موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)0%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 679

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الصفحات: 679
المشاهدات: 202042
تحميل: 10344


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 202042 / تحميل: 10344
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء 3

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

العبادة بمعناها الكامل الشامل الدقيق، وهو تطبيق العدل الكامل على الفرد والمجموع، المـُتمثِّل بتفاصيل أوامر الله ونواهيه وإرشاداته بدقائقها على كل الخليقة: الإنس والجن.

وقد عرفنا - فيما يخصُّ الإنس أو البشرية - أنَّها عاشت حقباً طويلاً من الدهر في التخطيط التربوي العام لها؛ لأجل تحقيق شرائط هذا الهدف وإيجاد المستوى اللائق به في المجتمع البشري.

وكان القائد الكبير المذخور لتحقيق هذا الهدف الكبير، هو الإمام المهدي الموعود عليه السلام، وهو الذي بشَّرت به الأديان ونادى به الإسلام، باعتبار أنَّ كلَّ الأديان السماوية - بما فيها الإسلام - إنَّما كانت واقعة في طريق ذلك الهدف الكبير، ومن ثمَّ لتحقيق شرائط قيادة المهدي (ع) ووجود دولته العالمية.

ومن ثَمَّ يتَّضح - بجلاء - أنَّ عمل المهدي (ع) وقيادته وأهدافه في البشرية هي الأهداف التي أرادها الله تعالى لخليقته من حين وجودها، وهي نتيجة جهود الأنبياء والأولياء والصالحين جميعاً، وهي تطبيق العدل الكامل والعبادة المحضة في ربوع المجتمع الإنساني (الإنس) كلهم، على ما نطقت به الآية الكريمة.

ولا يمكن أن يكون هذا الهدف ضيِّقاً أو مُقتصراً على قوم دون قوم، أو مجتمع أو دولة دون دولة... فإنَّ نسبة البشرية إلى الخالق الحكيم وإلى الأهداف التي توخَّاها في خليقته، نسبة واحدة متساوية.

إذن؛ فالهدف يجب أن يكون عامَّاً شاملاً، وبشرياً بكل ما في هذه الكلمة من سعة وشمول.

إذن؛ فمن الطبيعي أن نفهم من الآية الكريمة نفسها: أنَّ دولة الإمام المهدي (ع) ستكون شاملة للإنس كلِّهم وللمـُجتمع والبشرية كلِّها.

ولسنا الآن في حاجة إلى إعطاء التفاصيل لهذا التخطيط العام، بعد الذي عرفه قارئ الموسوعة، وما سوف يأتي في الكتاب الآتي تفصيل عميق لهذا التخطيط.

الجهة الثالثة: في إعطاء بعض الملحوظات التي تُساعد على فَهْم الروايات السابقة.

الملحوظة الأُولى: روايات القسم الأول التي سمعنا، صريحة في عالمية الدولة المهدوية، كقوله: ( وليُبلِغنَّ دين محمد (ص) ما بلغ الليل والنهار، حتى لا يكون شرك على ظهر الأرض،

٣٢١

ولا تبقى قرية إلاَّ نودي فيها بشهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأنَّ محمداً رسول الله بُكرة وعشيَّاً ).

والقرية هي كل منطقة مسكونة، وقد ورد في الرواية طبقاً للفهم القرآني حين يقول:( ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ ) (1) .

والمقصود من الرواية: أنَّ كل المـُدن على الإطلاق، سوف يُنادى فيها بالأذان الإسلامي المعهود.

وكذلك قوله: ( يبلغ سلطانه المشرق والمغرب ).

وقوله: ( لأُملِّكنهم مشارق الأرض ومغاربها... حتى يُعلن دعوتي ويجمع الخلق على توحيدي ). إلى غير ذلك.

الملحوظة الثانية: إنَّ عقد المـُقارنة بين سعة مُلك ذي القرنين، وبين سعة حكم المهدي (ع)، إنَّما هو باعتبار أنَّ ذي القرنين أكبر قائد عرفه التاريخ القديم، وسيكون المهدي أكبر قائد يعرفه التاريخ الحديث، وسيبقى الفرق بين هذين القائدين هو الفرق بين العهدين، وما يحتويانه من إمكانيات معنوية ومادِّية.

وليس المراد بهذه المقارنة تشابه المقدار الذي يفتحه المهدي (ع) مع المقدار الذي فتحه ذو القرنين، ليخطر على البال: أنَّ مُلك المهدي لا يزيد على ذلك، ولا يستوعب العالم كله؛ لأنَّ ذا القرنين لم يستوعب بمُلكه العالم كلِّه على أيِّ حال.

إنَّ النصوص التي سمعناها في الملحوظة الأُولى، صريحة في عالمية الدولة العالمية، مضافاً إلى اقتضاء التخطيط الإلهي العام لذلك، فتكون قرينة على أنَّ المراد من التشبيه هو مُجرَّد السعة والشمول دون التحديد.

وليس في الرواية دلالة على الانحصار؛ فإنَّها قالت: ( حتى لا يبقى منهلاً ولا موضعاً وطأه ذو القرنين إلاَّ وطأه )، وهذا صادق مع استيعاب الحُكم المهدوي للعالم، فإنَّ مناطق ( ذي القرنين ) تقع ( ضمن الحُكم المهدوي ) بطبيعة الحال.

فالتحديد المروي يعني أنَّ المهدي (ع) لا يطأ، أي لا يفتح مقداراً أقلَّ من ذلك، بل يفتح هذا المقدار الذي فتحه ذو القرنين، وقد يزيد المهدي (ع) على ذلك بكثير، وليس في الرواية ما يدلُّ على نفي ذلك، فإذا دلَّ على هذه الزيادة دليل كافٍ، كالروايات من القسم الأول والتخطيط العام، كانت عالمية الدولة المهدوية أمراً ثابتاً، بل قطعيَّاً.

____________________

(1) هود: 11 / 100

٣٢٢

الملحوظة الثالثة: نصَّت روايات القسم الرابع على أسماء بقاع مُعيَّنة في العالم، يستولي عليها الإمام المهدي (ع) ضمن دولته العالمية، وهي - بلسان كلا الروايتين -: الروم، والصين، والديلم، والتُّرك، والسند، والهند، والقسطنطينية، وكابل شاه، والخزر.

وهذا أكبر استيعاب ممكن لمناطق العالم، بحسب مستوى الفهم العام للمجتمع حال صدور هذه النصوص، الفهم الذي لم يكن ليُساعد على تعداد ما هو أكثر من ذلك.

وفي الحقيقة، أنَّ هذه المناطق إنَّما ذُكرت لإعطاء الانطباع عن سعة فتح الإمام المهدي (ع) ودولته... وسيقت كأمثلة لذلك، لا على وجه التعيين، ومعه فيُمكن استفادة فَهْم الانحصار بهذه المذكورة، وكيف يمكن فَهْم الانحصار مع قيام الدليل القطعي الذي عرفناه على خلافه.

ومن هذه الأمثلة نعرف سعة حكم المهدي (ع) على ذي القرنين، فإنَّ المعروف أنَّ ذا القرنين لم يحكم الصين ولا الروم(1) ، وإنَّما حاربهم، على حين أنَّ المهدي سوف يُسيطر على ذلك سيطرة تامَّة.

والمراد بالروم في الرواية، طبقاً للفهم المـُعاصر لصدورها، معناه الشامل للإفرنج كلِّهم، أعني أوروبا عموماً، وقد يشمل قادة أمريكا أيضاً، لا أنَّهم من عنصر بشري مُشابه، أي أنَّهم من الإفرنج بالمعنى العام.

والمراد بالصين المنطقة المعروفة في شرق آسيا... الشاملة للقسم المحكوم للشيوعيين اليوم، والقسم المحكوم لأمريكا وللصين الوطنية، والشامل لليابان أيضاً.

والمراد بالديلم أو جبال الديلم، المناطق التي تقع الآن في ( جنوب الاتِّحاد السوفيتي )، والتي تحتوي على أكثرية مسلمة، فإنَّ نسبة الديالمة في التاريخ إلى تلك المنطقة، وقد تُسمَّى بمنطقة ما وراء النهر في بعض التواريخ.

وأمَّا الهند فمعروفة، إلاَّ أنَّ المقصود منها ما يشمل باكستان أيضاً؛ لكونهم ممَّا يصدق عليهم اسم الهند لغةً بطبيعة الحال.

وأمَّا السند، فالمراد به ما يُسمَّى اليوم بجنوب شرقي آسيا، بما فيها أندونيسيا وفيتنام ولاوس وغيرها.

والمراد بالقسطنطينية، مدينة استانبول، التي هي الجزء الأوروبي من تركيا، وهي

____________________

(1) أعني الجزء الغربي من أوروبا، فإنَّ الجزء الشرقي منها دخل تحت حُكم ذي القرنين.

٣٢٣

ترد - عادة - في لسان الروايات كأقوى مدينة في العالم القديم، بحيث يكون فتحها نقطة استراتيجية مُهمَّة في حركة القيادة العالمية، وإنَّما تكتسب أهمِّيتها باعتبارها إحدى المداخل الرئيسية لأوروبا الشرقية.

ومن هذا المنطلق، ورد التبشير في الروايات بشمول الفتح الإسلامي للقسطنطينية، وبات مُنتظَراً عدَّة قرون، حتى تحقَّق على يد ( العثمانيين )، وبذلك اكتسبوا أهمِّية كبيرة بصفتهم المـُطبِّقين لذلك التبشير الإسلامي، وقد عرضنا ذلك في التاريخ السابق(1) ، وسيفتحها المهدي (ع) مرَّة أُخرى.

وكابل شاه، هي عاصمة مملكة الأفغان الحالية، وفتحها يعني فتح المنطقة كلِّها بطبيعة الحال، وشُهرتها على (كابل)، وأُضيفت إلى الشاه إمَّا باعتبار أنَّها الاسم القديم لها، أو باعتبار عاصمة دولة ملكية... والشاه هو الملك عندهم.

والخزر، هو المنطقة المجاورة لبحر الخزر، المعروف ببحر قزوين من الشمال... الذي يحكم أغلب شواطئه الآن دولة الاتِّحاد السوفيتي، وقد اختصَّت إيران بقسم من شواطئه الجنوبية.

ومن هنا؛ نعرف أنَّ هذه المناطق شاملة لكل العالم المعروف، أو المسكون في عصر صدور هذه الروايات، ولم يكن من المعقول التصريح بما يزيد عليه، فإنَّه يكون مُخالفاً للمستوى الثقافي والعقلي للسامعين في ذلك العصر.

وهو يكاد يستوعب كل قارَّة أروربا وآسيا، وقد يشمل - بشكل وآخر - أمريكا الشمالية أيضاً.

وقد سكتت هاتان الروايتان عن أفريقيا وإستراليا وأمريكا الجنوبية والقطبين؛ لما قلناه: من أنَّ تسميتها كانت غير مناسبة مع مستوى السامعين.

وهذا صادق في غير الشمال الإفريقي (بالمعنى الشامل لمصر)، والحبشة (بالمعنى الشامل للسودان والصومال أيضاً)؛ فإنَّه كان معروفاً للمجتمع يومئذ؛ فيكون دليل شمول الحُكم المهدوي لها ثابتاً بالقسم الأول من الروايات ودلالة التخطيط العام.

وإذا نظرنا إلى هذه البلاد المذكورة من زاوية حالها الحاضر، أمكننا أن نعرف كيف أنَّها تحتوي على مناطق إفرنجية رأسمالية صرفة، وعلى مناطق شيوعية صرفة، وعلى مناطق مُستعمرة للشرق الشيوعي... ممَّا يؤكِّد ما قلنا

____________________

(1) ص562 وما بعدها.

٣٢٤

عن استقلال أيديولوجية المهدي (ع) عن هذه الأيديولوجيات السائدة في عصر الغيبة.

ويؤكِّد - بكل وضوح - أنَّ المهدي (ع) سوف يأتي مُحارباً للمادِّية بكل أشكالها وأحوالها، وللفساد القانوني والأخلاقي بكل عناوينه وشعاراته.

وهو أيضاً يؤكِّد - في نفس الوقت - مقدار القوى التي ستُقابل المهدي (ع) في هذا العالم وأهمِّية العمل القيادي الذي سوف يتكفَّله، وهذا ما سنعرفه في الفصل الآتي وفي ضمانات النصر.

فإنَّ المـُهمَّ بعد الآن، هو أن نعرف بوضوح كيفيَّة حصول المهدي (ع) على هذا الهدف الضخم، الذي لم يسبق له الوجود في تاريخ البشرية كلها، وما هي ضمانات الانتصار في هذا الهدف.

٣٢٥

٣٢٦

الفصل الثالث

ضمانات انتصار المهدي (ع)

ونريد بهذه الأسباب التي تتوفَّر للإمام المهدي (ع) حين ظهوره، فتوجب له تحقُّق النصر الأكيد السريع، الذي يسيطر به على كل المجموعة البشرية.

وهي لا شكَّ ضمانات أكيدة وشديدة وواسعة، يوفِّرها الله تعالى للمهدي (ع)؛ لكي تكون بمجموعها سبباً لإنجاز هذا القائد العظيم الهدفَ الأسمى من وجود البشرية.

تمهيد:

قد يخطر في الذهن: أنَّه لا حاجة إلى البحث عن الضمانات وتفاصيلها، بعد أن كنَّا نعلم أنَّ إرادة الله هي الضمان الوحيد لنصر الإمام المهدي (ع)، الذي جعله القائد الكبير لتطبيق الهدف الكبير والقيام بدولة الحق في آخر الزمان.

وجواب ذلك: أنَّ إرادة الله عزَّ وجلَّ هي الضمان الوحيد للنصر، وهذا صحيح بكل تأكيد، ولا يوازيها أيُّ عامل آخر.

ولكنَّ هذا لا ينافي البحث عن الطريقة التي يريد بها الله تعالى نصر مهديِّه الموعود، في حدود الإثباتات والأدلة المـُتوفِّرة، فإنَّ الأسلوب الذي يريده الله تعالى أسلوباً لانتصار المهدي (ع)، يُحتمل فيه عدَّة أُطروحات.

الأُطروحة الأُولى: الانتصار بالطريقة الإعجازية الكاملة.

وهي الأُطروحة التي يذهب إليها الفكر التقليدي لدى المسلمين؛ ولذا استنتجوا:

٣٢٧

أنَّ الإمام ( عليه السلام ) يحصل على الأسلحة بطريق المعجزة، وأنَّ الأسلحة لا تعمل ضدَّ جيشه، وأنَّ الأعداء لا يمكنهم الكيد ضدَّه، بمعنى أنَّهم سوف يُصرَفون ذهنياً عن استنتاج الطرق العسكرية أو الاجتماعية المؤثِّرة ضدَّ الكيان المهدوي.

غير أنَّنا نأسف لعدم إمكان الالتزام بهذه الأُطروحة؛ لأنَّ الدليل الصحيح القطعي قائم على دحضها وتفنيدها، فإنَّها تواجه عدَّة اعتراضات مُهمَّة نذكر منها ما يلي:

الاعتراض الأول: لو كان الإعجاز طريقاً صحيحاً للدعوة الإلهية، لأمكن للمهدي (ع) خلال غيبته الصغرى السيطرة الكاملة على العالم، بالرغم من جبروت العباسيين والفرس والروم يومئذ، فيملؤها قسطاً وعدلاً بعد أن مُلِئت ظلماً وجوراً، بل لأمكن لنبي الإسلام (ص) – وهو خير البشر – تحقيق هذا الهدف، ولما احتاج إلى بذل الجهود المـُضاعفة في نشر الهدى والعدل، ومقاتلة المشركين، ولما انتهى الأمر إلى مقتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) وأهله وأصحابه في سبيل الهدى والعدل، في واقعة كربلاء الدامية المعروفة.

وإذا أمكن إنجاز الهدف البشري الكبير في وقت أسرع، كان تأخيره ظلماً للبشر، والظلم غير ممكن من الحكمة الإلهية الأزلية؛ فيجب تقديم الموعد بمقدار الإمكان.

والسرُّ الأساسي في هذا التأجيل ما عرضناه مُفصَّلاً في التاريخ السابق(1) ، من أنَّ طريق الدعوة الإلهية لا يقوم على المعجزات؛ لأنَّ الهدى والعدل الناتج عن المعجزات أقلُّ وأضحل من الهدى والعدل الناتج عن طرقه الطبيعية؛ ومن هنا كانت كل نتيجة يمكن تحقيقها بالطرق الطبيعية، فإنَّها لا توجد عن طريق المعجزة، بل يوكَل أمرها إلى تلك الطرق مهما طال بها الزمن، لا يُستثنى من ذلك إلاَّ قيام المـُعجزة عند انحصار السبب بها انحصاراً مطلقاً.

وحيث كان الهدف البشري العام الموعود، يمكن إيجاده بالطرق الطبيعية، وكانت هذه الطرق تحتاج في فعالياتها إلى طول الزمان - كما سبق أن عرضناه هناك - إذن؛ فقد تعيَّن تأجيل الموعد إلى حين وجوده بالسبب الطبيعي.

ولمَّا عرفنا من ذلك، بنحو القاعدة العامة، أنَّ طريق الدعوة الإلهية، ليس بطريق إعجازي، فهذا لا يختلف فيه الحال ما بين عصور ما قبل الظهور، وعصور ما بعده. أو

____________________

(1) 244 وما بعدها إلى عدَّة صفحات.

٣٢٨

بتعبير آخر: لا يختلف فيه الحال بين المـُقدِّمات البعيدة لإنجاز الهدف البشري، أو المـُقدِّمات القريبة منه، أو عصر ما بعد انجازه، فإنَّ سنَّة الله تعالى في خلقه لا تختلف على كلِّ حال.

ومن هنا لا يمكن الالتزام بأنَّ سيطرة المهدي (ع) على العالم تكون بطريق إعجازي مطلق.

الاعتراض الثاني: أنَّ افتراض الإعجاز في انتصار الإمام المهدي (ع) على العالم، ممَّا تنفيه أعداد كبيرة من الأخبار:

أولاً: الأخبار الدالَّة على أنَّ أصحابه الخاصة ثلاثمئة وثلاثة عشر؛ إذ مع المعجزة لا حاجة إلى أيِّ واحد منهم.

ثانياً: الأخبار الدالَّة على أنَّه يخرج من مكَّة بعشرة آلاف... إذ مع المعجزة أمكن أن يخرج بعشرة ملايين.

ثالثاً: الأخبار الدالَّة على سفره من مكَّة إلى الكوفة، إذ بالمعجزة يمكن الوصول إلى الكوفة فوراً.

رابعاً: الأخبار الدالَّة على إلقاء خُطبته في مكَّة، وإلقاء خطاب آخر بالكوفة؛ إذ يمكن بالإعجاز إيصال هذه المعاني إلى أذهان الناس بدون كلام!

خامساً: الأخبار الدالَّة على مقاتلته للسفياني، وقتله إيَّاه؛ إذ مع المعجزة تكون الحاجة إلى هذا الجهد مُنتفية.

سادساً: الأخبار الدالَّة على أنَّ المهدي (ع) يقتل المـُنحرفين بكثرة، يضع السيف فيهم ثمانية أشهُر بدون انقطاع - كما سيأتي - وهذا لا حاجة له مع إمكان إنجاز ذلك بالمعجزة بين عشيَّة وضحاها، أو طَرفة عين.

بل أنَّ نفس ظهور المهدي (ع) ممَّا لا حاجة إليه، لو آمنا بتأثير المعجزة إيماناً مطلقاً؛ إذ يمكن له إصلاح العالم، في حال غيبته، بل في نفس وجود المهدي (ع) يبقى أمراً مُستأنفاً، إذ يمكن لله أن يُصلح العالم بدون قائد ولا قيادة ولا حروب، قال الله تعالى:( ... وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً... ) (1) .

( قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) (2) .

____________________

(1) يونس 10/99

(2) الأنعام 6/ 149

٣٢٩

فكل ما دلَّ على وجود الإمام المهدي (ع) وعلى ظهوره، يُنافي مع فكرة الإعجاز المطلق.

إذن؛ فالأُطروحة الأُولى قطعيَّة البطلان.

الأُطروحة الثانية: إنَّ الله تعالى يريد نصر الإمام المهدي (ع) على حدِّ إرادته لسائر الأشياء في الكون، بمعنى أن يوكِل الله انتصاره إلى القوانين الطبيعية إيكالاً كاملاً، بدون أيِّ زيادة أو رتوش من تأييد أو تخطيط.

وهذه الأُطروحة أيضاً لا يمكن الالتزام بصدقها صدقاً كاملاً، بالرغم من صحَّة القول: بأنَّ السير على طبق القوانين الكونية هو الأسلوب (العام) في عمل المهدي (ع)، غير أنَّ التمحُّض في ذلك، ونفي التأييد والتخطيط الإلهيين يواجه عدَّة اعتراضات.

الاعتراض الأول: أنَّ التاريخ السابق على الظهور الذي دلَّنا عليه التخطيط الإلهي العام، دالٌّ بوضوح على وجود العناية والتأييد الخاصَّين بالمهدي (ع ) ويومه الموعود.

فهناك التخطيط لإيجاد الشرط الأول من شرائط اليوم الموعود، التي عرفناها في التاريخ السابق(1) ، وهو جود الأُطروحة العادلة الكاملة معروفة بين الناس، وقد تمَّ هذا التخطيط ووجِدت الأُطروحة مُتمثِّلة بالإسلام كما عرفنا هناك.

وهناك التخطيط لإيجاد الشرط الثالث، وهو العدد الكافي لغزو العالم بالعدل... الذي عرفنا أنَّ التمحيص، ومرور البشرية في ظروف الظلم والتعسُّف ردهاً طويلاً من الزمن من أهمِّ أسبابه.

وهناك التخطيط لإيجاد الشرط الثاني، وهو صفة القيادة العالمية المـُثلى، مُتمثِّلة بشخص الإمام المهدي (ع)... الأمر الذي عرفنا للغيبة الطويلة - أعني لطول العمر - دخلاً كبيراً في التسبُّب إليه.

وهناك التخطيط بإيجاد الغيبة نفسها، التي كان لا بد أن يقترن طول العمر بها حفاظاً على القائد المذخور ليوم العدل الموعود.

وهناك علامات الظهور القريبة، التي سمعناها في هذا التاريخ، وأهمُّها الخسف والخسوف والكسوف في غير أوانه، وهي علامات إعجازية.

____________________

(1) تاريخ الغيبة الكبرى: ص261 وما بعدها

٣٣٠

وقد يخطر في الذهن: أنَّ أكثر هذه الأمور التي عرضناها هي - في واقعها - أمور (طبيعية) تحدث طبقاً للقوانين العامة في الكون، وليست إعجازية، حتى (الغيبة) طبقاً للفهم الذي رجَّحناه في التاريخ السابق(1) ، وهو ( أُطروحة خفاء العنوان )، فلا تكون هذه الأمور دالَّة على وجود العناية والتأييد الإلهيين.

وجواب ذلك: أنَّها أمور (طبيعية) بكل تأكيد، ولكنَّها تدلُّ على العناية والتأييد، بكل تأكيد أيضاً، فإنَّ القوانين الكونية بوجودها الخالص، لا تقتضي هذه الأمور اقتضاء ضرورياً، لتكون هذه الأمور (طبيعية) خالصة، بل هي محتاجة إلى التخطيط المـُتعمد المرتَّب.

وكان السبب في هذا التخطيط المتعمد - كما عرفنا هناك وكما سيأتي مزيد البرهان عليه في الكتاب القادم... - هو التسبيب لأجل إيجاد الغاية التي خلق الكون والبشرية خصوصاً من أجلها، وهو الكمال الفائق أو العبادة الخالصة.

وإرادة الخالق وقدرته، يمكنها أن تعطف اتجاه القوانين الكونية إلى حيث تريد، من دون أن تتغيَّر قوانينها ودقَّتها، فقد عطفتها باتجاه إيجاد الغاية من الخلق؛ ومن هنا وجِدت فكرة التخطيط المـُتعمد المرتَّب.

إذن؛ فهذه الأمور (طبيعية)، وهي في نفس الوقت تدلُّ على العناية والتأييد الإلهيين.

الاعتراض الثاني: إنَّ التاريخ اللاحق للظهور، الذي دلَّت عليه الروايات التي سمعناها والتي سنسمعها، يتضمَّن - بوضوح - العناية والتأييد الإلهيين.

فمن ذلك: اجتماع أصحاب الإمام المهدي (ع) عند أول ظهوره، وتتابعهم في الوصول إليه بعد ذلك، وهم يصلون بطريق (طبيعي)، ولكنَّ تركيز عواطفهم باتجاه نصر المهدي (ع) وتأييده... لطف وعناية، ناتج عن التخطيط العام السابق على الظهور.

ومنه: كون المهدي (ع) مُنتصراً في كل حروبه، ضدَّ أيِّ عدوٍّ، عظيماً كان أو حقيراً.

ومنه: ما سنسمعه من نُصرة الملائكة للمهدي (ع)، وقد وردت في ذلك روايات عديدة سنرويها.

____________________

(1) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص34 وما بعدها.

٣٣١

ومنه: سيطرته على العالم كله، وهو هدف لم يتحقَّق على يد أيِّ قائد سابق، ظالماً كان أو عادلاً.

ومنه: تجاوب (الطبيعة) مع العدل الساري في دولته، بالمعنى الذي سنذكره.

وغير ذلك من النقاط التي تدلُّ - بوضوح - على العناية والتأييد، ممَّا ذكرنا وسنذكر إثباتاته الكافية... وبعضها ترقى إلى رتبة اليقين لكل مؤمن بفكرة المهدي أساساً.

ومعه؛ فالأُطروحة الثانية القائلة بإيكال أمر الإمام المهدي (ع) إلى القوانين الكونية إيكالاً كاملاً... لا يمكن أن تكون صحيحة.

الأُطروحة الثالثة: وهي المـُتعيِّنة بعد نفي الأُطروحتين السالفتين:

إنَّ الإمام المهدي (ع) ينتصر طبقاً للطريق (الطبيعي)، ولا يمكن أن تكون المعجزة سبباً قهريَّاً لانتصاره، غير أنَّ هذا الطريق (الطبيعي) مُطعَّم بالتأييد الجزئي وغير القهري من قِبل الله عزَّ وجلَّ؛ باعتبار أنَّ دولة الإمام المهدي (ع) هي النتيجة الكبرى لوجود البشرية وجهودها وتضحياتها.

تماماً كما أيَّد الله نبيه (ص)... وأوضح أشكال هذا التأييد الذي لا يمكن أن يُنكره مُنكر، هو وصول الجيش الإسلامي القليل العدد والعدَّة، إلى مناطق شاسعة من الكُرة الأرضية في أقلِّ من نصف قرن، ولازال الإسلام - بالرغم من تكالب الجهود الدولية على طمسه والإجهاز عليه - باقياً في توسُّع وانتشار، وإن كان أبطأ من السابق بطبيعة الحال.

هذا، إن صرفنا النظر عن انتصار النبي (ص) في كل حروبه، وتأييده بالملائكة، وبالقرآن الكريم، ولماذا نصرف النظر عن ذلك؟!

وبعد هذا التمهيد، لابدَّ لنا من التعرُّض إلى صُلْب الموضوع في هذا الفصل، وهو عرض أسباب أو ضمانات النصر للإمام المهدي (ع)... تلك الضمانات التي تُهيِّئ له البيئة المناسبة لسرعة وسهولة سيطرته على العالم بالعدل، بالرغم من أهمِّية هذه المـُهمَّة وجسامة مسؤولياتها، وأمَّا كيفيَّة وأساليب الخطط العسكرية والمفاهيم الفكرية التي يستعملها المهدي (ع) خلال عمله، فهذا ممَّا لا يمكن الاطِّلاع عليه إلاَّ للفرد المـُعاصر لذلك الزمن... سوى بعض الأمور القليلة التي سنذكرها بعد ذلك.

وهذه الضمانات يرتبط بعضها بالتخطيط العام للعصر السابق على الظهور، بمعنى أنَّها

٣٣٢

من نتائجه بشكل وآخر.

وبعضها راجع إلى تخطيط خاص مُتَّخذ يومئذ لكي يوصل إلى نتائج مُعيَّنة؛ ومن هنا لا بد من وقوع الحديث في قسمين من الضمانات:

القسم الأول: الضمانات الناتجة عن التخطيط العام السابق على الظهور:

وهي ضمانات عديدة، أكثرها منصوص في الروايات بوضوح:

الضمان الأول: فشل الأنظمة السابقة على الظهور، واتضاح زيفها وظلمها لدى الناس

فقد قلنا في تاريخ الغيبة الكبرى(1) : إنَّ من جملة النتائج التي يتمخَّض عنها التخطيط العام السابق على الظهور، هو مرور كل المبادئ التي تدَّعي لنفسها حلَّ مشاكل البشرية وتذليل مصاعبها... بتجارب طويلة الأمد، ينكشف في نهاية المطاف زيفها، وجهات القصور والنقص والظلم فيها... ذلك النقص الذي تتضمَّنه بالضرورة؛ باعتبارها بنت العقل البشري القاصر، المـُقيَّد في حدود العاطفة والزمان والمكان، هذا النقص الذي لا يبرز للعيان بعد التجربة والامتحان.

وتمرُّ المبادئ في خضمِّ التجارب - واحدة بعد الأُخرى - أمام الرأي العام العلمي، وبمرأى ومسمع من الجميع، الصديق والعدوِّ، والموافق والمـُخالف... حتى يظهر زيفها وظلمها، ومخالفتها للمصالح العامة والخاصة، أمَّا الجميع وهذا ما نعيشه فعلاً بتاريخنا الحاضر، الذي كشف لرأي العام العالمي عن عدد من المبادئ التي تدَّعي حلَّ مشاكل العالم.

وإذا تهاوت كل التجارب على صخرة الواقع، يحدث عند البشر عموماً يأس نفسي قاتل من المبادئ المعروضة كلها، وإحساس عميق بأنَّها غير قابلة لرفع المظالم عن كاهل البشرية، وإبدالها بالسعادة والرفاه، لكنَّ خيط الخير وومضة النور، تبقى تعتمل في صدور الناس بشكل غامض عميق الغموض، إنَّ خيط الأمل بالسعادة سوف لن ينقطع.

وينبعث أمل غامض بأنَّ هناك مبدأً مجهولاً عادلاً، يمكن أن يضمن للبشرية سعادتها ورفع المشاكل من ساحتها، ويزداد الأمل أصالة ووضوحاً كلَّما ازداد الإحساس بفشل المبادئ المعروضة في العالم.

لا يختلف في هذا الأمل، مؤمن عن كافر... فإن الكل يحسون بالظلم وإن كانوا

____________________

(1) ص288وما بعدها.

٣٣٣

مُشاركين في إيجاده، وكلُّهم يشعرون بمرارته وقساوته، كما أنَّ الجميع سيعرفون فشل المبادئ المعروضة لحلِّ مشاكلهم، وأنَّها إنَّما أضافت إلى الظلم ظلماً، وإلى المشاكل مشاكل.

فتنعكس هذه الأحاسيس على شكل تصوُّر لا شعوري مُجمل، يتضمَّن انبثاق المبدأ المؤهَّل لإيجاد السعادة في يوم من الأيام، ويُصبح البشر على العموم في حال انتظار غامض لهذا الغد السعيد المنشود... تماماً كما ينتظر المؤمن ظهور المهدي (ع) انتظاراً واضحاً.

وانطلاقاً من هذه الزاوية بالذات، سوف يتلهَّف الناس ويلتفتون بكل إخلاص يملكونه، ومَن منهم لا يُخلص لمصلحته وسعادته؟!.. إلى أول صوت صريح يدَّعي وجود حلٍّ جديد لمشاكل البشرية، وسبب جديد لنشر السعادة في ربوعها.

سيقول المؤمن: هذا هو أملي الذي كنت أعرفه، وانتظره بوعي ووضوح.

وسيقول الكافر: هذه تجربة خيِّرة البوادر، لعلَّها تُنقذ البشرية وتُحقِّق آمالها المنشود، وسيقول المهدي (ع): أنا المـُصلح المـُنتظَر. فيُجيبه العالم: أنت المـُصلح المـُنتظر...!

وهذا ليس بدعاً من الأمر... بعد أن اعتادت البشرية أن تستقبل كل مبدأ جديد يريد حلَّ مشاكل العالم، بصدر رحب وحُسن نيَّة، لعلَّه هو الذي يكون المبدأ المنشود الذي يُحالفه التوفيق لإنجاز الغد السعيد... وحين تبوء تجاربه بالفشل، تستقبل المبدأ الآخر بصدر رحب أيضاً، فما سيكون حالها حين تفشل كل التجارب المعروضة والأُطروحات المـُحتملة، إنَّ يأسها من هذه الأُطروحات سوف يتركَّز، وأملها بالغد السعيد سوف يتَّضح، وصدرها تجاه المبدأ الجديد والأُطروحة الجديدة سيكون أرحب وحسب ظنِّها أكثر.

تلك هي الأُطروحة العادلة الكاملة، التي سيجدها الناس لأول وهلة فوقاً شاسعة بينها وبين أيِّ واحد من المبادئ السابقة الفاشلة، الأمر الذي يجعل الأمل في نجاحها في إنجاز الغد السعيد المأمول، واضحاً ومنطقياً أكثر من أيِّ مبدأ آخر.

ومن هنا، حين يقول القائد المهدي (ع) أنا المـُصلح المـُنتظر. سيُجيبه العالم: أنت المـُصلح المـُنتظر. ومن هنا يتولَّد الضمان الأول لانتصار المهدي (ع).

وهذا ما أشارت إليه الأخبار التي سبق أن روينا قسماً منها في التاريخ السابق(1) .

____________________

(1) ص 288 وما بعدها.

٣٣٤

أخرج المفيد في الإرشاد(1) ، والطبرسي في الإعلام(2) ، عن عقبة، عن أبيه قال: ( إذا قام القائم حَكَم بالعدل... - إلى أن قال: - إنَّ دولتنا آخر الدول، ولم يبقَ أهل بيت لهم دولة إلاَّ ملكوا قبلها؛ لئلا يقولوا إذا رأوا سيرتنا: إذا ملكنا سرنا بمثل سيرة هؤلاء وهو قوله تعالى:( ... وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) ).

وأخرج الشيخ في الغيبة(3) ، بسنده عن أبي صادق، عن أبي جعفر (ع)، قال: ( دولتنا آخر الدول )، وساق الحديث.

أقول: وهذا الخبر قرينة على أنَّ القائل في ذلك الخبر هو الإمام الباقر نفسه.

وأخرج النعماني في الغيبة(4) ، بسنده عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (ع)، أنَّه قال: ( ما يكون هذا الأمر، حتى لا يبقى صنف من الناس إلاَّ وقد ولوا من الناس؛ حتى لا يقول قائل: إنَّا لو ولينا لعدلنا، ثمَّ يقوم القائم بالحق والعدل ).

وهو صريح في مرور المبادئ التي تدَّعي حل مشاكل العالم، بالتجارب واحدة بعد الأُخرى عن طريق تسلُّمها زمام الحكم في منطقة من العالم، صغيرة أو كبيرة، وستفشل لا محالة فيما تدَّعيه، وسيسود بدل العدل المطلوب الظلم والفساد في مناطقها المحكومة لها؛ ومن هنا لا تستطيع أن تدَّعي عند قيام حكم المهدي (ع) ونظامه العادل: أنَّنا ( إذا ملكنا سرنا بمثل سيرة هؤلاء )، أو تقول: ( إنَّا لو ولينا لعدلنا )؛ لأنَّ مثل هذا الادِّعاء سوف يكون مُعرَّىً عن الصحَّة أمام الجميع، بعد أن أثبتت التجارب بمرأى ومسمع من الرأي العالمي فشلها وزيفها، فيُقال لهم بوضوح: إنَّكم باشرتم الحُكم، ولم تسيروا بمثل هذه السيرة العادلة، ولو كان عندكم رأي أو اتجاه أعمق ممَّا مارستموه خلال حُكمكم، لظهر يومئذ لا محالة.

ويُقال للرأي العام: إنَّكم جرَّبتم هذه المبادئ، وعشتم قساوتها وظلمها، وأملتم زوالها

____________________

(1) ص344.

(2) إعلام الورى ص432.

(3) ص282.

(4) ص146.

٣٣٥

وتبدُّلها إلى العدل، فها هو العدل قد جاء ليُخرجكم من الظلمات إلى النور، ويهديكم إلى الصراط المستقيم.

وهذا هو قول الله تعالى:( ... وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (1) .

أي أنَّ نهاية المطاف في التخطيط العام للبشرية، هو حكم المـُتَّقين الأخيار حملة العدل الكامل والعبادة الخالصة إلى الناس.

الضمان الثاني: ضعف الدول السابقة على الظهور، والتي ستُصبح مُعاصرة له في أول تحقُّقه.

فإنَّه قد يخطر في الذهن: استبعاد انتصار الإمام المهدي (ع) أمام قوى الشرِّ الكبرى في العالم، المـُتمثِّلة في الدول الكبرى والمجموعات الدولية والأحلاف الدولية... وأمام الأسلحة الرهيبة التي يكفي بعضها القليل لهلاك كل البشر، فضلاً عن الكثير، والتي يمكن بها التعرُّف على أيِّ شكل من أشكال التحرُّك لأيِّ جيش أو جهة، أينما كان في الكرة الأرضية... لأجل التوصُّل إلى ضربه وتحطيمه.

وهذا الاستبعاد يمكن نقده بأيِّ ضمان من هذه الضمانات التي نحن بصددها الآن لانتصار المهدي (ع)، ولكن بغضِّ النظر عن أيِّ ضمان، يمكن أن يكون هذا الضمان الثاني جواباً مُستقلاَّ ًمُتكاملاً عن هذا الإيراد.

وهو أنَّنا يمكن أن نعرض (أُطروحة) مُعيَّنة مُحتملة - على أقلِّ تقدير - نجمع حولها المثبتات والقرائن، بما فيها بعض الروايات الواردة، نعرضها لكي نقول فيها: إنَّ قوى الشرِّ الكبرى والأسلحة الحديثة الفتاكة، سوف لن تبقى إلى عصر الظهور، لكي يتسنَّى لذويها استعمالها ضدَّ الإمام المهدي (ع)، بل سيُكتب لهذه الأسلحة الزوال بشكل من الأشكال.

وذلك انطلاقاً من مُنطلقات نذكر منها اثنين رئيسين:

المنطلق الأول: أن نتصوَّر أنَّ اتِّفاقية عامة تقع بين الدول المـُهمَّة في العالم، بمنع استعمال الأسلحة الإستراتيجية الفتاكة، كالقنابل الذرِّية، والصواريخ الموجَّهة، وبعض

____________________

(1) الأعراف: 128 وانظر: القصص: 28 / 83

٣٣٦

أنواع الطائرات والدبَّابات والبوارج المـُتطوِّرة الصُّنع... ونحو ذلك ممَّا يوجب الدمار العام... ومنع صنعها وبيعها.. والاتِّفاق على إتلاف هذه الأسلحة ممَّن كانت لديه، وفرض رقابة دولية مُشدَّدة على ذلك.

فإذا تمَّ تطبيق هذه الاتِّفاقية، لم يبقَ لدى الدول عموماً، إلاَّ السلاح الذي ينفع للاستهلاك المَحلِّي الداخلي، وهو ممَّا لا يمكن أن يواجه حركة مُهمَّة واسعة، كحركة الإمام المهدي (ع).

وقيام الدول في المستقبل غير البعيد، يُمثِّل هذه الاتفاقية، أمر مُحتمل جدَّاً، والاتجاه الدولي العام يسير نحوه بخُطى حثيثة، وخاصة بعد أن منع تفجير الأسلحة النووية جوَّاً، ومنع بيعها للدول غير المالكة لها، واتَّجه التفكير إلى الحدِّ منها في الدول المالكة لها، بل الحدُّ من كل أنواع الأسلحة المـُهمَّة، كما لا يخفى على القارئ المتابع لهذه الأخبار.

ومعه؛ يبقى وجود مثل هذه الاتِّفاقية أمراً قريباً جدَّاً، وكل ما في الأمر أنَّه يحتاج إلى مضيِّ بعض الزمن لأجل نضج الفكرة والاتِّفاق على النقاط الأساسية.

المنطلق الثاني: وهو ثابت على تقدير عدم حصول المنطلق الأول، أعني عدم اتفاق الدول على الحدِّ من الأسلحة، ففي الإمكان القول حينئذ: إنَّ الأسلحة ستتحطَّم في حرب عالمية ساحقة ماحقة مُدمِّرة.

وقد نُقل عن أحد المـُفكِّرين الأوروبيين - أظنُّه برناردشو - أنَّه سُئِل عن نوع الأسلحة التي تُستعمل في الحرب العالمية الثالثة، فقال ما مؤدَّاه: إنَّ هذا ممَّا لا أعلمه، وإنَّما أعلم أنَّه إذا وقعت حرب رابعة، فسوف يكون السلاح فيها هو العصي والحجارة.

وهذا واضح جدَّاً في كون هذا المـُفكِّر مُقتنعاً بأنَّ الحرب العالمية الثالثة، سوف تكون هائلة تذهب بالحضارة والمدنية كلها، لا بالأسلحة فقط، وستكون كل الأطراف المـُشتركة فيها خاسرة وفانية... إلى حدٍّ سوف لن يوجد بعدها إلاَّ أُناس فارغين من الحضارة ومُجرَّدين من السلاح القوي... لا يملكون في الحرب إلاَّ العصي والحجارة.

وهذه الصورة لا تخلو من مُبالغة، إلاَّ أنَّ طبع الحضارة الأوروبية - بكل أشكالها - تتَّجه نحو الحرب لا محالة، ما لم تقم اتِّفاقية من النوع الذي ذكرناه في المنطلق الأول، ولا زال شبح الحرب العالمية ماثلاً، والخوف منها يأكل قلوب الساسة الكبراء في عالم اليوم، فضلاً عن الشعوب الضعيفة.

وإذا حدثت هذه الحرب، فستكون نتيجة للتخطيط العام الذي تمرُّ به البشرية،

٣٣٧

وهذه الدول بالذات، طبقاً لقوله تعالى:( ... حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (1) .

فإنَّ التمحيص كما هو شامل للأفراد، شامل للجماعات والدول أيضاً، وكما يفشل الأفراد في التمحيص كذلك تفشل الدول، وفشلها عبارة عن انعدام الضمير والأخلاق فيها، وتولُّد الأنانية وسوء الظنِّ ببعضها البعض، وبالأفراد والجماعات، الأمر الذي يولِّد على الصعيد الداخلي أقسى أنواع الظلم والتعسُّف، وعلى الصعيد الخارجي الحرب العالمية المـُدمِّرة.

وقد انطبقت الشرائط المذكورة في الآية الكريمة على الحضارة الأوروبية تماماً، فقد( ... أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ... ) ، بأنواع التقدُّم الحضاري والمدني، في مُختلف الحقول الإنسانية واللا إنسانية... و( ... ظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا... ) ، وأنَّهم مُسيطرون على الطبيعة، قادرون على تذليلها لمصالحهم وتوفير سعادتهم، وإذا وجِد هذان الشرطان وجِدت النتيجة الرهيبة:( ... أَتَاهَا أَمْرُنَا... ) ، بالفناء( ... فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ... ) ، كما قال الشاعر:

كأن لم يكن بين الحَجُون إلى الصفا

أنيس ولم يسمر بمكَّة سامر

وليس الأمر الإلهي بالفَناء مُنحصراً بالطريقة الإعجازية، بل تشمل النتيجة التي قلناها، وهي أنَّ فشل الدول في التمحيص يولِّد بينها الحرب المـُدمِّرة الماحقة، التي لا تُبقي للدول المـُتحاربة ولا لأسلحتها ولا لكبريائها أيُّ وجود.

والتنبُّؤ بحدوث الحرب المـُدمِّرة قبل الظهور، موجود في الروايات - بشكل أو آخر - مرويَّة من قبل المـُحدِّثين من الفريقين.

أخرج ابن ماجة(2) ، عن أنس بن مالك عن رسول الله (ص)، في حديث عن أشراط الساعة، وأنَّه قال: ( ويذهب الرجال ويبقى النساء، حتى يكون لخمسين امرأة قيِّم واحد ).

____________________

(1) يونس: 10 / 24.

(2) انظر السُّنن ج 2 ص 1343.

٣٣٨

ومن الواضح أنَّ ذهاب الرجال أو فنائهم، لا يكون لمرض أو فقر أو نحوه، وإلاَّ لشمل النساء أيضاً، وإنَّما يكون نتيجة للحرب خاصة... إذ إنَّ الأعمَّ الأغلب من المـُحاربين هم من الرجال على مرِّ الأجيال.

وأخرج السيوطي في الحاوي(1) ، عن نعيم بن حمَّاد، عن ابن سيرين، قال:لا يخرج المهدي حتى يقتل من كل تسعة سبعة.

وأخرج النعماني(2) ، بسنده عن زرار قال:لا يكون هذا الأمر حتى يذهب تسعة أعشار الناس.

أقول: والمراد من هذا الأمر: ظهور المهدي (ع).

وأخرج الصدوق في إكمال الدين(3) ، والمجلسي في البحار(4) ، عن أبي بصير، ومحمد بن مسلم قال سمعنا أبا عبد الله (ع) يقول: ( لا يكون هذا الأمر حتى يذهب ثُلثا الناس ).

فقيل له: فإذا ذهب ثُلثا الناس فما يبقى؟

فقال (ع): ( أما ترضون أن تكونوا في الثُّلث الباقي ).

وأخرج الشيخ في الغيبة، بسنده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع): ( كان أمير المؤمنين (ع) يقول: لا يزال الناس ينقصون حتى لا يُقال: (الله). فإذا كان ذلك ضرب يعسوب الدين بذنبه... )، الخ الحديث حيث يتحدَّث عن كيفيَّة اجتماع أصحاب القائم المهدي (ع).

وخبر ابن سيرين صريح في أنَّ هذه القِلَّة المـُتزايدة التي تُصيب الناس، إنَّما تكون بالقتل، وهذا القتل الشامل للبشرية كلِّها، لا يكون عادة لظلم ظالم مُعيَّن أو لحروب محلِّية، بل يتعيَّن حصوله بحرب عالمية شاملة قويَّة التأثير.

____________________

(1) ج2 ص147.

(2) ص146.

(3) المصدر المحطوط.

(4) ج13 ص156.

٣٣٩

واختلاف هذه النِّسب المذكورة في الأخبار لقلَّة الناس، دالٌّ على كونها على وجه التقريب لا التحديد.

على أنَّه يمكن الأخذ بأكبر النِّسب، وهو تسع أعشار؛ لأنَّ الأخبار بذهاب الأقلِّ لا ينافي الإخبار عن ذهاب الأكثر... إذا كان الإخبار مربوطاً بقانون( كلِّم الناس على قدر عقولهم ) .

وقد يمكن ضرب هذه الكسور ببعضها و يكون الناتج هو الباقي من الناس.

فلو ضربنا التُّسع الباقي بعد ذهاب تسعة أعشار، بالثلث الباقي بعد ذهاب الثلثين، كان الناتج أنَّ الباقي من البشر واحد من سبع وعشرين.

فلو ضربنا ذلك بالتسعين الباقي بعد ذهاب: من كل تسعة سبعة، كان الناتج واحداً من مئة وأحدى وعشرين تقريباً، يكون هو الباقي من البشر، وهذا الضرب ممكن، إلاَّ أنَّه لا يخلو من استبعاد في الذهن لأوَّل وهلة والله العالم.

ونوكل إلى القارئ القناعة بأيٍّ من هذه النتائج التي عرضناها.

وهذا الهلاك العظيم الواقع على الناس، مهما كانت نسبته، وإن أمكنت له عدَّة تفسيرات، إلاَّ أنَّه لا يكون –عادة - إلاَّ نتيجة للحرب المـُدمِّرة الواسعة الانتشار، فإنَّ الوباء وأشباهه من المـُبيدات، التي لا يستوعب البشرية كلها عادة، ولا يذهب بهذه النسبة العالية من الناس، وخاصة مع المستوى الطبِّي اللائق الموجود في الأزمنة الحديثة.

إذن؛ فالسبب الأهمُّ لذهابهم ليس إلاَّ الحرب العامة.

وعلى أيِّ حال؛ ثبت المنطلق الثاني من الضمان الثاني، وهو تلف الأسلحة بحرب ضروس شاملة، لا تُتلِف الأسلحة فقط، بل الناس أيضاً.

كل ذلك لكي يظهر الإمام المهدي (ع) على أرضية سهلة من البشر، غير قادرة على المقاومة الشديدة عسكرياً ولا فكرياً، ولا تُشكِّل خطراً حقيقياً على الثورة المهدوية؛ لكي تكون سيطرة المهدي (ع) على العالم - بأقصر مدَّة وأقلِّ جُهد أمراً - ممكناً وصحيحاً.

ولا ينبغي أن نتجاوز هذا الموضوع قبل أن نعرض بعض الأسئلة التي قد ترد على الذهن، ونُحاول الجواب عليها.

السؤال الأول: إنَّ الحرب العالمية الرهيبة إذا حدثت، سوف لن يقتصر القتل فيها على الكفرة، بل يعمُّ المسلمين لا محالة؛ ومعه قد يُقتل من أصحاب الإمام المهدي (ع) المـُعدِّين لنُصرته بعد ظهوره جماعة، أو قد يُقتلون كلهم، ومعه يكون الظهور مُتعذِّراً؛ لما عرفناه من أنَّ وجود العدد الكافي من الجُند والقادة لغزو العالم بالعدل أمر ضروري للانتصار

٣٤٠