موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)8%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 679

الجزء ١ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 212472 / تحميل: 11106
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الإداريّة، والقدرة على التدبير والدراية ما للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى يخلّفه في سياسة الاُمّة، وتسيير اُمورها الاجتماعيّة والفرديّة.

وربّما يتصوّر أنّنا نقسوا على الصحابة مع ما يكيل لهم الجمهور من تجليل واحترام كبيرين، غير أنّ من يرجع إلى القرآن الكريم، يجد بأنّنا لم نقس على أحد منهم، بل القرآن الكريم هو الذي يقسمهم إلى صنفين، فيمدح صنفاً ويذم صنفاً بصراحة كاملة.

فالصنف الأوّل الذين يمدحهم القرآن ويذكر عنهم بخير يشمل السابقين الأوّلين إلى الإسلام والتابعين لهم، حيث يقول عنهم :

١.( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ( التوبة: ١٠٠ ).

٢.( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) ( الفتح: ١٨ ).

٣.( لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) ( الحشر: ٨ ).

٤.( مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) ( الفتح: ٢٩ ).

__________________

(١) لا يخفى أنّ الرضاية الإلهيّة الواردة في الآية مقيّدة بظرفها ووقتها ( أي ظرف المبايعة ووقتها ) لقوله( إِذْ يُبَايِعُونَكَ ) ، فبقاء الرضاية يحتاج إلى دليل، كما أنّ ادّعاء نفيها يحتاج أيضاً إلى دليل.

٨١

غير أنّ هناك آيات جمّة ـ إلى جانب ذلك ـ تدلّ على عدم كون الصحابة كلّهم عدولاً، بل وممدوحين، إذ فيهم المنافق الذي يقلّب الاُمور على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وفيهم من مرد على النفاق ونبت عليه:( وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ ) ( التوبة: ١٠١).

ومنهم من خلط عملاً صالحاً بعمل سيّئ:( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا ) ( التوبة: ١٠٢ ).

وطائفة قد بلغ ضعف إيمانهم إلى حدّ الدنوّ إلى الارتداد والعودة إلى الجاهليّة:( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ ) ( آل عمران: ١٥٤ ).

وطائفة قد بلغ مبلغ إيمانهم بالله ورسوله أنّهم كلّما أعتورهم الخوف وداهمهم الخطر، لاذوا بالفرار، قال سبحانه عنهم:( إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا *هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا *وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إلّا غُرُورًا *وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إلّا فِرَارًا *وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إلّا يَسِيرًا *وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولاً *قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ المَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إلّا قَلِيلاً *قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا *قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إلّا قَلِيلاً *أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ أُولَٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا *يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ

٨٢

يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إلّا قَلِيلاً ) ( الأحزاب: ١٠ ـ ٢٠ ).

وهذه الآيات، تشرح بصراحة ما عليه جماعة كثيرة من أصحاب النبيّ ولا تختصّ بالمنافقين، لقوله سبحانه:( إِذْ جَاءُوكُم مِن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ) وقوله سبحانه:( وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ) عاطفاً لها على المنافقين فقال( وَالَّذِينَ ) ولم يقل ( الذين ).

نعم كانت في صحابة النبيّ ثلة جليلة بالغة منتهى الإيمان والعمل، وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله:( ولـمّارَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا *مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) . ( الأحزاب: ٢٢ ـ ٢٣ ).

إجابةٌ عن سؤال

ولعل القائل يقول: بأنّهم كيف لم يبلغوا الدرجة الكاملة في أمر القيادة مع أنّهم، حطّموا امبراطوريتين كبيرتين، وبنوا فوق أنقاضها صرح الإسلام، أضف إلى ذلك، أنّه سبحانه وصفهم في سورة الفتح بقوله:( فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ ) ( الفتح: ٢٩ ).

فهو يدل على كفاءتهم في أمر القيادة والاعتماد على أنفسهم، حيث شبّههم بالزرع المستغلظ القائم على سوقه.

ولكن الإجابة على هذا السؤال سهلة بعد الوقوف على ما نذكره :

١. إنّ التسلّط على الامبراطوريّتين لم يكن نتيجة قوة القيادة وصحتها، بل كان لقوّة تعاليم الإسلام، أكبر سهم في نفوذهم وسيطرتهم عليهما، حيث كانت التعاليم بمجرّدها تسحر القلوب، وتجذب العقول وتفتح الطريق خاصّة بين تلك الشعوب التي طالما عاشت الضغط والحرمان، وعانت من الظلم والاضطهاد المرير.

٨٣

٢. إنّ التأريخ يشهد، بأنّ الامبراطوريتين كانتا تلفظا أنفاسهما الأخيرة، وكانتا قد بلغتا درجةً كبيرةً من الضعف، فساعد الإسلام على سقوطها واندحارها.

ويشهد على ذلك، أنّ الشعوب التي كانت تعيش تحت حكميهما كانت تسارع إلى استقبال الفتح الإسلامي وترحّب بحكم المسلمين ونظامهم، فتفتح أبواب المدن لعساكر الإسلام وتبدي رغبتها الشديدة في العيش تحت لواء الحكومة الإسلامية.

روى البلاذريّ: ( لـمّا ردّ المسلمون على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج، وقالوا: قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم، فأنتم على أمركم، قال أهل حمص لهم :

لولايتكم وعدلكم أحبّ إلينا ممّا كنّا فيه من الظلم والغشم، ولندفعنّ جند هرقل عن المدينة مع عاملكم. و

ونهض اليهود وقالوا: والتوراة، لايدخل عامل هرقل مدينة حمص إلّا أن نغلب ونجهد. فأغلقوا الأبواب وحرسوها، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود.

وقالوا: إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنّا عليه وإلاّ فإنّا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد فلمّا هزم الله الكفرة وأظهر المسلمين فتحوا مدنهم وأخرجوا المقلسين فلعبوا وأدّوا الخراج )(١) .

٣. إنّ المراجع للتأريخ الإسلاميّ يجد أنّ أمير المؤمنين عليّاًعليه‌السلام كان له السهم الأوفر في القيادة، وتحقيق الانتصارات التي أصابها المسلمون بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويدلّ على تلك المساهمة الفعلية، ما قاله عليّعليه‌السلام عندما شاوره عمر بن الخطاب في الخروج بنفسه إلى غزو الروم: « إنّك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك، فتلقهم فتنكب، لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم. ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلاً محرباً، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهر الله فذاك ما تحب، وإن

__________________

(١) فتوح البلدان للبلاذريّ: ١٤٣.

٨٤

تكن الاخرى كنت ردءاً للناس ومثابةً للمسلمين »(١) .

وبالرغم من أنّهعليه‌السلام قد اقصي عن الخلافة، ولم يكن يخطر بباله أنّ العرب تزعج هذا الأمر ـ من بعد النبيّ ـ عن أهله، فإّنه لم يمسك يده عن نصرة المسلمين، عندما لاحظ رجوع الناس عن الإسلام يريدون محق دين محمد، والعودة إلى الجاهلية وفي ذلك يكتب إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لـمّا ولاّه إمارتها ويقول: « حتّى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان، كما يزول السراب أو كما يتقشّع السحاب فنهضت في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل وزهق، واطمأنّ الدين وتنهنه »(٢) .

٤. إنّ الفرق الكبير بين قيادتهم وقيادة من كان يجب أن يسلّم الأمر إليه إنّا يعلم، لو باشرت تلك الطائفة الاخرى أمر القيادة، فعند ذلك نعلم مدى صحة قيادة الطائفة الاولى.

وبما أنّ الأمر لم يسلّم إلى من كان يجب تسليم الأمر إليه. صارت قيادتهم عندنا قيادةً عاريةً عن الضعف والنقص.

والذي يدل على ذلك. أنّ القيادة بعد النبيّ جرّت على المسلمين أكبر المآسي والويلات، خصوصاً عندما أخذت بنو اميّة وبنو العباس زمام الأمر، وعادت الخلافة الإسلاميّة ملكاً عضوضاً وحكماً قيصرياً كسروياً.

وللبحث عن أحوال الصحابة ومواقفهم في القرآن الكريم، مجال آخر ربّما نتوفّق للبحث عنها في وقت آخر. ولا نريد بهذه الكلمة تعكير الصفو، أو تمزيق الوحدة، وإنّما نريد أن نوقف القارئ الكريم على الحقيقة على وجه الإجمال.

وخلاصة القول، أنّ الصحابة ليس كلّهم عدولاً يقتدى بهم ويستضاء بنورهم ،

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١٣٠ ( طبعة عبده ).

(٢) نهج البلاغة: قسم الكتب الرقم (٦٢).

٨٥

بل هم على أقسام تحدّث عنها القرآن الكريم، ويقف عليها من استشفّ الحقيقة عن كثب، كما لم تبلغ الاُمّة إلى حد الإكتفاء الذاتي في القيادة، كما هو محط البحث.

ب ـ الاُمّة الإسلاميّة والخطر الثلاثيّ

من الواضح لكل مطلع على أوضاع الاُمّة الإسلاميّة قبيل وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ الدولة الإسلاميّة الحديثة التأسيس كانت محاصرة من جهتي الشمال والغرب بأكبر إمبراطوريّتين عرفهما تأريخ تلك الفترة، إمبراطوريّتان كانتا على جانب كبير من القوة والبأس والقدرة العسكرية المتفوّقة مما لم يتوصّل المسلمون إلى أقل درجة منها وتلك الامبراطوريّتان هما: الروم، وإيران.

هذا من الخارج.

وأمّا من الداخل، فقد كان الإسلام والمسلمون يعانون من جماعة المنافقين الذين كانوا يشكّلون العدوّ الداخلي المبطّن ( أو ما يسمى بالطابور الخامس ).

ولأجل أن نعرف مدى الخطر المتوجّه من هذه الجهات الثلاث على الاُمّة والدولة الإسلاميّة يجدر بنا أن ندرس كلّ واحدة منها بالتفصيل :

١. خطر إمبراطوريّة إيران

لقد كانت إيران إمبراطوريّةً ضخمةً، ذات حضارة متقدمة زاهرة، وذات سلطان عريض فرضته على عدد كبير من المستعمرات أحقاباً مديدةً من السنين، ممّا أكسبت ملوكها وزعماءها روح التسلّط والسيطرة، وأصبح من العسير أن يعترفوا بسيادة أمّة طالما كانت تعيش تحت سلطانهم في العراق واليمن، وهم الذين لم يعترفوا بالسيادة لأحد قروناً طويلةً، فلأجل هذه الغطرسة والأنانية شمخ الامبراطور الفارسيّ (خسرو برويز ) بأنفه عندما أتته دعوة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فمزّق رسالته المباركة التي كتبهاصلى‌الله‌عليه‌وآله يدعوه فيها إلى الإسلام وعبادة الله تعالى وكتب إلى عامله باليمن :

٨٦

( ابعث إلى هذا الرجل بالحجاز [ ويعني الرسول ] رجلين من عندك جلدين فليأتياني به )(١) .

٢. خطر الروم

كانت الامبراطوريّة البيزنطيّة تقع في شمال الجزيرة العربية، وكانت تشغل بال النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله دائماً، ولم يبارحه التفكير في خطرها حتى رحل إلى ربّه.

ولقد كان لهذا القلق مبرّره، فإنّ هذه الامبراطورية على غرار الامبراطوريّة الإيرانية، كانت ذات صفة توسّعيّة، وكان قادتها يقمعون أي حركة ومحاولة من مستعمراتهم للخروج من فلكها.

ولقد وقعت بين هذه الامبراطوريّة وبين المسلمين اشتباكات عديدةً. وكان أوّل اشتباك مسلّح وأوّل صدام عسكريّ عنيف هو الذي وقع في السنة الثامنة من الهجرة، وذلك عندما بعث النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ( الحارث بن عمير الأزدي ) مع رسالة إلى ( الحارث بن أبي شمر الغساني ) يدعوه فيها وقومه إلى الإسلام، فلمّا وصل إلى ( مؤتة ) تعرّض له ( شرحبيل بن عمرو الغساني )، وضرب عنقه(٢) .

ولمّا كان قتل الرسل أمراً ممنوعاً في جميع الحالات والظروف، وكان يعني أعتداءً على الجهة المرسلة، فإنّ هذا الفعل ( اعني قتل رسول النبيّ ) كشف عن استهانتهم بقوة الإسلام وأمره، وعن تعصبهم ضدّه، وعدم اعترافهم بكيانه السياسيّ، وقد حملت هذه الاُمور النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله على، أن يجهّز لهم جيشاً من ثلاثة آلاف مقاتل، ويوجّهه إلى ( مؤتة ) وقد قتل في هذه الموقعة من اختارهم لقيادة الجيش وهم جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة، وأخذ اللواء بعدهم خالد بن الوليد، ورجع الجيش الإسلاميّ من تلك الواقعة منهزماً أمام الجيش البيزنطيّ.

__________________

(١) الكامل للجزري ٢: ١٤٥.

(٢) اُسد الغابة ١: ٣٤١ ـ ٣٤٢.

٨٧

ولقد أثار إخفاق المسلمين وهزيمتهم في هذه المعركة، واستشهاد القادة الثلاثة، لوعةً ونقمةً في نفوس المسلمين اتّجاه الروم. كما أنّه زاد من جرأة جيوش الروم، ولأجل ذلك توجّه الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى تبوك في السنة التاسعة يقصد غزو ذلك الجيش المعادي، ولكنّه لم يلق أحداً فأقام في تبوك أياماً، وصالح أهلها على الجزية، وقد حققت هذه الحملة هدفاً كبيراً وبعيداً على الصعيد السياسيّ وأنست تقهقر الجيش الإسلاميّ المحدود في طاقاته، أمام جحافل الروم المجهّزة بأحسن تجهيز(١) .

ولم يكتف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بهذه الحملة، بل عمد في أخريات حياته إلى بناء جيش إسلاميّ بقيادة ( أسامة بن زيد ) لمواجهة جيش الروم(٢) .

٣. خطر المنافقين

إنّ الدارس للمجتمع الإسلاميّ إبّان الدعوة الإسلاميّة، والمطّلع على تركيبته يجد، أنّ ذلك المجتمع كان يزخر بوجود المنافقين بين صفوفه.

والمنافقون هم الذين استسلموا للمدّ الإسلاميّ وأسلموا بألسنتهم دون قلوبهم إمّا خوفاً أو طمعاً. فكانوا يتجاهرون بالولاء للإسلام والمودّة للمسلمين، ولكنّهم يضمرون لهم كل سوء ويتحيّنون الفرص، لتوجيه الضربات إلى الدين الجديد، وضرب المسلمين بعضهم ببعض، وإضعاف الدولة الإسلاميّة من الداخل بإثارة الفتن، بين أفرادها وأبنائها، والسعي لتمزيق صفوفهم وإشعال الحروب الداخليّة فيما بينهم بإيقاظ النخوة الجاهليّة التي طهّر الإسلام أرض الجزيرة منها.

وربّما كانوا يتربّصون بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله الدوائر، حتّى أنّهم كادوا له ذات مرّة، وأرادوا أن يجفلوا به بعيره في العقبة عند عودته من حجة الوداع، وربّما اتّفقوا مع اليهود والمشركين لتوجيه الضربات إلى الكيان الإسلاميّ من الداخل تخلّصاً من هذا الدين الذي هدّد

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام ٢: ٥١٥ ـ ٥٢٩.

(٢) الملل والنحل ١: ٢٩ ( طبعة القاهرة )، الطبقات الكبرى ٤: ٦٥، الكامل في التاريخ ٢: ٢١٥.

٨٨

مصالحهم.

ولقد كان المنافقون ولايزالون أشدّ خطراً من أي شيء آخر على الإسلام وذلك، لأنّهم كانوا يوجّهون ضرباتهم بصورة ماكرة وخفية، وبنحو يخفى على العاديين من الناس(١) .

وإليك طرفاً ممّا ذكره القرآن الكريم حولهم، فهم متآمرون يبيّتون خلاف ما يظهرونه ويبدونه أما م النبيّ إذ يقول:( وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ) ( النساء: ٨١ ).

وهم يريدون الشر للمسلمين دائماً، ولذلك يذيعون الشائعات التي من شأنها إضعاف معنويات المسلمين إذ يقول عنهم:( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ) ( النساء: ٨٣ ).

وهم يريدون الفتنة دائماً، لذلك يقلبون الوقائع ويخفون الحقائق كما يقول القرآن:( لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّىٰ جَاءَ الحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ) ( التوبة: ٤٨ ).

وهم لا يرتدعون عن أي عمل يحقّق مصالحهم وأغراضهم المضادّة للإسلام، حتّى ولو كان بالتحالف مع المشركين والكفار، بل حتّى ولو كان باعطاء الوعود الكاذبة لهم، والتغرير بهم وخذلانهم عند اللقاء، وعدم الوفاء بالوعد:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ *لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ ) ( الحشر: ١١ ـ ١٢ ).

__________________

(١) لقد تصدّى القرآن الكريم، لفضح المنافقين والتشهير بجماعتهم، وخططهم، الجهنّمية ضدّ الدين والنبيّ والاُمّة في أكثر السور القرآنيّة، مثل البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والعنكبوت والأحزاب ومحمّد والفتح والمجادلة والحديد والحشر، كما نزلت في حقّهم سورة خاصّة تسمّى بسورة المنافقين.

٨٩

ولذلك، شدّد القرآن الكريم في ذكر عذابهم أكثر من أي جماعة اخرى إذ يقول:( إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) ( النساء: ١٤٥ ).

ويحدثنا التأريخ كيف لعب المنافقون دوراً خبيثاً، وخطيراً في تعكير الصفو وإفساح المجال أمام أعداء الإسلام الأجانب ـ سواء قبل قوة الإسلام وبعدها ـ للمكر بالإسلام والكيد له، والمؤامرة عليه، بحيث لولا وجود النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لأتوا على ذلك الدين، ولقضوا على كيانه وأطاحوا بصرحه، وأطفأوا نوره.

وقد كان من المحتمل ـ بقوة ـ أن يتّحد هذا الثلاثي الخطر ( الفرس والروم والمنافقون ) لاكتساح الإسلام واجتثاث جذوره، وخاصّة بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وغياب شخصه عن الساحة.

وكان من المحتمل جداً، أن يتفق هذا الثلاثي ـ الناقم على الإسلام ـ على محو الدين، وهدم كلّ ما بناه الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله طوال ثلاثة وعشرين عاماً من الجهود والمتاعب، وتضييع كلّ ما قدّمه المسلمون من تضحيات في سبيل إقامته.

ج ـ العشائريّات تمنع من الاتّفاق على قائد

لقد كان من أبرز ما يتميّز به المجتمع العربيّ قبل الإسلام، هو النظام القبلي، والتقسيمات العشائرية التي كانت تحتلّ ـ في ذلك المجتمع ـ مكانةً كبرى، وتتمتّع بأهمّية عظيمة.

فلقد كان شعب الجزيرة العربية، غارقاً في هذا النظام الذي كان سائداً في كلّ أنحائها.

صحيح أنّ جميع القبائل العربية ـ آنذاك ـ كانت ترجع ـ في الأصل ـ إلى قبيلتي، القحطانيين ( وهم اليمنيّون ) والعدنانيين ( وهم الحجازيّون )، إلّا أنّ هذا التقسيم الثنائيّ قد تحوّل بمرور الزمن، إلى تقسيمات كثيرة وعديدة، حتّى أصبح من العسير، إحصاء القبائل العربيّة وأفخاذها وفروعها وبطونها.

٩٠

فمن يراجع الكتب التالية: ( بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب ) تأليف السيد محمود شكري الآلوسي، و ( المفصّل في تأريخ العرب ) تأليف علي جواد، الجزء (٤) الفصل (٤٦)، و ( معجم قبائل العرب القديمة والحديثة ) تأليف عمر رضا كحالة الجزء (٣). من يراجع هذه المؤلفات التي تشرح النظام القبليّ وأبعاده في المجتمع العربيّ قبل الإسلام، يعرف ـ معرفةً كاملةً ـ مدى تغلغل وتوسّع النمط القبليّ عند العرب، ومدى تأثير القبيلة وعدد بطونها وأفخاذها وفروعها، تلك القبائل والأفخاذ والبطون التي كانت تبدأ أسماؤها ـ في الغالب ـ بلفظة ( آل ) مثل، آل النعمان وآل جفنة، أو لفظة ( بنو)، كبني أشجع وبني بكر وبني تغلب، أو كان يطلق على جميع أبنائها اسم الجدّ الأعلى للقبيلة مثل، غطفان وخزاعة ( وهما ـ في الحقيقة ـ اسمان للجدود ولكنّهما اطلقا على القبيلة ).

ولقد كان للقبيلة أكبر الدور في الحياة العربية ـ قبل الإسلام ـ وعلى أساسها كانت تدور المفاخرات وتنشد القصائد، وتبنى الأمجاد، كما كانت هي، منشأ أكثر الحروب وأغلب المنازعات التي ربّما كانت تستمرّ قرناً أو قرنين من الزمان، كما حدث بين الأوس والخزرج، أكبر قبيلتين عربيّتين في يثرب ( المدينة )، وكلّفهم آلاف القتلى قبل دخول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة.

كما أنّ التأريخ يشهد لنا، كيف كاد التنازع القبليّ في قضية بناء الكعبة الشريفة ووضع الحجر الأسود في موضعه أيام الجاهلية، أن يؤدي إلى الاختلاف فالصراع الدموي، والاقتتال المرير، لولا تدخّل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي حسم الأمر بطريقة أرضت جميع القبائل المتنافسة، وأطفأت نار الفتنة التي كادت أن تأكل كلّ أخضر ويابس(١) .

ونظراً لما كان يتمتع به رؤساء هذه القبائل من نفوذ، وكانت تلك الجماعات تملك من قوّة ورابطة ـ في ذات الوقت ـ فقد سعى الرسول الأكرم ـ وبحكمة كبرى ـ أن

__________________

(١) راجع السيرة النبويّة لابن هشام ١: ١٩٦ تحت عنوان اختلاف قريش فيمن يضع الحجر ولعقة دم، ومروج الذهب ٢: ٢٧٨ تحت عنوان بناء قريش الكعبة واختلافهم في وضع الحجر الأسود وحكم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فيهم.

٩١

يستفيد من قدرة تلك القبائل ونفوذ رؤسائها، في إنجاح الدعوة الإسلامية وتقوية أركانها، والتغلّب على أعدائها من الكفّار والمشركين وغيرهم من المعارضين.

إلاّ أنّ هذا النظام ( القبلي ) لما كان ينطوي عليه ـ في نفس الوقت ـ من سيئات جسيمة، وتبعات لا يمكن التغاضي عنها، ومنافاتها مع ما ينشده الإسلام ويدعو اليه من الوحدة والاتّحاد بين جميع أفراد المسلمين، فقد سعى الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله في محو الروح القبلية، وتذويب الفوارق العشائرية. وصهر تلك التجمّعات المتشتّتة المتباينة في بوتقة الإيمان الموحّد، والصف الإسلامي الواحد، ولكنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله رغم ما أوجده في ضوء التعاليم الإسلامية من تحوّلات عظيمة في حياة العرب، إلّا أنّ أكثر هذه التحوّلات كانت تتعلّق بقضايا العقيدة، والمسائل الأخلاقية والروابط الاجتماعية ولم يكن من الممكن أن ينقلب شكل النظام القبليّ العربيّ في خلال ( ٢٣ عاماً ) ويتبدل كليةً. ويدلّ على ذلك، وجود بقايا من هذا النظام في القسم الأكبر من شبه الجزيرة العربية مثل اليمن ونجد والحجاز و و.

إنّ اُصول هذه العشائر ـ في ابّان العهد الإسلاميّ ـ وإن كانت عبارةً عن حمير وكهلان وقضاعة ومضر وربيعة، إلّا أنّ هذه القبائل الأساسية تفرّعت وتشعّبت باستمرار، إلى قبائل وأفخاذ وفروع، وكان لكل قبيلة وفخذ منها شيخ ورئيس يرأس الجماعة وتكون له الكلمة والقيادة وتعطي له الإحترام والطاعة.

وقد كانت النفسيات والأخلاق العشائرية، المتوغّلة في نفوسهم بحيث لم تنعدم انعداماً كلياً، رغم ما تلقاه اُولئك من التعاليم الإسلاميّة والتربية القرآنية، ولذلك كانت تظهر بين الفينة والاخرى، وينشأ بسببها النزاع ويكاد يتوسّع لولا حكمة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وتدبيره.

فقد ذكر ابن هشام، حادثةً عند عودة النبيّ والمسلمين من غزو بني المصطلق، بدأت من قضية صغيرة وكادت أن تتطوّر إلى نزاع قبليّ واسع لولا تصرّف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال: ( بينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عائداً من غزو بني المصطلق وقد نزل عند ماء، وردت

٩٢

واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له: جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهنيّ حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهنيّ: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين(١) ، فغضب عبد الله بن أبي بن سلول وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم، غلام حدث، فقال: أو قد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدنا وجلابيب قريش [ أي من أسلم من المهاجرين ] إلّا كما قال الأوّل: سمّن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ، ثم أقبل على من حضره من قومه، فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير داركم، فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك عند فراغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من عدوّه، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب فقال: مر به عباد بن بشر فليقتله، فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أنّ محمّداً يقتل أصحابه ؟ لا، ولكن أذّن بالرحيل، وذلك في ساعة لم يكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يرتحل فيها فارتحل الناس(٢) .

كما أنّ هناك حادثةً اخرى تدلّ على أنّ مادة الاختلاف كانت كامنةً في أعماقهم، وكانت مستعدةً للإنفجار في كلّ لحظة، وبأقل تحريك، وإيقاد للعصبيات والرواسب القبليّة الجاهليّة.

فها هو ابن هشام ينقل: أنّ شأس بن قيس وكان شيخاً من اليهود قد أسنّ، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم، مرّ ذات يوم على نفر من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدّثون فيه، فغاضه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من

__________________

(١) قال السهيليّ: ( لـمّا سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الكلمات قال: « دعوها فإنّها دعوة منتنة » يعني أنّها كلمة خبيثة لأنّها من دعوى الجاهليّة، وجعل الله المؤمنين إخوةً وحزباً واحداً، فإنّما ينبغي أن تكون الدعوة للمسلمين ).

(٢) السيرة النبويّة لابن هشام ٢: ٢٩٠ ـ ٢٩١.

٩٣

العداوة في الجاهلية. فقال: قد اجتمع ملأُ بني قيلة بهذه البلاد لا والله مالنا معهم إذا اجتمع ملأهم بها من قرار، فأمر فتىً شابّاً من يهود كان معهم، فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثمّ اذكر يوم بعاث وما كان قبله، وانشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار.

وكان يوم بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه يومئذ للأوس على الخزرج، وكان على الأوس يومئذ حضير بن سماك الأشهليّ، أبو أسيد بن حضير، وعلى الخزرج عمرو النعمان البياضيّ، فقتلا جميعاً

قال ابن هشام: قال أبو قيس بن الأسلت :

على أن قد فجعت بذي حفاظ

فعاودني له حزن رصين

فأما تقتلوه فإنّ عمراً

أعض برأسه عضب سنين

وهذان البيتان في قصيدة له، وحديث يوم بعاث أطول ممّا ذكرت.

قال ابن هشام: ففعل [ ذلك الشاب ما أراده شأس ] فتكلّم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتّى تواثب رجلان من الحييّن على الركب، أوس بن قيظي أحد بني حارثة بن الحارث من الأوس، وجبّار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فتقاولا ثمّ قال أحدهما لصاحبه، إن شئتم رددناها الآن جذعة [ أي رددنا الآخر إلى أوّله وأعدنا الاقتتال والتنازع ] فغضب الفريقان جميعاً وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة [ أي الحرّة ] السلاح السلاح فخرجوا إليها فبلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتّى جاءهم، فقال: « يا معشر المسلمين، الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألّف به بين قلوبكم » فعرف القوم أنّها نزعة [ أي إفساد بين الناس ] من الشيطان وكيد من عدوّهم، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثمّ انصرفوا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدوّ الله شأس بن قيس، فأنزل الله تعالى في شأس بن قيس وما صنع:( قُلْ يَا أَهْلَ

٩٤

الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعْمَلُونَ *قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) ( العمران: ٩٨ ـ ٩٩ ).

وأنزل الله في أوس بن قيظيّ وجبّار بن صخر ومن كان معهما من قومهما، الذين صنعوا ما صنعوا عمّا أدخل عليهم شأس من أمر الجاهلية:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ *وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * إلى أخر قوله تعالى ـوَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( آل عمران: ١٠٠ ـ ١٠٥ )(١) .

وممّا يدلّ أيضاً على وجود رواسب الخلاف عند قبيلتي الأوس والخزرج حتّى بعد دخولهم في الإسلام، وانضوائهم تحت لوائه في صف واحد، ما نقله الشيخ البخاري في صحيحه، في قصّة الإفك قال، قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو على المنبر: « يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلّا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلّا خيراً، وما يدخل على أهلي إلّا معي ».

قالت عائشة: فقام سعد بن معاذ(٢) أخو بني عبد الأشهل فقال: أنا يا رسول الله أعذرك، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا.

قالت: فقام رجل من الخزرج وهوسعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، قالت: وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحميّة، فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمرو الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل.

فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عمّ سعد [ بن معاذ ]، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمرو الله لنقتلنّه، فإنّك منافق تجادل عن المنافقين.

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام ١: ٥٥٥ ـ ٥٥٧.

(٢) فيه تأمل، فإنّ سعداً توفّي قبل غزو بني المصطلق.

٩٥

قالت عائشة: فصار الحيّان ( الأوس والخزرج ) حتّى همّوا أن يقتتلوا، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قائم على المنبر.

قالت: فلم يزل رسول الله يخفّضهم ( أي يهدّئهم )حتّى سكتوا وسكت(١) .

فكيف كان يجوز ـ والحال هذه ـ أن يترك الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله اُمّته المفطورة على العصبيّات القبليّة، وعلى الاستئثار بالسلطة والزعامة وحرصها على النفس، ورفض سلطة الآخر ؟

فهل كان يجوز للنبيّ أن يترك تعيين مصير الخلافة لتقوم به أمّة هذه حالها، وفي تعيينه قطع لدابر الاختلاف والفرقة ؟

وهل كان من المحتمل أن تتفق كلمة الاُمّة جمعاء على واحد ولا تخضع للرواسب القبليّة ولا تبرز إلى الوجود مرّة اخرى ما مضى من الصراعات والتطلّعات العشائرية، وما يتبع ذلك من حزازات ؟

أم هل يصلح لقائد يهتمّ ببقاء دينه واُمّته أن يترك أكبر الاُمور وأعظمها، وأشدّها دخالةً في حفظ الدين، إلى أمّة نشأت على الاختلاف، وتربّت على الفرقة، مع أنّه كان يرى الاختلاف منهم في حياته أحياناً أيضاً كما عرفت ؟

إنّ التأريخ يدلّ على أنّ هذا الأمر قد وقع فعلاً بعد وفاة النبيّ ـ في السقيفة التي سيأتي ذكرها مفصّلاً ـ حيث سارعت كلّ قبيلة إلى ترشيح نفسها للزعامة، منتحلةً لنفسها حججاً وأعذاراً وطالبةً ما تريد بكلّ ثمن حتّى بتجاهل المبادئ وتناسي التعاليم الإسلاميّة، والوصايا النبويّة.

فقد ذكر ابن هشام تحت عنوان « أمر سقيفة بني ساعدة، تفرّق الكلمة » نقلاً عن عمر بن الخطاب، ما يدلّ على اختلاف الكلمة وعدم الاتفاق على أحد :

قال عمر: لـمّا جلسنا ( أي في سقيفة بني ساعدة ) قام واحد من الأنصار فأثنى

__________________

(١) صحيح البخاري ٥: ١١٩ باب غزو بني المصطلق.

٩٦

على الله بما هو أهله ثمّ قال :

( أمّا بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منّا، وقد دفّت دافّة من قومكم ( أي جاء جماعة ببطء ) وإذا هم يريدون أن يحتازونا ( أي يدفعوننا ) من أصلنا، ويغصبونا الأمر ).

... فقام أبو بكر وقال :

( أمّا ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن تعرف العرب هذا الأمر ( أي الزعامة ) إلّا لهذا الحيّ من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيّهما شئتم ) وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجّراح :

ثمّ قام وقال قائل من الأنصار ( أنا جذيلها المحكّك، وعذيلها المرجّب، منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ).

قال عمر بن الخطاب: ( فكثر اللغط ( أي اختلاف الأصوات ودخول بعضها على بعض )، وارتفعت الأصوات حتّى تخوّفت الاختلاف )(١) .

ولم يقتصر اختلاف الاُمّة على هذا الذي ذكرناه، بل ظهرت مظاهر التشتت القبليّ حتّى بعد ما جرى في السقيفة من بيعة من فيها لأبي بكر، حيث راح المهاجرون والأنصار يتهاجون فيما بينهم، وجرت بينهم مشادات كلاميّة وشعريّة هجائيّة، هاجم فيها كلّ فريق الفريق الآخر بأشدّ أنواع الهجاء نقلها المؤرّخون ونذكر منها شيئاً :

فقد جاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد نقلاً عن كتاب الموفّقيّات: لـمّا بويع أبو بكر وراح أبو سفيان بن حرب يدّعي الفضل لقريش ويذكر اُموراً في هذا المجال، قال حسّان بن ثابت :

تنادى سهيل وابن حرب وحارث

وعكرمة الشاني لنا ابن أبي جهل

قتلنا أباه وانتزعنا سلاحه

فأصبح بالبطحا أذلّ من النعل

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام ٢: ٦٥٩ ـ ٦٦٠.

٩٧

فأمّا سهيل فاحتواه ابن دخشم

أسيراً ذليلاً لا يمرّ ولا يحلي

وصخر بن حرب قد قتلنا رجاله

غداة لوا بدر فمرجله يغلي

اولئك رهط من قريش تبايعوا

على خطّة ليست من الخطط الفضل

وأعجب منهم قابلوا ذاك منهم

كأنّا اشتملنا من قريش على ذحل

وكلّهم ثان عن الحقّ عطفه

يقول اقتلوا الأنصار بئس من فعل

نصرنا وآوينا النبيّ ولم نخف

صروف الليالي والبلاء على رجل

بذلنا لهم أنصاف مال أكفّنا

كقسمة أيسار الجزور من الفضل

ونحمي ذمار الحيّ فهو بن مالك

ونوقد نار الحرب بالحطب الجزل

فكان جزاء الفضل منّا عليهم

جهالتهم حمقاً وما ذاك بالعدل

فبلغ شعر حسّان قريشاً، فغضبوا وأمروا أبي عزّة شاعرهم أن يجيبه، فقال :

معشر الأنصار خافوا ربّكم

واستحيروا الله من شّر الفتن

إنّني أرهب حرباً لاقحاً

يشرق المرضع فيها باللبن

جرّها سعد وسعد فتنة

ليت سعد بن عبّاد لم يكن

خلف برهوت خفيّاً شخصه

بين بصرى ذي رعين وجدن

ليس ما قدّر سعد كائناً

ما جرى البحر وما دام حضن

ليس بالقاطع منّا شعرةً

كيف يرجى خير أمر لم يحن

ليس بالمدرك منها أبداً

غير أضغاث أماني الوسن

واتّفق أن اجتمع الأنصار والمهاجرين في مجلس، فأفاضوا الحديث عن يوم السقيفة، فقال عمرو بن العاص: والله لقد دفع الله عنّا من الأنصار عظيمةً، ولما دفع الله عنهم أعظم، كادوا والله أن يحلّوا حبل الإسلام كما قاتلوا عليه، ويخرجوا منه من أدخلوا فيه ؟ ولقد قاتلونا أمس فغلبونا، ولو قاتلناهم اليوم لغلبناهم على العاقبة، فلم يجبه أحد وانصرف إلى منزله وقد ظفر فقال :

٩٨

ألا قل لأوس إذا جئتها

وقل إذا ما جئت للخزرج

تمنّيتم الملك في يثرب

فأنزلت القدر لم تنضج

إلى آخر الأبيات.

فلمّا بلغ الأنصار مقالته وشعره، بعثوا إليه لسانهم وشاعرهم النعمان بن العجلان فقال لعمرو وهو في جماعة من قريش: ( والله يا عمرو ما كرهتم من حربنا إلّا ما كرهنا من حربكم، وما كان اللّه ليخرجكم من الإسلام بمن أدخلكم فيه، إن كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: « الأئمّة من قريش » فقد قال: « لو سلك النّاس شعباً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار » فأمّا المهاجرون والأنصار فلا فرق بينهم، ولكنّك وترت بني عبد مناف بمسيرك إلى الحبشة، لقتل جعفر وأصحابه، ووترت بني مخزوم بإهلاك عمارة بن الوليد ).

ثمّ أنشد أبياتاً يمتدح فيها قومه الأنصار ويهجو المهاجرين.

فلمّا انتهى شعر النعمان وكلامه إلى قريش غضب كثير منهم.

وقد طالت المماحكات والمشاجرات الكلاميّة وطال التهاجي الحاد بين الصحابة حتّى قال أحدهم :

أيال قريش أصلحوا ذات بيننا

وبينكم قد طال حبل التماحك

فلا خير فيكم بعدنا فارفقوا بنا

ولا خير فينا بعد فهر بن مالك

فلا تذكروا ما كان منّا ومنكم

ففي ذكر ما قد كان مشيُ التساوك(١)

إنّ ما نقلناه لك هنا، هو غيض من فيض ممّا جرى بين صحابة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من المنازعات والاختلافات في مسألة القيادة، فهل كان يجوز ترك مثل هذا المجتمع غير المتّفق في تطلعاته وآرائه دون نصب قائد يكون نصبه قاطعاً لدابر الاختلاف ومانعاً من مأساة التمزّق والتقاطع والفرقة ؟.

* * *

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦: ١٧ ـ ٣٨ ( طبعة مصر ).

٩٩

تلك محاسبات عقليّة واجتماعيّة من واقع المجتمع الإسلاميّ الأوّل، تدلّنا على أنّ الحقّ في مسألة القيادة في المجتمع الإسلاميّ بعد وفاة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله هو أن يستخلفصلى‌الله‌عليه‌وآله ( قائداً ) للاُمّة، وراعياً لمصالحها وشؤونها، لما في نفس التنصيب من مصلحة وقطع دابر الاختلاف.

فمثل هذه المحاسبات، تمنع القائد الحكيم أن يترك الاُمّة من بعده من دون أن يعيّن لها قيادةً تحافظ على الكيان الإسلاميّ الناشيء من الأخطار المحدقة به، وتقود الاُمّة الإسلاميّة الفتية في الطريق الشائك إلى الهدف المرسوم لها، والغاية المطلوبة.

إنّ القائد الحكيم، والرئيس المحنّك هو من يعتبر بالأوضاع الاجتماعيّة لاُمّتة والظروف المحيطة بها، ويأخذ بنظر الاعتبار ما يمكن أنّ يحدث لها جرّاء غيبته ووفاته، ثمّ يرسم على ضوء تلك الظروف والأحوال، والتوقّعات والمحاسبات ما يراه صالحاً للاُمّة ولمستقبلها، وأهم تلك الاُمور هو تعيين القائد لها، والمدير لشؤونها من بعده.

إنّ أوضاع المسلمين آنذاك، والظروف الحرجة المحيطة بهم، كانت تقتضي أن لا يدع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله تلك الاُمّة الحديثة العهد بالإسلام وتلك الدولة الفتية الجديدة البنيان، لآراء الاُمّة وإرادتها لتختار هي بنفسها قائدها ورئيسها، وهي في خضمّ تلك الأخطار، والظروف الحسّاسة البالغة الخطورة، إذ ربمّا كانت تبتلي ـ في ذلك الأمر ـ بالخلاف الذريع، والفرقة الكبيرة، فتسهل للخصم سبيل السيطرة عليها وتمكّنه من مؤامراته ونواياه.

إنّ عدم بلوغ الاُمّة الإسلاميّة حدّ الاكتفاء الذاتيّ في القيادة والادارة، مع الأخذ بنظر الاعتبار الأخطار التي كانت تحدق بها، والرواسب القبليّة الجاهليّة، وعدم قدرتها على التغلّب على كلّ ذلك لوحدها، كانت توجب على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بحكم العقل السليم، أن ينصّب للاُمّة قائداً يدبّر شؤونها ويجمع شتاتها ويحافظ على وحدتها، ويقود سفينتها إلى شاطيء الأمن والدعة والسلام.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

على العالم. فإذا تعذَّر الانتصار لم يكن للظهور فائدة، وكان مُتعذِّراً أيضاً، فتكون هذه الحرب موجبة لتأخُّر الظهور، وانخرام شرطه بدلاً عن أن تكون في صالحه.

ولعلَّنا لو قلنا: بأنَّ الباقي من البشرية هو نسبة الواحد إلى المئة والواحد والعشرين... كان هذا الإيراد صحيحاً... وكان من الصعب القول: بأنَّ أصحاب المهدي (ع) كلَّهم سيكونون من الباقيين، وخاصة إذا توسَّعنا أكثر إلى الثلاثمئة والثلاثة عشر إلى المـُخلصين من الدرجتين الثانية والثالثة، فإنَّ المحافظة عليهم تحتاج إلى عناية خاصة تُشبه المعجزة؛ وبذلك تكون الحرب العالمية التي تُسبِّب هذه القلَّة العظيمة في البشر، ضدَّ مصلحة الظهور، وليست إلى صالحه.

إلاَّ أنَّ هذه الفكرة غير صحيحة، بمعنى أنَّ الحرب لا تكون مُضرَّة بالظهور حتى على هذا المستوى؛ وذلك لأمرين:

الأمر الأول: إنَّنا - على أسوأ تقدير - يمكن أن نفترض تساوي نسبة الفناء في البشر بين جميع أصنافهم سواء من أصحاب الإمام أو غيرهم، فإذا كانت البشرية ذات العدد الكبير تحتاج إلى ثلاثمئة ونيِّف من القوَّاد، فمن المنطقي أنَّ البشرية القليلة العدد، تحتاج إلى قادة أقل، وكلَّما قلَّت نسبتها قلَّت حاجتها إلى القوَّاد، فإنَّ النسبة بين عدد البشر وعدد الجيش المهدوي تبقى ذاتها مهما صغر الرقم.

الأمر الثاني: لو تنزَّلنا – جدلاً - عن الأمر الأول، وفرضنا أنَّ الحرب العالمية التي تُسبب القلَّة العظيمة مُضرَّة بمصلحة الظهور، إذن ونستطيع أن نعرف بالأدلة الدالة على حصول الظهور وانتصار الإمام (ع)، وكون ذلك هو الهدف من خلق البشرية، تعرف أنَّ هذه القِلَّة لن تحصل في أنصار الإمام (ع)، إمَّا لأنَّ الحرب نفسها لن تحصل، وإمَّا لأنَّها لا تكون موجبة لقِلَّة البشر بهذا المقدار، وإمَّا أن توجب قِلَّة البشر الآخرين مع المحافظة على هؤلاء بعناية وتأييد خاص، ناشئ من تأييد هدفهم الأعلى نفسه.

إلاَّ أنَّ الإنصاف أنَّ استنتاج هذه القِلَّة العظيمة في البشر من هذه الأخبار بلا موجب؛ فإنَّ الحاصل الناتج من ضرب الكسور لم يدلَّ عليه خبر أصلاً، بل ولا الأخذ بأكبر الكسور، وهو التسعة أعشار، فإن دلّ عليه خبر واحد لم تسنده الأخبار الأُخرى، فلا يكون قابلاً للإثبات.

٣٤١

بل إمَّا نحمل هذه الأخبار على التقريب - كما ذكرنا - أو نأخذ بأقلِّ التقادير؛ باعتبار أنَّه المقدار المـُسلَّم بين الأخبار، والزائد مشكوك لم يثبت تاريخياً، وأقلُّ النسب هو ذهاب الثُّلثين وبقاء الثُّلث، وإذا صحَّ جوابنا على النسب العالية للهلاك، صحَّ جوابنا على النسب الأقلِّ بطريق أوْلى.

يُضاف إلى ذلك أجوبة أُخرى:

أهمُّها: إنَّ المحافظة على أصحاب الإمام الخاصة - بل وغير الخاصة - ليس يحتاج إلى العناية والتأييد الخاص، بل يمكن أن يكون طبيعياً خالصاً، وذلك انطلاقاً من زاويتين:

الزاوية الأُولى: إنَّ الأسلحة التي تشمل بالفناء كل البشرية سوف لن تُستعمل؛ لأنَّها توجِب فناء الدولة الضاربة... وهذا واضح.

الزاوية الثانية: أنَّه لا دليل على شمول الحرب لكل دول العالم وأقاليمه، وإنَّما سوف تقتصر على المناطق التي تكون محكومة للدول المـُتحاربة، ولكل أصدقائها ومحالفيها... وهي بكل سكَّانها نسبة عُظمى من العالم، قد تزيد على ثلاثة أرباع سكَّانه.

فلو هلك أكثر هؤلاء مع القليل من غيرهم، يكون الهالك بالنسبة التي فهمناها أخيراً.

ومن الواضح والسهل، افتراض أن يكون هؤلاء المـُخلصون المـُعدَّون لنُصرة الإمام القائد المهدي (ع) موجودين في الدول غير المشاركة في الحرب، فمهما نالهم من الضرر نتيجةً للحرب العالمية، فإنَّهم يبقون على قيد الحياة على أيِّ حال، وهو المطلوب.

وهذا هو المقصود من قوله (ع) في إحدى الروايات: ( أما ترضون أن تكونوا في الثُّلث الباقي... ).

إذن؛ فسوف يقلُّ أعداء المهدي (ع) دون أصحابه وناصريه، وهو المقصود من أنَّ وجود الحرب العالمية تُشكِّل إحدى الضمانات لانتصاره (ع).

السؤال الثاني: أنَّه إذا قامت الحرب العالمية الرهيبة التي تذهب بأكثر أفراد البشر... فمعنى ذلك زوال معالم الحضارة الحديثة بكل حقولها، وموت كل الاختصاصيين في فروع المعرفة، فماذا يبقى لعصر ما بعد الظهور من حضارة ومدنية؟ ومعه فكيف يعمُّ الرفاه كل البشر بدون ذلك؟!

وجواب ذلك: أنَّ المـُهمَّ من معالم الحضارة الحديثة التي يمكن أن يُفيد منها عصر ما

٣٤٢

بعد الظهور، ليس هو المباني والشوارع والجسور ونحوها، بل الأهمُّ هو المصانع الكبرى والمـُختبرات العلمية وخبراؤها، والمصادر التي تتحدَّث عن العلوم التي تخصُّها، أعني الكُتب والوثائق التي تخصُّ هذه الحقول، فإنَّ هذا هو أفضل ما أنتجته أوروبا من خدمات إنسانية.

ومن الممكن القول: إنَّ كل ذلك يمكن أن ( يعبر ) الحرب إلى ما بعدها سالماً؛ وذلك لأنَّ الحرب تستهدف - أساساً - الجيوش والأسلحة ومصانعها، والعواصم والمـُدن الكبيرة، والمعسكرات ونحوها، ولن تستهدف معامل صنع السيارات والزجاج بطبيعة الحال، فما يتلف تحت التفجيرات الذَّرَّية والهيدروجينية هو ذلك... وكذلك قسم كبير من الناس، والقسم الأوفر هو الذي يموت مُتأثِّراً بالإشعاع بعد ذلك، ويكون موته محسوباً على الحرب بطبيعة الحال.

إذن؛ فأغلب المصانع سوف لن تتلف تحت الضرب، ولا يضرُّها الإشعاع بطبيعة الحال، مضافاً إلى أنَّ عدداً من المصانع موجودة في الدول غير المشتركة في الحرب، ولن تتلف الوثائق والكُتب الخاصة بهذه الحقول أيضاً.

وأمَّا الخبراء، فأغلب الظنِّ أنَّ الموجود منهم في الدول المشتركة في الحرب، سوف ينتهي أو يُقارب النهاية، فلو لم يكن هناك خُبراء آخرون في العالم لتوقَّفت المعامل عن العمل، إلاَّ أنَّنا نعيش الفكرة في هذا العصر بوضوح... إنَّ الخُبراء في الدول الصغيرة عدد كبير لا يُستهان به، وهم في ازدياد مُستمرٍّ، مضافاً إلى أنَّ انحفاظ المصادر والوثائق الخاصة بحقول المعرفة الصناعية تُتيح للإنسانية إنتاج خُبراء أكثر.

إذن؛ فالحرب وإن كانت قاتلة لأعداد بشرية هائلة فوق الحسبان بكثير، غير أنَّها لن تنال الجانب الصناعي بضرر كبير، الأمر الذي يوفِّر فرصة الاستفادة منه في عصر ما بعد الظهور.

السؤال الثالث: إنَّ معنى ما سمعناه في هذا الضمان الثاني لانتصار الإمام المهدي (ع)، أنَّ قيام الحرب العالمية هي الضمان الرئيسي لانتصاره، وأمَّا إذا لم تقم الحرب إلى حين الظهور، فسوف لن يستطيع النصر ولا تحقيق الدولة العالمية العادلة؛ إذ إنَّه سيواجه

٣٤٣

القوى العالمية بكل جبروتها، الأمر الذي يجعل انتصاره أمراً مُتعذِّراً.

وجواب ذلك من عدَّة وجوه:

الوجه الأول: أنَّنا بعد أن نعرف أنَّ ( الظهور) المـُنتج للدولة العالمية العادلة هو الهدف البشري الأعلى، وقد عرفنا في التاريخ السابق وفي هذا التاريخ، أنَّ الله تعالى يُحقِّق كل ما هو لازم لإنجاز هذا الهدف، إن أمكن ذلك بالطريق الطبيعي ( المـُخطَّط ) فهو، وإلاَّ فبالطريق الإعجازي، وقد استنتجنا من ذلك عدَّة نتائج تمتُّ إلى عصر الغيبة بصِلَةٍ.

ومن هنا؛ يتبرهن بالضرورة كونه مُنتصراً على كل حال، في كل غزواته وفتوحاته، وأنَّ الدولة العالمية العادلة ناتجة على يده لا محالة، سواء وقعت الحرب العالمية قبل الظهور أم لا.

الوجه الثاني: أنَّه لو لم تحدث الحرب العالمية، كان هذا الضمان مُنتفياً، ولكن تبقى الضمانات الأُخرى على حالها للمشاركة في إنجاز النصر بعد الظهور، وهي فعَّالة شديدة التأثير ضدَّ أعظم القوى العالمية، وقد سمعنا بعضها ويأتي البعض الآخر.

الوجه الثالث: إنَّ المهدي (ع) بقابلياته القيادية - التي حملنا عنها أكثر من فكرة في أكثر من مناسبة - يستطيع أن يُخطِّط للحرب الفكرية والعسكرية في هذا العالم المليء بالظلم والطغيان، ما يستطيع به أن يُذلِّل كل عسير.

ونحن بالطبع، حيث نكون سابقين على عصر الظهور، لا نستطيع أن نُدرك كُنْهَ تلك التخطيطات والأساليب، فيبقى إدراك ذلك موكولاً إلى عصر ما بعد الظهور.

السؤال الرابع: وهو يدور حول عبارة في الرواية التي سمعناها عن الشيخ في الغيبة، بسنده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع): ( كان أمير المؤمنين (ع) قول: لا يزال الناس ينقصون حتى لا يُقال: الله ).

فإنّ العبارة ذات دلالة على أنَّ النقصان لا يحدث في الناس أنفسهم، بل يحدث في إيمانهم، وحتى لا يُقال: الله. باعتبار إنكارهم للعقيدة الإلهية، وهذا انحراف واضح نتيجةً للتمحيص حين تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً، فهل كانت هذه الرواية قرينة على أنَّ المراد من النقص المذكور في الروايات الأُخرى هو النقص في الإيمان لا في الأنفس...؟!

٣٤٤

وجواب ذلك: إنَّ تلك الروايات واضحة جدَّاً في نقصان الأنفس، وهذه الرواية ليست بهذا الوضوح لتكون قرينة على فَهْم الروايات الأخرى؛ إذ من المـُحتمل أنَّ هذه الرواية تريد بيان نقصان الإيمان فقط، كما هو المراد السؤال، ومن المـُحتمل أنَّها تريد نقص الإيمان والأنفس فقط معاً، فكأنَّما تقول: لا يزال الناس ينقصون إيماناً حتى لا يُقال: الله. ومعه تكون القرينة المذكورة في السؤال، بدون موضوع.

الضمان الثالث: لانتصار الإمام المهدي (ع).

توفير جماعة من المـُخلصين الكافين للقيام بمهامِّ الفتح العالمي، وتنفيذ الغرض الإلهي الأعلى من خَلْقِ الخليفة، وقد عرفنا كيف خطَّط الله تعالى لوجودهم، في ضمن الفترة الطويلة المـُتخلِّلة بين صدر الإسلام والظهور، كما عرفنا أعدادهم وسمعنا الروايات الواردة في أسمائهم، إلى غير ذلك من التفاصيل.

والمـُهمُّ الآن، هو كيف ننظر إلى أمور أُخرى من خصائصهم وصفاتهم، لم نكن قد سمعناها، من حيث إيمانهم وشجاعتهم وإخلاصهم للمهدي (ع) وطاعتهم له، وحُسن انقيادهم لقيادته، لنعرف في النتيجة كفايتهم لفتح العالم، وكون هذه الأوصاف تُشكِّل ضماناً أساسياً للنجاح في الثورة، بشكل غير مُتوفِّر في أيِّ جيش.

وينبغي أن نتكلَّم عن ذلك ضمن عدَّة جهات:

الجهة الأُولى: ثبت من التجارب الكثيرة التي عاشتها الجيوش خلال الحروب: أنَّ النصر منوط عادة بصفات مُعيَّنة لا بدَّ أن يتَّصف بها أفراد الجيش؛ لكي يكونوا أكثر إقداماً وأسرع نصراً.

وتتلخَّص هذه الأوصاف بالأمور التالية.

الأمر الأول: الإيمان بالهدف، فكلَّما كان الجيش أوعى لهدفه كان أقرب إلى النجاح، وأمَّا إذا لم يكن يفهم لنفسه هدفاً، وإنَّما يُساق سوق الأغنام إلى ساحة القتال، فسوف تكون فرصة الفوز من هذه الناحية قد فاتت بشكل مؤسِف.

الأمر الثاني: الشعور بالمسؤولية تجاه الهدف، وأنَّه هدف مُهمٌّ يتوقَّف تحقيقه على مسعاه ومسعى غيره من الناس، وأنَّه هدف لا يتحقَّق إلاَّ ببذل النفس والنفيس في سبيله.

وإذ يكون الجندي على مستوى المسؤولية والإخلاص، فإنَّه يكون لا محالة مُقْدِماً

٣٤٥

على التضحية، والصبر على المكاره في سبيل هدفه، وكلَّما تعمَّق هذا الشعور في نفس الفرد أو أنفس كل أفراد الجيش، كان أقرب إلى النصر.

وأمَّا إذا كان أفراد الجيش غير شاعرين بالمسؤولية، ولا مُخلصين للهدف، بل يرون ضرورة تقديم مصالحهم الخاصة على مصلحة القتال وتحقيق الهدف... فمثل هؤلاء من الصعب أن نتصوُّر لهم النجاح والانتصار، وإنَّما يخرج هذا الجندي باعتبار الاضطرار... لأنَّه لو رفض ذلك عوقب بالقتل، فهو مُخيَّر بين قتل عاجل جازم لو رفض أوامر القتال، وبين قتل مؤجَّل أو مُحتمَل لو باشر القتال، فهو يخرج تقديماً لأحسن الفرضيتين على أسوئهما في مصلحته.

ومثل هذا الجندي، متى ما رأى أنَّ من مصلحته ترك الحرب من دون أن يُعاقب بالقتل، كالهرب والاختفاء أو الانتقال إلى معسكر الأعداء، أو غير ذلك من الفعاليات، فإنَّه لا يتوانى عن القيام بها، كما أنَّه لو رأى أنَّ من مصلحته قبض الأموال للتجسُّس أو للقيام بالأعمال التخريبية، فإنَّه لا يكون لديه أيُّ مانع من القبول، وأيُّ مانع لديه للإجهاز على حرب تُهدِّده بالقتل، بدون أن يفهم لها هدفاً أو أن يجد نحوها إخلاصاً.

إذن؛ فالمـُهمُّ هو أن يجد الجندي - وبالتالي الجيش كله - الشعور بالمسؤولية تجاه الهدف من هذه الحرب، وكلَّما ازداد شعورهم وإخلاصهم، وكلَّما ازداد عدد الشاعرين المـُخلصين في الجيش، كانت فرص الفوز واحتمالات النصر أقرب لا محالة.

الأمر الثالث: الإخلاص للقائد والإيمان بقيادته، وبالتالي بذل الطاعة التامة له، وهي ليست طاعة عمياء - لو كان الجندي شاعراً بالمسؤولية - بل ستكون طاعة واعية مُبصِرة وهادفة، فلو لم يكن الأمر كذلك، بل كان الجندي عاصياً أحياناً، أو يُطلق لنفسه حُرِّية المناقشة والطعن في قرارات وتطبيقات القائد ونحو ذلك، فإنَّ فرصة النجاح تتضاءل لا محالة، لو كان في الجيش عدد مُهمٌّ بهذه الصفة.

الأمر الرابع: وهو شرط فيمَن توكَل إليه القيادة للجيش أو لبعضه، وهو أن يكون خبيراً بما أوكِل إليه من المهامِّ، عالماً بالصحيح من المصالح والمفاسد، من النواحي العسكرية والاجتماعية والعقائدية، لكي لا يقع في الغلط المؤدِّي إلى التورُّط في المشاكل المـُهلِكة.

ومن هنا؛ لا بدَّ أن ننطلق إلى جيش الإمام المهدي (ع) قادة وجنوداً.. لكي نرى

٣٤٦

ما إذا كانت الخصائص الرئيسية للجيش العقائدي المخلص المنتصر متوفّرة فيها أولاً، وبأي أسلوب يمكن توفّرها فيهم.

وسيكون منهجنا فيما يلي أن نخصَّ الجهة في نقل الأخبار الواردة في أوصافهم، ممَّا عدا ما ذكرناه فيما سبق، ونخصُّ ما بعدها من الجهات في الاستنتاج من هذه الأخبار وتمحيصها من سائر الأخبار.

الجهة الثانية: في سرد الأخبار الدالَّة على أوصاف أصحاب الإمام المهدي (ع) من نواحي الإيمان والطاعة والشجاعة، ونحو ذلك.

وهي أخبار كثيرة، نقتصر على نماذج كافية منها:

أخرج القندوزي في الينايع(١) ، عن أبي بصير، قال: قال جعفر الصادق رضي الله عنه: ( وما كان قول لوط (ع) لقومه:( ... لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ) (٢) ، إلاَّ تمنِّياً لقوَّة القائم المهدي وشِدَّة أصحابه، وهم الركن الشديد، فإنَّ الرجل منهم يُعطى قوَّة أربعين رجلاً، وأن قلب الرجل منهم أشدُّ من زبر الحديد، لو مرُّوا بالجبال لتدكدكت، لا يكفُّون سيوفهم حتى يرضى الله عزَّ وجلَّ ).

وما أخرجه أيضاً(٣) ، عن أبي نعيم، عن الإمام الباقر رضي الله عنه، قال: ( إنَّ الله يُلقي في قلوب مُحبِّينا وأتباعنا الرعب، فإن قام قائمنا المهدي (ع)، كان الرجل من مُحبِّينا أجرأ من سيف وأمضى من سنان ).

وأخرج السيوطي في الحاوي(٤) ، عن نعيم بن حماد، عن أبي جعفر قال: ( يظهر المهدي بمكَّة عند العشاء - إلى أن قال: - فيظهر في ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً عدد أهل بدر، على غير ميعاد قَزَعاً كقَزَع الخريف، رُهبان بالليل أُسْد بالنهار - إلى أن يقول: - فليُقي الله محبَّته في صدور الناس، فيصير مع

____________________

(١) ينابيع المودَّة ص٥٠٩ ط النجف.

(٢) هود: ١١ / ٨٠

(٣) ينابيع المودّة ص ٥٣٨.

(٤) ص١٤٤ - ١٤٥ ج ٢.

٣٤٧

قوم أُسْد بالنهار ورُهبان بالليل ).

وأخرج أيضاً(١) عن الحسن بن سفيان وأبي نعيم، عن ثوبان، قال: قال رسول الله (ص): ( تجيء الرايات السود من قِبَل المشرق، كأنَّ قلوبهم زُبر الحديد... ) الحديث.

وأخرج النعماني(٢) ، بسنده عن إبان بن تغلب، عن أبي عبد الله الصادق (ع) في حديث يتحدَّث فيه عن المهدي (ع)، ثمَّ ذكر رايته، فقال: ( فإذا هزَّها لم يبقَ مؤمن إلاَّ صار قلبه أشدَّ من زُبر الحديد، وأُعطي قوَّة أربعين رجلاً ).

وأخرج الطبرسي في إعلام الورى(٣) ، والصدوق في الإكمال(٤) ، والراوندي في الخرايج(٥) ، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر الباقر (ع)، عن أبيه عن جدِّه، قال: ( قال أمير المؤمنين (ع) على المنبر: يخرج رجل من ولْدي في آخر الزمان... - إلى أن قال: - فإذا هزَّ رايته أضاء لها ما بين المشرق والمغرب، ووضع يده على رؤوس العباد، فلا يبقى مؤمن إلاَّ صار قلبه أشدَّ من زُبر الحديد، وأعطاه الله عزَّ وجلَّ قوَّة أربعين رجلاً... ) الحديث.

وأخرج ابن طاووس في الملاحم والفتن(٦) عن ابن رزين الغافقي، سمع علياً (ع) يقول: ( يخرج المهدي في اثني عشر ألفاً إن قلُّوا، وخمسة عشر ألفاً إن كثروا، ويسير الرعب بين يديه، لا يلقاه عدوٌّ إلاَّ هزمهم بإذن الله. شعارهم: أمِتْ أمِتْ. لا يُبالون في الله لومة لائم... ) الحديث.

وأخرج المجلسي في البحار(٧) ، بالإسناد إلى الفضيل بن يسار، عن أبي عبد الله (ع)

____________________

(١) ص ١٣٣.

(٢) الغيبة ص ١٦٧.

(٣) ص٤٣٥.

(٤) إكمال الدين المخطوط.

(٥) الخرايج والجرايح ص١٩٥.

(٦) ص٥٢ط النجف.

(٧) ص١٨٠ ج ١٣.

٣٤٨

في حديث قال:

( ورجال كأنَّ قلوبهم زُبر الحديد، لا يشوبها شكٌّ في ذات الله، أشدُّ من الجمر، لو حملوا على الجبال لأزالوها، لا يقصدون براية بلدةً إلاَّ أخرجوها، كأنَّ على خيولهم العقبان، يتمسَّحون بسرج الإمام (ع) يطلبون بذلك البركة، ويحفُّون به، يقونه بأنفسهم في الحروب ويكفونه ما يريد، فيهم رجال لا ينامون الليل، لهم دويٌّ في صلاتهم كدويِّ النحل، يبيتون قياماً على أطرافهم، ويُصبحون على خيولهم، رُهبان بالليل ليوث بالنهار، هم أطوع له من الأَمَة لسيدها، كالمصابيح، كأنَّ قلوبهم القناديل، وهم من خشية الله مُشفِقين، يدعون له بالشهادة، ويتمنَّون أن يُقتلوا في سبيل الله، شعارهم: يا لثارات الحسين (ع). إذا ساروا سار الرُّعب أمامهم مسيرة شهر، يمشون إلى الموت إرسالاً، بهم ينصر الله إمام الحق ).

إلى غير ذلك من الأخبار.

ولا ينبغي أن تنسى ما سبق أن رويناه، ممَّا أخرجه مسلم في صحيحه من أوصافهم وأنَّهم ( خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ )، أو ( من خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ )، وما أخرجه وما غيره من أنَّهم ( رجال عرفوا الله حق معرفته )، وأنَّهم ( أصحاب الألوية )، وأنَّهم ( الفقهاء والقضاة والحُكَّام )، إلى غير ذلك.

الجهة الثالثة: في تحديد مقدار إيمانهم:

سمعنا من هذه الروايات أنَّهم مؤمنون، لا يُبالون في الله لومة لائم، ولا يشوب قلوبهم شكٌّ في ذات الله، رُهبان في الليل لا ينامون، لهم دويٌّ في صلاتهم كدويِّ النحل، يبيتون قياماً على أطرافهم، وهم رجال عرفوا الله حقَّ معرفته، وسنعرف أنَّ شجاعتهم أيضاً من الأوصاف الإيمانية لديهم.

والإيمان الذي يتَّصف بهذه الصفات، لَهْوَ من أعظم الإيمان وأقواه، فإنَّ حَسْبَ الإنسان المؤمن أن لا يُبالي في الله لومة لائم... كما قال الله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

٣٤٩

وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ... ) الآية(١) .

وإذا حاولنا فَهْمَ هذه الآية من زاوية التخطيط العام، كان( الَّذِينَ آَمَنُوا ) المـُخاطبون في الآية هم مؤمنون ما قبل التمحيص، وهم يُصبحون بالتمحيص مُنقسمين إلى قسمين:

قسم مُرْتدٌّ عن دينه نتيجةً للفشل في التمحيص ولردود الفعل السيِّئة التي اتَّخذها اتجاه الواقع، تلك الردود المنافية مع إيمانه والمـُنافرة مع الحق والهدى، فأصبح التزامه لها ارتداداً كما قالت الآية.

والقسم الآخر الذي يُنتجه التمحيص تدريجياً وليس فوراً، هم المؤمنون الناجحون، في التمحيص( فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) ، وهؤلاء طِبقاً للتخطيط العام لا يمكن أن يكونوا إلاَّ هؤلاء الذين ذخرهم الله لنُصرة المهدي (ع)، فانظر لاهتمام الله تعالى في قرآنه الكريم بهذه المجموعة العادلة الكاملة، وهم( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) لشعورهم بالأخوة الإيمانية( أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ) ، والمـُنحرفين والمرتدِّين أجمعين، لفشلهم جميعاً في التمحيص،( يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) ، خلال الفتح العالمي بالعدل، ومن أجل تأسيس الدولة العالمية العادلة،( وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ) ، ممَّا يقع منهم من الأعمال المـُضرَّة بمصالح المـُنحرفين، والموجبة لغيظ الكافرين، كيف، وإنَّ نجاحهم في التمحيص لم يكن إلاَّ نتيجةً لأمثال هذه التضحيات التي أدُّوها خلال الحياة، حتى أصبح العدل والهَدْي هو مقصودهم فوق كل مقصود، لا يُزحزحهم عنه عتب ولا تأنيب مؤنِّب؟! وإذا كان ديدنهم السابق على ذلك في عصر الفتن والانحراف، فكيف لا يكون ذلك مسلكهم بين يدي وقائدهم والإنجاز هدفهم الأعلى العادل الصالح؟!

و( ذلك ) النجاح في التمحيص بأيِّ درجة من درجاته( فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ) ، انطلاقا من إرادة نفس الفرد المؤمن لا قسراً عليه... حتى حين يجد الله تعالى في قلبه السلامة وحُسن النيَّة والإخلاص.

كما أنَّ حَسْبَ الفرد أن لا يشوب قلبه شكٌّ في ذات الله عزَّ وجلَّ، فهو يرى في كل أهدافه وأحكامه - والموجودات حوله - عدلاً لا يشوبه ظلم، وصدقاً لا يشوبه كذب، ومصلحةً لا يشوها مفسدة، وعلى هذا كان سلوكه في عصر التمحيص السابق على ذلك، فكيف لا يكون كذلك بعده؟!

____________________

(١) ٥ / ٥٤.

٣٥٠

كما أنَّ حَسْبَ الفرد أن يعرف الله حقَّ معرفته... أي كما ينبغي أن يُعرف، وكما هو أهل له، وأهمُّ فقرة في ذلك بعد الاعتقاد توحيده وعدله، هو الشعور بأهمِّية طاعته وعظمة شأنه، والانصياع النفسي والسلوكي الكامل لتنفيذ أوامره وتطبيق أهدافه... وأن يرى الفرد نفسه وكلَّ ما يملك شيئاً هيِّناً يسيراً تجاه عظمة الله العُلْيَا، ينبغي تقديمها بكل سرور في سبيله، كذلك تكون صفة هؤلاء المؤمنين.

ويترتَّب على هذا الإيمان أمران مُقترنان:

الأمر الأول: شجاعتهم الموصوفة في الأخبار، وسنتعرَّض لها في الجهة الآتية، فإنَّها الحقيقة شجاعة في تنفيذ أوامر الله وتطبيق أحكامه.

الأمر الثاني: عبادتهم الموصوفة في الأخبار، وتهجُّدهم في الأسحار... الأمران اللذان يُعبَّر عنهما في الروايات ( رُهبان في الليل ليوث في النهار ).

الجهة الرابعة: عبادتهم.

هم رهبان الليل، من خشية الله مُشفقون، فيهم رجال لا ينامون الليل، لهم دويٌّ في صلاتهم كدويِّ النحل، يبيتون قياماً على أطرافهم، ويُصبحون على خيولهم.

إنَّ العبادة - بمعناها الخاص - صفة واضحة الدلالة على الإيمان، وكلَّما ازداد الإيمان ازدادت العبادة، فالفرد من هؤلاء، لا يُبالي بتعب النهار والجُهد والجهاد الذي بذله فيه، ولن يمنعه ذلك من العبادة في الليل والتوجُّه إلى الربِّ العظيم بمزيد الصلاة والدعاء والتسبيح، واستمداد العون منه والنصر، إنَّه الربُّ العظيم الذي يستقطب جهود الفرد في الليل والنهار.

إلاَّ أنَّ العبادة على هذا الشكل، مُختصَّة ببعض أصحاب الإمام المهدي (ع)، وليست عامة لهم أجمعين: ( فيهم رجال لا ينامون... )، فإنَّ الفرد منهم لو خُلِّي وطبعه، لتهجَّد بالليل وتعبَّد، وقد كان على ذلك سلوكه قبل الظهور، قبل أن يُمارس الجهاد، ولكنَّه الآن يبذل الطاقة الكبيرة خلال الجهاد نهاراً، ويحتاج إلى تجديد طاقة أُخرى للغد، إذن؛ فينبغي أن يستريح في الليل بعض الشيء؛ ومن هنا لم يكن الكلُّ ليُقبلوا على عبادة الليل، بل كان ذلك صفة البعض منهم.

وإذاً؛ سوف نعرف في مستقبل هذا الفصل أنَّ الشجاعة ظاهرة عامة لكل الجيش المهدوي، ففي الإمكان أن نعرض هذه الأُطروحة بوضوح: أنَّ الخاصة المـُخلصين بالدرجة العُلْيَا، هم الذين يقومون بالجهاد والعبادة معاً... فهم رُهبان الليل وليوث

٣٥١

النهار، وأمَّا سائر الجيش فهم يقومون بالجهاد الواجب عليهم في الشريعة العادلة الكاملة، ومن أجل أتعابهم يتركون المـُستحبَّ وهو التهجُّد في الليل، ولا يُناسب تعبهم البدني ودرجة وعيهم الديني أن يجدوا النشاط الكافي للجمع بين العبادة والجهاد.

ومن هنا؛ ينقسم أصحاب الإمام المهدي (ع) إلى قسمين: مُتهجدين، وغير مُتهجدين.

كما انقسم أصحاب رسول الله (ص) كذلك، كما قال الله تعالى:( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ... ) (١) .

والذين مع النبي (ص) يومذاك، هم جماعة المسلمين قبل الهجرة، فلم يكونوا كلهم مُتهجِّدين، وإنَّما كان النبي (ص) مع طائفة منهم مُتهجِّداً... بالرغم من أنَّهم جميعاً كانوا على مستوى الشجاعة في تحمُّل أذى قريش واضطهادهم للمسلمين، كذلك سيكون الإمام المهدي (ع) مع طائفة من أصحابه مُتهجِّداً، بالرغم من أنَّهم جميعاً على مستوى الشجاعة في تحمُّل الجهاد وفتح العالم بالعدل، لا تأخذهم في الله لومة لائم.

الجهة الخامسة: شجاعتهم:

هم الركن الشديد الذين تمنَّاه لوط النبي (ع) ضدَّ الكفَّار والمـُنحرفين من قومه، قلوبهم كزُبر الحديد، وكالحجر، وإنَّ الواحد منهم أجرأ من ليثٍ وأمضى من سنان، ويُعطى قوَّة أربعين رجلاً، لو مرُّوا بالجبال لتكدكت يتمنّون أن يُقتلوا في سبيل الله.

إلى غير ذلك من الأوصاف، وقد تكرَّر الكثير منها في عدد من الروايات.

وزُبر الحديد، بضم الأول وفتح الثاني، جمع زبرة، وهي القطعة منه، قال الله تعالى:( ... آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ... ) (٢) ، أي قطع الحديد.

والتشبيه للقلب بقطع الحديد وبالحجز لمزيد التأكيد على عظمة الشجاعة والجرأة، وعدم تطرُّق الخوف والتلكُّؤ على القلب، أعني وجدان الإنسان وفكره.

____________________

(١) ٧٣/٢٠. (٢) ١٨/٩٦.

٣٥٢

وأوضح منه تشبيهه بالسيف وبالسنان، فإنَّه ليس فقط مثل هذه الجمادات في الأثر، بل هو أجرأ من ذلك، وأمضى في العمل والنشاط.

وأوضح منه قولهم (ع): أنَّه ( يُعطى الفرد منهم قوَّة أربعين رجلاً من غيرهم )، فأنَّه لا يراد بذلك التحديد بل التقريب... ويكون المؤدَّى أنَّ الأثر العملي الفعلي لنشاط الفرد من أصحاب الإمام المهدي (ع) يكون مُعادٍ للأثر الفعلي الناتج عن نشاط جماعة ضخمة من الرجال، مُتكوِّنة من أربعين فرداً على وجه التقريب.

وأعتقد أنَّنا ينبغي أن نفهم من الأربعين، مَن يتَّصف بالجرأة والشجاعة بالمقدار الاعتيادي، وإلاَّ فلا شكَّ أنَّ الفرد من أصحاب الإمام تزيد قيمته المعنوية على كل التافهين والمـُخنَّثين في العالم، وإن وصل عددهم إلى عشرات الملايين.

وبهذه الشجاعة النادرة وارتفاع المعنويات الضخم، يمكنهم القيام بالمسؤولية العالمية، من فتحه والمحافظة على عدله، وتغيير مجرى التاريخ تماماً، ويكتبون بأيديهم على كل ظلم وفساد سطور الخيبة والزوال.

وحصول التطوُّر في معنويات الفرد وأعماله - في ظروف مُعيَّنة - أمر واكبه علم النفس وأقرَّه، وذلك عند وجود المـُناسبات العامة الهامة، والمشاركات الجماعية المـُتحمِّسة لعمل من الأعمال، فإنَّه يمكن للفرد في مثل ذلك أن يقوم بأضعاف ما يستطيع عمله في أحوله الاعتيادية، ولا يحسُّ بالتعب، وأنَّه ليُعجَب ممَّا أنجزه حين يلتفت إلى ذلك بعد انتهائه، ومثاله: المظاهرة الصاخبة ضدَّ شخص أو مؤسَّسة أو شعار، فإنَّها تقوم بتحطيم كل ما يقع تحت يديها من أشياء وأشخاص بكل جرأة واندفاع.

وكذلك يمكن التمثُّل له إسلامياً بالحج، حيث نجد المؤمن مُنهمكاً في أداء شعائره بهمَّة وإخلاص، لا يشعر بالتعب خلاله، نعم، قد يشعر به بعد الانتهاء حين يوجد الرضى والراحة بأداء الواجب، وهي ظاهرة موصوفة من قِبل الكثير من الحجَّاج.

فإذا اقترن العمل بقابلية طبيعية للتحمُّس والاندفاع - كما في فترة الشباب -... كانت النتائج أكثر وضوحاً وأبعد أثراً، ولهذا وغيره، كان أغلب أنصار الإمام المهدي (ع) من الشباب.

فكيف، وهم يواجهون الحق بصراحة ويُدركونه بعُمق، ويؤمنون بقيادة القائد بإخلاص؟! فمن الطبيعي جدَّاً أن يكون للفرد منهم قوَّة جماعة ضخمة، ويكون لنشاطه الأثر

٣٥٣

الكبير الذي لا تكاد تُنتجه الجماعات.

ومن هنا نعرف أنَّ قوله: ويُعطى قوَّة أربعين رجلاً... يُراد به أنَّ الله تعالى يُعطيهم هذه القوَّة، لا بنحو الإعجاز، بل بالأسباب الطبيعية... لما عرفناه من أنَّ النفس الإنسانية قابلة لهذا التكامل والرُّقيِّ، تحت ظروف مُعيَّنة تحت التربية.

وهذه الشجاعة العُلْيَا، عامة لكل الجيش، بل تعمُّ كل المؤمنين، وكلُّهم من أفراد جيشه بشكل وآخر؛ ومن هنا نسمع الرواية تقول: ( فلا يبقى مؤمن إلاَّ صار قلبه أشدَّ من زُبر الحديد، وأعطاه الله عزَّ وجلَّ قوَّة أربعين رجلا ً)، وهذه الفقرة واضحة في شمول الشجاعة لكل الأفراد، مضافاً إلى عدم وجود الاستثناء في هذه الصفة في أيَّةِ رواية أُخرى.

إلاَّ أنَّنا - على أيِّ حال - نعلم أنَّ مثل هذه الشجاعة الإيمانية، تتناسب تناسباً طردياً مع زيادة الإيمان، فتزداد بزيادته وتنقص بنقيصته؛ لوضوح أنَّ الفرد كلَّما كان أشدَّ إيماناً بالهدف وأكثر إخلاصاً له، كلَّما ازداد جرأةً في عمله وتضحيةً على طريقه.

وبذلك نستطيع أن نحكم: أنَّ الخاصة من الإمام المهدي (ع) - وهم القادة والحكَّام - أشجع وأقوى إرادةً وأمضى عزيمةً من الآخرين، وإن كانوا هم والآخرون يُمثِّلون كل الأوصاف المذكورة في الروايات، وتنبسط عليهم خصائصها جميعاً.

ومعه؛ فالمفهوم أنَّ الخاصة يتَّصفون بصفات أعلى ممَّا هو مذكور في الروايات.

الجهة السادسة: في مقدار إطاعتهم لقائدهم المهدي (ع) وتطبيقهم لتعاليمه والاعتقاد ببركة وجوده.

وقد نصَّت على ذلك الرواية الأخيرة التي نقلناها عن البحار، وأشبعته إيضاحاً بالرغم من أنَّه أمر واضح في نفسه، فإنَّ كل إيمانهم الذي وصفناه في مركز الإمام المهدي (ع)، وكل شجاعتهم التي عرفناها مبذولة في سبيل طاعته؛ حتى إنَّهم وصِفوا بما وصِف به المهدي (ع) نفسه فقيل عنهم: إنَّهم (... إذا ساروا يسير الرعب أمامهم مسيرة شهر )، وهو ما وصِف به المهدي (ع) كما سيأتي.

كما قيل عنهم: إنَّهم (... لا يكفُّون سيوفهم حتى يرضى الله تعالى )، وهو ما وصِف به (ع) أيضاً، كما سيأتي.

وما ذلك إلاَّ لأنَّ فعلهم وفعله واحد، على نمط واحد وهدف واحد، كما تقول: فتح الأمير المدينة. وتقول: فتح الجيش المدينة، وأنت صادق في كلتا الجملتين. من حيث إنَّ التعاليم بيد القائد والتطبيق بيد الجيش.

٣٥٤

وقد نصَّت رواية البحار على أنهَّم: ( يتمسَّحون بسَرْج الإمام (ع) يطلبون بذلك البركة، ويحفُّون به، يقونه بأنفسهم في الحروب، ويكفونه ما يريد... هم أطوع له من الأَمَة لسيدها... ) الحديث.

وتمسُّحهم بسرج الإمام (ع)، معنى كنائي عن مدى حُبِّ أصحابه له (ع) وعلاقتهم به... إلى حدٍّ يرون أنَّ مُلامستهم للشيء الذي لامسته يد الإمام (ع) يتضمَّن معنى البركة، وهذا هو الشأن بين الأحبَّاء دائماً، إنَّ ملامستك لثوب مَن تُحبُّه أو للزهرة التي يُمسكها يُعطيك زخماً عاطفياً عالياً... ليس فقط ذلك، بل يشمل النظر أيضاً، وقديماً قال الشاعر: نَعَمْ وأرى الهلال كما تراه... فالنظر المـُشترك إلى الهلال يُعطيه الزخم العاطفي المطلوب.

وليس التمسُّح بالسرج، محمولاً على المعنى الحقيقي؛ إذ قد لا يركب المهدي (ع) بعد ظهوره فرساً على الإطلاق، وإنَّما يستعمل وسائط النقل وأسلحة الحرب المـُناسبة مع عصر ظهوره بطبيعة الحال، وهم ( يحفُّون به )، أي يُحيطون به ( يقونه بأنفسهم في الحروب )، أي يحمونه ويصونونه ويتحمَّلون الموت دونه، وقد كانت الإحاطة المـُباشرة بالقائد كافية في الحماية من الأسلحة في الحرب القديمة، التي كانت معروفة في عصر صدور النصِّ، وأمَّا الآن، فلا زالت الإحاطة موجبة للحماية من كثير من الأسلحة والاعتداءات، ويراد بها الإحاطة حال استعمال الأسلحة، كركوب الدبَّابات أو الطائرات، فإذا أحاطوا به برَّاً وبحراً وجوَّاً، كان في ذلك الحماية المطلوبة.

ويُحتمل أن يكون المراد من الرواية: أنَّ الوقاية نشاط مُستقلٌّ يقوم به أصحاب الإمام (ع) عن الإحاطة به، فهم يُحيطون به لأجل الاستفادة من علومه وتعاليمه.

وهم أيضاً يقونه بأنفسهم في الحروب، بمعنى أنَّهم يُقدِّمون أنفسهم فداءً بين يديه.

وأمَّا أنَّهم يكفونه ما يريد، فهو من كفاه الأمر، إذا قام به عنه. يُقال: كفى فلاناً مؤنته. إذا جعلها كافية له، أي قام بها دونه فأغناه عن القيام بها(١) .

فالمراد بيان إطاعتهم الكاملة وانقيادهم لتعاليم قائدهم، وتنفيذهم الأمور تحت ظلِّ

____________________

(١) انظر: أقرب الموارد،مادة كفى ج٢ ص١٠٩٥.

٣٥٥

قيادته. فهم ( أطوع له من الأَمَة لسيدها )، كيف لا، مع أنَّهم يرون به الإمام القائد نحو العدل الكامل والنفع البشري العام؟!

الجهة السابعة: شعارهم.

تعرَّضت هذه الروايات وغيرها إلى شعارهم، فيحسن بنا الآن أن نحمل عنه فكرة كافية... وإن كان استطراداً بالنسبة إلى موضوع هذا الفصل.

ذكرت رواية ابن طاووس في الفتن: أنَّ شعارهم: ( أمِتْ أمِتْ ). وذكرت رواية المجلسي في البحار: أنَّ ( شعارهم: يا لثارات الحسين (ع) ).

وأخرج ابن قولويه في كامل الزيارات(١) ، بإسناده عن مالك الجهني، عن أبي جعفر الباقر (ع)، قال: ( مَن زار الحسين (ع) يوم عاشوراء من المـُحرَّم... ) - إلى أن يقول: - قال: قلت: فكيف يُعزِّي بعضهم بعضاً؟

قال: ( يقولون: عظَّم الله أجورنا بمصابنا بالحسين (ع)، وجعلنا وإيَّاكم من الطالبين بثأره مع وليِّه الإمام المهدي من آل محمد (ص)... ) الحديث.

وتتضمَّن هذه الرواية نفسها الزيارة المعروفة بـ ( زيارة عاشوراء ) التي يُزار بها الحسين بن علي (ع)، والتي سمعنا الإمام المهدي (ع) في بعض الروايات التي نقلناها في التاريخ السابق(٢) يحثُّ على قراءتها حثَّاً شديداً. وتتضمَّن هذه الزيارة هذا الدعاء: ( فاسأل الله الذي أكرم مقامك أن يُكرمني بك، ويرزقني طلب ثأرك، مع إمام منصور من آل محمد (ص) ).

ويقول في موضع آخر منها: ( وأن يرزقني طلب ثأركم، مع إمام مهدي ناطق لكم )(٣) .

والشعار يمكن أن يراد به أحد معنيين:

المعنى الأول: اللفظ الذي يُنادى به في الحرب لأجل بثِّ روح الحماس والإقدام في الجنود، وهو المعنى الذي كان مفهوماً من اللفظ عند صدور الروايات، وقد كان رسول الله (ص)

____________________

(١) انظر ص ١٧٥. ونقلها في ( مفاتيح الجنان ص٤٥٤ وما بعدها ) عن الشيخ الطوسي.

(٢) تاريخ الغيبة الكبرى ص١٤٨.

(٣) انظر كامل الزيارات ص١٧٦-١٧٧ ومفاتيح الجنان ص٤٥٧-٤٥٧.

٣٥٦

يتَّخذ الشعار في حروبه، والمعروف المروي أنَّ شعار المسلمين يوم بدر:يا منصور أمِتْ (١) . ويوم بني الملوح:أمِتْ أمِتْ (٢) .

المعنى الثاني: اللفظ الذي يُصاغ للتثقيف الجماهيري، يُعبَّر عن مفهوم أو هدف مُعيَّن، وهو المعنى المفهوم في عصرنا الحاضر.

والشعار الوارد في هذه الروايات التي نقلناها، إنَّما يُراد بها المعنى الأول؛ لأنَّه المعنى الذي كان معروفاً في ذلك العصر، فأصحاب الإمام المهدي (ع) سيتَّخذون الشعار في الحرب مُشابهاً لشعار رسول الله (ص):أمِتْ أمِتْ.

أمَّا المـُطالبة بثأر الحسين (ع)، فرواية البحار تدلُّ على أنَّه شعار بالمعنى الأول، وتدلُّ الروايات التي بعدها أنَّه شعار بالمعنى الثاني، بمعنى أنَّه يكون هدفاً مُعلَناً ومفهوماً تثقيفياً... ولا تنافي بين المعنيين؛ إذ من المـُحتمَل استعمال هذا المفهوم على كلا الشكلين.

وعلى كلا الحالين؛ فاستعماله واضح؛ باعتبار أنَّ الإمام الحسين (ع) أشدَّ القادة الإسلاميين مظلومية في الضمير المسلم، بإجماع الأُمَّة المسلمة بكل مذاهبها، فاتِّخاذ الثأر شعاراً انطلاقٌ من زاوية شديدة الأهمِّية من ناحية، ومُتسالم على صحَّتها بين المسلمين من ناحية أُخرى، وتحمل معنى وحدة الأهداف حركة الإمام الحسين وحركة الإمام المهدي (ع)، وهي مُحاولة إحقاق الحق وإزهاق الباطل.

هذا، وبعض هذه الروايات، صحيحة من حيث السند، فتكون قابلة للإثبات التاريخي، في حدود منهجنا في هذا التاريخ.

الضمان الرابع: المـُميِّزات الخاصة بالإمام المهدي (ع).

من حُسن قيادته وشجاعته، واطِّلاعه على قوانين التاريخ، وغير ذلك ممَّا أنتجه التخطيط الإلهي ودلَّت عليه الأخبار، فتكون هذه المؤهَّلات بمجموعها من أكبر الضمانات لانتصار حركته ونجاح ثورته، وبالتالي في تحقيق الهدف الإلهي الأعلى لوجوده.

وينبغي أن ينفتح الحديث عن ذلك في عدَّة جهات:

الجهة الأُولى: في مُميِّزات الإمام المهدي (ع)، كما يُنتجه التخطيط العام السابق

____________________

(١) انظر: وسائل الشيعة للشيخ الحُرِّ العاملي كتاب الجهاد، باب استحباب اتِّخاذ المسلمين شعاراً ج٢ ص٤٨٧.

(٢) المصدر والصفحة.

٣٥٧

على الظهور.

وهذا ما لا ينبغي أن نُطيل الحديث عنه، بعد كل الذي قلناه في التاريخ السابق وهذا التاريخ، من أثر الغيبة الكبرى وطول مُعاصرة الإمام المهدي (ع) للمجتمع البشري وحوادثه، واحتكاكه بالأُمَّة الإسلامية والبشرية عموماً، واستشعار لآلامها وآمالها، وعمله في سبيل مصالحها... أثره على تطوُّر هذا الإمام القائد، وتكامله من درجة العصمة إلى ما هو أعلى منها وأعمق بمراتب؛ فإنَّ الكمال غير مُتناهي الدرجات، ويمكن للفرد أن يصعد في درجاته ما شاء له ربُّه وعمله. وقد برهنَّا على ذلك في تاريخ الغيبة الكبرى(١) .

ويَنْتجُ من هذا التكامل التعمُّقُ في قابليَّته للقيادة العالمية ودقتَّها، بحيث يمكنه التوصُّل إلى النتائج المطلوبة بشكل أسهل وأسرع وأوسع، ويتمثَّل هذا التكامل في خطوات نذكر أهمَّها:

الخطوة الأُولى:

قدرته الضخمة على تحمَّل الألم في سبيل الهدف، مهما تعاظم الألم وتعدَّدت التضحيات، بل إنَّه ليجده برداً وسلاماً وسعادةً، إذا كان فيه نصر دينه وتحقيق هدفه وإرضاء ربِّه.

الخطوة الثانية: قوَّة إرادته وارتفاع معنويَّاته، بشكل لا نظير له في التاريخ... مهما بعُد الهدف وتعقَّدت الوسيلة.

الخطوة الثالثة: اطِّلاعه على قوانين مُعيَّنة للتاريخ والمجتمع وللنفس البشرية، بشكل يفسح له فرصة التصرُّف في المجتمعات وسير التاريخ، بطرق لم يسبق لأحد أن اطَّلع عليها.

فهذا وغيره، يصنع منه القائد العظيم الذي يُمكنه فتح الكرة الأرضية برمَّتها، وتنفيذ الغرض الإلهي الأقصى فيها.

الجهة الثانية: في مُميِّزاته الشخصية - كما دلَّت عليه الأخبار - لنرى مقدار موافقتها لنتائج التخطيط العام التي عرفناها.

والأخبار التي نريد التعرُّض إليها عن هذه الجهة على ثلاثة أنواع: من حيث إنَّه تدلُّ (أولاً) على مقدار عمره الظاهري عند ظهوره.

وتدلُّ (ثانياً) على صفاته الجسمية.

وتدلُّ (ثالثاً) على شجاعته وارتفاع معنويَّاته.

____________________

(١) ص٥٠٤ وما بعدها.

٣٥٨

النوع الأول: الأخبار الدالَّة على مقدار عمره الظاهري عند ظهوره، مع العلم أنَّ عمره الواقعي، بالفهم الإمامي للفكرة المهدوية، وأكثر من ذلك بكثير.

أخرج ابن الصبَّاغ في الفصول المـُهمَّة(١) ، عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله (ص) - في حديث -: ( المهدي من ولْدي ابن أربعين سنة... ) الحديث.

وأخرج السفاريني في لوائح الأنوار البهية(٢) ، عن أبي أمامة مرفوعاً:( المهدي من ولْدي ابن أربعين سنة... ) الحديث.

وأخرج السيوطي في الحاوي(٣) ، عن نعيم بن حمَّاد، عن عبد الله بن الحارث، قال:( يخرج المهدي وهو ابن أربعين سنة... ) الحديث.

وأخرج عنه عن محمد بن حمير - في حديث عن المهدي (ع) - قال:( يجيء من الحجاز حتى يستوي على منبر دمشق، وهو ابن ثمان عشرة سنة ) .

وأخرج عنه أيضاً، عن علي بن أبي طالب – في حديث عن المهدي (ع) – قال: ( يُبعث وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين ).

وأخرج الصدوق في إكمال الدين(٤) ، بسنده إلى أبي الصلت الهروي قال: قلت للرضا (ع): ما علامة القائم (ع) منكم إذا خرج؟

قال: ( علامته أن يكون شيخ المـُسنُّ شابَّ المَنْظر، حتى إنَّ الناظر إليه ليحسبه ابن أربعين سنة أو دونها، وإنَّ من علاماته أن لا يهرم بمرور الأيَّام والليالي حتى يأتيه أجله ).

وأخرج النعماني في الغيبة(٥) ، بإسناده عن علي بن أبي حمزة عن أبي عبد الله (ع)، أنَّه قال:

____________________

(١) الفصول المـُهمَّة ص٢١٧.

(٢) ص ٧٠ ج٢.

(٣) الحاوي ج٢ ص١٤٧ وكذلك الخبرين اللذين بعده.

(٤) المصدر المخطوط.

(٥) ص٩٩ وكذلك الخبر الذي بعده.

٣٥٩

( لو قام القائم لأنكره الناس؛ لأنَّه يرجع إليهم شابَّاً موفَّقاً ).

وفي غير هذا الرواية، أنَّه قال (ع):

( وإنَّ من أعظم البليَّة أن يخرج إليهم صاحبهم شابَّاً، وهم يحسبونه شيخاً كبيراً ).

وأخرج أيضاً بإسناده عن علي بن عمر بن الحسين، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد (ع) أنَّه قال: - في حديث عن المهدي (ع) - ( ويظهر في صورة شابٍّ موفَّق ابن اثني وثلاثين سنة، حتى ترجع طائفة من الناس... ) الحديث.

وأخرجه الشيخ في الغيبة(١) ، إلاَّ أنَّه قال: ( ابن ثلاثين سنة ).

وقال الشيخ أيضاً(٢) : روي عن أبي جعفر ( ع) أنَّه قال: ( ليس صاحب هذا الأمر من جاز الأربعين، صاحب هذا الأمر القويُّ المـُشمِّر ).

وأخرج(٣) بإسناده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع) أنَّه قال: ( لو خرج القائم لقد أنكره الناس، يرجع إليهم شابَّاً موفَّقاً، فلا يثبت عليه إلاَّ كل مؤمن أخذ الله ميثاقه... ) الحديث.

وأخرج الطبرسي في إعلام الورى(٤) : ومما جاء عن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) - في حديث يذكر فيه المهدي (ع) إلى أن يقول -: ( التاسع من ولْد أخي الحسين، ابن سيِّدة الإماء، يُطيل الله عمره في غيبته، ثمَّ يُظهره بقدرته في صورة شابٍّ دون أربعين سنة، ذلك ليعلم أنَّ الله على كل شيء قدير ).

ونقل ابن طاووس، عن زكريا في كتاب الفتن، بإسناده عن كعب، عن النبي (ص) قال:

____________________

(١) ص٢٥٩.

(٢) ص٢٥٨.

(٣) ص٢٥٩.

(٤) ص٤٠١.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679