موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)0%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 679

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الصفحات: 679
المشاهدات: 202108
تحميل: 10344


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 202108 / تحميل: 10344
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء 3

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ومن هذه النقطة بالذات، يبدأ سبب عدم قبول توبة التائب... فإنَّ الشخص المـُتمرِّس بالانحراف، والمـُعتاد على العصيان، وعلى عبادة شهواته وتقديم مصالحه، لا تكون توبته حقيقية أبداً، وإن شعر هو وقتياً بذلك، وإن كانت الشريعة تحكم بكونه إنساناً صالحاً في الظاهر... غير أنَّ المطلوب بعد الظهور، وجود الإنسان العادل في الواقع، لا العادل في الظاهر، والتوبة - وخاصة إذا كانت نتيجة للخوف - لا تُغيِّر واقع الإنسان من الناحية النفسية والفكرية، بل يبقى هو الإنسان المعتاد على تقديم مصالحه على كل شيء، فيُنزل قدمه في أول عثرة، إذن؛ فلا بدَّ من رفض توبته والاستغناء عن وجوده.

ولأجل هذا الهدف - بحسب ما ندركه الآن - جاز للمهدي (ع) قتل المسلمين وإن لم يُحاربوا... بالرغم من أنَّ ذلك لم يكن جائزاً شرعاً قبل الظهور لأيِّ قائد إسلامي آخر، بما فيهم النبي (ص) وعلي أمير المؤمنين (ع) وإنَّما قاتل علي (ع) مَن حاربه من المسلمين خاصة؛ ولذا سمعنا من الروايات أنَّ سيرة المهدي (ع) تختلف من هذه الجهة عن سيرتهما، فإنَّهما سارا بالعفو والمـُلاينة مع الناس المـُنحرفين والمـُنافقين، وأمَّا المهدي (ع) فهو مُكلَّف من قِبل الله تعالى ( في الكتاب الذي عنده ) باستئصالهم أجمعين، فهو يقتلهم حتى يرضى الله عزَّ وجلَّ، أي حتى يكون ما أمر به مُطبَّقاً ونافذاً ومنهيَّاً.

ومن هنا؛ نسمع في بعض الروايات التأكيد على ذلك، كالذي رواه في البحار، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع) في حديث عن القائم يقول فيه: ( لا يا أبا محمد، ما لمَن خالفنا في دولتنا من نصيب، إنَّ الله قد أحلَّ لنا دماءهم عند قيام قائمنا، فاليوم مُحرَّم علينا وعليكم، ومَن خالفهم هم الفاشلون في التمحيص، في أيِّ مذهب كانوا ).

وسيكون الاستغراب من كثرة القتل، في بعض الأوساط الضعيفة الإيمان موجوداً ( حتى يقول كثير من الناس: ليس هذا من آل محمد، لو كان من آل محمد لرحم ).

وستكون هذه الكثرة سبباً في بثِّ الرُّعب في هذه الأوساط وغيرها، الرُّعب الذي عرفنا أنَّه يسير أمامه شهراً، ووراءه شهراً، وإلى جانبيه شهراً، وعرفنا أنَّ هذه الكثرة من أسبابه.

وقد يرد إلى الذهن هذا السؤال: إنَّ مُقتضى هذا التسلسل الفكري، هو أنَّ المهدي (ع) سوف يقتل أكثر المسلمين، ولا تبقى إلاَّ البقية الصالحة القليلة التي تُبايعه وتنصره، بل إذا كان المـُنحرف من المسلمين مُستحقَّاً للقتل، فكيف بالكافر والمشرك؟

إذن؛ فهو لا بدَّ أن يستأصل البشرية كلها، سوى هذا النفر القليل، وهذا بالجزم واليقين مُخالف للهدف

٤٠١

الإلهي والغرض المنشود، فإنَّ هدف مجعول لأجل مصلحة البشر والرحمة بهم وإسعادهم، لا لأجل استئصالهم وقطع دابرهم، فكيف نوفَّق بين الأمرين.

وجواب ذلك: أمَّا موقف الإمام المهدي (ع) تجاه الكفار والمشركين، فهو ما سيأتي عرضه، فالسؤال غير وارد بالنسبة إليهم، لأنَّ تخطيطهم الخاص بهم، وإنَّما يختصُّ السؤال بالبلاد الإسلامية خاصة.

ونحن بهذا الصدد، يجب أن نلتفت إلى ما ذكرناه من أقسام الإخلاص الثلاثة، التي يُنتجها التمحيص السابق على الظهور، فإنَّ مجموع الأفراد الناجحين بأيِّ درجة من تلك الدرجات، يمكنهم المشاركة في المجتمع العادل والتجاوب معه، ما لم يصدر من بعضهم سوء في النيَّة أو العمل، كهؤلاء الذين سمعنا أنَّ المهدي (ع) يأمر بقتلهم، وإلاَّ فالناجحون بشكل عام لهم القابلية للتعايش بسلام في دولة الحق والعدل.

ولئن كان الناجحون من القسم الأعلى هم قوَّاد جيش المهدي (ع)، وحكَّام الأرض من قِبَله، وكان الناجحون من القسم الثاني جيشه المحارب... فالناجحون من القسم الثالث هم قواعده الشعبية المـُطبِّقة للعدل... ويُلحق بهم كل مَن يعرف منه التوبة النصوح - التي لا رجعة بعدها إلى الذنوب - والاعتدال الحقيقي الكامل، فيكون مجموع هؤلاء عدداً ضخماً أيضاً، يكفي لانطباق الكثرة المـُبيَّنة في الروايات بكل تأكيد.

وقد يخطر في الذهن سؤال آخر، وهو: أنَّ ظاهر هذه الروايات أنَّ كثرة القتل مُختصَّة بالمسلمين، لا تشمل غيرهم، فلماذا كان ذلك، مع العلم أنَّ الكافر والمـُشرك أبعد عن الحق، وأحق بالقتل من المسلم المـُنحرف؟!

والجواب على ذلك، يكون على مستويين:

المستوى الأول: إنَّنا نُنكر الدلالة الروايات على هذا الاختصاص؛ لأنَّ هذه الروايات على قسمين:

القسم الأول: ما كان مطلق الدلالة ليس فيه أيُّ إشعار بالاختصاص بالمجتمع المسلم، بل ظاهره العموم لكل الناس... كقوله:( القائم يسير بالقتل... ولا يستتيب أحداً ) و( ما هو إلاَّ السيف ) ،( فلا يزال يقتل أعداء الله حتى يرضى الله عزَّ وجلَّ ) ، ونحوها.

القسم الثاني: الأخبار التي وردت فيها تسمية بعض الجماعات، وهم كما يلي:

٤٠٢

قريش. البترية، أهل السواد، العرب، الفُرس، سبعين قبيلة من قبائل العرب.

أمَّا البترية، فالمفروض فيهم الانحراف واستحقاق القتل، وأمَّا الجماعات الأخرى فهي انتسابات غير دينية، يوجد في كل منها مسلمون بمختلف مذاهبهم، وغير مسلمين بمختلف أديانهم، بنسب مختلفة بطبيعة الحال.

وإيراد أسماء هذه الجماعات في الأخبار لا ينفي شمول القتل لغيرها، كل ما في الأمر، أنَّ قانون( كلِّم الناس على قدر عقولهم ) منع القادة الإسلاميين من بيان كل الجماعات المشمولة للقتل، لعدم تحمُّل المستوى العقلي والثقافي للناس عند صدور هذه النصوص لاستيعاب ذلك.

المستوى الثاني: أنَّنا لو تنزَّلنا عن المستوى الأول، وسلَّمنا بظهور الروايات باختصاص كثرة القتل بالمسلمين، فهذا ليس أمراً مروِّعاً، بل هم أمر يمكن أن يكون مُطابقاً مع القواعد الإسلامية العامة، والتخطيط الإلهي العام.

فإنَّنا سبق أن أشرنا لغير المسلمين، أو البلاد غير الإسلامية تخطيطاً خاصاً بها، في أسلوب السيطرة عليها، نطقت به الروايات التي سنسمعها، وهي سيطرة يغلب عليها الجانب السلمي، كما أنَّ للمسلمين أو للبلاد الإسلامية تخطيطها الخاص بها، وهو كثرة القتل التي نطقت به هذه الروايات، وهذه الكثرة ليست لأجل السيطرة، بل لأجل التنقية والتنظيف من العناصر السيِّئة.

والفرق بين المسلمين وغيرهم يتمثَّل في عدَّة خصائص:

الخصيصة الأُولى: إنَّ (الحجَّة) الكاملة بصدق الإسلام وأحقِّيته، واضحة في أذهان كل المسلمين، ومُعلنة على نطاق واسع جدَّاً بينهم، بخلاف غير المسلمين، فإنَّ هذا الوضوح لم يتوفَّر للجميع على حدٍّ واحد.

الخصيصة الثانية: إنَّ الأمَّة الإسلامية هي الحاملة للأطروحة العادلة الكاملة، والمـُطبِّقة الأُولى لها في بلادها، ذلك التطبيق الذي سيكون الشكل الأمثل لهذا الأطروحة في العالم كلِّه.

الخصيصة الثالثة: إنَّ الأُمَّة الإسلامية ستكون الحاملة لهذه الأطروحة إلى العالم، والمـُبشِّرة بها فكرياً وتطبيقياً تجاهه، وبالتالي سيكون لها مركز القيادة في العالم كله.

الخصيصة الرابعة: إنَّ المسلمين يكونون قد مرُّوا بتخطيط كامل للتمحيص، وهو التخطيط السابق على الظهور، وأنتج هذا التمحيص نتائجه فيهم، وكان تمحيصهم منصبَّاً

٤٠٣

على ( الأطروحة ) التي تمَّت الحجَّة بها عليهم، بخلاف البلاد غير المسلمة، فإنَّها مرَّت بالتمحيص، ولكن من زوايا أخرى أوجبت نتائج مغايرة، كانكشاف زيف الأُطروحات الأخرى، ونحو ذلك.

وكل هذه الخصائص تستدعي من الأُمَّة الإسلامية أن تكون في أعلى درجات الإيمان، وأقوى درجات الإخلاص، والمثال الأفضل للأطروحة التي تتبنَّاها، فمَن لم يكن كذلك من المسلمين، فإنَّه سيوجب - عاجلاً أم آجلاً - الإخلال بالقيادة، والتطبيق للأطروحة العادلة الكاملة، في بلده وفي العالم، الأمر الذي يُخلُّ بالهدف الأعلى نفسه، ومن هنا؛ كان لا بدَّ من الاستغناء عن كل خدماته وأحاسيسه في طريق هذا التطبيق العظيم، وذلك بنفيه من عالم الحياة، مقدِّمة لذلك التطبيق.

ولن يعني هذا ( التقديم )، أنَّ القيادة العالمية سوف لن تبدأ إلاَّ بعد الانتهاء من هؤلاء المـُنحرفين جميعاً، فإنَّ القيادة سيتولاَّها في وقتها المناسب أولئك المـُخلصون المؤهَّلون لها، وسيُستغنى عن خدمات المـُنحرفين ريثما يتمُّ الإجهاز عليهم جميعاً، وسيأتي إيضاح ذلك بشكل أوسع عند الحديث عن الروايات التي تنصُّ على استمرار القتل مدَّة ثمانية أشهُر.

الجهة الثالثة: في إيضاح بعض النقاط الواردة في هذا الخبر:

النقطة الأُولى: الظاهر الأوَّلي للروايات هو أنَّ الإمام المهدي (ع) يستعمل السيف في قتال المنحرفين، وهو السلاح الذي كان مُستعملاً في عصر صدور هذه الأخبار.

ومن الواضح بالضرورة أنَّ المهدي (ع) يستعمل سلاح آخر لعدم إمكان الانتصار به، إلاَّ عن طريق المعجزة التي برهنَّا على عدم نفوذها في مثل ذلك، لإمكان التعويض عنها بالطريق (الطبيعي) باستعمالها السلاح المناسب للعصر.

ومعه؛ يتبرهن ضرورة حمل السيف على المعنى الرمزي، الذي يراد به أيُّ سلاح، وهذا ما طبَّقناه في التاريخ السابق، وهو ساري المفعول في كل الروايات، كما هو واضح، وإنَّما ذكر السيف بالخصوص انطلاقاً مع المستوى العقلي والثقافي لعصر صدور هذه الأخبار.

النقطة الثانية: ورد التأكيد في أكثر من خبر من الأخبار السابقة، أنَّ الأمور لا تستقيم للمهدي (ع) عفواً ومن تلقاء نفسها... بل تحتاج إلى جهد وجهاد و( لو استقامت لأحد عفواً لاستقامت لرسول الله (ص) حين أُدميت رباعيَّته وشُجّ في

٤٠٤

وجهه... فإنَّ النبي(ص) - وهو خير البشر - أولى من المهدي باستقامة الأمور عفواً، لو كان ديدن الدعوة على إيجاد هذه الاستقامة، ولكنَّها لم تستقم لخير البشر (ص) إذن؛ فهي لا تستقيم لمَن دونه، لا لقصور في القيادة عندهم، بل لأنَّ ديدن الدعوة الإلهية ليس على ذلك.

والسرُّ في ذلك - حسبما نفهم - أنَّ فكرة ( التمحيص ) غير خاص بالناس الاعتياديين، أو بالدرجات الدانية من الإيمان، بل تمتدُّ هذه الفكرة بمعنى أشرنا إليه في التاريخ السابق(1) ، لتشمل القوَّاد الرئيسيين بما فيهم الأنبياء والأولياء، وتكون فكرة التمحيص بالنسبة إليهم لزوم مرورهم بمصاعب وجهود تساوي مستواهم العالي، لينالوا بها مستويات أعلى من باب ( تكامل ما بعد العصمة ) كما ذكرنا هناك، ولو استقامت الأمور للقادة لكان ذلك على خلاف التمحيص بالنسبة إليهم؛ ومن ثُمَّ يحجب التكامل الذي سينالونه بالجهود والمصاعب، فيكون ظلماً لهم، وهو مُستحيل على الحكمة الإلهية.

مضافاً إلى أنَّ ظروف الجهود والمصاعب التي يمرُّ بها هؤلاء القادة، ستكون محكَّاً لتمحيص كل الجيل المـُعاصر من مؤمنين وغيرهم، من حيث النظر إلى ردود أفعالهم تجاه تلك القيادة المـُحقَّة، ومقدار ما يبذلون لها من جهود وتضحيات، كذلك كانت قيادة النبي (ص) في صدر الإسلام، وعلى ذلك ستكون قيادة الإمام المهدي (ع) في مستقبل الدهر.

هذا، وإنَّ استقامة الأمور عفواً تنشأ من أحد سببين:

السبب الأول: السبب الإعجازي، وقد برهنَّا على عدم إمكانه، لإمكان التعويض عنه بالطريق الطبيعي بكل وضوح.

السبب الثاني: السبب الطبيعي، بمعنى اقتضاء التخطيط السابق على الظهور لهذه النتيجة، بأن يدَّعي كل شخص: بأنَّ هذا التخطيط العام سارٍ على شكل مُنتج في نهايته، لاستقامة الأمور عفواً للمهدي (ع).

إلاَّ أنَّ هذا السبب أيضاً غير مُحتمل، فإنَّنا عرفنا كل تفاصيل التخطيط العام السابق، فلم نجد فيه ما يقتضي ذلك، بل وجدنا فيه ما يقتضي العكس، بمعنى أنَّه يقتضي وجود العدد الكافي لغزو العالم بالعدل والحق، بكل ما في الغزو من مصاعب وجهود وجهاد.

إذن؛ فاستقامة الأمور بقيت بدون منشأ صحيح، فلا تكون قابلة للإثبات.

____________________

(1) ص506.

٤٠٥

مضافاً إلى قابلية نفس هذه الأخبار لنفيها كما هو واضح.

النقطة الثالثة: سمعنا من بعض الأخبار أنَّ المهدي (ع):( لا يُهريق دماً ولا يوقِظ نائماً ) ، كما سمعنا من بعض الأخبار الأخرى تكذيب ذلك. فبأيِّ من القسمين نأخذ؟

والذي يبدو: أنَّنا تارة ننظر إلى أسلوب الفتح العالمي وتأسيس الدولة العالمية، وأخرى ننظر إلى المجتمع الناتج بعد تأسيس هذه الدولة، ذلك المجتمع الذي تُطبَّق فيه الأطروحة العادلة الكاملة.

فإن نظرنا إلى أسلوب الفتح العالمي، وجدنا ( السيف ) مُستعملاً فيه لا محالة، طبقاً للروايات الكثيرة المتواترة، التي لا تقوم بإزائها خبر واحد، مضافاً إلى الحاجة إلى السلاح بإزاء القوى المعادية، بعد البرهنة على نفي الأسلوب الإعجازي، إذن؛ فلا بدَّ من تكذيب هذا الخبر، إن كان المراد منه ذلك، وهذا هو مراد الأخبار المكذِّبة له والنافية لمدلوله.

وإن نظرنا إلى المجتمع العادل الذي يؤسِّسه المهدي (ع ) ( لا يهريق دماً )، لعدم الحاجة إلى إهراقه، وهذا النظر الذي يؤكِّد أحد الأخبار المـُكفَّلة لبيان هذه الحقيقة حين يقول فيه: ( يملأ الأرض عدلاً كما مُلئت جوراً، حتى يكون الناس على مثل أمرهم الأول، لا يوقظ نائماً ولا يُهرق دماً )، وهو يكون واضح في أنَّ عدم إراقة الدم إنَّما يكون بعد امتلاء الأرض قسطاً وعدلاً، وليس قبل ذلك.

أقول: الأمر الأول المـُشار إليه هو الإسلام، كما جاء به النبي (ص)، وهو معنى تطبيق ( الأُطروحة العادلة الكاملة )، في دولة المهدي العالمية.

وأمَّا الخبر الآخر الذي يقول: ( يُبايَع المهدي (ع) بين الركن والمقام، لا يوقِظ نائماً ولا يُهريق دماً )، واضح في أنَّ المهدي (ع) لا يُهريق دماً حتى في عمليات الغزو العالمي، وقد علمنا أنَّ المعنى باطل بالضرورة، فلا بدَّ من تكذيب هذا الخبر.

النقطة الرابعة: نصَّ عدد من الأخبار على اختلاف سيرة الإمام المهدي (ع)، من الناحية العسكرية عن أسلوب النبي (ص) والإمام أمير المؤمنين.

وقد أشرنا إلى ذلك، ونريد الآن إعطاء المـُبرِّرات التفصيلة له:

وما يمكن استفادته من مجموع الأدلة أمران:

٤٠٦

الأمر الأول: إنَّ القاعدة العامة للقادة الإسلاميين عموماً جواز الإجهاز على الجريح، وملاحقة الفارِّ، وقتل الأسير، ونحوها من التصرُّفات... غير أنَّ القادة الأوائل كفُّوا عن تطبيق هذا الحكم في عصورهم، من أجل مصالح وقتية خاصة في تلك العصور، قال علي (ع) - كما في الخبر -: ( ولكن تركت ذلك للعاقبة من أصحابي، إن جرحوا لم يقتلوا )، وهذه المصالح لن تتوفَّر في عصر الإمام المهدي (ع)؛ ومن هنا يكون له أن يأخذ بتطبيق الحكم المـُشار إليه الشامل، بصفته أحد القوَّاد الإسلاميين.

الأمر الثاني: إنَّ القاعدة العامة للقوَّاد الإسلاميين، هو عدم جواز قتل الجريح، وملاحقة الفارِّ ونحو ذلك، فهم تركوا ذلك في عصرهم الأول لعدم جوازه بالنسبة إليهم.

ولكن سيُصبح ذلك جائزاً للمهدي (ع) خلال الفتح العالمي ( بذلك أُمِرَ في الكتاب الذي معه )، وهو استثناء خاص بهذه الفترة، وسيرتفع الحكم بالجواز بالنسبة إليه بعد الانتهاء من الفتح العالمي، ويعود الأمر كما كان في عدم جواز هذا الأسلوب العسكري... فيُصبح الإمام المهدي (ع) ( لا يُهريق دماً، ولا يوقظ نائماً ).

والسرُّ في هذا الاختلاف - على كلا التقديرين - هو اختلاف مستوى المجتمع الإسلامي الأول عن المجتمع المهدوي اختلافاً كبيراً جدَّاً... ذلك الاختلاف الذي عرفنا الكثير من خصائصه ومميِّزاته.

وأهمُّ الخصائص التي تمتُّ إلى تطبيق هذا الحكم بصِلَةٍ، هو أنَّ الإيمان والكفر في العصر الأول، كان في الأغلب من: إيمان ما قبل التمحيص؛ لأنَّ المجتمع لم يكن قد مرَّ بفترة التمحيص الكبرى المـُخطَّط له قبل ( الظهور )، وسيكون الإيمان والكفر في المجتمع الآتي: إيمان ما بعد التمحيص، وكفر ما بعد التمحيص، بعد أن مرَّ المجتمع بفترة التمحيص الكبرى.

إنَّ مرور المجتمع بهذه الفترة ليس أمراً هيِّناً أو ضئيلاً، يكفينا أن نتصوَّر أنَّ القاتل (المؤمن) والمقتول (الكافر) في العصر الأول، لم يكن التمحيص قد شملهما، ومن ثَمَّ فإدراكهما لأهمِّية القتال ونتائجه سوف تكون أقلَّ - بدرجة كبيرة - ممَّا إذا كانا معاً قد مرَّا بفترة التمحيص، فأكتسب الإيمان أهمِّيته في نفس المؤمن، واكتسب الكفر أهمِّيته في نفس الكافر أو المـُنحرف واتَّسع أفقهما العقلي والثقافي إلى حدٍّ كبير.

إنَّ كافر ما قبل التمحيص - لمدى بساطته وضآلة مستواه - ( لا يستحقُّ ) إجراء هذا التكتيك العسكري الصارم عليه. وأما كافر ما بعد التمحيص، بإعتبار أهميته وعمق

٤٠٧

القسم الثالث من هذا الفصل: في تحديد مدَّة كثرة القتل بثمانية أشهُر ونتكلَّم عن ذلك في ضمن جهتين:

الجهة الأُولى: في سرد الأخبار الواردة لتحديد مدَّة وضع (السيف) في رقاب المـُحرفين، بثمانية أشهُر.

أخرج الصدوق في إكمال الدين(1) ، بسنده عن أبي بصير، قال: سمعت أبا جعفر يقول:

وساق الحديث إلى أن قال: ( ثمَّ يضع سيفه على عاتقه ثمانية أشهُر بيمينه، فلا يزال يقتل أعداء الله حتى يرضى الله عزَّ وجلَّ... ) الحديث.

وأخرج النعماني في الغيبة(2) ، والمجلسي في البحار(3) ، عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (ع): ( لا يخرج القائم (ع) حتى تكون تكملة الحلقة ). قال: ( عشرة آلاف... - إلى أن قال: - يُجرِّد السيف عن عاتقه ثمانية أشهُر، يقتل هرجاً ) الحديث.

وأخرج السيوطي في الحاوي(4) ، عن نعيم بن حمَّاد، عن علي، قال: ( إذا بعث السفياني جيشاً فخُسف بهم بالبيداء... - إلى أن قال: - ويخرج رجل من قِبله (أي المهدي) رجل من أهل بيت بالمشرق، ويحمل السيف على عاتقه ثمانية أشهر... ) الحديث.

وأخرج عنه أيضاً، عن علي أيضاً، قال: ( تفرج الفتن برجل منَّا يسومهم خسفاً. لا يُعطيهم إلاَّ السيف،

____________________

(1) المصدر المخطوط.

(2) ص165.

(3) ج3 ص193.

(4) ص146 ج2، وكذلك الخبر الذي بعده.

٤٠٨

يضع السيف على عاتقه ثمانية أشهُر. حتى يقولوا: والله، ما هذا من ولْد فاطمة، ولو كان من ولْدنا لرحمنا... ) الحديث.

وقال البرزنجي في ( الإشاعة )(1) : في بعض الروايات: ( يحمل السيف على عاتقه ثمانية أشهُر ).

وفي بعضها ثمانية عشر شهراً، وفي رواية اثنين وسبعين شهراً، وهي مدَّة ستِّ سنين.

والمراد بتجريد السيف ووضعه على العاتق: مباشرة الحرب أو القتل. والهرج هو القتل الكثير. يُقال: هرج الناس، إذا وقعوا في فتنة واختلاط وقتل.

ولا يخفى أنَّ رواية الثمانية عشر شهراً وما بعدها، ممَّا ذكره البرزنجي مُرسلة، وغير قابلة للإثبات التاريخي، مضافاً إلى أنَّها منفيَّة بالأخبار المـُتعدِّدة الدالَّة على حصر المدَّة بثمانية أشهُر، وهذه الأخبار تصلح للإثبات بحسب منهجنا في هذا الكتاب؛ لتعاضدها، ودلالة بعضها على صدق بعض.

الجهة الثانية: الحديث عن هذه الأخبار.

ونتكلَّم حول ذلك في عدَّة نقاط.

النقطة الأُولى: إنَّ لتبرير القتل الكثير الذي يقع خلال الثمانية أشهُر أُطروحتين رئيسيتين:

الأطروحة الأُولى: إنَّ هذا القتل، هو الذي يحدث خلال الغزو العالمي، والثمانية أشهُر هي المدَّة التي يتمُّ فيها الاستيلاء على العالم.

غير أنَّ هذه الأطروحة تواجه عدَّة اعتراضات:

الاعتراض الأول: معارضتها بما دلَّ على اختصاص القتل الكثير بمنطقة الشرق الأوسط ونحوها، وعدم شموله لكل العالم، كما سبق أن عرفنا.

الاعتراض الثاني: معارضتها بما دلَّ على أنَّ الفتح العالمي في غير الشرق الأوسط سيكون بدون قتال، بل تفتح الدول للمهدي (ع) أبوابها سلماً، كما سيأتي غير بعيد.

الاعتراض الثالث: إنَّ الثمانية أشهُر مدَّة زائدة جدَّاً على الغزو العالمي، سواء كان الفتح حربياً أم سلمياً... لمدى الضمانات الأكيدة الشديدة التي عرفناها لانتصار المهدي

____________________

(1) ص98.

٤٠٩

(ع)... فالتحديد بهذه المدَّة سيكون بعيداً جدَّاً إذا كان المراد منه ذلك.

الاعتراض الرابع: ما يُفهم من كلام السيد البرزنجي، من استبعاد الفتح العالمي خلال هذه المدَّة، بل في المدَّة الأطول منها.

قال في الإشاعة(1) - في فصل تحديد مدَّة مُلْك المهدي (ع) بتسع سنين - ولا شكَّ أنَّ مدَّة التسع سنين فما دونها، لا يمكن أن يُساح فيها ربع أو خمس المعمورة سياحةً، فضلاً عن الجهاد وتجهيز العساكر، وترتيب الجيوش وبناء المساجد وغير ذلك.

أقول: فإذا كان هذا رأيه بالتسع سنوات، فكيف بالثمانية أشهُر.

وواضح أنَّ هذا الكلام منطلق من مفاهيم وأساليب الحرب بشكلها القديم، وأمَّا إذا أخذنا وسائط النقل الحديثة والأسلحة المـُتطوِّرة بنظر الاعتبار، كان هذا الاعتراض بلا موضوع في الثمانية أشهُر، فضلاً عن التسع سنين، وهذا هو الذي يؤكِّد الاعتراض الثالث الذي ذكرناه.

إذاً؛ فهذا الاعتراض غير وارد؛ لكل الاعتراضات الثلاثة الأُولى مُحتملة الورود ضدَّ الأُطروحة الأُولى، وبانتفاء هذه الأُطروحة نخسر أمراً غير يسير وهو: العلم بمدَّة الفتح العالمي، إنَّ هذه المدَّة ستكون مجهولة لنا، وسنتحدَّث عن ذلك في خلال الأخبار التي تتحدَّث عنه بدون قتال.

الأُطروحة الثانية: إنَّ هذا القتل الكثير الذي يحدث خلال الثمانية أشهُر، ليس للفتح العالمي، بل لاجتثاث المـُنحرفين نحو الباطل من المجتمع.

وهذا هو الذي سبق أن فهمناه، وتحدَّثنا عن خصائصه فيما سبق، وإنَّ الاعتراضات الثلاثة التي أوردناها على الأُطروحة تؤكِّد هذه الأُطروحة، كما هو غير خفي لمَن يُفكِّر.

ومعنى ذلك - بكل بساطة -: أنَّ الفتح العالمي سينتهي بمدَّة أقلِّ من ذلك بزمن غير يسير، وخاصة إذا كان الفتح سلمياً، كما سنسمع، إلاَّ أنَّ المـُنحرفين سوف يبقى وجودهم ونشاطهم إلى جانب الباطل، ساري المفعول... ومن ثَمَّ ( سيحتاجون ) إلى قتل إضافي بعد استتباب الدولة العالمية، وهذا ما سوف يُمارسه المهدي (ع) وأصحابه، إلى تمام الثمانية أشهُر.

____________________

(1) ص106.

٤١٠

النقطة الثانية: إنَّ الخبر الذي رويناه عن السيوطي، والذي يُصرِّح بأنَّ رجلاً من قِبَل المهدي (ع) هو الذي يُمارس القتل الكثير لا المهدي نفسه.

وهذا المضمون إن فهمناه بمدلوله العام، كان صحيحاً، فإنَّ الذي يقوم بالقتل هو أصحاب الإمام وليس الإمام نفسه، وإنَّما نُسب إلى الإمام باعتباره منطلقاً عن أمره وتخطيطه، كما نقول: فتح الأمير المدينة. ولا دليل على أنَّ الإمام يقتل بيده شخصاً أصلاً.

وأمَّا إذا فهمنا أنَّ الخبر بمدلوله الخاص بمعنى أنَّ رجلاً مُعيَّناً، هو الذي يعينه المهدي (ع) نفسه... فهذا وإن كان مُحتملاً؛ باعتبار مهامِّ المهدي العالمية، فيحتاج إلى تعيين مسؤول عن كل مُهمَّة بعينها، فلعلَّه يُعيِّن رجلاً يكون مسؤولاً عن قتل المـُنحرفين، غير أنَّ هذا المضمون لا يثبت، لعدم قابلية هذا الخبر وحده للإثبات التاريخي.

النقطة الثالثة: سيكون لكثرة القتل ردُّ فعلها السيِّئ في نفوس المـُنحرفين بطبيعة الحال ( حتى يقولوا: والله، ما هذا من ولْد فاطمة، ولو كان من ولْدها لرحمنا )، وقوله: لرحمنا، يدلُّ على أنَّ القائل لمثل هذه الاعتراضات هم المنحرفون أنفسهم، الذين تكون هذه الحملة مكرَّسة ضدَّهم، وهذا أمر مُتوقَّع منهم بطبيعة الحال.

وأمَّا الآخرون، وهم المـُتَّصفون بدرجة من درجات الإخلاص... فقد يُقتَل من أحدهم أبوه أو ابنه أو أخوه، أو أكثر من واحد من عشيرته، باعتبارهم مُنحرفين مشمولين لهذه الحملة... ولكن لن يكون لردِّ الفعل السيِّئ أثر في نفوسهم.

وذلك باعتبار عِدَّة عوامل:

العامل الأول: مِرانهم - كمُخلصين ناتجين من التخطيط السابق - على تحمُّل المصاعب مهما زادت وتعسَّرت، ولطالما اعتادوا على تقديم النفس والنفيس، والابن والقريب، في سبيل الحق، والتضحية بمصالحهم من أجله، حتى لو وصل الأمر إلى بذل النفوس، فكيف والهدف قد أصبح أقرب وأوسع وأوضح؟!

إنَّ أمثال التضحيات سوف لن تكون لها قيمة بإزاء الهدف المـُقدَّس.

العامل الثاني: المفاهيم الجديدة والمـُعمَّقة التي يُعلنها الإمام المهدي (ع) في العالم عامة، ولدى أصحابه خاصة.

وإنَّ من أوضح هذه المفاهيم هو الاستغناء عن كل العلاقات الخاصة في سبيل

٤١١

( العلاقة العامة )، وهي العلاقة مع عبادة الله تعالى، وتطبيق أحكامه والسير في سبيله، وازدراء كل مَن لم يَسِرْ في هذا الطريق.

قال الله تعالى في قرآنه المجيد:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (1) .

وإذا جاء أمر الله المـُشار إليه في الآية، انتفت كل هذه العلائق القبلية والارتباطات الضيِّقة، وتبدَّلت إلى المفاهيم المـُعمَّقة والأهداف الواسعة، والمراد من أمر الله المـُشار إليه - والله أعلم بما ينزل - وجود الدولة العالمية العادلة، تحت قيادة الإمام المهدي (ع) في تنفيذ أوامره وتطهير الأرض من أعدائه... حتى سمعنا تسميتهم بجيش الغضب، وعرفنا صفاتهم في الشجاعة والاندفاع والتضحية.

وبهذا الحماس العاطفي والشجاعة النادرة، سيُمارسون القتل بأنفسهم، مع إلغاء الخصائص الضيِّقة، وسيحملون السلاح على عواتقهم ثمانية أشهُر كاملة، حتى يتمَّ استئصال المـُنحرفين من العالم، وسيكون هذا العامل من العوامل الأخرى أفضل ضمان لشعورهم بالسعادة والاطمئنان من عملهم المـُقدَّس، بحيث لا يحتمل وجود أيِّ أثر سيِّئ في نفوسهم.

القسم الرابع: الفتح العالمي السلمي بدون قتال: ونتكلَّم عنه ضمن جهتين:

الجهة الأُولى: في الأخبار الدالَّة على أنَّ الفتح العالمي سيتمُّ بدون قتال:

أخرج السيوطي(2) في الحاوي، عن نعيم بن حمَّاد، عن علي قال: ( إذا بعث السفياني إلى المهدي جيشاً فخُسف بهم البيداء... وتُنقل

____________________

(1) التوبة: 9/23-24.

(2) ج2 ص146.

٤١٢

إليه الخزائن، ويدخل العرب والعَجم، وأهل الحرب والروم وغيرهم في طاعته من غير قتال، حتى يبني المساجد بالقسطنطينية وما دونها... ) الحديث.

وأخرجه ابن طاووس في الملاحم والفتن(1) ، عن نعيم بن حمَّاد أيضاً، وأخرج النعماني في الغيبة(2) ، بإسناده عن محمد بن جعفر بن محمد، عن أبيه (ع) قال: (إذا قام القائم... - قال: - ويبعث جُنداً إلى القسطنطينية، فإذا بلغوا الخليج كتبوا على أقدامهم شيئاً ومشوا على الماء، قالوا: هؤلاء أصحابه يمشون على الماء، فكيف هو؟ فعند ذلك يفتحون لهم أبواب المدينة، فيدخلونها، فيحكمون فيها ما يريدون ).

أقول: ونقله عنه في البحار(3) .

وعن عقد الدرر(4) ، عن علي بن أبي طالب - في قصَّة المهدي وفتوحاته... - قال: ( ثمَّ يأمر بإنشاء مراكب، فيبني أربعمئة سفينة في ساحل عكَّا، ويخرج الروم في مئة صليب، تحت كل صليب عشرة آلاف، فيُقيمون على طرطوس، فيفتحونها بأسنَّة الرماح، ويوافيهم المهدي (ع)، فيُقتل من الروم حتى يتغيَّر ماء الفرات بالدم، وينهزم من الروم فيلحقوا بأنطاكية، وينزل المهدي (ع) على قبَّة العباس، فيبعث ملك الروم بطلب الهدنة من المهدي (ع)، ويطلب المهدي منه الجزية، فيُجيبه إلى ذلك، غير أنَّه لا يخرج من بلد الروم، فلا يبقى في بلد الروم أسير إلاَّ خرج، ويُقيم المهدي (ع) بأنطاكية سنة ( لعلَّها سنته ) تلك، ثمَّ يسير ذلك ومَن تبعه من المسلمين، لا يمرُّون على حصن من بلد الروم إلاَّ قالوا عليه: لا إله إلاَّ الله. فيتساقط حيطانه ويَقتل مقاتليه، حتى ينزل على القسطنطينية، فيُكبِّرون عليها تكبيرات، فينشف خليجها ويسقط

____________________

(1) ص53.

(2) ص172.

(3) ص194 ج13.

(4) رواها في إلزام الناصب ص224 ط إيران.

٤١٣

سورها فيقتلون فيها ثلاثمئة ألف مُقاتل، ويستخرج منها ثلاث كنوز... ويسير المهدي إلى رومية، ويكون قد أمر أربعمئة مركب من عكَّا، فيُفيض ( لعلَّها: فيقيض ) الله تعالى لهم الريح، فما يكون إلاَّ يومين وليلتين ويُحيطوا على بابها، ويعلقون رجالهم على شجرة على بابها ممَّا يلي غربيها، فإذا رآهم أهل الرومية احذروا ( لعلَّها: أخرجوا ) إليهم راهباً كبيراً عندهم علم من كتبهم، فيقولون: انظر ما يريد. فإذا أشرف على المهدي (ع) فيقول: إنَّ صفتك التي هي عندي. وأنت صاحب رومية، فيسأله الراهب عن أشياء فيُجيبه عنها، فيقول: له المهدي: ارْجِع. فيقول: لا أرجع، أنا أشهد أن لا إله إلاَّ ألله وأنَّ محمداً رسول الله. فيُكبِّر المسلمون ثلاث تكبيرات، فتكون كالرمَّانة على نشر(1) ، فيدخلونها فيقتلون بها خمسمئة ألف مقاتل ويقتسمون الأموال ).

إلى بعض الأخبار الأخرى.

الجهة الثانية: في نقد هذه الأخبار:

تحتوي هذه الأخبار على شيء من نقاط الضعف، وشيء من نقاط القوَّة:

أمَّا نقاط الضعف:

النقطة الأُولى: أنَّها وحدها غير قابلة للإثبات التاريخي؛ لعدم ثبوت صحَّة إسنادها وقلَّة أعدادها، فما لم تقم قرائن إضافية لإسناد مضمونها، ينبغي إسقاط هذه الأخبار عن الاعتبار، وسيأتي عرض ذلك في نقاط القوَّة.

النقطة الثانية: أنَّها معارضة بما دلَّ بظاهره على شمول السيف المهدوي لكل العالم، وعدم اختصاصه بالشرق بحسب إطلاق مدلوله.

النقطة الثالثة: إنَّ هذه الأخبار دالَّة على فتح العالم سلمياً عن طريق المعجزات، بالمشي على الماء تارةً، وبالتكبير والتهليل أخرى... فتكون هذه الأخبار مُخالفة لقانون المعجزات، باعتبار أنَّ فتح العالم ما يمكن توفُّره للمهدي (ع ) بدون معجزة، ولو عن طريق الحرب، فقيام المعجزة من أجل توفيره يكون بلا موجب.

النقطة الرابعة: إنَّ هذه الأخبار تدلَّ على أنَّ أوضاع المدن في الحصانة الحربية

____________________

(1) لعلَّها: نشز، وهو المرتفع، فيكون المراد الوضوح والسهولة في دخول المدينة.

٤١٤

وأساليب القتال، على الطريقة القديمة... وهذا باطل بالحسِّ والوجدان، بعد أن رأينا المدن المـُشار إليها في الأخبار وغيرها قد تطوَّرت من هذه الجهات تطوُّراً لا يُقاس بالقديم أصلاً.

النقطة الخامسة: إنَّ بعض هذه الأخبار يدلُّ على أنَّ فتح القسطنطينية يتمُّ من قِبَل المهدي (ع) بأخذها من الكفَّار والمسيحيين، وهذا غير صحيح؛ لأنَّ هذه الخطوة قد اتُّخذت من قِبَل السلاطين العثمانيين، وقد أصبحت القسطنطينية منذ ذلك الحين بلدة مسلمة، وسمِّيت بإسلامبول، وأصبحت عاصمة الدولة العثمانية عدَّة قرون، وسيفتحها المهدي (ع) فتحاً ثانياً، لكنَّه سيأخذها من يد المسلمين المـُنحرفين، لا من الكفَّار والمسيحيين.

هذا، وسنعرف مدى صحَّة هذه النقاط بعد قليل.

وأمَّا نقاط القوَّة، فكما يلي:

النقطة الأُولى: إنَّ المضمون العام لهذه الروايات - وهو فتح العالم سلمياً - مدعم بعدَّة قرائن عامة، يسند قابلية هذه الأخبار للإثبات التاريخي، وذلك من عدَّة زوايا، يدعم بعضها بعضاً.

الزاوية الأُولى: ما أشرنا إليه وبرهنَّا عليه، من شعور الرأي العام العالمي بوضوح يومئذ بفشل كل التجارب والأُطروحات التي ادَّعت حلَّ مشاكل العالم، إلى حدٍّ أصبح الفرد الاعتيادي ( غير المرتبط مصلحياً بهذه التجارب ) مُستعدَّاً للتنازل عن أيِّ حكم يتبنَّى شيئاً منها إلى الحكم الجديد، الذي يأمل فيه الخير والرفاه.

الزاوية الثانية: ما عرفناه من قابليَّات الإمام المهدي (ع) نفسه في الاطِّلاع على نقاط الضعف في الدول والحكَّام، الأمر الذي يُيسِّر له أحسن النتائج وأسهلها خلال الفتح العالمي، كما سبق أن أوضحنا.

الزاوية الثالثة: إنَّ الدولة التي سيؤسِّسها المهدي (ع) في منطقة من العالم، قبل استيعاب الفتح العالمي، ستكون نموذجاً حيَّاً للأُطروحة العادلة الكاملة، وسيرى العالم كله ما يشملها من الرفاه والأخوَّة والعدل؛ الأمر الذي يجعل أنظار العالم مركَّزة على هذا النظام الجديد، وراغبة فيه بشغف شديد.

الزاوية الرابعة: ما يقوم به المهدي (ع) من مناقشات فكرية وعقائدية ودينية، لإثبات الفكر الحق، ودحض كل ما يُخالف من الأساليب والإيديولوجيات، وسيكون ذلك

٤١٥

على نطاق واضح وواسع ومُقنع، مضافاً إلى ما سنسمعه من أنَّ المسيح عيسى بن مريم عند نزوله سيقوم بمثل هذه الحملة أيضاً.

وهذا ما أُشير إليه في بعض الحدود في الروايات السابقة، وأنَّ الراهب الذي تُرسله رومية ( روما – أوروبا ) سوف يؤمن بالمهدي، ويشهد بوجود صفاته في الكتب الدينية القديمة الموجودة عنده، وأنَّ المهدي هو ( صاحب رومية )، يعني أنَّ مُستقبلها سيكون إليه لا محالة.

الزاوية الخامسة: الفتح الإعجازي عند انحصار الأمر فيه، بحيث يكون مُطابقاً لقانون المعجزات، وهذا ما قد تعنُّ الحاجة إليه أحياناً.

ونستطيع أن نتصوَّر ردَّ الفعل العالمي، لو حدث ذلك مرَّة واحدة، أنَّ كل الدول الأخرى سوف تنهار معنوياً وتعلم بنهايتها، طبقاً لقول الشاعر:

مَن حُلِقَتْ لحية جارٍ له

فليسكُبْ الماء على لحيته

لأنَّها تعلم أنَّ الجيش المهدوي سيغزوها لا محالة، فإن أمكن بالطريق الطبيعي، فهو... وإلاَّ فسيدخلها بالمعجزة... وهذا من أقوى أسباب الرُّعب الذي سمعنا انتشاره بين أعداء المهدي (ع) من الروايات.

فهذه الزوايا الخمسة المـُتوفِّرة للإمام المهدي (ع) تُيسِّر الفتح العالمي السلمي بكل وضوح، مضافاً إلى الضمانات الأخرى التي عرفناها لانتصاره، والتي تتناسب مع السلم كما تتناسب مع الحرب.

وإذا تمَّت هذه الزوايا، كانت مؤيِّدة للأخبار الدالَّة على الفتح السلمي، فيُصبح من الممكن القول: بأنَّ هذه الأخبار صحيحة من هذه الناحية لا غبار عليها.

النقطة الثانية: إنَّ أكثر نقاط الضعف السابقة غير صحيحة:

فالنقطة الأُولى - وهي عدم قابليَّتها للإثبات التاريخي - ارتفعت بعد دعم الروايات بالزوايا الخمس السابقة.

وأمَّا النقطة الثانية؛ فلأنَّ الفتح السلمي لا يُنافي شمول ( السيف ) المهدوي لغير الشرق الأوسط؛ لأنَّ المـُتعصِّبين ضدَّ الحق في أوروبا وغير أوروبا كثرين أيضاً، بحيث لا يمكن أن يُعايشوا المجتمع العادل الكامل، فيجب الإجهاز عليهم مُقدِّمة للتطبيق العادل، وهذا القتل غير الفتح العالمي، بل يستمرُّ بعد الفتح، غير أنَّ شمول هذا القتل

٤١٦

لكل العالم قد يُنافي ما دلَّ على اختصاصه بالشرق أو بالبلاد الإسلامية، وكان التبرير النظري مؤيِّداً لذلك كما عرفنا؛ ومن هنا لا يكون ما دلَّ على الشمول قابلاً للإثبات التاريخي.

غير أنَّ نقطة الضعف الثانية لن تكون صحيحة؛ لأنَّ شمول السيف - على تقدير صحَّته - ليس للفتح، بل للتنظيف.

وإن كان الالتزام بشمول القتل لأوروبا وغيرها، على نطاق أضيق من البلاد الإسلامية، وبشكل لا يُنافي المـُبرِّر النظري السابق، لا محذور فيه... فيشمل مَن يُقابل المهدي (ع) بالسلاح - كما دلَّت هذه الروايات - وكل شخص ميؤوس من حُسن مُشاركته في مجتمع العدل العالمي سلفاً.

وأمَّا نقطة الضعف الثالثة - وهي الفتح عن طريق المعجزات - فقد عرفنا إمكان ذلك عند توقُّف الفتح عليه أحياناً... لا أقلّ من مرَّة واحدة، لكي تُلقي الرُّعب في قلوب الدول الأخرى.

وأمَّا النقطة الرابعة، فقد وردت هذه الأخبار على لسان عصرها، وطبقاً لمستواه الفكري والثقافي، طبقاً لقانون( كلِّم الناس على قدر عقولهم ) ، ولا يعني ذلك بقاء المدن على الشكل القديم إلى عصر الظهور.

وأمَّا نقطة الضعف الخامسة، فهي صحيحة، غير أنَّها شاملة لكل الأخبار؛ لعدم ورود اسم القسطنطينية إلاَّ في بعضها، فلعلَّه خطأ من الراوي؛ باعتبار نقل الحديث بمعناه لا بلفظه، أو لأيِّ سبب آخر.

ووجود هذه النقطة في بعض الأخبار، لا يعني الاعتراض على أصل الفكرة، وهي الفتح العالمي السلمي، كما هو واضح.

وعلى أيِّ حال، فهذه الفكرة تكشف لنا عن أنَّ التخطيط الذي يتَّخذه المهدي (ع) في مناطق العالم المختلفة، غير التخطيط الذي يتَّخذه في الشرق الإسلامي، ويبقى التعرُّف على التفاصيل مصوناً في ضمير الغيب إلى حين مجيء ذلك الزمان.

٤١٧

٤١٨

الفصل الخامس

موقف الآخرين من الإمام المهدي عليه السلام

ماذا سوف يكون موقف الآخرين تجاه المهدي وثورته ودولته؟!

تنقسم العواطف تجاه الإمام المهدي إلى ثلاثة أقسام رئيسية: منها إيجابية، ومنها سلبية كما سنسمع.

فأهمَّ عاطفة إيجابية تجاه المهدي (ع) عواطف أصحابه المـُخلصين، وجيشه الموالي إلى أعلى درجات الولاء، كما سبق أن عرضنا ذلك مُفصَّلاً.

وهناك عاطفة إيجابية أخرى تجاهه (ع)، تشمل كل العالم، وذلك حين يذوق الناس أجمعون لذَّة العدل والسعادة، والرفاه في المجتمع المهدوي العالمي العادل.

وأمَّا العواطف السلبية، فتنشأ من الانحراف والمـُنحرفين، الذين يواجهون السيف المهدوي بحرارته وقوَّته.

ونحن بعد أن تحدَّثنا عن القسم الإيجابي الأول، بقي علينا أن نتحدَّث عن القسمين الأخيرين، نبدؤهما بالعواطف السلبية؛ باعتبار تقدُّمها زمناً على العواطف الإيجابية الثانية.

العواطف السلبية:

تنقسم العواطف السلبية ضدَّ الإمام المهدي إلى ثلاثة أقسام، في حدود ما وردنا من المـُثبتات التاريخية.

القسم الأول: ردُّ الفعل السيِّئ الذي عرفناه غير بعيد، من قِبَل المـُنحرفين حين يستمرُّ

٤١٩

فيهم القتل، ويبدأ عددهم الضخم بالتناقص السريع.

إنَّهم سوف يقولون: إنَّ هذا ليس من ذُرِّية فاطمة، لو كان من ذُرِّيَّتها لرحمنا.

أو يقولون: إنَّ هذا ليس من آل محمد (ص)، لو كان من آل محمد لرحمنا. كما نطقت بذلك الأخبار.

وهذا الكلام منهم يتضمَّن إرجافاً وتشكيكاً بمهدويَّته؛ إذ من المعروف المفهوم بوضوح في أذهان المسلمين - الذي تواترت به الروايات - أنَّ المهدي المنتظر من آل محمد ومن ذُرِّية فاطمة، وإذا لم يكن شخص المهدي (ع) من آل محمد ومن ذُرِّية فاطمة، إذن؛ فليس هو المهدي المنتظر الموعود.

وسينطلقون إلى استنتاج كونه ليس من آل محمد ولا من ذُرِّية فاطمة، من حِدَّة سيفه وكثرة القتل الذي يُحدثه فيهم؛ باعتبار أنَّ كثرة القتل منافية للرحمة، وآل محمد أولى مَن يتَّصف بالرحمة من المسلمين، فلو كان شخص المهدي (ع) منهم لاتَّصف بالرحمة.

إلاَّ أنَّ هذا الكلام منهم سيكون هواء في شبك، في خضمِّ الأحداث العالمية السريعة التتابع التي تعيشها البشرية في تلك الفترة.

إنَّ هؤلاء المرجفين سوف ينتهون في خضمِّ كثرة القتل، لا يبقى منهم أحد، وسيكون البرهان الأكبر في دحض هذه الشبهة وإثبات أنَّ هذا القائد هو المهدي المنتظر الموعود نفسه، مضافاً إلى الدلائل الفكرية والعملية، التي يقوم بها خلال نشاطه العام... سيكون البرهان الأكبر على ذلك استتباب سيطرته على العالم كله، فإنَّنا لا نعني من المهدي الموعود إلاَّ مَن يحكم العالم كله بالعدل.

وهذه الفكرة عن المهدي الموعود، كما تصلح دحضاً لمَن يدَّعي المهدوية في التاريخ - كما ذكرنا ذلك في كل من التاريخين السابقين(1) - تكون هي البرهان الأهمَّ على صدق مَن يدَّعي المهدوية، وتتمُّ سيطرته على العالم.

وقد غفل هؤلاء المـُرجفون عن أنَّ معنى الرحمة واللطف، ليس هو الرحمة الآنيَّة، والمحافظة على المصالح الوقتية الخاصة للناس، وإنَّما معناها الكبير، هو تطبيق الشريعة العادلة الكاملة في ربوع المجتمع البشري.

فإنَّ ذلك هو المصلحة العُلْيَا للبشر والهدف

____________________

(1) انظر تاريخ الغيبة الصغرى ص355 وتاريخ الغيبة الكبرى ص504

٤٢٠