موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)8%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 679

الجزء ١ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 212510 / تحميل: 11107
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

إنّما يؤثّر في الأعمال الظاهريّة والأفعال والحركات البدنيّة المادّيّة، وأمّا الاعتقاد القلبيّ فله علل وأسباب اُخرى قلبيّة من سنخ الاعتقاد والإدراك، ومن المحال أن ينتج الجهل علماً، أو تولّد المقدّمات غير العلميّة تصديقاً علميّاً، فقوله: لا إكراه في الدين، إن كان قضيّة إخباريّة حاكية عن حال التكوين أنتج حكماً دينيّاً بنفي الإكراه على الدين والاعتقاد، وإن كان حكماً انشائيّاً تشريعيّاً كما يشهد به ما عقّبه تعالى من قوله: قد تبيّن الرشد من الغيّ، كان نهياً عن الحمل على الاعتقاد والإيمان كرهاً، وهو نهي متّك على حقيقة تكوينيّة، وهي الّتي مرّ بيانها أنّ الإكراه إنّما يعمل ويؤثّر في مرحلة الأفعال البدنيّة دون الاعتقادات القلبيّة.

وقد بيّن تعالى هذا الحكم بقوله: قد تبيّن الرشد من الغيّ، وهو في مقام التعليل فإنّ الإكراه والإجبار إنّما يركن إليه الآمر الحكيم والمربّي العاقل في الاُمور المهمّة الّتي لا سبيل إلى بيان وجه الحقّ فيها لبساطة فهم المأمور وردائة ذهن المحكوم، أو لأسباب وجهات اُخرى، فيتسبّب الحاكم في حكمه بالإكراه أو الأمر بالتقليد ونحوه، وأمّا الاُمور المهمّة الّتي تبيّن وجه الخير والشرّ فيها، وقرّر وجه الجزاء الّذي يلحق فعلها وتركها فلا حاجة فيها إلى الإكراه، بل للإنسان أن يختار لنفسه ما شاء من طرفي الفعل وعاقبتي الثواب والعقاب، والدين لمّا انكشفت حقائقه واتّضح طريقه بالبيانات الإلهيّة الموضحة بالسنّة النبويّة فقد تبيّن أنّ الدين رشد والرشد في اتّباعه، والغيّ في تركه والرغبة عنه، وعلى هذا لا موجب لأن يكره أحد أحداً على الدين.

وهذه إحدى الآيات الدالّة على أنّ الإسلام لم يبتن على السيف والدم، ولم يفت بالإكراه والعنوة على خلاف ما زعمه عدّة من الباحثين من المنتحلين وغيرهم أنّ الإسلام دين السيف واستدلّوا عليه: بالجهاد الّذي هو أحد أركان هذا الدين.

وقد تقدّم الجواب عنه في ضمن البحث عن آيات القتال وذكرنا هناك أنّ القتال الّذي ندب إليه الإسلام ليس لغاية إحراز التقدّم وبسط الدين بالقوّة والإكراه، بل لإحياء الحقّ والدفاع عن أنفس متاع للفطرة وهو التوحيد، وأمّا بعد انبساط

٣٦١

التوحيد بين الناس وخضوعهم لدين النبوّة ولو بالتهوّد والتنصّر فلا نزاع لمسلم مع موحّد ولا جدال، فالإشكال ناش عن عدم التدبّر.

ويظهر ممّا تقدّم أنّ الآية أعني قوله: لاإكراه في الدين غير منسوخة بآية السيف كما ذكره بعضهم.

ومن الشواهد على أنّ الآية غير منسوخة التعليل الّذي فيها أعني قوله: قد تبيّن الرشد من الغيّ، فإنّ الناسخ ما لم ينسخ علّة الحكم لم ينسخ نفس الحكم، فإنّ الحكم باق ببقاء سببه، ومعلوم أنّ تبيّن الرشد من الغيّ في أمر الإسلام أمر غير قابل للارتفاع بمثل آية السيف، فإنّ قوله: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم مثلاً، أو قوله: وقاتلوا في سبيل الله الآية لا يؤثّران في ظهور حقّيّة الدين شيئاً حتّى ينسخا حكماً معلولاً لهذا الظهور.

وبعبارة اُخرى الآية تعلّل قوله: لا إكراه في الدين بظهور الحقّ، هو معنى لا يختلف حاله قبل نزول حكم القتال وبعد نزوله، فهو ثابت على كلّ حال، فهو غير منسوخ.

قوله تعالى: ( فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ ) الخ، الطاغوت هو الطغيان والتجاوز عن الحدّ ولا يخلو عن مبالغة في المعنى كالملكوت والجبروت، ويستعمل فيما يحصل به الطغيان كأقسام المعبودات من دون الله كالأصنام والشياطين والجنّ وأئمّة الضلال من الإنسان وكلّ متبوع لا يرضى الله سبحانه باتّباعه، ويستوى فيه المذكّر والمؤنّث والمفرد والتثنية والجمع.

وإنّما قدّم الكفر على الإيمان في قوله فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله، ليوافق الترتيب الّذي يناسبه الفعل الواقع في الجزاء أعني الاستمساك بالعروة الوثقى، لأنّ الاستمساك بشئ إنّما يكون بترك كلّ شئ والأخذ بالعروة، فهناك ترك ثمّ أخذ، فقدّم الكفر وهو ترك على الإيمان وهو أخذ ليوافق ذلك، والاستمساك هو الأخذ والإمساك بشدّة، والعروة ما يؤخذ به من الشئ كعروة الدلو وعروة الإناء، والعروة

٣٦٢

هي كلّ ماله أصل من النبات وما لا يسقط ورقه، وأصل الباب التعلّق يقال: عراه واعتريه أي تعلّق به.

والكلام أعني قوله: فقد استمسك بالعروة الوثقى، موضوع على الاستعارة للدلالة على أنّ الإيمان بالنسبة إلى السعادة بمنزلة عروة الإناء بالنسبة إلى الإناء وما فيه، فكما لا يكون الأخذ أخذاً مطمئنّاً حتّى يقبض على العروة كذلك السعادة الحقيقيّة لا يستقرّ أمرها ولا يرجى نيلها إلّا أن يؤمن الإنسان بالله ويكفر بالطاغوت.

قوله تعالى: ( لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ، الانفصام: الانفصام والانكسار، والجملة في موضع الحال من العروة تؤكّد معنى العروة الوثقى، ثمّ عقّبه بقوله: والله سميع عليم، لكون الإيمان والكفر متعلّقاً بالقلب واللسان.

قوله تعالى: ( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم ) إلى آخر الآية، قد مرّ شطر من الكلام في معنى إخراجه من النور الى الظلمات، وقد بيّنّا هناك أنّ هذا الإخراج وما يشاكله من المعاني اُمور حقيقيّة غير مجازيّة خلافاً لما توهّمه كثير من المفسّرين وسائر الباحثين أنّها معان مجازيّة يراد بها الأعمال الظاهريّة من الحركات والسكنات البدنيّة، وما يترتّب عليها من الغايات الحسنة والسيّئة، فالنور مثلاً هو الاعتقاد الحقّ بما يرتفع به ظلمة الجهل وحيره الشكّ واضطراب القلب، والنور هو صالح العمل من حيث أن رشده بيّن، وأثره في السعادة جليّ، كما أنّ النور الحقيقيّ على هذه الصفات. والظلمة هو الجهل في الاعتقاد والشبهة والريبة وطالح العمل، كلّ ذلك بالاستعارة. والإخراج من الظلمة إلى النور الّذي ينسب إلى الله تعالى كالإخراج من النور إلى الظلمات الّذي ينسب إلى الطاغوت نفس هذه الاعمال والعقائد، فليس وراء هذه الاعمال والعقائد، لا فعل من الله تعالى وغيره كالإخراج مثلاً ولا أثر لفعل الله تعالى وغيره كالنور والظلمة وغيرهما، هذا ما ذكره قوم من المفسّرين والباحثين.

وذكر آخرون: أنّ الله يفعل فعلاً كالإخراج من الظلمات إلى النور وإعطاء الحياة والسعة والرحمة وما يشاكلها ويترتّب على فعله تعالى آثار كالنور والظلمة والروح والرحمة ونزول الملائكة، لا ينالها أفهامنا ولا يسعها مشاعرنا، غير أنّا نؤمن

٣٦٣

بحسب ما أخبر به الله - وهو يقول الحقّ - بأنّ هذه الاُمور موجودة وأنّها أفعال له تعالى وإن لم نحط بها خبراً، ولازم هذا القول أيضاً كالقول السابق أن يكون هذه الألفاظ أعني أمثال النور والظلمة والإخراج ونحوها مستعملة على المجاز بالاستعارة، وإنّما الفرق بين القولين أنّ مصاديق النور والظلمة ونحوهما على القول الأوّل نفس أعمالنا وعقائدنا، وعلى القول الثاني اُمور خارجة عن أعمالنا وعقائدنا لا سبيل لنا إلى فهمها، ولا طريق إلى نيلها والوقوف عليها.

والقولان جميعاً خارجان عن صراط الاستقامة كالمفرط والمفرّط، والحقّ في ذلك أنّ هذه الاُمور الّتي أخبر الله سبحانه بإيجادها وفعلها عند الطاعة والمعصية إنّما هي اُمور حقيقيّة واقعيّة من غير تجوّز غير أنّها لا تفارق أعمالنا وعقائدنا بل هي لوازمها الّتي في باطنها، وقد مرّ الكلام في ذلك، وهذا لا ينافي كون قوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات، كنايتين عن هداية الله سبحانه وإضلال الطاغوت، لما تقدّم في بحث الكلام أنّ النزاع في مقامين: أحدهما كون النور والظلمة وما شابههما ذا حقيقة في هذه النشأة أو مجرّد تشبيه لا حقيقة له. وثانيهما: أنّه على تقدير تسليم أنّ لها حقائق وواقعيّات هل استعمال اللفظ كالنور مثلاً في الحقيقة الّتي هي حقيقة الهداية حقيقة أو مجاز؟ وعلى أيّ حال فالجملتان أعني: قوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات كنايتان عن الهداية والاضلال، وإلّا لزم أن يكون لكلّ من المؤمن والكافر نور وظلمة معاً، فإنّ لازم إخراج المؤمن من الظلمة إلى النور أن يكون قبل الإيمان في ظلمة وبالعكس في الكافر، فعامّة المؤمنين والكفّار - وهم الّذين عاشوا مؤمنين فقط أو عاشوا كفّاراً فقط - إذا بلغوا مقام التكليف فإن آمنوا خرجوا من الظلمات إلى النور، وإن كفروا خرجوا من النور إلى الظلمات، فهم قبل ذلك في نور وظلمة معاً وهذا كما ترى.

لكن يمكن أن يقال: إنّ الإنسان بحسب خلقته على نورالفطرة، هو نور إجماليّ يقبل التفصيل، وأمّا بالنسبة إلى المعارف الحقّة والأعمال الصالحة تفصيلاً

٣٦٤

فهو في ظلمة بعد لعدم تبيّن أمره، والنور والظلمة بهذا المعنى لا يتنافيان ولا يمتنع اجتماعهما، والمؤمن بإيمانه يخرج من هذه الظلمة إلى نور المعارف والطاعات تفصيلاً، والكافر بكفره يخرج من نور الفطرة إلى ظلمات الكفر والمعاصي التفصيليّة، والإتيان بالنور مفرداً وبالظلمات جمعاً في قوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات، للإشارة إلى أنّ الحقّ واحد لا اختلاف فيه كما أنّ الباطل متشتّت مختلف لا وحدة فيه، قال تعالى:( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ ) الأنعام - ١٥٣.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور أخرج أبوداود والنسائيّ وابن المنذر وابن أبي حاتم والنّحاس في ناسخه وابن منده في غرائب شعبه وابن حبّان وابن مردويه والبيهقيّ في سننه والضياء في المختارة عن ابن عبّاس قال: كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة لا يكاد يعيش لها ولد، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوّده، فلمّا أجليت بنوا النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبنائنا فأنزل الله لا إكراه في الدين.

اقول: وروي أيضاً هذا المعنى بطرق اُخرى عن سعيد بن جبير وعن الشعبيّ.

وفيه: أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال: كانت النضير أرضعت رجالاً من الأوس، فلمّا أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإجلائهم، قال أبنائهم من الأوس: لنذهبنّ معهم ولنديننّ دينهم، فمنعهم أهلوهم وأكرهوهم على الإسلام، ففيهم نزلت هذه الآية لا إكراه في الدين.

اقول: وهذا المعنى أيضاً مرويّ بغير هذا الطريق، وهو لا ينافي ما تقدّم من نذر النساء اللّاتي ما كان يعيش أولادها أن يهوّدنهم.

وفيه أيضاً: أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عبّاس: في قوله: لا إكراه في الدين قال: نزلت في رجل من الأنصارمن بني سالم بن عوف يقال له: الحصين كان له

٣٦٥

ابنان نصرانيّان، وكان هو رجلاً مسلماً فقال للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألا أستكرههما فإنّهما قد أبيا إلّا النصرانيّة؟ فأنزل الله فيه ذلك.

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام : قال: النور آل محمّد و الظلمات أعداؤهم.

اقول: وهو من قبيل الجري أو من باب الباطن أو التأويل.

٣٦٦

( سورة البقرة آية ٢٥٨ - ٢٦٠)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ٢٥٨ ) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٢٥٩ ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٢٦٠ )

( بيان)

الآيات مشتملة على معنى التوحيد ولذلك كانت غير خالية عن الارتباط بما قبلها من الآيات فمن المحتمل أن تكون نازلة معها.

قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ) ، المحاجّة إلقاء الحجّة قبال الحجّة لإثبات المدّعي أو لإبطال ما يقابله، وأصل الحجّة هو القصد، غلب استعماله فيما يقصد به إثبات دعوى من الدعاوي، وقوله: في ربّه متعلّق بحاجّ، والضمير لإبراهيم كما يشعر به قوله تعالى فيما بعد: قال إبراهيم ربّي الّذي يحيى ويميت، وهذا الّذي حاج إبراهيمعليه‌السلام في ربّه هو الملك الّذي كان يعاصره وهو نمرود من ملوك

٣٦٧

بابل على ما يذكره التاريخ والرواية.

وبالتأمّل في سياق الآية، والّذي جرى عليه الأمر عند الناس ولا يزال يجري عليه يعلم معنى هذه المحاجّة الّتي ذكرها الله تعالى في هذه الآية، والموضوع الّذي وقعت فيه محاجّتهما.

بيان ذلك: أنّ الإنسان لا يزال خاضعاً بحسب الفطرة للقوى المستعلية عليه، المؤثّرة فيه، وهذا ممّا لا يرتاب فيه الباحث عن أطوار الاُمم الخالية المتأمّل في حال الموجودين من الطوائف المختلفة، وقد بيّنا ذلك فيما مرّ من المباحث. وهو بفطرته يثبت للعالم صانعاً مؤثّراً فيه بحسب التكوين والتدبير، وقد مرّ أيضاً بيانه، وهذا أمر لا يختلف في القضاء عليه حال الإنسان سواء قال بالتوحيد كما يبتني عليه دين الأنبياء وتعتمد عليه دعوتهم أو ذهب إلى تعدّد الآلهة كما عليه الوثنيّون أو نفي الصانع كما عليه الدهريّون والمادّيّون، فإنّ الفطرة لا تقبل البطلان ما دام الإنسان إنساناً وإن قبلت الغفلة والذهول.

لكن الإنسان الأولىّ الساذج لمّا كان يقيس الأشياء إلى نفسه، وكان يرى من نفسه أنّ أفعاله المختلفة تستند إلى قواه وأعضائه المختلفة، وكذا الأفعال المختلفة الإجتماعيّة تستند إلى أشخاص مختلفة في الاجتماع، وكذا الحوادث المختلفة إلى علل قريبة مختلفة وإن كانت جميع الأزمّة تجتمع عند الصانع الّذي يستند إليه مجموع عالم الوجود لا جرم أثبت لأنواع الحوادث المختلفة أرباباً مختلفة دون الله سبحانه فتارة كان يثبت ذلك باسم أرباب الأنواع كربّ الأرض وربّ البحار وربّ النار وربّ الهواء والأرياح وغير ذلك، وتارة كان يثبته باسم الكواكب وخاصّة السيّارات الّتي كان يثبت لها على اختلافها تأثيرات مختلفة في عالم العناصر والمواليد كما نقل عن الصابئين ثمّ كان يعمل صوراً وتماثيل لتلك الأرباب فيعبدها لتكون وسيلة الشفاعة عند صاحب الصنم ويكون صاحب الصنم شفيعاً له عند الله العظيم سبحانه، ينال بذلك سعادة الحياة والممات.

ولذلك كانت الأصنام مختلفة بحسب اختلاف الاُمم والأجيال لأنّ الآراء كانت

٣٦٨

مختلفة في تشخيص الأنواع المختلفة وتخيّل صور أرباب الانواع المحكيّة بأصنامها، وربّما لحقت بذلك أميال وتهوّسات اُخرى. وربّما انجرّ الأمر تدريجاً إلى التشبّث بالأصنام ونسيان أربابها حتّى ربّ الأرباب لأنّ الحسّ والخيال كان يزيّن ما ناله لهم، وكان يذكرها وينسى ما وراها، فكان يوجب ذلك غلبة جانبها على جانب الله سبحانه، كلّ ذلك إنّما كان منهم لأنّهم كانوا يرون لهذه الأرباب تأثيراً في شؤن حياتهم بحيث تغلب إرادتها إرادتهم، وتستعلي تدبيرها على تدبيرهم.

وربّما كان يستفيد بعض اُولي القوّة والسطوة والسلطة من جبابرة الملوك من اعتقادهم ذلك ونفوذ أمره في شؤون حياتهم المختلفة، فيطمع في المقام ويدّعي الاُلوهيّة كما ينقل عن فرعون ونمرود وغيرهما، فيسلك نفسه في سلك الأرباب وإن كان هو نفسه يعبد الأصنام كعبادتهم، وهذا وإن كان في بادء الأمر على هذه الوتيرة لكن ظهور تأثيره ونفوذ أمره عند الحسّ كان يوجب تقدّمه عند عبّاده على سائر الأرباب وغلبة جانبه على جانبها، وقد تقدّمت الإشارة إليه آنفاً كما يحكيه الله تعالى من قول فرعون لقومه:( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ ) النازعات - ٢٤، فقد كان يدّعي أنّه أعلى الأرباب مع كونه ممّن يتّخذ الأرباب كما قال تعالى:( وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) الأعراف - ١٢٧، وكذلك كان يدّعي نمرود على ما يستفاد من قوله: أنا اُحيي واُميت، في هذه الآية على ما سنبيّن.

وينكشف بهذا البيان معنى هذه المحاجّة الواقعة بين إبراهيمعليه‌السلام ونمرود، فإنّ نمرود كان يرى لله سبحانه اُلوهيّة، ولو لا ذلك لم يسلم لإبراهيمعليه‌السلام قوله: إنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، ولم يبهت عند ذلك بل يمكنه أن يقول: أنا آتي بها من المشرق دون من زعمت أو أنّ بعض الآلهة الاُخرى يأتي بها من المشرق، وكان يرى أنّ هناك آلهة اُخرى دون الله سبحانه، وكذلك قومه كانوا يرون ذلك كما يدلّ عليه عامّة قصص إبراهيمعليه‌السلام كقصّة الكوكب والقمر والشمس وما كلّم به أباه في أمر الأصنام وما خاطب به قومه وجعله الأصنام جذاذاً إلّا كبيراً لهم وغير ذلك، فقد كان يرى لله تعالى اُلوهيّة، وأنّ معه آلهة اُخرى لكنّه

٣٦٩

كان يرى لنفسه اُلوهيّة، وأنّه أعلى الآلهة، ولذلك استدلّ على ربوبيّته عند ما حاجّ إبراهيمعليه‌السلام في ربّه، ولم يذكر من أمر الآلهة الاُخرى شيئاً.

ومن هنا يستنتج أنّ المحاجّة الّتي وقعت بينه وبين إبراهيمعليه‌السلام هي: أنّ إبراهيمعليه‌السلام كان يدّعي أنّ ربّه الله لا غير ونمرود كان يدّعي أنّه ربّ إبراهيم وغيره ولذلك لمّا احتجّ إبراهيمعليه‌السلام على دعواه بقوله: ربّي الّذي يحيي ويميت، قال: أنا اُحيي واُميت، فادّعى أنّه متّصف بما وصف به إبراهيم ربّه فهو ربّه الّذي يجب عليه أن يخضع له ويشتغل بعبادته دون الله سبحانه ودون الأصنام، ولم يقل: وأنا اُحيي واُميت لأنّ لازم العطف أن يشارك الله في ربوبيّته ولم يكن مطلوبه ذلك بل كان مطلوبه التعيّن بالتفوّق كما عرفت، ولم يقل أيضاً: والآلهة تحيي وتميت.

ولم يعارض إبراهيمعليه‌السلام بالحقّ، بل بالتمويه والمغالطة وتلبيس الأمر على من حضر، فإنّ إبراهيمعليه‌السلام إنّما أراد بقوله: ربّي الّذي يحيي ويميت، الحياة والموت المشهودين في هذه الموجودات الحيّة الشاعرة المريدة فإنّ هذه الحياة المجهولة الكنه لا يستطيع أن يوجدها إلّا من هو واجد لها فلا يمكن أن يعلّل بالطبيعة الجامدة الفاقدة لها، ولا بشئ من هذه الموجودات الحيّة، فإنّ حياتها هي وجودها، وموتها عدمها، والشئ لا يقوى لا على إيجاد نفسه ولا على إعدام نفسه، ولو كان نمرود أخذ هذا الكلام بالمعنى الّذي له لم يمكنه معارضته بشئ لكنّه غالط فأخذ الحياة والموت بمعناهما المجازيّ أو الأعمّ من معناهما الحقيقيّ والمجازيّ فإنّ الإحياء كما يقال على جعل الحياة في شئ كالجنين إذا نفخت فيه الحياة كذلك يقال: على تلخيص إنسان من ورطة الهلاك، وكذا الإماتة تطلق على التوفّي وهو فعل الله وعلى مثل القتل بآلة قتّالة، وعند ذلك أمر بإحضار رجلين من السجن فأمر بقتل أحدهما وإطلاق الآخر فقتل هذا وأطلق ذاك فقال: أنا اُحيي واُميت، ولبّس الأمر على الحاضرين فصدّقوه فيه، ولم يستطع لذلك إبراهيمعليه‌السلام أن يبيّن له وجه المغالطة، وأنّه لم يرد بالإحياء والإماتة هذا المعنى المجازيّ، وأنّ الحجّة لا تعارض الحجّة، ولو كان في وسعهعليه‌السلام ذلك لبيّنه، ولم يكن ذلك إلّا لأنّه شاهد حال نمرود في تمويهه، وحال الحضّار في

٣٧٠

تصديقهم لقوله الباطل على العمياء، فوجد أنّه لو بيّن وجه المغالطة لم يصدّقه أحد، فعدل إلى حجّة اُخرى لا يدع المكابر أن يعارضه بشئ فقال إبراهيمعليه‌السلام : إنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، وذلك أنّ الشمس وإن كانت من جملة الآلهة عندهم أو عند بعضهم كما يظهر من ما يرجع إلى الكوكب والقمر من قصّتهعليه‌السلام لكنّها وما يلحق وجودها من الأفعال كالطلوع والغروب ممّا يستند بالأخرة إلى الله الّذي كانوا يرونه ربّ الأرباب، والفاعل الإراديّ إذا اختار فعلاً بالإرادة كان له أن يختار خلافه كما اختار نفسه فإنّ الأمر يدور مدار الإرادة، وبالجملة لمّا قال إبراهيم ذلك بهت نمرود، إذ ما كان يسعه أن يقول: إنّ هذا الأمر المستمرّ الجاري على وتيرة واحدة وهو طلوعها من المشرق دائماً امر اتّفاقيّ لا يحتاج إلى سبب، ولا كان يسعه أن يقول: إنّه فعل مستند إليها غير مستند إلى الله فقد كان يسلّم خلاف ذلك، ولا كان يسعه أن يقول: إنّي أنا الّذي آتيها من المشرق وإلّا طولب بإتيانها من المغرب، فألقمه الله حجراً وبهته، والله لا يهدي القوم الظالمين.

قوله تعالى: ( أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ) ، ظاهر السياق: أنّه من قبيل قول القائل: أساء إلىّ فلان لأنّي أحسنت إليه يريد: أنّ إحساني إليه كان يستدعي أن يحسن إلىّ لكنّه بدّل الإحسان من الاسائه فأساء إلى، وقولهم: واتّق شرّ من أحسنت إليه، قال الشاعر:

جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر

وحسن فعل كما يجزى سنمّار

فالجملة أعني قوله: أن آتاه الله الملك بتقدير لام التعليل وهي من قبيل وضع الشئ موضع ضدّه للشكوى والاستعداء ونحوه، فإنّ عدوان نمرود وطغيانه في هذه المحاجّة كان ينبغي أن يعلّل بضدّ إنعام الله عليه بالملك، لكن لمّا لم يتحقّق من الله في حقّه إلّا الإحسان إليه وايتاؤه الملك فوضع في موضع العلّة فدلّ على كفرانه لنعمة الله فهو بوجه كقوله تعالى:( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ) القصص - ٨، فهذه نكتة في ذكر إيتائه الملك.

وهناك نكته اُخرى وهي: الدلالة على ردائة دعواه من رأس، وذلك أنّه إنّما

٣٧١

كان يدّعي هذه الدعوى لملك آتاه الله تعالى من غير أن يملكه لنفسه، فهو إنّما كان نمرود الملك ذا السلطة والسطوة بنعمة من ربّه، وأمّا هو في نفسه فلم يكن إلّا واحداً من سواد الناس لا يعرف له وصف، ولا يشار إليه بنعت، ولهذا لم يذكر اسمه وعبّر عنه بقوله: الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه، دلالة على حقارة شخصه وخسّة أمره.

وأمّا نسبة ملكه إلى إيتاء الله تعالى فقد مرّ في المباحث السابقة: أنّه لا محذور فيه، فإنّ الملك وهو نوع سلطنة منبسطة على الاُمّة كسائر أنواع السلطنة والقدرة نعمة من الله وفضل يؤتيه من يشاء، وقد أودع في فطرة الإنسان معرفته، والرغبة فيه، فإن وضعه في موضعه كان نعمة وسعادة، قال تعالى:( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ) القصص - ٧٧، وإن عدا طوره وانحرف به عن الصراط كان في حقّه نقمة وبواراً، قال تعالى:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) إبراهيم - ٢٨، وقد مرّ بيان أنّ لكلّ شئ نسبة إليه تعالى على ما يليق بساحة قدسه تعالى وتقدّس من جهة الحسن الّذي فيه دون جهة القبح والمسائة.

ومن هنا يظهر سقوط ما ذكره بعض المفسّرين: أنّ الضمير في قوله أن آتيه الله الملك، يعود إلى إبراهيمعليه‌السلام ، والمراد بالملك ملك إبراهيم كما قال تعالى:( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ) النساء - ٥٤، لا ملك نمرود لكونه ملك جور ومعصية لا يجوز نسبته إلى الله سبحانه.

ففيهأوّلا: أنّ القرآن ينسب هذا الملك وما في معناه كثيراً إليه تعالى كقوله حكاية عن مؤمن آل فرعون:( يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ ) المؤمن - ٢٩، وقوله تعالى حكاية عن فرعون - وقد أمضاه بالحكاية -:( يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ) الزخرف - ٥١، وقد قال تعالى:( لَهُ الْمُلْكُ ) التغابن - ١، فقصر كلّ الملك لنفسه فما من ملك إلّا وهو منه تعالى، وقال تعالى حكايه عن موسىعليه‌السلام :( رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً ) يونس - ٨٨، وقال تعالى في قارون:( وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ) القصص - ٧٦، وقال تعالى خطاباً لنبيّه:

٣٧٢

( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا - إلى أن قال -وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ) المدّثّر - ١٥، إلى غير ذلك.

وثانياً: أنّ ذلك لا يلائم ظاهر الآية فإنّ ظاهرها أنّ نمرود كان ينازع إبراهيم في توحيده وإيمانه لا أنّه كان ينازعه ويحاجّه في ملكه، فإنّ ملك الظاهر كان لنمرود، وما كان يرى لإبراهيم ملكاً حتّى يشاجره فيه.

وثالثاً: أنّ لكلّ شئ نسبة إلى الله سبحانه والملك من جملة الأشياء ولا محذور في نسبته إليه تعالى وقد مرّ تفصيل بيانه.

قوله تعالى: ( قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ) ، الحياة والموت وإن كانا يوجدان في غير جنس الحيوان أيضاً كالنبات، وقد صدّقه القرآن كما مرّ بيانه في تفسير آية الكرسيّ، لكن مرادهعليه‌السلام منهما إمّا خصوص الحياة والممّات الحيوانيّين أو الأعمّ الشامل له لإطلاق اللفظ، والدليل على ذلك قول نمرود: أنا اُحيي واُميت، فإنّ هذا الّذي ادّعاه لنفسه لم يكن من قبيل إحياء النبات بالحرث والغرس مثلاً، ولا إحياء الحيوان بالسفاد والتوليد مثلاً، فإنّ ذلك وأشباهه كان لا يختصّ به بل يوجد في غيره من أفراد الإنسان، وهذا يؤيّد ما وردت به الروايات: أنّه أمر بإحضار رجلين ممّن كان في سجنه فأطلق أحدهما وقتل الآخر، وقال عند ذلك: أنا اُحيي واُميت.

وإنّما أخذعليه‌السلام في حجّته الإحياء والإماتة لأنّهما أمران ليس للطبيعة الفاقدة للحياة فيهما صنع، وخاصّة الّتي في الحيوان حيث تستتبع الشعور والإرادة وهما أمران غير مادّيّين قطعاً، وكذا الموت المقابل لها، والحجّة على ما فيها من السطوع والوضوح لم تنجح في حقّهم، لأنّ انحطاطهم في الفكر وخبطهم في التعقّل كان فوق ما كان يظنّهعليه‌السلام في حقّهم، فلم يفهموا من الإحياء والإماتة إلّا المعنى المجازيّ الشامل لمثل الإطلاق والقتل، فقال نمرود: أنا اُحيي واُميت وصدّقه من حضره، ومن سياق هذه المحاجّة يمكن أن يحدس المتأمّل ما بلغ إليه الانحطاط الفكريّ يؤمئذ في المعارف والمعنويّات، ولا ينافي ذلك الارتقاء الحضاريّ والتقدّم

٣٧٣

المدنيّ الّذي يدلّ عليه الآثار والرسوم الباقية من بابل كلدة ومصر الفراعنة وغيرهما، فإنّ المدنيّة المادّيّة أمر والتقدّم في معنويّات المعارف أمر آخر، وفي ارتقاء الدنيا الحاضرة في مدنيّتها وانحطاطها في الأخلاق والمعارف المعنويّة ما تسقط به هذه الشبهة.

ومن هنا يظهر: وجه عدم أخذهعليه‌السلام في حجّته مسألة احتياج العالم بأسره إلى الصانع الفاطر للسماوات والأرض كما أخذ به في استبصار نفسه في بادي أمره على ما يحكيه الله عنه بقوله:( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) الأنعام - ٧٩، فإنّ القوم على اعترافهم بذلك بفطرتهم إجمالاً كانوا أنزل سطحاً من أن يعقلوه على ما ينبغي أن يعقل عليه بحيث ينجح احتجاجه ويتّضح مرادهعليه‌السلام ، وناهيك في ذلك ما فهموه من قوله: ربّي الّذي يحيي ويميت.

قوله تعالى: ( قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ) ، أي فأنا ربّك الّذي وصفته بأنّه يحيي ويميت.

قوله تعالى: ( قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ) ، لمّا أيسعليه‌السلام من مضيّ احتجاجه بأنّ ربّه الّذي يحيي ويميت، لسوء فهم الخصم وتمويهه وتلبيسه الأمر على من حضر عندهما عدل عن بيان ما هو مراده من الإحياء والإماتة إلى حجّة اُخرى، إلّا أنّه بنى هذه الحجّة الثانية على دعوى الخصم في الحجّة الاُولى كما يدلّ عليه التفريع بالفاء في قوله: فإنّ الله الخ، والمعنى: إن كان الأمر كما تقول: إنّك ربّي ومن شأن الربّ أن يتصرّف في تدبير أمر هذا النظام الكونيّ فالله سبحانه يتصرّف في الشمس بإتيانها من المشرق فتصرّف أنت بإتيانها من المغرب حتّى يتّضح إنّك ربّ كما أنّ الله ربّ كلّ شئ أو أنّك الربّ فوق الأرباب فبهت الّذي كفر، وإنّما فرّع الحجّة على ما تقدّمها لئلّا يظنّ أنّ الحجّة الأولى تمّت لنمرود وأنتجت ما ادّعاه، ولذلك أيضاً قال، فإنّ الله ولم

٣٧٤

يقل: فإنّ ربّي لأنّ الخصم استفاد من قوله: ربّي سوءاً وطبّقه على نفسه بالمغالطة فأتىعليه‌السلام ثانياً بلفظة الجلالة ليكون مصوناً عن مثل التطبيق السابق! قد مرّ بيان أنّ نمرود ما كان يسعه أن يتفوّه في مقابل هذه الحجّة بشئ دون أن يبهت فيسكت.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) ، ظاهر السياق أنّه تعليل لقوله فبهت الّذي كفر فبهته هو عدم هداية الله سبحانه إيّاه لا كفره، وبعبارة اُخرى معناه أنّ الله لم يهده فبهت لذلك ولو هداه لغلب على إبراهيم في الحجّة لا أنّه لم يهده فكفر لذلك وذلك لأنّ العناية في المقام متوجّهة إلى محاجّته إبراهيمعليه‌السلام لا إلى كفره وهو ظاهر.

ومن هنا يظهر: أنّ في الوصف إشعاراً بالعلّيّة أعني: أنّ السبب لعدم هداية الله الظالمين هو ظلمهم كما هو كذلك في سائر موارد هذه الجملة من كلامه تعالى كقوله:( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَىٰ إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) الصفّ - ٧، وقوله:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) الجمعة - ٥، ونظير الظلم الفسق في قوله تعالى:( فلمّا زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين ) الصفّ - ٥.

وبالجملة الظلم وهو الانحراف عن صراط العدل والعدول عمّا ينبغي من العمل إلى غير ما ينبغى موجب لعدم الاهتداء إلى الغاية المقصودة، ومؤدّ إلى الخيبة والخسران بالأخرة، وهذه من الحقائق الناصعة الّتي ذكرها القرآن الشريف وأكّد القول فيها في آيات كثيرة.

٣٧٥

( كلام في الاحسان وهدايته والظلم واضلاله)

هذه حقيقة ثابتة بيّنها القرآن الكريم كما ذكرناه آنفاً، وهي كلّيّة لاتقبل الاستثناء وقد ذكرها بألسنة مختلفة وبنى عليها حقائق كثيرة من معارفه، قال تعالى:( الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) طه - ٥٠، دلّ على أنّ كلّ شئ بعد تمام خلقه يهتدي بهداية من الله سبحانه إلى مقاصد وجوده وكمالات ذاته، وليس ذلك إلّا بارتباطه مع غيره من الأشياء واستفادته منها بالفعل والانفعال بالاجتماع والافتراق والاتّصال والانفصال والقرب والبعد والأخذ والترك ونحو ذلك، ومن المعلوم أنّ الاُمور التكوينيّة لا تغلط في آثارها، والقصود الواقعيّة لاتخطي ولا تخبط في تشخيص غاياتها ومقاصدها، فالنار في مسّها الحطب مثلاً وهي حارّة لا تريد تبريده، والنامي كالنبات مثلاً وهو نام لا يقصد إلّا عظم الحجم دون صغره وهكذا، وقد قال تعالى:( إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) هود - ٥٦، فلا تخلّف ولا اختلاف في الوجود.

ولازم هاتين المقدّمتين أعني عموم الهداية وانتفاء الخطّأ في التكوين أن يكون لكلّ شئ روابط حقيقيّة مع غيره، وأن يكون بين كلّ شئ وبين الآثار والغايات الّتي يقصد لها طريق أو طرق مخصوصة هي المسلوكة للبلوغ إلى غايته والأثر المخصوص المقصود منه، وكذلك الغايات والمقاصد الوجوديّة إنّما تنال إذا سلك إليها من الطرق الخاصّة بها والسبل الموصلة إليها، فالبذرة إنّما تنبت الشجرة الّتي في قوّتها إنباتها مع سلوك الطريق المؤدّي إليها بأسبابها وشرائطها الخاصّة، وكذلك الشجرة إنّما تثمر الثمرة الّتي من شأنها إثمارها، فما كلّ سبب يؤدّي إلى كلّ مسبّب، قال تعالى:( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ) الأعراف - ٥٨، والعقل والحسّ يشهدان بذلك وإلّا اختلّ قانون العلّيّة العامّ.

وإذا كان كذلك فالصنع والإيجاد يهدي كلّ شئ إلى غاية خاصّة، ولايهديه إلى غيرها، ويهدي إلى كلّ غاية من طريق خاصّ لا يهدي إليها من غيره، صنع الله الّتي

٣٧٦

أتقن كلّ شئ، فكلّ سلسلة من هذه السلاسل الوجوديّة الموصلة إلى غاية وأثر إذا فرضنا تبدّل حلقة من حلقاتها أوجب ذلك تبدّل أثرها لا محالة، هذا في الاُمور التكوينيّة.

والاُمور غير التكوينيّة من الاعتبارات الإجتماعيّة وغيرها على هذا الوصف أيضاً من حيث إنّها نتائج الفطرة المتّكئة على التكوين، فالشؤن الإجتماعيّة والمقامات الّتي فيه والأفعال الّتي تصدر عنها كلّ منها مرتبط بآثار وغايات لا تتولّد منه إلّا تلك الآثار والغايات ولاتتولّد هي إلّا منه فالتربية الصالحة لاتتحقّق إلّا من مربّ صالح والمربّي الفاسد لا يترتّب على تربيته، إلّا الأثر الفاسد (ذاك الفساد المكمون في نفسه) وإن تظاهر بالصلاح ولازم الطريق المستقيم في تربيته، وضرب على الفساد المطويّ في نفسه بمأة ستر واحتجب دونه بألف حجاب، وكذلك الحاكم المتغلّب في حكومته، والقاضي الواثب على مسند القضاء بغير لياقة في قضائه، وكلّ من تقلّد منصباً اجتماعيّاً من غير طريقه المشروع، وكذلك كلّ فعل باطل بوجه من وجوه البطلان إذا تشبّه بالحقّ وحلّ بذلك محلّ الفعل الحقّ، والقول الباطل إذا وضع موضع القول الحقّ كالخيانة موضع الأمانة والإسائة موضع الإحسان والمكر موضع النصح والكذب موضع الصدق فكلّ ذلك سيظهر أثرها ويقطع دابرها وإن اشتبه أمرها أيّاماً، وتلبّس بلباس الصدق والحقّ أحياناً، سنّة الله الّتي جرت في خلقه ولن تجد لسنّة الله تحويلاً ولن تجد لسنّة الله تبديلاً.

فالحقّ لا يموت ولا يتزلزل أثره، وإن خفي على إدراك المدركين اُويقات، والباطل لا يثبت ولا يبقى أثره، وإن كان ربّما اشتبه أمره ووباله، قال تعالى:( لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ ) الأنفال - ٨، من تحقيق الحقّ تثبيت أثره، ومن إبطال الباطل ظهور فساده وانتزاع ما تلبّس به من لباس الحقّ بالتشبّه والتمويه، وقال تعالى:( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ

٣٧٧

الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) إبراهيم - ٢٧، وقد أطلق الظالمين فالله يضلّهم في شأنهم، ولا شأن لهم إلّا أنّهم يريدون آثار الحقّ من غير طريقها أعني: من طريق الباطل كما قال تعالى - حكاية عن يوسف - الصدّيق:( قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) يوسف - ٢٣، فالظالم لا يفلح في ظلمه، ولا أنّ ظلمه يهديه إلى ما يهتدي إليه المحسن بإحسانه والمتّقي بتقواه، قال تعالى:( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) العنكبوت - ٦٩، وقال تعالى:( وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ ) طه - ١٣٢.

والآيات القرآنيّة في هذه المعاني كثيرة على اختلافها في مضامينها المتفرّقة، ومن أجمعها وأتمها بياناً فيه قوله تعالى:( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْض كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ) الرعد - ١٧.

وقد مرّت الإشارة إلى أنّ العقل يؤيّده، فإنّ ذلك لازم كلّيّة قانون العلّيّة والمعلوليّة الجارية بين أجزاء العالم، وأنّ التجربة القطعيّة الحاصلة من تكرّر الحسّ تشهد به، فما منّا من أحد إلّا وفي ذكره أخبار محفوظة من عاقبة أمر الظالمين وانقطاع دابرهم.

قوله تعالى: ( وْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا ) ، الخاوية هي الخالية يقال: خوت الدار تخوي خوائاً إذا خلت، والعروش جمع العرش وهو ما يعمل مثل السقف للكرم قائماً على أعمدة، قال تعالى:( جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ) الأنعام - ١٤٢، ومن هنا أطلق على سقف البيت العرش، لكنّ بينهما فرقاً، فإنّ السقف هو ما يقوم من السطح على الجدران والعرش وهو السقف مع الأركان الّتي يعتمد عليها كهيئة عرش الكرم، ولذا صحّ أن يقال في الديار أنّها خالية على عروشها ولا يصحّ أن يقال: خالية على سقفها.

وقد ذكر المفسّرون وجوها في توجيه العطف في قوله تعالى: أو كالّذي، فقيل:

٣٧٨

إنّه عطف على قوله في الآية السابقة: الّذي حاجّ إبراهيم، والكاف اسميّة، والمعنى أو هل رأيت مثل الّذي مرّ على قرية الخ، وقد جيئ بهذا الكاف للتنبيه على تعدّد الشواهد، وقيل: بل الكاف زائدة، والمعنى: ألم تر إلى الّذي حاجّ إبراهيم أو الّذي مرّ على قرية الخ، وقيل: إنّه عطف محمول على المعنى، والمعنى: ألم تر كالّذي حاجّ إبراهيم أو كالّذي مرّ على قرية، وقيل: إنّه من كلام إبراهيم جواباً عن دعوى الخصم أنّه يحيي ويميت، والتقدير: وإن كنت تحيى فأحيى كإحياء الّذي مرّ على قرية الخ فهذه وجوه ذكروه في الآية لتوجيه العطف لكنّ الجميع كما ترى.

وأظنّ - والله أعلم - أنّ العطف على المعنى كما مرّ في الوجه الثالث إلّا أنّ التقدير غير التقدير، توضيحه: أنّ الله سبحانه لمّا ذكر قوله: الله وليّ الّذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والّذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات، تحصّل من ذلك: أنّه يهدي المؤمنين إلى الحقّ ولا يهدي الكافر في كفره بل يضلّه أولياؤه الّذين اتّخذهم من دون الله أولياء، ثمّ ذكر لذلك شواهد ثلاث يبيّن بها أقسام هدايته تعالى، وهي مراتب ثلاث مترتّبة:

أوليها: الهداية إلى الحقّ بالبرهان والاستدلال كما في قصّة الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه، حيث هدى إبراهيم إلى حقّ القول، ولم يهد الّذي حاجّه بل أبهته وأضلّه كفره، وإنّما لم يصرّح بهداية إبراهيم بل وضع عمدة الكلام في أمر خصمه ليدلّ على فائدة جديدة يدلّ عليها قوله: والله لا يهدي القوم الظالمين.

والثانية: الهداية إلى الحقّ بالإرائة والإشهاد كما في قصّة الّذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها فإنّه بيّن له ما أشكل عليه من أمر الإحياء بإماتته وإحيائه وسائر ما ذكره في الآية، كلّ ذلك بالإرائة والإشهاد.

الثالثة: الهداية إلى الحقّ وبيان الواقعة بإشهاد الحقيقة والعلّة الّتي تترشّح منه الحادثة، وبعبارة اُخرى بإرائة السبب والمسبّب معاً، وهذا أقوى مراتب الهداية والبيان وأعلاها وأسناها كما أنّ من كان لم ير الجبن مثلاً وارتاب في أمره تزاح شبهته تارةً بالاستشهاد بمن شاهده وأكل منه وذاق طعمه، وتارةً بإرائته قطعة من الجبن

٣٧٩

وإذاقته طعمه وتارة بإحضار الحليب وعصارة الإنفحه وخلط مقدار منها به حتّى يجمد ثمّ إذاقته شيئاً منه وهي أنفى المراتب للشبهة.

إذا عرفت ما ذكرناه علمت أنّ المقام في الآيات الثلاث - وهو مقام الاستشهاد - يصحّ فيه جميع السياقات الثلاث في إلقاء المراد إلى المخاطب بأن يقال: إنّ الله يهدي المؤمنين إلى الحقّ: ألم تر إلى قصّة إبراهيم ونمرود، أو لم تر إلى قصّة الّذي مرّ على قرية، أو لم تر إلى قصّة إبراهيم والطير، أو يقال: إنّ الله يهدي المؤمنين إلى الحقّ: إمّا كما هدى إبراهيم في قصّة المحاجّة وهي نوع من الهداية، أو كالّذي مرّ على قرية وهي نوع آخر، أو كما في قصّة إبراهيم والطير وهي نوع آخر، أو يقال: إنّ الله يهدي المؤمنين إلى الحقّ واُذكّرك ما يشهد بذلك فاذكر قصّة المحاجّة، واذكر الّذي مرّ على قرية، واذكر إذ قال إبراهيم ربّ أرني.

فهذا ما يقبله الآيات الثلاث من السياق بحسب المقام، غير أنّ الله سبحانه أخذ بالتفنّن في البيان وخصّ كلّ واحدة من الآيات الثلاث بواحد من السياقات الثلث تنشيطاً لذهن المخاطب واستيفائاً لجميع الفوائد السياقيّة الممكنة الاستيفاء.

ومن هنا يظهر: أنّ قوله تعالى: أو كالّذي، معطوف على مقدّر يدلّ عليه الآية السابقة، والتقدير: إمّا كالّذي حاجّ إبراهيم أو كالّذي مرّ على قرية، ويظهر أيضاً أنّ قوله في الآية التالية: واذ قال إبراهيم، معطوف على مقدّر مدلول عليه بالآية السابقة والتقدير: اذكر قصّة المحاجّة وقصّة الّذي مرّ على قرية، واذكر إذ قال إبراهيم ربّ أرني الخ.

وقد أبهم الله سبحانه اسم هذا الّذي مرّ على قرية واسم القرية والقوم الّذين كانوا يسكنونها، والقوم الّذين بعث هذا المارّ آية لهم كما يدلّ عليه قوله ولنجعلك آية للناس، مع أنّ الأنسب في مقام الاستشهاد الإشارة إلى أسمائهم ليكون أنفى للشبهة.

لكنّ الآية وهي الإحياء بعد الموت وكذا أمر الهداية بهذا النحو من الصنع لمّا

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

الأعلى من وجودهم، وإذا نظرنا إلى هذا التطبيق في دائرته الصغيرة التي لا تستغرق كل العالم، فهو مقترن دائماً، بحسب المصلحة التي سار عليها النبي (ص) وغيره من القادة الأوائل، مع المـُلاينة والتألُّف... وأمَّا إذا نظرناه بشكله الواسع، الذي يستغرق العالم كله، فقد عرفنا أنَّه يتوقَّف على اجتثاث كل عنصر للفساد وسوء النيِّة والانحراف، ويكون من مصلحة البشر والرحمة بهم قتل هؤلاء، وتنزيه المجتمع البشري عن مفاسدهم، وإن لم يلتفت البشر أنفسهم إلى ذلك لأول وهْلَة.

إذن؛ فالقتل الذي يُمارسه المهدي (ع) هو الرحمة الكاملة واللطف الحقيقي؛ لأنَّه مُقدِّمة لتطبيق العدل، ونشر السعادة، والمنطق العقلي والقانوني دائماً يجزم بتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.

القسم الثاني: من العواطف السلبية التي يواجهها الإمام المهدي (ع ).

دلَّت الروايات على ذلك كما يلي:

أخرج النعماني(١) ، بسنده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع) - في حديث ذكر فيه راية القائم (ع) - وقال: ( فإذا هو قام نشرها، فلم يبقَ في المشرق والمغرب أحد إلاَّ لعنها ).

وأخرج أيضاً(٢) ، بسنده عن أبان بن تغلب، قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: ( إذا ظهرت راية الحق لعنها أهل الشرق وأهل الغرب ( المشرق والمغرب) ).

قلت له: لِمَ ذلك؟

قال: ( ممَّا يلقون من بني هاشم ).

____________________

(١) الغيبة ص١٦٥.

(٢) المصدر ص١٥٩.

(٣) المصدر ص١٦٠.

٤٢١

إلى بعض الأخبار الأُخرى.

والمقصود من ( راية الحق ): دعوة المهدي (ع) العامة، المـُتمثِّلة بالأُطروحة العادلة الكاملة. ونشرها أو رفعها: إعلانها في العالم.

كما أنَّ المقصود من لعنها: الغضب عليها والاشمئزاز منها من قِبل أهل الشرق والغرب، وهم أكثر سكَّان العالم، ومن المؤكَّد أن يكون المقصود من بني هاشم و( أهل بيته ) شيئاً واحداً، سواء ذلك على المستوى الصريح أم الرمزي، على ما سنعرف.

ويمكن تبرير هذا الانطباع السيِّئ بعدَّة مُبرِّرات:

وتنقسم هذه المبرِّرات إلى قسمين، ينطلق القسم الأول منها، من الفَهْم الصريح لبني هاشم، وينطلق القسم الثاني منها من الفَهْم الرمزي له.

القسم الأول: أن نفهم من بني هاشم وأهل بيت المهدي (ع)، عشيرته الخاصة المـُعيَّنة المعروفة في التاريخ، فيكون المعنى الذي تُعرب عنه الروايات: أنَّ الناس سوف يُسيئون الظنَّ بالمهدي (ع) ودعوته، بصفته فرداً من هذه العشيرة، وذلك للتجارب الفاشلة التي مرَّت بها هذه العشيرة خلال العصر السابق على الظهور، وذلك: تحت أحد المـُبرِّرات التالية:

المـُبرِّر الأول: إنَّ الناس يُلاقون من حُكم بني هاشم في زمن الغيبة ظلماً وتعسُّفاً، فيتخيَّلون أنَّ المهدي (ع) بصفته فرداً منهم، سوف يسير على هذا النهج.

وقد مارس بنو هاشم الحكم خلال التاريخ في فترات مختلفة... كالعباسيين، والفاطميين، والزيديين، والسنوسيين وغيرهم، وقد مارس الأعمُّ الأغلب منهم الحُكم الظالم المـُتعسِّف المـُنحرف عن الدين الحق.

الوجه الثاني: إنَّ الناس يُلاقون من بني هاشم - بصفتهم أفراداً في المجتمع المسلم - انحرافات شخصية حادَّة، إلى حدٍّ تكون مُضرَّة بالناس من مختلف المجتمعات، فيتألَّمون منها ويضجُّون من سوئها.

وحيث إنَّ المهدي (ع) من بني هاشم، فربَّما خُيِّلَ للناس - وخاصة هو يُمارس كثرة القتل - أنَّه عازم على السير على تلك السيرة... ريثما ينكشف عالمياً الفرق الكبير بين الأُسلوبين والإيديولوجيتين.

الوجه الثالث: إنَّ الناس يُلاقون من بني هاشم - خلال العصر السابق على الظهور - إعراضاً وإهمالاً مُتزايدين،

٤٢٢

فإنَّ الناس يمرُّون خلال عصر الغيبة، بمختلف أشكال المظالم والمشاكل، فقد يخطر في أذهان عدد منهم أن يرجعوا إلى بني هاشم في حلِّ هذه المشاكل، بصفتهم ممَّن يتوسَّم فيهم الصلاح والإصلاح... فلا يجدون منهم إلاَّ إعراضاً وإهمالاً وتهاوناً؛ نتيجة لتسامح بني هاشم وتقوقعهم، وخوفهم من الظروف القاسية، والتدخُّل في الأمور العامة.

فينطبع ذلك في أذهان الناس انطباعاً سيِّئاً، ويُخلِّف هذا الموقف ظنَّهم بالهاشميين... مع أنَّهم قد يكونوا مضطرِّين إلى ترك العمل اضطراراً.

ومن الصحيح أنَّ المهدي (ع) من بني هاشم، غير أنَّ شيئاً من هذه الوجوه الثلاثة لا ينطبق عليه... بعد أن جاء ليُغيِّر الحُكم الظالم إلى الحُكم العادل، والسلوك المـُنحرف إلى السلوك الصالح، ولا معنى للخوف والاضطرار إلى ترك المصلحة العامة في دولته.

غير أنَّ هذه المواقف سوف تُتَّخذ في أول ظهور ( راية الحق )، وستتبدَّد الأوهام تدريجياً بمقدار اتِّضاح واتِّساع الإيديولوجية المهدوية عالمياً.

القسم الثاني: من المـُبرِّرات، وهو المنطلق من الفَهم الرمزي لبني هاشم وآل البيت المهدي (ع)... حيث يكون تعبيراً عن جانب الدين والمـُتديِّنين في العصر السابق على الظهور.

وانطلاقاً من ذلك، تكون المـُبرِّرات إلى ( لعن ) راية الحق من قِبَل المنحرفين... عديدة.

المـُبرِّر الأول: الاتجاه المادِّي العام، الذي يشجب الحلَّ الديني للمشاكل البشرية، ومن الواضح أنَّ الأطروحة المهدوية ( راية الحق )، مهما اختلفت عن الاتجاهات الدينية السابقة عليها، فإنَّها ذات منطلق ديني بطبيعة الحال، من حيث إنَّها تعترف بوجود الخالق، وتلتزم بشريعته، ومعها ستكون مشمولة للشجب المادِّي.

وسترتفع مُبرِّرات هذا المـُبرِّر المادِّي، بالمفاهيم والدلائل التي يُقيمها الإمام المهدي (ع) نفسه، مضافاً إلى التطبيق المهدوي للأُطروحة العادلة الكاملة، التي تُمثِّل أعلى شريعة إلهية وجِدت بين البشر... فيتَّضح ما تضمَّنه للبشر من سعادة ورفاه، والفروق الأساسية الشاسعة بين الاتجاه الديني المهدوي، والاتجاهات السابقة عليه.

المـُبرِّر الثاني: سوء الظنِّ بالمـُتديِّنين عموماً، بغضِّ النظر عن الوجود النظري للدين،

٤٢٣

فإنَّ هناك اتجاهاً عاماً في العالم اليوم، موجوداً في مختلف الأديان والمذاهب يتضمَّن إساءة الظنِّ بالأساليب والاتجاهات العامة التي يتَّخذها المـُتديِّنون، وذلك باعتبار التجارب الكثيرة والمريرة، التي عاناها الناس ممَّن ينتمون إلى الدين، من حيث إنَّ أكثرهم يستغلُّ موقفه الديني في سبيل الربح الشخصي، بل حتى لو لزم من ذلك الإضرار بالآخرين؛ لأنَّ أمثال هؤلاء ينتمون إلى الدين اسمياً، ولم يتشرَّبوا بتعاليمه واقعياً، فهُم من المـُنحرفين الفاشلين في التمحيص، الذين يُمثِّلون جانب الظلم والجور في الأرض، مهما استطاعوا أن يُغطُّوا قضيَّتهم بمختلف الأقنعة.

وقد عانى المسيحيون من الوجود الكنسي المـُمثِّل لهذا الاتجاه المـُنحرف، كما عانى المسلمون بمختلف مذاهبهم من نماذج أخرى سائرة على هذا الطريق، ولا يخلو هذا الطريق من السائرين في مختلف الأديان.

ومن هنا؛ نشأت الفكرة عن كل ما يتبنَّى الاتجاه الديني، وحيث يكون المهدي ذا اتجاه ديني، فهو مُندرج في الشك العام... غير أنَّ هذا الشكَّ سوف يتبخَّر بالتدرُّج، بمقدار ما يفهمه العالم بالحسِّ والوجدان من نفع النظام المهدوي للعالم، وما يكفله له من السعادة والرفاه، وما يبذله المهدي (ع) في سبيل الصالح العام من تضحيات ونكران ذات، وما تؤكِّده الوقائع من الفوارق الشاسعة بين هذا الاتجاه الديني، والاتجاهات السابقة عليه.

المـُبرِّر الثالث: تشويه الفكرة المهدوية في العصر السابق على الظهور، فإنَّها شوِّهت في الأفكار المـُنحرفة عدَّة تشويهات حادَّة، قد يؤدِّي بعضها إلى الحقد على المهدي (ع) حتى بعد ظهوره، والاتجاهات العامة لهذه التشويهات مُتعدِّدة، مادِّية وغير مادِّية، ولعلَّ في الرجوع إلى هذه الموسوعة ما يُساعد على رفع هذه التشويهات، ولسنا الآن بصدد استعراضها جميعاً، كل ما في الأمر، أنَّ ما يمكن أن يكون سبباً للحقد على المهدي حتى بعد ظهوره، من هذه التشويهات، هو ما يلي:

التشويه الأول: إنَّ السيف المهدوي شديد الفعالية قوي النشاط... يقتل الناس بلا حساب.

التشويه الثاني: إنَّ الحُكم المهدوي - بصفته عادلاً - سوف يكون حدِّياً وجِدِّياً في تطبيق القانون وكبت الحرِّية الفردية، إلى أكبر الحدود.

٤٢٤

التشويه الثالث: إنَّ النظام المهدوي بصفته ذات أيديولوجية مُعيَّنة، سوف يمنع عن حرِّية الاعتقاد والتعبير عن الرأي، لغير الملتزمين بالأيديولوجية المهدوية الرسمية.

التشويه الرابع: إنَّ الفكرة المهدوية بصفتها ذات اتجاه ديني، فهي تمنع عن الاستفادة من التطوُّر المدني والتكتيكي الحديث؛ لأنَّ الاتجاه الديني عموماً يمنع من ذلك.

ونحو ذلك من التشويهات...

والتشويه الأخير كاذب تماماً؛ لأنَّ الاتجاه الديني عموماً يُحبِّذ استعمال نتائج التطوُّر المدني، لا أنَّه يمنع عنه، وقد كان ولا زال المـُتديِّنون عموماً يستعملون هذه النتائج، بدون أن يروا أيَّ تنافٍ بين اتجاههم الديني، وهذا الاستعمال، أو أن يعتقدوا أيَّ تحريم ديني لذلك.

وسنسمع في فصل آتٍ، المـُثبتات التاريخية الكافية لاستعمال المهدي (ع) نفسه لنتائج التطوُّر المدني على أوسع نطاق في دولته، ممَّا يدلُّ على مباركته لها وعدم ميله إلى المنع عنها.

وأمَّا التشويهات الثلاثة الأُولى، فلها أصولها الصحيحة، وإنَّما التشويه كامن في المـُبالغة منها وإساءة الظن بنتائجها.

ويكفينا الالتفات إلى أمرين أساسين لدفع جانب التشويه في هذه الأمور الثلاثة:

الأمر الأول: أنَّه بعد البرهنة على أنَّ النظام المهدوي نظام عادل كامل، وأنَّه يُمثِّل الغرض الأساسي لخلق البشرية عموماً في الحكمة الإلهية، كما سبق أن برهنَّا، وسيأتي في الكتاب الآتي من هذه الموسوعة مزيد من البرهان، والإيضاح لهذه الفكرة، وأنَّه لا يمكن أن يتضمَّن هذا النظام أيَّ ظلم أو حيف فردي أو اجتماعي من أيِّ جهة من الجهات.

إذن؛ فكل ما يتضمَّنه هذا النظام من فقرات، من مفاهيم وقوانين ونُظُم هي - لا محالة - مُطابقة للعدل الكامل، الذي لا محيص للبشرية عنه، وبالتالي لا يمكن للبشرية أن تعيش السعادة والرفاه والكمال تحت أيِّ نظام أخر غيره، فالمبالغة في تلك الأفكار أو إساءة الظن بنتائجها، ممَّا لا معنى له، بعد أن كانت مطابقة للعدل، وإذا كان في التطرُّف بتطبيقها شيء من السوء أو الظلم، فإنَّه سيقتصر منها في مجال التطبيق، على ما هو أوفق بالعدل، وأقرب إلى المصلحة لا محالة.

٤٢٥

الأمر الثاني: أنَّه بينما تسنح الفرصة للمـُرجفين والمـُشوِّهين، للنشاط في الأيَّام الأُولى من الظهور، فإنَّ هذه الفرصة لن تسنح لهم مرَّة أُخرى، بل سيقوم السيف باستئصالهم تماماً، وسوف لن يبقى في العالم إلاَّ المؤمنين بصدق المهدي (ع) وعدالة دعوته.

ولا ينبغي أن يتوجَّه العتب إلى السيف المهدوي بكثرة القتل، من حيث كونه مسؤولاً عن تطبيق العدل الذي يتوقَّف على هذه الكثرة كما عرفنا، بل ينبغي أن يتوجَّه العتب إلى الأفراد المـُنحرفين أنفسهم، في أنَّهم أصبحوا بسوء تصرُّفهم ومُمارستهم أشكالاً من الظلم، بشكل يتنافى وجودهم بكل أقوالهم وأفعالهم مع المجتمع الفاضل والنظام العادل، فاستحقُّوا القتل بالسيف المهدوي الصارم.

هذا، ولا ينبغي أن ندخل في البراهين التفصيلية على الأصول الصحيحة لتلك (التشويهات) الثلاثة الأُولى، بعد كل الذي عرفناه فيما سبق من مثبتاتها التاريخية، وما سوف يأتي في خضمِّ البحث من مزيد القرائن عليها واحدة واحدة.

القسم الثالث: من العواطف والمواقف السلبية التي توجد ضدَّ المهدي (ع)، ما يقوم به بعض الجماعات من مواجهته بالسلاح.

أخرج النعماني في الغيبة(١) ، عن يعقوب السرَّاج، قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: ( ثلاث عشر مدينة وطائفة يُحارب القائم أهلَها ويُحاربونه: أهل مكَّة، وأهل المدينة، وأهل الشام، وبنو أُميَّة، وأهل البصرة، وأهل دميان (دشت ميشان)، والأكراد، والأعراب، وضبَّة، وغنى، وباهلة، وأزد البصرة، وأهل الريِّ ).

وفي رواية مُطوَّلة أخرجها المجلسي في البحار(٢) ، عن عبد الأعلى الحلبي، عن أبي جعفر (ع)، يقول فيها: ( فيخرج إليه مَن كان بالكوفة من مُرجِّئها وغيرهم من جيش السفياني، فيقول لأصحابه: استطردوا لهم. ثمَّ يقول: كُرُّوا عليهم ). قال أبو جعفر:

____________________

(١) ص١٦٠.

(٢) ج١٣ ص١٧٩-١٨٠.

٤٢٦

( لا يجوز - والله - الخندق منهم مُخبِر... ) الحديث.

ومنها ما سبق أن رويناه، ممَّا أخرجه المفيد في الإرشاد(١) ، عن أبي جعفر - في حديث طويل - أنَّه قال: ( إذا قام القائم (ع) سار إلى الكوفة، فيخرج منها بضعة عشر ألف نفس يُدعون البتريَّة، عليهم السلاح. فيقولون له: ارجع من حيث جئت، فلا حاجة لنا في بني فاطمة. فيضع فيهم السيف، حتى يأتي على آخرهم

ثمَّ يدخل الكوفة، فيقتل بها كل منافق مُرتاب، ويهدم قصورها، ويقتل مقاتليها، حتى يرضى الله عزَّ وعلا ).

وأخرجه الطبرسي في إعلام الورى(٢) .

وأخرج النعماني(٣) ، بإسناده عن أبي حمزة الثمالي، قال: سمعت أبا جعفر (ع) يقول: ( إنَّ صاحب هذا الأمر لو قد ظهر، لقي من الناس ما لقي رسول الله (ص)، وأكثر ).

ومن ذلك الروايات الواردة في قتال السفياني، بعد ارتداده وفسخه مُبايعة المهدي (ع)... وقد سمعناها فلا نُعيد.

وأقصى ما تُعطينا هذه الروايات من المضمون العام، هو أنَّ المهدي (ع) سوف يواجه في العراق - وغيره من المناطق الإسلامية - حروباً مُسلَّحة ومُناوشات وقلاقل، وهذا أمر راجح، حتى لو لم نسمع شيئاً من هذه الروايات، بعد أن نلتفت إلى أنَّ أكثرية الأُمَّة أصبحت فاشلة في التمحيص، وعلى مستوى عصيان الأحكام الواضحة في الإسلام والمفاهيم القطعية فيه، كل مَن يواجهه بالحرب، يكون غافلاً بطبيعة الحال عن ضمانات انتصاره التي ذكرناها، إلى حدٍّ يظنُّ بإمكان سيطرته على المهدي (ع) وجيشه، أو على الأقل دفعه عن السيطرة على بلاده.

____________________

(١) ص٣٤٣.

(٢) ص٤٣١.

(٣) الغيبة ص١٥٩.

٤٢٧

وأمَّا التفاصيل التي تنطق بها هذه الروايات، فلا يكاد يثبت شيء منها؛ لأنَّ كل واحد من الروايات غير ثابتة الصحَّة، ولها مضامين غير ثابتة أيضاً، فلا حاجة إلى الدخول في تفاصيلها.

نعم، الرواية الدالَّة على أنَّ ثلاثة عشرة فئة تُحارب المهدي (ع) تدلَّ - بغضِّ النظر عن التفاصيل - على أمرين:

الأمر الأول: إنَّ ما يواجهه المهدي (ع) من الحروب خاصة في منطقة الشرق الإسلامي خاصة.

الأمر الثاني: إنَّ تلك الحروب محدودة بثلاث عشر وقعة أو نحوها، إن لم يكن هذا الرقم للتحديد، وليست من الكثرة التي يتصوَّرها في الفتح العالمي العام.

وكلا هذين الأمرين ممَّا دلَّت الروايات الأخرى على صحَّته، فتكون هذه الرواية مؤكَّدة لمضمونه أيضاً.

العواطف الإيجابية:

أخرج ابن ماجة(١) ، عن أبي سعيد الخدري، إنَّ النبي (ص) قال: ( يكون في أُمَّتي المهدي... فتنعم فيه أُمَّتي نعمة لم ينعمه مثلها قطُّ ).

وأخرج ابن حجر(٢) ، عن الروياني والطبراني - في حديث - قال: ( يرضى بخلافته أهل السماء وأهل الأرض، والطير في الجوِّ ).

وأخرج الحاكم(٣) ، بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي (ص) - في حديث -: ( يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض... تتمنَّى الأحياء والأموات ممَّا صنع الله عزَّ وجلَّ بأهل الأرض من خيره )، هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يُخرجاه.

____________________

(١) السُّنن: ج٢ ص١٣٦٦.

(٢) ص٩٨.

(٣) ج٤ ص٤٦٥.

٤٢٨

وأخرج النعماني(١) عن أُمِّ هانئ، عن أبي جعفر محمد علي الباقر (ع) - في حديث - قال: ( فإن أدركتَ ذلك الزمان قرَّت عيناك ).

وأخرج بهذا المعنى حديثين آخرين(٢) ، وبمؤدَّاه حديث أخرجه الكليني في الكافي(٣) .

وأخرج الشيخ في الغيبة(٤) ، قال: قال رسول الله (ص): ( أُبشِّركم بالمهدي... - إلى أن قال: - يرضى عنه ساكن السماء و ساكن الأرض ).

وفي حديث آخر(٥) ، عن أبي وائل، عن أمير المؤمنين (ع) أنَّه قال: - في حديث - ( يفرح لخروجه أهل السماء وسكَّانها، يملأ الأرض عدلاً كما مُلئت جوراً وظلماً ).

إلى غير ذلك من الروايات.

والمراد بساكن السماء أحد أمرين:

الأمر الأول: سَكَنَة الجوِّ، وهم الطيور.

ومعنى رضاهم بما ينالهم من لذيذ الطعام وهنيء الماء في عصره، باعتبار عموم عدله ورفاهه.

إلاَّ أنَّ هذا المعنى تُنافيه رواية واحدة ممَّا سبق، وهو قوله: ( يرضى بخلافته أهل السماء وأهل الأرض، والطير في الجوِّ )، فإنَّ مقتضى التعاطف هو التغاير بين أهل السماء وبين الطير؛ فلا يمكن أن يكون أحدهما هو الآخر.

الأمر الثاني: الملائكة، وهم سكنة السماء بحسب ظاهر الأدلة الواردة في الإسلام، بل وفي غيره من الأديان الكبرى، فهم يفرحون ليوم تطبيق العدل الكامل على الأرض، ويرضون عن قائده العظيم... وقد عرفنا موقفهم تجاه المهدي (ع) من التأييد والنُّصرة، بشكل واسع

____________________

(١) ص٧٥.

(٢) نفس الصفحة.

(٣) نسخة مخطوطة.

(٤) ص١١١.

(٥) ص١١٦.

٤٢٩

النطاق... فيكون رضاهم عنه أمراً طبيعياً واضحاً، ومنطلقاً عن رضاء الله عزَّ وجلَّ.

وقد يخطر في البال: إنَّ ظاهر هذه الروايات كون الرضى المذكور فيها ناتجاً من قِبَل الفرد، باعتبار استفادته وانتفاعه من حُكم المهدي العادل، وأمَّا إذا لم يكن الفرد مُنتفعاً به، فهو لا يكون مشمولاً لهذه لروايات، ومن الواضح أنَّ الملائكة لا يمكن أن يكونوا مُستفيدين بالمـُباشرة من العدل الأرضي.

وجواب ذلك: إنَّه من ضيق النظر افتراض أنَّ الفرد لا يفرح بشيء، إلاَّ إذا استفاد منه فائدة مباشرة، بل قد يفرح الفرد للخير الذي نال أُسرته أو أصدقائه أو مجتمعه أو مجتمعاً يُحبُّه، وإن لم ينل منه شيئاً أصلاً.

ومعه؛ فالملائكة يفرحون بنفوذ إرادة الله وتطبيق هدفه، على أنَّه لا دليل على عدم انتفاع الملائكة بشكل مباشر في دولة العدل الكامل، فإنَّ تأييدهم لها ولقائدها وأعمالهم في مصلحتها، كمال لهم لا محالة.

فهذه هي العواطف الإيجابية الخيِّرة، التي ينالها المهدي (ع) ونظامه، عند تطبيق العدل الكامل، بعد أن تكون العواطف السلبية قد انتفت تماماً خلال الفتح العالمي.

٤٣٠

الفصل السادس

في مدَّة بقاء المهدي (ع) في الحُكم

تمهيد:

ينفتح السؤال عن مدَّة حُكم المهدي (ع) باعتبارين:

الاعتبار الأول: السؤال عن بقاء شخص الإمام المهدي (ع) في الحُكم، بمعنى الاستفهام عن المدَّة المـُتخلِّلة بين ظهوره ووفاته، أو بالأصحِّ المـُدَّة بين استتباب الدولة العالمية، ووفاته... بعد اليقين بأنَّه (ع) سوف يقضي أيَّام حياته كلَّها في الحُكم.

الاعتبار الثاني: السؤال عن بقاء نظام المهدي (ع) ودولته، ذلك النظام الذي يبقى بعد وفاته.

ويكون المراد: الاستفهام عن أنَّ دولة العدل العالمية، هل هي باقية إلى نهاية البشرية، أو لا؟ وهل أنَّ يوم القيامة ونهاية البشرية يحدث بعد موت المهدي بقليل، أو بكثير؟ وإذا كانت الحياة البشرية باقية مدَّة طويلة، فهل تتحوَّل الحياة إلى دولة ظالمة مُنحرفة، تحدث بعد دولة الحق، أو تبقى دولة الحق والعدل باقية على يد الحُكَّام العدول الأولياء الصالحين إلى يوم القيامة؟

ومرادنا من هذا الفصل التحدُّث عن الاعتبار الأول، مؤجِّلين الجواب عن مدَّة دولته ونظامه إلى الباب الأخير من هذا التاريخ.

ولا بدَّ في صدد الحديث عن هذا الأمر، أن يقع الحديث في عدَّة جهات:

الجهة الأُولى: في مقتضى القواعد العامة والتخطيط الإلهي العام حول ذلك، عرفنا فيما سبق - أكثر من مرَّة مُبرهَناً - بأنَّ الله تعالى استهدف من خلق الخليقة إيجاد العبادة الخالصة في ربوعها، وتطبيق العدل الكامل فيها... وخطَّط لذلك تخطيطاً طويل الأمد

٤٣١

لإيجاد شرائط هذا التطبيق، مُتمثِّلاً في التخطيط العام السابق على الظهور، وخطَّط لاستمرار هذا التطبيق وحفظه من الانحلال والزوال، مُتمثِّلاً بالتخطيط العام لما بعد الظهور، ذلك التخطيط المـُنتج في خطِّه الطويل للمجتمع البشري المعصوم.

وقد عرفنا دور الإمام المهدي (ع) بشخصه في هذين التخطيطين... فإنَّه يُمثِّل نهاية التخطيط الأول ونتيجته، وبداية التخطيط الثاني ونقطة انطلاقه، ويكون هو الرائد الأساسي الأول للتطبيق العالمي العادل الكامل.

وهذه الزيادة - مع غضِّ النظر عن أيِّ شيء آخر - تستدعي زماناً كافياً لتحصيل الغرض المقصود منها؛ إذ بدون ذلك يكون المهدي (ع) عاجزاً عن التطبيق العادل؛ لقلَّة المدة، فيكون الهدف الإلهي الأعلى مُنخرماً في نهاية المطاف، وهذا ما يستحيل تحقُّقه، وقد برهنَّا على عدم قيام المعجزات في مثل هذا الطريق.

إذن؛ فالضرورة قاضية ببقاء المهدي (ع) زماناً كافياً للتطبيق بشكل يكون قابلاً للبقاء والاستمرار بعده، فإذا التفتنا إلى التركات الثقيلة التي يُخلِّفها عصر الغيبة الكبرى إلى زمن الظهور، إلى حدٍّ أصبح المسلمون فيه على مستوى عصيان واضحات الإسلام، والاستهزاء بأساس الدين، فضلاً عن غير المسلمين، ونظرنا إلى أحوالهم الأخلاقية والاقتصادية، والنفسية والقانونية والاجتماعية المتدهورة إلى الحضيض، على ما نراه الآن جهاراً في وضح النهار، استطعنا - عند ذلك - أن نُخمِّن الجُهد العظيم الذي ينبغي أن يبذله المهدي (ع) في هذا العالم؛ لكي يُحوِّله من الجحيم إلى النعيم.

وهذا ما لا يتوفَّر بمُجرَّد فتح العالم والاستيلاء عليه، فإنَّ الأراضي يومئذ وإن أصبحت إسلامية وتحت حُكم الإسلام من الناحية الفقهية القانونية، إلاَّ أنَّ تربية تلك المجتمعات أمراً أعقد بكثير من مُجرَّد فتحها، فإنَّ الفتح إنَّما يكون مُقدِّمة لتربيتها، ولم يكن لأجل الأطماع أو مباشرة السلطة.

وإنَّما المهدي (ع) مسؤول عن ترسيخ العدل الكامل، بشكل له قابلية البقاء والاستمرار في المدى البعيد... وإن يوكِل ذلك بعده إلى أيدٍ أمينة مُخلصة.

ومعه؛ فمدَّة بقائه بالحياة، وبالتالي بالحُكم، مدَّة مناسبة لإنتاج ذلك.

وأمَّا إنَّ هذا المقدار من السنين كم عدده بالتحديد، فهذا لا يمكن أن تُسعفنا به القواعد العامة، بل ينبغي الفحص عنه في الأخبار الخاصة المـُتكفِّلة لبيان ذلك.

٤٣٢

وينبغي أن لا نستغرب من أن يكون زمن هذه المدَّة قليلاً نسبياً، فإنَّ مُهمَّته (ع) ممَّا لا يمكن أن تقوم بها الأفراد والجماعات في قرن كامل، وحَسْبُنا من هذا أنَّ البشرية لم تقم بهذه المـُهمَّة في تاريخها الطويل، على الإطلاق، ولكنَّه شخصياً لمدى قابليّاته وعلومه والتوفيق الإلهي المـُحالف له، بصفته المـُنفِّذ الأساسي للغرض الأعلى من البشرية، ولمدى قابليّات أصحابه، الذين هم القوَّاد والفقهاء والحُكَّام، على ما سمعنا من الروايات...

فيمكن أن نتصوَّر أنَّه يقوم بتلك المـُهمَّة في زمن قصير نسبياً، هو بالنسبة إلى غيره أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع، ولكنَّه منه (ع) ليس ببعيد.

الجهة الثانية: في سرد الأخبار الدالَّة على مُدَّة مُلْكه، وهي أخبار كثيرة، ولكنَّها مُتضاربة في المضمون إلى حدٍّ كبير، حتى أوقع كثيراً من المؤلِّفين في الحيرة والذهول.

وهذه الروايات على نوعين، منها ما يدلُّ على بقاء المهدي (ع) في الحُكم عشر سنوات أو أقلِّ، ومضمونها المشترك هو الأشهر في الروايات، ومنها ما يدلُّ على بقائه (ع) أكثر من عشر سنين أو بكثير.

النوع الأول: ما دلَّ من الروايات على بقاء المهدي (ع) في الحُكم عشر سنوات فأقلّ، وهو موجود في الأغلب، في المصادر العامة، وبعض المصادر الخاصة.

أخرج أبو داود(١) ، بسنده إلى أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله (ص): ( المهدي منِّي... - إلى أن قال: - ويملك سبع سنين ).

وفي حديث آخر(٢) ، عن أُمِّ سلمة عنه (ص) - يقول فيه -: (... فيلبث سبع سنين، ثمَّ يُتوفَّى ويُصلِّي عليه المسلمون ).

قال أبو داود: وقال بعضهم، عن هشام:تسع سنين. وقال بعضهم:سبع سنين.

وأخرج الترمذي(٣) ، بسنده عن أبي سعيد الخدري، عن النبي (ص): ( إنَّ في أُمَّتي المهدي، يخرج يعيش خمساً أو سبعاً أو تسعاً، زيد

____________________

(١) السُّنن ج٢ ص٤٢٢.

(٢) المصدر ج٣ ص٤٢٣.

(٣) الجامع الصحيح ج٣ ص٣٤٣

٤٣٣

الشاكِّ ).

قلنا: وما ذاك؟

قال: ( سنين... ) الحديث.

قال الترمذي: هذا حديث حسن، وقد روي من غير وجه، عن أبي سعيد، عن النبي (ص).

وأخرج ابن ماجة(١) ، عن أبي سعيد الخدري، أنَّ النبي (ص) قال: ( يكون في أُمَّتي المهدي، إن قصر فسبع، وإلاَّ فتسع... ) الحديث.

وأخرج الحاكم في المستدرك(٢) ، بسنده عن أبي سعيد الخدري، عن النبي (ص) - في حديث - ذكر فيه المهدي، فقال: ( يعيش فيهم سبع سنين أو ثمان أو تسع ) الحديث.

وأخرج في الينابيع(٣) ، عن كتاب ( فضل الكوفة ) لمحمد بن علي العلوي، بسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): ( يملك المهدي أمر الناس سبعاً أو عشراً... ) الحديث.

وقد وردت الأخبار وأمثالها، في سائر المصادر العامة التي تتحدَّث عن المهدي، كمسند أحمد، والحاوي للسيوطي، والبيان للكنجي، ومطالب السَّؤول لمحمد بن طلحة الشافعي، والفصول المـُهمَّة لأبن الصبَّاغ، ونور الأبصار للصبَّان، وغيرها.

وأمَّا من مصادر الإمامية، فهذا النوع الأول من الأخبار قليل فيها:

أخرج الشيخ في الغيبة(٤) ، بسنده عن عبد الكريم الخثعمي، قال: قلت لأبي عبد الله (ع): كم يملك القائم؟

قال: ( سبع سنين، يكون سبعين سنة من سنيِّكم هذه ).

النوع الثاني: الروايات التي تزيد على العشر سنوات، في بيان مدَّة حُكم القائم المهدي (ع).

أخرج القندوزي في الينابيع، عن حذيفة بن اليمان، قال: قال رسول الله (ص):

____________________

(١) السُّنن ج٢ ص١٣٦٧.

(٢) ج٤ص٤٦٥.

(٣) ينابيع المودَّة ط النجف.

(٤) ص٥٢٠.

٤٣٤

( المهدي رجل من وُلْدي... - إلى أن قال: - يملك عشرين سنة ).

قال: أخرجه الروياني، والطبراني، وأبو نعيم، والديلمي في مسنده.

وأخرج أيضاً(١) ، نقلاً عن كتاب فرائد السمطين، عن أبي أمامة الباهلي، قال: قال رسول الله (ص) - في حديث -: ( المهدي من وُلْدي... يملك عشرين سنة ).

وأخرج السيوطي في الحاوي(٢) ، عن نعيم بن حمَّاد، عن أرطاة، قال:يبقى المهدي أربعين عاماً.

وأخرج عنه بقية بن الوليد، قال:حياة المهدي ثلاثون سنة.

وأخرج عنه أيضاً، عن دينار بن دينار، قال:بقاء المهدي أربعون سنة.

وأخرج عن الزهري، قال:يعيش المهدي أربع عشر سنة، ثمَّ يموت موتاً.

وأخرج عنه، عن علي قال: ( يلي المهدي أمر الناس ثلاثين أو أربعين سنة ).

ومن المصادر الإمامية: أخرج الشيخ في الغيبة(٣) ، بسنده عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر الباقر (ع) - في حديث - قال: قلت: وكم يقوم القائم في عالمه؟

قال: ( تسع عشرة سنة... ) الحديث.

وأخرج النعماني(٤) ، بسنده عن يونس بن رباط، قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول:

____________________

(١) ص٥٣٧.

(٢) ص١٥٥ وكذلك الأخبار التي تليه.

(٣) ص٢٨٦.

(٤) ص١٥٣.

٤٣٥

( إنَّ أهل الحق لم يزالوا منذ كانوا في شدَّة، أما إنَّ ذلك إلى مدَّة قريبة وعاقبة طويلة ).

وأخرج حديثاً آخر بنفس المضمون.

وأخرج أيضاً(١) ، بسنده عن ابن أبي يعفور، قال: قال أبو عبد الله (ع): ( مُلك القائم منَّا تسع عشرة سنة وأشهُر ). ونحوه حديث آخر.

وأخرج الطبرسي في إعلام الورى(٢) ، عن عبد الكريم الخثعمي، قال: قلت لأبي عبد الله (ع): كم يملك القائم؟

قال: ( سبع سنين، يطول له الأيّام والليالي، حتى تكون السنة من سنيِّه مكان عشر سنين من سنيِّكم هذه، فيكون سنيِّ مُلكه سبعين سنة من سنيِّكم هذه... ) الحديث.

وأخرج الصدوق في إكمال الدين(٣) ، بسنده عن عبد السلام بن صالح الهروي، عن علي بن موسى الرضا، عن آبائه، عن علي بن أبي طالب (ع) قال: ( قال رسول الله (ص) - في حديث طويل يتضمَّن كلاماً عن الله عزَّ وجلَّ يقول في آخره عن المهدي (ع) -: ( ولأنصرنَّه بجُندي ولأمدنَّه بملائكتي، حتى يُعلن دعوتي، ويجمع الخلق على توحيدي، ثمَّ لأُديمنَّ مُلكه، ولأُداولنَّ الأيَّام بين أوليائي إلى يوم القيامة ).

وأخرج الشيخ في الغيبة(٤) ، بسنده عن أبي الجارود، قال: قال أبو جعفر (ع): ( إنَّ القائم يملك ثلاثمئة وتسع سنين، كما لبث أهل الكهف في كهفهم، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما مُلئت ظلماً وجوراً... ) الحديث.

الجهة الثالثة: في تمحيص هذه الأخبار:

____________________

(١) ص١٨١.

(٢) ص٤٣٢.

(٣) انظر المصدر المخطوط.

(٤) ص٢٨٣.

٤٣٦

توجد حول هذه الأخبار عدَّة مُلاحظات:

المـُلاحظة الأُولى: أكثر الأخبار التي نقلناها عن السيوطي في النوع الثاني مرويّة عن غير المعصومين، كالزهري، ودينار بن دينار، فلا تكون قابلة للإثبات التاريخي.

المـُلاحظة الثانية: إنَّ ما دلَّ من الأخبار على أنَّ المـُدَّة طويلة بشكل غير مُحدَّد، إنَّما هو تحديد لمـُدَّة دولة المهدي ونظامه، لا لعمر شخص المهدي (ع) وحياته، كقوله: ( إلى مدَّة قريبة وعاقبة طويلة )، وكقوله: ( ولأُداولنَّ الأيَّام بين أوليائي إلى يوم القيامة )، ومعه؛ تخرج هذه المضامين عن نطاق ما نحتاجه الآن في الاستدلال.

المـُلاحظة الثالثة: ما دلَّ من هذا الأخبار على طول المدَّة بطريق إعجازي لا يمكن الأخذ به؛ لكونه مُخالفاً لقانون المعجزات، باعتبار أنَّ توطيد العدل لا يتوقَّف على مثل هذه المعجزة.

وقد نقلنا بهذا المضمون حديثين يدلاَّن على أنَّ المهدي (ع) يعيش سبع سنين تكون كسبعين سنة.

ومعه؛ فلا يمكن العمل بهذه الأخبار، ما لم يكن حمله على معنى رمزي سوف نُشير إليه بعد ذلك.

المـُلاحظة الرابعة: ما كان من الأخبار مُنفرداً في مضمونه، ولا دليل على صحَّته، ولا قرينة أخرى مؤيِّدة لمضمونه... لابدَّ من اعتباره غير قابل للإثبات التاريخي، في حدود منهجنا من هذا الكتاب.

يندرج في ذلك الخبر القائل: بأنَّه (ع) يبقى في الحُكم ثلاثمئة وتسع سنين.

المـُلاحظة الخامسة: يصفو لنا بعد هذا التمحيص أقسام ثلاثة من الروايات:

القسم الأول: أكثر روايات النوع الأول، وهي التي تُردِّد احتمال مدَّة حُكم المهدي (ع) بين خمسة أعوام وسبعة وتسعة وعشرة.

القسم الثاني: ما دلَّ من الأخبار على بقاء حُكم المهدي تسع عشرة سنة، فإنَّها روايات ثلاث مُتعاضدة، في بعضها: تسع عشرة سنة وأشهُر.

القسم الثالث: ما دلَّ من الأخبار على بقائه عشرين سنة، فإنَّ فيه خبرين روتهما عدد من المصادر العامة كما سمعنا.

وإذا أمكن إرجاع التسعة عشر والعشرين إلى مدَّة تقريبية واحدة - كما هو الأرجح -

٤٣٧

كان القسمان الأخيران قسماً واحداً تدلُّ على صحَّته خمس روايات.

ومعه؛ يكون التحديد بين مدَّتين تقريبيتين: إحداهما بين الخمس والعشر، والأخرى بين التسع عشرة والعشرين.

هذا، ولا يبعُد أن تكون المدَّة التقريبية الأُولى أقرب إلى الصحَّة؛ باعتبارها الأشهر بين الروايات؛ على أنَّ الأمر ليس ذا أهمِّية بالغة، بعد الاطِّلاع على المفهوم العام الذي عرفناه في الجهة الأُولى، والتي لا تعدو هذه الأخبار أن تكون مصاديق له ومن تطبيقاته.

الجهة الرابعة: إنَّه بعد التمحيص الذي قلناه، لا حاجة لنا إلى الأخذ بأقوال الآخرين، في تمحيص هذه الأخبار، ولكن يحسن بنا في هذا الصدد أن نحمل فكرة عن الاتجاهات الرئيسية حول ذلك، وتتلخَّص في اتجاهين:

الاتجاه الأول: اتجاه الأخذ بالجانب المشهور من الروايات، وهو الذي رجَّحناه، وقد اختاره السيد ( الصدر ) في كتاب المهدي(١) - على ما في ظاهر عبارته - بعد الذهاب إلى أنَّ السبع سنين هو الأشهر.

وهو الذي ذهب إليه أيضاً أبو الحسن الآبري، حين قال: قد تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفى (ص) بخروجه، وأنَّه من أهل بيته، وأنَّه يملك سبع سنين... الخ(٢) .

أقول: ولا شكَّ أنَّ الروايات الواردة حول قضيَّة المهدي (ع) متواترة، بل تفوق التواتر بكثير... حتى إنَّ أكثر من (حقل) من حقولها يمكن أن يكون متواتراً بحياله، إلاَّ أنَّ أخبار بقائه في الحُكم سبع سنين بالتعيين لا تصل إلى حدِّ التواتر، على أنَّها معارضة بروايات عديدة تُعطي أرقاماً أُخرى غير السبع... كما سمعنا.

وهذا الاتجاه هو الذي اختاره ابن عربي في الفتوحات(٣) ، حيث قال: اعلم - أيَّدنا الله - أنَّ لله خليفة يخرج وقد امتلأت الأرض جوراً وظلماً، فيملؤها قسطاً وعدلاً... - إلى أن قال: - يعيش خمساً أو سبعاً أو تسعاً، يقفو أثر رسول الله (ص) لا يخطى... الخ كلامه.

____________________

(١) ص ٢٣٤.

(٢) انظر الصواعق المـُحرِقة لابن حجر ص٩٩.

(٣) ص٣٢٧ ج٣.

٤٣٨

الاتجاه الثاني: قول مَن يذهب إلى قبول كل الروايات، مع الالتزام بأنَّها تُعرب عن مراحل مُتعدِّدة من حياة المهدي وحكمه بعد ظهوره.

وهذا ما ذهب إليه جماعة منهم: السفاريني في لوائح الأنوار البهية، حيث يقول(١) : ويمكن الجمع - على تقدير صحَّة الكل - بأنَّ مُلكه مُتفاوت الظهور والقوَّة، فيحمل الأكثر باعتبار جميع مدَّة المـُلك، منذ البيعة، والأقل على غاية الظهور، والأوسط على الأوسط.

أقول: وهذا يعني أنَّ المهدي (ع) يبقى فاشلاً سنوات طويلة، فإنَّنا لو عطفنا رواية الخمس سنوات على رواية الأربعين عاماً... أنتج أنَّ المهدي يعيش خمساً وثلاثين عاماً من الفشل، وأمَّا لو أخذنا برواية الثلاثمئة والتسع سنين، كانت مدَّة الفشل أكبر أن تُقاس بمدَّة الحُكم والسيطرة، وهذا لا معنى له تماماً في المهدي الموعود المـُطبِّق للغرض، إلاَّ على مَن خَلَق البشرية.

ونقله في الإشاعة(٢) ، عن ابن حجر في القول المـُختصر، وذكر تأييد ذلك بعدَّة أمور، نذكر منها ثلاثة:

الأمر الأول: أنَّ اللائق بكرم الله تعالى أن يكون مدَّة العدل، قدر ما ينسون فيه الظلم والفتن، والسبع والتسع أقلَّ من ذلك.

الأمر الثاني: أنَّه (ع) يفتح الدنيا كلَّها، كما فتحها ذو القرنين وسليمان، ويدخل جميع الآفاق، كما في بعض الروايات، ويبني المساجد في سائر البلدان، ويجلي بيت المقدس، ولا شكَّ أنَّ مدَّة التسع فما دونها، لا يمكن أن يُساح فيها ربع أو خمس المعمورة، فضلاً عن الجهاد وتجهيز العساكر، وترتيب الجيوش، وبناء المساجد وغيرها.

الأمر الثالث: أنَّه ورد أنَّ الأعمار تطول في زمنه، كما في سيرته، وطولها فيه مُستلزم لطوله، وإلاَّ لا يكون طولها في زمنه.

ويحسن بنا أن نُناقش هذه الأمور الثلاثة مُختصراً.

أمَّا الأمر الأول، فهو صحيح والتفات لطيف، غير أنَّه لا يعود إلى شخص المهدي (ع)،

____________________

(١) ج٢ ص ٧٢.

(٢) ص١٠٥ وما بعدها.

٤٣٩

بل إلى بقاء نظامه ودولته، وسيأتي في الباب التالي أنَّ مُجرَّد نسيان الأُمَّة للظلم والجور غير كافٍ في الإيمان بطول مدَّة الدولة المهدوية، وإن كان في نفسه أمراً صحيحاً، بل هناك فكرة نظرية سنعرضها بعد ذلك، تقتضي الالتزام بطولة مدَّة هذه الدولة أكثر من ذلك بكثير.

وأمَّا الأمر الثاني، فقد عرفنا فيما سبق أنَّه منطقي جدَّاً بالنسبة إلى تصوُّرات الحرب بالأسلوب القديم، وليس منطقياً أصلاً من خلال تصوُّرات الحرب الحديثة، وضمانات انتصار المهدي (ع).

وينبغي أن نلتفت إلى أنَّ المهدي سيفتح الدنيا أكثر ممَّا فتحها ذو القرنين وسليمان، فإنَّ مُلك ذي القرنين يُمثِّل(شريطاً) على الأرض، يبدأ باليونان وينتهي بجنوب شرق آسيا، وأمَّا مُلك سليمان فهو لا يعدو فلسطين نفسها، فإنَّه وحَّد بين دولتي اليهود: إسرائيل، ويهودا، وحكمهما بشريعة إلهية صحيحة، ولم يخرج مُلكه عن هذا النطاق.

وأمَّا المهدي (ع)، فقد تمَّ البرهان على أنَّه يحكم الدنيا كلَّها، وتدخل البشرية كلها تحت سيطرته.

وأمَّا الأمر الثالث، فهو أيضاً راجع إلى زمن نظامه ودولته، لا إلى زمن حياته الشخصية، فإنَّ طول الأعمار ناتج عن الراحة والاطمئنان النفسي، الناتج عن جوِّ العدل العالمي والأخوَّة البشرية الكاملة، وقد عرفنا - وسنعرف - أنَّ النظام العادل غير منحصر في زمن المهدي (ع)، بل سيبقى بعده إلى نهاية البشرية.

إذن؛ فهذه الأمور لا تصلح دليلاً على طول عمر المهدي (ع) بشخصه، بعد أن عرفنا أنَّ مُهمَّته الشخصية تأسيس المجتمع البشري، القابل للبقاء والتكامل إلى البشرية، وهذا ما يحدث، ضمن إمكانيَّاته، في زمن قصير، يمكن أن يكون خمس أو سبع أو تسع سنين.

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679