موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)8%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 679

الجزء ١ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 212466 / تحميل: 11106
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

المُستعربين(١) من الذين أثارهم مدى نفوذ الإسلام، وقوّة تأثير الثقافة الإسلاميّة واللغة العربيّة في واقع الشعب الأسباني، فتحرّكوا لمواجهة هذا النفوذ والعمل على تفريغ محتواه من نفوس الأسبان، عن طريق إذكاء حالة العداء الديني وتغذيتها بأشكال الإثارة الحادّة ليتسنّى لهم دقّ إسفين الخلاف، ومِن ثمّ صبّ ذلك في محور تحريضي مباشر تجاه الخلافة الإسلاميّة.

حتّى إنّ بعض المُغالين من الرهبان كان يصرّ على التعرّض للإسلام، والطعن في النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والنيل من المقدّسات الإسلاميّة للفوز بعقوبة الموت، مُعتقدين بأنّهم يكسبون بذلك شرف الشهادة الذي حُرِموه نتيجةً للتسامح الذي كان سِمةً من سِمات حكّامهم المسلمين في دار الخلافة بالأندلس.

وبالرغم من أنّ عدد هؤلاء المتعصّبين لم يكن كبيراً، إلاّ أنّ الحكومة قد خشيت آنذاك (سوء عاقبة هذه الحوادث وأوجست خيفة من أنّ احتقارهم سلطانهم، وعدم اكتراثهم بالقوانين التي سنّوها ضدّ مَن يطعن في دينهم (الإعدام)، قد يؤدّي إلى استفحال روح الكراهيّة، وذيوع حركة العصيان بين الأهلين كافّة)(٢) .

فعمدت إلى القضاء على حركة الاستشهاد، مستفيدةً من اعتدال الكثير من المُستعربين، وعدم تفاعلهم معها.

ولمّا كانت هذه الحركة عبارة عن إرهاص متشنّج يحكي حالة الرفض المتعصّب بطريقةٍ انفعاليّة هيمنت على أفكار المُتديّنين والقساوسة الأسبان - كما عبّر عنها(ريتشارد سوذرن) ووصفها: (بأنّها حركة ضدّ رضا العامّة بالحضارة العربيّة)(٣) - فقد خلقت أرضيّة لعمل فكري يهدف إلى معرفة وفهم

____________________

(١) استعرب: صار دخيلاً بين العرب. (القاموس المنجد، باب: عرب).

(٢) أرنولد، توماس - الدعوة إلى الإسلام - الترجمة العربيّة: ١٦٥ - ١٦٦.

(٣) سوذرن، ريتشارد - صورة الإسلام في أوربّا في العصور الوسطى: ٥٨.

٤١

العدوّ الإسلامي، ودراسة سرّ قوّته وتميّزه، ورفع الإبهام عن لغز تفوّقه وقدرته. أي بعبارةٍ أُخرى خلقت أرضيّة الاستشراق بروحه التبشيريّة.

أمّا لماذا لم يتم هذا العمل الفكري في الفترة التي كانت حركة الاستشهاد في أوجّها؟ فيقول (سوذرن): (إنّ كلاً من (أولوجيوس) و (ألبرو قرطبي) قائدَيّ الحركة كانا يعتقدان أنّ السيطرة الإسلاميّة هي بداية المقدّمة الضروريّة لظهور المسيح الدجّال، المذكور في كتبهم المقدّسة، وانسجم ذلك مع تأويلات خاطئة باقتراب يوم القيامة، وعلائمه التي كانت سائدة بين أوساط المجتمع الأوربّي المسيحي آنذاك.

إضافةً إلى أنّهما لم يكونا مؤهّلين للجهد الفكري المطلوب في معرفة وفهم العدوّ الإسلامي، كما وإنّهما - القائدَين - وأتباعهما لم يكونوا يريدون أنْ يعرفوا شيئاً)(١) لتَشبُّع قلوبهم بالبغض والكراهيّة والغضب على كلّ ما هو مُخالف لأفكارهم ومعتقداتهم الخرافيّة السائدة، وتأويلاتهم المنحرفة التي ما أنزل الله بها من سلطان.

ولم تكن الكنيسة الكاثوليكيّة بأحسن حالاً من هؤلاء، حيث لم تخرج عن دائرة هذا الجوّ العدائي.

فقد كانت أحد العوامل الرئيسيّة لتأجيج الصراع وتغذية الشعور المعادي للمسلمين، وإذكاء نار الحقد في صدور رعاياهم ضدهم بكلّ ما تهيّأ لها من وسائل وأُوتيت من قوّة، لما أدركته من تأثير الإسلام وسرعة نفوذه وكثرة المُقبلين عليه.

حيث يصف أحدُ المؤرّخين هذه الظاهرة فيقول: (بأنّ تأثّرهم بالإسلام كان بمحض إرادتهم في أغلب الأحيان)(٢) . وأخذت الكنيسة الكاثوليكيّة تدرك تدريجياً ومن موقع دفاعي ضرورة إعطاء النصارى أسباباً

____________________

(١) سوذرن، ريتشارد - صورة الإسلام في أوربّا في العصور الوسطى: ٥٩.

(٢) بروفنسال، ليفي (حضارة العرب في الأندلس) الترجمة العربيّة: ١٦ - ١٧.

٤٢

وجيهةً ليحافظوا على إيمانهم التقليدي الخاص، ويتحصّنوا داخله.

إلاّ أنّ هذه المساعي لم تنجح، فسرعان ما تأجّجت العصبيّات واستفحل العداء الشديد.

وعلى هذا نرى أنّ بدايات الاستشراق لم تكن منفصلة عن منظومة التنصير والتبشير، ولا عن الدوافع الدينيّة المتطرّفة التي كانت الأساس في نشأة الفهم الاستشراقي(١) ، فلا عجب إذن إذا رأينا الكثير من المُستشرقين يجهدون في تصوير العالم الإسلامي في كتاباتهم على أنّه بشعٌ في عاداته، قبيحٌ في أخلاقه، مليء بالبِدَع والانحرافات عن الدين السماوي الحقّ الذي جاء به المسيح النبيّ، ولا يتحرّزون عن اختلاق ما يدعم دعواهم تلك، وكلّ ما مِن شأنه زرع روح التشكيك في الإسلام وزعزعة اليقين بين أوساط المسلمين.

____________________

(١) راجع د. سلمان، سمير (الجذور التكوينيّة للاستشراق في الأندلس) مجلّة التوحيد - العدد ٣٢: ١١٦.

٤٣

نشأة الاستشراق بين النهج العلمي والاستعداء التبشيري

إنّ البدايات التي سجّلها الباحثون لنشأة الاستشراق لم تكن خارجة عن نطاق الصراع الذي تربّع أبطاله على صدر الأندلس، وتركوا آثار حقدهم وتعصّبهم شاخصةً على مرّ العصور، مُنزِلةً الضربة تلو الأُخرى بالوجود الإسلامي في الأندلس.

فالحرب التي شنّتها المسيحيّة على الإسلام حينذاك قد نحَت مَنحَيَيَن باتّجاهين مُتوازيين يعضد أحدهما الآخر، ويؤدّيان إلى هدفٍ واحد، ألا وهو القضاء على الخصم الذي غزاهم وهُم غارقون في سُباتٍ عميق.

الأوّل: كان يُريد تحقيق هذا الهدف بحدِّ السيف وإعلان الحرب المباشرة، لاجتثاث جذور الوجود الإسلامي بشكل سريع ونهائي.

والثاني: كان يرى أنّ دراسة العدو، واستثمار معارفه وعلومه، والاطلاع على مبادئه وأفكاره يشكّل الطريق السليم لمواجهة هذا العدوّ من خلال امتلاك سرّ قوّته، ومعرفة سُبل اجتثاثه من داخله.

إنّ الاختلاف الظاهري لهذين الاتّجاهين المعاديين للإسلام والذي أُريد له أنْ يبرز بشكلٍ مقصود، كان يُعبّئ الآخرين ويبرز ردود فعلٍ موسومةً بالتصلّب والتعدّي تارة، وبالمرونة وطَرقِ السُبل السلمية بغطاءِ العلم والمعرفة تارةً أُخرى.

إنّ ما قام به أسقف طُلَيطَلة مِن إخضاع النصارى الأسبان له، إثر تعرّض

٤٤

العلاقات والروابط بين الكرسي البابوي من جهة، والكنيسة من جهةٍ أُخرى للضعف والتردّي، أدّى إلى انفصال الأخيرة عن البابويّة، ممّا حدا بأسقف طُلَيطلة إلى إخراج ترجمات مبكّرة لبعض الكتب العلميّة العربيّة(١) .

وكما ذكر غابريلي في(تراث الإسلام) : (لقد استعربت المسيحيّة بسرعة لغويّاً وثقافيّاً)(٢) .

في الوقت الذي استمرّت الكنيسة على تصلّبها وأبرزت تعصّباً بالغ التزمّت تجاه أيّ تقاربٍ ومهادنة أو موقفِ صداقةٍ تفرضه الطبيعة العلميّة، أو ظروف التقارب الثقافي الذي قد يتّخذه بعض طلاب الثقافة والمعرفة الأوربيّين من الإسلام والثقافة الإسلاميّة.

ومِن أمثلة ردود الفعل المتعصّبة التي أفرزتها طبيعة الخلافات هذه، هو ما أعلنه البابا(غريغور التاسع) من أنّ فريدريك الثاني حاكم صِقلْيّة الذي أصبح إمبراطوراً لألمانيا في عام ١٢٢٠م قد خرج على الكنيسة، حيثُ كان(فريدريك) هذا مُستعرباً لغةً وثقافةً وعلوماً وعادات.

وقد أهدى كتباً فلسفيّة تُرجمت عن العربيّة إلى جامعات بولونيا وباريس، وعندما أصبح إمبراطوراً أسّس جامعة في نابولي سنة ١٢٢٤م، وجعل منها أكاديميّة لنقل المعارف الإسلاميّة إلى العالم الغربي(٣) .

وعليه فإنّ نشأة التبشير في الأندلس بدأت بهدف القضاء على الإسلام، والتبشير للمسيحيّة بين صفوف المسلمين الكَفَرَة - كما كانوا يسمّونهم - الذين قدموا من بلاد العرب وفتحوا الأندلس، أو الذين دخلوا الإسلام حديثاً والذين يطلق عليهم (المولدين)(٤) ، بعد أنْ ثبت لدى أغلب رجال الفكر

____________________

(١) زقزوق، محمود حمدي (الاستشراق والخلفيّة الفكريّة للصراع الحضاري): ٢٤.

(٢) غابريلي، فرانشسكو (تراث الإسلام) - القسم الأوّل - الترجمة العربيّة: ١٣٤.

(٣) رودنسون، مكسيم (جاذبيّة الإسلام) الترجمة العربيّة: ٣٢ و٣٣.

(٤) أُطلقت هذه التسمية على أبناء الأندلس القُدماء الذين انحدروا مِن آباء أسبان، وهؤلاء كانوا يمثّلون طبقة اجتماعيّة واسعة من المجتمع الأندلسي، دخلوا الإسلام أثناء الفتح، وحَسُن إسلام الكثير منهم. وكان منهم من أصحاب التآليف والتصانيف والمكانة العلميّة المرموقة. عن مجلّة نور الإسلام: ٢٧ - ٢٨/ (العصبيّات وآثارها في سقوط الأندلس).

٤٥

النصارى وعلمائهم أنّ الإسلام لا يُمكن القضاء عليه بالعمل العسكري، فدون ذلك خرط القتاد، وأنّ أيّ مواجهة سوف لنْ تثمر شيئاً ومحكومٌ عليها بالفشل والخُسران.

لذا فإنّ منظومة التبشير والتنصير قد تولّدت في أُتون الصراع المُستعِر بين الإسلام والكنيسة على الأرض الأندلسيّة، والتي شكّلت مُنذ القرن التاسع عشر الميلادي الخليّة الأولى في مشروع الاختراق الثقافي الأوربّي للوجود الإسلامي، تمهيداً للامتداد والسيطرة الاستعماريّة وبنشاطٍ منظّم.

فالتبشير مصطلحاً ونظريّة، يقوم على نشر المسيحيّة في جميع بقاع الأرض التي تخلو منها، وهو بمعنى آخر هجوم المسيحيّة على الديانات الأُخرى بهدف اقتلاعها مِن عقول ونفوس معتنقيها، والحلول محلّها بكلّ وسيلة (سلميّة) ممكنة، وتطرق في ذلك أبواباً شتّى للوصول إلى أهدافها، منها: معرفة لغة الناس المقصودين بالتبشير، ودراسة عاداتهم وقِيمهم ومعتقداتهم عن كثب، والتدخل (للمساعدة) في حلّ مشاكلهم الشخصيّة والاجتماعيّة والصحيّة(١) .

مستفيدين من حالة الجهل والأُميّة السائدة في أوساطهم، للتشكيك في عقائدهم كمقدّمة لزقّهم بالتعاليم النصرانيّة عن طريق مؤسّسات التربية والتعليم، كالمدارس والمعاهد والجامعات وأمثالها.

وهكذا بدأ التبشير حركتهُ الشاملة للقضاء على الوجود الإسلامي، متّخذاً صوراً وأشكالاً مختلفة، وكان الاستشراق أبرز صوره الفكريّة. وهكذا كان العلم والبحث العلمي الذي يفترض فيه سموّ الإنسان بتحصيله المتواصل للكمالات قد

____________________

(١) الطهطاوي، محمّد عزت إسماعيل (التبشير والاستشراق): ١ - ٣.

٤٦

استُخدِم أداةً مِن أدوات التخريب الحضاري لبلاد المسلمين، والاعتداء على تراثهم، والطعن بالباطل في دينهم. وكانت المآرب السياسيّة والتعصّب للدين من السمات الأساسيّة للحركة الاستشراقيّة، ومن العناوين الخفيّة للوحدة والانسجام بين الاستشراق والتبشير.

٤٧

مبدأ الاستشراق اختراق ثقافي لدحر المسلمين في أوربّا

لقد كان الصراع التدميري الذي خاضته الكنيسة ومن ورائها المستعربون المتعصبون من النصارى ضد المسلمين في الأندلس والذي برّز الاستشراق صورةً من صوره الفكريّة فيما بعد قد اتّخذ مسارين: الأوّل ديني، والثاني فكري وسياسي.

أوّلاً: المسار الديني:

يُمكن تلخيص الكاشف عن المسار الأوّل بما يلي:

أ - سعي الكنيسة الدائب لاسترداد أسبانيا مِن المسلمين وإعادتها إلى سلطتها، وأنّ تلكّؤ مساعيها في النجاح لا يعني هزيمتها، فحروب الأسبان (القدماء) كانت خاضعة للكرّ والفرّ، واستمرّت بأشكالٍ مختلفة، مِن حربِ عصاباتٍ إلى مناوشاتٍ مشحونةٍ بالعداء الديني، إلى تأجيج العصبيّات بصيغتها الدينيّة بين مختلف الطوائف والقبائل، حتّى استنزفت قُوى الدولة الأندلسيّة التي ما لبث التفكّك والتشرذم أنْ طال كيانها الناشئ، في الوقت الذي لم تحسم فيه المواجهة بين الطرفين المُتصارعين، واستمرّت تتناوب بين انكفاءٍ وتقدّم.

٤٨

وبدءاً بعام ٧٥٦م راحت الهَجَمَات الأسبانيّة تتوالى حتّى (أخذت شكلاً تكتّليّاً وحرباً مقدّسة صليبيّة بآخر المعاقل الإسلاميّة)(١) .

وهكذا استمرّ الحال حتّى سقوط غرناطة بأيدي الأسبان، ووصول الوجود الإسلامي في الأندلس إلى نهايته عام ١٤٩٢م بعد أنْ تواصل ثمانية قرون تقريباً.

ب - إنّ من جملة أسباب تفوّق الأسبان الأُوربّيّين في هذه الحرب هو أنّهم (استعاروا أُسلوب المسلمين في الجهاد المقدّس)(٢) فأفادت المسيحيّة الأسبانيّة من عقيدة خصمها، وخاضت غمار المواجهة بأحد أمضى أسلحة الخصم الإسلامي، وأنشأت (طوائف الفرسان الدينيّة في سانتياغو وكلاترافا وألكنترا، وفي الطوائف التي ذاع صيتها في السجلاّت التأريخيّة لحروب الاسترداد)(٣) . علماً (بأنّ الأُسلوب نفسه قد اعتمدته الحملات الصليبيّة أيضاً)(٤) .

ج - لقد ترك الصراع الذي خاضته الكنيسة ضدّ المسلمين في الأندلس آثاره على مسير الكاثوليكيّة الأسبانيّة، وجنَت منه فوائداً كبيرةً، منها تحوّل هذا الصراع إلى عامل أساسي في بناء أسبانيا، وتطوير تركيبتها الداخليّة الخاصّة وموقعها العام، خصوصاً على مستوى الحسّ الديني المُرهف الذي برز عند الأسبان أفراداً ومجتمعاً، مِن خلال ما تركته العلوم والآداب الإسلاميّة مِن آثار في أعماق وأُسُس الحضارة الأسبانيّة مُنذ العصور الوسطى وإلى يومنا هذا.

____________________

(١) زقزوق، محمود حمدي - (الاستشراق والخلفيّة الفكريّة للصراع الحضاري) مؤسّسة الرسالة، بيروت، ط٢، ١٩٨٥م.

(٢) لومبير، إيلي - (تطور العمارة الإسلاميّة في أسبانيا والبرتغال وشمال إفريقيا) الترجمة العربيّة: ١٤٤.

(٣) بروفنسال، ليفي - (حضارة العرب في الأندلس) الترجمة العربيّة: ١٦ و١٧.

(٤) قنواتي، جورج شحاته - (تراث الإسلام) القسم الثاني، الترجمة العربيّة: ٢٦٠.

٤٩

ثانياً: المسار الفكري والسياسي:

إنّ أبرز العوامل التي بلورت هذا المسار هي:

أ - إنّ النصارى مِن غلاة رجال الكنيسة والمُستعربين الأُوربّيّين الخاضعين للحكم الإسلامي، كانوا ينظرون إلى المسلمين على أنّهم محتلّون برابرة كَفَرة، ويحرّضهم على ذلك الشعور تعصّبهم الديني وجشعهم السياسي، وشهوة مُلوكهم التائقين إلى استرداد ما فقدوه بالقوّة عند الفتح الإسلامي.

ب - إنّ بعض الأُمراء الأمويّين لم يعملوا على إخضاع جميع المواقع المسيحيّة لحكمهم في شبه جزيرة أيبيريا، ممّا أعطى للأسبان فرصةً سانحةً في أنْ ينطلقوا لإثارة الحروب والفتن.

ج - السياسة غير الحكيمة التي مارسها أحياناً بعض الأُمراء الأمويّين ضدّ المُستعربين، وضدّ غيرهم مِن طوائف المجتمع الأندلسي كالصقالبة(١) ، والبربر(٢) ،

____________________

(١) الصقالبة: هم عند مؤرّخي العرب الشعوب السلافيّة القاطنة بين جبال الأورال والبحر الأدرياتيكي، وهُم من أُصول أوربيّة مختلفة، وينقسمون إلى قسمين: الأوّل منهم صقالبة الشمال (الروس والروس البيض والبولونيون)، وصقالبة الجنوب أو اليوغسلافيون (الصرب والكرواتيون والسلوفاكيون والبلغاريون).

وقد جيء بهم إلى الأندلس أطفالاً صغاراً ذكوراً وإناثاً، فنشأوا نشأةً عربيّة إسلاميّة في بلاط الملوك والحكّام. كان منهم العبيد المجنّدون في الخدمة العسكريّة، ومنهم القادة والكتّاب والأُدباء.

القاموس (المنجد في الأعلام) وكذلك مجلّة نور الإسلام، العددان ٢٧: ٢ و٢٨: ٣٤ من (العصبيّات وآثارها في سقوط الأندلس).

(٢) البَربَر: اسم يطلق على سكّان إفريقيا الشماليّة من برقة إلى المحيط، كانوا يتكلّمون لهجات أعجميّة قبل استعرابهم، ولا يزالون. ويرجع أصلهم إلى فِئات عرقيّة مختلفة استقرّت في البلاد قبل الميلاد، وعرفت بعض الازدهار مثل:(مملكة نوميديا ومملكة موريتانيا) .

لم يكونوا مرتاحين تماماً إلى حكم روما ولا إلى أسبانيا بقيادة أحدهم وهو طارق بن زياد، تبعوا الخوارج وأعلنوا العصيان على العباسيّين. توزعوا ممالك وسلالات، فكان منهم الأغالبة والرستميّون والمرابطون والموحّدون، ثمّ زالت دولتهم في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي، وقد تحمّلوا القسم الأعظم مِن أعباء الفتح فقتل منهم في هذا السبيل الآلاف، وقد تأثّروا كثيراً بالدين الإسلامي، وأبدوا تحمّساً لنشره والدفاع عنه.

عن القاموس (المنجد في الأعلام) وكذلك مجلّة نور الإسلام، العددان ٢٥: ١ و٢٦: ٨ في = (العصبيّات وآثارها في سقوط الأندلس).

٥٠

والمولدين، ممّا أدّى إلى تنامي الشعور القومي والحساسيّة العرقيّة لدى المواطنين من قدامى الأسبان، وكذلك الذين استعربوا، فكانت مناطقهم مركزاً للمقاومة من قدامى الأسبان، وكذلك الذين استعربوا.

فكانت مناطقهم مركزاً للمقاومة العسكريّة النصرانية، ممّا سهّل لهم لعب دورٍ كبيرٍ لخوض حرب إيديولوجيّة سياسيّة.

د - بروز أجواء متوتّرة ساعدت على اعتماد القمع العنصري والقبلي، من قِبل الحكّام كَرَدّة فعل على الاضطرابات والأجواء المشحونة بالقلاقل، والتي كانت مدعومةً أحياناً من النصارى والمُستعربين والمُتعصّبين.

هـ - بروز صراعات سياسيّة وقبليّة بين المسلمين العرب أنفسهم، منها العصبيّة التي ثارت بين القيسيّين واليمنيّين، وأخذت العرقيّة القبليّة تنبض في نفوس أصحابها، فتطاحنوا (وتذابحوا وذهبت ريحهم)(١) . فانتهز المتربّصون بالحكم الإسلامي، والذين يصطادون في الماء العكر من نصارى الأسبان الفرصة للعصيان وإشعال فتيل الفتن والاضطرابات والتهيّؤ للمستقبل، الذي يأملون فيه القضاء على الحكم الإسلامي في الأندلس. فتدافعوا وجمعوا قواهم، واستعدّوا.

و - الدعم المباشر الذي قدّمه بهذا الاتّجاه النصارى الأوربّيون من الفرنسيّين وغيرهم بقيادة شارلمان (٧٤٢ - ٨١٤م) المعروف بتصدّيه التاريخي للانتشار الإسلامي في أوربّا، تمّ بمباركة البابا (أُوربانس الثاني) - الذي تسبّب فيما بعد بتأجيج الحروب الصليبيّة - عبر النداء الشهير الذي أطلقه في ٢٧ تشرين الثاني عام ١٠٩٥م، ودعا فيه نصارى أوربّا إلى الجهاد ضدّ الكَفَرَة المسلمين، وحمل السلاح لغزو الشرق، وهو نفسه الذي أعدّ حملةً مؤلّفةً في معظمها من (فرسان جنوب فرنسا) عام ١٠٨٩م لمساعدة نصارى الأسبان في مقاتلة

____________________

(١) بالنتيا، أ. جـ (تأريخ الفكر الأندلسي) الترجمة العربيّة: ١٧.

٥١

المسلمين في الأندلس(١) .

ز - الدور الذكيّ والمُخادع الذي لَعِبهألفونس الثالث (٨٦٦ - ٩١٠م) ملك أشتوريش وليون الاسباني في العمل الجاهد لاختراق المسلمين في الداخل ونشر الفرقة بينهم، حتّى نجح في استمالة المُستعربين الذين أسلموا حديثاً، مستنفراً فيهم كوامن المذهبيّة والطائفيّة، ممّا حداهم إلى رفض الإسلام والتمرّد على السلطة المركزيّة في قرطبة (ووعدهم بمنحهم الاستقلال إذا انقلبوا في اللحظة الحاسمة، ووقفوا إلى جانبه في موعد الهجوم على ضواحي قرطبة ومناطقها الشماليّة، وذلك مِن أجل أنْ يعيشوا أحراراً في أرضهم التي انتزعها المسلمون منهم بالعنف.

وإنّ وعدهم نصرتهم الملك، تعني استمرارهم كوسائل اقتصاديّة فقط، وكمصدر لإغناء خزينة الخلافة الإسلاميّة)(٢) .

وهكذا كانت عمليّة اختراق الوجود الإسلامي مِن قبل المُستعربين في الأندلس قد تمّت من زاويتين رئيسيّتين:

الأولى: بشريّة تشكل قوّة عسكريّة كبيرة العدد مدعومةً بالقوّة الأوربّية قادرة على ترجيح الكفّة من الناحية الإستراتيجيّة للمسيحيّة.

الثانية: إيديولوجيّة حضاريّة، وهي مدار بحثنا هذا، وهي الأهم والتي يُمكن أنْ يلعب مِن خلالها المُستعربون دوراً كبيراً في تقويم أوربّا الرازحة تحت وطأة التخلّف الحضاري، والخواء الثقافي، ورفدها بالمعارف والعلوم الحيويّة لنهضتها المخطّط لها. ثمّ إنّ دورهم هذا هو دينٌ عليهم وردٌ للجميل الذي قدّمته أوربّا لهم بمساعدتها لضرب الحكم الإسلامي.

وقد بذلت الكنيسة ومؤسّساتها كامل الجهد لاستيعاب كل هذه الأهداف

____________________

(١) لومبير، ايلي - (تطور العمارة الإسلاميّة في إسبانيا...) الترجمة العربيّة: ١٤٤.

(٢) بروفنسال، ليفي - (حضارة العرب في الأندلس) الترجمة العربيّة: ٧٩.

٥٢

في تخطيطٍ شاملٍ، وبرعاية السلطة السياسيّة وتشكيلاتها.

وهكذا كان، فقد ابتكرت الكنيسة حرباً جديدة ومواجهة غير مرتقبة، سلاحُها العلم والفكر واغتنام المفردات الحضاريّة للمسلمين، وتكييفها بالشكل الذي يسدُّ نقصهم وثغراتهم الأيديولوجيّة، ويمنحهم القدرة للتفوّق في هذا الجانب الأساسي على العدوّ الإسلامي. فبعد أنْ كان النصارى الأسبان يتخبّطون في ظُلمات جهلهم إبّان الفتح الإسلامي، ضُعفاء لا يملكون أسباب القوّة للردّ والمواجهة، أدركوا الآن قانوناً أساسيّاً من قوانين مقارعة الخصم والذي يتمثّل في معرفة الخصم وفهم حقيقته، وذلك عن طريق اكتشاف عوامل كماله ونقصه، وأسباب قوّته وضعفه، ومواطن ذلك في وجوده، ومن الذي يكمن وراء تفوّقه وهيمنته. وخلال دورة زمنيّة لم تطل كثيراً استطاعوا بإتقان أنْ يصلوا إلى أهدافهم، ويستحوذوا على كافّة مستلزمات المواجهة الشاملة لدحر المسلمين.

وفي طليعة انجازاتهم هذه:

أ - ما قام به الرُهبان مع بداية القرن التاسع من تعلّم اللغة العربيّة الفصحى، ومن ثمّ الإقبال على الترجمة عنها، وذلك (بناءً على تعليمات أساقفتهم)(١) . كما

____________________

(١) إنّ أوّل ترجمة (مزعومة) للقرآن يرجع تأريخها إلى عام ١١٤٣م، عندما أنهى إنجليزي وهو(روبرت الكتوني) بين ١٦ أيار و٣١ كانون الأوّل، من العام المذكور ترجمة لبعض معاني القرآن من العربيّة إلى اللاتينيّة، واستناداً إلى فهمه الشخصي. وكان هذا الرجل قد تنقّل في بعض البلدان الآسيويّة قبل انتقاله إلى برشلونة عام ١١٣٦م. وقد كانت ترجمته هذه بالإضافة إلى ترجمة كتب أُخرى من العربيّة إلى اللاتينية قد نمت تحت إشراف ورعاية أحد الأساقفة، وهو(بطرس الموقر) رئيس دير(كلوني) الفرنسي، وهو الدير الذي تخرّج منه البابا (أُوربانس الثاني) مؤجّج الحروب الصليبيّة. وكان الموقر هذا يرى في الإسلام خطراً فكريّاً شديداً على المسيحيّة لابد من التعرّف عليه لتمكن مكافحته بغير الوسائل العسكريّة.

راجع ما يلي:

خدابخش، صلاح الدين - (حضارة الإسلام) الترجمة العربيّة: ٤١ - ٤٢. وكذلك سوذرن، ريتشارد. (صورة الإسلام في أوربّا في العصور الوسطى): ٨٠ - ٨٢.

٥٣

جاء على لسان المُستشرق(فرانز روزنتال) بقوله: (وبتعلّم اللغة العربيّة باعتبارها لغة العلوم والفلسفة والفكر آنذاك، وبالاطلاع على القرآن وترجمته إلى اللاتينيّة، بهدفٍ وحيد وهو الوصول إلى فهمٍ عميق للتفكير الديني الكلامي عند المسلمين، أملاً في أنْ يُصبح الرهبان أقدر على التعرّف على هذا التفكير، واستغلال ما كانوا يتصوّرون أنّه مواطن الضعف فيه)(١) .

ب - قيام القساوسة والرهبان الأوربّيون، وكذلك الأسبان بحملةٍ ضخمةٍ لترجمة الفكر والثقافة الإسلاميّة وعطاءاتها الحضاريّة الإنسانيّة، وبذلك تمكّنوا مِن تأسيس أوّل شبكة إيديولوجيّة للاستشراق الغربي، مستهدفين بذلك مقاومة الإسلام ومحاصرته سياسيّاً وفكرياً وعقائديّاً بعيداً عن أيّ هدفٍ علمي منزّه(٢) ، واضعين نصب أعينهم إعادة المجد التليد، والبريق القديم الذي فقدته النصرانيّة هدفاً لهم، مخطّطين لحملاتٍ ضخمةٍ للتنصير، عبر منهجَين متضادَين ومتوازيَين ظاهريّاً: أحدهما علمي يستند إلى البحث والدراسة بقصد المعرفة والكشف، والآخر سياسي تطويقي يهدف إلى تدمير وتصفية الخصم بأيّ وسيلةٍ ممكنة. وبذلك تتوظّف كلّ الجهود العلميّة والسياسيّة لتحقيق الهدف التنصيري.

ويشهد على ذلك قول(رودي بارت) : (كان موقف الغرب المسيحي في العصر الوسيط من الإسلام هو موقف الدفع والمشاحنة فحسب. صحيح أنْ العلماء ورجال اللاهوت في العصر الوسيط كانوا يتّصلون بالمصادر الأُولى في تعرّفهم على الإسلام، وكانوا يتّصلون بها على نطاق كبير، ولكن كلّ محاولةٍ لتقويم هذه

____________________

(١) فوك، يوهان - (المُستشرقون الألمان): ١٥.

(٢) سمايلو فيتش، أحمد - (فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر): ٤٩. وكذلك مقدّمة مصطفى محمود لكتاب سمايلو فيتش: ٣. وكذلك خدابخش، صلاح الدين في (حضارة الإسلام) الترجمة العربيّة: ٣٥.

٥٤

المصادر على نحوٍ موضوعي نوعاً ما كانت تصطدم بحكمٍ سابقٍ يتمثّل في أنّ الدين المعادي للمسيحيّة لا يُمكن أنْ يكون فيه خير)(١) .

ج - ودعماً لهذا المخطّط فقد رافقت تلك الفترة استخدام أبشع وسائل الاضطهاد، وممارسة شتّى أنواع التنكيل بالمسلمين، وارتكاب أفضع جرائم القهر الديني والسياسي بحقّهم، ومحاربتهم نفسيّاً واقتصاديّاً، وصُودرت نتاجاتهم العلميّة والثقافيّة ونُسِبت إلى غيرهم من أعدائهم، وعملت الكنيسة على تأسيس محاكم التفتيش(٢) التي نكّلت بمَن تبقّى من المسلمين الأندلسيّين بعد سقوط الأندلس وغرناطة في أواخر القرن الخامس عشر، وأُعطيت صلاحيّات استثنائيّة واسعة أيّامفرديناند (٣) ،وإيزابيلا (٤) ،وفيليب الثاني (٥) ، وشمِل التقتيل والإحراق

____________________

(١) كراتشقوفسكي، إغناطيوس. (دراسات في تأريخ الأدب العربي) الترجمة العربيّة: ٧٥.

(٢) يُعزى تأسيس محاكم التفتيش إلى البابا(غريغور السابع) عام ١٣٣٣م، عندما أمر بتشكيل لجنة من كلّ قريةٍ أو بلدةٍ يرأسها قسّ، وبعضوية شخصيّتين بارزتين وذلك للتفتيش عن الهراطقة ومحاكمتهم (وقد أطلقت تسمية الهراطقة عند النصارى على أهل البدعة في الدين. والمقصود بهم هنا الذين ينتمون إلى الدين الإسلامي في بلاد النصارى). ثمّ ما لبث أنْ تسلّم المحاكم هذه جماعة الدومنيكان وغيرهم من الرهبان. وجماعة الدومنيكان أو ما يُطلق عليهم: الأُخوة الواعظون: هُم أعضاء الرهبانيّة التي أسّسها القدّيسعبد الأحد لدحض البِدَع عام ١٣٠٦م، وكانوا أرباب التعليم الفلسفي واللاهوتي في القرون الوسطى. دخلوا البلاد الشرقيّة في القرن السابع عشر، أسّسوا كليريكيّة الموصل عام ١٨٨٢م (وهي البيع التي يخدم فيها الشمامسة والقساوسة والأساقفة)، وكانت لهم فيها مطبعة عربيّة شهيرة، ولهم في القدس مدرسة الكتاب المقدّس.

راجع، براندتراند، جون في (تراث الإسلام) الترجمة العربيّة: ٧٠، وكذلك (القاموس (المنجد في الإعلام)).

(٣) فرديناند: ملك أراغون وهو المعروف بالكاثوليكي، ملك قشتالة (١٤٧٤ - ١٥٠٤م) بعد زواجه وإرثه عرش قشتالة من إيزابيل، أخذ غرناطة من العرب (المسلمين) عام ١٤٩٢م ووحد إسبانيا تحت سلطته ونظم إداراتها. وفي عهده اكتشف كريستوفر كولومبس أميركا. عن (القاموس (المنجد في الإعلام)).

(٤) إيزابيلا: (١٤٥١ - ١٥٠٤م) ملّقبة بالكاثوليكيّة وهي ملكة قشتالة التي تزوّجها فرديناند، فتوحّدت بهذا الزواج الدولة الأسبانيّة، وأدّى ذلك إلى سقوط غرناطة عام ١٤٩٢م. عن (القاموس (المنجد في الأعلام)).

(٥) فيليب الثاني: (١٥٢٧ - ١٥٩٨م) ابن كارل الخامس ملك أسبانيا وهولندا (١٥٥٦م). ثمّ ملك = البرتغال عام ١٥٨٠م، ويعتبر عهده أوج السيطرة الأسبانية في أوربّا. عن (القاموس (المنجد في الأعلام)).

٥٥

والذبح جماعةً من المسلمين الذين تنصّروا ظاهراً، وأقاموا على عقيدتهم (الإسلاميّة) وظلّوا يمارسونها في الخفاء. وامتدّت صلاحيّات هذه المؤسّسة التنكيليّة لتنال من مصادر الفكر الإسلامي، وإحراق الكتب، وإتلاف كلّ ما يُؤدّي في نظر الأساقفة إلى إلحاق الضرر بالكنيسة.

وبالرغم من ذلك فقد (بقي المسلمون الذين ظلّوا في أسبانيا بعد استردادها (سقوط الأندلس) يحتفظون بكتبهم، باذلين غاية جهدهم لإخفائها عن أعيُن مكاتب التفتيش. ولمّا اضطرّوا إلى مغادرة وطنهم خبأوا كتبهم في فجوات الجدران، أو دفنوها تحت الأرض في بيوتهم المتروكة. وقد عثر في القرن الأخير مصادفة على عدّة مكتبات منها...)(١) . واستمرّت محاكم التفتيش قائمة في أسبانيا حتّى حلّها نابليون بونابرت عام ١٧٩٢م.

____________________

(١) كراتشقوفسكي، إغناطيوس (دراسات في تأريخ الأدب العربي) الترجمة العربيّة: ٧١ - ٧٢. ويذكر شكيب أرسلان في كتابه (الحلل السندسيّة في الأخبار والآثار الأندلسيّة) المجلد الأوّل: ٢٨٠ - ٣٨٣ الكثير من الأخبار عن صنوف الاضطهاد التي مُورست في حقّ مَن كانت محاكم التفتيش تشكّ بأنّه لا يزال على إسلامه من أهالي طليطلة، ومنها الإحراق بالنار ومصادرة الأملاك والتعزير.. إلخ. وذلك بتهم مثل عدم أكل لحم الخنزير، والامتناع عن شرب الخمرة وغيرها...

٥٦

الاستعراب(١) أولاً ثمّ الاستشراق

نشأت ظاهرة الاستعراب نتيجة للاحتكاك المباشر الذي حصل بين بعض الطوائف المسيحيّة التي كانت تقطن إسبانيا وبين المسلمين العرب فاتحي الأندلس، والذي أدّى بدوره إلى تعميق عُرى التمازج العرقي والتعايش الاجتماعي والاتّصال الثقافي فيما بينهم. وقد أفرزت هذه الحالة ظهور طبقة اجتماعيّة واسعة من المجتمع الأندلسي اندمجت مع أوساط المسلمين، وتشبّهت بهم في سيرتهم وسلوكهم اليومي، وقلّدتهم في إقامة مناسباتهم وشعائرهم الدينيّة، وحتّى في دقائق وجزئيّات أُمورهم الحيويّة فأقدم الكثير منهم على الاختتان وفق مراسم المسلمين، وامتنعوا عن معاقرة الخمر وأكل لحم الخنزير، وغيرها من الممارسات التي كانت مألوفة في المجتمع النصراني. وقد أُطلق على هؤلاء (المُستعربين) الذين كان جُلّهم من أبناء الأندلس القُدماء الذين انحدروا من آباء إسبان، ومن خلال البحث والاستقصاء عن أحوالهم أمكن تصنيفهم إلى صنفين:

الأوّل: ويضم الذين دخلوا الإسلام أثناء الفتح (فتح الأندلس) وحسُن إسلام الكثير منهم، فأقبلوا على دراسة الفكر الإسلامي، وتدرجوا في شتّى العلوم. فكانوا أصحاب التآليف والتصانيف، وصارت لهم مكانة علميّة مرموقة تميّزوا بها

____________________

(١) مصطلح يطلق على الذين صاروا دُخلاء بين العرب، ثمّ سرى استعماله لأُولئك الذين دخلوا الإسلام بعد أنْ تعلموا اللغة العربيّة وتشبّهوا بالمسلمين العرب خاصّة في عاداتهم وتقاليدهم.

٥٧

عمّن سواهم، وظهر فيهم العلماء والأُدباء والقادة العسكريّون، فحازوا إعجاب الحكام المسلمين وأصبح قسمٌ منهم ذوي نفوذ واسع في الحكم (ولكنّهم ظلّوا مع ذلك لا يجدون أنفسهم إلاّ مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة)(١) .

الثاني: كان يضم أُولئك الذين تشبّهوا بالمسلمين ظاهريّاً، ولم يدخل الإيمان في قلوبهم، وكان تأثّرهم سطحيّاً على قاعدة التمثّل بالفاتحين والتشبه بهم. كما يرى ابن خلدون ذلك (المغلوب يتشبّه أبداً بالغالب). وبالرغم من إقبالهم على تعلّم اللغة العربيّة ودراسة آثار المسلمين وأفكارهم، وكذلك إعجابهم بالمنجزات الحضاريّة لهم، وانبهارهم بالطرح الثقافي الإسلامي الجديد. إلاّ أنّ هذا لم يكن ليصرفهم عن عدائهم الشديد للرسالة الدينيّة والإيديولوجيّة الإسلاميّة، ولا ليثنيهم عن رفضهم القومي للسلطة السياسيّة التي يخضعون لها.

ولا سيّما أنّ بعض الحكّام آنذاك كانوا لأغراض سياسيّة يستخدمون أساليب مِن شأنها أنْ تثير روح العصبيّة بين طَبَقات المجتمع الأندلسي، كأنْ يُقرّبوا طائفة على حساب طائفة أُخرى، ممّا يُؤدّي إلى نشوء العداء مع السلطة، وبالتالي محاولة الانتقام أو التقليل من شأن الرسالة والفكر الذي ينتمي إليه هؤلاء الحكّام.

فمثلاً عند اشتداد الروح العصبيّة بين القبائل العربيّة المتنافسة في عهد عبد الرحمان الداخل ويأسه من القضاء عليها وإزالتها، واتّخاذها أُسلوب المواجهة والمنافسة مع الحكم، لجأ إلى تكوين طبقة الأعوان والقادة، وربّاهم بنفسه واستعان بهم على إدارة دفّة الحكم، ونفوذهم ينمو نتيجةً لقربهم من الطبقة الحاكمة حتّى صاروا شركاء للخليفة في الحكم، ثمّ صاروا يدبّرون المؤامرات لإدارة الحكم بأنفسهم(٢) .

____________________

(١) د. إحسان، عبّاس (تأريخ الأدب الأندلسي): ٨٩.

(٢) مجلّة نور الإسلام. العددان ٢٧ - ٢٨ (العصبيّات وآثارها في سقوط الأندلس): ٣٤.

٥٨

وعلى أثر ذلك تولّد الصراع بين العرب والمُستعربين، ولم يكن هذا الصراع سياسيّاً أو عسكريّاً فحسب، بل كان صراعاً يلتمس مبرّراته مِن أُطُر دينيّة، وينعكس على طبيعة التفكير الديني، الأمر الذي نشأ عنه نَمَطَان من التفكير: نمط يتَطرّف في تمجيد العرب دينيّاً، وآخر يتَطرّف في الاتّجاه المضاد.

وليس إلى الشكّ سبيل في أنّ ابتعاد الحكم العربي في الأندلس عن الإسلام، كان له الأثر الكبير في إعطاء الفرصة للمُستعربين كي ينتفضوا ويترجموا رفضهم بشكل حرب اتّخذت أبعاداً مختلفة، حتّى أنّ بعضاً منهم كان له الدور الكبير في إضرام فتنة طليطلة ضدّ قرطبة في بداية عهد الأمير محمّد بن عبد الرحمان التي تمخّضت عن المعارك التي خاضها ابن حفصون ضدّ الحكم العربي الإسلامي سنوات طوالاً بدأت من عام ٢٦٨هـ وانتهت بوفاته عام ٣٠٦هـ.

وصلت قوّة العداء بين الطرفين إلى الحدّ الذي دفع عمر بن حفصون، إلى الارتداد عن الإسلام والعودة إلى النصرانيّة، لكي يستميل النصارى إليه ويعينوه في قتاله ضدّ الحكم العربي، وذلك من خلال عمليّة أراد بها أنْ تكون انتقاماً من هذا الحكم.

وفي هذا الخضمّ المتلاطم مِن الفتن والصراعات والاضطرابات انتعشت الكنيسة، وبرزت الحوافز، وازدهرت الحركات الداعية إلى تقويض أركان الإمارة الأمويّة، واستُُنفرت القُوى المضادّة للإسلام، وارتفعت أصوات الغُلاة من النصارى برُدودِ فعلٍ متباينة، كان منها اندلاع حركة الاستشهاد كما أسلَفنا، وكذلك بُروز دعاوى مواجهة الوجود الإسلامي بأساليبٍ تتعدّى حدود المصادمات العسكريّة والمواجهات الدمويّة، تهدف إلى مقارعة المسلمين عن طريق الفهم العميق لإيديولوجيّتهم، ومعرفة أسباب قوّتهم ومنازلتهم بمناهجهم الفكريّة وقواعدهم الحضاريّة.

٥٩

وكان للمُستعربين الدور الفعلي في الاختراق البشري والثقافي والسياسي للمجتمع الأندلسي، فوظّف فعلهم هذا بقصد أو بدون قصد، في بعض الأحيان، في خضمّ المشروع المعادي للوجود الإسلامي.

وإذا كان الاستشراق علماً يختصّ بلغات الشرق، وبالانجازات الحضاريّة المعبّر عنها بتلك اللغة، وبأديانهم وقيمهم وثقافتهم. وإذا كان قد فتح أمام الغرب والأوربّيين بصورةٍ عامّة أبواب الفكر الإسلامي، وآفاق نظامه الدقيق بهدف فهم الأُطروحة الإسلاميّة، التي غزت العالم وغيّرت الكثير من الثقافات السائدة والنظُم المنحرفة عن الفطرة الإنسانيّة، وتداعت أمامها أغلب النظريّات المتهرّئة، كان لابدّ من استطلاع دواعي هذه الأطروحة بل والمعايشة المباشرة والشاملة للوضع الجديد الذي طرأ على العالم، إزاء التحوّلات الخطيرة التي حصلت بفعل الإسلام والمسلمين.

وعليه فلابدّ للباحث المتتبّع للوقائع التاريخيّة من الاعتقاد بأنّ بِدء تكوّن الاستشراق، قد حدث بعد انتهاء عمليّات الفتح الإسلامي لشبه الجزيرة الأيبيريّة، أي بعد سنة ٧١٥م وبِدء استيطان العرب للمناطق المفتوحة، وأنّ ظاهرة الاستعراب الثقافي والاجتماعي والتشبّه بالفاتحين في عاداتهم وممارساتهم، لا يمكن فصلها عن تطوّر حركة الاستشراق وشروطها، والأوليّات الاجتماعيّة لتكوّنها.

بالإضافة إلى هذا فقد برز طرحٌ آخر كان له الدور الكبير في بلْوَرة الاستشراق، كان أبطاله وأدوات تنفيذه اليهود الذين وجدوا في المسلمين الفاتحين طريقاً للخلاص من الاضطهاد القوطي(١) ، وظلم الكاثوليكيّة. فتعاونوا معهم

____________________

(١) القوط: مجموعة شعوب منهم الشرقيّون ومنهم الغربيّون. والقوط الشرقيّون: استقرّوا أوّلاً في وادي الدانوب الشرقي، ثُمّ غزوا إيطاليا وأسّسوا فيها مملكة في أواخر القرن الخامس الميلادي. قضى عليها بوستينياس عام ٥٥٢م. والقوط الغربيّون: أقاموا غربي الدانوب في القرن الرابع الميلادي واعتنقوا = المسيحيّة الآريوسيّة (وهي بِدعة لدى النصارى، تنسب آريوس إلى الكاهن الاسكندري). احتلّوا روما عام ٤١٠م ثُمّ جلوا عنها ليستقرّوا في جنوب غربي فرنسا. ثمّ إسبانيا حيث أسّسوا مملكة ظلّت قائمة حتّى الفتح الإسلامي عام ٧١١م (القاموس (المنجد في الإعلام)).

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

المهدي اسمه اسمي. ويخرج وهو ابن إحدى وخمسين... الحديث إلى غير ذلك من الروايات.

النوع الثاني: الأخبار الدالة على صفاته الجسمية عند ظهوره، وهي كثيرة ومتنوّعة، نذكر منها نماذج كافية:

أخرج أبو داود(١) بإسناده عن أبي سعيد الخدري، قال:

قال رسول الله (ص): ( المهدي منّي: أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما مُلئت ظلماً وجوراً... ) الحديث.

وأخرج ابن الصباغ في الفصول المهمّة(٢) عن أبي أُمامة الباهلي، قال:

قال رسول الله (ص) - في حديث عن المهدي (ع) -: ( كأنّ وجهه كوكب دُرّي، في خدّه الأيمن خالٌ أسود عليه عبايتان قطوانيتان، كأنّه من رجال بني إسرائيل... ) الحديث.

وأخرجه الكنجي في البيان(٣) .

وأخرج الكنجي أيضاً(٤) بإسناده عن عبد الرحمان بن عوف، قال: قال رسول الله: (ص):

( المهدي رجل من ولدي وجهه كالكوكب الدرّي، اللون لون عربي والجسم جسم إسرائيلي.. ) الحديث.

وأخرج أيضاً(٥) بإسناده عن عبد الرحمان بن عوف، قال: قال رسول الله (ص ):

( ليبعثنّ الله تعالى من عترتي رجلاً: أفرق الثنايا، أجلى الجبهة، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً... ) الحديث.

وفي حديث آخر عن علي بن أبي طاالب (ع) قال:

- في حديث عن المهدي (ع) -: ( كثّ اللحية، أكحل العينين، برّاق

____________________

(١) السنن ج٢ ص٤٢٢.

(٢) ص٣١٧.

(٣) ص٩٥.

(٤) ص٩٤.

(٥) ص٩٦، وكذلك الحديث الذي بعده.

٣٦١

الثنايا، في وجهه خال، أقنى، أجلى، في كتفه علامة النبي (ص)... ) الحديث.

وأخرجه السيوطي في الحاوي(١) .

وأخرج السيوطي أيضاً عن نعيم بن حماد بن محمد بن حمير، قال:

المهدي أزجّ، أبلج، أعين... الحديث.

وروى النعماني(٢) بإسناده عن سليمان بن هلال قال: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدّه، عن الحسين بن علي (ع)، قال:

( جاء رجل إلى أمير المؤمنين (ع) فقال له: يا أمير المؤمنين نبّئنا بمهديّكم هذا... إلى أن قال: وهو رجل جلي الجبين، أقنى الأنف، ضخم البطن، أذيل الفخذين، بفخذه اليمنى شامة، أفلج الثنايا. ويملأ الأرض عدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً ).

وروى بإسناده عن حمران بن أعين، قال: قلت لأبي جعفر الباقر (ع):

جُعلت فداك، إنّي قد دخلت المدينة وفي حقوي هميان فيه ألف دينار، وقد أعطيت الله عهداً أنني أنفقها بابك ديناراً ديناراً، أو تجيبني فيما أسألك عنه. فقال: يا حمران سَلْ تُجَب، ولا تبعض دنانيرك. فقلت سألتك بقرابتك من رسول الله (ص): أنت صاحب هذا الأمر والقائم به؟ قال: لا. قلت: فمَن هو؟ بأبي أنت وأُمّي. فقال: ذاك المشرب حمرة، الغائر العينين، المشرف الحاجبين، عريض ما بين المنكبين، برأسه حزاز (خراز) وبوجهه أثر، رحم الله موسى ).

وأخرج أيضاً(٣) بإسناده عن حمران بن أعين، قال: سألت أبا جعفر (ع):

فقلت له: أنت القائم؟ فقال: ( قد عرفت حيث تذهب ( بك المذاهب ) صاحبك المدمج ( البذخ ) البطن، ثم الخراز برأسه، ابن الأصلح، رحم الله فلاناً ).

____________________

(١) ج٢ ص١٤٧ وكذلك الذي بعده.

(٢) ص١١٤ وكذلك الذي بعده.

(٣) ص١١٥ وكذلك الخبر الذي بعده.

٣٦٢

وأخرج أيضاً بإسناده عن أبي بصير، قال، قال أبو جعفر(ع) أو أبو عبد الله (ع) - الشك من ابن عصام -: يا أبا محمد، بالقائم علامتان:

شامة في رأسه ودار الخراز برأسه، وشامة بين كتفيه من جانبه الأيسر تحت كتفه، ورقة مثل ورقة الآس. ابن سبيّة، وابن خيرة الإماء.

وأخرج(١) بإسناده عبد الرحيم القصير، قال: قلت لأبي جعفر (ع)، قول أمير المؤمنين (ع): بأبي ابن خيرة الإماء، أهي فاطمة (ع). فقال:

( إنّ فاطمة (ع) خيرة الحراير، ذاك المبذخ بطنه، المشرب حمرة، رحم الله فلاناً ).

وأخرج الشيخ في الغيبة(٢) والمفيد في الإرشاد(٣) بإسنادهما عن جابر الجعفي:

سمعت أبا جعفر (ع) يقول:

سأل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين (ع) فقال: أخبرني عن المهدي ما اسمه؟ فقال: ما اسمه. فإنّ حبيبي شهد ( لعلّها: عهد ) إليّ أن لا أُحدّث باسمه، حتى يبعثه الله. ( قال ): فأخبرني عن صفته؟ قال: هو شاب مربوع، حسن الوجه، حسن الشعر، يسيل شعره على منكبيه، ونور وجهه يعلو سواد لحيته ورأسه، بأبي ابن خيرة الإماء.

وأخرج الصدوق في إكمال الدين(٤) بإسناده عن زياد بن المنذر، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر، عن أبيه عن جدّه (ع)، قال: قال أمير المؤمنين (ع) وهو على المنبر:

( يخرج رجل من ولدي في آخر الزمان، أبيض اللون مشرب بحمرة مبذخ البطن، عريض الفخذين، عظيم مشاش المنكين، بظهره شامتان: شامة على لون جلده، وشامة على شبه شامة النبي (ص )... ) الحديث.

____________________

(١) ص١٢٠. (٢) ص٢٨١.

(٣) ص٣٤٢.

(٤) المصدر المخطوط.

٣٦٣

وأخرجه الرواندي(١) بلفظ متقارب.

إلى غير ذلك من الأخبار.

النوع الثالث: الأخبار الدالة على شجاعته وارتفاع معنوياته، وبعض صفاته ( الاجتماعية ) الأُخرى.

أخرج النعماني(٢) بسنده إلى سليمان بن هلال، قال: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدّه، عن الحسين بن علي (ع)، قال: ( جاء رجل إلى أمير المؤمنين (ع) فقال له: يا أمير المؤمنين، نبّئنا بمهديّكم هذا. فقال:

إذا درج الدارجون، وقلّ المؤمنون... إلى أن قال: لا يجبن إذا المنايا هلعت، ولا يجوز إذا المنون اكتنفت، ولا ينكل إذا الكمأة اصطرعت، مشمّر مغلولب، ظفر ضرغامه، حصد مخدش، ذكر، سيف من سيوف الله، رأس قيّم، يشق رأسه في باذخ السؤدد، وعازر مجده في أكرم مَحْتِد.

إلى أن قال: أوسعكم كهفاً، وأكثركم علماً، وأوصلكم رحماً.

اللّهمّ فاجعل بيعته خروجاً من الغمّة، واجمع به شمل الأُمّة. فإن خار الله لك فاعزم، ولا تنثن عنه إذا وُفّقت له، وتجزنّ عنه إن هُديت إليه. هاه، وأوما بيده إلى صدره شوقاً إلى رؤيته ).

وأخرج الطبرسي في أعلام الورى(٣) عن الريّان بن الصلت، قال: قلت للرضا (ع): أنت صاحب هذا الأمر؟ فقال:

( أنا صاحب هذا الأمر، ولكنّي لست بالذي أملؤها عدلاً كما مُلئت جوراً.

وكيف أكون كذلك على ما ترى من ضعف بدني، وأنّ القائم هو الذي إذا خرج كان في سنّ الشيوخ ومنظر الشبّان، قويّاً في بدنه حتى لو مدّ يده إلى أعظم شجرة على وجه الأرض لقلعها، ولو صاح بين الجبال لتكدكت صخورها ).

____________________

(١) الخرايج والجرايح ص١٩٥.

(٢) الغيبة ص ١١٣ وما بعدها.

(٣) ص ٤٠٧.

٣٦٤

إلى غير ذلك من الأخبار.

وهذه الأخبار ناطقة بمضامينها واضحة بمداليلها، فلا حاجة إلى تكرار ما فيها. كل ما في الأمر أنّنا نحتاج إلى أمرين:

أحدهما: تفسير بعض ألفاظها على المستوى اللغوي.

والثاني: محاولة تذليل صعوبة التعارض الواقع في بعضها. وهو ما سنذكره فيما يلي:

الجهة الثالثة: في شرح هذه الأخبار بأنواعها الثلاثة من الناحية اللغوية، سواء في التفسير اللغوي الصرف أو الإشارة إلى المراد من المجاز والكناية ونحوها؛ آخذين من الروايات التي ذكرناها، وعلى القارئ تطبيقه عليها.

قوله: يرجع إليهم شابّاً موفّقاً... يفهم من تلك الإشارة إلى حقيقة معيّنة هي:

أنّ العمر الذي يستطيع الشاب أن يقضيه في الحياة يكون طويلاً عادةً، ومن هنا يكون مستقبله منفتحاً والأمل فيه عريضاً... وهو معنى التوفيق المشار إليه. وهو معنى يفقده المتقدّم في السن؛ لأنّ مستقبله يكون بارداً والأمل فيه قصيراً، كما هو معلوم.

قوله: صاحب هذا الأمر القوي المشمّر... من شمّر عن ساعديه فهو مشمّر.

وإنّما يشمّر الإنسان عادةً للعمل، وهو مَن يكون قويّاً على إنجازه رحب الصدر بالنسبة إليه، وهذه الصفة تكون في فترة الشباب عادة.

( أجلى الجبهة ) مَن يكون عالي الجبهة واسعها.

( أقنى الأنف ).... قنى الأنف يقني إذا ارتفع وسط قصبته وضاق منخزاه.

( كأن وجهه كوكب درّي ).... تعبير مجازي عن الهيبة والبهاء.

( وكأنّه من رجال بني إسرائيل....والجسم جسم اسرائيلي ).... إشارة إلى ضخامة الجسم و تناسق أعضائه. ومن الواضح أنّ سحنته ليست إسرائيلية؛ لأنّه ليس من نسلهم بالضرورة.

( اللون لون عربي ) يعني في السمرة.

( أفرق الثنايا )... مفلّج الأسنان...متباعد ما بينها.

( أكحل العينين ).... يفهم منه سواد الأهداب.. الذي هو العمل الأساسي للكحل.

( برّاق الثنايا ).... أبيض الأسنان.

٣٦٥

( أزجّ الحاجبين )... يقال: زجّج حاجبيه إذا دققهما وطولهما.

( جلي الجبين، أو أجلى الجبين ) الجلي هو الظاهر والواضح، والأجلى تفضيل في هذه الصفة. والجبين: ناحية الجبهة من محاذاة النزعة إلى الصدغ.

( أذيل الفخذين ): يقال: ذالت المرأة أو الناقة، إذا هزلت. فيكون المراد دقّة فخذيه وهزالهما. فيعارض ما في رواية أُخرى من أنّه ( عظيم الفخذين ) ويقال: ذيّل ثوبه إذا طوله. فيكون المراد أنّه طويل الفخذين، وإن كان عريضهما أيضاً، وبهذا التفسير يرتفع التعارض. وفسّره في ( الإشاعة )(١) بكونه منفرج الفخذين متباعدهما. ولم نجد له سنداً في اللغة.

( الغائر العينين، المشرف الحاجبين ) بمعنى أنّ عينه داخلة وحاجباه خارجتان. والعادة في مثل ذلك أن يكون الحاجبان عريضان. فيكون معارضاً - إلى حدٍّ ما - مع ما دلّ على كونه أزجّ الحاجبين دقيقهما. إلاّ أنّ الأمر ليس ضروري الثبوت؛ لإمكان أن يكون خارج الحاجبين ودقيقهما.

( برأسه حزاز أو خراز أو داء الخراز ) على اختلاف النقول. والحزاز بمهملة مفتوحة ومنقوطتان: الهبرية في الرأس كأنّه نخالة(٢) ، وهو قشرة الرأس التي تسقط عند الحك.

عند مَن ابتلي بهذا الداء. ولعلّ الحراز، بالراء والزاي تحريف عنه فإنّه ليس له في اللغة معنى مناسب.

( مبدح البطن ) أي واسعها، فإنّ البدحة بضمٍّ فسكون: المتّسع من الأرض، وقد ورد هذا اللفظ في المصادر على أشكال: مدح ومبلح ومبدح، وكله غير مطابق مع اللغة، ولعلّه تحريف في الخط. والصحيح أن يقال: أبدح سكون ففتح أو بدح بفتح فكسر.

وورد أيضاً ( المبذخ بطنه ) وهو دال على نفس المعنى؛ لأنّه من البذخ وهو العيش في الرفاه الزائد الذي يسبّب إضخامة البطن. و ليس معنى ذلك أن يعيش في رفاه فعلاً، وإنّما صفته كمَن يعيش هذه العيشة.

( مربوع ) متوسّط الطول.

( عظيم مشاش المنكبين ) المشاش جمع مشاشة، وهي رؤوس العظام، مثل

____________________

(١) الإشاعة لأشراط الساعة: ص٨٩.

(٢) أنظر أقرب الموارد، مادة حزز.

٣٦٦

الركبتين والمرفقين والمنكبين. ويقال: فلان جليل المشاش، عظيم نفس العظام(١) وهذه الصفة تدل على عرض المنكبين بطبيعة الحال.

( مغلولب ) اغلولب العشب تكاثف واغلولب القوم كثروا(٢) . فيكون المراد كونه (ع) مجمع المؤمنين ومهوى قلوب الصالحين.

( ظفر ) من إطلاق المصدر على الشخص مجازاً، يراد به اسم الفاعل، كقولنا: فلان عدل أي عادل. فيكون المراد كونه ظافراً أي منتصراً غالباً.

( ضرغامة ) الأسد.

( حصد ) بكسر الصاد يقال: حصد الحبل أو الدرع إذا اشتدّ فتله واستحكمت صنعته. فيكون المراد منه عندئذٍ كونه غليظ الرقبة.

( مخدش ) إن قرأناه بكسر الدال، كان من الخدش وهو الجرح، فيكون المراد كونه كثير القتل. وإن قرأناه بفتح الدال، فالمخدّش: مقطع العنق من الإنسان(٣) ولعلّ المراد منه عندئذٍ كونه غليظ الرقبة، دلالة على ضخامة جسمه، كما دلّت عليه سائر الروايات، وهو موافق لوصف السفير الثاني للمهدي (ع) خلال غيبته الصغرى له، إذ قال: ورقبته مثل ذا. أومأ بيديه....أي أغلظ الرقاب حسناً(٤) .

( يشق رأسه في باذخ السؤدد ) تعبير مجازي عن عظمته وشرفه.

(وعازر مجده في أكرم محتد ). عزر الفتح اشتد وغلظ، وبالكسر اشتد وصلب، وبالكسر اشتد وصلب.

واسم الفاعل منها عازر. والمحتد هو الأصل في النسب. فالمراد: أنّ مجده الأصيل الشديد يتصل بأكرم أصل نسبي باعتبار كونه متصلاً برسول الله (ص).

وهناك عدد آخر من الصفات، واضحة المعنى في الروايات.

الجهة الرابعة: في حل أهم التعارضات الموجودة في هذه الروايات: إنّ أهم تعارض في هذه الروايات ما سمعناه في النوع الأول، من تعيين عمر الإمام المهدي (ع) حين ظهوره. وهناك بعض التعارضات الأخرى البسيطة التي لا حاجة إلى عرضها.

____________________

(١) انظر المصدر، مادة مشش.

(٢) أنظر المصدر مادة غلب.

(٣) المصدر مادة خدش.

(٤) انظر غيبة الشيخ ص٢١٩.

٣٦٧

تنقسم الروايات الدالة على عمر الإمام المهدي (ع) إلى قسمين رئيسين: القسم الأول: ما دل على التحديد برقم معين. وهي: الأربعين والثلاثين والاثنين والثلاثين والثمانية عشر، والإحدى والخمسين. وظاهر كل رواية أنه لا يزيد ولا ينقص عن الرقم الوارد فيها.

القسم الثاني: ما دل على فترة معينة تقريبية كقوله: شاب المنظر، ابن أربعين أو دونها، ما بين الثلاثين والأربعين. وفي صورة شاب، ونحوها.

ونحن تارةً ننطلق من الفهم غير الإمامي للمهدي (ع) وهو أنّه رجل يولد في زمانه فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً.

وأُخرى ننطلق من الفهم الإمامي القائل بأنّ المهدي (ع) طويل العمر وغائب عن الأنظار ردحاً طويلاً من الزمن.

ويفترق هذان الفهمان في تحديد العمر فرقاً أساسياً، هو أنّ المهدي بالفهم غير الإمامي نستطيع أن نحدّد عمره وقت ظهوره بالأعوام، بل بالأيام والساعات والدقائق، بمجرّد الإطلاع على تاريخ ميلاده. على حين لا يكون ذلك ممكناً في الفهم الإمامي؛ لأنّ تحديد العمر الطويل ممكن إلاّ أنّه غير مقصود الآن التركيز عليه؛ لأنّه يماثل شكله الظاهري عند ظهوره. وإنّما المهم الآن تحديد عمره من شكله الظاهري فقط، كما تقول الروايات ( يحسبه الناظر إليه ابن أربعين عاماً أو دونها ).

والشكل الظاهري غير محدد بطبعه. لا نستطيع أن نعدّه بالأعوام فضلاً عن الأيام والساعات. وليس هناك إلاّ التحديد التقريبي الذي يحمل الناظر عنه فكرة إجمالية.

ونحن إذا انطلقنا من الفهم غير الإمامي، كان القسم الأوّل من الروايات متعارضاً تماماً؛ لأنّ المهدي إمّا أن يكون ابن ثلاثين أو ابن اثنين وثلاثين أو ابن أربعين.... وهكذا. ولا يمكن أن يكون متّصفاً برقمين من هذه الأرقام كما هو واضح.

وبهذا نخسر عدداً من الروايات، غير أنّ عدداً منها دال على الأربعين عاماً. ومن هنا قد يؤخذ بهذا الرقم بالتحديد.

وروايات القسم الثاني أيضاً لا تخلو من المعارضة، فكونه ابن إحدى وخمسين ينافي كونه شابّاً أساساً، و ينافي كونه بين الثلاثين والأربعين، بل إنّ كونه ابن ثلاثين أو أربعين ينافي أن يكون ما بين الثلاثين والأربعين أيضاً..... وهكذا.

إذن، فطبقاً للفهم غير الإمامي، يكون التعارض بين الروايات كبيراً ومتعدداً.

ومعه لا يكون يصفو عندنا شيء معيّن.

٣٦٨

وأمّا لو انطلقنا من زاوية الفهم الإمامي، يكون التعارض بين الروايات كبيراً ومتعدداً، ومعه لا يكون يصفو عندنا شيء معيّن.

وأمّا لو انطلقنا من زاوية الفهم الإمامي، المستلزم - كما عرفنا - لنفي التحديد عن الشكل الظاهري للإمام المهدي، بل يكون تقريبياً على كل حال. ولعلّ التقريب يختلف بعض الشيء باختلاف الناظرين؛ ومن هنا ستتفق أغلب الروايات على (مفهوم ) معيّن أو تحديد تقريبي معيّن، وهو تحديد لا يمكن أن نزيد عليه حتى لو كنّا مواجهين للمهدي تماماً.

فهو شاب المنظر، وفي صورة شاب... والإنسان يبقى شابّاً حتى بعد الأربعين عادةً، وخاصّةً مع نظارة الجسم التي عرفناها في أوصاف المهدي. وهو أيضاً ما بين الثلاثين والأربعين، على وجه التقريب. وهو أيضاً ابن اثنين وثلاثين، كما يقدِّره بعض الناظرين، وهي فترة تقع بين الثلاثين والأربعين، وهو أيضاً ابن ثلاثين، كما يقدِّره بعض الناظرين، وهو قريب من الاثنين والثلاثين، بتقدير الناظرين. وهو أيضاً دون الأربعين بهذا التقدير. بل قد يصل تقدير الناس له إلى الأربعين أيضاً، كما عليه عدد من الروايات.

نعم، لابد من الاستغناء عن روايتين:

الأُولى: الرواية الدالة على أنّ عمره ثمانية عشر عاماً؛ فإنّها مرويّة عن محمد بن حمير لا عن أحد المعصومين، مضافاً إلى منافاتها إلى أكثر الروايات السابقة، كما هو واضح لدى التدقيق.

الثانية: الرواية الدالة على أنّ عمره إحدى وخمسين.... وهي مرويّة عن النبي (ص) إلاّ أنّها لم تصح سنداً، مضافاً إلى منافاتها لكثير من الروايات السابقة، فإنّ مَن يكون شابّاً يقدَّر بفترة الثلاثين والأربعين، لا يقدَّر عادةً بفترة الخمسين، كما هو واضح.

الجهة الخامسة: دلّت الروايات التي سمعناها: أنّ المهدي حين يظهر يكون في سنّ الشيوخ، وهذا صحيح بالضرورة طبقاً للفهم الإمامي لفكرة المهدي. فإنّ الشيخ مَن تجاوز الشباب والكهولة وسواء توفّي عند الثمانين والتسعين أو تجاوزها، والمهدي قد تجاوزها بكثير فهو شيخ في السن، وقد ورد في التسليم على ( نوح ) النبي (ع): السلام عليك يا شيخ المرسلين(١) مع أنّ عمره بنص القرآن لا يقل عن تسعمئة

____________________

(١) انظر مفاتيح الجنان المعرَّب ص٣٤٧.

٣٦٩

وخمسين عاماً.

وقد أشرنا في التاريخ السابق(١) ، أنَّ العمر إذا بلغ مثل هذه الأرقام، فلا ينبغي أن نتوقَّع للفرد شكلاً مُعيَّناً، في أيِّ فترة من فترات عمره، بل يبقى شكله - أعني شبابه وكهولته وشيخوخته - منوطة بمشيئة الخالق الذي شاء طول عمره.

وبتعبير آخر: أنَّ هذه الفترات ستكون عنده طويلة تبعاً لطول عمره، وحيث إنَّنا لا نعلم أنَّ رصيده من العمر أيَّ مقدار، فلا نعلم – تبعاً لذلك – أنَّه في أيِّ فترة من فترات عمره.

وهذه الفكرة الواضحة تدعم ما دلَّت عليه الروايات، من أنَّ المهدي (ع) يظهر في سنِّ الشيوخ ومنظر الشبَّان، مضافاً إلى الوضوح المرتكز في ذهن كل مَن يؤمن بالمهدي (ع)، في أنَّه سوف لن يظهر وهو في سنِّ الشيخوخة (جسمياً) بأيِّ حال، وإنَّما يظهر بما دون ذلك من عهود العمر.

بالرغم من ذلك، سمعنا الروايات تُشير إلى أنَّ هذا الفارق بين سنِّه الواقعي وشكله الظاهري، سيكون تمحيصاً ومحنة يمرُّ بها الناس عند ظهوره (ع)، وسيكثر الفاشلون في هذا التمحيص على أثر شكِّهم في مهدوية المهدي، من حيث إنَّه يظهر عليهم شابَّاً وهم يتوقَّعونه شيخاً كبيراً، وسوف لن يثبت على الإيمان به إلاَّ كل مؤمن أخذ الله ميثاقه.

ومن الصعب أن نتصوَّر أن يكون هذا التمحيص عاماً، بعد كل الذي قلناه من مرتكز الأذهان ونصِّ الروايات، واقتضاء الفكرة النظرية عدم شيخوخة المهدي جسمياً.

ومعه؛ يتعيَّن انحصار هذا التمحيص على بعض المستويات.

المستوى الأول: إنَّ هذا التمحيص ثابت بحسب الطبع الأوَّلي للقضية، بمعنى أنَّ هذا الفارق الكبير بين العمر والشكل يقتضي هذا التمحيص، ولكنَّ الروايات التي شرحت ذلك أوضحت إمكان وجود الفارق، فالتفت الناس إلى ذلك، وصار في الإمكان النجاح العام في هذا التمحيص.

المستوى الثاني: إنَّ هذا التمحيص ثابت بالنسبة إلى عدد من الناس، يؤمنون أساساً بطول عمر المهدي، ولكنَّ مستواهم الثقافي واطِّلاعاتهم الدينية، قاصرة عن إدراك إمكان الفارق بين عمره الحقيقي وشكله الظاهري؛ ومن ثَمَّ فسيتوقَّعون ظهوره

____________________

(١) تأريخ الغيبة الكبرى ص٢١.

٣٧٠

بصورة شيخ كبير بقدر ما يؤمنون له من العمر، فإذا رأوه شابَّاً، كان ذلك غير ممكن في نظرهم... فيكون التمحيص في حقِّهم ثابتاً.

أقول: فهذه أربعة من الضمانات لانتصار المهدي، وهي التي يترتَّب على التخطيط الإلهي العام الثابت قبل الظهور، وهي القسم الأول من هذه الضمانات.

القسم الثاني: من ضمانات انتصار المهدي في فتحه العالمي.

وهو ما لا يمتُّ إلى التخطيط العام لعصر الغيبة بصِلَةٍ... وإنَّما هي أمور ذات تخطيطات خاصة بها... توجد فتؤثِّر في نصر الإمام (ع) من الناحية العسكرية أو الاجتماعية أو الفكرية أو غيرها.

وكما كانت الضمانات في القسم الأول أربعة كذلك هي في القسم الثاني أربعة.

الضمان الأول: عنصر المـُباغتة والمفاجأة في الهجوم أو بدء الثورة، بشكل لم يحسب له الآخرون أيَّ حساب، وهي عنصر مُهمٌّ في فوز الجيش وانتصاره، كما أنَّها عنصر يأخذه العسكريون بنظر الاعتبار في وضع الخطط العسكرية، وأنَّ أيَّ خطوة عسكرية يتَّخذها أحد المـُعسكرين ممَّا لم يكن متوقَّعاً بالنسبة إلى المـُعسكر الآخر، تكون هذه الخطوة دائماً ناجحة في مصلحة مَن يتَّخذها، وأنَّ أهمَّ عنصر يكون نافعاً في الحرب هو غفلة المـُعسكر الآخر عن احتمال حدوث الهجوم، أو بدء الثورة أو القتال، وهو معنى المـُفاجأة، إذ يكون المعسكر الآخر مأخوذاً على حين غرَّة بدون استعداد أو اجتماع على سلاح، فيكون احتمال انتصار المعسكر المهاجم أو الجيش الفاتح كبيراً جدَّاً، قد يصل أحياناً إلى حدِّ اليقين.

ويمكن القول: إنَّه كلَّما أمكن المهاجم ضبط عنصر المـُفاجأة أكثر، صار احتمال انتصاره أكبر، حتى ما إذا أصبحت المـُفاجأة (مطلقة) أصبح انتصار المهاجم يقينياً.

ولا زال عالقاً في أذهاننا: كيف استطاعت مصر عبور خطِّ بارليف الإسرائيلي عام ١٩٧٦ باستخدام عنصر المفاجأة، ولازال تحت سيطرة مصر إلى الآن؟ مع أنَّها لن تكن مفاجأة (مطلقة) بالمعنى الكامل؛ لأنَّ الحذر والعداء التقليدي مُتبادل بين المعسكرين بطبيعة الحال.

ولكنَّ هذا العنصر سيكون مطلقاً تماماً في ثورة القائد المهدي العالمية؛ وذلك

٣٧١

لأنَّ أعداءه - من المـُنحرفين والكافرين والمادِّيين - فارغوا الذهن تماماً عن قضية ثورته، وعن احتمال حصولها تماماً؛ فيكون حدوثها مُباغتةً (مطلقة)، وسيؤخذون على حين غرَّة وعلى غير استعداد، وقد أكَّدت الأخبار على هذا ا لعنصر من ضمانات الانتصار:

أخرج الصدوق(١) ، بإسناده المـُتَّصل بالإمام الرضا (ع)، عن آبائه، أنَّ النبي (ص) قيل له: يا رسول الله، متى يخرج القائم من ذُرِّيتك؟

فقال: ( مَثَلُه مَثَلُ الساعة، لا يُجلِّيها لوقتها إلاَّ الله عزَّ وجلَّ، ثقلت في السماوات والأرض، لا تأتيكم إلاَّ بغتة )(٢) .

وأخرج الطبرسي في الاحتجاج(٣) رسالة المهدي (ع) إلى الشيخ المفيد ( عليه الرحمة )، وقد سبق أن ذكرناها في تاريخ الغيبة الكبرى(٤) ، وقد جاء في آخرها: ( فليعمل كل امرئٍ منكم بما يُقرِّب به من محبَّتنا، ويتجنَّب ما يُدنيه من كراهتنا وسخطنا؛ فإنَّ أمرنا بغتة فجأة، حين لا ينفعه توبة، ولا يُنجيه من عقابنا ندم على حوبة... ) الحديث.

إلى غير ذلك من الأخبار...

وينبغي أن نتحدَّث عن عنصر المفاجأة ضمن جهتين:

الجهة الأُولى: أنَّ للمفاجأة بظهور المهدي (ع) تخطيطاً خاصاً بها، مربوطاً بالتخطيط العام السابق على الظهور.

ويمكن إرجاع هذا التخطيط إلى عدَّة فقرات:

الفقرة الأُولى: تعاهد قادة الإسلام الأوائل على عدم التصريح بموعد الظهور، وإبقائه غيباً مكتوباً عن كل أحد، لا يعلم به حتى المـُخلصون من أصحابه - فضلاً عن الآخرين - ويختصُّ علمه بالله عزَّ وجلَّ والقادة الإسلاميين المعصومين أنفسهم.

ولذا سمعنا النبي (ص) في الرواية الأُولى رفض أن يُصرِّح بالوقت، ويُشبِّه خفاء

____________________

(١) انظر كمال الدين، نسخة مخطوطة.

(٢) الأعراف: ٧/١٧٨.

(٣) ج٢ ص ٣٢٤.

(٤) ص١٦٨.

٣٧٢

موعد الظهور بخفاء موعد يوم الساعة ( لا تأتيكم إلاَّ بغتة، ثقلت في السماوات والأرض )(١) .

كيف لا، وهو يرى بأنَّ انتصار ذلك القائد الكبير في اليوم العظيم منوط بالكتمان؟!

الفقرة الثانية: نفي التوقيت، ولعن الوقَّاتين وتكذيبهم، من قِبل القادة الإسلاميين السابقين، والتي سمعناها في فصل سابق من هذا التاريخ.

الفقرة الثالثة: إعطاء العلامات العامة والخاصة، أو بالأحرى البعيدة والقريبة للظهور، مع التجنُّب - بحذر متعمد - التصريح بالوقت الحقيقي لها وله.

الفقرة الرابعة: ما عرفناه من تعذُّر الاطِّلاع على نتيجة التخطيط العام من قِبَل أيِّ إنسان، سوى المهدي نفسه، طبقاً للفهم الإمامي؛ فإنَّ الشرط المـُتبقِّي وهو وجود العدد الكافي لغزو العالم، لا يمكن التعرُّف على نموِّه أو تحقُّقه إلاّ بعد الاطِّلاع على ثلاثة أمور:

الأمر الأول: مقدار هذا العدد المـُحتاج إليه في غزو العالم... كلِّياً.

الأمر الثاني: صفات الإخلاص وغيره التي ينبغي أن يتَّصف بها أفراد هذا الجيش... كلِّياً.

الأمر الثالث: تحقُّق الأمرين الأوَّلين في أشخاص بأعيُنهم في عالم الحياة، أو بتعبير آخر: اتِّصاف نفس المقدار من الأفراد بهذه الأوصاف. وهذا ممَّا لا يمكن التعرُّف عليه بحال، كما سبق أن برهنَّا عليه.

الجهة الثانية: أنَّه كيف ينسجم عنصر المفاجأة مع ما عرفناه من جعل العلامات القريبة للظهور، كالنداء، والخسف، وغيرها، فإنَّه يجعل الظهور مُترقَّباً ليس فيه مفاجأة على الإطلاق؟

والجواب على ذلك: أنَّنا قلنا: إنَّ هذه العلائم إنَّما جُعِلت، لتكون تنبيهاً للمـُخلصين المـُمحَّصين خاصة، وللمؤمنين بالمهدي (ع) عامة... إلى قرب الظهور؛ ومن هنا لا يكون عنصر المفاجأة بالمعنى الكامل ثابتاً بالنسبة إليهم،

____________________

(١) انظر الأعراف: ٧/ ١٧٨

٣٧٣

بل لا معنى لسريانه عليهم عندئذ، لضرورة اجتماعهم إلى المهدي (ع) عند ظهوره، وهذا يستدعي انتباههم إليه قبل الظهور، ولا معنى لغفلتهم أو مُباغتتهم.

والمـُباغتة لا تكون تجاه الأصدقاء، وإنَّما هي خطَّة ضدَّ الأعداء، وقد قلنا أكثر من مرَّة: إنَّ الأعداء لا يلتفتون إلى هذه العلامات، ولا يعتبرونها دالَّةً على شيء أصلاً.

إذن؛ فهم على الدوام غير مُتوقِّعين للظهور على الإطلاق، ومعه فيكون الظهور بالنسبة إليهم مفاجأة كاملة، كما هو المطلوب.

الضمان الثاني: لانتصار المهدي (ع): كونه منصوراً بالرُّعب... وينبغي أن يقع الحديث عن ذلك في عدَّة جهات:

الجهة الأُولى: في الروايات الدالة على ذلك، وهي عديدة، نذكر عدداً من نماذجها:

أخرج النعماني(١) ، عن أبي حمزة الثمالي، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي (ع) يقول: ( لو قد خرج قائم آل محمد (ع)... - إلى أن قال: - والرُّعب مسيرة أمامه ).

وفي نسخة: ( يسير سيرة إمامه ).

وعن(٢) هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (ع) أنَّه قال: ( بينا الرجل على رأس القائم يأمر وينهى، إذ يأمر بضرب عنقه، فلا يبقى بين الخافقين إلاَّ خافه ).

وعن(٣) عبد الرحمان بن كثير، عن أبي عبد الله (ع) - في حديث يذكر راية القائم المهدي (ع)... إلى أن - قال: ( فإذا هو قام نشرها... - وقال: - يسير الرُّعب قدَّامها شهراً،

____________________

(١) الغيبة للنعماني: ص١٢٢.

(٢) المصدر ص١٢٦.

(٣) المصدر ص١٢٨.

(٤) المصدر ص١٦٥.

٣٧٤

ووراءها شهراً، وعن يمينها شهراً وعن يسارها شهراً ).

ثمَّ قال: ( يا أبا محمد، إنَّه يخرج موتوراً غضبان أسفاً، لغضب الله على هذا الخلق... ) الحديث.

وأخرج الصدوق في إكمال الدين(١) ، والطبرسي في إعلام الورى(٢) ، عن محمد بن مسلم الثقفي قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الباقر (ع) يقول: ( القائم منَّا، منصور بالرعب، مؤيَّد بالنصر... ) الحديث.

وقد سبق أن سمعنا لأصحاب القائم (ع) نفس هذه الصفة، كالذي أخرجه المجلسي في البحار(٣) ، عن أبي عبد الله (ع) - في حديث -: ( إذا ساروا سار الرُّعب أمامهم مسيرة شهر ).

الجهة الثانية: الرُّعب لغةً هو الخوف.

ويُفهم منه عادةً الخوف الشديد إذا كان بدرجة لا يمكن كتمه؛ ومعه يكون المقصود من كون المهدي (ع) منصوراً بالرُّعب: انهدام معنويَّات أعدائه واندثار هممهم للوقوف تجاهه، وخوفهم من جيشه الصلب الصامد.

والمقصود من مسيرة الرعب شهراً: أنَّ البلاد الواقعة على بُعْد شهر من موقع جيشه، تخافه وتُصبح مذعورة منه.

والمراد ببُعْد الشهر: المسافة التي يحتاج المسافر في قطعها إلى شهر من الزمن.

فإذا فهمنا هذه المسافة بالفهم القديم، المناسب مع زمن صدور هذه الأخبار، وما كان يفهمه المجتمع يومئذ، وهو السفر على ظهور الحيوانات كالإبل والجياد، فيكون معنى مسير الرعب شهراً: أنَّ البلاد التي تبتعد شهراً من موقع الجيش المهدوي في السفر بوسائط النقل القديمة، تُصبح مرعوبة منه.

وهذا أمر طبيعي؛ لأنَّ مثل هذه البلاد ستكون مُجاورة له بالمفهوم الثابت، ويمكن الوصول إليها بالوسائل الحديثة في عدَّة ساعات، بل في أقلِّ من ساعة، بل يمكن ضربها.

____________________

(١) إكمال الدين ( المخطوط ).

(٢) ص٤٣٣.

(٣) ج٣ / ١٨٠.

٣٧٥

بالسلاح البعيد المدى في لحظات، فإذا كان الجيش المهدوي قويَّاً مرهوب الجانب، كان من الطبيعي أن تكون هذه المناطق مرعوبة منه.

وإذا فهمنا هذه المسافة بالفهم الحديث، كانت - في حقيقتها - مستوعبة للكرة الأرضية كلها... لوضوح إمكان الدوران حولها بطائرات السفر الاعتيادية في أقلِّ من شهر بكثير، فضلاً عن وسائط النقل الحربية الحديثة، والأسلحة والصواريخ المـُتطوَّرة.

ومعه؛ يكون المراد: أنَّ كل أعداء الإمام المهدي (ع) على وجه الأرض يكونون في حالة رعب شامل، وخوف دائم من مهاجمة المهدي لهم.

وسيكون هذا الرعب - مهما كانت أبعاده - ضماناً أكيداً لنجاح الجيش المهدوي وانتصاره، وهو أمر واضح عسكرياً، غير أنَّ الخطط العسكرية الحديثة لا تستطيع إيجاده في الأعداء، إلاَّ أنَّ المهدي (ع) سوف تتوفَّر له الأسباب المـُتعدِّدة لتنمية هذا الرُّعب في نفوس أعدائه - على ما سنسمع - بصفته القائد الأعظم المـُنقذ للهدف الإلهي الكبير.

ومعنى (مسير) الرعب بين يدي الجيش المهدوي أو أمامه، تقدُّمه بتقدُّم هذا الجيش، وهذا يؤكِّد فَهْم المسافة بالفَهْم القديم الذي عرضناه، فإذا كان الرُّعب مُتقدِّماً على الجيش بخمسمئة كيلو متر مثلاً، وتقدَّم الجيش مئة سار الرعب أمامه مئة، فشمل مناطق كانت مُطمئنَّةً فيما سبق... وهكذا... حتى تدخل كل مناطق العالم تحت الحكم المهدوي.

الجهة الثالثة: في أسباب الرعب ومبرِّرات وجوده في نفوس أعداء الإمام المهدي (ع ).

وينبغي لنا منذ البدء أن نُحدِّد موقفنا من احتمال وجود الرُّعب بسبب إعجازي... فإنَّه غير صحيح تماماً... لمنافاته لقانون المعجزات، وعدم دلالة الرواية عليه.

أمَّا منافاته لقانون المعجزات؛ فلأنَّنا عرفنا أنَّ المعجزة لا تقع إلاَّ إذا كانت طريقاً مُنحصراً للهداية أو إتمام الحجة، وهذا الرُّعب واقع في طريق الهداية؛ لكونه أحد أسباب انتصار المهدي (ع)، الذي يكون سبباً لهداية العالم، وتنفيذ الغرض الإلهي الكبير، ولكنَّ المعجزة ليست سبباً مُنحصراً في إيجاده، بعدما سنعرفه من أسبابه الاعتيادية.

أمَّا عدم دلالة الروايات؛ فلوضوح أنَّه لم يرد في أيِّ خبر منه، أي إشعار بذلك.

ومسير الرعب شهراً - كما أشارت الروايات - لا يدل على الإعجاز، بعد الذي فهمناه من المنحى المجازي لهذا التعبير البليغ،

٣٧٦

وإنَّما يكمن السرُّ الأساسي في وجود هذا الرُّعب، هو أنَّه سُرعان ما تنتشر في العالم عن المهدي وجيشه وأصحابه خصائص مُعيَّنة، يخشى الناس من استعمالها ضدَّهم... وهو أمر مؤكَّد لو جابهوه؛ ومن هنا يحملهم الرُّعب والفزع على أن يتركوا مُجابهته جُهد الإمكان، وكثير منهم سوف يُسلِّم له زمام الحُكم بدون قتال.

وهذه الخصائص منها ما يعود إلى نفس المهدي، ومنها ما يعود إلى جيشه.

فمن الخصائص التي تعود على المهدي، أنَّه قادر على عدد من الإنجازات، باعتبار علمه بخصائص الأمور والتاريخ البشري ككل، ذلك العلم الناتج عن قابليَّاته الخاصة التي اكتسبها حال غيبته، أو عن علم الإمامة من حيث أثبتنا أنَّ الإمام إذا أراد أن يعلم شيئاً أعلمه الله تعالى ذلك، وقد بحثناه مُفصَّلاً في تاريخ الغيبة الكبرى(١) فراجع.

ومن هنا؛ يكون قادراً على فضح أيِّ حاكم دول العالم، بما يأبى ذلك الحاكم كشفه عنه، ويعتبره سرَّاً مكتوماً لنفسه أو للدولة، وليس في العالم حاكم لا يفضحه كشف سرِّه، على مدى التاريخ السابق على الظهور.

كما أنَّه يكون قادراً على إيقاع الخلاف والمـُنافرة بين أعضاء الحكومة، بأن يُخبر بعضها بما لم يطَّلع عليه من أعمال البعض الآخر.

بل قد يكون مُجرَّد وجود المهدي (ع) وبدئه بحركته، موجباً لانقسام كثير من الحكومات انقساماً داخلياً بين مؤيِّد للمهدي (ع) ومُحارب له، ومُتحيِّر في شأنه ومُجامِل له، ونفس وقوع هذا الاختلاف يكون في مصلحة انتصار المهدي (ع).

كما أنَّ المهدي (ع) يكون قادراً على معرفة مواقع الأسلحة والذخائر والمعامل الحربية، ونقاط الضعف من تحرُّكات العدوِّ، بشكل لا يمكن أن يطَّلع عليها غيره إلاَّ بأصعب الطُّرق وأطول الأزمان، وقد يأخذ الخبر من الاستخبارات الحديثة أو الأخبار الصحفية، فيفهم منها ما لا يمكن لغيره أن يفهمه.

ويكفي في مثل ذلك، أن تفهم الدول أنَّ المهدي واجه بعض الحكومات بمثل هذه الطرق... أن تمتلئ رعباً وفزعاً، وتنهار معنويَّاتها انهياراً تامَّاً، بمجرَّد أن تعرف منه التفكير في غزوها.

____________________

(١) ص٥١٥ وما بعدها.

٣٧٧

كما أنَّنا بعد أن نعرف - فقهيَّاً - أنَّ الدين الإسلامي لا يُجيز البدء بالقتال، قبل الدعوة إلى الإسلام، وإرشاد المعسكر الآخر إلى العقائد الإسلامية والعدل الإسلامي، وإيضاح ذلك في أذهانهم، وهذا ما يعمله الإمام (ع) في كل غزو يقصده، مضافاً إلى أساليبه العامة في عرض الأُطروحة العادلة الكاملة على العالم ككل، وهي أساليب واضحة وصريحة وواسعة الانتشار.

ومعه؛ ستكون فكرته مُقنعةً للآخرين من الشعوب المعادية، فيكتسب فيها قواعد شعبية وعسكرية واسعة، ولا يكون الفرد منهم على استعداد لمواجهة المهدي وجيشه بالقتال على أقلِّ تقدير.

ومعه؛ ستضطرُّ حكومة تلك البلاد - مهما كانت عازمة على الحرب والصمود - إلى التنازل والمسالمة؛ لأنَّ الحاكم يكون في مثل ذلك كالأعزل، لا حول له ولا قوَّة.

وتدريجياً - وبالتدريج السريع نسبيَّاً - سيتَّضح للدول الكافرة، بأنَّ المستقبل العالمي بيد المهدي (ع) على أيِّ حال، كحقيقة لا يمكن الفرار منها، أو - على الأقلِّ - وجود النظام المهدوي كدولة كبرى يصعب جدَّاً مُجابهتها ومُنافرتها، بل من الأفضل مُجاملتها والتزلُّف لديها.

وهذا وذاك، ممَّا يدفع الأفراد والدول - على حدِّ سواء - إلى التسليم بالمهدي (ع) وعدم مُجابهته بالقتال.

فهذا عدد من الخصائص التي يتَّصف بها المهدي (ع)، ممَّا توجب الرعب لمَن يُحاربه، ومُقتضى ذلك أنَّ الرُّعب يتولَّد تدريجياً عند البدء بغزو العالم، لا من أول الظهور، وهذا هو ظاهر الروايات أيضاً.

وأمَّا خصائص أصحابه، فأمران رئيسيان:

الأمر الأول: قوَّة اندفاعهم وحماسهم في إطاعة أوامر قائدهم وتطبيق خططه، تلك القوَّة الناتجة من علوِّ إيمانهم، وصلابة إرادتهم، وارتفاع معنوياتهم، ووعيهم للهدف الذي يسعون إليه.

وليس هناك أيُّ واحد من القادة أو الحكَّام في الدول، يجهل هذه الحقيقة التي قلناها فيما سبق، وهي أنَّ الجيش المؤمن الواعي ذو المعنويات العالية هو المـُنتصر دائماً، وكل القادة والحُكَّام سيعلمون - وبسرعة - بصفة جيش المهدي من هذه الناحية، وهم يعلمون صفة جيوشهم من ناحية ثانية، فإنَّها وإن كانت مُسلَّحة تسليحاً كاملاً، ومدرَّبة تدريباً عالياً، إلاَّ أنَّها لا تقوم في أساسها على الإخلاص ووعي الهدف، بل تقوم على

٣٧٨

أسباب أخرى، كالتجنيد الإجباري، أو الطمع بالرواتب الضخمة وغير ذلك... وهو ممَّا لا يُساعد بحالٍ على وجود الاندفاع والحماس في الجيش في ميدان القتال.

وهذه الحقائق التي يعرفها حكَّام العالم، تجعلهم يُفكِّرون طويلاً، قبل التورُّط بمنازلة المهدي بقتال.

الأمر الثاني: كثرة قيامهم بقتل أعدائهم بشكل غليظ لا هوادة فيه - كما سنسمع مُفصَّلاً في الفصل الآتي - الأمر الذي يولِّد انطباعاً واضحاً لدى الآخرين، بأنَّهم أشدَّاء غلاظ بالنسبة إلى أعدائهم، الأمر الذي يولِّد الرُّعب ويُسبِّب إعادة التفكير فيما إذا كانت مُجابهتهم بالقتال يحتوي على مصلحة أم لا.

الضمان الثالث: انطلاقة من زاوية مُتَّفق عليها بين المذاهب السلامية، بل مُتَّفق عليها بشكل أوسع من ذلك، وانطلاقة من مثل هذه الزاوية، أمر أساسي في تهيئة الجوِّ العام إلى جانبه واكتساب القواعد الشعبية الموالية، وخاصة في أول دور حركته وثورته، حتى يستطيع أن ينطلق من هذا المنطلق العام إلى ما يريد تأسيسه من العدل والحق، وما يجيء به من كتاب جديد وقضاء جديد، على ما سنسمع، وسيكون انطلاقه من زاوية مُتَّفق عليها، مُتمثِّلاً من عدَّة مستويات:

المـُستوى الأول: الخطاب الذي يُلقيه المهدي في المسجد الحرام في أول ظهوره، فإنَّنا رأينا أنَّه يؤكِّد - في الأغلب - على الأمور المشتركة المعلومة الصحَّة عند سائر المسلمين، وهي الاعتراف بالإسلام، وبما سبقه من الشرائع، مُنطلقاً منه إلى ربط حركته ودعوته بخطِّ الأنبياء الطويل، مُشيراً إلى نتائج الظلم التي تطرَّف إليها المـُتطرِّفون نتيجةً للفشل في التمحيص.

وهناك روايات ناقلة لخُطبة الإمام، ولا تعرُّض فيها إلى ذكر الظلم السائد، الأمر الذي يجعلها أكثر تركيزاً على المفاهيم المـُتسالم عليها في الإسلام، بحيث تشمل تلك القاصرة التي لا تُدرك بشاعة الظلم ومُنافاته لتعاليم الإسلام.

أخرج السيوطي(١) ، عن نعيم بن حمَّاد، عن أبي جعفر، قال: ( يظهر المهدي بمكَّة عند العشاء، ومعه راية رسول الله (ص) وقميصه

____________________

(١) ج٢ ص ١٤٤.

٣٧٩

وسيفه، وعلامات نور وبيان، فإذا صلى العشاء نادى بأعلى صوته يقول: أُذِّكركم - أيُّها الناس - ومقامكم بين يدي ربِّكم، فقد اتَّخذ الحجر وبعث الأنبياء وأنزل الكتاب، وأمركم أن لا تُشركوا به شيئاً، وأن تُحافظوا على طاعته وطاعة رسوله (ص)، وأن تُحيوا ما أحيا القرآن وتُميتوا ما أمات، وتكونوا أعواناً على الهدى، ووزراء على التقوى، فإنَّ الدنيا قَدْ دنا فناؤها وزوالها، وآذنت بانصرام، فإنِّي أدعوكم إلى الله ورسوله، والعمل بكتابه، وإماتة الباطل، وإحياء سنَّته، فيظهر في ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً عدد أهل بدر... ) الحديث.

ورواها الصافي في مُنتخب الأثر(١) بشيء من الاختلاف، أهمُّه - في أولها -: ( وقد أكَّد المحجَّة وبعث الأنبياء... - وفي آخرها: - وإماتة الباطل وإحياء السنَّة ).

وهو أفضل من نسخة الحاوي، لعلَّ فيه خطأً مُطبعيَّاً.

المستوى الثاني: اتِّخاذ الجيش المهدوي شعار رسول الله (ص) الذي أخذه لجيشه، كما سبق أن عرفنا.

ولئن لم يكن الشعار النبوي معروفاً لدى عامة المسلمين، فهو معروف على أيِّ حال بين علمائهم ومُفكِّريهم المـُخلصين منهم، فيُمكنهم أن يعرفوا وأن يُعرِّفوا الآخرين: أنَّ هؤلاء القوم قد ساروا على شعار النبي (ص)، إذن؛ فهم مع النبي حتى في شعار حربه، ومُمثِّلون له في خصائصه وهدفه.

المستوى الثالث: مُطالبته بثأر الحسين (ع)، فإنَّه أمر مُتسالم على صحَّته بين المسلمين، بل بين كل المظلومين، وهم أكثر البشرية في عصر الظلم والانحراف.

وقد سمعنا الروايات الدالَّة على ذلك، وكانت كلُّها مروية عن طُرق الخاصة، وأودُّ الآن أن أروي عن بعض المصادر العامة رواية تمتُّ إلى ذلك بصِلَةٍ.

أخرج القندوزي في الينابيع(٢) ، عن عبد السلام بن صالح الهروي، قال: قلت لعلي الرضا بن موسى الكاظم رضي الله عنهما: يا بن رسول الله، ما تقول في حديث روي عن جدِّك جعفر الصادق رضي الله عنه، أنَّه قال:

____________________

(١) ص٤٩٠

(٢) ينابيع المودَّة ص٥٠٩ ط النجف

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679