موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)8%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 679

الجزء ١ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 212500 / تحميل: 11107
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

يكون من العسير تشخيصها ، إلّا المؤمنين المتوكّلين على الله والمشمولين برحمته وحمايته :( إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (1) .

ولا بدّ من الانتباه إلى أنّ كلمة الشيطان تستبطن التمرّد والعناد والبعد عن كلّ خير وبركة. إلّا أنّ ذكر كلمة «مريد» (الفاقد لكلّ خير وسعادة) بعد كلمة الشيطان مباشرة ، هو تأكيد لتوضيح مصير من يتّبعه.

4 ـ تفسير عبارة( كُتِبَ عَلَيْهِ ) (2) .

واضح أنّ هذه العبارة تعني «الإلزام» ، سواء كانت في عالم الخلق أم في عالم التشريع. إلّا أنّه يجب أن لا نتصوّر أنّها تعني «الجبر» وأنّ الشياطين مجبورون على إضلال أتباعهم ليرسلوهم إلى دار البوار. بل إنّها نتيجة مؤكّدة لبرنامج اختاروه بمحض إرادتهم. فإبليس قائد الشياطين وكبيرهم خالف أمر الله وعنده بملء إرادته ، حتّى بلغت به الجرأة أن يعترض على ذات الله. فهو ضالّ ومضلّ وكذلك سائر الشياطين من الجنّ والإنس. وذلك كما نقول للمدمن على المخدرات : كتب على جبينه سوء الطالع والتعاسة ، فهل يعني ذلك جبرا؟!

* * *

__________________

(1) سورة الحجر ، 40.

(2) قال البعض : إنّ ضمير «عليه» يعود إلى الشيطان ، وقال آخرون : إنّه يعود إلى اتّباع الشيطان. كما يستنتج ذلك من عبارة «ومن الناس» أيضا ، إلّا أنّ ظاهره يؤكّد أنّه يعود إلى الشيطان ، لا سيّما وأنّ الضمير المتّصل بـ «من تولّاه» يعود إلى الشيطان أيضا.

٢٨١

الآيات

( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) )

التّفسير

دليل المعاد في عالم الأجنّة والنّبات :

بما أنّ البحث في الآيات السابقة كان يدور حول تشكيك المخالفين للمبدأ والمعاد ، فالآيات محل البحث طرحت دليلين منطقيين قويّين لإثبات المعاد

٢٨٢

الجسماني : أحدهما التغيّرات التي تحدث في مراحل تكوين الجنين ، والآخر هو التغيّرات التي تحدث في الأرض عند خروج النبات.

والقرآن شرح صورا للمعاد ممّا يلمسه الناس في هذه الدنيا ، ويرونه بامّ أعينهم ، إلّا أنّهم لم ينتبهوا لذلك ، ليعلموا أنّ الحياة بعد الموت ليست ضربا من الخيال ، بل هي حادثة فعلا مشهودة للعيان ، والخطاب القرآني يعمّ جميع الناس بنوره( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ) (1) كلّ ذلك من أجل أن نوضّح لكم حقيقة قدرتنا على القيام بأي عمل( لِنُبَيِّنَلَكُمْ ) .

فتبقى الأجنّة في الأرحام إلى مدّة معلومة نحن نحدّدها لتمرّ بمراحل تكاملها. ونسقط ما نريد منها فنخرجها من الأرحام في وسط الطريق قبل أن تكمل( وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) ثمّ تبدأ الأجنّة مرحلة تطوّر جديدة. لنخرجكم أطفالا من أرحام أمّهاتكم.

( ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ) وبهذا تنتهي مرحلة حياتكم المحدّدة في بطون أمّهاتكم.

فتضعون أقدامكم في محيط أوسع مملوء بالنور والصفاء ، وإمكانات واسعة جدّا ، إلّا أنّ تكاملكم يستمرّ في قطع المسافات بسرعة لتبلغوا الهدف ، ألا وهو الرّشد والكمال الجسمي والعقلي.( ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ) .

وهنا يتبدّل الجهل إلى علم ، والضعف إلى قوّة ، والتبعيّة إلى الاستقلال ، لكن مسيرة حياتكم تطوى وتستمر فبعضكم يودّع الحياة بينما يستمرّ آخرون حتّى المرحلة الأخيرة من الحياة ، أي مرحلة الشيخوخة بعد تكاملهم :( وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ) .

أجل ، فالمرء يصل إلى مرحلة لا يتذكّر فيها شيئا ، حيث يسيطر عليه النسيان ،

__________________

(1) «المضغة» مشتقة من «المضغ» وتعني مقدارا من اللحم يمكن للإنسان مضغه في لقمة واحدة. وهذا تشبيه رائع للجنين في المرحلة التي تعقب مرحلة العلقة.

٢٨٣

ويصبح في وضع وكأنّه طفل( لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً ) وهذا الضعف والخمول دليل على بلوغ المرء مرحلة انتقالية جديدة كما نجد ضعف التحام الثمرة بالشجرة حين تبلغ مرحلة النضج ممّا يدلّ على وصولها إلى مرحلة الانفصال.

وهذه التغيّرات المدهشة المتلاحقة التي تتحدّث عن قدرة الله تعالى غير المحدودة ، توضّح أنّ إحياء الموتى يسير على الله جلّت عظمته. وهناك بحوث تعرض لمراحل الحياة المختلفة هذه ، سنذكرها في الملاحظات القادمة.

ثمّ تتناول الآية بيان الدليل الثّاني أي حياة النباتات ، فتبيّن ما يلي : تنظر إلى الأرض في فصل الشتاء فتجدها جافّة وميتة ، فإذا سقط المطر وحلّ الربيع ، دبّت الحياة والحركة فيها ونبتت أنواع النباتات فيها ونمت( وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) (1) .

الآيتان اللاحقتان تشرحان ما توصّلنا إليه ، وذلك باستعراض خمس

* * *

ملاحظات

1 ـ إنّ ما استعرضته الآيات الخاصّة بالمراحل التي تسبق مراحل الحياة للإنسان وعالم النبات ، من أجل أن تعلموا أنّ الله تعالى حقّ( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ ) وبما أنّه هو الحقّ ، فالنظام الذي خلقه حقّ أيضا ، لهذا لا يمكن أن يكون

__________________

«الهامدة» تعني في الأصل النّار التي أطفئت ، ويطلق على الأرض التي جفّت نباتاتها وأصبحت دون حركة «مفردات الراغب الاصفهاني» والبعض الآخر قال : إنّ كلمة «هامدة» تطلق على الحدّ الفاصل بين الموت والحياة (تفسير في ظلال القرآن).

«اهتزّت» مشقّة من «الهزّ» وتعني تحرّكت بشدّة.

«ربت» مشقّة من «الربو». وتعني الزيادة والنمو ، كما أنّ كلمة «ربا» مشتقّة أيضا من «الربو».

«بهيج» تعني الجميل السّاحر السارّ.

٢٨٤

هذا الخلق دون هدف ، كما يذكر القرآن الكريم هذا المعنى في مورد آخر :( وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) (1) .

وبما أنّ هذه الحياة ليست عبثا ، وأنّ لها هدفا ، وأنّنا لا نصل إلى تحقيق ذلك الهدف في حياتنا ، إذن نعلم من ذلك وجود المعاد والبعث حتما.

2 ـ إنّ هذا النظام الذي يسيطر على عالم الحياة يقول لنا( وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى ) .

إنّ الذي يلبس الأرض لباس الحياة ، ويغيّر النطفة التافهة إلى إنسان كامل ، ويمنح الحياة للأرض الميتة ، لقادر على أن يمنح الحياة للموتى ، فهل يمكن التردّد في قبول فكرة المعاد مع وجود كلّ هذه التشكيلات الحيّة الدائمة للخالق جلّ وعلا في هذا العالم(2) ؟

3 ـ الهدف الآخر هو أن نعلم( وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ولا يستحيل على قدرته شيء.

هل يمكن لأحد تحويل الأرض الميتة إلى نطفة؟ ويطوّر هذه النطفة التافهة في مراحل الحياة؟ ويلبسها كلّ يوم لباسا جديدا من الحياة! ويجعل الأرض الجافّة العديمة الروح خضراء زاهية تعلوها بهجة الحياة؟! أليس القادر على القيام بهذه الأعمال بقادر على أن يحيي الإنسان بعد موته؟!

4 ـ إنّ كلّ هذا لتعلموا أنّ ساعة نهاية هذا العالم وبداية عالم آخر ، ستحلّ بلا شكّ فيها( وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها ) .

5 ـ ثمّ إنّ كلّ هذا مقدّمة لنتيجة أخيرة هي( وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) .

__________________

(1) سورة ص ، 27.

(2) يرى بعض المفسّرين في عبارة( أَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى ) إشارة إلى حياة الناس في القيامة. مع أنّ هذا المعنى تضمّنته عبارة( وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) أيضا ، مع فارق هو أنّ العبارة الأولى إشارة إلى أصل الحياة ، والثّانية إشارة إلى كيفية إحياء الموتى.

إلّا أنّ التّفسير الآخر الذي استندنا إليه بصورة أكثر ، هو أنّ عبارة ( أَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى ) إشارة إلى منح الله الحياة بشكل مستمر في هذه الدنيا ، ليكون دليلا على إمكان تحقّق ذلك يوم البعث.

٢٨٥

وهذه النتائج الخمس بعضها مقدّمة ، وبعضها ذو المقدّمة ، البعض منها إشارة إلى الإمكان ، والآخر إشارة إلى الوقوع ، ومترتّبة بعضها على بعض وكلّ يكمل صاحبه ، وجميعها ينتهي إلى نقطة واحدة ، هي أنّ البعث ليس ممكن فحسب ، بل إنّه سيقع حتما.

فالذين يشكّون في إمكان الحياة بعد الموت يشاهدون الصور المشابهة لها في حياة البشر والنباتات بامّ أعينهم. وهي تتكرّر كلّ يوم وكلّ عام.

وإذا شكّوا في قدرة الله فإنّ قدرة الله جعلتهم يشاهدون أمثلة بارزة لها بأعينهم. ألم يخلق الإنسان من تراب؟ ألا نشاهد كلّ عام احياء الأرض الميتة؟

فهل عجيب أمر حياة الأموات ثانية ونهوضهم من تراب؟

وإن شكّوا في وقوع مثل هذه الأمور ، فعليهم أن يعلموا أنّ النظام المسيطر على الخلق في العالم يدلّ على وجود هدف له ، وإلّا فإنّه باطل تافه ، والحياة القصيرة المملوءة بالآلام وخيبة الآمال غير جديرة بأن تكون هي الهدف الأخير لعالم الخلق.

وعلى هذا يجب أن يكون هناك عالم آخر ، وسيع ، خالد ، جدير بأن يعدّ هدفها للخلق.

* * *

بحوث

1 ـ مراحل حياة الإنسان السبع

الآيات السابقة شرحت حركة الإنسان في مسيرة ذات مراحل سبع ، لتبيّن البعث وتثبت إمكانه :

المرحلة الأولى : عند ما كان الإنسان ترابا ، وقد يراد به التراب الذي خلق منه آدمعليه‌السلام . كما قد يكون إشارة إلى أنّ جميع البشر ـ من تراب ، لأنّ جميع المواد

٢٨٦

الغذائية التي تكوّن النطفة وغذاءها ـ من بعد ـ من تراب. ولا شكّ في أنّ الماء يشكّل جزءا ملحوظا من جسم الإنسان ، والجزء الآخر من الأوكسجين والكاربون ، وليس من التراب ، إلّا أنّ العنصر الأساس الذي تتشكّل منه أعضاء الجسم مصدره التراب. إذن عبارة خلق الإنسان من تراب صحيحة حتما.

المرحلة الثّانية : (النطفة) : يتحوّل التراب ، هذا الموجود البسيط المهمل العديم الحسّ والحركة ، يتحوّل إلى نطفة تتألّف من أحياء مجهولة مثيرة تسمّى عند الرجل «أسپر» أو الحيمن وعند المرأة «أوول» أو البويضة وهي غاية في الصغر حتّى أنّها تبلغ الملايين في نطفة الرجل!

والمثير أنّ الإنسان يواصل عقب ولادته حركة تدريجيّة هادئة ، تأخذ في الغالب شكل «التكامل الكمّي» في الوقت الذي كانت حركته في الرحم «كيفيّة» ترافقها طفرات سريعة مغيّرة. والتغيّرات المتعاقبة للجنين في الرحم مدهشة إلى درجة يمكن تشبيهها بحشرة صغيرة بسيطة تتطوّر بعد أشهر قليلة إلى طائرة نفّاثة!

وقد تطوّرت وتوسّعت الدراسات عن «علم الأجنة» اليوم بحيث تمكّن علماؤه من دراسة الجنين في مراحله المختلفة ، وكشفوا عن أسرار هذه الظاهرة العجيبة في عالم الوجود. وعرضوا النتائج الباهرة التي توصّلوا إليها في دراساتهم عن الجنين.

وفي المرحلة الثّالثة يصبح الجنين علقة ، وتكون خلاياه كحبّات التوت ، بشكل قطعة دم خاثر متلاصقة ، يطلق عليها علميّا «مورولا». وبعد مضي مدّة قصيرة تظهر أخاديد التقسيم الصغيرة كبداية لتقسيم أجزاء الجنين ، ويطلق على الجنين في هذه المرحلة اسم «لاستولا».

وفي المرحلة الرّابعة يتّخذ الجنين شكل قطعة لحم ممضوغ ، دون أن تتّضح معالم الأعضاء فيه ، وفجأة تحدث تغييرات في قشرة «الجنين» وتتّخذ شكلا يلائم العمل المطلوب منه القيام به ، فتظهر أعضاء الجسم تدريجيّا ، ويسقط كلّ جنين

٢٨٧

لا يمكنه المرور بهذه المرحلة ، ويمكن أن تكون عبارة( مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ) إشارة إلى هذه المرحلة ، أي أنّ الجنين يكون «كامل الخلقة» أو «ناقص الخلقة».

ومن المثير أنّ القرآن المجيد ذكر عبارة( لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ) بعد ذكر هذه المراحل الأربع ، مؤكّدا أنّ هذه التغييرات السريعة المدهشة التي تغيّر قطرة ماء صغيرة إلى إنسان كامل ، لدليل واضح على أنّ الله قادر على كلّ شيء.

ثمّ أشار القرآن الكريم إلى مرحلة الجنين الخامسة والسّادسة والسّابعة ، التي تلي الولادة أي «الطفولة» و «البلوغ» و «الشّيخوخة»(1) .

والجدير بالذكر أنّ ولادة الإنسان ـ من التراب ـ كائنا حيّا ، قفزة كبيرة ، ومراحل الجنين المختلفة قفزات متعاقبة ، وولادة الإنسان من بطن أمّه قفزة مهمّة جدّا ، وهكذا البلوغ والشيخوخة.

وتعبير القرآن عن يوم القيامة بالبعث ، قد يكون إشارة إلى مفهوم القفزة ذاتها التي تحدث يوم البعث أيضا. وما أجدرنا بالانتباه إلى أنّ القرآن تحدّث عن مراحل تكوّن الجنين قبل أن يظهر علم الأجنّة ، وحديثه عنها في ذلك الزمن دليل حيّ على أنّ هذا الكتاب العظيم إنّما هو وحي يوحى من قدرة قادرة هي التي أبدعت الطبيعة وما وراءها.

2 ـ المعاد الجسماني

ممّا لا شكّ فيه أنّ القرآن الكريم أينما تحدث عن البعث قصد بعث الإنسان جسما وروحا في العالم الأخروي ، والذين حصروا البعث في الروح وقالوا ببقائها هي وحدها لم يفقهوا آيات القرآن قطّ.

__________________

(1) الذي يثير الانتباه أنّ تعبير القرآن( ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ) عن ولادة الإنسان لم يرد بصيغة الجمع (أطفال) وفقا للقاعدة ، إلّا أنّ هذا التعبير (طفلا) يمكن أن يكون مصدرا يتساوى فيه المفرد والجمع ، أو أن يكون الهدف بيان النوع. وليس خصائص الأطفال ، فالفروق بين البشر في هذه المرحلة مخفية تبرز في المراحل اللاحقة.

٢٨٨

فهذه الآيات المباركة كالآية السابقة تصرّح بالمعاد الجسماني. وإلّا فما هو وجه التشابه بين المعاد الروحي ، ومراحل الجنين وإحياء الأرض الموات بنمو النباتات؟ ويؤكّد ذلك ختام الآيات التي نحن بصددها إذ تقول :( وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) والقبر موضع جسم الإنسان وليس روحه.

وأساسا فانّ تعجّب المشركين إنّما هو من البعث الجسماني ، فهم يقولون : كيف يمكن للإنسان أن يعود للحياة ثانية بعد ما صار ترابا؟ وبقاء الروح لم يكن شيئا عجبا ، لأنّه كان موضع قبول ورضى الأقوام الجاهلية.

3 ـ ما هو «أرذل العمر»؟

«الأرذل» مشتقّة من «رذل» أي المنحطّ وغير المرغوب فيه. ويقصد بـ «أرذل العمر» تلك المرحلة من عمر الإنسان التي هي أكثر انحطاطا وغير مرغوب فيها لما يفقده فيها الإنسان من القوّة والذاكرة ، ولما يغلبه فيها من الضعف والانفعال ، حتّى تراه يغتاظ من أدنى شيء ، ويرضى ويفرح لا يسر شيء ، ويفقد سعة صدره وصبره ، وربّما قام بحركات طفولية. مع فارق بينه وبين الطفل وهو أنّ الناس لا يتوقّعون منه ذلك ، لأنّه ليس طفلا ، مضافا إلى أنّ الطفل يؤمل في أن يكبر وينضج جسديّا ونفسيّا وتزول عنه هذه الحركات الصبيانية ، لهذا يتركوا أحرارا في ممارستها ، وليس كذلك في الفرد المسنّ ، أي أنّ الطفل ليس لديه شيء ليفقده ، ولكن المسنّ يفقد رأس مال حياته بذلك. وعلى هذا فإنّ وضع الشيوخ المعمّرين يثير الشفقة والأسى عند مقارنته بوضع الأطفال.

وجاء في بعض الأحاديث أنّ أرذل العمر هو الذي يبلغ مائة عام وأكثر(1) وقد تعني هذه العبارة نوع الأشخاص ، وإلّا فهناك من يبلغ هذه الحالة وسنّهم أقل من

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، المجلّد الثّالث ، الصفحة 472.

٢٨٩

مائة عام. كما أنّ هناك أشخاصا تجاوزت أعمارهم مائة عام وهم بكامل وعيهم وذكائهم. وتندر مشاهدة من يصابون بهذه الحالة بين العلماء الذين شغلتهم المعارف والبحوث.

وما أولانا بدعاء الله تعالى أن يحفظنا من هذه الحالة! وما أجدرنا أن ننهي غرورنا وغفلتنا بمجرد الفكر بهذه العاقبة! علينا أن نفكّر ماذا كنّا وعلى ماذا أصبحنا وماذا سنكون؟

* * *

٢٩٠

الآيات

( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10) )

التّفسير

الجدال بالباطل مرّة أخرى :

تتحدّث هذه الآيات أيضا عمّن يجادلون في المبدأ والمعاد جدالا خاويا لا أساس له ، في البداية يقول القرآن المجيد :( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ ) .

وعبارة( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) هي ذاتها التي ذكرت في آية سابقة ، وإعادتها تبيّن لنا أنّ العبارة الأولى إشارة إلى مجموعة من الناس ، والثّانية إلى مجموعة أخرى. وبعض المفسّرين يرى أنّ الفرق بين هاتين المجموعتين من الناس هو أنّ الآية السابقة الذكر دالّة على وضع الأتباع الضالّين الغافلين ، في

٢٩١

وقت تكون فيه هذه الآية دالّة على قادة هذه المجموعة الضالّة(1) .

وعبارة( لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ) تبيّن هدف هذه المجموعة ، ألّا وهو تضليل الآخرين ، وهذا دليل واضح على الفرق بينهما ، مثلما توضّح هذا المعنى عبارة( يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ ) في الآيات السابقة التي تتحدّث عن اتّباع الشياطين.

ولكن ما الفرق بين «العلم» و «الهدى» و «الكتاب المنير»؟

للمفسّرين آراء في هذا المجال أقربها إلى العقل هو أنّ «العلم» إشارة إلى الاستدلال العقلي. و «الهدى» إشارة إلى إرشاد القادة الرّبانيين. و «الكتاب المنير» إشارة إلى الكتب السماويّة ، أي أنّها تعني الأدلّة الثلاثة المعروفة «الكتاب» و «السنّة» و «الدليل العقلي». وأمّا الإجماع فإنّه يعود إلى السنّة طبقا لدراسات العلماء ، وقد جمعت هذه الأدلّة الأربعة في هذه العبارة أيضا.

ويحتمل بعض المفسّرين أنّ «الهدى» إشارة إلى الإرشادات المعنوية التي يكتسبها الإنسان في ظلّ بناء الذات وتهذيب النفس وتقواه. «وبالطبع يمكن ضمّ هذا المعنى إلى ما تقدّم آنفا».

ويمكن أن يكون الجدال العلمي مثمرا إذا استند إلى أحد الأدلّة : العقل ، أو الكتاب ، أو السنّة.

ثمّ يتطرّق القرآن المجيد في جملة قصيرة عميقة المعنى إلى أحد أسباب ضلال هؤلاء القادة ، فيقول :( ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) إنّهم يريدون أن يضلّوا الناس عن سبيل الله بغرورهم وعدم اهتمامهم بكلام الله وبالأدلّة العقليّة الواضحة.

«ثاني» مشتقّة من «ثني» بمعنى التواء و «عطف» تعني «جانب» فالجملة تعني ثني الجانب ، أي الإعراض عن الشيء وعدم الاهتمام به.

__________________

(1) تفسير الميزان ، والتّفسير الكبير للفخر الرازي ، في تفسير الآيات موضع البحث.

٢٩٢

ويمكن أن تكون عبارة «ليضلّ» هدف هذا الإعراض ، أي إنّهم (قادة الضلال) يستخفّون بآيات الله والهداية الإلهيّة لتضليل الناس. ويمكن أن تكون نتيجة لذلك. أي أنّ محصّلة الإعراض وعدم الاهتمام هو صدّ الناس عن سبيل الحقّ. ويعقب القرآن ذلك ببيان عقابهم الشديد في الدنيا والآخرة بهذه الصورة :( لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ ) .

ونقول له :( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ ) و( أَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) لا يعاقب الله أحدا بلا ذنب ، ولا يضاعف عقاب أحد دون سبب ، فهو العدل المطلق سبحانه(1) .

وهذه الآية من الآيات التي تنفي مذهب الجبريّة ، وتثبت مبدأ العدالة في أفعال الله تعالى. (للمزيد من التفصيل راجع تفسير الآية (182) من سورة آل عمران).

* * *

__________________

(1) «ظلّام» صيغة مبالغة تعني كثير الظلم. وطبيعي أنّ الله لا يظلم أبدا لا كثيرا ولا قليلا ، ويمكن أن يكون استخدام هذا التعبير هنا إشارة إلى أنّ العقاب دون مبرّر من قبل الله تعالى ـ جلّ عن ذلك وعلا علوّا كبيرا ـ مصداق ظلم كبير.

٢٩٣

الآيات

( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14) )

التّفسير

الواقف على حافّة وادي الكفر

تحدّثت الآيات السابقة عن مجموعتين : الأتباع الضالّين ، والقادة المضلّين.

أمّا هذه الآيات ، فتتحدّث عن مجموعة ثالثة هم ضعاف الإيمان. قال القرآن المجيد عن هذه المجموعة :( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ ) أي إنّ بعض الناس يعبد الله بلقلقة لسان ، وإنّ إيمانه ضعيف جدّا. ولم يدخل الإيمان إلى قلبه.

٢٩٤

وعبارة «على حرف» ربّما تكون إشارة إلى أنّ إيمانهم باللسان فقط ، وأنّ قلوبهم لم تر بصيصا من نوره إلّا قليلا ، وقد تكون إشارة إلى أنّ هذه المجموعة تحيا على هامش الإيمان والإسلام وليس في عمقه ، فأحد معاني «الحرف» هو حافّة الجبل والأشياء الاخرى. والذي يقف على الحافّة لا يمكنه أن يستقرّ. فهو قلق في موقفه هذا ، يمكن أن يقع بهزّة خفيفة ، وهكذا ضعاف الإيمان الذين يفقدون إيمانهم بأدنى سبب.

ثمّ تناول القرآن الكريم عدم ثبات الإيمان لدى هؤلاء الأشخاص( فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ ) (1) إنّهم يطمئنون إذا ضحكت لهم الدنيا وغمرتهم بخيراتها! ويعتبرون ذلك دليلا على أحقّية الإسلام.

إلّا أنّهم يتغيّرون ويتّجهون إلى الكفر إن امتحنوا بالمشاكل والقلق والفقر ، فالدين والإيمان لديهم وسيلة للحصول على ما يبتغون في هذه الدنيا ، فإن تمّ ما يبغونه كان الدين حقّا ، وإلّا فلا.

وذكر «ابن عبّاس» ومفسّرون قدماء سبب نزول هذه الآية : «أنّها نزلت في أعراب كانوا يقدمون على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة مهاجرين من باديتهم ، فكان أحدهم إذا صحّ بها جسمه ونتجت فرسه مهرا حسنا. وولدت امرأته غلاما وكثر ماله وماشيته ، رضي به واطمأنّ إليه ، وإن أصابه وجع وولدت امرأته أنثى أو أجهضت فرسه أو ذهب ماله أو تأخّرت عنه الصدقة ، أتاه الشيطان وقال له : ما جاءتك هذه الشور إلّا بسبب هذا الدين. فينقلب عن دينه»(2) .

وممّا يلفت النظر أنّ القرآن الكريم يعبّر عن إقبال الدنيا على هؤلاء الأشخاص بالخير. وعن إدبارها بالفتنة (وسيلة الامتحان) ولم يطلق عليها كلمة

__________________

(1) كلمة «انقلب» في جملة «انقلب على وجهه» تعني التراجع. ويمكن أن تكون إشارة إلى ترك الإيمان تماما ، حتّى إنّه لا يعود إليه. فهو غريب عن الإيمان دوما.

(2) تفسير الفخر الرازي ، المجلّد الثّالث والعشرون ، ص 13 ، وتفسير القرطبي ، المجلّد السادس ، ص 4409.

٢٩٥

الشّر ، إشارة إلى أنّ هذه الأحداث غير المرتقبة ليست شرّا ولا سوءا وإنّما هي وسيلة للامتحان.

ويضيف القرآن المجيد في الختام ـ( خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ) و( ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ ) مؤكّدا أنّ أفدح الضرر وأفظع الخسران ، هو أن يفقد الإنسان دينه ودنياه. وهؤلاء الأشخاص الذين يقيسون الحقّ بإقبال الدنيا عليهم ينظرون إلى الدين وفق مصالحهم الخاصّة ، وهذه الفئة موجودة بكثرة في كلّ مجتمع ، وإيمانها مزيج بالشرك وعبادة الأصنام ، إلّا أنّ أصنامهم هي وأزواجهم وأبناؤهم وأموالهم ومواشيهم ، ومثل هذا الإيمان أضعف من بيت العنكبوت!

وهناك مفسّرون يرون أنّ هذه الآية تشير إلى المنافقين ، لكن إذا اعتبرنا أنّ المنافق هو من لا يملك ذرّة من الإيمان ، فإنّ ذلك يخالف ظاهر هذه الآية ، فعبارة «يعبد الله» و «اطمأنّ به» و «انقلب على وجهه» تبيّن أنّه ذو إيمان ضعيف قبل هذا.

أمّا إذا قصد بالمنافق من يملك قليلا من الإيمان ، فلا يعارض ما قلناه ، ويمكن قبوله.

وتشير الآية التالية إلى إعتقاد هذه الفئة الخليط بالشرك ، خاصة بعد الانحراف عن صراط التوحيد والإيمان بالله ، فتقول :( يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ) أي إذا كان هذا الإنسان يسعى إلى تحقيق مصالحه الماديّة والابتعاد عن الخسائر ويرى صحّة الدين في إقبال الدنيا عليه ، وبطلانه في إدبارها عنه. فلما ذا يتوجّه إلى أصنام لا يؤمّل منها خير ، ولا يخاف منها ضرر.

فهي أشياء لا فائدة فيها ، ولا أثر لها في مصير البشر؟! أجل( ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ) . إنّ هؤلاء ليبتعدون عن الصراط المستقيم بعدا حتّى لا ترجى عودتهم إلى الحقّ إلّا رجاء ضعيفا جدّا.

ويوسّع القرآن الكريم هذا المعنى فيقول :( يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ ) .

لأنّ هذا المعبود المختلق ينزل بفكرهم إلى الحضيض في هذه الدنيا ، ويدفعهم

٢٩٦

نحو الخرافات والجهل ، ويدعهم في الآخرة في نار جهنّم ، بل هم كما تقول الآية 98 من سورة الأنبياء :( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) .

وتضيف الآية في الختام( لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ) فما أسوأه ناصرا ومعينا ، وما أسوأه مؤنسا ومعاشرا.

وهنا يثار سؤال ، فالآية السابقة تنفي كلّ فائدة ونفع من هذه الأصنام وكلّ ضرر ، وهذه الآية تقول إنّ ضررها أقرب من نفعها! فكيف ينسجم الحكمان؟

في الجواب عن ذلك نقول : إنّ ذلك أمر اعتيادي في المخاطبة ، ففي مرحلة لا يعتبرون لشيء فائدة وتأثير يذكر ثمّ يترقّى إلى الحال في مرحلة أخرى فيعدّونه مصدر الضرر. كأن نقول : لا تصادق فلانا ، فلا نفع فيه لدينك ولا لدنياك.

وبعدها نتقدّم فنقول إنّما هو : (أي هذا الصديق) سبب لتعاستك وافتضاحك. وهنا تجد إضافة إلى كون الأصنام لا ضرر فيها لأعداء المشركين ، لأنّها غير قادرة على الإضرار بأعدائهم كما يتوقّعون منها ، ولكنّها تتضمّن ضررا حتميّا لأتباعها.

كما أنّ صيغة «أفعل التفضيل» في كلمة «أقرب» كما قلنا سابقا : تعني عدم اتّصاف طرفي المقارنة بصفة معينّة. وقد يكون الطرف الأضعف فاقدا لأيّة صفة ، كأن نقول : ساعة صبر عن الذنب خير من نار جهنّم (وليس معنى ذلك أنّ نار جهنّم فيها خير ، إلّا أنّ الصبر أفضل منها ،).

وقد اختار هذا الرأي عدد من كبار المفسّرين كالشيخ الطوسي في «التبيان» والطبرسي في «مجمع البيان».

واحتمل البعض كالفخر الرازي في تفسير الآية بأنّ كلّ واحدة من هاتين الآيتين إشارة إلى مجموعة من الأصنام ، فالآية الأولى تخصّ الأصنام الحجرية والخشبية ، وأمّا الآية الثّانية فتخصّ الطواغيت والبشر المتعالين أشباه الأصنام.

فالمجموعة الأولى لا تضرّ ولا تنفع ، بل هي بالتأكيد خالية من أيّة صفة. أمّا المجموعة الثّانية «أئمّة الضلال» فإنّهم يضرّون ولا ينفعون. وإذا كان فيهم خير

٢٩٧

قليل فضرّهم كبير جدّا ، وعبارة( لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ) تؤكّد ذلك ، وعليه فلا تناقض بين الآيتين(1) .

وختام الآية المباركة نلحظ مقارنة بين الخير والشرّ كما هو دأب القرآن الكريم لتتّضح النتائج بشكل أكبر ، فتقول الآية :( إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) . فعاقبتهم معلومة ومنهج تفكير هم وسلوكهم واضح فمولاهم هو الله تعالى ، ورفاقهم وجلساؤهم في الآخرة هم الأنبياء والصالحون والملائكة ، وأنّ الله سبحانه يثيب المؤمنين العاملين للصالحات ، جنّات تجري من تحتها الأنهار ، لينعموا بالسعادة والسرور جزاء استقامتهم على الحقّ واستجابتهم له في الحياة الدنيا( إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ ) .

وثوابهم يسير عليه ـ جلّ وعلا ـ يسر عقاب الذين ظلموا أنفسهم بإيثار الباطل على الحقّ ، وبعبادتهم الأصنام من دون الله سبحانه.

وفي هذه المقارنة نلاحظ طائفة من الناس لم يؤمنوا إلّا بلسانهم ، فهم على جانب من الدين وينحرفون بأدنى وسوسة ، وليس لهم عمل صالح ، أمّا المؤمنون الحقيقيّون فإيمانهم راسخ ولا تزعزعه العواطف ومثمر هذا من جهة ومن جهة أخرى فلئن كان مولى الخاسرين لا ينفع ولا يضرّ ، فإنّ مولى الصالحين على كلّ شيء قدير. ولئن خسر الظالمون كلّ شيء ، فقد ربح المهتدون خير الدنيا وسعادة الآخرة.

* * *

__________________

(1) بعض المفسّرين الأفاضل كمفسّر الميزان فسّر عبارة «يدعو» بمعنى «يقول» إلّا أنّ ذلك لا يطابق ظاهر الآية.

٢٩٨

الآيات

( مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) )

سبب النّزول

روى بعض المفسّرين حول سبب نزول الآية الأولى من هذه الآيات ، أنّها نزلت في نفر من أسد وغطفان قالوا : نخاف أنّ الله لا ينصر محمّدا ، فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا. فحذّرتهم هذه الآية ووبّختهم بشدّة.

وقال آخرون : إنّها نزلت في قوم من المسلمين لشدّة غيظهم وحنقهم على المشركين ، يستبطئون ما وعد الله رسوله من النصر ، فنزلت هذه الآية(1) تلومهم

__________________

(1) أبو الفتوح الرازي ، وكذلك الفخر الرازي في تفسير هما الآيات موضع البحث.

٢٩٩

على عدم صبرهم.

التّفسير

البعث نهاية جميع الخلافات :

بما أنّ الآيات السابقة كانت تتحدّث عن ضعفاء الإيمان ، فإنّ الآيات مورد البحث ترسم لنا صورة أخرى عن هؤلاء فتقول :( مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ ) .

أي من يظنّ أنّ الله لا ينصر نبيّه في الدنيا والآخرة ، وهو غارق في غضبه ، فليعمل ما يشاء ، وليشدّ هذا الشخص حبلا من سقف منزله ويعلّق نفسه حتّى ينقطع نفسه ويبلغ حافّة الموت ، فهل ينتهي غضبه؟!

لقد اختار هذا التّفسير عدد كبير من المفسّرين ، أو ذكروه كاحتمال يستحقّ الاهتمام به(1) .

الضمير في قوله سبحانه :( لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ ) بحسب هذا التّفسير يعود إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و «السّماء» تعني سقف المنزل (لأنّ كلّ شيء فوقنا يطلق عليه سماء). أمّا عبارة «ليقطع» فتعني قطع النفس والوصول إلى حافّة الموت.

واحتمل البعض احتمالات أخرى في تفسير هذه الآية لا حاجة لذكرها ، ما عدا تفسيرين منها يستحقّان الاهتمام ، وهما :

1 ـ إنّ السّماء يقصد بها السّماء الحقيقيّة ، وبناء على هذا الرأي : فإنّ الأشخاص الذين يظنّون أنّ الله لا ينصر نبيّه ، ليذهبوا إلى السّماء وليشدّوا بها حبلا ويعلّقوا أنفسهم بينها وبين الأرض حتّى تنقطع أنفسهم. (أو يقطعوا الحبل الذي تعلّقوا به كي يسقطوا) ولينظروا إلى أنفسهم هل انتهى غضبهم؟!

__________________

(1) تراجع تفاسير «مجمع البيان» و «التبيان» و «الميزان» و «الفخر الرازي» و «أبو الفتوح الرازي» و «تفسير الصافي» و «القرطبي» في تفسير الآية التي يدور حولها البحث.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

المهدي اسمه اسمي. ويخرج وهو ابن إحدى وخمسين... الحديث إلى غير ذلك من الروايات.

النوع الثاني: الأخبار الدالة على صفاته الجسمية عند ظهوره، وهي كثيرة ومتنوّعة، نذكر منها نماذج كافية:

أخرج أبو داود(١) بإسناده عن أبي سعيد الخدري، قال:

قال رسول الله (ص): ( المهدي منّي: أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما مُلئت ظلماً وجوراً... ) الحديث.

وأخرج ابن الصباغ في الفصول المهمّة(٢) عن أبي أُمامة الباهلي، قال:

قال رسول الله (ص) - في حديث عن المهدي (ع) -: ( كأنّ وجهه كوكب دُرّي، في خدّه الأيمن خالٌ أسود عليه عبايتان قطوانيتان، كأنّه من رجال بني إسرائيل... ) الحديث.

وأخرجه الكنجي في البيان(٣) .

وأخرج الكنجي أيضاً(٤) بإسناده عن عبد الرحمان بن عوف، قال: قال رسول الله: (ص):

( المهدي رجل من ولدي وجهه كالكوكب الدرّي، اللون لون عربي والجسم جسم إسرائيلي.. ) الحديث.

وأخرج أيضاً(٥) بإسناده عن عبد الرحمان بن عوف، قال: قال رسول الله (ص ):

( ليبعثنّ الله تعالى من عترتي رجلاً: أفرق الثنايا، أجلى الجبهة، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً... ) الحديث.

وفي حديث آخر عن علي بن أبي طاالب (ع) قال:

- في حديث عن المهدي (ع) -: ( كثّ اللحية، أكحل العينين، برّاق

____________________

(١) السنن ج٢ ص٤٢٢.

(٢) ص٣١٧.

(٣) ص٩٥.

(٤) ص٩٤.

(٥) ص٩٦، وكذلك الحديث الذي بعده.

٣٦١

الثنايا، في وجهه خال، أقنى، أجلى، في كتفه علامة النبي (ص)... ) الحديث.

وأخرجه السيوطي في الحاوي(١) .

وأخرج السيوطي أيضاً عن نعيم بن حماد بن محمد بن حمير، قال:

المهدي أزجّ، أبلج، أعين... الحديث.

وروى النعماني(٢) بإسناده عن سليمان بن هلال قال: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدّه، عن الحسين بن علي (ع)، قال:

( جاء رجل إلى أمير المؤمنين (ع) فقال له: يا أمير المؤمنين نبّئنا بمهديّكم هذا... إلى أن قال: وهو رجل جلي الجبين، أقنى الأنف، ضخم البطن، أذيل الفخذين، بفخذه اليمنى شامة، أفلج الثنايا. ويملأ الأرض عدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً ).

وروى بإسناده عن حمران بن أعين، قال: قلت لأبي جعفر الباقر (ع):

جُعلت فداك، إنّي قد دخلت المدينة وفي حقوي هميان فيه ألف دينار، وقد أعطيت الله عهداً أنني أنفقها بابك ديناراً ديناراً، أو تجيبني فيما أسألك عنه. فقال: يا حمران سَلْ تُجَب، ولا تبعض دنانيرك. فقلت سألتك بقرابتك من رسول الله (ص): أنت صاحب هذا الأمر والقائم به؟ قال: لا. قلت: فمَن هو؟ بأبي أنت وأُمّي. فقال: ذاك المشرب حمرة، الغائر العينين، المشرف الحاجبين، عريض ما بين المنكبين، برأسه حزاز (خراز) وبوجهه أثر، رحم الله موسى ).

وأخرج أيضاً(٣) بإسناده عن حمران بن أعين، قال: سألت أبا جعفر (ع):

فقلت له: أنت القائم؟ فقال: ( قد عرفت حيث تذهب ( بك المذاهب ) صاحبك المدمج ( البذخ ) البطن، ثم الخراز برأسه، ابن الأصلح، رحم الله فلاناً ).

____________________

(١) ج٢ ص١٤٧ وكذلك الذي بعده.

(٢) ص١١٤ وكذلك الذي بعده.

(٣) ص١١٥ وكذلك الخبر الذي بعده.

٣٦٢

وأخرج أيضاً بإسناده عن أبي بصير، قال، قال أبو جعفر(ع) أو أبو عبد الله (ع) - الشك من ابن عصام -: يا أبا محمد، بالقائم علامتان:

شامة في رأسه ودار الخراز برأسه، وشامة بين كتفيه من جانبه الأيسر تحت كتفه، ورقة مثل ورقة الآس. ابن سبيّة، وابن خيرة الإماء.

وأخرج(١) بإسناده عبد الرحيم القصير، قال: قلت لأبي جعفر (ع)، قول أمير المؤمنين (ع): بأبي ابن خيرة الإماء، أهي فاطمة (ع). فقال:

( إنّ فاطمة (ع) خيرة الحراير، ذاك المبذخ بطنه، المشرب حمرة، رحم الله فلاناً ).

وأخرج الشيخ في الغيبة(٢) والمفيد في الإرشاد(٣) بإسنادهما عن جابر الجعفي:

سمعت أبا جعفر (ع) يقول:

سأل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين (ع) فقال: أخبرني عن المهدي ما اسمه؟ فقال: ما اسمه. فإنّ حبيبي شهد ( لعلّها: عهد ) إليّ أن لا أُحدّث باسمه، حتى يبعثه الله. ( قال ): فأخبرني عن صفته؟ قال: هو شاب مربوع، حسن الوجه، حسن الشعر، يسيل شعره على منكبيه، ونور وجهه يعلو سواد لحيته ورأسه، بأبي ابن خيرة الإماء.

وأخرج الصدوق في إكمال الدين(٤) بإسناده عن زياد بن المنذر، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر، عن أبيه عن جدّه (ع)، قال: قال أمير المؤمنين (ع) وهو على المنبر:

( يخرج رجل من ولدي في آخر الزمان، أبيض اللون مشرب بحمرة مبذخ البطن، عريض الفخذين، عظيم مشاش المنكين، بظهره شامتان: شامة على لون جلده، وشامة على شبه شامة النبي (ص )... ) الحديث.

____________________

(١) ص١٢٠. (٢) ص٢٨١.

(٣) ص٣٤٢.

(٤) المصدر المخطوط.

٣٦٣

وأخرجه الرواندي(١) بلفظ متقارب.

إلى غير ذلك من الأخبار.

النوع الثالث: الأخبار الدالة على شجاعته وارتفاع معنوياته، وبعض صفاته ( الاجتماعية ) الأُخرى.

أخرج النعماني(٢) بسنده إلى سليمان بن هلال، قال: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدّه، عن الحسين بن علي (ع)، قال: ( جاء رجل إلى أمير المؤمنين (ع) فقال له: يا أمير المؤمنين، نبّئنا بمهديّكم هذا. فقال:

إذا درج الدارجون، وقلّ المؤمنون... إلى أن قال: لا يجبن إذا المنايا هلعت، ولا يجوز إذا المنون اكتنفت، ولا ينكل إذا الكمأة اصطرعت، مشمّر مغلولب، ظفر ضرغامه، حصد مخدش، ذكر، سيف من سيوف الله، رأس قيّم، يشق رأسه في باذخ السؤدد، وعازر مجده في أكرم مَحْتِد.

إلى أن قال: أوسعكم كهفاً، وأكثركم علماً، وأوصلكم رحماً.

اللّهمّ فاجعل بيعته خروجاً من الغمّة، واجمع به شمل الأُمّة. فإن خار الله لك فاعزم، ولا تنثن عنه إذا وُفّقت له، وتجزنّ عنه إن هُديت إليه. هاه، وأوما بيده إلى صدره شوقاً إلى رؤيته ).

وأخرج الطبرسي في أعلام الورى(٣) عن الريّان بن الصلت، قال: قلت للرضا (ع): أنت صاحب هذا الأمر؟ فقال:

( أنا صاحب هذا الأمر، ولكنّي لست بالذي أملؤها عدلاً كما مُلئت جوراً.

وكيف أكون كذلك على ما ترى من ضعف بدني، وأنّ القائم هو الذي إذا خرج كان في سنّ الشيوخ ومنظر الشبّان، قويّاً في بدنه حتى لو مدّ يده إلى أعظم شجرة على وجه الأرض لقلعها، ولو صاح بين الجبال لتكدكت صخورها ).

____________________

(١) الخرايج والجرايح ص١٩٥.

(٢) الغيبة ص ١١٣ وما بعدها.

(٣) ص ٤٠٧.

٣٦٤

إلى غير ذلك من الأخبار.

وهذه الأخبار ناطقة بمضامينها واضحة بمداليلها، فلا حاجة إلى تكرار ما فيها. كل ما في الأمر أنّنا نحتاج إلى أمرين:

أحدهما: تفسير بعض ألفاظها على المستوى اللغوي.

والثاني: محاولة تذليل صعوبة التعارض الواقع في بعضها. وهو ما سنذكره فيما يلي:

الجهة الثالثة: في شرح هذه الأخبار بأنواعها الثلاثة من الناحية اللغوية، سواء في التفسير اللغوي الصرف أو الإشارة إلى المراد من المجاز والكناية ونحوها؛ آخذين من الروايات التي ذكرناها، وعلى القارئ تطبيقه عليها.

قوله: يرجع إليهم شابّاً موفّقاً... يفهم من تلك الإشارة إلى حقيقة معيّنة هي:

أنّ العمر الذي يستطيع الشاب أن يقضيه في الحياة يكون طويلاً عادةً، ومن هنا يكون مستقبله منفتحاً والأمل فيه عريضاً... وهو معنى التوفيق المشار إليه. وهو معنى يفقده المتقدّم في السن؛ لأنّ مستقبله يكون بارداً والأمل فيه قصيراً، كما هو معلوم.

قوله: صاحب هذا الأمر القوي المشمّر... من شمّر عن ساعديه فهو مشمّر.

وإنّما يشمّر الإنسان عادةً للعمل، وهو مَن يكون قويّاً على إنجازه رحب الصدر بالنسبة إليه، وهذه الصفة تكون في فترة الشباب عادة.

( أجلى الجبهة ) مَن يكون عالي الجبهة واسعها.

( أقنى الأنف ).... قنى الأنف يقني إذا ارتفع وسط قصبته وضاق منخزاه.

( كأن وجهه كوكب درّي ).... تعبير مجازي عن الهيبة والبهاء.

( وكأنّه من رجال بني إسرائيل....والجسم جسم اسرائيلي ).... إشارة إلى ضخامة الجسم و تناسق أعضائه. ومن الواضح أنّ سحنته ليست إسرائيلية؛ لأنّه ليس من نسلهم بالضرورة.

( اللون لون عربي ) يعني في السمرة.

( أفرق الثنايا )... مفلّج الأسنان...متباعد ما بينها.

( أكحل العينين ).... يفهم منه سواد الأهداب.. الذي هو العمل الأساسي للكحل.

( برّاق الثنايا ).... أبيض الأسنان.

٣٦٥

( أزجّ الحاجبين )... يقال: زجّج حاجبيه إذا دققهما وطولهما.

( جلي الجبين، أو أجلى الجبين ) الجلي هو الظاهر والواضح، والأجلى تفضيل في هذه الصفة. والجبين: ناحية الجبهة من محاذاة النزعة إلى الصدغ.

( أذيل الفخذين ): يقال: ذالت المرأة أو الناقة، إذا هزلت. فيكون المراد دقّة فخذيه وهزالهما. فيعارض ما في رواية أُخرى من أنّه ( عظيم الفخذين ) ويقال: ذيّل ثوبه إذا طوله. فيكون المراد أنّه طويل الفخذين، وإن كان عريضهما أيضاً، وبهذا التفسير يرتفع التعارض. وفسّره في ( الإشاعة )(١) بكونه منفرج الفخذين متباعدهما. ولم نجد له سنداً في اللغة.

( الغائر العينين، المشرف الحاجبين ) بمعنى أنّ عينه داخلة وحاجباه خارجتان. والعادة في مثل ذلك أن يكون الحاجبان عريضان. فيكون معارضاً - إلى حدٍّ ما - مع ما دلّ على كونه أزجّ الحاجبين دقيقهما. إلاّ أنّ الأمر ليس ضروري الثبوت؛ لإمكان أن يكون خارج الحاجبين ودقيقهما.

( برأسه حزاز أو خراز أو داء الخراز ) على اختلاف النقول. والحزاز بمهملة مفتوحة ومنقوطتان: الهبرية في الرأس كأنّه نخالة(٢) ، وهو قشرة الرأس التي تسقط عند الحك.

عند مَن ابتلي بهذا الداء. ولعلّ الحراز، بالراء والزاي تحريف عنه فإنّه ليس له في اللغة معنى مناسب.

( مبدح البطن ) أي واسعها، فإنّ البدحة بضمٍّ فسكون: المتّسع من الأرض، وقد ورد هذا اللفظ في المصادر على أشكال: مدح ومبلح ومبدح، وكله غير مطابق مع اللغة، ولعلّه تحريف في الخط. والصحيح أن يقال: أبدح سكون ففتح أو بدح بفتح فكسر.

وورد أيضاً ( المبذخ بطنه ) وهو دال على نفس المعنى؛ لأنّه من البذخ وهو العيش في الرفاه الزائد الذي يسبّب إضخامة البطن. و ليس معنى ذلك أن يعيش في رفاه فعلاً، وإنّما صفته كمَن يعيش هذه العيشة.

( مربوع ) متوسّط الطول.

( عظيم مشاش المنكبين ) المشاش جمع مشاشة، وهي رؤوس العظام، مثل

____________________

(١) الإشاعة لأشراط الساعة: ص٨٩.

(٢) أنظر أقرب الموارد، مادة حزز.

٣٦٦

الركبتين والمرفقين والمنكبين. ويقال: فلان جليل المشاش، عظيم نفس العظام(١) وهذه الصفة تدل على عرض المنكبين بطبيعة الحال.

( مغلولب ) اغلولب العشب تكاثف واغلولب القوم كثروا(٢) . فيكون المراد كونه (ع) مجمع المؤمنين ومهوى قلوب الصالحين.

( ظفر ) من إطلاق المصدر على الشخص مجازاً، يراد به اسم الفاعل، كقولنا: فلان عدل أي عادل. فيكون المراد كونه ظافراً أي منتصراً غالباً.

( ضرغامة ) الأسد.

( حصد ) بكسر الصاد يقال: حصد الحبل أو الدرع إذا اشتدّ فتله واستحكمت صنعته. فيكون المراد منه عندئذٍ كونه غليظ الرقبة.

( مخدش ) إن قرأناه بكسر الدال، كان من الخدش وهو الجرح، فيكون المراد كونه كثير القتل. وإن قرأناه بفتح الدال، فالمخدّش: مقطع العنق من الإنسان(٣) ولعلّ المراد منه عندئذٍ كونه غليظ الرقبة، دلالة على ضخامة جسمه، كما دلّت عليه سائر الروايات، وهو موافق لوصف السفير الثاني للمهدي (ع) خلال غيبته الصغرى له، إذ قال: ورقبته مثل ذا. أومأ بيديه....أي أغلظ الرقاب حسناً(٤) .

( يشق رأسه في باذخ السؤدد ) تعبير مجازي عن عظمته وشرفه.

(وعازر مجده في أكرم محتد ). عزر الفتح اشتد وغلظ، وبالكسر اشتد وصلب، وبالكسر اشتد وصلب.

واسم الفاعل منها عازر. والمحتد هو الأصل في النسب. فالمراد: أنّ مجده الأصيل الشديد يتصل بأكرم أصل نسبي باعتبار كونه متصلاً برسول الله (ص).

وهناك عدد آخر من الصفات، واضحة المعنى في الروايات.

الجهة الرابعة: في حل أهم التعارضات الموجودة في هذه الروايات: إنّ أهم تعارض في هذه الروايات ما سمعناه في النوع الأول، من تعيين عمر الإمام المهدي (ع) حين ظهوره. وهناك بعض التعارضات الأخرى البسيطة التي لا حاجة إلى عرضها.

____________________

(١) انظر المصدر، مادة مشش.

(٢) أنظر المصدر مادة غلب.

(٣) المصدر مادة خدش.

(٤) انظر غيبة الشيخ ص٢١٩.

٣٦٧

تنقسم الروايات الدالة على عمر الإمام المهدي (ع) إلى قسمين رئيسين: القسم الأول: ما دل على التحديد برقم معين. وهي: الأربعين والثلاثين والاثنين والثلاثين والثمانية عشر، والإحدى والخمسين. وظاهر كل رواية أنه لا يزيد ولا ينقص عن الرقم الوارد فيها.

القسم الثاني: ما دل على فترة معينة تقريبية كقوله: شاب المنظر، ابن أربعين أو دونها، ما بين الثلاثين والأربعين. وفي صورة شاب، ونحوها.

ونحن تارةً ننطلق من الفهم غير الإمامي للمهدي (ع) وهو أنّه رجل يولد في زمانه فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً.

وأُخرى ننطلق من الفهم الإمامي القائل بأنّ المهدي (ع) طويل العمر وغائب عن الأنظار ردحاً طويلاً من الزمن.

ويفترق هذان الفهمان في تحديد العمر فرقاً أساسياً، هو أنّ المهدي بالفهم غير الإمامي نستطيع أن نحدّد عمره وقت ظهوره بالأعوام، بل بالأيام والساعات والدقائق، بمجرّد الإطلاع على تاريخ ميلاده. على حين لا يكون ذلك ممكناً في الفهم الإمامي؛ لأنّ تحديد العمر الطويل ممكن إلاّ أنّه غير مقصود الآن التركيز عليه؛ لأنّه يماثل شكله الظاهري عند ظهوره. وإنّما المهم الآن تحديد عمره من شكله الظاهري فقط، كما تقول الروايات ( يحسبه الناظر إليه ابن أربعين عاماً أو دونها ).

والشكل الظاهري غير محدد بطبعه. لا نستطيع أن نعدّه بالأعوام فضلاً عن الأيام والساعات. وليس هناك إلاّ التحديد التقريبي الذي يحمل الناظر عنه فكرة إجمالية.

ونحن إذا انطلقنا من الفهم غير الإمامي، كان القسم الأوّل من الروايات متعارضاً تماماً؛ لأنّ المهدي إمّا أن يكون ابن ثلاثين أو ابن اثنين وثلاثين أو ابن أربعين.... وهكذا. ولا يمكن أن يكون متّصفاً برقمين من هذه الأرقام كما هو واضح.

وبهذا نخسر عدداً من الروايات، غير أنّ عدداً منها دال على الأربعين عاماً. ومن هنا قد يؤخذ بهذا الرقم بالتحديد.

وروايات القسم الثاني أيضاً لا تخلو من المعارضة، فكونه ابن إحدى وخمسين ينافي كونه شابّاً أساساً، و ينافي كونه بين الثلاثين والأربعين، بل إنّ كونه ابن ثلاثين أو أربعين ينافي أن يكون ما بين الثلاثين والأربعين أيضاً..... وهكذا.

إذن، فطبقاً للفهم غير الإمامي، يكون التعارض بين الروايات كبيراً ومتعدداً.

ومعه لا يكون يصفو عندنا شيء معيّن.

٣٦٨

وأمّا لو انطلقنا من زاوية الفهم الإمامي، يكون التعارض بين الروايات كبيراً ومتعدداً، ومعه لا يكون يصفو عندنا شيء معيّن.

وأمّا لو انطلقنا من زاوية الفهم الإمامي، المستلزم - كما عرفنا - لنفي التحديد عن الشكل الظاهري للإمام المهدي، بل يكون تقريبياً على كل حال. ولعلّ التقريب يختلف بعض الشيء باختلاف الناظرين؛ ومن هنا ستتفق أغلب الروايات على (مفهوم ) معيّن أو تحديد تقريبي معيّن، وهو تحديد لا يمكن أن نزيد عليه حتى لو كنّا مواجهين للمهدي تماماً.

فهو شاب المنظر، وفي صورة شاب... والإنسان يبقى شابّاً حتى بعد الأربعين عادةً، وخاصّةً مع نظارة الجسم التي عرفناها في أوصاف المهدي. وهو أيضاً ما بين الثلاثين والأربعين، على وجه التقريب. وهو أيضاً ابن اثنين وثلاثين، كما يقدِّره بعض الناظرين، وهي فترة تقع بين الثلاثين والأربعين، وهو أيضاً ابن ثلاثين، كما يقدِّره بعض الناظرين، وهو قريب من الاثنين والثلاثين، بتقدير الناظرين. وهو أيضاً دون الأربعين بهذا التقدير. بل قد يصل تقدير الناس له إلى الأربعين أيضاً، كما عليه عدد من الروايات.

نعم، لابد من الاستغناء عن روايتين:

الأُولى: الرواية الدالة على أنّ عمره ثمانية عشر عاماً؛ فإنّها مرويّة عن محمد بن حمير لا عن أحد المعصومين، مضافاً إلى منافاتها إلى أكثر الروايات السابقة، كما هو واضح لدى التدقيق.

الثانية: الرواية الدالة على أنّ عمره إحدى وخمسين.... وهي مرويّة عن النبي (ص) إلاّ أنّها لم تصح سنداً، مضافاً إلى منافاتها لكثير من الروايات السابقة، فإنّ مَن يكون شابّاً يقدَّر بفترة الثلاثين والأربعين، لا يقدَّر عادةً بفترة الخمسين، كما هو واضح.

الجهة الخامسة: دلّت الروايات التي سمعناها: أنّ المهدي حين يظهر يكون في سنّ الشيوخ، وهذا صحيح بالضرورة طبقاً للفهم الإمامي لفكرة المهدي. فإنّ الشيخ مَن تجاوز الشباب والكهولة وسواء توفّي عند الثمانين والتسعين أو تجاوزها، والمهدي قد تجاوزها بكثير فهو شيخ في السن، وقد ورد في التسليم على ( نوح ) النبي (ع): السلام عليك يا شيخ المرسلين(١) مع أنّ عمره بنص القرآن لا يقل عن تسعمئة

____________________

(١) انظر مفاتيح الجنان المعرَّب ص٣٤٧.

٣٦٩

وخمسين عاماً.

وقد أشرنا في التاريخ السابق(١) ، أنَّ العمر إذا بلغ مثل هذه الأرقام، فلا ينبغي أن نتوقَّع للفرد شكلاً مُعيَّناً، في أيِّ فترة من فترات عمره، بل يبقى شكله - أعني شبابه وكهولته وشيخوخته - منوطة بمشيئة الخالق الذي شاء طول عمره.

وبتعبير آخر: أنَّ هذه الفترات ستكون عنده طويلة تبعاً لطول عمره، وحيث إنَّنا لا نعلم أنَّ رصيده من العمر أيَّ مقدار، فلا نعلم – تبعاً لذلك – أنَّه في أيِّ فترة من فترات عمره.

وهذه الفكرة الواضحة تدعم ما دلَّت عليه الروايات، من أنَّ المهدي (ع) يظهر في سنِّ الشيوخ ومنظر الشبَّان، مضافاً إلى الوضوح المرتكز في ذهن كل مَن يؤمن بالمهدي (ع)، في أنَّه سوف لن يظهر وهو في سنِّ الشيخوخة (جسمياً) بأيِّ حال، وإنَّما يظهر بما دون ذلك من عهود العمر.

بالرغم من ذلك، سمعنا الروايات تُشير إلى أنَّ هذا الفارق بين سنِّه الواقعي وشكله الظاهري، سيكون تمحيصاً ومحنة يمرُّ بها الناس عند ظهوره (ع)، وسيكثر الفاشلون في هذا التمحيص على أثر شكِّهم في مهدوية المهدي، من حيث إنَّه يظهر عليهم شابَّاً وهم يتوقَّعونه شيخاً كبيراً، وسوف لن يثبت على الإيمان به إلاَّ كل مؤمن أخذ الله ميثاقه.

ومن الصعب أن نتصوَّر أن يكون هذا التمحيص عاماً، بعد كل الذي قلناه من مرتكز الأذهان ونصِّ الروايات، واقتضاء الفكرة النظرية عدم شيخوخة المهدي جسمياً.

ومعه؛ يتعيَّن انحصار هذا التمحيص على بعض المستويات.

المستوى الأول: إنَّ هذا التمحيص ثابت بحسب الطبع الأوَّلي للقضية، بمعنى أنَّ هذا الفارق الكبير بين العمر والشكل يقتضي هذا التمحيص، ولكنَّ الروايات التي شرحت ذلك أوضحت إمكان وجود الفارق، فالتفت الناس إلى ذلك، وصار في الإمكان النجاح العام في هذا التمحيص.

المستوى الثاني: إنَّ هذا التمحيص ثابت بالنسبة إلى عدد من الناس، يؤمنون أساساً بطول عمر المهدي، ولكنَّ مستواهم الثقافي واطِّلاعاتهم الدينية، قاصرة عن إدراك إمكان الفارق بين عمره الحقيقي وشكله الظاهري؛ ومن ثَمَّ فسيتوقَّعون ظهوره

____________________

(١) تأريخ الغيبة الكبرى ص٢١.

٣٧٠

بصورة شيخ كبير بقدر ما يؤمنون له من العمر، فإذا رأوه شابَّاً، كان ذلك غير ممكن في نظرهم... فيكون التمحيص في حقِّهم ثابتاً.

أقول: فهذه أربعة من الضمانات لانتصار المهدي، وهي التي يترتَّب على التخطيط الإلهي العام الثابت قبل الظهور، وهي القسم الأول من هذه الضمانات.

القسم الثاني: من ضمانات انتصار المهدي في فتحه العالمي.

وهو ما لا يمتُّ إلى التخطيط العام لعصر الغيبة بصِلَةٍ... وإنَّما هي أمور ذات تخطيطات خاصة بها... توجد فتؤثِّر في نصر الإمام (ع) من الناحية العسكرية أو الاجتماعية أو الفكرية أو غيرها.

وكما كانت الضمانات في القسم الأول أربعة كذلك هي في القسم الثاني أربعة.

الضمان الأول: عنصر المـُباغتة والمفاجأة في الهجوم أو بدء الثورة، بشكل لم يحسب له الآخرون أيَّ حساب، وهي عنصر مُهمٌّ في فوز الجيش وانتصاره، كما أنَّها عنصر يأخذه العسكريون بنظر الاعتبار في وضع الخطط العسكرية، وأنَّ أيَّ خطوة عسكرية يتَّخذها أحد المـُعسكرين ممَّا لم يكن متوقَّعاً بالنسبة إلى المـُعسكر الآخر، تكون هذه الخطوة دائماً ناجحة في مصلحة مَن يتَّخذها، وأنَّ أهمَّ عنصر يكون نافعاً في الحرب هو غفلة المـُعسكر الآخر عن احتمال حدوث الهجوم، أو بدء الثورة أو القتال، وهو معنى المـُفاجأة، إذ يكون المعسكر الآخر مأخوذاً على حين غرَّة بدون استعداد أو اجتماع على سلاح، فيكون احتمال انتصار المعسكر المهاجم أو الجيش الفاتح كبيراً جدَّاً، قد يصل أحياناً إلى حدِّ اليقين.

ويمكن القول: إنَّه كلَّما أمكن المهاجم ضبط عنصر المـُفاجأة أكثر، صار احتمال انتصاره أكبر، حتى ما إذا أصبحت المـُفاجأة (مطلقة) أصبح انتصار المهاجم يقينياً.

ولا زال عالقاً في أذهاننا: كيف استطاعت مصر عبور خطِّ بارليف الإسرائيلي عام ١٩٧٦ باستخدام عنصر المفاجأة، ولازال تحت سيطرة مصر إلى الآن؟ مع أنَّها لن تكن مفاجأة (مطلقة) بالمعنى الكامل؛ لأنَّ الحذر والعداء التقليدي مُتبادل بين المعسكرين بطبيعة الحال.

ولكنَّ هذا العنصر سيكون مطلقاً تماماً في ثورة القائد المهدي العالمية؛ وذلك

٣٧١

لأنَّ أعداءه - من المـُنحرفين والكافرين والمادِّيين - فارغوا الذهن تماماً عن قضية ثورته، وعن احتمال حصولها تماماً؛ فيكون حدوثها مُباغتةً (مطلقة)، وسيؤخذون على حين غرَّة وعلى غير استعداد، وقد أكَّدت الأخبار على هذا ا لعنصر من ضمانات الانتصار:

أخرج الصدوق(١) ، بإسناده المـُتَّصل بالإمام الرضا (ع)، عن آبائه، أنَّ النبي (ص) قيل له: يا رسول الله، متى يخرج القائم من ذُرِّيتك؟

فقال: ( مَثَلُه مَثَلُ الساعة، لا يُجلِّيها لوقتها إلاَّ الله عزَّ وجلَّ، ثقلت في السماوات والأرض، لا تأتيكم إلاَّ بغتة )(٢) .

وأخرج الطبرسي في الاحتجاج(٣) رسالة المهدي (ع) إلى الشيخ المفيد ( عليه الرحمة )، وقد سبق أن ذكرناها في تاريخ الغيبة الكبرى(٤) ، وقد جاء في آخرها: ( فليعمل كل امرئٍ منكم بما يُقرِّب به من محبَّتنا، ويتجنَّب ما يُدنيه من كراهتنا وسخطنا؛ فإنَّ أمرنا بغتة فجأة، حين لا ينفعه توبة، ولا يُنجيه من عقابنا ندم على حوبة... ) الحديث.

إلى غير ذلك من الأخبار...

وينبغي أن نتحدَّث عن عنصر المفاجأة ضمن جهتين:

الجهة الأُولى: أنَّ للمفاجأة بظهور المهدي (ع) تخطيطاً خاصاً بها، مربوطاً بالتخطيط العام السابق على الظهور.

ويمكن إرجاع هذا التخطيط إلى عدَّة فقرات:

الفقرة الأُولى: تعاهد قادة الإسلام الأوائل على عدم التصريح بموعد الظهور، وإبقائه غيباً مكتوباً عن كل أحد، لا يعلم به حتى المـُخلصون من أصحابه - فضلاً عن الآخرين - ويختصُّ علمه بالله عزَّ وجلَّ والقادة الإسلاميين المعصومين أنفسهم.

ولذا سمعنا النبي (ص) في الرواية الأُولى رفض أن يُصرِّح بالوقت، ويُشبِّه خفاء

____________________

(١) انظر كمال الدين، نسخة مخطوطة.

(٢) الأعراف: ٧/١٧٨.

(٣) ج٢ ص ٣٢٤.

(٤) ص١٦٨.

٣٧٢

موعد الظهور بخفاء موعد يوم الساعة ( لا تأتيكم إلاَّ بغتة، ثقلت في السماوات والأرض )(١) .

كيف لا، وهو يرى بأنَّ انتصار ذلك القائد الكبير في اليوم العظيم منوط بالكتمان؟!

الفقرة الثانية: نفي التوقيت، ولعن الوقَّاتين وتكذيبهم، من قِبل القادة الإسلاميين السابقين، والتي سمعناها في فصل سابق من هذا التاريخ.

الفقرة الثالثة: إعطاء العلامات العامة والخاصة، أو بالأحرى البعيدة والقريبة للظهور، مع التجنُّب - بحذر متعمد - التصريح بالوقت الحقيقي لها وله.

الفقرة الرابعة: ما عرفناه من تعذُّر الاطِّلاع على نتيجة التخطيط العام من قِبَل أيِّ إنسان، سوى المهدي نفسه، طبقاً للفهم الإمامي؛ فإنَّ الشرط المـُتبقِّي وهو وجود العدد الكافي لغزو العالم، لا يمكن التعرُّف على نموِّه أو تحقُّقه إلاّ بعد الاطِّلاع على ثلاثة أمور:

الأمر الأول: مقدار هذا العدد المـُحتاج إليه في غزو العالم... كلِّياً.

الأمر الثاني: صفات الإخلاص وغيره التي ينبغي أن يتَّصف بها أفراد هذا الجيش... كلِّياً.

الأمر الثالث: تحقُّق الأمرين الأوَّلين في أشخاص بأعيُنهم في عالم الحياة، أو بتعبير آخر: اتِّصاف نفس المقدار من الأفراد بهذه الأوصاف. وهذا ممَّا لا يمكن التعرُّف عليه بحال، كما سبق أن برهنَّا عليه.

الجهة الثانية: أنَّه كيف ينسجم عنصر المفاجأة مع ما عرفناه من جعل العلامات القريبة للظهور، كالنداء، والخسف، وغيرها، فإنَّه يجعل الظهور مُترقَّباً ليس فيه مفاجأة على الإطلاق؟

والجواب على ذلك: أنَّنا قلنا: إنَّ هذه العلائم إنَّما جُعِلت، لتكون تنبيهاً للمـُخلصين المـُمحَّصين خاصة، وللمؤمنين بالمهدي (ع) عامة... إلى قرب الظهور؛ ومن هنا لا يكون عنصر المفاجأة بالمعنى الكامل ثابتاً بالنسبة إليهم،

____________________

(١) انظر الأعراف: ٧/ ١٧٨

٣٧٣

بل لا معنى لسريانه عليهم عندئذ، لضرورة اجتماعهم إلى المهدي (ع) عند ظهوره، وهذا يستدعي انتباههم إليه قبل الظهور، ولا معنى لغفلتهم أو مُباغتتهم.

والمـُباغتة لا تكون تجاه الأصدقاء، وإنَّما هي خطَّة ضدَّ الأعداء، وقد قلنا أكثر من مرَّة: إنَّ الأعداء لا يلتفتون إلى هذه العلامات، ولا يعتبرونها دالَّةً على شيء أصلاً.

إذن؛ فهم على الدوام غير مُتوقِّعين للظهور على الإطلاق، ومعه فيكون الظهور بالنسبة إليهم مفاجأة كاملة، كما هو المطلوب.

الضمان الثاني: لانتصار المهدي (ع): كونه منصوراً بالرُّعب... وينبغي أن يقع الحديث عن ذلك في عدَّة جهات:

الجهة الأُولى: في الروايات الدالة على ذلك، وهي عديدة، نذكر عدداً من نماذجها:

أخرج النعماني(١) ، عن أبي حمزة الثمالي، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي (ع) يقول: ( لو قد خرج قائم آل محمد (ع)... - إلى أن قال: - والرُّعب مسيرة أمامه ).

وفي نسخة: ( يسير سيرة إمامه ).

وعن(٢) هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (ع) أنَّه قال: ( بينا الرجل على رأس القائم يأمر وينهى، إذ يأمر بضرب عنقه، فلا يبقى بين الخافقين إلاَّ خافه ).

وعن(٣) عبد الرحمان بن كثير، عن أبي عبد الله (ع) - في حديث يذكر راية القائم المهدي (ع)... إلى أن - قال: ( فإذا هو قام نشرها... - وقال: - يسير الرُّعب قدَّامها شهراً،

____________________

(١) الغيبة للنعماني: ص١٢٢.

(٢) المصدر ص١٢٦.

(٣) المصدر ص١٢٨.

(٤) المصدر ص١٦٥.

٣٧٤

ووراءها شهراً، وعن يمينها شهراً وعن يسارها شهراً ).

ثمَّ قال: ( يا أبا محمد، إنَّه يخرج موتوراً غضبان أسفاً، لغضب الله على هذا الخلق... ) الحديث.

وأخرج الصدوق في إكمال الدين(١) ، والطبرسي في إعلام الورى(٢) ، عن محمد بن مسلم الثقفي قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الباقر (ع) يقول: ( القائم منَّا، منصور بالرعب، مؤيَّد بالنصر... ) الحديث.

وقد سبق أن سمعنا لأصحاب القائم (ع) نفس هذه الصفة، كالذي أخرجه المجلسي في البحار(٣) ، عن أبي عبد الله (ع) - في حديث -: ( إذا ساروا سار الرُّعب أمامهم مسيرة شهر ).

الجهة الثانية: الرُّعب لغةً هو الخوف.

ويُفهم منه عادةً الخوف الشديد إذا كان بدرجة لا يمكن كتمه؛ ومعه يكون المقصود من كون المهدي (ع) منصوراً بالرُّعب: انهدام معنويَّات أعدائه واندثار هممهم للوقوف تجاهه، وخوفهم من جيشه الصلب الصامد.

والمقصود من مسيرة الرعب شهراً: أنَّ البلاد الواقعة على بُعْد شهر من موقع جيشه، تخافه وتُصبح مذعورة منه.

والمراد ببُعْد الشهر: المسافة التي يحتاج المسافر في قطعها إلى شهر من الزمن.

فإذا فهمنا هذه المسافة بالفهم القديم، المناسب مع زمن صدور هذه الأخبار، وما كان يفهمه المجتمع يومئذ، وهو السفر على ظهور الحيوانات كالإبل والجياد، فيكون معنى مسير الرعب شهراً: أنَّ البلاد التي تبتعد شهراً من موقع الجيش المهدوي في السفر بوسائط النقل القديمة، تُصبح مرعوبة منه.

وهذا أمر طبيعي؛ لأنَّ مثل هذه البلاد ستكون مُجاورة له بالمفهوم الثابت، ويمكن الوصول إليها بالوسائل الحديثة في عدَّة ساعات، بل في أقلِّ من ساعة، بل يمكن ضربها.

____________________

(١) إكمال الدين ( المخطوط ).

(٢) ص٤٣٣.

(٣) ج٣ / ١٨٠.

٣٧٥

بالسلاح البعيد المدى في لحظات، فإذا كان الجيش المهدوي قويَّاً مرهوب الجانب، كان من الطبيعي أن تكون هذه المناطق مرعوبة منه.

وإذا فهمنا هذه المسافة بالفهم الحديث، كانت - في حقيقتها - مستوعبة للكرة الأرضية كلها... لوضوح إمكان الدوران حولها بطائرات السفر الاعتيادية في أقلِّ من شهر بكثير، فضلاً عن وسائط النقل الحربية الحديثة، والأسلحة والصواريخ المـُتطوَّرة.

ومعه؛ يكون المراد: أنَّ كل أعداء الإمام المهدي (ع) على وجه الأرض يكونون في حالة رعب شامل، وخوف دائم من مهاجمة المهدي لهم.

وسيكون هذا الرعب - مهما كانت أبعاده - ضماناً أكيداً لنجاح الجيش المهدوي وانتصاره، وهو أمر واضح عسكرياً، غير أنَّ الخطط العسكرية الحديثة لا تستطيع إيجاده في الأعداء، إلاَّ أنَّ المهدي (ع) سوف تتوفَّر له الأسباب المـُتعدِّدة لتنمية هذا الرُّعب في نفوس أعدائه - على ما سنسمع - بصفته القائد الأعظم المـُنقذ للهدف الإلهي الكبير.

ومعنى (مسير) الرعب بين يدي الجيش المهدوي أو أمامه، تقدُّمه بتقدُّم هذا الجيش، وهذا يؤكِّد فَهْم المسافة بالفَهْم القديم الذي عرضناه، فإذا كان الرُّعب مُتقدِّماً على الجيش بخمسمئة كيلو متر مثلاً، وتقدَّم الجيش مئة سار الرعب أمامه مئة، فشمل مناطق كانت مُطمئنَّةً فيما سبق... وهكذا... حتى تدخل كل مناطق العالم تحت الحكم المهدوي.

الجهة الثالثة: في أسباب الرعب ومبرِّرات وجوده في نفوس أعداء الإمام المهدي (ع ).

وينبغي لنا منذ البدء أن نُحدِّد موقفنا من احتمال وجود الرُّعب بسبب إعجازي... فإنَّه غير صحيح تماماً... لمنافاته لقانون المعجزات، وعدم دلالة الرواية عليه.

أمَّا منافاته لقانون المعجزات؛ فلأنَّنا عرفنا أنَّ المعجزة لا تقع إلاَّ إذا كانت طريقاً مُنحصراً للهداية أو إتمام الحجة، وهذا الرُّعب واقع في طريق الهداية؛ لكونه أحد أسباب انتصار المهدي (ع)، الذي يكون سبباً لهداية العالم، وتنفيذ الغرض الإلهي الكبير، ولكنَّ المعجزة ليست سبباً مُنحصراً في إيجاده، بعدما سنعرفه من أسبابه الاعتيادية.

أمَّا عدم دلالة الروايات؛ فلوضوح أنَّه لم يرد في أيِّ خبر منه، أي إشعار بذلك.

ومسير الرعب شهراً - كما أشارت الروايات - لا يدل على الإعجاز، بعد الذي فهمناه من المنحى المجازي لهذا التعبير البليغ،

٣٧٦

وإنَّما يكمن السرُّ الأساسي في وجود هذا الرُّعب، هو أنَّه سُرعان ما تنتشر في العالم عن المهدي وجيشه وأصحابه خصائص مُعيَّنة، يخشى الناس من استعمالها ضدَّهم... وهو أمر مؤكَّد لو جابهوه؛ ومن هنا يحملهم الرُّعب والفزع على أن يتركوا مُجابهته جُهد الإمكان، وكثير منهم سوف يُسلِّم له زمام الحُكم بدون قتال.

وهذه الخصائص منها ما يعود إلى نفس المهدي، ومنها ما يعود إلى جيشه.

فمن الخصائص التي تعود على المهدي، أنَّه قادر على عدد من الإنجازات، باعتبار علمه بخصائص الأمور والتاريخ البشري ككل، ذلك العلم الناتج عن قابليَّاته الخاصة التي اكتسبها حال غيبته، أو عن علم الإمامة من حيث أثبتنا أنَّ الإمام إذا أراد أن يعلم شيئاً أعلمه الله تعالى ذلك، وقد بحثناه مُفصَّلاً في تاريخ الغيبة الكبرى(١) فراجع.

ومن هنا؛ يكون قادراً على فضح أيِّ حاكم دول العالم، بما يأبى ذلك الحاكم كشفه عنه، ويعتبره سرَّاً مكتوماً لنفسه أو للدولة، وليس في العالم حاكم لا يفضحه كشف سرِّه، على مدى التاريخ السابق على الظهور.

كما أنَّه يكون قادراً على إيقاع الخلاف والمـُنافرة بين أعضاء الحكومة، بأن يُخبر بعضها بما لم يطَّلع عليه من أعمال البعض الآخر.

بل قد يكون مُجرَّد وجود المهدي (ع) وبدئه بحركته، موجباً لانقسام كثير من الحكومات انقساماً داخلياً بين مؤيِّد للمهدي (ع) ومُحارب له، ومُتحيِّر في شأنه ومُجامِل له، ونفس وقوع هذا الاختلاف يكون في مصلحة انتصار المهدي (ع).

كما أنَّ المهدي (ع) يكون قادراً على معرفة مواقع الأسلحة والذخائر والمعامل الحربية، ونقاط الضعف من تحرُّكات العدوِّ، بشكل لا يمكن أن يطَّلع عليها غيره إلاَّ بأصعب الطُّرق وأطول الأزمان، وقد يأخذ الخبر من الاستخبارات الحديثة أو الأخبار الصحفية، فيفهم منها ما لا يمكن لغيره أن يفهمه.

ويكفي في مثل ذلك، أن تفهم الدول أنَّ المهدي واجه بعض الحكومات بمثل هذه الطرق... أن تمتلئ رعباً وفزعاً، وتنهار معنويَّاتها انهياراً تامَّاً، بمجرَّد أن تعرف منه التفكير في غزوها.

____________________

(١) ص٥١٥ وما بعدها.

٣٧٧

كما أنَّنا بعد أن نعرف - فقهيَّاً - أنَّ الدين الإسلامي لا يُجيز البدء بالقتال، قبل الدعوة إلى الإسلام، وإرشاد المعسكر الآخر إلى العقائد الإسلامية والعدل الإسلامي، وإيضاح ذلك في أذهانهم، وهذا ما يعمله الإمام (ع) في كل غزو يقصده، مضافاً إلى أساليبه العامة في عرض الأُطروحة العادلة الكاملة على العالم ككل، وهي أساليب واضحة وصريحة وواسعة الانتشار.

ومعه؛ ستكون فكرته مُقنعةً للآخرين من الشعوب المعادية، فيكتسب فيها قواعد شعبية وعسكرية واسعة، ولا يكون الفرد منهم على استعداد لمواجهة المهدي وجيشه بالقتال على أقلِّ تقدير.

ومعه؛ ستضطرُّ حكومة تلك البلاد - مهما كانت عازمة على الحرب والصمود - إلى التنازل والمسالمة؛ لأنَّ الحاكم يكون في مثل ذلك كالأعزل، لا حول له ولا قوَّة.

وتدريجياً - وبالتدريج السريع نسبيَّاً - سيتَّضح للدول الكافرة، بأنَّ المستقبل العالمي بيد المهدي (ع) على أيِّ حال، كحقيقة لا يمكن الفرار منها، أو - على الأقلِّ - وجود النظام المهدوي كدولة كبرى يصعب جدَّاً مُجابهتها ومُنافرتها، بل من الأفضل مُجاملتها والتزلُّف لديها.

وهذا وذاك، ممَّا يدفع الأفراد والدول - على حدِّ سواء - إلى التسليم بالمهدي (ع) وعدم مُجابهته بالقتال.

فهذا عدد من الخصائص التي يتَّصف بها المهدي (ع)، ممَّا توجب الرعب لمَن يُحاربه، ومُقتضى ذلك أنَّ الرُّعب يتولَّد تدريجياً عند البدء بغزو العالم، لا من أول الظهور، وهذا هو ظاهر الروايات أيضاً.

وأمَّا خصائص أصحابه، فأمران رئيسيان:

الأمر الأول: قوَّة اندفاعهم وحماسهم في إطاعة أوامر قائدهم وتطبيق خططه، تلك القوَّة الناتجة من علوِّ إيمانهم، وصلابة إرادتهم، وارتفاع معنوياتهم، ووعيهم للهدف الذي يسعون إليه.

وليس هناك أيُّ واحد من القادة أو الحكَّام في الدول، يجهل هذه الحقيقة التي قلناها فيما سبق، وهي أنَّ الجيش المؤمن الواعي ذو المعنويات العالية هو المـُنتصر دائماً، وكل القادة والحُكَّام سيعلمون - وبسرعة - بصفة جيش المهدي من هذه الناحية، وهم يعلمون صفة جيوشهم من ناحية ثانية، فإنَّها وإن كانت مُسلَّحة تسليحاً كاملاً، ومدرَّبة تدريباً عالياً، إلاَّ أنَّها لا تقوم في أساسها على الإخلاص ووعي الهدف، بل تقوم على

٣٧٨

أسباب أخرى، كالتجنيد الإجباري، أو الطمع بالرواتب الضخمة وغير ذلك... وهو ممَّا لا يُساعد بحالٍ على وجود الاندفاع والحماس في الجيش في ميدان القتال.

وهذه الحقائق التي يعرفها حكَّام العالم، تجعلهم يُفكِّرون طويلاً، قبل التورُّط بمنازلة المهدي بقتال.

الأمر الثاني: كثرة قيامهم بقتل أعدائهم بشكل غليظ لا هوادة فيه - كما سنسمع مُفصَّلاً في الفصل الآتي - الأمر الذي يولِّد انطباعاً واضحاً لدى الآخرين، بأنَّهم أشدَّاء غلاظ بالنسبة إلى أعدائهم، الأمر الذي يولِّد الرُّعب ويُسبِّب إعادة التفكير فيما إذا كانت مُجابهتهم بالقتال يحتوي على مصلحة أم لا.

الضمان الثالث: انطلاقة من زاوية مُتَّفق عليها بين المذاهب السلامية، بل مُتَّفق عليها بشكل أوسع من ذلك، وانطلاقة من مثل هذه الزاوية، أمر أساسي في تهيئة الجوِّ العام إلى جانبه واكتساب القواعد الشعبية الموالية، وخاصة في أول دور حركته وثورته، حتى يستطيع أن ينطلق من هذا المنطلق العام إلى ما يريد تأسيسه من العدل والحق، وما يجيء به من كتاب جديد وقضاء جديد، على ما سنسمع، وسيكون انطلاقه من زاوية مُتَّفق عليها، مُتمثِّلاً من عدَّة مستويات:

المـُستوى الأول: الخطاب الذي يُلقيه المهدي في المسجد الحرام في أول ظهوره، فإنَّنا رأينا أنَّه يؤكِّد - في الأغلب - على الأمور المشتركة المعلومة الصحَّة عند سائر المسلمين، وهي الاعتراف بالإسلام، وبما سبقه من الشرائع، مُنطلقاً منه إلى ربط حركته ودعوته بخطِّ الأنبياء الطويل، مُشيراً إلى نتائج الظلم التي تطرَّف إليها المـُتطرِّفون نتيجةً للفشل في التمحيص.

وهناك روايات ناقلة لخُطبة الإمام، ولا تعرُّض فيها إلى ذكر الظلم السائد، الأمر الذي يجعلها أكثر تركيزاً على المفاهيم المـُتسالم عليها في الإسلام، بحيث تشمل تلك القاصرة التي لا تُدرك بشاعة الظلم ومُنافاته لتعاليم الإسلام.

أخرج السيوطي(١) ، عن نعيم بن حمَّاد، عن أبي جعفر، قال: ( يظهر المهدي بمكَّة عند العشاء، ومعه راية رسول الله (ص) وقميصه

____________________

(١) ج٢ ص ١٤٤.

٣٧٩

وسيفه، وعلامات نور وبيان، فإذا صلى العشاء نادى بأعلى صوته يقول: أُذِّكركم - أيُّها الناس - ومقامكم بين يدي ربِّكم، فقد اتَّخذ الحجر وبعث الأنبياء وأنزل الكتاب، وأمركم أن لا تُشركوا به شيئاً، وأن تُحافظوا على طاعته وطاعة رسوله (ص)، وأن تُحيوا ما أحيا القرآن وتُميتوا ما أمات، وتكونوا أعواناً على الهدى، ووزراء على التقوى، فإنَّ الدنيا قَدْ دنا فناؤها وزوالها، وآذنت بانصرام، فإنِّي أدعوكم إلى الله ورسوله، والعمل بكتابه، وإماتة الباطل، وإحياء سنَّته، فيظهر في ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً عدد أهل بدر... ) الحديث.

ورواها الصافي في مُنتخب الأثر(١) بشيء من الاختلاف، أهمُّه - في أولها -: ( وقد أكَّد المحجَّة وبعث الأنبياء... - وفي آخرها: - وإماتة الباطل وإحياء السنَّة ).

وهو أفضل من نسخة الحاوي، لعلَّ فيه خطأً مُطبعيَّاً.

المستوى الثاني: اتِّخاذ الجيش المهدوي شعار رسول الله (ص) الذي أخذه لجيشه، كما سبق أن عرفنا.

ولئن لم يكن الشعار النبوي معروفاً لدى عامة المسلمين، فهو معروف على أيِّ حال بين علمائهم ومُفكِّريهم المـُخلصين منهم، فيُمكنهم أن يعرفوا وأن يُعرِّفوا الآخرين: أنَّ هؤلاء القوم قد ساروا على شعار النبي (ص)، إذن؛ فهم مع النبي حتى في شعار حربه، ومُمثِّلون له في خصائصه وهدفه.

المستوى الثالث: مُطالبته بثأر الحسين (ع)، فإنَّه أمر مُتسالم على صحَّته بين المسلمين، بل بين كل المظلومين، وهم أكثر البشرية في عصر الظلم والانحراف.

وقد سمعنا الروايات الدالَّة على ذلك، وكانت كلُّها مروية عن طُرق الخاصة، وأودُّ الآن أن أروي عن بعض المصادر العامة رواية تمتُّ إلى ذلك بصِلَةٍ.

أخرج القندوزي في الينابيع(٢) ، عن عبد السلام بن صالح الهروي، قال: قلت لعلي الرضا بن موسى الكاظم رضي الله عنهما: يا بن رسول الله، ما تقول في حديث روي عن جدِّك جعفر الصادق رضي الله عنه، أنَّه قال:

____________________

(١) ص٤٩٠

(٢) ينابيع المودَّة ص٥٠٩ ط النجف

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679