الخبر غير قابل للإثبات التاريخي؛ فإنَّه مروي عن عبد الله بن عمر... وهو الذي يتحمَّل مسؤولية روايته.

وأمَّا وروده - كما سمعنا - في رواية السيوطي والكنجي بلفظ: عبد الله بن عمرو، فهو إن كان خطأ مطبعياً أو كتابياً، وواقعه هو: عبد الله بن عمر... إذن؛ فالكلام فيه ما سبق أن قلناه. وإن كان شخصاً غيره، فهو مجهول ومُردَّد بين عدَّة أشخاص؛ فلا تكون روايته قابلة للإثبات.

فجوابه: أنَّها مروية في عدَّة مصادر وعن عدد من الرواة، إلاَّ أنَّهم جميعاً يُسندونها إلى عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو، وقد عرفنا حال الرواية عنهما.

وتكون الروايات الدالة على ظهور المهدي (ع) في مكَّة، بين الركن والمقام قائمة وحدها بلا معارض.

الزاوية الثانية: إنَّنا لو قَبِلنا كون هذه الرواية قابلة للإثبات التاريخي، ففي الإمكان أن ننفي التعارض بينهما، طبقاً لعدد من الأُطروحات المـُحتملة، نذكر بعضها:

الأُطروحة الأُولى: أن يكون ظهوره (ع) في كرعة أولاً، طبقاً لأُطروحة خفاء الشخص، ويكون ظهوره ثانياً في مكّة، طبقاً لأُطروحة خفاء العيون.

فإنَّه - طبقاً للفهم الكلاسيكي لغيبة المهدي (ع) - في بعض الأذهان أنَّه غائب بحيث يختفي جسمه عن الأنظار، مُطابقاً لأُطروحة خفاء الشخص، فإذا آن أوان ظهوره في (كرعة) ارتفع الخفاء الشخصي عنه، ولكنَّه يبقى مجهولاً للناس مُطابقاً لأُطروحة خفاء العنوان، حتى ما إذا وصل إلى مكَّة، وقام بين الركن والمقام، وأعلن عن اسمه واسم أبيه، ارتفع خفاء العنوان وعرفه الناس.

الأُطروحة الثانية: إنَّنا لو التزمنا على أنَّ الصبغة العامة للغيبة مُطابقة لأُطروحة خفاء العنوان، دون الأُخرى كما ذهبنا إليه، في التاريخ السابق(1) كان مُحصَّل المعنى للجمع بين الروايات: إنَّ المهدي (ع) حين يريد الظهور في (كرعة) فإنَّه يكشف نفسه للناس، أعني يُطْلِعهم على اسمه واسم أبيه، ولكنَّه لا يُمارس أيَّ عمل إلاَّ بعد الوصول إلى مكَّة والوقوف بين الركن والمقام.

____________________

(1) ص34وما بعدها.

٢٤١

الأُطروحة الثالثة: أن نفترض أنَّ (كرعة) عبارة أُخرى عن (مكَّة المـُكرَّمة)، بنحو المجاز أو الرمز.

وأمَّا التعبير عن مكّة المـُكرَّمة بالقرية، فباعتبار التعبير عنها بذلك في عدَّة آيات من القرآن الكريم... كما لا يخفى على القارئ.

غير أنَّ أيّاً من هذه الأُطروحات لا تخلو من الخدشة والإشكال، ممَّا نُحيله على ذكاء القارئ، ولا حاجة إلى الدخول في تفاصيله... بعد أن عرفنا سقوطها عن الإثبات التاريخي.

الزاوية الثالثة: إنَّنا لو سلَّمنا بقابلية تلك الرواية للإثبات، ونفينا تلك الأُطروحات في الجمع ما بينهما... فإنَّنا سنواجه المـُعارضة بين هذه الرواية وروايات ظهوره في مكَّة وفي المسجد الحرام بين الركن والمقام... وهي روايات عديدة مرويَّة عن جماعة من الرواة من الفريقين؛ فتكون مُتقدِّمة في الإثبات على تلك الرواية بطبيعة الحال.

الجهة السادسة: إنَّ المهدي (ع) بعد أن ينتهي من خطابه، يبدأ بأخذ البيعة من أنصاره ومؤيِّديه.

وقد دلَّت على ذلك عدَّة روايات، نذكر أهمَّها؛

أخرج الصدوق في إكمال الدين(1) ، بسنده عن أبان بن تغلب، قال: قال أبو عبد الله (ع): ( إنَّ أول مَن يُبايع القائم ( عليه السلام ) جبرئيل ( عليه السلام )... ) الحديث.

وأخرج النعماني(2) ، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (ع) في حديث أنَّه قال: (... لكأنَّي أنظر إليه بين الركن والمقام يُبايع الناس... ) الحديث.

وأخرج روايات أُخرى بنفس هذا المضمون(3) .

____________________

(1) انظر المصدر المخطوط.

(2) ص139.

(3) انظر ص102 وص141.

٢٤٢

وأخرج الشيخ الطوسي(1) بسنده، عن علي بن مهزيار، قال: قال أبو جعفر: ( كأنِّي بالقائم يوم عاشوراء يوم السبت، قائماً بين الركن والمقام، بين يديه جبريل يُنادي: البيعة لله! فيملؤها عدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً ).

وأخرج الطبرسي(2) ، عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله (ع)، في حديث: أنَّه ذكر أولاً مضمون خطبة الإمام المهدي (ع) ثمَّ قال: ( فيبعث الله عزَّ وجلَّ جبرئيل، حتى يأتيه ويسأله ويقول له: إلى أيِّ شيء تدعو؟ فيُخبره القائم، فيقول جبرئيل: فأنا أول مَن يُبايع. ثمَّ يقول له: مُدَّ كفَّك. فيمسح على يده. وقد وافاه ثلاثمئة وبضعة عشر رجلاً، فيُبايعونه... ) الحديث.

وقد وردت في مضمون هذه البيعة عدَّة روايات:

منها ما أخرجه النعماني(3) ، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع)، في حديث، قال: (... يبايع الناس على كتاب جديد على العرب شديد ).

وفي رواية أُخرى(4) ، عن أبي بصير عن أبي جعفر (ع) - في حديث - قال: (... لكأنِّي أنظر إليه بين الركن والمقام يُبايع الناس بأمر جديد (شديد) وكتاب جديد وسلطان جديد من السماء ).

وأخرج الصافي في مُنتخب الأثر(5) ، عن كشف الأستار للحاج النوري، عن عقد الدُّرر لجمال الدين المقدسي والفتن لأبي صالح السليلي، عن أمير المؤمنين (ع): ( إنَّه - أي المهدي (ع) - يأخذ البيعة عن أصحابه، على أن لا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يسبُّوا مسلماً، ولا يقتلوا مُحرَّماً، ولا يهتكوا حريماً مُحرَّماً، ولا يهجموا (يهدموا) منزلاً، ولا يضربوا أحداً إلاَّ بالحق، ولا يكنزوا ذهباً ولا

____________________

(1) ص24. (2) ص431.

(3) ص141. (4) غيبة النعماني أيضاً ص139.

(5) ص468.وانظر نفس المضمون في الملاحم والفتن لأبن طاووس ص122.

٢٤٣

فضَّة، ولا برَّاً ولا شعيراً، ولا يأكلون مال اليتيم، ولا يشهدوا بما لا يعلمون، ولا يُخرِّبوا مسجداً ولا يشربوا مُسْكِراً، ولا يلبسوا الخزَّ ولا الحرير، ولا يتمنطقوا بالذهب، ولا يقطعوا طريقاً ولا يُخيفوا سبيلاً، ولا يفسقوا بغلام، ولا يحبسوا طعاماً من برٍّ أو شعير، ويرضون بالقليل، ويشمُّون الطيب ويكرهون النجاسة، ويأمرون المعروف وينهون عن المـُنكَر، ويلبسون الخشن من الثياب، ويتوسَّدون التراب على الخدود، ويجاهدون في الله حق جهاده ).

ويشترط على نفسه لهم: أن يمشي حيث يمشون، ويلبس كما يلبسون، ويركب كما يركبون، ويكون من حيث يريدون ويرضى بالقليل، ويملاً الأرض - بعون الله - عدلاً كما مُلئت جوراً، يعبد الله حق عبادته، ولا يتَّخذ حاجباً ولا بوَّاباً.

وهناك من الروايات ما يدلُّ على أنَّ المهدي يُبايع كارهاً، وقد ورد هذا المضمون في طرق العامة بشكل أوسع ممَّا عليه في طرق الخاصة.

أخرج أبو داود(1) ، بسنده عن أمِّ سلمة زوج النبي (ص) عن النبي (ص)، قال: ( يكون اختلاف عند موت الخليفة، فيخرج رجل من أهل المدينة هارباً إلى مكَّة، فيأتيه ناس من أهل مكّة فيُخرجونه وهو كاره، فيُبايعونه بين الركن والمقام... ) الحديث.

ورواه ابن حجر في الصواعق(2) ، والقندوزي في ينابيع المودَّة(3) ، والصبَّان في إسعاف الراغبين(4) .

ومن طريف ما روى السيوطي(5) بهذا الصدد، ما أخرجه عن نعيم بن حمَّاد، عن ابن مسعود، قال - في حديث عن المهدي (ع) -: فيطلبونه فيُصيبونه بمكَّة، فيقولون له: أنت فلان بن فلان؟

فيقول: لا، بل أنا رجل من الأنصار.

حتى يُفلت منهم، فيصفونه لأهل

____________________

(1) انظر السُّنن ج2ص243.

(2) ص98.

(3) ص517ط النجف.

(4) ص135.

(5) الحاوي ج2 ص145.

٢٤٤

الخير والمعرفة به، فيُقال: هو صاحبكم الذي تطلبونه، وقد لحق بالمدينة، فيُخالفهم إلى أهل (مكّة)، فيطلبونه بمكّة فيُصيبونه.

فيقولون: أنت فلان بن فلان. وأُمُّك فلانة ابنة فلان، وفيك آية كذا وكذا. وقد أفلتَّ منَّا مرَّة، فمُدَّ يدك نُبايعك.

فيقول: لستُ بصاحبكم.

حتى يُفلت منهم، فيطلبونه بالمدينة، فيُخالفهم إلى مكَّة.

فيُصيبونه بمكَّة عند الركن، ويقولون له: إثمنا عليك! ودماؤنا في عنقك إن لم تمدَّ يدك نُبايعك. هذا عسكر السفياني قد توجَّه في طلبنا، عليهم رجل من حرام.

فيجلس بين الركن والمقام، فيمد يده فيُبايع له، فيُلقي الله مُحبَّته في صدور الناس، فيصير مع قوم أسد بالنهار رهبان في الليل.

وأخرج(1) أيضاً عن شهر بن حوشب، قال: قال رسول الله (ص): ( سيكون في رمضان صوت - إلى أن قال: - حتى يهرب صاحبهم، فيؤتى بين الركن والمقام فيُبايع وهو كاره ).

ويُقال له:إن أبيت ضربنا عنقك!!... يرضى به ساكن السماء وساكن الأرض.

وورد في طُرق الخاصة تفسير هذه الكراهة.

أخرج النعماني(2) ، بسنده عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (ع)، أنَّه قال: ( يُنادى باسم القائم فيؤتى وهو خلف المقام، فيُقال له: قد نودي باسمك، فما تنتظر؟ ثمَّ يؤخذ بيده فيُبايَع ).

قال: قال لي زرارة: الحمد لله! قد كنّا نسمع أنَّ القائم (ع) يُبايع مُستكرَهاً (مُكرَهاً) فلم نكن نعلم وجه استكراهه، فعلمنا أنَّه استكراه لا إثم فيه.

فهذه هي أخبار البيعة، ولا بدَّ أن نتكلَّم حولها ضمن عدَّة نقاط.

النقطة الأُولى: البيعة: هي المعاهدة على الطاعة والنُّصرة، وذلك بإيكال القيادة والرأي في كل الأُمور العامة - بل والخاصة - إلى القائد الذي أُعطيت البيعة له، بحيث لا

____________________

(1) الحاوي ج2 ص161

(2) غيبة النعماني ص140

٢٤٥

يَحْوُلُ دون بذل مال ولا نفس.

وهي أمر مُشرَّع في الإسلام، قام به النبي (ص) تجاه أصحابه في بيعة الرضوان، ونزل في مدحهم القرآن الكريم: قال الله تعالى:( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) (1) .

وقد كانت البيعة أمراً مُعترَفاً به ومُطبَّقاً قبل الإسلام بين الملوك والرعية...

وأمضاها الإسلام بعد أن أعطاها الصبغة الدينية؛ لما لها من الأثر البليغ في ربط الفرد بالحاكم وشَدِّه إليه نفسياً وعاطفياً، في أغلب المجتمعات التي هي في طريق التربية، ومن الواضح أنَّ شَدَّ الفرد نفسياً إلى الحاكم أو القائد الإسلامي مطلوب وذو نتائج عامة وخاصة، تعود إلى تربية الفرد نفسه وإلى المجتمع، ومن ثَمَّ اقتضت المصلحة في الإسلام إقرار هذه الفكرة أو هذا الأسلوب في تأييد الحاكم والاعتراف بحكومته وولايته.

وهذا لا يعني أنَّ لها أثراً فقهيَّاً أو (قانونياً) كاملاً في الإسلام... لوضوح وجوب إطاعة الحاكم الإسلامي على كل حال، سواء وقعت البيعة أم لا، كما أنَّ عدم وقوع البيعة لا يعني التمرُّد على الحاكم إذا كان الفرد مؤمناً وعازماً على تطبيق أوامره وإرشاداته، وإنَّما تعني التمرُّد إذا كانت دليلاً على العصيان والانحراف.

نعم، إذا أمر الحاكم الإسلامي بالبيعة أو جلس لاستقبال المـُبايعين - كما فعل النبي (ص) وسيفعل المهدي (ع) - فيجب على الأفراد القيام بها تجاهه، ويكون تركها عصيان من جهتين:

أولاً: لكون تركها إهمالاً لأمر الحاكم الإسلامي الذي يجب إطاعته في كل أوامره.

ثانياً: لأنَّ أمره بالبيعة وجلوسه من أجلها يُعطي هذه الفكرة، وهي أنَّ الحاكم الإسلامي يرى الآن - ومن خلال هذا الأمر - أنَّ الاعتراف بولايته وحاكميَّته منوط بالبيعة ومُتوقِّف عليها، فلو تركها الفرد كان غير مُعترِف بولايته، فيكون مُتمرِّداً عليه.

ومن ثَمَّ لا تقتضي تلك القاعدة الفقهية ترك البيعة التي يأمر الحاكم الإسلامي بها أو يجلس من أجلها، بل مُقتضى القواعد الفقهية الإسلامية وجوبها على كل مُلتفت إلى ذلك الأمر أو تلك الرغبة.

____________________

(1) الفتح 48/ 18

٢٤٦

نعم، لو انتهى أمد الأمر، وأراد فرد من غير المـُبايعين أن يُعلن ولائه من جديد... كفى له (فقهياً) مُجرَّد الإعراب عن عقيدته، ولم تكن هناك ضرورة لاتخاذ أُسلوب البيعة، وهذا كلُّه صادق بالنسبة إلى الإمام المهدي (ع) عند ظهوره.

النقطة الثانية: إنَّ الذين يُبايعون المهدي (ع) في موقفه بين الركن والمقام، يتكوَّنون من عدَّة أقسام:

القسم الأول: جبرائيل الأمين (ع)، وهو من أهمِّ الملائكة، وأحد أربعة أعاظمهم، طبقاً للفهم الإسلامي.

وبيعته للإمام المهدي (ع)، يمكن أن تُحمل على أحد معنيين:

المعنى الأول: المعنى الرمزي، الراجع في الواقع، إلى مرتبة عُلْيَا من التأييد الإلهي للمهدي (ع) ومباركة حركته العالمية ودعوته، وإنِّما دون ذكر جبرائيل بالخصوص، باعتباره المـُمثِّل للحق من زاوية عُلْيَا كاملة، وقد كان هو رسول الحكمة وحامل الوحي بين الله عزَّ وجلّ ورسوله الكريم (ص).

إلاَّ أنَّ هذا المعنى لا يكون صحيحاً، بصفته رمزياً، إلاَّ بعد اليأس من المعنى (الصريح) المباشر، وهذا ما سنبحثه في المعنى الثاني.

المعنى الثاني: البيعة بالمعنى المباشر الذي يقوم به سائر الناس، يقوم بها جبرائيل بعد أن يتَّخذ شكل رجل، توصُّلاً إلى فائدتين كبيرتين:

الفائدة الأُولى: إلفات نظر الناس إلى لزوم مُبايعة المهدي (ع) في موقفه ذلك بين الركن والمقام، فإنَّ الناس غافلون - على الأقلِّ - عن ذلك، ويحتاجون إلى المـُنبِّه بطبيعة الحال، وستكون مُبايعة جبرئيل (ع) مُنبِّهاً لبعض الناس من الخاصة، فإذا بايعوا كانت مُبايعتهم مُنبِّهاً لسائر الناس الموجودين في المسجد الحرام ساعتئذٍ.

الفائدة الثانية: دعم وتأييد حركة المهدي (ع) من أول حدوثها؛ إذ من الضروري أنَّ مُبايعة جبرئيل (ع) لا تكون إلاَّ لأجل تلقِّيه الأمر الإلهي بذلك، وإذا كان الله تعالى موجباً على جبرئيل (ع) مُبايعة المهدي (ع)، فذلك من أعظم الدعم والتأييد.

غير أنَّ هذا التأييد لا يمكن انعكاسه اجتماعياً ما لم يكن جبرائيل - وهو على شكل رجل - معروف الهوية لدى الموجودين حال مُبايعته، وهذا - بحسب فَهْمنا المـُعاصر - ممَّا يصعب توفُّره في ذلك الموقف، وإنَّما يمكن إعلانه تدريجياً طبقاً لاتِّساع حركة المهدي (ع) وسلطته، وهذا كافٍ لدعم الحركة بمقدار احتياجها التدريجي.

٢٤٧

وقد يخطر في الذهن: أنّ هناك فائدة أُخرى لمبايعة جبرائيل (ع) للمهدي (ع).

وهي المشاركة في الدليل على صدق المهدي وأحقيّة دعوته.

وهذا يصحّ بالنسبة إلى مَن يعرف جبرئيل (ع) حال قيامه بالمبايعة أو بعدها بدقائق، فإنّه يكون من الأدلة العظيمة على صدق المهدي (ع) إلى جنب: الخسف، والخسوف، والكسوف، وقتل النفس الزكية، ومضمون خطبته وغيرها من الأدلة. غير أنّ هذا ممّا يصعب تحقيقه هناك كما قلنا.

وأمّا التعرّف على حقيقته بعد ذلك، فإنّما يكون بإخبار المهدي (ع) وخاصّته، بعد قيام البرهان وإتمام الحجّة على صدقه، فيصلح دعماً لحركة المهدي (ع) ولا يصلح أن يكون دليلاً عليها.

وهناك بعض الاستفهامات عن مبايعة جبرائيل، سنذكرها في النقاط الآتية:

القسم الثاني: ممّن يبايع الإمام المهدي (ع) في موقفه الأوّل:

أصحابه الخاصّون الذين كانوا يعرفونه على حقيقته في غيبته الكبرى، فإنّنا سبق في تاريخ الغيبة الكبرى أن قلنا: إنّ هناك نفر قليل من البشرية في كل جيل، يمكن أن يكون مطلعاً على حقيقة المهدي (ع) ومكانه. وهناك من الروايات ما يدل على وجود مثل هؤلاء الأفراد، وقد سبق أن رويناها هناك(1) .

وبالطبع سيكون هؤلاء، مع سائر المخلصين الممحّصين الناتجين عن التخطيط الإلهي العام، حاضرون خطاب المهدي (ع) في المسجد الحرام، وقد يكونون على موعد خاص سابق بهذا الاجتماع. ولا يحتاجون في التعرّف على شخص الإمام المهدي إلى أي إثبات.

ومعه فسوف يكونون هم الأوائل من المبادرين إلى البيعة بعد جبرائيل، والمدافعين عنه عندما يحاول المنحرفون قتله، عند سماعهم الخطبة، كما دلّت عليه رواية ممّا نقلناه عن المجلسي في البحار، خلال أخبار الخطبة، بل سيكونون اللسان الناطق في إيضاح ما ينبغي إيضاحه في هذه الساعة الأُولى.

القسم الثالث: ممّن يبايع الإمام المهدي (ع):

سائر المخلصين الذين كانوا في مكّة، وقد انتظروا الظهور بفارغ الصبر.

____________________

(1) انظر ص74منه وغيرها.

٢٤٨

وسنتعرّض لكيفيّة اجتماعهم وسائر أوصافهم في الفصل الآتي.

وسيشارك هؤلاء بنفس مهام القسم الثاني، مع فرق أنّهم لم يكونوا قد شاهدوا المهدي خلال العصر السابق... الأمر الذي يجعل الفكرة في أذهان القسم الثاني أوضح منها في أذهان هؤلاء في هذه الساعة الأُولى، وسيكون ما يشاهدونه وما يسمعونه في موقفهم ذلك كافياً في الإيضاح.

القسم الرابع: أفراد آخرون يشهدون الموقف: فتحصل لهم القناعة التامة، فيأتون لمبايعة المهدي خاضعين. وهم عادةً يمثّلون الدرجة الثانية والثالثة من درجات الإخلاص الأربعة التي سبق أن سمعنا عنها.

النقطة الثالثة: في عرض بعض الاستفهامات عن مبايعة جبرائيل (ع) للمهدي (ع) ينبغي عرضها، قبل العبور إلى خصائص أُخرى من البيعة.

الاستفهام الأوّل: إنّ جبرائيل (ع) أفضل من المهدي في درجات الكمال الإلهي، فكيف يخضع للمهدي (ع) بالمبايعة...؟

وهذا الاستفهام يحتوي على عدّة أجوبة، نذكر منها اثنان:

الوجه الأوّل: إنّه لا دليل على أن جبرائيل أفضل من الإمام المهدي (ع)، بل لعلّ الدليل قائم على العكس، باعتبار أنّ الإنسان الصالح المتكامل في صلاحه، أفضل من الملائكة؛ لأنّ الملائكة ليس لهم نفس القيمة الخلقية في إطاعة الله تعالى كالفرد الصالح، بل إنّ ميزان هذه القيمة في الفرد الصالح أرجح بكل تأكيد؛ لأنّ الملائكة إمّا أنّهم لا يملكون الاختيار أصلاً، بل هم مجبورون على أفعالهم من قِبل باريهم جلّ وعلا، أو هم على الأرجح مختارون ولكنّهم يجدون الطاعة موافقة لهواهم ومنسجمة مع ميولهم، بخلاف الفرد الصالح، فإنّه مختار في طاعته، ويجد في الطاعة مصاعب نفسيّة واجتماعية عديدة، وهو مع ذلك جاد فيها مثابر عليها. ومن الواضح اتخاذ هذه الطاعة قيمة أخلاقية أعلى من تلك الطاعة؛ فيتصف هذا المطيع بكمال أكبر من ذاك الآخر.

هذا بالنسبة إلى أي فرد صالح متكامل من البشر تجاه أي ملك من الملائكة، ومن الواضح ثبوت نفس التفاضل، وبدرجة أكبر، لو تحدّثنا عن النسبة بين رؤساء الملائكة وقادة البشر الدينيين. كالأنبياء والأولياء، فإنّهم يتّصفون بالأفضلية على الملائكة بطبيعة الحال.

فإذا كان المهدي (ع ) أفضل من جبرئيل، كان المانع من هذه الجهة، عن البيعة

٢٤٩

الوجه الثاني: إنّ هذه المبايعة من قبل جبرائيل ليس خضوعاً للمهدي (ع )... وإنّما هي احترام له وتقديس لمهمّته العالمية التي خطّط من أجلها خلال عمر البشرية كلّه، وقد وُجدت المبايعة لأجل مصالح معيّنة عرفنا بعضها.

الاستفهام الثاني: إنّه ما الذي يستفيده جبرائيل من هذه المبايعة؟

والجواب على ذلك من عدة وجوه نذكر أهمّها:

الوجه الأوّل: أنّه يبايع إطاعةً لأمر الله تعالى، لا من أجل مصلحته الخاصّة.

الوجه الثاني: إنّ احترام الحق وتقديس قادته، يعتبر كمالاً له وفائدة تعود عليه.

وهذا ما يتحقق بالبيعة كما عرفنا.

الوجه الثالث: إنّ البيعة ذات مصالح عامّة عرفناها، تعود إلى البشر أنفسهم، ومن ثمّ تتدرج في التخطيط العام الساري المفعول بعد الظهور، وهذا كافٍ في إيجادها.

الاستفهام الثالث: إنّ فكرة مبايعة جبرائيل (ع) للمهدي (ع) لا تنسجم مع فكرة أنّ المهدي (ع) يبايع مكرهاً. فإنّ مَن يكرهه على المبايعة هم البشر المتضررون من الظلم الواقع عليهم، وليس لجبرائيل (ع) في ذلك أية مشاركة، فكيف نجمع بين الأخبار الدالة على هاتين الفكرتين..؟!

وجواب ذلك: أنّنا سنفهم من الإكراه المشار إليه معنى معيّناً، يتضمّن لهفة المظلومين إلى رفع الظلم عنهم، وتواضع الإمام المهدي (ع ) عن أن يتصدّى للمبايعة بنفسه، بل من الأفضل أن تكون بطلب من غيره بطبيعة الحال. وكما دلّ على الإكراه أكثر من ذلك، ينبغي الاستغناء عنه، وهذا المعنى لا ينافي مع بيعة جبرائيل (ع) معه، بل هو منسجم معها، وسيكون جبرائيل (ع) هو المبادر إلى طلب البيعة منه.

والاستفهام الرابع: أنّه دلّت بعض الروايات على أنّ جبرائيل قال عند وفاة النبي (ص): إنّه لن ينزل إلى الأرض مرّةً أُخرى.

قال علي بن عيسى الأربلي في كشف الغمة(1) : وروي عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما السلام)، قال:

____________________

(1) ص18 - 19 من ج1.

٢٥٠

( أتى جبرائيل (ع) إلى رسول الله (ص) يعوده. فقال: السلام عليك يا محمد، هذا آخر يوم أهبط فيه إلى الدنيا ).

وعن عطاء بن يسار: أنّ رسول الله (ص)، لمّا حُضر أتاه جبرائيل، فقال: يا محمد، الآن أصعد إلى السماء، ولا أنزل الأرض أبداً.

وعن أبي جعفر (ع) قال: ( لمّا حضرت النبي (ص) الوفاة - إلى أن قال -: فعند ذلك قال جبريل: يا محمد، هذا آخر هبوطي إلى الدنيا، إنّما كنتَ أنتَ حاجتي فيها ).

والجواب على ذلك، يكون من عدّة وجوه، نذكر منها:

الوجه الأوّل: أنّ هذه الروايات النافية لنزول جبرائيل (ع) مقيّدة - في حقيقتها - بقيدٍ خفيٍّ غير مصرّح به، وهو عدم تعلّق الأمر الإلهي أو المصلحة العامّة أو رغبة رسول الله (ص) بذلك، فإن حصل شيء من ذلك، فإنّي سأنزل إلى الدنيا.

ومن المعلوم أنّ الروايات الدالة على نزوله مع المهدي (ع) تدل على حصول شيء من ذلك، أو كلّه، فإنّ شأن المهدي (ع) بصفته المطبِّق الأكبر للهدف الأعلى من التخطيط العام، يناسب ذلك.

ووجود مثل هذا القيد الخفي الضمني في مضمون الكلام واضح لا يحتاج إلى استدلال، غير أنّ قوله في إحدى هذه الروايات: ولا أنزل إلى الأرض أبداً، ينافي فكرة هذا التقييد، فإنّها تدل - على الأقل - بأنّ شيئاً من ذلك سوف لن يحدث، ومن ثمّ لن ينزل جبرائيل (ع) إلى الأرض أبداً، غير أنّ هذه رواية واحدة يمكن التجاوز عنها بدلالة الروايات السابقة الدالة على نزوله في مناسبات أُخرى بعد وفاة النبي (ص) إلى نهاية البشرية، تكون نافية لمدلول هذه الرواية.

الوجه الثاني: هناك في هذه الروايات ما يدل على ما يشبه التقييد المشار إليه، وهو قوله: إنّما كنتَ أنتَ حاجتي فيها. فإنّه دال على أنّ نزوله كان من أجل رسول الله (ص) وتنفيذ مصالحه العامّة ورغباته الحكيمة. فإذا علمنا أنّ رسول الله (ص)، نفسه يرغب بتأييد المهدي (ع) ويدرك مصلحة وجوده وهدفه العام كما بشّر به مراراً وتكراراً خلال حياته، كما دلّتنا على ذلك الأخبار المتواترة، إذن فسيكون نزول جبرائيل (ع) مع

٢٥١

المهدي (ع) مطابقاً لرغبة النبي (ص)، فإذا كان ينزل في زمن النبي (ص) من أجل رغبته، فأحرى به أن ينزل مع المهدي (ع) من أجل ذلك أيضاً.

الوجه الثالث: أنّنا يمكن أن نقيّد الأخبار النافية لنزول جبرائيل (ع) بالهدف الذي كان ينزل لأجله يومئذ، وهو تبليغ الوحي إلى النبي (ص)، فكأنّه قال: لن أنزل إلى الأرض من أجل تبليغ الوحي. وهذا أمر صحيح ولن يحدث أبداً؛ لأنّ نزوله مع المهدي (ع) لن يكون من أجل تبليغ الوحي، بطبيعة الحال.

وهذا التقييد، وإن كان مخالفاً لظاهر هذه الأخبار، إلاّ أنّه موافق مع طبيعة مهمّة جبرائيل مع النبي (ص)... كما أنّ أخبار نزوله مع المهدي (ع) توجب الالتزام بهذا التقييد، بغضّ النظر عن الوجهين السابقين.

الوجه الرابع: أنّنا لو تجاوزنا عن الوجوه السابقة، فوقع التنافي التام بين الأخبار النافية لنزول جبرائيل (ع) والأخبار المثبتة له؛ أمكننا بسهولة إسقاط الأخبار النافية لنزوله، بأحد أُسلوبين:

الأُسلوب الأوّل: تقديم الأخبار القائلة بنزول جبرائيل مع المهدي (ع) باعتبارها أكثر عدداً وأصحّ سنداً. أمّا عدداً، فهو واضح لمَن راجع المصادر، وأمّا سنداً فلأنّ الأخبار الثلاثة النافية كلها مرسلة، لم يذكر الأربلي لها سنداً.

نعم، واحدة منها رُويت مرسلةً عن عطاء بن يسار، فأصبح هو الراوي الوحيد المعروف من سلسلة الرواة، والباقي كلهم مجاهيل... وهو غير كافٍ في تصحيح الرواية، فكيف بالروايتين الأخيرتين اللتين لم يذكرها ولا راوٍ واحد؟

هذا، بخلاف روايات نزول جبرائيل (ع) مع المهدي (ع) فإنّها جميعاً مسندة في مصادرها معروفة الرواة.

الأُسلوب الثاني: معارضة الأخبار النافية، بكل ما يدل على نزول جبرائيل (ع) بعد النبي (ص) إلى نهاية البشرية.

وقد سمعنا هذا الأُسلوب في الوجه لخصوص رواية: لا أنزل إلى الأرض أبداً. ولكن بعد التنزّل عن الوجوه السابقة، يكون هذا أُسلوباً في معارضة كل الأخبار الثلاثة النافية، وهي أكثر عدداً منها، بحيث يكون مجموعها مستفيضاً، فلا يبقى لهذه الأخبار الثلاثة بإزائها أي إثبات.

فإن هناك من الأخبار ما يدل على نزول جبرائيل (ع) في زمن الأئمة المعصومين

٢٥٢

(ع) عدّة مرّات، كنزوله عند ثورة الحسين بن علي (ع) وعند ميلاد الإمام المهدي (ع) ومناسبات أُخرى. وكنت أودّ أن أُورد عدّة أخبار منها، لولا أنّه يخرج بنا عن الصدد.

وعلى أي حال، فقد سقطت الأخبار النافية لنزول جبرائيل (ع) بعد وفاة النبي (ص) عن قابليّة الإثبات التاريخي.

النقطة الرابعة: - من الحديث عن البيعة -: ورد في مضمون البيعة، كما سمعنا في الأخبار، شكلان من الغرض، كلاهما موافق للقواعد الإسلامية العامّة.

الشكل الأوّل: إنّ المهدي (ع) يبايع أصحابه على: كتاب جديد، وأمر جديد، وسلطان جديد.

وهذا في حقيقته - يمثّل مستوى الوعي الإسلامي الجديد الذي لم يكن معروفاً قبل الظهور. على ما سوف نبرهن عليه في مستقبل البحث.

ويمكن أن نفهم من المبايعة على ذلك، أحد ثلاث معان:

المعنى الأوّل: وهو الظاهر المباشر من اللفظ، وهو أن يقول المهدي (ع) حال المبايعة: أُبايعكم وتبايعونني على كتاب جديد وسلطان جديد.

غير أنّ المعنى لا يخلو من بعد، بإزاء المعاني الآتية، من حيث: إنّ الكتاب الجديد والسلطان الجديد من الألفاظ غير المفهومة للجمهور الحاضر يومئذ، وإنّما يتضح معناه وتطبيقاته بعد ذلك من خلال عمل المهدي (ع) في دولته، ومن المعلوم: أنّ المبايعة على أُمور غير مفهومة مخالفةٌ للمصلحة، مع وجود مفاهيم كثيرة واضحة ودافعة إلى الفداء أكثر من هذه الأُمور.

المعنى الثاني: لمبايعته على ذلك: إنّ نتيجة المبايعة هو العمل الجاد لإنجاز العدل وتطبيقه في العالم كلِّه، الأمر الذي سيصبح أمراً جديداً وسلطاناً جديداً، ويتضمّن كتاباً جديداً - كما سيأتي - فالمبايعة على ذلك يعني: إنتاجها لذلك في المدى البعيد.

وهذا المعنى محتمل في التصوّر، إلاّ أنّه مخالف لظاهر هذا الأخبار، وأبعد مفهوماً من المعنى الثالث الآتي، كما هو غير خفي عند المقارنة.

المعنى الثالث: إنّ المهدي (ع) يبايع أصحابه على شروط معيّنة بتفاصيلها، وهذه التفاصيل تمثّل - في واقعها - الكتاب، والسلطان، والأمر الجديد.

فالكتاب الجديد والأمر الجديد، لا يذكره المهدي (ع) بصراحة ليكون مجهول المعنى

٢٥٣

للجمهور، طبقاً للمعنى الأوّل. كما أنّه لا يهمل الاشتراط تماماً اتكالاً على النتائج، طبقاً للمعنى الثاني، بل بذكره عدّة أُمور في البيعة، تكون هي: الكتاب الجديد والأمر الجديد، في الواقع.

وأمّا هذه التفاصيل التي يذكرها المهدي (ع) في البيعة، فهو ما أعربت عنه الروايات الأُخرى التي سمعناها، والتي سنذكرها في الشكل الثاني، وبذلك يتحد محتوى الشكلين لمضمون البيعة؛ لأنّ الكتاب الجديد والأمر الجديد يعود إلى نفس التفاصيل المندرجة في الشكل الثاني، وليست شيئاً آخر.

الشكل الثاني: إنّ المهدي (ع) يبايع أصحابه على شروط معيّنة بتفاصيلها، تمثّل في حقيقتها أهم أحكام الإسلام. وقد سردت إحدى الروايات السابقة قائمة طويلة منها، لا حاجة إلى تكرارها الآن.

غير أنّ هذا الشكل من الشروط المطوّلة، يحتوي على بعض الاستفهامات، لابد من عرضها ونقدها:

الاستفهام الأوّل: كيف يتصوّر أنّ المهدي (ع) يتلو هذه الشروط على كل واحد من الحاضرين، فإنّه يستغرق زمناً طويلاً...؟

وجوابه: واضح، وهو أنّه لا يحتاج إلى ذكرها أكثر من مرّة، أمام مجموع الحاضرين أو مجموعة منهم، ثم يقوم بالتنبيه على تلك الشروط في كل مبايعة.

الاستفهام الثاني: إنّ ما ذكر في هذه القائمة الطويلة من الأحكام، ليست أحكاماً جديدة، بل هي أحكام معروفة في الإسلام، ونافذة قبل الظهور، فكيف نقول إنّها من الكتاب الجديد والأمر الجديد.

ويمكن الجواب على ذلك من عدة زوايا، نذكر اثنتين منها:

الزاوية الأُولى: أنّنا نحتمل - على الأقل - أنّ الرواية التي تكفّلت بيان الشكل الثاني لمضمون البيعة قد حذفت من القائمة التي يذكرها المهدي (ع) لأصحابه، كل حكم جديد.. لأنّ ذكرها في الرواية يساوق إعلانها قبل الظهور، مثل قوله: ويرضون بالقليل، ويشمّون الطيب، ويلبسون الخشن من الثياب، ويتوسّدون التراب على الخدود.

٢٥٤

فإنّ هذه أحكام نافذة المفعول قبل الظهور، ولكنّها مستحبّة وغير ( إلزامية ) بمعنى أنّه يجوز تركها للفرد... ولكن بعد أن تعيش الأُمّة التجارب القاسية السابقة على الظهور، التي تنتج فيها الإيمان العالي والإخلاص العميق في جماعة واسعة من الناس.... يصبح فيها القابلية لأن تكون ( ملزمة ) بهذه الأحكام وأمثالها، فتتحول هذه الأحكام من الاستحباب إلى وجوب.

ويكون هذا الوجوب، ممثّلاً لجهة مهمّة من جهات ( الكتاب الجدي والأمر الجديد ) الذي سوف يُعلن بعد الظهور.

ومن هنا نفهم الجواب على:

الاستفهام الثالث: إنّ هذه الأحكام ( المستحبة ) صعبة التنفيذ، فكيف تكون واجبة بعد الظهور؟

وجوابه من وجهين:

الوجه الأوّل: أنّه لا دليل على شمول هذه الأحكام للأُمّة كلها، وإنّما كل ما في الأمر، أنّ الرواية دلّتنا على أنّ المهدي (ع) يشترط على أصحابه... ومن المعلوم أنّ هؤلاء الأصحاب المخلصين من الدرجة الأُولى، سيكونون على مستوى قابلية التنفيذ لا محالة.

الوجه الثاني: أنّه لا بأس بشمول هذه الأحكام وأمثالها للأُمّة ككل، بعد تكاملها نتيجة للتمحيص الطويل، فإن التوقّعات من الفرد تزداد كلّما ازداد إخلاصاً وتكاملاً، وكذلك الأُمّة، بصفتها متكوّنة من الأفراد.

كل ما في الأمر، أنّ إعلان أمثال هذه الأحكام سيكون تدريجياً، بمقدار ما يستطيع الإخلاص العميق أن يرسّخ أقدامه في الأُمّة. فهو يبدأ بأضيق صورة وهو الاشتراط خلال البيعة أمام جماعة محدودة من الناس، وينتهي بالإعلان العام عندما تقتضي المصلحة ذلك.

الاستفهام الرابع: قد يخطر في الذهن: بأننا عرفنا أن جبرائيل (ع) هو أول من يبايع، فهل تكون هذه الأحكام سارية المفعول عليه أيضا؟

إنّ مجرّد إثارة هذا السؤال، غريب.... فإنّه واضح النفي، بعد أن عرفنا أنّ مبايعة جبرائيل (ع) ليس من أجل أن يصبح من شعب دولة المهدي (ع) بشكل مباشر... بل

٢٥٥

لأجل مصالح أُخرى عرفنا طرفاً منها. وهذه الأحكام إنّما تسري على شعب تلك الدولة من البشر بطبيعة الحال.

ومن هنا نسمع الروايات تقول:( لكأنّي أنظر إليه بين الركن والمقام يبايع الناس بأمرٍ جديد... ) فهو يبايع الناس والملائكة، غير أنّ الأمر الجديد، سيكون ساري المفعول على البشر فقط.

وفي الخبر الآخر: أنّه يأخذ البيعة عن أصحابه... وجبرائيل (ع) وإن كان من أصحاب المهدي (ع)، غير أنّ لفظ الأصحاب واضح في أولئك الذين انتخبهم التمحيص، كعددٍ كافٍ لغزو العالم بالعدل، وكلهم من البشر بطبيعة الحال.

النقطة الرابعة: - من الحديث عن البيعة -: أنّه ورد في بعض الروايات التي سمعناها عن البيعة: أنّ الإمام المهدي (ع ) يشترط على نفسه أُموراً إلى جانب ما يشترطه على أصحابه من الأُمور.

والمفهوم الأساسي الذي تؤكّد عليه هذه الأُمور: أنّ الأمام المهدي (ع) سيكون قائداً شعبيّاً يعيش حياة اعتيادية بعيدةً عن الفخفخة والجبروت التي عاشها حكّام العهد السابق على الظهور، فهو ( يمشي حين يمشون، ويلبس كما يلبسون، ويركب كما يركبون، ويرضى بالقليل ).

وكذلك كان رسول الله خلال حكمه، وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) الذي يقول:

( فو الله ما كنزت من دنياكم تبراً، ولا ادخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً.. ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز. ولكن هيهات، أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي على تخيّر الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة مَن لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع... أأقنع من نفسي بأن يُقال: أمير المؤمنين، ولا أُشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون لهم أُسوة في جشوبة العيش... )(1) .

وكذلك ينبغي أن يكون المهدي (ع)، بصفته الحاكم الأعلى للدولة العالمية العادلة، فإنّ من القواعد العامّة في الإسلام، أنّ الرئيس الأعلى للدولة الإسلامية يجب عليه

____________________

(1) نهج البلاغة، شرح: محمد عبده ج2 ص79 - 81.

٢٥٦

أن يعيش في حياته الشخصية على مستوى أفقر فرد في شعبه. وستأتي تطبيقات ذلك عند الحديث عن دولة المهدي ونظامها.

غير أنّه تبقى بعض الاستفهامات عن هذه الأُمور التي يفرضها المهدي (ع) على نفسه، ينبغي عرضها ونقدها:

الاستفهام الأوّل: أنّ ما يشترطه المهدي (ع) على أصحابه، يعبّر عن تكاليف عامّة على المسلمين، يكون مشمولاً لها أيضاً، فلماذا لم يشترطها على نفسه؟ في حين نجد أنّ ما اشترطه على أصحابه أكثر بكثير ممّا اشترطه على نفسه، فلو كانت زيادة الأحكام تدور مدار عمق الإيمان والإخلاص، لكان الأنسب هو العكس؛ لأنّ المهدي (ع) أعمق إيماناً وإخلاصاً من أصحابه بطبيعة الحال.

وجواب ذلك ينبغي أن يكون واضحاً للقارئ اللبيب... إذ لا معنى لشمول كل الأحكام لشخص الإمام المهدي (ع). إذ من الأحكام ما يقول بوجوب إطاعة الحاكم المتمثّل يومئذٍ بالمهدي (ع) نفسه وكما من الأحكام ما يكون تربويّاً للمراتب الواطئة نسبيّاً من الناس، والمفروض بالمهدي (ع) أنّه أعلى من هذه المراتب بكثير. فلا معنى لشمول أمثال هذه الأحكام له.

هذا، ولكن غالب الأحكام شاملة له، غير أنّ تطبيقها من قِبله واضح ومفروض، لا يحتاج إلى اشتراط - فيكون اشتراطها عليه أمراً مستأنفاً لا معنى له. كيف وهو الذي سيأخذ بزمام المبادرة لاشتراطها على أصحابه، فكيف لا يلتزم هو شخصيّاً بها، وإنّما يتمّ هذا الاشتراط بالنسبة إلى المراتب الإيمانية التي يكون هذا الاشتراط في مصلحة تربيتها.

على حين أنّ كمال الإمام المهدي (ع) أعلى من هذا المستوى بكثير.

ففي لُبّ الحقيقة أنّ ما يشترطه المهدي على نفسه، وما يشترطه على أصحابه معاً، مكلّف هو بها، غير أنّ تلك الأُمور لا تحاج إلى اشتراط.

وإنّما يخص المهدي (ع) نفسه باشتراط الأُمور التي تخص القائد العادل في الإسلام ومضافاً إلى مهمته الخاصّة التي كان مذخوراً من أجلها، وهي: أن يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً.

وهو وإن كان عالماً بهذه الأُمور، عازماً على تطبيقها، إلاّ أنّ الإعراب عنها أمام أصحابه، وخلال البيعة، تنوير لهم عن وظيفته، وتحديد لتوقّعاتهم منه، و بالتالي فهو إعلان مختصر عن المنهج الذي سوف يتبعه في المستقبل... شأن البيان الوزاري الذي تعلنه

٢٥٧

الدول الحالية عند مجيء الوزارة الجديدة إلى الحكم.

الاستفهام الثاني: إنّ المهدي (ع) يأخذ فيما يأخذ على نفسه وأن يكون من حيث يريدون. ومن المعلوم بضرورة الدين، أنّ التطبيقات الإسلامية لا تكون بمشيئة الناس، وإنّما تكون بإرادة الله وتشريعه، ومقتضيات العدل الكامل والمصالح العامّة، والمهدي (ع) هو المطبِّق لذلك لا لما يريده الآخرون، فكيف يشترط ذلك على نفسه؟

والحق، أنّنا لو فهمنا من هذا الشرط كون الإمام المهدي (ع) يكون طوع إرادة أصحابه في التشريع والتطبيق، لكان هذا الشرط باطلاً لا محالة. غير أنّ هذا نفسه سيكون قرينة لنا على أن نفهم هذا الشرط بأُسلوب آخر.

ويتم ذلك من خلال وجوه غير متنافية، فقد تصدق جميعاً أو أكثر من واحد منها.

الوجه الأوّل: إنّ أصحابه إنّما يريدون العدل العالمي المطلق، وأن تمتلئ الأرض قسطاً وعدلاً... فإذا كان المهدي (ع) ( من حيث يريدون ) عنى ذلك تطبيقه للعدل المذخور من أجله...

الوجه الثاني: إنّ في هذا الشرط إشارة إلى الأُمور التي تكون موكولة ( فقهيّاً ) إلى رغبة المجتمع في الدولة الإسلامية... كتأسيس المؤسسات، والحصول على مقادير من الأرض، أو الاشتغال في الوظائف العامّة... ونحوها، فيكون معنى كون الإمام المهدي (ع) حيث يريدون، أنّه (ع) يرضى لهم بذلك ويمضي لهم هذه الحاجات، في حدود ما لا يكون مخلاًّ بالعدل والمصلحة العامّة.

الوجه الثالث: إنّ المهدي (ع) لا يقضي فقط هذه الحاجات، بل يقضي لأصحابه ولكل المؤمنين جميع ما يريدون من حوائجهم الشخصية، وهذا ما سوف يحدث فعلاً في نظامه العادل، كما سوف نعرف طرفاً مهمّاً منه، خلال الحديث عن نظام الدولة العالمية المهدوية.

الجهة السابعة: من هذا الفصل، في التعرّض إلى نقطة معيّنة وردت في الأخبار، يحسن بنا الإلمام بها، أعني أُسلوب السلام عليه خلال بيعته وبعد ذلك أيضاً.

أخرج ابن الصباغ في الفصول المهمّة(1) عن أبي جعفر (ع) - في حديث - يقول فيه: ( فعند ذلك خروج قائمنا، فإذا خرج أسند ظهره إلى الكعبة...

____________________

(1) ص322.

٢٥٨

فأوّل ما ينطق هذه الآية:( بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ... ) ، ثمَّ يقول: أنا بقيَّة الله وخليفته وحجَّته عليكم.

فلا يُسلِّم عليه مُسلِّم إلاَّ قال: السلام عليك يا بقيَّة الله في الأرض... ) الحديث.

وفي مُنتخب الأثر(1) نقلاً عن إكمال الدين للصدوق: أنَّه روى أنَّ التسليم على القائم أن يُقال:السلام عليك يا بقيَّة الله في أرضه.

وفي إكمال الدين نفسه(2) ، بسنده عن محمد بن مسلم الثقفي، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الباقر يقول: ( القائم منَّا منصور بالرعب مؤيَّد بالنصر... - إلى أن قال: - فإذا خرج أسند ظهره إلى الكعبة... ) الخ الحديث كما سمعناه عن الفصول المـُهمَّة.

وقال الشبلنجي في نور الإبصار(3) : وهذه علامات قيام القائم مرويَّة عن أبي جعفر رضي الله عنه، قال: ( إذا تشبَّه الرجال بالنساء... - وساق الخبر إلى قوله: - فإذا خرج أسند ظهره إلى الكعبة... ) الخ الحديث كما سمعناه عن الفصول المهمَّة.

وفي مُنتخب الأثر(4) ، عن غيبة الشيخ، بإسناده عن جابر، عن أبي جعفر (ع) قال: ( مَن أدرك منكم قائمنا، فليقل حين يراه: السلام عليكم يا أهل بيت النبوَّة، ومعدن العلم، وموضع الرسالة ).

وأخرج الشيخ الحُرِّ في الوسائل(5) ، بإسناده عن عمر بن زاهر، عن أبي عبد الله (ع)

____________________

(1) ص517.

(2) انظر المصدر المخطوط.

(3) ص171-172، ونقله عنه في مُنتخب الأثر ص435 وما بعدها.

(4) ص517.

(5) وسائل الشيعة، كتاب المزار من كتاب الحج ج2 ص468.

٢٥٩

قال: سأله رجل عن القائم يُسلم عليه بإمرة المؤمنين؟ قال: ( لا، ذاك اسم سمَّى الله به أمير المؤمنين، لم يُسمَّ به أحد قبله ولا يُسمَّى به أحد بعده إلاَّ كافر! ).

قلت: جُعلت فِداك، كيف يُسلَّم عليه؟

قال: ( تقول: السلام عليك يا بقيَّة الله في أرضه ).

ثمَّ قرأ:( بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ... ) .

قال الشيخ الحُرُّ: والأحاديث في ذلك كثيرة، لكن ورد لها معارضات غير صريحة في الزيارة، فالأحوط التَّرْك.

وفي بعض الروايات التي لم يحضرني مصدرها ما مضمونه:( أنَّ المهدي (ع) إذا ظهر لم يُلقَّب بأمير المؤمنين؛ فإنَّه لَقَبٌ خاص بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، بل يُقال له: السلام عليك يا بقيَّة الله في أرضه ) .

والمراد من هذا اللقب: كون المهدي (ع) هو الباقي من خطِّ الأنبياء والأولياء والصالحين، الذين مهَّدوا لوجوده وضحُّوا من أجل تطبيق عدله، فأصبح هو النتيجة الطبيعية الكبرى لجهودهم، والقيمة العالية لأقوالهم وأعمالهم، فالمراد من( بقيِّة الله ) كونه (ع) بقيَّة أنبياء الله ورُسُله عليهم السلام.

وإنَّما نُسِبَت البقيَّة إلى الله مُباشرة؛ باعتبار كون هذا الخطِّ المـُقدَّس على طوله خطَّاً مُمثِّلاً لعدل الله ودعوته الحقَّة، وهو - عزَّ وجلَّ - مؤسِّسه ومُخطِّطه من أجل تربية البشرية والسير بها نحو الكمال.

وأمَّا نسبتها إلى ( أرض الله ) حين يُقال:بقيَّة الله في أرضه. فباعتبار تأسيسه (ع) للدولة العالمية العادلة على مجموع الكرة الأرضية.

ومن المعلوم أنَّ( أرض الله ) هي كل الكرة الأرضية، لا يستثني منها أيَّ منطقة أو مجتمع، كما أنَّه (ع) في عصره هو القائد الإلهي الوحيد الموجود في مجموع هذه الأرض.

٢٦٠