موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)8%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 679

الجزء ١ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 212681 / تحميل: 11111
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

العبادة بمعناها الكامل الشامل الدقيق، وهو تطبيق العدل الكامل على الفرد والمجموع، المـُتمثِّل بتفاصيل أوامر الله ونواهيه وإرشاداته بدقائقها على كل الخليقة: الإنس والجن.

وقد عرفنا - فيما يخصُّ الإنس أو البشرية - أنَّها عاشت حقباً طويلاً من الدهر في التخطيط التربوي العام لها؛ لأجل تحقيق شرائط هذا الهدف وإيجاد المستوى اللائق به في المجتمع البشري.

وكان القائد الكبير المذخور لتحقيق هذا الهدف الكبير، هو الإمام المهدي الموعود عليه السلام، وهو الذي بشَّرت به الأديان ونادى به الإسلام، باعتبار أنَّ كلَّ الأديان السماوية - بما فيها الإسلام - إنَّما كانت واقعة في طريق ذلك الهدف الكبير، ومن ثمَّ لتحقيق شرائط قيادة المهدي (ع) ووجود دولته العالمية.

ومن ثَمَّ يتَّضح - بجلاء - أنَّ عمل المهدي (ع) وقيادته وأهدافه في البشرية هي الأهداف التي أرادها الله تعالى لخليقته من حين وجودها، وهي نتيجة جهود الأنبياء والأولياء والصالحين جميعاً، وهي تطبيق العدل الكامل والعبادة المحضة في ربوع المجتمع الإنساني (الإنس) كلهم، على ما نطقت به الآية الكريمة.

ولا يمكن أن يكون هذا الهدف ضيِّقاً أو مُقتصراً على قوم دون قوم، أو مجتمع أو دولة دون دولة... فإنَّ نسبة البشرية إلى الخالق الحكيم وإلى الأهداف التي توخَّاها في خليقته، نسبة واحدة متساوية.

إذن؛ فالهدف يجب أن يكون عامَّاً شاملاً، وبشرياً بكل ما في هذه الكلمة من سعة وشمول.

إذن؛ فمن الطبيعي أن نفهم من الآية الكريمة نفسها: أنَّ دولة الإمام المهدي (ع) ستكون شاملة للإنس كلِّهم وللمـُجتمع والبشرية كلِّها.

ولسنا الآن في حاجة إلى إعطاء التفاصيل لهذا التخطيط العام، بعد الذي عرفه قارئ الموسوعة، وما سوف يأتي في الكتاب الآتي تفصيل عميق لهذا التخطيط.

الجهة الثالثة: في إعطاء بعض الملحوظات التي تُساعد على فَهْم الروايات السابقة.

الملحوظة الأُولى: روايات القسم الأول التي سمعنا، صريحة في عالمية الدولة المهدوية، كقوله: ( وليُبلِغنَّ دين محمد (ص) ما بلغ الليل والنهار، حتى لا يكون شرك على ظهر الأرض،

٣٢١

ولا تبقى قرية إلاَّ نودي فيها بشهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأنَّ محمداً رسول الله بُكرة وعشيَّاً ).

والقرية هي كل منطقة مسكونة، وقد ورد في الرواية طبقاً للفهم القرآني حين يقول:( ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ ) (١) .

والمقصود من الرواية: أنَّ كل المـُدن على الإطلاق، سوف يُنادى فيها بالأذان الإسلامي المعهود.

وكذلك قوله: ( يبلغ سلطانه المشرق والمغرب ).

وقوله: ( لأُملِّكنهم مشارق الأرض ومغاربها... حتى يُعلن دعوتي ويجمع الخلق على توحيدي ). إلى غير ذلك.

الملحوظة الثانية: إنَّ عقد المـُقارنة بين سعة مُلك ذي القرنين، وبين سعة حكم المهدي (ع)، إنَّما هو باعتبار أنَّ ذي القرنين أكبر قائد عرفه التاريخ القديم، وسيكون المهدي أكبر قائد يعرفه التاريخ الحديث، وسيبقى الفرق بين هذين القائدين هو الفرق بين العهدين، وما يحتويانه من إمكانيات معنوية ومادِّية.

وليس المراد بهذه المقارنة تشابه المقدار الذي يفتحه المهدي (ع) مع المقدار الذي فتحه ذو القرنين، ليخطر على البال: أنَّ مُلك المهدي لا يزيد على ذلك، ولا يستوعب العالم كله؛ لأنَّ ذا القرنين لم يستوعب بمُلكه العالم كلِّه على أيِّ حال.

إنَّ النصوص التي سمعناها في الملحوظة الأُولى، صريحة في عالمية الدولة العالمية، مضافاً إلى اقتضاء التخطيط الإلهي العام لذلك، فتكون قرينة على أنَّ المراد من التشبيه هو مُجرَّد السعة والشمول دون التحديد.

وليس في الرواية دلالة على الانحصار؛ فإنَّها قالت: ( حتى لا يبقى منهلاً ولا موضعاً وطأه ذو القرنين إلاَّ وطأه )، وهذا صادق مع استيعاب الحُكم المهدوي للعالم، فإنَّ مناطق ( ذي القرنين ) تقع ( ضمن الحُكم المهدوي ) بطبيعة الحال.

فالتحديد المروي يعني أنَّ المهدي (ع) لا يطأ، أي لا يفتح مقداراً أقلَّ من ذلك، بل يفتح هذا المقدار الذي فتحه ذو القرنين، وقد يزيد المهدي (ع) على ذلك بكثير، وليس في الرواية ما يدلُّ على نفي ذلك، فإذا دلَّ على هذه الزيادة دليل كافٍ، كالروايات من القسم الأول والتخطيط العام، كانت عالمية الدولة المهدوية أمراً ثابتاً، بل قطعيَّاً.

____________________

(١) هود: ١١ / ١٠٠

٣٢٢

الملحوظة الثالثة: نصَّت روايات القسم الرابع على أسماء بقاع مُعيَّنة في العالم، يستولي عليها الإمام المهدي (ع) ضمن دولته العالمية، وهي - بلسان كلا الروايتين -: الروم، والصين، والديلم، والتُّرك، والسند، والهند، والقسطنطينية، وكابل شاه، والخزر.

وهذا أكبر استيعاب ممكن لمناطق العالم، بحسب مستوى الفهم العام للمجتمع حال صدور هذه النصوص، الفهم الذي لم يكن ليُساعد على تعداد ما هو أكثر من ذلك.

وفي الحقيقة، أنَّ هذه المناطق إنَّما ذُكرت لإعطاء الانطباع عن سعة فتح الإمام المهدي (ع) ودولته... وسيقت كأمثلة لذلك، لا على وجه التعيين، ومعه فيُمكن استفادة فَهْم الانحصار بهذه المذكورة، وكيف يمكن فَهْم الانحصار مع قيام الدليل القطعي الذي عرفناه على خلافه.

ومن هذه الأمثلة نعرف سعة حكم المهدي (ع) على ذي القرنين، فإنَّ المعروف أنَّ ذا القرنين لم يحكم الصين ولا الروم(١) ، وإنَّما حاربهم، على حين أنَّ المهدي سوف يُسيطر على ذلك سيطرة تامَّة.

والمراد بالروم في الرواية، طبقاً للفهم المـُعاصر لصدورها، معناه الشامل للإفرنج كلِّهم، أعني أوروبا عموماً، وقد يشمل قادة أمريكا أيضاً، لا أنَّهم من عنصر بشري مُشابه، أي أنَّهم من الإفرنج بالمعنى العام.

والمراد بالصين المنطقة المعروفة في شرق آسيا... الشاملة للقسم المحكوم للشيوعيين اليوم، والقسم المحكوم لأمريكا وللصين الوطنية، والشامل لليابان أيضاً.

والمراد بالديلم أو جبال الديلم، المناطق التي تقع الآن في ( جنوب الاتِّحاد السوفيتي )، والتي تحتوي على أكثرية مسلمة، فإنَّ نسبة الديالمة في التاريخ إلى تلك المنطقة، وقد تُسمَّى بمنطقة ما وراء النهر في بعض التواريخ.

وأمَّا الهند فمعروفة، إلاَّ أنَّ المقصود منها ما يشمل باكستان أيضاً؛ لكونهم ممَّا يصدق عليهم اسم الهند لغةً بطبيعة الحال.

وأمَّا السند، فالمراد به ما يُسمَّى اليوم بجنوب شرقي آسيا، بما فيها أندونيسيا وفيتنام ولاوس وغيرها.

والمراد بالقسطنطينية، مدينة استانبول، التي هي الجزء الأوروبي من تركيا، وهي

____________________

(١) أعني الجزء الغربي من أوروبا، فإنَّ الجزء الشرقي منها دخل تحت حُكم ذي القرنين.

٣٢٣

ترد - عادة - في لسان الروايات كأقوى مدينة في العالم القديم، بحيث يكون فتحها نقطة استراتيجية مُهمَّة في حركة القيادة العالمية، وإنَّما تكتسب أهمِّيتها باعتبارها إحدى المداخل الرئيسية لأوروبا الشرقية.

ومن هذا المنطلق، ورد التبشير في الروايات بشمول الفتح الإسلامي للقسطنطينية، وبات مُنتظَراً عدَّة قرون، حتى تحقَّق على يد ( العثمانيين )، وبذلك اكتسبوا أهمِّية كبيرة بصفتهم المـُطبِّقين لذلك التبشير الإسلامي، وقد عرضنا ذلك في التاريخ السابق(١) ، وسيفتحها المهدي (ع) مرَّة أُخرى.

وكابل شاه، هي عاصمة مملكة الأفغان الحالية، وفتحها يعني فتح المنطقة كلِّها بطبيعة الحال، وشُهرتها على (كابل)، وأُضيفت إلى الشاه إمَّا باعتبار أنَّها الاسم القديم لها، أو باعتبار عاصمة دولة ملكية... والشاه هو الملك عندهم.

والخزر، هو المنطقة المجاورة لبحر الخزر، المعروف ببحر قزوين من الشمال... الذي يحكم أغلب شواطئه الآن دولة الاتِّحاد السوفيتي، وقد اختصَّت إيران بقسم من شواطئه الجنوبية.

ومن هنا؛ نعرف أنَّ هذه المناطق شاملة لكل العالم المعروف، أو المسكون في عصر صدور هذه الروايات، ولم يكن من المعقول التصريح بما يزيد عليه، فإنَّه يكون مُخالفاً للمستوى الثقافي والعقلي للسامعين في ذلك العصر.

وهو يكاد يستوعب كل قارَّة أروربا وآسيا، وقد يشمل - بشكل وآخر - أمريكا الشمالية أيضاً.

وقد سكتت هاتان الروايتان عن أفريقيا وإستراليا وأمريكا الجنوبية والقطبين؛ لما قلناه: من أنَّ تسميتها كانت غير مناسبة مع مستوى السامعين.

وهذا صادق في غير الشمال الإفريقي (بالمعنى الشامل لمصر)، والحبشة (بالمعنى الشامل للسودان والصومال أيضاً)؛ فإنَّه كان معروفاً للمجتمع يومئذ؛ فيكون دليل شمول الحُكم المهدوي لها ثابتاً بالقسم الأول من الروايات ودلالة التخطيط العام.

وإذا نظرنا إلى هذه البلاد المذكورة من زاوية حالها الحاضر، أمكننا أن نعرف كيف أنَّها تحتوي على مناطق إفرنجية رأسمالية صرفة، وعلى مناطق شيوعية صرفة، وعلى مناطق مُستعمرة للشرق الشيوعي... ممَّا يؤكِّد ما قلنا

____________________

(١) ص٥٦٢ وما بعدها.

٣٢٤

عن استقلال أيديولوجية المهدي (ع) عن هذه الأيديولوجيات السائدة في عصر الغيبة.

ويؤكِّد - بكل وضوح - أنَّ المهدي (ع) سوف يأتي مُحارباً للمادِّية بكل أشكالها وأحوالها، وللفساد القانوني والأخلاقي بكل عناوينه وشعاراته.

وهو أيضاً يؤكِّد - في نفس الوقت - مقدار القوى التي ستُقابل المهدي (ع) في هذا العالم وأهمِّية العمل القيادي الذي سوف يتكفَّله، وهذا ما سنعرفه في الفصل الآتي وفي ضمانات النصر.

فإنَّ المـُهمَّ بعد الآن، هو أن نعرف بوضوح كيفيَّة حصول المهدي (ع) على هذا الهدف الضخم، الذي لم يسبق له الوجود في تاريخ البشرية كلها، وما هي ضمانات الانتصار في هذا الهدف.

٣٢٥

٣٢٦

الفصل الثالث

ضمانات انتصار المهدي (ع)

ونريد بهذه الأسباب التي تتوفَّر للإمام المهدي (ع) حين ظهوره، فتوجب له تحقُّق النصر الأكيد السريع، الذي يسيطر به على كل المجموعة البشرية.

وهي لا شكَّ ضمانات أكيدة وشديدة وواسعة، يوفِّرها الله تعالى للمهدي (ع)؛ لكي تكون بمجموعها سبباً لإنجاز هذا القائد العظيم الهدفَ الأسمى من وجود البشرية.

تمهيد:

قد يخطر في الذهن: أنَّه لا حاجة إلى البحث عن الضمانات وتفاصيلها، بعد أن كنَّا نعلم أنَّ إرادة الله هي الضمان الوحيد لنصر الإمام المهدي (ع)، الذي جعله القائد الكبير لتطبيق الهدف الكبير والقيام بدولة الحق في آخر الزمان.

وجواب ذلك: أنَّ إرادة الله عزَّ وجلَّ هي الضمان الوحيد للنصر، وهذا صحيح بكل تأكيد، ولا يوازيها أيُّ عامل آخر.

ولكنَّ هذا لا ينافي البحث عن الطريقة التي يريد بها الله تعالى نصر مهديِّه الموعود، في حدود الإثباتات والأدلة المـُتوفِّرة، فإنَّ الأسلوب الذي يريده الله تعالى أسلوباً لانتصار المهدي (ع)، يُحتمل فيه عدَّة أُطروحات.

الأُطروحة الأُولى: الانتصار بالطريقة الإعجازية الكاملة.

وهي الأُطروحة التي يذهب إليها الفكر التقليدي لدى المسلمين؛ ولذا استنتجوا:

٣٢٧

أنَّ الإمام ( عليه السلام ) يحصل على الأسلحة بطريق المعجزة، وأنَّ الأسلحة لا تعمل ضدَّ جيشه، وأنَّ الأعداء لا يمكنهم الكيد ضدَّه، بمعنى أنَّهم سوف يُصرَفون ذهنياً عن استنتاج الطرق العسكرية أو الاجتماعية المؤثِّرة ضدَّ الكيان المهدوي.

غير أنَّنا نأسف لعدم إمكان الالتزام بهذه الأُطروحة؛ لأنَّ الدليل الصحيح القطعي قائم على دحضها وتفنيدها، فإنَّها تواجه عدَّة اعتراضات مُهمَّة نذكر منها ما يلي:

الاعتراض الأول: لو كان الإعجاز طريقاً صحيحاً للدعوة الإلهية، لأمكن للمهدي (ع) خلال غيبته الصغرى السيطرة الكاملة على العالم، بالرغم من جبروت العباسيين والفرس والروم يومئذ، فيملؤها قسطاً وعدلاً بعد أن مُلِئت ظلماً وجوراً، بل لأمكن لنبي الإسلام (ص) – وهو خير البشر – تحقيق هذا الهدف، ولما احتاج إلى بذل الجهود المـُضاعفة في نشر الهدى والعدل، ومقاتلة المشركين، ولما انتهى الأمر إلى مقتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) وأهله وأصحابه في سبيل الهدى والعدل، في واقعة كربلاء الدامية المعروفة.

وإذا أمكن إنجاز الهدف البشري الكبير في وقت أسرع، كان تأخيره ظلماً للبشر، والظلم غير ممكن من الحكمة الإلهية الأزلية؛ فيجب تقديم الموعد بمقدار الإمكان.

والسرُّ الأساسي في هذا التأجيل ما عرضناه مُفصَّلاً في التاريخ السابق(١) ، من أنَّ طريق الدعوة الإلهية لا يقوم على المعجزات؛ لأنَّ الهدى والعدل الناتج عن المعجزات أقلُّ وأضحل من الهدى والعدل الناتج عن طرقه الطبيعية؛ ومن هنا كانت كل نتيجة يمكن تحقيقها بالطرق الطبيعية، فإنَّها لا توجد عن طريق المعجزة، بل يوكَل أمرها إلى تلك الطرق مهما طال بها الزمن، لا يُستثنى من ذلك إلاَّ قيام المـُعجزة عند انحصار السبب بها انحصاراً مطلقاً.

وحيث كان الهدف البشري العام الموعود، يمكن إيجاده بالطرق الطبيعية، وكانت هذه الطرق تحتاج في فعالياتها إلى طول الزمان - كما سبق أن عرضناه هناك - إذن؛ فقد تعيَّن تأجيل الموعد إلى حين وجوده بالسبب الطبيعي.

ولمَّا عرفنا من ذلك، بنحو القاعدة العامة، أنَّ طريق الدعوة الإلهية، ليس بطريق إعجازي، فهذا لا يختلف فيه الحال ما بين عصور ما قبل الظهور، وعصور ما بعده. أو

____________________

(١) ٢٤٤ وما بعدها إلى عدَّة صفحات.

٣٢٨

بتعبير آخر: لا يختلف فيه الحال بين المـُقدِّمات البعيدة لإنجاز الهدف البشري، أو المـُقدِّمات القريبة منه، أو عصر ما بعد انجازه، فإنَّ سنَّة الله تعالى في خلقه لا تختلف على كلِّ حال.

ومن هنا لا يمكن الالتزام بأنَّ سيطرة المهدي (ع) على العالم تكون بطريق إعجازي مطلق.

الاعتراض الثاني: أنَّ افتراض الإعجاز في انتصار الإمام المهدي (ع) على العالم، ممَّا تنفيه أعداد كبيرة من الأخبار:

أولاً: الأخبار الدالَّة على أنَّ أصحابه الخاصة ثلاثمئة وثلاثة عشر؛ إذ مع المعجزة لا حاجة إلى أيِّ واحد منهم.

ثانياً: الأخبار الدالَّة على أنَّه يخرج من مكَّة بعشرة آلاف... إذ مع المعجزة أمكن أن يخرج بعشرة ملايين.

ثالثاً: الأخبار الدالَّة على سفره من مكَّة إلى الكوفة، إذ بالمعجزة يمكن الوصول إلى الكوفة فوراً.

رابعاً: الأخبار الدالَّة على إلقاء خُطبته في مكَّة، وإلقاء خطاب آخر بالكوفة؛ إذ يمكن بالإعجاز إيصال هذه المعاني إلى أذهان الناس بدون كلام!

خامساً: الأخبار الدالَّة على مقاتلته للسفياني، وقتله إيَّاه؛ إذ مع المعجزة تكون الحاجة إلى هذا الجهد مُنتفية.

سادساً: الأخبار الدالَّة على أنَّ المهدي (ع) يقتل المـُنحرفين بكثرة، يضع السيف فيهم ثمانية أشهُر بدون انقطاع - كما سيأتي - وهذا لا حاجة له مع إمكان إنجاز ذلك بالمعجزة بين عشيَّة وضحاها، أو طَرفة عين.

بل أنَّ نفس ظهور المهدي (ع) ممَّا لا حاجة إليه، لو آمنا بتأثير المعجزة إيماناً مطلقاً؛ إذ يمكن له إصلاح العالم، في حال غيبته، بل في نفس وجود المهدي (ع) يبقى أمراً مُستأنفاً، إذ يمكن لله أن يُصلح العالم بدون قائد ولا قيادة ولا حروب، قال الله تعالى:( ... وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً... ) (١) .

( قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) (٢) .

____________________

(١) يونس ١٠/٩٩

(٢) الأنعام ٦/ ١٤٩

٣٢٩

فكل ما دلَّ على وجود الإمام المهدي (ع) وعلى ظهوره، يُنافي مع فكرة الإعجاز المطلق.

إذن؛ فالأُطروحة الأُولى قطعيَّة البطلان.

الأُطروحة الثانية: إنَّ الله تعالى يريد نصر الإمام المهدي (ع) على حدِّ إرادته لسائر الأشياء في الكون، بمعنى أن يوكِل الله انتصاره إلى القوانين الطبيعية إيكالاً كاملاً، بدون أيِّ زيادة أو رتوش من تأييد أو تخطيط.

وهذه الأُطروحة أيضاً لا يمكن الالتزام بصدقها صدقاً كاملاً، بالرغم من صحَّة القول: بأنَّ السير على طبق القوانين الكونية هو الأسلوب (العام) في عمل المهدي (ع)، غير أنَّ التمحُّض في ذلك، ونفي التأييد والتخطيط الإلهيين يواجه عدَّة اعتراضات.

الاعتراض الأول: أنَّ التاريخ السابق على الظهور الذي دلَّنا عليه التخطيط الإلهي العام، دالٌّ بوضوح على وجود العناية والتأييد الخاصَّين بالمهدي (ع ) ويومه الموعود.

فهناك التخطيط لإيجاد الشرط الأول من شرائط اليوم الموعود، التي عرفناها في التاريخ السابق(١) ، وهو جود الأُطروحة العادلة الكاملة معروفة بين الناس، وقد تمَّ هذا التخطيط ووجِدت الأُطروحة مُتمثِّلة بالإسلام كما عرفنا هناك.

وهناك التخطيط لإيجاد الشرط الثالث، وهو العدد الكافي لغزو العالم بالعدل... الذي عرفنا أنَّ التمحيص، ومرور البشرية في ظروف الظلم والتعسُّف ردهاً طويلاً من الزمن من أهمِّ أسبابه.

وهناك التخطيط لإيجاد الشرط الثاني، وهو صفة القيادة العالمية المـُثلى، مُتمثِّلة بشخص الإمام المهدي (ع)... الأمر الذي عرفنا للغيبة الطويلة - أعني لطول العمر - دخلاً كبيراً في التسبُّب إليه.

وهناك التخطيط بإيجاد الغيبة نفسها، التي كان لا بد أن يقترن طول العمر بها حفاظاً على القائد المذخور ليوم العدل الموعود.

وهناك علامات الظهور القريبة، التي سمعناها في هذا التاريخ، وأهمُّها الخسف والخسوف والكسوف في غير أوانه، وهي علامات إعجازية.

____________________

(١) تاريخ الغيبة الكبرى: ص٢٦١ وما بعدها

٣٣٠

وقد يخطر في الذهن: أنَّ أكثر هذه الأمور التي عرضناها هي - في واقعها - أمور (طبيعية) تحدث طبقاً للقوانين العامة في الكون، وليست إعجازية، حتى (الغيبة) طبقاً للفهم الذي رجَّحناه في التاريخ السابق(١) ، وهو ( أُطروحة خفاء العنوان )، فلا تكون هذه الأمور دالَّة على وجود العناية والتأييد الإلهيين.

وجواب ذلك: أنَّها أمور (طبيعية) بكل تأكيد، ولكنَّها تدلُّ على العناية والتأييد، بكل تأكيد أيضاً، فإنَّ القوانين الكونية بوجودها الخالص، لا تقتضي هذه الأمور اقتضاء ضرورياً، لتكون هذه الأمور (طبيعية) خالصة، بل هي محتاجة إلى التخطيط المـُتعمد المرتَّب.

وكان السبب في هذا التخطيط المتعمد - كما عرفنا هناك وكما سيأتي مزيد البرهان عليه في الكتاب القادم... - هو التسبيب لأجل إيجاد الغاية التي خلق الكون والبشرية خصوصاً من أجلها، وهو الكمال الفائق أو العبادة الخالصة.

وإرادة الخالق وقدرته، يمكنها أن تعطف اتجاه القوانين الكونية إلى حيث تريد، من دون أن تتغيَّر قوانينها ودقَّتها، فقد عطفتها باتجاه إيجاد الغاية من الخلق؛ ومن هنا وجِدت فكرة التخطيط المـُتعمد المرتَّب.

إذن؛ فهذه الأمور (طبيعية)، وهي في نفس الوقت تدلُّ على العناية والتأييد الإلهيين.

الاعتراض الثاني: إنَّ التاريخ اللاحق للظهور، الذي دلَّت عليه الروايات التي سمعناها والتي سنسمعها، يتضمَّن - بوضوح - العناية والتأييد الإلهيين.

فمن ذلك: اجتماع أصحاب الإمام المهدي (ع) عند أول ظهوره، وتتابعهم في الوصول إليه بعد ذلك، وهم يصلون بطريق (طبيعي)، ولكنَّ تركيز عواطفهم باتجاه نصر المهدي (ع) وتأييده... لطف وعناية، ناتج عن التخطيط العام السابق على الظهور.

ومنه: كون المهدي (ع) مُنتصراً في كل حروبه، ضدَّ أيِّ عدوٍّ، عظيماً كان أو حقيراً.

ومنه: ما سنسمعه من نُصرة الملائكة للمهدي (ع)، وقد وردت في ذلك روايات عديدة سنرويها.

____________________

(١) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص٣٤ وما بعدها.

٣٣١

ومنه: سيطرته على العالم كله، وهو هدف لم يتحقَّق على يد أيِّ قائد سابق، ظالماً كان أو عادلاً.

ومنه: تجاوب (الطبيعة) مع العدل الساري في دولته، بالمعنى الذي سنذكره.

وغير ذلك من النقاط التي تدلُّ - بوضوح - على العناية والتأييد، ممَّا ذكرنا وسنذكر إثباتاته الكافية... وبعضها ترقى إلى رتبة اليقين لكل مؤمن بفكرة المهدي أساساً.

ومعه؛ فالأُطروحة الثانية القائلة بإيكال أمر الإمام المهدي (ع) إلى القوانين الكونية إيكالاً كاملاً... لا يمكن أن تكون صحيحة.

الأُطروحة الثالثة: وهي المـُتعيِّنة بعد نفي الأُطروحتين السالفتين:

إنَّ الإمام المهدي (ع) ينتصر طبقاً للطريق (الطبيعي)، ولا يمكن أن تكون المعجزة سبباً قهريَّاً لانتصاره، غير أنَّ هذا الطريق (الطبيعي) مُطعَّم بالتأييد الجزئي وغير القهري من قِبل الله عزَّ وجلَّ؛ باعتبار أنَّ دولة الإمام المهدي (ع) هي النتيجة الكبرى لوجود البشرية وجهودها وتضحياتها.

تماماً كما أيَّد الله نبيه (ص)... وأوضح أشكال هذا التأييد الذي لا يمكن أن يُنكره مُنكر، هو وصول الجيش الإسلامي القليل العدد والعدَّة، إلى مناطق شاسعة من الكُرة الأرضية في أقلِّ من نصف قرن، ولازال الإسلام - بالرغم من تكالب الجهود الدولية على طمسه والإجهاز عليه - باقياً في توسُّع وانتشار، وإن كان أبطأ من السابق بطبيعة الحال.

هذا، إن صرفنا النظر عن انتصار النبي (ص) في كل حروبه، وتأييده بالملائكة، وبالقرآن الكريم، ولماذا نصرف النظر عن ذلك؟!

وبعد هذا التمهيد، لابدَّ لنا من التعرُّض إلى صُلْب الموضوع في هذا الفصل، وهو عرض أسباب أو ضمانات النصر للإمام المهدي (ع)... تلك الضمانات التي تُهيِّئ له البيئة المناسبة لسرعة وسهولة سيطرته على العالم بالعدل، بالرغم من أهمِّية هذه المـُهمَّة وجسامة مسؤولياتها، وأمَّا كيفيَّة وأساليب الخطط العسكرية والمفاهيم الفكرية التي يستعملها المهدي (ع) خلال عمله، فهذا ممَّا لا يمكن الاطِّلاع عليه إلاَّ للفرد المـُعاصر لذلك الزمن... سوى بعض الأمور القليلة التي سنذكرها بعد ذلك.

وهذه الضمانات يرتبط بعضها بالتخطيط العام للعصر السابق على الظهور، بمعنى أنَّها

٣٣٢

من نتائجه بشكل وآخر.

وبعضها راجع إلى تخطيط خاص مُتَّخذ يومئذ لكي يوصل إلى نتائج مُعيَّنة؛ ومن هنا لا بد من وقوع الحديث في قسمين من الضمانات:

القسم الأول: الضمانات الناتجة عن التخطيط العام السابق على الظهور:

وهي ضمانات عديدة، أكثرها منصوص في الروايات بوضوح:

الضمان الأول: فشل الأنظمة السابقة على الظهور، واتضاح زيفها وظلمها لدى الناس

فقد قلنا في تاريخ الغيبة الكبرى(١) : إنَّ من جملة النتائج التي يتمخَّض عنها التخطيط العام السابق على الظهور، هو مرور كل المبادئ التي تدَّعي لنفسها حلَّ مشاكل البشرية وتذليل مصاعبها... بتجارب طويلة الأمد، ينكشف في نهاية المطاف زيفها، وجهات القصور والنقص والظلم فيها... ذلك النقص الذي تتضمَّنه بالضرورة؛ باعتبارها بنت العقل البشري القاصر، المـُقيَّد في حدود العاطفة والزمان والمكان، هذا النقص الذي لا يبرز للعيان بعد التجربة والامتحان.

وتمرُّ المبادئ في خضمِّ التجارب - واحدة بعد الأُخرى - أمام الرأي العام العلمي، وبمرأى ومسمع من الجميع، الصديق والعدوِّ، والموافق والمـُخالف... حتى يظهر زيفها وظلمها، ومخالفتها للمصالح العامة والخاصة، أمَّا الجميع وهذا ما نعيشه فعلاً بتاريخنا الحاضر، الذي كشف لرأي العام العالمي عن عدد من المبادئ التي تدَّعي حلَّ مشاكل العالم.

وإذا تهاوت كل التجارب على صخرة الواقع، يحدث عند البشر عموماً يأس نفسي قاتل من المبادئ المعروضة كلها، وإحساس عميق بأنَّها غير قابلة لرفع المظالم عن كاهل البشرية، وإبدالها بالسعادة والرفاه، لكنَّ خيط الخير وومضة النور، تبقى تعتمل في صدور الناس بشكل غامض عميق الغموض، إنَّ خيط الأمل بالسعادة سوف لن ينقطع.

وينبعث أمل غامض بأنَّ هناك مبدأً مجهولاً عادلاً، يمكن أن يضمن للبشرية سعادتها ورفع المشاكل من ساحتها، ويزداد الأمل أصالة ووضوحاً كلَّما ازداد الإحساس بفشل المبادئ المعروضة في العالم.

لا يختلف في هذا الأمل، مؤمن عن كافر... فإن الكل يحسون بالظلم وإن كانوا

____________________

(١) ص٢٨٨وما بعدها.

٣٣٣

مُشاركين في إيجاده، وكلُّهم يشعرون بمرارته وقساوته، كما أنَّ الجميع سيعرفون فشل المبادئ المعروضة لحلِّ مشاكلهم، وأنَّها إنَّما أضافت إلى الظلم ظلماً، وإلى المشاكل مشاكل.

فتنعكس هذه الأحاسيس على شكل تصوُّر لا شعوري مُجمل، يتضمَّن انبثاق المبدأ المؤهَّل لإيجاد السعادة في يوم من الأيام، ويُصبح البشر على العموم في حال انتظار غامض لهذا الغد السعيد المنشود... تماماً كما ينتظر المؤمن ظهور المهدي (ع) انتظاراً واضحاً.

وانطلاقاً من هذه الزاوية بالذات، سوف يتلهَّف الناس ويلتفتون بكل إخلاص يملكونه، ومَن منهم لا يُخلص لمصلحته وسعادته؟!.. إلى أول صوت صريح يدَّعي وجود حلٍّ جديد لمشاكل البشرية، وسبب جديد لنشر السعادة في ربوعها.

سيقول المؤمن: هذا هو أملي الذي كنت أعرفه، وانتظره بوعي ووضوح.

وسيقول الكافر: هذه تجربة خيِّرة البوادر، لعلَّها تُنقذ البشرية وتُحقِّق آمالها المنشود، وسيقول المهدي (ع): أنا المـُصلح المـُنتظَر. فيُجيبه العالم: أنت المـُصلح المـُنتظر...!

وهذا ليس بدعاً من الأمر... بعد أن اعتادت البشرية أن تستقبل كل مبدأ جديد يريد حلَّ مشاكل العالم، بصدر رحب وحُسن نيَّة، لعلَّه هو الذي يكون المبدأ المنشود الذي يُحالفه التوفيق لإنجاز الغد السعيد... وحين تبوء تجاربه بالفشل، تستقبل المبدأ الآخر بصدر رحب أيضاً، فما سيكون حالها حين تفشل كل التجارب المعروضة والأُطروحات المـُحتملة، إنَّ يأسها من هذه الأُطروحات سوف يتركَّز، وأملها بالغد السعيد سوف يتَّضح، وصدرها تجاه المبدأ الجديد والأُطروحة الجديدة سيكون أرحب وحسب ظنِّها أكثر.

تلك هي الأُطروحة العادلة الكاملة، التي سيجدها الناس لأول وهلة فوقاً شاسعة بينها وبين أيِّ واحد من المبادئ السابقة الفاشلة، الأمر الذي يجعل الأمل في نجاحها في إنجاز الغد السعيد المأمول، واضحاً ومنطقياً أكثر من أيِّ مبدأ آخر.

ومن هنا، حين يقول القائد المهدي (ع) أنا المـُصلح المـُنتظر. سيُجيبه العالم: أنت المـُصلح المـُنتظر. ومن هنا يتولَّد الضمان الأول لانتصار المهدي (ع).

وهذا ما أشارت إليه الأخبار التي سبق أن روينا قسماً منها في التاريخ السابق(١) .

____________________

(١) ص ٢٨٨ وما بعدها.

٣٣٤

أخرج المفيد في الإرشاد(١) ، والطبرسي في الإعلام(٢) ، عن عقبة، عن أبيه قال: ( إذا قام القائم حَكَم بالعدل... - إلى أن قال: - إنَّ دولتنا آخر الدول، ولم يبقَ أهل بيت لهم دولة إلاَّ ملكوا قبلها؛ لئلا يقولوا إذا رأوا سيرتنا: إذا ملكنا سرنا بمثل سيرة هؤلاء وهو قوله تعالى:( ... وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) ).

وأخرج الشيخ في الغيبة(٣) ، بسنده عن أبي صادق، عن أبي جعفر (ع)، قال: ( دولتنا آخر الدول )، وساق الحديث.

أقول: وهذا الخبر قرينة على أنَّ القائل في ذلك الخبر هو الإمام الباقر نفسه.

وأخرج النعماني في الغيبة(٤) ، بسنده عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (ع)، أنَّه قال: ( ما يكون هذا الأمر، حتى لا يبقى صنف من الناس إلاَّ وقد ولوا من الناس؛ حتى لا يقول قائل: إنَّا لو ولينا لعدلنا، ثمَّ يقوم القائم بالحق والعدل ).

وهو صريح في مرور المبادئ التي تدَّعي حل مشاكل العالم، بالتجارب واحدة بعد الأُخرى عن طريق تسلُّمها زمام الحكم في منطقة من العالم، صغيرة أو كبيرة، وستفشل لا محالة فيما تدَّعيه، وسيسود بدل العدل المطلوب الظلم والفساد في مناطقها المحكومة لها؛ ومن هنا لا تستطيع أن تدَّعي عند قيام حكم المهدي (ع) ونظامه العادل: أنَّنا ( إذا ملكنا سرنا بمثل سيرة هؤلاء )، أو تقول: ( إنَّا لو ولينا لعدلنا )؛ لأنَّ مثل هذا الادِّعاء سوف يكون مُعرَّىً عن الصحَّة أمام الجميع، بعد أن أثبتت التجارب بمرأى ومسمع من الرأي العالمي فشلها وزيفها، فيُقال لهم بوضوح: إنَّكم باشرتم الحُكم، ولم تسيروا بمثل هذه السيرة العادلة، ولو كان عندكم رأي أو اتجاه أعمق ممَّا مارستموه خلال حُكمكم، لظهر يومئذ لا محالة.

ويُقال للرأي العام: إنَّكم جرَّبتم هذه المبادئ، وعشتم قساوتها وظلمها، وأملتم زوالها

____________________

(١) ص٣٤٤.

(٢) إعلام الورى ص٤٣٢.

(٣) ص٢٨٢.

(٤) ص١٤٦.

٣٣٥

وتبدُّلها إلى العدل، فها هو العدل قد جاء ليُخرجكم من الظلمات إلى النور، ويهديكم إلى الصراط المستقيم.

وهذا هو قول الله تعالى:( ... وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (١) .

أي أنَّ نهاية المطاف في التخطيط العام للبشرية، هو حكم المـُتَّقين الأخيار حملة العدل الكامل والعبادة الخالصة إلى الناس.

الضمان الثاني: ضعف الدول السابقة على الظهور، والتي ستُصبح مُعاصرة له في أول تحقُّقه.

فإنَّه قد يخطر في الذهن: استبعاد انتصار الإمام المهدي (ع) أمام قوى الشرِّ الكبرى في العالم، المـُتمثِّلة في الدول الكبرى والمجموعات الدولية والأحلاف الدولية... وأمام الأسلحة الرهيبة التي يكفي بعضها القليل لهلاك كل البشر، فضلاً عن الكثير، والتي يمكن بها التعرُّف على أيِّ شكل من أشكال التحرُّك لأيِّ جيش أو جهة، أينما كان في الكرة الأرضية... لأجل التوصُّل إلى ضربه وتحطيمه.

وهذا الاستبعاد يمكن نقده بأيِّ ضمان من هذه الضمانات التي نحن بصددها الآن لانتصار المهدي (ع)، ولكن بغضِّ النظر عن أيِّ ضمان، يمكن أن يكون هذا الضمان الثاني جواباً مُستقلاَّ ًمُتكاملاً عن هذا الإيراد.

وهو أنَّنا يمكن أن نعرض (أُطروحة) مُعيَّنة مُحتملة - على أقلِّ تقدير - نجمع حولها المثبتات والقرائن، بما فيها بعض الروايات الواردة، نعرضها لكي نقول فيها: إنَّ قوى الشرِّ الكبرى والأسلحة الحديثة الفتاكة، سوف لن تبقى إلى عصر الظهور، لكي يتسنَّى لذويها استعمالها ضدَّ الإمام المهدي (ع)، بل سيُكتب لهذه الأسلحة الزوال بشكل من الأشكال.

وذلك انطلاقاً من مُنطلقات نذكر منها اثنين رئيسين:

المنطلق الأول: أن نتصوَّر أنَّ اتِّفاقية عامة تقع بين الدول المـُهمَّة في العالم، بمنع استعمال الأسلحة الإستراتيجية الفتاكة، كالقنابل الذرِّية، والصواريخ الموجَّهة، وبعض

____________________

(١) الأعراف: ١٢٨ وانظر: القصص: ٢٨ / ٨٣

٣٣٦

أنواع الطائرات والدبَّابات والبوارج المـُتطوِّرة الصُّنع... ونحو ذلك ممَّا يوجب الدمار العام... ومنع صنعها وبيعها.. والاتِّفاق على إتلاف هذه الأسلحة ممَّن كانت لديه، وفرض رقابة دولية مُشدَّدة على ذلك.

فإذا تمَّ تطبيق هذه الاتِّفاقية، لم يبقَ لدى الدول عموماً، إلاَّ السلاح الذي ينفع للاستهلاك المَحلِّي الداخلي، وهو ممَّا لا يمكن أن يواجه حركة مُهمَّة واسعة، كحركة الإمام المهدي (ع).

وقيام الدول في المستقبل غير البعيد، يُمثِّل هذه الاتفاقية، أمر مُحتمل جدَّاً، والاتجاه الدولي العام يسير نحوه بخُطى حثيثة، وخاصة بعد أن منع تفجير الأسلحة النووية جوَّاً، ومنع بيعها للدول غير المالكة لها، واتَّجه التفكير إلى الحدِّ منها في الدول المالكة لها، بل الحدُّ من كل أنواع الأسلحة المـُهمَّة، كما لا يخفى على القارئ المتابع لهذه الأخبار.

ومعه؛ يبقى وجود مثل هذه الاتِّفاقية أمراً قريباً جدَّاً، وكل ما في الأمر أنَّه يحتاج إلى مضيِّ بعض الزمن لأجل نضج الفكرة والاتِّفاق على النقاط الأساسية.

المنطلق الثاني: وهو ثابت على تقدير عدم حصول المنطلق الأول، أعني عدم اتفاق الدول على الحدِّ من الأسلحة، ففي الإمكان القول حينئذ: إنَّ الأسلحة ستتحطَّم في حرب عالمية ساحقة ماحقة مُدمِّرة.

وقد نُقل عن أحد المـُفكِّرين الأوروبيين - أظنُّه برناردشو - أنَّه سُئِل عن نوع الأسلحة التي تُستعمل في الحرب العالمية الثالثة، فقال ما مؤدَّاه: إنَّ هذا ممَّا لا أعلمه، وإنَّما أعلم أنَّه إذا وقعت حرب رابعة، فسوف يكون السلاح فيها هو العصي والحجارة.

وهذا واضح جدَّاً في كون هذا المـُفكِّر مُقتنعاً بأنَّ الحرب العالمية الثالثة، سوف تكون هائلة تذهب بالحضارة والمدنية كلها، لا بالأسلحة فقط، وستكون كل الأطراف المـُشتركة فيها خاسرة وفانية... إلى حدٍّ سوف لن يوجد بعدها إلاَّ أُناس فارغين من الحضارة ومُجرَّدين من السلاح القوي... لا يملكون في الحرب إلاَّ العصي والحجارة.

وهذه الصورة لا تخلو من مُبالغة، إلاَّ أنَّ طبع الحضارة الأوروبية - بكل أشكالها - تتَّجه نحو الحرب لا محالة، ما لم تقم اتِّفاقية من النوع الذي ذكرناه في المنطلق الأول، ولا زال شبح الحرب العالمية ماثلاً، والخوف منها يأكل قلوب الساسة الكبراء في عالم اليوم، فضلاً عن الشعوب الضعيفة.

وإذا حدثت هذه الحرب، فستكون نتيجة للتخطيط العام الذي تمرُّ به البشرية،

٣٣٧

وهذه الدول بالذات، طبقاً لقوله تعالى:( ... حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (١) .

فإنَّ التمحيص كما هو شامل للأفراد، شامل للجماعات والدول أيضاً، وكما يفشل الأفراد في التمحيص كذلك تفشل الدول، وفشلها عبارة عن انعدام الضمير والأخلاق فيها، وتولُّد الأنانية وسوء الظنِّ ببعضها البعض، وبالأفراد والجماعات، الأمر الذي يولِّد على الصعيد الداخلي أقسى أنواع الظلم والتعسُّف، وعلى الصعيد الخارجي الحرب العالمية المـُدمِّرة.

وقد انطبقت الشرائط المذكورة في الآية الكريمة على الحضارة الأوروبية تماماً، فقد( ... أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ... ) ، بأنواع التقدُّم الحضاري والمدني، في مُختلف الحقول الإنسانية واللا إنسانية... و( ... ظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا... ) ، وأنَّهم مُسيطرون على الطبيعة، قادرون على تذليلها لمصالحهم وتوفير سعادتهم، وإذا وجِد هذان الشرطان وجِدت النتيجة الرهيبة:( ... أَتَاهَا أَمْرُنَا... ) ، بالفناء( ... فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ... ) ، كما قال الشاعر:

كأن لم يكن بين الحَجُون إلى الصفا

أنيس ولم يسمر بمكَّة سامر

وليس الأمر الإلهي بالفَناء مُنحصراً بالطريقة الإعجازية، بل تشمل النتيجة التي قلناها، وهي أنَّ فشل الدول في التمحيص يولِّد بينها الحرب المـُدمِّرة الماحقة، التي لا تُبقي للدول المـُتحاربة ولا لأسلحتها ولا لكبريائها أيُّ وجود.

والتنبُّؤ بحدوث الحرب المـُدمِّرة قبل الظهور، موجود في الروايات - بشكل أو آخر - مرويَّة من قبل المـُحدِّثين من الفريقين.

أخرج ابن ماجة(٢) ، عن أنس بن مالك عن رسول الله (ص)، في حديث عن أشراط الساعة، وأنَّه قال: ( ويذهب الرجال ويبقى النساء، حتى يكون لخمسين امرأة قيِّم واحد ).

____________________

(١) يونس: ١٠ / ٢٤.

(٢) انظر السُّنن ج ٢ ص ١٣٤٣.

٣٣٨

ومن الواضح أنَّ ذهاب الرجال أو فنائهم، لا يكون لمرض أو فقر أو نحوه، وإلاَّ لشمل النساء أيضاً، وإنَّما يكون نتيجة للحرب خاصة... إذ إنَّ الأعمَّ الأغلب من المـُحاربين هم من الرجال على مرِّ الأجيال.

وأخرج السيوطي في الحاوي(١) ، عن نعيم بن حمَّاد، عن ابن سيرين، قال:لا يخرج المهدي حتى يقتل من كل تسعة سبعة.

وأخرج النعماني(٢) ، بسنده عن زرار قال:لا يكون هذا الأمر حتى يذهب تسعة أعشار الناس.

أقول: والمراد من هذا الأمر: ظهور المهدي (ع).

وأخرج الصدوق في إكمال الدين(٣) ، والمجلسي في البحار(٤) ، عن أبي بصير، ومحمد بن مسلم قال سمعنا أبا عبد الله (ع) يقول: ( لا يكون هذا الأمر حتى يذهب ثُلثا الناس ).

فقيل له: فإذا ذهب ثُلثا الناس فما يبقى؟

فقال (ع): ( أما ترضون أن تكونوا في الثُّلث الباقي ).

وأخرج الشيخ في الغيبة، بسنده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع): ( كان أمير المؤمنين (ع) يقول: لا يزال الناس ينقصون حتى لا يُقال: (الله). فإذا كان ذلك ضرب يعسوب الدين بذنبه... )، الخ الحديث حيث يتحدَّث عن كيفيَّة اجتماع أصحاب القائم المهدي (ع).

وخبر ابن سيرين صريح في أنَّ هذه القِلَّة المـُتزايدة التي تُصيب الناس، إنَّما تكون بالقتل، وهذا القتل الشامل للبشرية كلِّها، لا يكون عادة لظلم ظالم مُعيَّن أو لحروب محلِّية، بل يتعيَّن حصوله بحرب عالمية شاملة قويَّة التأثير.

____________________

(١) ج٢ ص١٤٧.

(٢) ص١٤٦.

(٣) المصدر المحطوط.

(٤) ج١٣ ص١٥٦.

٣٣٩

واختلاف هذه النِّسب المذكورة في الأخبار لقلَّة الناس، دالٌّ على كونها على وجه التقريب لا التحديد.

على أنَّه يمكن الأخذ بأكبر النِّسب، وهو تسع أعشار؛ لأنَّ الأخبار بذهاب الأقلِّ لا ينافي الإخبار عن ذهاب الأكثر... إذا كان الإخبار مربوطاً بقانون( كلِّم الناس على قدر عقولهم ) .

وقد يمكن ضرب هذه الكسور ببعضها و يكون الناتج هو الباقي من الناس.

فلو ضربنا التُّسع الباقي بعد ذهاب تسعة أعشار، بالثلث الباقي بعد ذهاب الثلثين، كان الناتج أنَّ الباقي من البشر واحد من سبع وعشرين.

فلو ضربنا ذلك بالتسعين الباقي بعد ذهاب: من كل تسعة سبعة، كان الناتج واحداً من مئة وأحدى وعشرين تقريباً، يكون هو الباقي من البشر، وهذا الضرب ممكن، إلاَّ أنَّه لا يخلو من استبعاد في الذهن لأوَّل وهلة والله العالم.

ونوكل إلى القارئ القناعة بأيٍّ من هذه النتائج التي عرضناها.

وهذا الهلاك العظيم الواقع على الناس، مهما كانت نسبته، وإن أمكنت له عدَّة تفسيرات، إلاَّ أنَّه لا يكون –عادة - إلاَّ نتيجة للحرب المـُدمِّرة الواسعة الانتشار، فإنَّ الوباء وأشباهه من المـُبيدات، التي لا يستوعب البشرية كلها عادة، ولا يذهب بهذه النسبة العالية من الناس، وخاصة مع المستوى الطبِّي اللائق الموجود في الأزمنة الحديثة.

إذن؛ فالسبب الأهمُّ لذهابهم ليس إلاَّ الحرب العامة.

وعلى أيِّ حال؛ ثبت المنطلق الثاني من الضمان الثاني، وهو تلف الأسلحة بحرب ضروس شاملة، لا تُتلِف الأسلحة فقط، بل الناس أيضاً.

كل ذلك لكي يظهر الإمام المهدي (ع) على أرضية سهلة من البشر، غير قادرة على المقاومة الشديدة عسكرياً ولا فكرياً، ولا تُشكِّل خطراً حقيقياً على الثورة المهدوية؛ لكي تكون سيطرة المهدي (ع) على العالم - بأقصر مدَّة وأقلِّ جُهد أمراً - ممكناً وصحيحاً.

ولا ينبغي أن نتجاوز هذا الموضوع قبل أن نعرض بعض الأسئلة التي قد ترد على الذهن، ونُحاول الجواب عليها.

السؤال الأول: إنَّ الحرب العالمية الرهيبة إذا حدثت، سوف لن يقتصر القتل فيها على الكفرة، بل يعمُّ المسلمين لا محالة؛ ومعه قد يُقتل من أصحاب الإمام المهدي (ع) المـُعدِّين لنُصرته بعد ظهوره جماعة، أو قد يُقتلون كلهم، ومعه يكون الظهور مُتعذِّراً؛ لما عرفناه من أنَّ وجود العدد الكافي من الجُند والقادة لغزو العالم بالعدل أمر ضروري للانتصار

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

هيق كأنّ جناحيه وجؤجؤه

بيت أطافت به خرقاء مهجوم(١)

ولا اعتذر أحد إلا احتاج إلى قول النابغة:

فإنّك كاللّيل الّذي هو مدركي

وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع(٢)

قال سيدنا أدام الله علوّه: أما قول حميد بن ثور: (محلّى بأطواق عتاق) فإنه يريد أن عليه نجار الكرم والعتق، فصارت دلالتهما وسماتهما حلية له من حيث كان موسوما بهما.

ومعنى: (يبينها على الضراء) يتبينها ويعرفها هذا الراعي فيعلم أنه كريم، والتقوّف:

من القيافة.

فأما قول علقمة (هيق ) فالهيق: ذكر النعام. ومعنى: (أطافت به خرقاء)، أي عملته وابتنته، وقيل: إن خرقاء هاهنا هي الحاذقة، وأن هذه اللفظة تستعمل على طريق الأضداد في الحاذقة وغير الحاذقة، ومعنى (مهجوم): أي مهدوم، وقال الأصمعي: معنى (أطافت به)، أي عملته فخرقت في عمله، يقول: قد أرسل جناحيه كأنه خباء امرأة خرقاء، كلما رفعت ناحية استرخت أخرى؛ والوجه الثاني أشبه وأملح.

فأما قول بشر في وصف الثغر فأحسن منه وأكشف وأشد استيفاء قول النابغة:

____________________

 - قوله: (عاري العظام) أي بعير مهزول، وشقا ابن ثلاث أي هلال ابن ثلاث. وماء أسير عيدان ويروى (ماء آسر عيدان)، أي عيدان مأسورة مشدودة. والرم. المخ، يريد أنه ليس يمسي برم، أي ليس في عظامه مخ؛ ولكنه عارف؛ أي معترف بالسير، ذليل متكلف يتكلف السير على جهد).

(١) حاشية الأصل: (هيق، أي ظليم، وهو اسم له، والجؤجؤ: الصدر؛ وأراد بالبيت بيتان الشعر أو الوبر. الخرقاء: المرأة التي ليست بصناع. ومهجوم: مصروع ساقط، يقول: أتت البيت هذه الخرقاء لتصلحه فلم تحسن، واستخرجت عيدانه وأطنابه، فشبه الظليم به، لاسترخاء جناحيه ونشره إياهما. وقال المازني: إذا بنت الخرقاء بيتا انهدم سريعا. وقال غيره: خرقاء هنا: ريح لا تدوم على جهة واحدة) والبيت في ديوانه ١٣٠، والمفضليات: ٤٠٠، (طبعة المعارف) وروايته فيهما:

(٢) ديوانه:

* صعل كأنّ جناحيه وجؤجؤه*

٥٤١

كالأقحوان غداة غبّ سمائه

جفّت أعاليه وأسفله ند(١)

فإنما وصف أعاليه بالجفوف؛ ليكون متفرقا متنضّدا غير متلبّد ولا مجتمع؛ فيشبه حينئذ الثغور، ثم قال: (وأسفله ند) حتى لا يكون قحلا يابسا، بل يكون فيه الغضاضة والصّقالة، فيشبه غروب الأسنان التي تلمع وتبرق.

وروى الرياشي قال: سمعت الأصمعي يقول: أحسن ما قيل في وصف الثّغر قول ذي الرّمة:

وتجلو بفرع من أراك كأنّه

من العنبر الهندي والمسك يصبح(٢)

ذرا أقحوان واجه الليل وارتقى

إليه النّدى من رامة المتروّح(٣)

هجان الثّنايا مغربا لو تبسّمت

لأخرس عنه كاد بالقول يفصح(٤)

____________________

(١) ديوانه: ٣١. الأقحوان: نبت له نوار أصفر، حواليه ورق أبيض وفي حاشيتي الأصل، ف: (ضمن اللجام الحراني هذا البيت في هجو فجعله آبدة من الأوابد فقال:

ياسائلي عن جعفر، علمي به

رطب العجان وكفّه كالجلمد

كالأقحوان غداة غب سمائه

جفّت أعاليه وأسفله ند

والبيتان في خاص الخاص: ١٤٤.

(٢) ديوانه: ٨٣. يصبح: يسقى وقت الصباح.

(٣) في الديوان: (راحة الليل)، بالرفع. رامة: رملة بعينها. المتروح: الّذي جاء رواحا. وبعد هذا البيت في رواية الديوان:

تحفّ بترب الرّوض من كلّ جانب

نسيم كفأر المسك حين يفتّح

(٤) المغرب: الأبيض من كل شيء.

٥٤٢

[٣٩]

مجلس آخر [المجلس التاسع والثلاثون:]

تأويل آية:( فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ )

إن سأل سائل عن تأويل قوله تعالى:( فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ ) ؛ [التوبة: ٥٥].

فقال: كيف يعذبهم بالأموال والأولاد، ومعلوم أن لهم فيها مسرورا ولذة؟ وما تأويل قوله تعالى: وَهُمْ كافِرُونَ وظاهره يقتضي أنه أراد كفرهم من حيث أراد أن تزهق أنفسهم في حال كفرهم، لأن القائل إذا قال: أريد أن يلقاني فلان وهو لابس أو على صفة كذا وكذا، فالظاهر أنه أراد كونه على تلك الصفة؟

الجواب، قلنا: أما التعذيب بالأموال والأولاد ففيه وجوه:

أولها ما روي عن ابن عباس وقتادة، وهو أن يكون في الكلام تقديم وتأخير، ويكون التقدير: فلا تعجبك يامحمد ولا تعجب المؤمنين معك أموال هؤلاء الكفار والمنافقين ولا أولادهم في الحياة الدنيا؛ إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة عقوبة لهم على منعهم حقوقها؛ واستشهد على ذلك بقوله تعالى:( اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ ) ؛ [النمل: ٢٨]، والمعنى: فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون، ثم تول عنهم؛ وأنشد في ذلك قول الشاعر:

عشيّة أبدت جيد أدماء مغزل

وطرفا يريك الإثمد الجون أحورا(١)

يريد: وطرفا أحور يريك الإثمد الجون؛ وقد اعتمد هذا الوجه أيضا أبو عليّ قطرب، وذكره أبو القاسم البلخي والزّجاج.

____________________

(١) مغزل: معها غزالها.

٥٤٣

وثانيها أن يكون معنى التعذيب بالأموال والأولاد في الدّنيا هو ما جعله للمؤمنين من قتالهم وغنيمة أموالهم وسبي أولادهم واسترقاقهم؛ وفي ذلك لا محالة إيلام لهم، واستخفاف بهم، وإنما أراد تعالى بذلك إعلام نبيهعليه‌السلام والمؤمنين أنه لم يرزق الكفار الأموال والأولاد؛ ولم يبقها في أيديهم كرامة لهم، ورضا عنهم؛ بل للمصلحة الداعية إلى ذلك، وأنهم مع هذه الحالة معذبون بهذه النعم من الوجه الّذي ذكرناه، فلا يجب أن يغبطوا، ويحسدوا عليها؛ إذ كانت هذه عاجلتهم، والعقاب الأليم في النار آجلتهم؛ وهذا جواب أبي عليّ الجبائي.

وقد طعن عليه بعض من لا تأمّل له فقال: كيف يصح هذا التأويل، مع أنا نجد كثيرا من الكفّار لا تنالهم أيدي المسلمين، ولا يقدرون على غنيمة أموالهم، ونجد أهل الكتاب أيضا خارجين عن هذه الجملة لمكان الذّمة والعهد؟ وليس هذا الاعتراض بشيء، لأنه لا يمتنع أن تختص الآية بالكفار الذين لا ذمة لهم ولا عهد؛ ممن أوجب الله تعالى محاربته؛ فأما الذين لا تنالهم الأيدي، أو هم من القوة على حدّ لا يتم معه غنيمة أموالهم؛ فلا يقدح الاعتراض بهم في هذا الجواب لأنهم ممن أراد الله تعالى أن يسبي ويغنم، ويجاهد ويغلب؛ وإن لم يقع ذلك؛ وليس في ارتفاعه بالتعذّر دلالة على أنه غير مراد.

وثالثها أن يكون المراد بتعذيبهم بذلك كلّ ما يدخله في الدنيا عليهم من الغموم والمصائب بأموالهم وأولادهم التي لهؤلاء الكفار المنافقين عقاب وجزاء، وللمؤمنين محنة وجالبة للعوض وللنفع.

ويجوز أيضا أن يراد به ما ينذر به الكافر قبل موته، وعند احتضاره، وانقطاع التكليف عنه مع أنه حي، من العذاب الدائم الّذي قد أعدّ له، وإعلامه أنه صائر إليه، ومنتقل إلى قراره؛ وهذا الجواب قد روي معنى أكثره عن قوم من متقدمي المفسرين(١) ، وذكره أبو عليّ الجبائي أيضا.

____________________

(١) حاشية الأصل: (نسخة الشجري: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري).

٥٤٤

ورابعها [جواب](١) يحكى عن الحسن البصري، واختاره الطبري وقدّمه على غيره، وهو أن يكون المراد بذلك ما ألزمه هؤلاء الكفار من الفرائض والحقوق في أموالهم؛ لأن ذلك يؤخذ منهم على كره، وهم إذا أنفقوا فيه أنفقوا بغير نيّة ولا عزيمة؛ فتصير نفقتهم غرامة وعذابا من حيث لا يستحقون عليها أجرا.

قال السيد قدس الله روحه: وهذا وجه غير صحيح؛ لأن الوجه في تكليف الكافر إخراج الحقوق من ماله كالوجه في تكليف المؤمن ذلك؛ ومحال أن يكون إنما كلّف إخراج هذه الحقوق على سبيل العقاب والجزاء؛ لأن ذلك لا يقتضي وجوبه عليه(٢) ؛ والوجه في تكليف الجميع هذه الأمور هو المصلحة واللطف في التكليف.

ولا يجري ذلك مجرى ما قلناه في الجواب الّذي قبل هذا؛ من أن المصائب والغموم قد تكون للمؤمنين محنة، وللكافرين عقوبة؛ لأن تلك الأمور مما يجوز أن يكون وجه حسنها العقوبة والمحنة جميعا؛ ولا يجوز في هذه الفرائض أن يكون لوجوبها على المكلّف إلا وجه واحد، وهو المصلحة في الدّين، فافترق الأمران.

وليس لهم أن يقولوا: ليس التعذيب في إيجاب الفرائض عليهم؛(٣) وإنما هو لإخراجهم أموالهم على وجه التكرّه والاستثقال(٣) ؛ وذلك أنه إذا كان الأمر على ما ذكروه خرج من أن يكون مرادا للّه تعالى؛ لأنه جلّ وعز ما أراد منهم إخراج المال على هذا الوجه، بل على الوجه الّذي هو طاعة وقربة؛ فإذا أخرجوها متكرّهين مستثقلين لم يرد ذلك؛ فكيف يقول:( إِنَّما يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِها ) ! ويجب أن يكون ما يعذبون به شيئا يصحّ أن يريده الله تعالى.

وجميع هذه الوجوه التي حكيناها في الآية - إلا جواب التقديم والتأخير - مبنيّة على أنّ

____________________

(١) من ف.

(٢ - ٢) ساقط من الأصل، وما أثبته عن ف.

(٣ - ٣) ف: (وإنما هو في إخراجهم لأموالهم على وجه التكره والاستثقال).

٥٤٥

الحياة الدنيا ظرف للعذاب؛ فتحمّل(١) كل متأوّل من القوم ضربا من التأويل؛ طابق(٢) ذلك.

وما يحتاج عندنا إلى جميع ما تكلّفوه، ولا إلى التقديم والتأخير إذا لم تجعل(٣) الحياة ظرفا للعقاب، بل جعلناها ظرفا للفعل الواقع بالأموال والأولاد؛ والمتعلّق بهما؛ لأنا قد علمنا أولا أنّ قوله:( لِيُعَذِّبَهُمْ بِها ) لا بد من الانصراف عن ظاهره؛ لأن الأموال والأولاد أنفسها لا تكون عذابا؛ والمراد على سائر وجوه التأويل الفعل المتعلّق بها والمضاف إليها؛ سواء كان إنفاقها والمصيبة بها والغمّ عليها، أو إباحة غنيمتها وإخراجها عن أيدي مالكيها؛ فكأنّ تقدير(٤) الآية: إنما يريد الله ليعذّبهم بكذا وكذا؛ مما يتعلق بأموالهم وأولادهم، ويتّصل بها؛ وإذا صحّ هذا جاز أن تكون الحياة الدنيا ظرفا لأفعالهم القبيحة في أموالهم وأولادهم التي تغضب الله تعالى وتسخطه؛ كإنفاقهم الأموال في وجوه المعاصي، وحملهم الأولاد على الكفر، وإلزامهم الموافقة لهم في النّحلة، ويكون تقدير الكلام: إنما يريد الله ليعذّبهم بفعلهم في أموالهم وأولادهم؛ الواقع ذلك منهم في الحياة الدنيا؛ وهذا وجه ظاهر يغني عن التقديم والتأخير؛ وسائر ما ذكروه من الوجوه.

فأما قوله تعالى:( وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ ) فمعناه تبطل وتخرج؛ أي أنّهم يموتون على الكفر؛ وليس يجب إذا كان مريدا لأن تزهق أنفسهم وهم على هذه الحال أن يكون مريدا للحال نفسها على ما ظنّوه؛ لأنّ الواحد منّا قد يأمر غيره ويريد منه أن يقاتل أهل البغي وهم محاربون، ولا يقاتلهم وهم منهزمون، ولا يكون مريدا لحرب أهل البغي للمؤمنين؛ وإن أراد قتالهم على هذه الحالة، وكذلك قد يقول لغلامه: أريد أن تواظب على المصير إلي في السّجن وأنا محبوس، وللطبيب: صر إلي ولازمني وأنا مريض، وهو لا يريد المرض ولا

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (فتمحل).

(٢) ف: (يطابق).

(٣) حاشية الأصل (من نسخة): (لم نجعل الحياة).

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (فكان تقدير الكلام).

٥٤٦

الحبس؛ وإن كان قد أراد ما هو متعلق بهاتين الحالتين.

وقد ذكر في ذلك وجه آخر على ألاّ يكون قوله:( وَهُمْ كافِرُونَ ) حالا لزهوق أنفسهم؛ بل يكون كأنه كلام مستأنف، والتقدير فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم؛ إنما يريد الله ليعذّبهم بها في الحياة الدنيا؛ وتزهق أنفسهم وهم مع ذلك كافرون صائرون إلى النار؛ وتكون الفائدة أنهم مع عذاب الدنيا قد اجتمع عليهم عذاب الآخرة؛ ويكون معنى( تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ ) على هذا الجواب غير الموت وخروج النفس على الحقيقة، بل المشقة الشديدة والكلف(١) الصّعبة، كما يقال: ضربت فلانا حتى مات وتلفت نفسه، وخرجت روحه، وما أشبه ذلك.

***

[رأى الشريف المرتضى في شعر مروان بن أبي حفصة ومختارات من محاسن شعره:]

قال سيدنا أدام الله تمكينه: ذاكرني قوم من أهل الأدب بأشعار المحدثين وطبقاتهم وانتهوا إلى مروان بن يحيى بن أبي حفصة(٢) ؛ فأفرط بعضهم في وصفه وتقريظه، وآخرون في ذمه وتهجينه والإزراء على شعره وطريقته؛ واستخبروا عما أعتقده فيه، فقلت لهم:

كان مروان متساوي الكلام، متشابه الألفاظ، غير متصرّف في المعاني ولا غواص عليها ولا مدقّق لها؛ فلذلك قلّت النّظائر في شعره، ومدائحه مكرّرة الألفاظ والمعاني، وهو غزير الشعر قليل المعنى؛ إلا أنه مع ذلك شاعر له تجويد وحذق، وهو أشعر من كثير من أهل زمانه وطبقته، وأشعر شعراء أهله؛ ويجب أن يكون دون مسلم بن الوليد في تنقيح الألفاظ وتدقيق المعاني، وحسن الألفاظ، ووقوع التشبيهات، ودون بشّار بن برد في الأبيات النادرة السائرة، فكأنه طبقة بينهما؛ وليس بمقصّر دونهما شديدا، ولا منحط عنهما بعيدا.

وكان إسحاق بن إبراهيم الموصلي يقدّمه على بشار ومسلم، وكذلك أبو عمرو الشيباني

____________________

(١) ف: (والكلفة).

(٢) هو أبو السمط - وقيل أبو الهندام مروان بن أبي حفصة؛ ولد سنة ١٠٥، وهلك في أيام الرشيد سنة ١٨٢. (وانظر ترجمته وأشعاره في الشعر والشعراء.

٧٣٩ - ٧٤١، وابن خلكان ٢: ٧٩ - ٨١).

٥٤٧

وكان الأصمعي يقول: مروان مولّد(١) ، وليس له علم باللغة. واختلاف الناس في اختيار الشعر بحسب اختلافهم في التنبيه على معانيه؛ وبحسب ما يشترطونه من مذاهبه وطرائقه.

فسئلت عند ذلك أن أذكر مختار ما وقع إلي من شعره وأنبه على سرقاته ونظائر شعره، وأن أملي ذلك في خلال المجالس وأثنائها.

فمما يختار من شعره قوله من قصيدة يمدح بها المهدي أولها:

أعادك من ذكر الأحبّة عائد!

أجل، واستخفّتك الرسوم البوائد

يقول فيها:

تذكّرت من تهوى فأبكاك ذكره

فلا الذّكر منسي ولا الدّمع جامد

تحنّ ويأبى أن يساعدك الهوى

وللموت خير من هوى لا يساعد

ألا طالما أنهيت دمعك طائعا

وجارت عليك الآنسات النّواهد

تذكّرنا أبصارها مقل المها

واعناقها أدم الظّباء العواقد(٢)

تساقط منهنّ الأحاديث غضّة

تساقط درّ أسلمته المعاقد

إليك أمير المؤمنين تجاذبت

بنا اللّيل خوص كالقسي شوارد

يمانية ينأى القريب محلّة

بهنّ، ويدنو الشاحط المتباعد

تجلّى السّرى عنها، وللعيس أعين

سوام وأعناق إليك قواصد

إلى ملك تندى إذا يبس الثّرى

بنائل كفّيه الأكفّ الجوامد

____________________

(١) ف: (المولدون الذين بعد المخضرين) وفي حاشية الأصل (من نسخة): (مولد) بكسر اللام؛ أي يولد الكلام.

(٢) العاقد: هو الظبي الّذي عطف عنقه إلى ناحية عجزه؛ وقيل إن الصغائر تفعل ذلك كثيرا؛ قال ساعدة:

وكأنّما وافاك يوم لقيتها

من وحش وجرة عاقد متربّب

ولا يبعد أن يكون العواقد اللائي يأوين إلى عقدات الرمل، أو يكون معناه أنها عقدت أعناقها ملتفة إلى أذنابها، وذلك معهود من عادتها.

٥٤٨

له فوق مجد النّاس مجدان منهما

طريف وعادي الجراثيم تالد

وأحواض عزّ حومة الموت دونها

وأحواض عرف ليس عنهنّ ذائد

أيادي بني العبّاس بيض سوابغ

على كلّ قوم باديات عوائد

هم يعدلون السّمك من قبّة الهدى

كما تعدل البيت الحرام القواعد

سواعد عزّ المسلمين، وإنما

تنوء بصولات الأكفّ السّواعد

يكون غرارا نومه من حذاره

على قبّة الإسلام والخلق راقد

كأنّ أمير المؤمنين محمّدا

لرأفته بالنّاس للنّاس والد

أما قوله:

تساقط منهنّ الأحاديث غضّة

تساقط درّ أسلمته المعاقد

فكثير في الشعر، وأظن أن الأصل فيه أبو حيّة النميري في قوله:

إذا هنّ ساقطن الأحاديث للفتى

سقوط حصى المرجان من كفّ ناظم

وإنما عنى بالمرجان صغار اللؤلؤ، وعلى هذا يتأول قوله تعالى:( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ ) ؛ [الرحمن: ٢٢].

ومثله قول الآخر:

هي الدّرّ منثورا إذا ما تكلّمت

وكالدّرّ منظوما إذا لم تكلّم

ومثله:

من ثغرها الدّرّ النّظيـ

ـم ولفظها الدّرّ النثير

ونظيره قول البحتري - وأحسن غاية الإحسان:

ولما التقينا والنّقا موعد لنا

تعجّب رائي الدّرّ حسنا ولاقطه

فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها

ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه

٥٤٩

ومثله قول الأخيطل(١) .

خلوت بها وسجف الليل ملقى

وقد أصغت إلى الغرب النّجوم

كأنّ كلامها درّ نثير

ورونق ثغرها درّ نظيم

ولغيره:

تبسّمت فرأيت الدّرّ منتظما

وحدّثت فرأيت الدّرّ منتثرا

ولآخر:

وتحفظ لا من ريبة يحذرونها

ولكنها من أعين النّاس تحفظ

وتلفظ درّا في الحديث إذا جرى

ولم نر درّا قبل ذلك يلفظ

ولبعض من تأخر زمانه من الشعراء وقرب من عصرنا هذا:

أظهرن وصلا إذ رحمن متيّما

وأرين هجرا إذ خشين مراقبا

فنظمن من درّ المباسم جامدا

ونثرن من درّ المدامع ذائبا

قال قدس الله روحه: وليس قول أبي دهبل في صفة الحديث(٢) :

كتساقط الرّطب الجني من ال

أقناء لا نثرا ولا نزرا

من هذا الباب في شيء، لأن جميع ما تقدم هو في وصف الثّغر؛ وهذا في وصف حسن الحديث وأنه متوسّط في القلة والكثرة، لازم للقصد كانتثار الرّطب من الأقناء؛ ويشبه أن يكون أراد أيضا مع ذلك وصفه بالحلاوة والغضاضة لتشبيهه له بالرطب، ثم إنه غضّ طري غير مكرّر ولا معاد؛ لقوله: (الرطب الجني) فتجتمع له أغراض: الوصف بالاقتصاد في القلة والكثرة، ثم وصفه بالحلاوة، ثم الفصاحة، ثم الغضاضة.

____________________

(١) في م: (الأخطل) خطأ؛ وفي حاشية الأصل: (الأهوازي، يقال له برقوقا)؛ وهو محمد بن عبد الله، شاعر مجيد من أهل الأهواز.

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (في وصف حسن الحديث والثغر).

٥٥٠

ونظير قول أبي دهبل قول ذي الرمّة:

لها بشر مثل الحرير ومنطق

رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر(١)

فأما قول مروان:

إلى ملك تندى إذا يبس الثّرى

بنائل كفّيه الأكفّ الجوامد

فمثل قول أبي حنش النميري في يحيى بن خالد البرمكيّ:

لا تراني مصافحا كفّ يحيى

إنّني إن فعلت أتلفت(٢) مالي

لو يمسّ البخيل راحة يحيى

لسخت نفسه ببذل النّوال

ومثله قول ابن الخياط(٣) المدني في المهدي:

لمست بكفّي كفّه أبتغي الغنى

ولم أدر أنّ الجود من كفّه يعدي(٤)

فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى

أفدت، وأعداني فأتلفت ما عندي

وقد قيل إن هذا الشاعر كأنه مصرّح بالهجاء؛ لأنه زعم أنّ الّذي لمس كفّه لم يفده شيئا بل أعداه جوده، فأتلف ماله، ولم يرد الشاعر إلا المدح؛ ولقوله وجه، وهو أنّ ذوي الغنى هم الذين تستقر الأموال في أيديهم وتلبث تحت أيمانهم؛ ومن أخرج ما يملكه حالا بحال لا يوصف بأنه ذو غنى، فأراد الشاعر أنني لم أفد منه ما بقي في يدي واستقرّ تحت ملكي؛ فلهذا قال: لم أفد ما أفاد ذرو الغنى.

ومن هذا المعنى قول مسلم:

إلى ملك لو صافح النّاس كلّهم

لما كان حي في البريّة يبخل

ومثله قول العكوّك:

لو لمس النّاس راحتيه

ما بخل النّاس بالعطاء

____________________

(١) ديوانه ٢١٢.

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (أتلف).

(٣) حاشية الأصل: (ابن الخياط، هو عبد الله بن محمد، ويعرف بابن الخياط؛ ذكر ذلك أبو الفرج الأصبهاني رحمه الله) وترجمته في الأغاني ١٨: ٩٤ - ١٠٠.

(٤) الأغاني ١٨: ٩٤.

٥٥١

وأحسن من هذا كلّه وأشبه بالمدح، وأدخل في طريقته قول البحتري:

من شاكر عنّي الخليفة بالذّي

أولاه من طول ومن إحسان(١)

ملأت يداه يدي وشرّد جوده

بخلي، فأفقرني كما أغناني

حتى لقد أفضلت من إفضاله

ورأيت نهج الجود حيث أراني

ووثقت بالخلف الجميل معجّلا

منه، فأعطيت الّذي أعطاني

ومن هذا قول الآخر:

رأيت الندى في آل عوف خليقة

إذا كان في قوم سواهم تخلّقا

ولو جزت في أبياتهم(٢) لتعلّمت

يداك النّدى منهم فأصبحت مملقا

ولابن الرومي:

يجود البخيل إذا ما رآك

ويسطو الجبان إذا عاينك

فأما قوله:

وأحواض عزّ حومة الموت دونها

وأحواض عرف ليس عنهنّ ذائد

فيشبه أن يكون إبراهيم بن العباس الصولي أخذه في قوله:

لنا إبل كوم يضيق بها الفضا

وتفترّ عنها أرضها وسماؤها(٣)

فمن دونها أن تستباح دماؤنا

ومن دوننا أن تستباح دماؤها

حمى وقرى فالموت دون مرامها

وأيسر خطب عند حقّ فناؤها

وقد أحسن إبراهيم بن العباس في أبياته كل الإحسان.

فأما قوله:

يكون غرارا نومه من حذاره

على قبّة الإسلام والخلق راقد

فكثير متداول، ومن حسنه قول محمد بن عبد الملك الزيات:

____________________

(١) ديوانه ٢: ٢٧٢.

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (في أثنائهم).

(٣) ديوانه: ١٥٣، والأغاني ١٠: ٥٩ (طبع دار الكتب المصرية). الكوم: الإبل الضخمة العظيمة السنام؛ الواحد أكوم والأنثى كوماء.

٥٥٢

نعم الخليفة للرّعيّة من إذا

رقدت وطاب لها الكرى لم يرقد

ومثله:

ويظلّ يحفظنا ونحن بغفلة

ويبيت يكلؤنا ونحن نيام

ومثله للبحتري:

أربيعة الفرس اشكري يد منعم

وهب الإساءة للمسيء الجاني(١)

روّعتموا جاراته فبعثتمو

منه حميّة آنف غيران

لم تكر عن قاصي الرّعية عينه

فتنام عن وتر القريب الدّاني

فأما قوله:

كأن أمير المؤمنين محمدا

لرأفته بالناس للناس والد

فنظير قول بعض الشعراء في يحيى بن خالد البرمكي:

أحيا لنا يحيى فعال خالد

فأصبح اليوم كثير الحامد

يسخو بكلّ طارف وتالد

على بعيد غائب وشاهد

الناس في إحسانه كواحد

وهو لهم أجمعهم كالوالد

ومن جيد قول مروان من قصيدة أوّلها:

خلت بعدنا من آل ليلى المصانع

وهاجت لنا الشّوق الدّيار البلاقع

يقول فيها:

ومالي إلى المهدي لو كنت مذنبا

سوى حلمه الضّافي على النّاس شافع

ولا هو عند السّخط منه ولا الرّضا

بغير التي يرضى بها الله واقع(٢)

تغضّ له الطّرف العيون وطرفه

على غيره من خشية الله خاشع

____________________

(١) ديوانه ٢: ٢٧٢. وفي حاشية الأصل: (ربيعة رجل ورث أباه دوابه، فقيل له ربيعة الفرس؛ وسميت القبيلة باسم ربيعة وهي التي تذكر مع مضر).

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (ولا هو) وفيها (من نسخة): (قانع).

٥٥٣

أما قوله:

* ولا هو عند السخط منه ولا الرّضا* البيت

فمثل قول أشجع:

ولست بخائف لأبي عليّ

ومن خاف الإله فلن يخافا

ومثله:

أمّنني منه ومن خوفه

خيفته من خشية الباري

ولأبي نواس:

قد كنت خفتك ثمّ أمّنني

من أن أخافك خوفك الله(١)

ويشبه هذا المعنى ما روي عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه وآله أنه دعا غلاما مرارا فلم يجبه، فخرج فوجده على الباب(٢) فقال له: ما حملك على ترك إجابتي؟ قال: كسلت عن إجابتك، وأمنت عقوبتك، فقال:عليه‌السلام : الحمد للّه الّذي جعلني ممن يأمنه خلقه.

فأما قوله: (تغضّ له الطرف العيون) فيشبه أن يكون مأخوذا من قول الفرزدق، أو ممّن تنسب إليه هذه الأبيات:

يغضي حياء ويغضى من مهابته

فما يكلّم إلاّ حين يبتسم(٣)

____________________

(١) ديوانه ١٠٩؛ من أبيات بعث بها إلى الفضل بن الربيع.

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (على باب البيت).

(٣) ينسب هذا البيت مع غيره أيضا للحزين الكناني؛ وانظر ما مر من حواشي ص ٦٨.

٥٥٤

[٤٠]

مجلس آخر [المجلس الأربعون:]

تأويل آية:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ) ؛ [الأنفال: ٢٤].

فقال: ما معنى الحول بين المرء وقلبه؟ وهل يصحّ ما تأوّله قوم من أنّه يحول بين الكافر وبين الإيمان؟ وما معنى قوله:( لِما يُحْيِيكُمْ ) ؟ وكيف تكون الحياة في إجابته؟

الجواب، قلنا: أما قوله تعالى:( يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ) ففيه وجوه:

أوّلها أن يريد بذلك أنّه تعالى يحول بين المرء وبين الانتفاع بقلبه بالموت، وهذا حثّ من الله عز وجل على الطاعات والمبادرة بها قبل الفوت وانقطاع التّكليف، وتعذّر ما يسوّف به المكلّف نفسه من التوبة والإقلاع؛ فكأنه تعالى قال: بادروا إلى الاستجابة للّه وللرسول من قبل أن يأتيكم الموت فيحول بينكم وبين الانتفاع بنفوسكم وقلوبكم، ويتعذر عليكم ما تسوّفون به(١) نفوسكم من التوبة بقلوبكم. ويقوّي ذلك قوله تعالى:( وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) (٢) .

وثانيها أن يحول بين المرء وقلبه بإزالة عقله وإبطال تمييزه، وإن كان حيّا، وقد يقال لمن فقد عقله وسلب تمييزه: إنّه بغير عقل(٣) ؛ قال الله تعالى:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ ) ؛ [ق: ٣٧].

وقال الشاعر:

ولي ألف وجه قد عرفت مكانه

ولكن بلا قلب إلى أين أذهب!

وهذا الوجه يقرب من الأوّل؛ لأنه تعالى أخرج هذا الكلام مخرج الإنذار لهم،

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة) (فيه).

(٢) بقية الآية السابقة

(٣) حاشية الأصل (من نسخة): (بغير قلب).

٥٥٥

والحث لهم(١) على الطاعات قبل فوتها، لأنه لا فرق بين تعذّر التوبة وانقطاع التكليف بالموت وبين تعذّرها بإزالة العقل.

وثالثها أن يكون المعنى المبالغة في الإخبار عن قربه من عباده وعلمه بما يبطنون ويخفون؛ وأنّ الضمائر المكنونة(٢) له ظاهرة، والخفايا المستورة لعلمه بادية؛ ويجري ذلك مجرى قوله تعالى:

( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) ؛ [ق: ١٦]، ونحن نعلم أنه لم تعالى يرد بذلك قرب المسافة، بل المعنى الّذي ذكرناه.

وإذا كان عزّ وجل هو أعلم بما في قلوبنا منّا، وكان ما نعلمه أيضا يجوز أن ننساه، ونسهو عنه، ونضلّ عن علمه - وكل ذلك لا يجوز عليه - جاز أن يقول: إنه يحول بيننا وبين قلوبنا؛ لأنه معلوم في الشاهد أن كل شيء يحول بين شيئين فهو أقرب إليهما.

ولما أراد تعالى المبالغة في وصف القرب خاطبنا بما نعرف ونألف؛ وإن كان القرب الّذي عناه جلّت عظمته لم يرد به المسافة، والعرب تضع كثيرا لفظة القرب على غير معنى المسافة؛ فيقولون: فلان أقرب إلى قلبي من فلان، وزيد مني قريب، وعمرو منّي بعيد؛ ولا يريدون المسافة.

ورابعها - ما أجاب به بعضهم - من أنّ المؤمنين كانوا يفكّرون في كثرة عدوّهم، وقلة عددهم، فيدخل قلوبهم الخوف، فأعلمهم تعالى أنه يحول بين المرء وقلبه، بأن يبدّله بالخوف الأمن؛ ويبدّل عدوّهم - بظنهم أنهم قادرون عليهم وغالبون لهم - الجبن والخور.

ويمكن في الآية وجه خامس؛ وهو أن يكون المراد أنه تعالى يحول بين المرء وبين ما يدعوه إليه قلبه من القبائح؛ بالأمر والنهي والوعد والوعيد؛ لأنا نعلم أنه تعالى لو لم يكلف العاقل مع ما فيه من الشهوات والنفار لم يكن له عن القبيح مانع؛ ولا عن مواقعته رادع؛ فكأنّ التكليف حائل بينه وبينه؛ من حيث زجر عن فعله، وصرف عن مواقعته؛

____________________

(١) ساقطة من ف.

(٢) حاشية ف (من نسخة): (المكنومة).

٥٥٦

وليس يجب في الحائل أن يكون في كل موضع مما يمتنع معه الفعل؛ لأنا نعلم أن المشير منّا على غيره في أمر كان قد همّ به وعزم على فعله أن يجتنبه. والمنبّه له على أنّ الحظ في الانصراف عنه يصح أن يقال: منعه(١) ، وحال بينه وبين فعله، قال عبيد الله بن قيس الرقيات(٢) :

حال دون الهوى ودو

ن سري اللّيل مصعب

وسياط على أكـ

ـفّ رجال تقلّب

ونحن نعلم أنه لم يحل إلاّ بالتخويف والترهيب دون غيرهما.

فإن قيل: كيف يطابق هذا الوجه صدر الآية؟

قلنا: وجه المطابقة ظاهر، لأنه تعالى أمرهم بالاستجابة للّه تعالى ولرسوله فيما يدعوان إليه من فعل الطاعات، والامتناع من المقبّحات، وأعلمهم أنه بهذا الدعاء والإنذار وما يجري(٣) مجراهما يحول بين المرء وبين ما تدعوه إليه نفسه من المعاصي؛ ثم إن المآب بعد هذا كلّه إليه والمنقلب إلى ما عنده؛ فيجازي كلاّ باستحقاقه.

فأما قوله تعالى:( إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ ) ففيه وجوه:

أوّلها أن يريد بذلك الحياة في النعيم(٤) والثواب، لأنّ تلك هي الحياة الطيبة الدائمة التي يؤمن من تغيّرها، ولا يخاف انتقالها، فكأنه تعالى حث على إجابته التي تكسب هذه الحال.

وثانيها أنّه يختص(٥) ذلك بالدعاء إلى الجهاد وقتال العدوّ، فكأنه تعالى أمرهم بالاستجابة للرسولعليه‌السلام فيما يأمرهم به من قتال عدوّهم(٦) ؛ ودفعهم عن حوزة الإسلام

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (منعه منه).

(٢) حاشية الأصل: (كان جده شاعرا يشبب بجماعة من النساء، اسم كل واحدة منهن رقية؛ فأضيف إليهن).

(٣) حاشية ف (من نسخة): (وما جرى).

(٤) حاشية ف (من نسخة): (النعم).

(٥) ش: (أن يختص).

(٦) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف (الأعداء).

٥٥٧

وأعلمهم أنّ ذلك يحييهم من حيث كان فيه قهر للمشركين، وتقليل لعددهم، وفلّ لحدّهم؛ وحسم لأطماعهم، لأنهم متى كثروا وقووا استلانوا جانب المؤمنين؛ وأقدموا عليهم بالقتل وصنوف المكاره؛ فمن هاهنا كانت الاستجابة لهعليه‌السلام في القتال تقتضي الحياة والبقاء؛ ويجري ذلك مجرى قوله تعالى:( وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ) ؛ [البقرة: ١٧٩].

وثالثها ما قاله قوم من أنّ كلّ طاعة حياة، ويوصف فاعلها بأنه حي، كما أن المعاصي يوصف فاعلها بأنه ميت، والوجه في ذلك أنّ الطائع لما كان(١) منتفعا بحياته، وكانت تؤديه إلى الثواب الدائم قيل: إن الطاعة حياة؛ ولما كان الكافر العاصي لا ينتفع بحياته؛ من حيث كان مصيره إلى العقاب الدائم كان في حكم الميّت؛ ولهذا يقال لمن كان منغّص(٢) الحياة، غير منتفع بها: فلان بلا عيش ولا حياة، وما جرى مجرى ذلك من حيث لم ينتفع بحياته.

ويمكن في الآية وجه آخر، وهو أن يكون المراد بالكلام الحياة بالحكم لا في الفعل؛ لأنا قد علمنا أنهعليه‌السلام كان مكلّفا مأمورا بجهاد جميع المشركين المخالفين لملته وقتلهم، وإن كان فيما بعد كلّف ذلك فيمن عدا أهل الذمة على شرطها؛ فكأنه تعالى قال: استجيبوا للرسول ولا تخالفوه، فإنكم إذا خالفتم كنتم في الحكم غير أحياء، من حيث تعبّدعليه‌السلام بقتالكم وقتلكم، فإذا أطعتم كنتم في الحكم أحياء؛ ويجري ذلك مجرى قوله تعالى:

( وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ) ؛ [آل عمران: ٩٧]؛ وإنما أراد تعالى أنه يجب أن يكون آمنا؛ وهذا(٣) حكمه، ولم يخبر بأن ذلك لا محالة واقع.

فأما المجبرة فلا شبهة لهم في الآية، ولا متعلّق بها؛ لأنه تعالى لم يقل: إنه يحول بين المرء وبين الإيمان، بل ظاهر الآية يقتضي أنّه يحول بينه وبين أفعاله، وإنما يقتضي ظاهرها أنه يحول بينه وبين قلبه؛ وليس للإيمان ولا للكفر ذكر، ولو كان للآية ظاهر يقتضي

____________________

(١) ش: (إذا كان).

(٢) حاشية ف (من نسخة): (متكدر).

(٣) حاشية ف (من نسخة): (وهكذا حكمه).

٥٥٨

ما ظنوه - وليس لها ذلك - لانصرفنا عنه بأدلة العقل الموجبة أنه تعالى لا يحول بين المرء وبين ما أمره به، وأراده منه، وكلّفه فعله؛ لأن ذلك قبيح، والقبائح عنه منفيّة.

***

[خبر حصن بن حذيفة مع أولاده حين طعنه كرز بن عامر:]

أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني قال حدثني أحمد بن محمد الجوهري قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا أحمد بن عمرو بن إسماعيل بن عبد العزيز بن عبد الرحمن ابن عوف قال حدثني محمد بن خالد(١) بن عبد الله عن الحجاج السّلمي قال: لما اشتد بحصن ابن حذيفة بن بدر وجعه من طعنة كرز(٢) بن عامر إياه يوم بني عقيل دعا ولده فقال:

إن الموت أهون مما أجد، فأيّكم يطيعني؟ قالوا: كلنا نطيعك؛ فبدأ بأكبرهم فقال: قم فخذ سيفي واطعن به حيث آمرك، ولا تعجّل؛ قال: ياأبتاه: أيقتل المرء(٣) أباه! فأتى على القوم كلّهم، فأجابوه جواب(٤) الأول؛ حتى انتهى إلى عيينة فقال: ياأبتاه، أليس لك فيما تأمرني به راحة، ولي بذلك طاعة؛ وهو هواك؟ قال: بلى، قال: فمرني كيف أصنع، قال:

قم فخذ سيفي فضعه حيث آمرك(٥) ، ولا تعجّل، فقام فأخذ سيفه، ووضعه على قلبه، ثم قال: ياأبتاه، كيف أصنع؟ قال: ألق السيف؛ إنما أردت أن أعلم: أيّكم أمضى لما آمر به؛ فأنت خليفتي ورئيس قومك من بعدي، فقال القوم: إنه(٦) سيقول فيما كان بيتا، فاحضروه(٦) فلما أمسى قال:

ولّوا عيينة من بعدي أموركم

واستيقنوا أنه بعدي لكم حام

إما هلكت فإني قد بنيت لكم

عزّ الحياة بما قدّمت قدّامي

واستوسقوا للتى فيها مروءتكم

قود الجياد، وضرب القوم في إلهام(٧)

____________________

(١) ش: (عمر بن خالد).

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (كريز).

(٣) ش: (الرجل).

(٤) ف: (بجواب الأول). حاشية الأصل (من نسخة): (الجواب الأول).

(٥) حاشية الأصل (من نسخة): (كما أمرت به).

(٦ - ٦) م: (إنه سيقول في ذلك شيئا فيما بيننا، فأحضروه).

(٧) استوسقوا: انضموا واجتمعوا، وفي حاشية الأصل: (نصب (قود الجياد)، على تقدير فعل مضمر؛ كأنه قال: أعني قود الجياد).

٥٥٩

والقرب من قومكم - والقرب ينفعكم -

والبعد إن باعدوا، والرّمي للرّامي

ولى حذيفة إذ ولى وخلّفني

يوم الهباة يتيما وسط أيتام

لا أرفع الطّرف ذلاّ عند مهلكة

ألقى العدوّ بوجه خدّه دامي

حتّى اعتقدت لوا قومي فقمت به

ثمّ ارتحلت إلى الجفني بالشام

لما قضى ما قضى من حقّ زائره

عجت المطي إلى النّعمان من عامي

أسمو لما كانت الآباء تطلبه

عند الملوك فطرفي عندهم سامي

والدّهر آخره شبه لأوّله

قوم كقوم وأيّام كأيّام

فابنوا ولا تهدموا فالنّاس كلّهم

من بين بان إلى العليا وهدّام

قال: ثم أصبح ودعا بني بدر، فقال: لوائي ورئاستي لعيينة؛ واسمعوا مني ما أوصيكم به:

لا يتكل آخركم على أولكم؛ فإنما يدرك الآخر(١) ما أدركه الأول؛ وأنكحوا الكف ء(٢) الغريب؛ فإنه عزّ حادث؛ وإذا حضركم أمران فخذوا بخيرهما صدرا؛ فإن كلّ مورد معروف؛ واصحبوا قومكم بأجمل أخلاقكم؛ ولا تخالفوا فيما اجتمعوا عليه؛ فإن الخلاف يزري بالرئيس المطاع؛ وإذا حاربتم فأوقعوا ثم قولوا صدقا؛ فإنه لا خير في الكذب، وصونوا الخيول، فإنها حصون الرجال؛ وأطيلوا الرماح؛ فإنها قرون الخيل؛ وأعزوا(٣) الكبير بالكبير؛ فإني بذلك كنت أغلب الناس، ولا تغزوا إلاّ بالعيون؛ ولا تسرحوا حتى تأمنوا الصباح؛ وأعطوا على حسب المال، وأعجلوا الضيف بالقرى؛ فإن خيره أعجله، واتقوا فضحات البغي، وفلتات المزاح، ولا تجترءوا على الملوك؛ فإن أيديهم أطول من أيديكم؛ واقتلوا كرز بن عامر.

ومات حصن فأخذ عيينة الرّئاسة، وقال:

أطعت أبا عيينة في هواه

فلم تخلج صريمتي الظّنون(٤)

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (الأخير).

(٢) ف، وحاشية الأصل (من نسخة): (الكفي).

(٣) س: (واغزو).

(٤) الصريمة: العزيمة والرأى. وفي حاشية الأصل: (يقال: اختلجته الظنون وتخالجته وخلجته، أي ظن، والشاعر يقول: لم تأخذني الظنون مآخذها إلى طعنه، ولم أظن ظنا).

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679