موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)5%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 679

الجزء ١ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 212426 / تحميل: 11106
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

وهذه الحاجة خاصة بالشخص الذي تمَّ تعيينه من قِبَل التشريع الإلهي لقيادة العالم، باعتبار أنَّ ما قلناه من ضرورة تساوق قابليَّات الشخص مع مقدار سعة مسؤولياته الموكولة إليه في التشريع، فإذا كانت قابليَّاته قاصرة بدون الإلهام، كان وجود الإلهام ضرورياً.

وأمَّا الشخص الذي تكون مسؤوليَّاته محدودة، ذات منطقة صغيرة نسبيَّاً، بحيث يمكن تغطية تلك الحاجة بأساليب اعتيادية، فلا يكون مشمولاً لهذا الدليل.

وبمثل هذه المـُناقشات تُصبح الأُطروحة الأُولى ممَّا لا دليل عليه.

نعم، لا مانع من وجود مضمون هذه الأطروحة، فيما إذا وقع أحد أصحاب الإمام المهدي في صعوبة فكرية بالِغة، واعتاصت عليه مشكلة اجتماعية يتوقَّف تطبيق العدل الكامل على تذليلها، وتعذَّر عليه الاتِّصال بإمامه، فسوف يكون الإلهام هو المـُنقذ الوحيد في هذا الموقف، حفاظاً على العدل الكامل، فيكون الالتزام بصحَّة هذه الأُطروحة مُمكناً.

غير أنَّ هذا نادر الوجود؛ لوضوح إمكان الاتِّصال بالمهدي في أيِّ منطقة من مناطق العالم.

الأُطروحة الثانية: إنَّ أصحاب المهدي يتلقُّون علومهم في العصر السابق على الظهور، أو قد يُمارسون بعض أشكال الحُكم والقضاء أيضاً.

وذلك انطلاقاً من عدَّة وجوه:

الوجه الأول: إنَّ ظاهر نفس الروايات هو ذلك، بمعنى أنَّهم ناجزين علماً وعملاً قبل الظهور، وإنَّما يتسنَّى لهم مُمارسة الحُكم والقضاء في الدولة العالمية، انطلاقاً من هذه الخبرات، مضافاً إلى التعليمات المهدوية الجديدة، فإنَّنا نسمع الرواية تقول: (... هذه العدَّة التي يخرج فيها القائم (ع)، وهم النُّجباء والفقهاء، وهم الحكَّام وهم القُضاة ). فنفهم منها: أنَّهم مُتَّصفون بهذه الصفات من حين خروجهم مع القائم ومُبايعتهم له، وهذا لا يكون إلاَّ إذا كانوا قد عرفوا كذلك قبل الظهور.

وأمَّا قوله: ( الذين يمسح على بطونهم وظهورهم فلا يُشكِل عليهم حُكم )، فهو إشارة إلى التعليمات المهدوية الجديدة، كما سوف نُشير.

وكذلك الرواية التي تُعدِّد من أصحاب القائم: يوشع بن نون، وسلمان، ومالك

٥٠١

الأشتر وغيرهم. فإنَّهم إن أرادتهم بأشخاصهم، فمن المعلوم أنَّهم ناجزون علماً وعملاً، ولهم تاريخ إيماني ناصع قبل الظهور، وإن أرادت الرواية أنَّ أصحاب القائم المهدي يُشبَّهون بهؤلاء في صفاتهم الرئيسية، فمن الواضح أنَّ كونهم ناجزين في لعلم والعمل من أهمِّ هذه الصفات.

وكذلك خُطبة البيان حين تصف عدداً منهم بكونهم: العارفين لإقامة الدعائم، أو كونهم رجالاً أتقياء أبراراً، أو كون الفرد منهم نقيَّاً من العيوب. فإنَّه واضح أنَّ اتِّصافهم بذلك ثابت لهم في أنفسهم قبل حصول الظهور.

إذن؛ فالروايات لا قصور فيها عن الدلالة على هذه الأُطروحة.

الوجه الثاني: أنَّه ليس من الصحيح القول: بأنَّه يمكن أن يوجد التمحيص العالي والإخلاص الكبير، بدون ثقافة عالية تتناسب معه؛ إذ مع الجهل يكون الفرد معرَّضاً لكل فظيعة من دون أن يعلم، فيُخلُّ فعله بإخلاصه ويعتبر ذلك منه فشلاً في الامتحان.

وبكلمة أوضح: إنَّ ردَّ الفعل الصحيح العادل تجاه الوقائع المختلفة، الذي هو معنى النجاح في التمحيص، لا يكون إلاَّ مع معرفة ماهية ردِّ الفعل هذا، وهذه المعرفة تتوقَّف على العلم، بل هي نفس العلم، وكلَّما كان المتوقَّع من الفرد ردود فعل أصلح وأعلى، كان العلم المطلوب منه أوسع وأعمق.

ومعه؛ يكون الأفراد العالين في التمحيص، الذين هم ( خير فوارس على وجه الأرض )، هم أعلم أهل الأرض بالشريعة، وأطلع الناس على دقائقها.

الوجه الثالث: أنَّه لا شكَّ في وجود الفقهاء المـُحقِّقين في علوم الشريعة، والعلماء المـُطَّلعين على دقائقها في عصر ما قبل الظهور بأعداد غير قليلة، ولا يمكن القول - بطبيعة الحال -: بأنَّ جميعهم من الفاشلين في التمحيص الإلهي. بل إنَّنا إن لم نقل: بأنَّ جميعهم من الناجحين المـُمحَّصين، فلا أقلَّ من أنَّ عدداً منهم كذلك، فإنَّ دقَّة العلم والثقافة الدينية مساوقة عادة مع الإخلاص والمحافظة على السلوك العادل و الصفاء في النيَّة، وبالتالي مع النجاح في التمحيص، ما لم يكن الفرد مُتمرِّساً في الإجرام، ومُتوحِّشاً في الضمير.

وأمَّا ما نجده الآن من ضعف الفقهاء الإسلاميين، بالنسبة إلى القوى العالمية، وانصرافهم الظاهري عن الخوض في الأمور العامة، فهو ناشئ من مقدار إمكانياتهم، وشعورهم بقلَّة تكليفهم الإسلامي من هذه الناحية، وسترتفع هذه الصفة عنهم بعد الظهور - بطبيعة الحال - وسيتبعون في سلوكهم الجِدِّي هدي الإمام المهدي وأوامره

٥٠٢

وأهدافه، وبالتاي يصلحون لأن يكونوا عدداً من المـُخلصين من أصحابه.

الوجه الرابع: أنَّنا برهنَّا في هذا التاريخ وما سبقه، على تطوُّر الفكر الإسلامي خلال العصر الطويل السابق على الظهور، تطوُّراً يؤهِّل الأُمَّة الإسلامية خاصة، والبشرية عامة لفَهْم القوانين والمفاهيم الجديدة التي يُعلنها المهدي في دولته العالمية بعد الظهور... التي يكون من الضروري إعلانها من أجل اكتساب ( الأُطروحة العادلة الكاملة ) صفة العدل المـُطلق، الذي يمكنه أن يعمَّ العالم بالسعادة والرفاه، ويسير به نحو الكمال.

ومن الواضح أنَّ الفرد كلَّما كان أكثر إخلاصاً للإسلام، وأشدَّ تطبيقاً للعدل على حياته، سيكون أحرص على فهمه واستيعابه، ومواكبة آخر أشكال تطوُّره، وخاصة إذا كان احتمل أنَّه سيكون له مشاركة حسنة بشكل وآخر في الدولة المهدوية، ولو كفرد اعتيادي عليه أن يفهم القوانين، ويستوعب المفاهيم الجديدة المـُعلنة يومئذ... فضلاً عمَّا إذا شُرِّف بإعطاء بعض درجات المسؤولية في تلك الدولة.

إذاً؛ فالخاصة الثلاثمئة والثلاثة عشر، هم بكل تأكيد من مواكبي وقارئي أعلى تطوُّرات الفكر الإسلامي.. إن لم يكن العديد منهم، من صانعي الفكر المـُتطوِّر، والمشاركين في إيجاده، ونفس هذه الصفة تنطبق بدرجة أضعف على المـُخلصين من الدرجة الثانية، غير أنَّ القارئين المواكبين أوسع بكثير من المشاركين في التطوير.

إذاً؛ فالأطروحة الثانية صحيحة، لصحَّة الوجوه الأربعة الدالَّة عليها جميعاً، غير أنَّ هذه الوجوه تُثبت الاستيعاب النظري لتفاصيل الفكر الإسلامي، ولا تُثبت وجود المـُمارسة الفعلية للحُكم أو القضاء من قِبلهم خلال العصر السابق على الظهور.

هذا، مع العلم أنَّ المـُمارسة الفعلية ليس لها دخل مُهمٌّ في نجاح الفرد في مُهمَّته، إذا كان مستوعباً لها نظرياً، وعارفاً بطبيعة مجتمعه الذي أوكِلت له قيادته، وخاصة مع الالتفات إلى أنَّ ذلك لو كان لازماً لكان لا بدَّ لكل موظَّف أو حاكم أو قاضٍ أن يكون مُتمرِّناً قبل ذلك، وهذه قضية (مُتناقضة)؛ لأنَّ كل حاكم وقاضٍ لا بدَّ أن يكون غير مُتمرِّن عند أول استلامه لمـُهمَّته، وإلاَّ لما أمكن الحصول على أيِّ حاكم أو قاضٍ على الإطلاق.

وهذه الوجوه - أيضاً - تُثبت اطِّلاع هؤلاء على الفكر الإسلامي السابق، وأمَّا التوجيهات المهدوية والقوانين الجديدة، فهي تبقى محلَّ حاجتهم بطبيعة الحال، وهذا ما سنبحثه في

٥٠٣

الأُطروحة الثالثة.

الأُطروحة الثالثة: إنَّ المخلصين يتلقُّون ثقافتهم من الإمام المهدي (ع)، على أحد مستويات مُحتملة، بعد غضِّ النظر عن تلقِّيهم الإعجازي منه (ع)، الذي ناقشناه في الأُطروحة الأُولى:

المستوى الأول: إنَّ المـُخلصين يتلقُّون ثقافتهم المـُعمَّقة التي تؤهِّلهم لتولِّي أعلى المناصب في دولة العدل العالمية، من المهدي نفسه، قبل ظهوره.

وذلك، انطلاقاً من الفكرة التي سبق أن ذكرناها، وهي أنَّ المهدي لا يحتجب عن خاصته، وأنَّهم يعرفونه بحقيقته في عصر غيبته، وليس بين الفرد وبلوغه هذه المرتبة إلاَّ أن يُصبح من المـُخلصين المـُمحَّصين المبرَّئين من الذنوب والعيوب، وقد دلَّت الأخبار على أنَّ سبب احتجاب المهدي (ع) وغيبته إنَّما هو ذنوب الناس وانحرافهم، فمع ارتفاع هذه الصفة الرديئة عن بعض الأفراد، يكون سبب الغيبة مرتفعاً فيه، ومعناه أنَّه سوف يرى المهدي (ع) بالرغم من احتجابه عن الآخرين.

ومعنى ذلك أن الجماعة المتصفين بالدرجة الأولى من الإخلاص كلهم يتشرفون بلقائه وسماع كلامه وتوجيهاته حال غيابه.

وهذا المستوى الأول للأُطروحة لطيف ومُحتمل الصحَّة، لو أخذنا بالفهم الإمامي لفكرة المهدي، إلاَّ أنَّه غير قابل للإثبات.

المستوى الثاني: إنَّ المـُخلصين يتلقُّون كل ثقافتهم أو جُلَّها بتعليم من قائدهم المهدي بعد ظهوره، سواءٌ في ذلك المستوى الفكري العام والتعاليم الجديدة.

وأحسن ما يُقال في هذا المستوى: إنَّه أمر مُستأنف بالنسبة إلى المستوى الفكري العام، الممكن اكتسابه طبقاً للأُطروحة الثانية.

المستوى الثالث: إنَّ المـُخلصين يتلقُّون تعاليم وثقافات جديدة من الإمام المهدي، فوق مستواهم الفكري السابق، قبل ذهابهم إلى مناطق حكمهم؛ تمهيداً لتمكينهم الكامل من الحكم العادل والقضاء الفاصل.

وهذا المستوى ضروري الصحَّة، بعد وضوح عدم مساعدة الفكر السابق، بالرغم من عُمقه وشموله، على انجاز الأهداف المهدوية العالمية.

وهذا هو الذي أشارت إليه الأخبار التي سمعناها تنقل عن المهدي حين يريد

٥٠٤

إرسال شخصٍ حاكماً على منطقة في العالم، قوله: ( عهدك في كفِّك، فإذا ورد عليك ما لا تفهمه أو تعرف القضاء فيه، فانظر في كفِّك واعمل بما فيها ).

وهذا يعني أنَّه(ع) يكتب لكل شخص يُرسله ( عهداً )(١) ، يحتوي على ( التخطيط ) الذي يجب عليه أن يسير عليه في فترة حكمه، تماماً كما فعل جدُّه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، حين أرسل مالكاً الأشتر والياً على مصر، وكتب له العهد المطول المشهور الموجود في نهج البلاغة.

ولكن يبدو أنَّ هذا العهد ليس على شكل القواعد العامة، كما كان عليه عهد مالك الأشتر، بل يُفترض أنَّهم قادرون على تطبيق القواعد العامة، مأخوذة من الفقه العادل في ثوبه الجديد، وإنَّما يُعطي هذا العهد الوارد الضرورة، حين يقع الحاكم في صعوبة من حيث تطبيق القواعد العامة على بعض المشاكل العالمية؛ ولذا نجده يقول: ( فإذا ورد عليك ما لا تفهمه ولا تعرف القضاء فيه - يعني طبقاً للقواعد العامة - فانظر إلى كفِّك – يعني إلى العهد الذي تحمله فيها – واعمل بما فيها ).

ويقترن هذا المستوى الفكري المـُعمَّق بمستوى نفسي مُعمَّق، يكون الفرد الحاكم محتاجاً إليه، حين يذهب إلى منطقته أول مرَّة، وتكون الدولة مؤسَّسة لأول مرَّة. إنَّه يتحمَّل مسؤوليَّات ضخمة، قد يعجز عن مُجرَّد تصوُّره، فكيف وهو سيوضع في وسط معمَّعتها، وهو مؤهَّل في تربيته السابقة التي عرفنا جذورها وفروعها مفصلاً، من الناحيتين الإيمانية والفكرية؟ إلاَّ أنَّه يحتاج إلى جانب ثالث، هو الجانب النفسي ليكون ( أجرأ من ليث، وأمضى من سنان )، وليواجه العالم بمعنويَّات عالية، وقوَّة بالغة مناسبة مع المستوى المطلوب للدولة العالمية.

ومن هنا؛ نجد المهدي (ع) - كما في الروايات - يمسح على بطونهم وظهورهم، فلا يُشكل عليهم حكم، ولا يتعايون في قضاء، فإنَّ الفكرة وحلَّ المشكلة قد يعتاص على الإنسان مع وجود الارتباك والتردُّد في نفسه، فيُصبح في حالة شرود وانحطاط، وأمَّا مع ارتفاع المعنويَّات وقوَّة الإرادة، فلا معنى لحصول ذلك، وأدنى ما يعمله المهدي (ع) في هذا الصدد هو أن يُعانقهم هذه المـُعانقة عند الوداع. ولعلَّه يتَّخذ خطوات أُخرى بهذا

____________________

(١) قالت اللغة: العهد هو الذي يكتبه وليُّ الأمر للولاة إيذاناً بتوليهم، مع الأمر بلزوم الشريعة وإقامة النصفة. انظر: أقرب الموارد.

٥٠٥

الصدد، سكتت عنها الأخبار باعتبارها تتحدَّث بلغة عصر صدورها، طبقاً لقانون ( كلِّم الناس على قدر عقولهم ).

وبهذا الأسلوب، وعن هذا الطريق، سوف يتوزَّع حكَّام المهدي ( ع ) أقاليم العالم، وتستتبُّ الدولة العالمية، حتى ( لا تبقى أرض إلاَّ نودي فيها شهادة أن لا إله إلاَّ ألله، وحده لا شريك له، وأنَّ محمداً رسول الله )، وهو قوله تعالى:( ... وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ) .

٥٠٦

الفصل الخامس

تمحيص الإمام المهدي

لأصحابه خاصة وللأُمَّة عامة

تمهيد:

يتَّخذ الإمام المهدي هذا الأسلوب من التمحيص، للحصول على فوائد عديدة، نذكر بعضها ممَّا يخطر على البال، طبقاً للقواعد والروايات السابقة.

الفائدة الأُولى: تعويد الأمَّة الإسلامية خاصة - والبشرية عامة - على شكل جديد من السلوك، لم يكن معهوداً من قبل. وإنَّ التوقُّعات من الحاكم والفرد معاً أصبحت أعمق وأعقد.

الفائدة الثانية: إظهار نقاط الضعف التي لم يستطع التمحيص السابق على الظهور إظهارها؛ ومن هنا قد يفشل في هذا التمحيص مَن سبق له النجاح في التمحيص السابق؛ لأنَّ هذا التمحيص سوف يبتني على أُسس أصعب وأعمق.

الفائدة الثالثة: تهيئة أساليب عميقة، يمكن لأصحاب المؤهَّلات العالية النجاح من خلالها والتكامل عن طريقها.

الفائدة الرابعة: إنجاز أسلوب عام لتربية البشرية ككل، بصفتها مُطبِّقة للعدل الكامل من الآن فصاعداً، وقد سبق أن قلنا: إنَّ الدولة ستقوم بأعمال اختيارية، يُقصد بها تربية الأُمَّة والبشرية عن طريق التمحيص.

وهذا هو أحد الفروق المـُهمَّة بين التمحيصين ( السابق واللاحق )، فإنَّ التمحيص السابق على الظهور كان مُسبَّباً عن أمر غير اختياري بالنسبة إلى الفرد الناجح فيه، باعتباره ناشئاً من ظروف الظلم والفساد التي لا بدَّ للفرد فيها، وأمَّا التمحيص اللاحق للظهور، وفي المجتمع الخالي من الكافرين والمـُنحرفين، فيتعيَّن أن يكون التمحيص اختيارياً، تقوم

٥٠٧

به الدولة أو الإمام (ع) من أجل تربية الأُمَّة أو البشرية.

الفائدة الخامسة: التخلُّص ممَّن قد يكون شارك في الدولة العالمية بحكم أو قضاء، وليس في واقعه أهلاً لذلك بالمعنى العميق، وسنذكر فلسفته فيما بعد.

إلى غير ذلك من الفوائد...

ومن حيث الفرق في الهدف بين التمحيصين، نجد أنَّ التمحيص السبق كان مُستهدفاً لإيجاد جماعة محدودة من المـُخلصين، ذوو عدد كافٍ لغزو العالم، وأمَّا الباقون، فقد أوجب ذلك التمحيص تطرُّفهم إلى جانب الظلم والباطل.

وأمَّا هذا التمحيص الجديد، فهو يستهدف التخطيط العام الشامل له، أعني تخطيط ما بعد الظهور، من تربية البشرية حكَّاماً ومحكومين، تربية مركَّزة ومُستمرَّة نحو التكامل لإيجاد المجتمع العادل المطلق في كل أفراده، وليس على مستوى الحكم فقط، وهو ( المجتمع المعصوم )، الذي ألمحنا إليه في التاريخ السابق(١) ، وسيأتي في الكتاب الآتي من الموسوعة تفاصيل مُهمَّة عن خصائصه.

وعلى أيِّ حال، فينبغي أن ينفتح الحديث عن هذا التمحيص في عدَّة جهات:

الجهة الأُولى: في سرد الأخبار الواردة في هذا الصدد.

ونحن هنا لا نتوخَّى استيعاب كل ما دلَّ على ذلك، بل نقتصر على المـُهمِّ منه، فنروي ما كان متَّصفاً بوصفين:

الوصف الأول: كون الخبر مُطابقاً مع القواعد المعروفة لنا، فلو كان يُمثِّل فَهْماً مُنحرفاً أو شاذَّاً لم نروه؛ لأنَّ أمارات الوضع والانتحال عليه واضحة.

الوصف الثاني: ما لم تكن فيه إثارة طائفية من الأخبار، فإن كان في الخبر إثارة من هذا القبيل حذفناه، وإن أحدث نقصاً في التسلسل الفكري العام.

والأخبار في ذلك عديدة، شاملة لمختلف جهات التمحيص.

____________________

(١) تاريخ الغيبة الكبرى ص٤٨١.

٥٠٨

أخرج النعماني(١) ، عن أبي عبد الله (ع) أنَّه قال: ( لو قد قام القائم لأنكره الناس، لأنَّه يرجع إليهم شابَّاً موفَّقاً، لا يثبت عليه إلاَّ مَن أخذ الله ميثاقه... وإنَّ من أعظم البليَّة أن يخرج إليهم صاحبهم شابَّاً وهو يحسبونه شيخاً كبيراً ).

وأخرج أيضاً(٢) ، عن محمد بن مسلم، قال: سمعنا أبا جعفر (ع) يقول: ( لو يعلم الناس ما يصنع القائم إذا خرج لأحبَّ أكثرهم إلاَّ يروه ممَّا يقتل الناس، أما إنَّه لا يبدأ إلاَّ بقريش، فلا يأخذ منها إلاَّ السيف، ولا يُعطيها إلاَّ السيف. حتى يقول كثير من الناس: ليس هذا من آل محمد، لو كان من آل محمد لرحم ).

وأخرج أيضاً(٣) مُرسلاً، عن أبي عبد الله يقول: ( إذا خرج القائم، خرج من هذا الأمر مَن كان يرى أنَّه من أهله، ودخل فيه شِبه عبدة الشمس والقمر ).

وأخرج أيضاً(٤) ، بسنده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع) قال: ( إنَّ أصحاب طالوت ابتُلوا بالنهر الذي قال الله تعالى: ( سيبتليكم بِنَهَرٍ )(٥) ، وإنَّ أصحاب القائم (ع) يُبتلون بمثل ذلك ).

وأخرج المجلسي في البحار(٦) ، بإسناده عن أبي بصير، عن أبي جعفر (ع)، قال: ( يقضي القائم بقضايا يُنكرها بعض أصحابه ممَّن قد ضرب قدَّامه بالسيف، وهو قضاء آدم (ع)، فيُقدِّمهم فيضرب أعناقهم، ثمَّ يقضي الثانية، فيُنكرها قوم آخرون ممَّن قد ضرب قدَّامه بالسيف، وهو قضاء داود (ع)، فيُقدِّمهم فيضرب أعناقهم، ثمَّ يقضي الليلة الثالثة، فيُنكرها قوم

____________________

(١) الغيبة ص٩٩.

(٢) المصدر ص١٢٢.

(٣) المصدر ص١٧٧.

(٤) المصدر ص١٧٠.

(٥) البقرة: ٢/ ٢٤٩، وهو نقل بالمعنى عن الآية.

(٦) ج١٣ ص٢٠٠.

٥٠٩

آخرون ممَّن قد ضَرب قدَّامه بالسيف، وهو قضاء إبراهيم (ع)، فيُقدِّمهم فيضرب أعناقهم، ثمَّ يقضي الرابعة، وهو قضاء محمد (ص)، فلا يُنكرها عليه أحد ).

وأخرج المجلسي في البحار(١) ، بإسناده عن المفضل بن عمر، قال الصادق (ع): ( كأنِّي انظر إلى القائم على منبر الكوفة، وحوله أصحابه ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً عدَّة أهل بدر، وهم أصحاب الألوية، وهم حكَّام الله على خلقه، حتى يستخرج من قبائه كتاباً مختوماً بخاتم من ذهب، عهدٌ معهود من رسول الله (ص)، فيجفلون عنه إجفال الغنم، فلا يبقى منهم إلاَّ الوزير وأحد عشر نقيباً، كما بقوا مع موسى بن عمران (ع)، فيجولون في الأرض فلا يجدون عنه مذهباً، فيرجعون إليه، وإنِّي أعرف الكلام الذي يقوله لهم، فيكفرون به ).

الجهة الثانية: في فَهم مفردات هذه الأخبار، أعني ما ورد فيها من ألفاظ ومفاهيم بعيدة عن الذهن؛ لكي يكون هذا منطلقاً إلى الفَهم الكامل الذي سوف تُعرِب عنه في الجهات التالية:

( قضاء محمد ) نبي الإسلام (ص)، هو ما أعرب عنه قوله (ص): ( إنما أقضي بينكم بالبيِّنات والإيمان )، وهو حديث مشهور مروي بطريق الفريقين، وقد فَهِم منه فقهاء الإسلام قواعد القضاء الرئيسية للمرافعات، وهو أن تكون البيِّنة من المـُدَّعي، واليمين على المنكر.

وأضاف (ص) في حديث(٢) : ( فأيُّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً، فإنَّما قطعت له به قطعة من النار )، يعني أنَّ هذه القواعد القضائية إذا أثبتت حقَّاً غير واقعي، كان أخذه من قِبل غير مُستحقِّة حراماً غير مشروع، وإن كان القاضي معذوراً؛ باعتباره جاهلاً بالواقع، ومتَّبعاً للقواعد الشرعية العامة الغالبية الصدق.

( قضاء داود ) ( ع )، هو ما شرحه القرآن الكريم في قوله تعالى:

____________________

(١) ج١٣ ص١٨٤ - ١٨٥.

(٢) الوسائل ج٣ ص٤٣٥.

٥١٠

( وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ) (١) .

والنقطة الرئيسية في هذه الحادثة التي ترويها الآية، هو أنَّ داود (ع) أخذ جانب المـُدَّعي من دون أن يُطالبه بالإثبات القضائي، أعني البيِّنة، فقال:( ... لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ... ) ، وقد نطقت به الأخبار أيضاً.

منها عدد من الأخبار تدلُّ على أنَّ الخصوصية الرئيسية فيه، هو الحكم طبقاً لعلم القاضي بواقع الحادثة، لا طبقاً للبيِّنة.

منها ما رواه الحُرُّ العالمي(٢) ، بسنده عن أبي عبيدة الحذَّاء، عن أبي جعفر (ع) - في حديث -، قال: ( إذا قام قائم آل محمد (ص) حكم بحكم داود (ع) لا يسأل البيِّنة ).

وفي رواية أُخرى، عن أبان قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: ( لا تذهب الدنيا حتى يخرج رجل منِّي، يحكم بحكومته آل داود ولا يسأل بيِّنة، يُعطي كل نفس حقَّها ).

وفي رواية أخرى مُرسلة، عن أبي عبد الله (ع) - في حديث - قال: ( إنَّ داود (ع) قال: يا ربِّ، أرني الحقَّ كما هو عندك حتى أقضي به.

فقال: إنَّك لا تُطيق ذلك.

فألحَّ على ربِّه حتى فعل، فجاء رجل يستعدي على رجل، فقال: إنَّ هذا أخذ مالي. فأوحى الله إلى داود بالمـُستعدي فقُتل، وأخذ ماله

____________________

(١) سورة ص: ٢١ - ٢٥.

(٢) الوسائل ج٣ ص٤٣٥، وكذا الخبران اللذان بعده.

٥١١

فدفع إلى المـُستعدى عليه.

قال: فعجب الناس وتحدَّثوا، حتى بلغ داود (ع)، ودخل عليه من ذلك ما كره، فدعا ربَّه أن يرفع ذلك ففعل، ثمَّ أوحى الله إليه أن احكُم بينهم بالبيِّنات، وأضفهم إلى اسمي يحلفون به ).

وإنَّما نقلنا هذا الحديث المـُرسل، لوجود فارق بينه وبين الآية، فإنَّ الحادثة التي يُعرب عنها الخبر - لو صحَّ - حادثة واقعية، يمكن أن يعلم بها القاضي عن طريق الوحي أو عن طريق مُعاشرة الخصمين ونحوه.

وأمَّا الحادثة التي تُعرب عنها الآية، فالمشهور عنها أنَّها آية امتحانية، أوجدها الله تعالى من أجل امتحان النبي داود (ع) واختباره، وقد فشل في هذا الامتحان، وهو قوله تعالى:( ... وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ ) .

فالخصمان لم يكونا خصمين حقيقة، وإنَّما كانا مَلَكين أرسلهما الله تعالى لاختبار داود (ع)، واستدلُّوا على ذلك بقوله:( ... إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ) ؛ فإنَّ البشر لا يتسوَّرون الحائط على القاضي الذي يريدون التحاكم عنده، ولا يردون عليه في وقت عبادته، بل في وقت استعداده للحكم.

وكان من واجب النبي داود (ع) طبقاً للقواعد القضائية العامة أن يسأل من المـُدَّعي - وهو صاحب النعجات التسع والتسعين - أن يأتي بالبيِّنة الدالَّة على أنَّ تلك النعجة الواحدة له، ولكنَّه أسرع بقبول قول المنكر بدون مُطالبة البيِّنة، وصار إلى جانبه، بدون دليل، ولكنَّه فكَّر بعد ذلك وعلم بخطئه، فاستغفر الله وخرَّ راكعاً وأناب، فعفا الله عنه وأكرم مقامه.

غير أنَّ الصحيح هو أنَّ الآية لا تدلُّ على أنَّ الحادثة مُصطنعة وغير واقعية، بل تدلُّ على واقعية الحادثة، بعدَّة قرائن في الآية نفسها:

القرينة الأُولى: قوله تعالى:( الخصمين ) ؛ فإنَّ ظاهره كونهما خصمين حقيقة، وحمله على الخصمين المـُصطنعين خلاف الظاهر؛ لأنَّه مجاز لا يُصار إليه إلاَّ بقرينة.

القرينة الثانية: قوله:( إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ... ) ؛ وهو ظاهر بالأخوَّة الحقيقية، ومن المعلوم أنَّهما لو كانا مَلَكين لم يكن صِدْقُ ذلك ممكناً.

القرينة الثالثة: قوله:( ... تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ... ) ؛ فإنَّ ظاهره المِلكيَّة الحقيقية لنعجات حقيقية، وما خالف ذلك مُحتاج إلى تأويل.

القرينة الرابعة: قوله:( ... لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ... ) ؛ فإنَّه لا يكون ظالماً على الإطلاق لو كانت المرافعة صورية، ولكانت هذه الجملة كاذبة.

٥١٢

وأمَّا ما ذكروه من أنَّ العبور على الحائط ليس من أفعال البشر، فهو غير صحيح، فإنَّه أقرب إلى فعل البشر الدنيء منه إلى فعل الملائكة.

وأمَّا كون الحادثة لامتحانه وفتنته - كما دلت عليه الآية فعلاً - فهذا لا يقتضي لإرسال الملائكة إليه، بل يكون حاصلاً مع وجود هذا الترافع بين بشرين، بدليل على أنَّهما لو كانا رجلين حقيقين لما كان في مستوى الامتحان الإلهي أيُّ تغيير.

بل ليس في الآية الكريمة أنَّ داود (ع) كان يعلم بحقيقة الموقف، بطريق الغيب، ولا أنَّه مال إلى جانب المـُدَّعي لمـُجرَّد سماع المرافعة، بل لعلَّه كان يعرفهما عن قريب أو مُطَّلع على حالهما بشكل وآخر.

وإذا كان المفروض لداود في هذه الحادثة وغيرها أن يحكم بعلمه، كما سيحكم الإمام المهدي (ع) أحياناً، إذاً فحكمه صحيح لا غبار عليه، وجائز للقاضي أحياناً، إذاً كان نبيَّاً أو ولياً على الأقل.

ومن هذه الزاوية نعرف دليلاً آخر على واقعية هذه المرافعة، لأنَّها لو كانت صورية لم يكن لوجود العلم بالواقع أي معنى. بل كان الأنسب أن يعلم داود (ع) أنها مرافعة صورية،أو أن يعلم أن الأفضل السير على طبق القاعدة القضائية العامة.وحيث حكم في الواقعة بعلمه،إذاً، فهي حادثة واقعية.

وأما توبته واستغفاره، فهو ناشىء من أحد منشئين:

المنشأ الأول: ما هو الموجود في بعض الأخبار، من أن مؤدى هذه المرافعة، كان مماثلاً لأمر كان يعيشه في حياته،وهو أنه (ع) بالرغم من كثرة زوجاته، طلب من أحد أصحابه أن يطلق زوجته لكي يتزوجها هو،فأراد الله تعالى أن ينبهه على ذلك، فقيض له هذه المرافعة.

إذاً، فاستغفاره لم يكن لأجل التسرع في القضاء،وإنما كان من أجل موقفه الحياتي الخاص.

المنشأ الثاني: أن كلا الأسلوبين القضائيين:أعني طلب البينة،والحكم طبقاً للعلم...كانا جائزين له، فكان (ع) حين يرى اختلاف هذين الأسلوبين في النتيجة أحياناً فإنه يرجح الحكم بعلمه لأنه أوصل إلى الواقع من الطريق الآخر.كما في هذا المورد بالذات.

٥١٣

غير أنَّ متابعة العلم كان هو الأسلوب المرجوح في الشريعة الإلهية؛ لأنَّه يتعذَّر استعماله دائماً ولكل أحد... وكان من الراجح استعمال الأسلوب القضائي العام، وهو طلب البيِّنة دائماً وبلا استثناء، حتى لو كان خاطئاً أحياناً؛ ليستقيم القضاء على وتيرة واحدة عنده وعند غيره من الناس.

إذاً؛ فقد استعمل النبي داود (ع) الأسلوب المرجوح في هذه الواقعة، وعرف بعد ذلك أنَّ هذا كان امتحاناً؛ لأنَّ الحادثة من موارد اختلاف الأسلوبين كما أشرنا، وكان الراجح استعمال الأسلوب الآخر، فخرَّ راكعاً وأناب.

وقد يخطر في البال: أنَّ هذا الأسلوب إذا كان مرجوحاً، فكيف سمعنا من الروايات عمل المهدي (ع) به؟

وجوابه يكون من عدَّة وجوه، تأتي عند التعرُّض لقضاء المهدي (ع)، وأوضحها أنَّ ظروف التمحيص المـُخطَّطة تُجيز للمهدي (ع) ذلك، على أقلِّ تقدير.

فهذا هو قضاء داود (ع)، ولا مجال للتفصيل فيه أكثر من هذا المقدار.

وأمَّا ( قضاء إبراهيم ) و( قضاء آدم ) (ع)، فهو ممَّا لم يرد في التاريخ، إذ لم يُنقَل - حسب اطِّلاعي - أنَّه عرضت عليهما قضايا مُعيَّنة حَكَمَا فيها بأحكام خاصة، وإن كان لا بدَّ أنَّ هذا قد حدث فعلاً؛ لأنَّ البشرية لا تخلو من مخاصمات، غير أنَّه لم يردنا بالتحديد أنواع تلك القضايا ومؤدَّيات الأحكام فيها، غير أنَّ الإمام المهدي (ع) عالم بها، فيُمكنه تطبيقها في مواردها.

قوله: ( إنَّ أصحاب طالوت ابتُلوا بالنهر )، وقصَّتهم مشهورة مذكورة بالقرآن الكريم، لا حاجة إلى تفصيلها، ولكن يحسن بنا عرض فكرة الامتحان الذي مرُّوا به:

إنَّهم حين ساروا بقيادة طالوت مدَّة مُتوجِّهين إلى منطقة العدوِّ، مرُّوا على نهر في طريقهم، وكانوا في أشدِّ التلهُّف إلى الماء هم ودوابهم، فأصدر طالوت القائد قراراً بعدم جواز الشرب من النهر، إلاَّ في حدود غَرفة واحدة من الكفِّ يشربها كل فرد:

( ... قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ... ) (١) .

وكان ردُّ الفعل تجاه هذا التشريع من قِبل الجيش على ثلاثة أقسام:

____________________

(١) البقرة: ٢٤٩

٥١٤

القسم الأول: وهم الأكثرية الكاثرة، الذين أسقطوا هذا الأمر عن نظر الاعتبار، وشربوا من النهر بكثرة وسقوا دوابَّهم، فكان أن عزلهم القائد عن الجيش، ومنعهم من المسير معه، وخرجوا بذلك عن الإيمان، قال الله تعالى:( ... فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ... ) ، وهم غير هذا القسم.

القسم الثاني: وهم الذين أخذوا بالاستثناء في كلام القائد، فشربوا بالمقدار الذي أجازه، واكتفوا بالكفِّ الواحدة عن الكثير.

وقد دلَّ سياق القرآن الكريم على أنَّ هؤلاء هم الذين قالوا عند مواجهة العدو:( ... قَالُوا لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ... ) ؛ باعتبارهم القسم الأضعف إيماناً من الجماعة التي صاحبت القائد من حادثة النهر.

القسم الثالث: وهم الذين لم يشربوا على الإطلاق؛ أخذاً بالحيطة لدينهم، وتقويةً لعزائمهم وإرادتهم؛ ومن هنا لن تُرهبهم كثرة العدوِّ، بل قال:( ... الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) .

فالقسم الأول هو الفاشل في هذا التمحيص، والقسم الثالث هو الناجح بشكل كامل، والقسم الثاني كان ناجحاً في حادثة النهر، ولكن برزت نقطة ضعفه في آخر لحظة عند مواجهة العدوِّ، ففشل في هذا الامتحان الجديد.

وقد يخطر على البال: أنَّ تطبيق هذا الامتحان على أصحاب الإمام المهدي (ع) إنَّما هو باعتبار التمحيص الموجود في التخطيط العام السابق على الظهور، حيث عرفنا انقسام المـُخلصين باعتباره إلى عدَّة أقسام، يكون الخاصة منهم كالقسم الثالث من أصحاب طالوت، وهم الذين حاربوا عدوَّهم وانتصروا عليه، وفي بعض الروايات التي سمعنا إحداها فيما سبق أنَّ عددهم كان أيضاً ثلاثمئة وثلاثة عشر.

فليس هذا الخبر ناظراً إلى التمحيص الذي يمرُّ به أصحاب الإمام المهدي بعد ظهوره، فلا يكون من الأخبار النافعة لنا في هذا الباب.

وجواب ذلك: أنَّ هذا مُحتمَل فعلاً، إلاَّ أنَّ ظاهر الخبر بخلافه، حيث يقول: ( وإنَّ أصحاب القائم (ع) يُبتلون بمثل ذلك )، فإنَّهم لا يكونون أصحابه حقيقة إلاَّ بعد ظهوره وانضمامهم إليه، كما هو واضح.

قوله: ( شِبه عَبَدَة الشمس والقمر )، وهم المـُلحدون والمادِّيون، يدخلون في ( هذا الأمر )، يعني الحق والعدل الذي يُعلنه الإمام المهدي (ع) ويوضِّحه للعالم بكل صراحة.

٥١٥

قوله: ( فيجفلون عنه إجفال الغنم )، أي يهربون ويفرُّون. يُقال: جفل البعير إذا ندّ وشرد، وجفل القوم إذا أسرعوا الهرب(١) .

قوله: ( فلا يبقى منهم إلاَّ الوزير وأحد عشر نقيباً )، الوزير: حَبَأُ الملك الذي يحمل ثقله ويُعينه برأيه وتدبيره(٢) ، وقد كان الوزير في الدول السابقة واحداً توكَل إليه مهمَّات الدولة، وهو بإزاء رئيس الدولة الحديثة.

والوزير أيضاً: المعاون، يُقال: هو وزيره، أي معاونه(٣) .

والنقيب: شاهد القوم وضمينهم وعريفهم.

ونقيب الأشراف: مَن يُنقِّب عن أحوالهم ( إسلامية )(٤) .

ويبدو من سياق الحديث أنَّه بمنزلة الوزير في الدولة الحديثة.

قوله: ( كما بقوا مع موسى بن عمران )... فيه إشارة إلى قوله تعالى:( وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا... ) (٤) الخ الآية.

والآية واضحة في أنَّ هؤلاء النُّقباء أفضل أصحاب موسى (ع)، غير أنَّها لا تدلُّ على أنَّهم نتجوا عن تمحيص سابق فشل فيه غيرهم، كما هو ظاهر الخبر... إلاَّ أنَّ الآية لا تنفي ذلك على أيِّ حال، وقد علمنا من القواعد العامة أنَّ هذه الأهمِّية والعُمق في الإخلاص لا يكون إلاَّ نتيجةً لتمحيص عميق، يمرُّ به المجتمع، فينجح فيه القليل ويفشل فيه الكثير.

الجهة الثالثة: في مُحاولة فَهْم عام لهذه الأخبار:

يدلُّ مجموع هذه الأخبار، على أنَّ أسباب التمحيص ومناشئه عديدة:

المنشأ الأول: ظهور المهدي شابَّاً موفَّقاً، مع أنَّ الناس يحسبونه شيخاً كبيراً.

وقد سبق أن حلَّلنا ذلك، وقلنا: إنَّه إنَّما يحدث في الأوساط البعيدة عن الفكر الديني، وعن التعمُّق... لوضوح أنَّه لا معنى لهذا التوقُّع في المهدي (ع) طبقاً لكلا

____________________

(١) انظر أقرب الموارد.

(٢) ذات المصدر.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) المائدة: ١٢.

٥١٦

الأُطروحتين في فَهْم الفكرة المهدوية ( الإمامية والعامة )... كما سبق أن أوضحنا.

والذي يبدو أنَّ هذا التوقُّع لا تدلُّ على حدوثه إلاَّ هذه الرواية... بينما دلَّت على ظهور المهدي (ع) شابَّاً عدد لا يُستهان به من الروايات، خالية من هذا التوقُّع، وعليه؛ ففكرة هذا التمحيص منوطة بصحَّة هذه الرواية بالذات.

المنشأ الثاني - للتمحيص -: كثرة القتل الذي يقوم به الإمام (ع) في الفترة الأُولى من ظهوره.

وقد سبق أن حلَّلنا لك، وقلنا: إنَّ هذه الحملة تُنتج ردَّ فعل عنيف لدى الجماعات الموجهة ضدَّهم، فيواجهونها بمقدار ما يستطيعون من السوء والإرجاف، وأنَّ من أوضح وأصرح أشكال الإرجاف ضدَّ الإمام المهدي (ع) هو التشكيك بمهدويَّته، (... وليس هذا من آل محمد، لو كان من آل محمد لرحم ).

والمهدي المنتظر لابدَّ أن يكون من آل محمد بإجماع المسلمين، وهذا ليس من آل محمد بإجماع المسلمين، إذاً فليس هو المهدي المنتظر.

والإمام المهدي (ع) بعد أن يكون قد أقام الحجَّة الكاملة على صدقه وعدالة قضيته، فثبت للرأي العام العالمي، باليقين، وأنَّه هو المهدي المنتظر، لا يبقى عنده من جواب على هذه الشبهة، إلاَّ أن يستمرَّ في القتل حتى يستوعب جميع المرجفين.

فهذا التمحيص - إذاً - سيوجب زيادة فشل الفاشلين في التمحيص السابق، وأمَّا المؤمنين بالمهدي، فسوف لن يكون لهم في هذا التمحيص أيُّ اشتراك، بمعنى أنَّهم سيكونون من الناجحين فيه بكل تأكيد.

وكلا هذين المنشأين للتمحيص ممَّا سيحدث قبل استتباب الدولة العالمية؛ ومن هنا لا يكونان مُندرجين في المناهج التربوية العامة التي تُعمِّمها الدولة في سبيل تطوير المجتمع وتقدُّمه نحو الكمال.

وهذان المنشأن معاً من الأسباب العامة للتمحيص، وغير خاصة بأصحاب الإمام المهدي (ع)... وهما من السهولة بالنسبة إليهم، بحيث يُحرز نجاحهم فيهما، بخلاف الامتحانات الآتية، فإنَّها من التعقيد بحيث لا يُحرز فيها هذا النجاح.

المنشأ الثالث: للتمحيص، اتِّخاذ المهدي (ع) لأساليب الأنبياء السابقين في القضاء بين الناس.

إذ يكون ذلك، منشأ للبلبلة والشكِّ في بعض الأوساط من أصحابه، فيقوم الإمام

٥١٧

المهدي (ع) بقتل كل المـُشكِّكين من هذه الناحية، كما سمعنا من الأخبار.

ويحسن أن نتحدَّث عن هذا المنشأ ضمن عدَّة حقول:

الحقل الأول: أنَّ التشكيك بهذه القضية والاحتجاج عليها ناتج عن الغفلة أو التغافل عن أمرين:

الأمر الأول: كون الإمام المهدي أولى بالمؤمنين أنفسهم وأموالهم، تماماً كما كان رسول الله (ص)، كما ثبت بالدليل؛ ومعه فهو يستطيع أن يعمل أيَّ عمل تقتضيه المصلحة، من دون أن تجوز مناقشته.

الأمر الثاني: أنَّ هذه القضية كلها ذات وجوه صحيحة، من وجهة نظر إسلامية وفقهية، كما سوف يأتي.

فإن لم يلتفت الفرد إلى هذين الأمرين، وتناسى - على وجه الخصوص - الحجَّة القطعيَّة التي أقامها الإمام المهدي (ع) على صدقه وعدالة قضيته... لم نستغرب منه أن يستغرب من هذه الأقضية، وإذا سنحت له الفرصة لأن يحتجَّ فإنَّه يبوح باستغرابه واستنكاره.

وقد يكون لهذا الاحتجاج صيغة فقهيَّة، هي أنَّ المهدي يجب عليه أن يُطبِّق القواعد القضائية الاعتيادية، ولكنَّه لم يفعل ذلك.

الحقل الثاني: أنَّنا لو نظرنا إلى الشخص المـُتديِّن الملتزم، نرى موقفه من تمحيص عصر ما قبل الظهور واضحاً إلى حدٍّ كبير، من حيث فهمه التام بأنَّ كل الأوضاع العالمية سياسية واجتماعية واقتصادية، قائمة على الظلم والانحراف، واتِّخاذ موقف الاحتجاج والسلبية تجاه هذه الظروف، أمر واضح عقائدياً لا غبار عليه، إذاً؛ فمن اللازم على هذا المـُتديِّن أن يصمد تجاه التيَّار، وأن ينجح في الامتحان الإلهي.

ولكنَّ هذا الفرد المـُتديِّن المـُلتزم، حين يواجه دولة الحق، وهو خالي الذهن عن احتمالات تصرُّفات المهدي وأقواله... وهو أيضاً قد يكون فجَّ التفكير من ناحية إمكان حمل التصرُّفات المـُلفتة للنظر والتساؤل على وجه صحيح، وليس في تصرُّفات الإمام المهدي (ع) ما يُخالف ذلك.

وهو أيضاً يحمل عن دولة الحق وعن تصرُّفات رئيسه مسبقات ذهنية مُعيَّنة، نتيجةً لثقافته الإسلامية التي تلقَّاها قبل الظهور، إذاً؛ فمن الطبيعي أن يكون له توقُّعات

٥١٨

مُعيَّنة عن سيرة الإمام وقضائه , وخاصة وهو لم يفهم وضوح معنى الحديث القائل: ( إنَّ المهدي يأتي بكتاب جديد، وأمر جديد، و قضاء جديد ).

فمثلاً: يجد هذا الفرد المـُتديِّن أنَّه من الواضح جدَّاً في الإسلام، أن يحكم القاضي طبقاً لقانون البيِّنة واليمين، فسوف يُمْنى بالصدمة العقائدية الشديدة، حين يرى إمامه وقائده يُخالف قواعد القضاء، ويُخالف باعتقاده واضحات الشريعة الإسلامية.

وحيث لا يعرف هذا الفرد وجوه التصحيح، فسوف يحتجُّ انتصاراً لاعتقاده، بل قد يؤول موقفه إلى الشكِّ بصدق المهدي (ع)؛ إذ لو كان هو المهدي المنتظر لكان مُطبِّقاً للشريعة، في حدود ضرورياتها الواضحة على الأقلِّ.

إنَّه من المـُحتمل أن يكون مثل هذا الفرد قد اعتقد بصدق المهدي (ع) مدَّة من الزمن، وقاتل بين يديه وتحت قيادته قتال الأبطال، وشارك بشرف فتح العالم بالعدل، غير أنَّه يجد الآن بعد سماعه قضاء المهدي أنَّه كان مُتوهِّم، وإنَّ أفعاله راحت هدراً، أنَّه لم يكن في حسبانه أنَّ هذا الإمام سيترك العمل بواضحات الشريعة.

وهكذا يبوء هذا الفرد بالفشل في هذا الامتحان الجديد، فيُصبح مُنحرفاً، كان يجب عليه التسليم لإمامه في كلَّما يفعل؛ لأنَّ واضحات الشريعة الشريعة إنَّما تؤخَذ منه لا أنَّها تُفرَض عليه، فاستنكار ذلك يُعدُّ انحرافاً، ولا بقاء للمـُنحرف في دولة العدل؛ ومن هنا يأمر المهدي بقتل كل مَن يحتجُّ على قضائه، وبذلك يذهب جماعة ممَّن ضرب قدَّام المهدي (ع) بالسيف.

الحقل الثالث: يُمكننا أن نُلاحظ في هذه الأقضية عدَّة أمور:

الأمر الأول: أنَّ الاحتجاج عليها خاص بالفقهاء العارفين بالشريعة، ومَن يقرب من مستواهم، وأمَّا عوام الناس فلا معرفة له بصحَّة ذلك أو فساده؛ ومن هنا يكون في المـُحتجِّين مَن كان قد اعتقد بالمهدي، وشارك في الفتح العالمي ممَّن له ثقافة إسلامية واسعة.

الأمر الثاني: أنَّ الرواية لا تدلُّ على انحصار الاحتجاج بأصحاب المهدي، وإنَّما تدلُّ على وجود الاحتجاج في أصحابه بالجملة، بشكل يُناسب أن يكون معهم غيرهم.

الأمر الثالث: أنَّ الرواية لا تدلُّ على كثرة المـُحتجِّين بشكل زائد في كل واقعة، بل لعلَّه عدد قليل.

٥١٩

الأمر الرابع: من المـُستطاع القول: إنَّ هؤلاء المـُحتجِّين من أصحاب الإمام (ع)، ليسوا على الإطلاق من المـُخلصين المـُمحَّصين من الدرجة الأُولى، وإنَّما هم من الدرجة الثانية فما دون.

وهذا واضح من الرواية حين تقول: ( يُنكرها بعض أصحابه، ممَّن قد ضرب قدَّامه بالسيف ).

فإنَّ الذي يُباشر الحرب ويتعرَّض للقتل بشكل رئيسي هو الجندي المـُحارب، دون القائد، وقد سبق أن عرفنا أنَّ الجنود يُمثِّلون الدرجة الثانية، على حين لا يتولَّى الأفراد من الدرجة الأُولى إلاَّ مراكز القيادة.

وأمَّا المـُخلصون من الدرجة الأُولى، ففشل بعضهم في هذا الامتحان، وإن كان مُحتملاً على أيِّ حال، طبقاً لما قلناه من صعوبة هذا التمحيص، إلاَّ أنَّ الصفات الكثيرة التي سمعنا عنهم تنفي ذلك... مثل كونهم لا تأخذهم في الله لومة لائم، وكونهم من خشية الله مُشفقون، وكونهم رُهبان بالليل وفُرسان بالنهار... وغير ذلك من صفاتهم.

فيكون من الراجح عدم فشلهم في هذا التمحيص، واختصاص هذا الفشل بمَن هو أقلُّ منهم إخلاصاً وتمحيصاً.

الأمر الخامس: أنَّ هذه الأقضية لا يعملها المهدي (ع)، إلاَّ بعد انتهاء الفتح العالمي واستتباب الأمن، والبدء بمُباشرة التطبيقات الإسلامية على كافَّة الأمور، بما فيها القضاء.

وهذا واضح من قوله: ( ممَّن ضرب قدَّامه بالسيف... )، الدالِّ على أنَّ الضرب بالسيف، يعني الفتح العالمي يكون قد انتهى، وهذا واضح أيضاً من القرائن العامة؛ إذ لا يكون للمهدي (ع) فرصة الفراغ إلى مثل هذه الأقضية إلاَّ بعد الحرب عادة، وهناك بعض النقاط حول ذلك نوكِلها إلى ذكاء القارئ.

الأمر السادس: أنَّه لا دليل على تتابع هذه الأقضية في أيَّام قليلة، من قِبل المهدي (ع)، والخبر الدالُّ على ذلك وإن أوحى ظاهره بذلك إلاَّ أنَّ (العطف) بـ ( ثُمَّ ) دليل على التراخي والفصل بين قضاء وقضاء بمدَّة كافية، وإن كان المظنون أنَّ مجموع هذه الأقضية لا يستغرق وقتاً طويلاً جدَّاً، بل يكفي فيه العام الواحد تقريباً.

الأمر السابع: أنَّه لا دليل على استمرار سيرة المهدي على العمل بهذه الأقضية، وإنَّما هو يعملها في الفترة الأُولى من مُباشرته للقضاء... ثمَّ يحكم أخيراً بقضاء محمد صلى الله عليه وسلم، ويستمرُّ عليه.

٥٢٠

والمـُعتقَد أنَّ هذا صحيح بالنسبة قضاء آدم وإبراهيم، وأمَّا قضاء داود، فقد دلَّ عدد من الروايات التي سوف تأتي على استمرار المهدي على ذلك، ولا أقلَّ من كونه مُخيَّراً - باستمرار - بينه وبين قواعد القضاء الاعتيادية، وهذا ما سوف نبحثه في محلِّه من هذا الكتاب.

الأمر الثامن: أنَّ أهمَّ ما يبدو للناظر من فوائد هذا التمحيص ما يلي:

أولاً: ربط الدعوة المهدوية بخطِّ الأنبياء ككل، حيث يكون من حقِّ المهدي (ع) أن يقضي بأيِّ أُسلوب قضائي سار عليه نبي من الأنبياء السابقين، لوجود الارتباط العضوي بين حلقات هذا التسلسل العام، المـُنتهي بالمهدي نفسه، وقد أشرنا أنَّه من هذه الجهة، يُلقَّب ببقيَّة الله في الأرض.

وهذا مُبرهَن الصحَّة، كما سبق أن عرفنا، غير أنَّ المهدي (ع) يُقيم الآن دليلاً حسِّياً على ذلك.

ثانياً: إثبات سعة علم المهدي (ع) واطِّلاعه على أساليب القضاء التي كان يتَّخذها الأنبياء السابقون... أعني إقامة رقم حسِّي على ذلك.

ثالثاً: تربية الأُمَّة والبشرية على أساس قبول آراء المهدي وقوانينه وعدله العام بدون مناقشة؛ لأنَّ منها ما يتوقَّف على عدم اطِّلاع الأفراد على أسبابه، بل يجب الأخذ بشكل تعبُّدي محض، وإلاَّ لم يكن سبباً كاملاً للتربية المطلوبة.

ولذا؛ نجد المهدي - كما تدلُّ عليه الرواية - يترك الإعلان عن هويَّة القضاء الذي يقضيه فترة من الزمن ريثما يتعيَّن مَن يقبله ممَّن يرفضه، وبعد أن يتمَّ القضاء على عناصر الاحتجاج والاستنكار، يكون التمحيص قد تمَّ، فتنفتح فرصة واسعة أمام المهدي، للإعلان عن هويَّة هذا الأسلوب القضائي الذي سار عليه أو ذاك، وبعد الإعلان تنتج الفائدتان الأوليتان.

الأمر التاسع: في قابلية هذه الرواية الدالَّة على تعدُّد أساليب قضاء المهدي للإثبات التاريخي، والظاهر أنَّها الرواية الوحيدة الدالَّة على ذلك، في حدود علمنا، فيكون البناء على صدقها وصحَّتها، مُتفرَّعاً على قابليتها للإثبات التاريخي وقابليتها للإثبات مُتفرِّعة على وثاقة رواتها.

هذا، وقد نقلها صاحب البحار عن كتاب الغيبة للسيد علي بن عبد الحميد، وأحال

٥٢١

السند على ذلك الكتاب، فأصبح الرواة مجهولين بالنسبة إلينا، فلا تكون قابلة للإثبات، وإن كانت قريبة من الوجدان على أيِّ حال، بل ضرورية إذا كان هذا الأسلوب من التمحيص، ممَّا تتوقَّف عليه تربية المجتمع في التخطيط الآخر للظهور.

وبهذا يتمُّ الحديث عن المنشأ الثالث للتمحيص.

المنشأ الرابع للتمحيص: اتِّخاذ الإمام المهدي موقفاً جديَّاً تجاه تصرفُّات أصحابه، الذين وزَّعهم حكَّاماً على أقاليم العالم، فإنَّهم بعد توزيعهم هذا سيكونون محلَّ عناية وتركيز ومراقبة من قِبَل القائد المهدي (ع) لكي يكونوا جدِّيين في تطبيق العدل، صارمين في الحق، مُستمرِّين في الحفَّاظ على مستوى المسؤولية العُلْيا التي أُنيطت بهم، وهي مسؤولية ليست سهلة بل هي مُهدِّدة بالزلل والفساد لأقل طمع أو جشع، كما هي مُهدَّدة بالانحراف في التطبيق لأقلِّ نسيان أو خطأ.

ومن هنا ورد عن المهدي (ع) كونه ( شديداً على العمَّال ).

أخرج السيوطي في الحاوي(1) ، وابن طاووس في الملاحم والفتن(2) وغيرهما، عن نعيم بن حمَّاد في كتابه الفتن، بسنده عن طاوس قال - بلفظ السيوطي -:

علامة المهدي أن يكون شديداً على العمَّال، جواداً بالمال، رحيماً بالمساكين.

وبلفظ ابن طاوس: المهدي سمح بالمال، شديد على العمَّال، رحيم بالمساكين.

والعامل في اصطلاح أرباب السياسة: الرئيس، والوالي، ومَن تولَّى إيالةً(3) ، فالعمَّال - في الحديث - هم ولاة المهدي في العالم، ولا يُراد بالعامل مَن يعمل بيده أو في معمل بدليل قوله: رحيماً بالمساكين، فإنَّ العامل بهذا المعنى من المساكين وضعاف الحال، فيكون المهدي رحيماً به لا شديداً عليه.

وإنَّما شدَّته على عمَّاله، أعني الحكَّام الموزَّعين في أقاليم الأرض، من أجل أهمِّيَّة تطبيق العدل، ومراقبتهم لئلا يحصل تسامح أو انحراف فيهم.

____________________

(1) ج2 ص150.

(2) ص137.

(3) انظر القرب الموارد، مادَّة: عمل.

٥٢٢

وهذا ما يؤكِّده - أيضاً - الخبر الذي سمعناه في هذا الفصل عن البحار عن المفضل بن عمرو، حيث نستطيع أن نفهم منه هذا التسلسل الفكري:

أنَّ أصحاب الإمام (ع)، خلال حكمهم على العالم، سيُمارسون نشاطهم الاعتيادي، من خلال ما يعرفونه من أحكام، وما يتوصَّلون إليه من أساليب، وما يتلقُّونه من تعاليم، وما يحتوون عليه من قابليات، ويبقون على ذلك، بُرهةً من الزمن لا تُحدِّدها الرواية.

وهذه الممارسة هي في حقيقتها من أعظم التجارب والتمحيصات المتوجِّهة إليهم، إلى حدٍّ من الممكن القول: بأنَّهم لم يسبق لهم أن عاشوا مثل هذا التمحيص الكبير... بالرغم من مرورهم بالتمحيص السابق على الظهور، وبفترة الفتح العالمي، واجتيازهم كل ذلك بنجاح مُنقطع النظير.

وخلال هذه البُرهة، تبدأ - بالتدريج - نقاط ضعفهم بالظهور، ويتجلَّى اختلاف قابليَّاتهم في الإدارة وتطبيق العدل بشكل واضح، إلى حدٍّ يُصبح العدل العالمي ككل مُعرَّضاً للخطر، لو استمرَّ الوضع على ما هو عليه.

فيأتي ذلك اليوم القريب الذي يجمعهم الإمام المهدي (ع) من أطراف العالم، ويعمل لهم مؤتمراً عاماً، فيُخرج لهم من قبائه كتاباً مختوماً بخاتم من ذهب، عهدٌ معهود من رسول الله (ص) - كما تقول الرواية - فيُطلعهم عليه، والرواية لا تُشير إلى مضمون هذا العهد؛ لأنَّ التصريح به فوق مستوى الذهنية العامة لعصر صدور النص، إلاَّ أنَّه من المؤكَّد أنَّه سوف يكون مُضاعفاً للمسؤولية عليهم، مؤكِّداً لهم وجوب الالتزام بالعدل بشكل دقيق لا تسامح فيه، وبذلك تُصبح نقاط ضعفهم التي مارسوها خلال نشاطهم العالمي، واضحةً للعيان.

تقول الرواية: فيجفلون عنه إجفال النعم... يهربون عنه ولا يقبلون بمضمون هذا العهد، وبذلك يفشلون في هذا التمحيص فشلاً ذريعاً، بالرغم من أنَّهم نجحوا في كل التمحصيات السابقة.

وسيكون الفاشلون أكثر أصحابه خاصة؛ إذ لا يبقى منهم إلاَّ اثني عشر نفر منهم، يتَّخذون جانب طاعة الإمام المهدي والالتزام بعهوده وتعاليمه، فيكون العصاة عليه ثلاثمئة شخص وواحد، وهم الباقي بعد الطرح اثني عشر من ثلاثمئة وثلاثة عشر.

وليتهم إذ يهربون منه، يكتفون بترك المجتمع، أو الانصراف إلى العبادة، أو الأعمال الخيرية الصغيرة، لكنَّهم يجولون في الأرض طلباً للناصرين لهم والمدافعين عنهم.

٥٢٣

ليكونوا جبهة معارضة ضدَّ الإمام (ع)، أو بما ينوون مُناجزته القتال إذا استطاعوا.

ولكنَّهم سيفشلون في مُهمَّتهم فَشَلاً ذريعاً؛ لأنَّ عدل المهدي وهيبته وصحَّة عقيدته وقانونه، يكون قد سبقهم إلى كل القلوب والعقول، فلم يبقَ في العالم أحد إلاَّ تابع المهدي إيماناً أو خوفاً أو طمعاً، تماماً كما نطقت به بعض الأخبار، فيتفرَّق عنهم الناس، بعد أن يعرفوا مقاصدهم المـُنحرفة، ولا يستطيع هؤلاء أن يجدوا في البشرية مؤيِّداً ولا ناصراً.

وتمضي خلال ذلك مدَّة، يُقرِّرون في نهايتها الرجوع إلى المهدي للاعتذار منه، وتخليص أنفسهم من عقوبته، ولكن هيهات ولات حين مناص بعد الفشل الذريع، إنَّهم الآن مُستحقُّون للقتل في منطق الدولة المهدوية، ومن هنا سيواجههم الإمام القائد بكلام مُعيَّن، يأبى الحديث الشريف عن التصريح بمضمونه، تكون نتيجته أنَّ هؤلاء الناس يكفرون بالمهدي يعني يُنكرون مهدويَّته وصدقه، ولا بدَّ أنَّه عندئذ يأمر بقتلهم جميعاً.

وإلى هنا تنتهي الحادثة التي يُعرب عنها هذا الحديث، وهو أمر مُحتمل تماماً، بحسب ما أعطيناها من الفهم العام للدولة المهدوية وللتمحيصات العامة، وخاصة تلك التي تكون في التخطيط اللاحق للظهور.

وعلى أيِّ حال، فلن ينجو من الفشل في هذا التمحيص إلاَّ اثني عشر فرداً، يبدو أنَّهم يُمثِّلون الحكومة المركزية في العالم، أعني أنَّهم كانوا يعملون إلى جانب الإمام المهدي نفسه، وليسوا مُتفرِّقين في العالم، وذلك بمُرجِّحين:

المرجِّح الأول: أنَّ فيهم الوزير حيث تقول الرواية: الوزير وأحد عشر نقيباً.

والوزير يعمل إلى جنب الملك أو الرئيس عادة، وهو في الدولة القديمة بمنزلة رئيس الوزراء في الدولة الحديثة، كما عرفنا.

المرجِّح الثاني: إنَّ هؤلاء النفر القليل - أفضل في الإخلاص وقوَّة الإرادة أساساً - من أولئك المرتدِّين العديدين، بدليل نجاحهم وفشل أولئك، والنجاح لا ينتج إلاَّ من عمق الإيمان.

ومن الطبيعي أن نفترض أنَّ المهدي - من أول الأمر - يختار حكومته المركزية من أفضل هؤلاء الثلاثمئة والثلاثة عشر، فيستبقي عنده اثني عشر منهم، ويُفرِّق الباقي في البلدان، فيكون هؤلاء الاثنا عشر أفضل من الجميع، فيتيسَّر لهم النجاح في هذا

٥٢٤

التمحيص. وهم باعتبار قربهم من قائدهم، ومركزية وجودهم يكونون أكثر استيعاباً وفَهْماً لموقف المهدي وآرائه، وللمصالح العالمية ككل؛ ومن هنا يكونون أقرب للنجاح في التمحيص من هذه الجهة.

هذا، ولكنَّ هذه الرواية الدالة على هذا التمحيص لا تخلو من بعض المناقشات:

المـُناقشة الأُولى: إنَّ هذا الحديث الشريف وحده غير كافٍ في الإثبات التاريخي، بحسب الموازين التي اتبعناها في هذا البحث التاريخي.

والقرائن العامة التي فهمناها وضممناها إليه... وإن كانت مؤيِّدة لمضمونه، إلاَّ أنَّها في الحقيقة، تؤيِّد إمكان وقوع ذلك، لا أنَّها تؤيِّد إثبات الوقوع، وفرق كبير ما بين هذين الأمرين.

المناقشة الثانية: إنَّنا لو غضضنا النظر عن الأسلوب الإعجازي، الذي عرفنا أن الدعوة الإلهية لا تقوم عليه على طول الخطِّ... فإنَّنا يمكن أن نقول: إنَّ ارتداد هؤلاء لا يُشكِّل نقصاً ذريعاً في المؤهَّلين لإدارة العالم، فإن كان هؤلاء الذين تمخَّض عنهم تاريخ البشرية في خطِّها الطويل، لأجل نصرة الإمام المهدي طبقاً لتخطيط ما قبل الظهور، إن كان هؤلاء لم يستطيعوا الاستقامة، ولم تثبت أهليَّتهم الكاملة لمـُمارسة الحُكم، فمن أين يأتي الإمام بغيرهم في تلك العجالة، ولمَّا يمرُّ بعدُ على البشرية زمان كافٍ للتربية والتكامل، بحيث يكون الحكَّام الجُدد أفضل بدرجات كبيرة وواضحة من هؤلاء المـُخلصين والمـُمحَّصين، إنَّ ذلك – بعد إسقاط الأسلوب الإعجازي عن النظر - أمر في غاية البُعد، فإذا التفتنا إلى سياق الحديث، نشعر بأنَّهم سوف لن يُمارسوا الحُكم في الدولة المهدوية طويلاً، بل قد لا يعدو حكمهم عدَّة أشهُر، هذا ما تعضده القرائن، فإنَّ انكشاف نقاط ضعف تكفي فيه هذه المدَّة بشكل واضح، فالمدَّة كافية لفشل هؤلاء، ولكنَّها غير كافية لإيجاد بديل أفضل منهم، يسدُّ الفراغ الكبير الذي سوف يُحدثه ارتدادهم.

وحيث ينعدم البديل، يستبعد زوال هؤلاء عن كراسي الحُكم؛ لأنَّه سوف يؤدِّي إلى الإخلال بالدولة العالمية وأهدافها الكبيرة.

المناقشة الثالثة: إنَّ الإمام المهدي يُقيم الحجَّة على صدقه لأول مرَّة، عند

٥٢٥

ظهوره لخاصة أصحابه الذين يُبايعونه في المسجد الحرام، ويرافقونه إلى العراق، وهؤلاء هم الذين يفترض بهم أن يكفروا به بعد هذا الزمن المـُتطاول والجهاد المـُتواصل... بعد أن أضحت الحجَّة على صدق المهدي (ع) مُعلنة على البشر أجمعين، وواضحة لكل فرد وضوح الشمس، وقد شارك هؤلاء أنفسهم في إعلانها وترسيخها في المجتمع، على أوسع نطاق.

وإنَّ أهمَّ حجَّة على الإطلاق يمكن للمهدي (ع) أن يُقيمها هو فتحه للعالم كله، وتطبيقه للعدل فيه، فإنَّنا لا نعني بالمهدي إلاَّ الشخص الذي يعمل هذا العمل ويؤسِّس هذه النتيجة الكبرى، بإجماع علماء المسلمين، بل بإجماع أهل الأديان.

وإنَّ أيَّ تشكيك يمكن أن يرجف به المرجفون في المعجزات الوقتية، التي يُقيمها المهدي (ع) كحجَّة على صدقه، كالذي قيل ضدَّ بني الإسلام (ص): بأنَّه كاهن، أو ساحر. غير أنَّ الفتح العالمي واستتباب الدولة العالمية، دليل لا يمكن أن يرقى إليه شكٌّ.

وإنَّ أهمَّ مَن يعرف ذلك ويفهمه بعمق من البشر المعاصرين لذلك العهد، هم هؤلاء الخاصة المـُخلصين المـُمحَّصون، فكيف يمكن أن نتصوَّر منهم أنَّهم يكفرون به ويرتدُّون عن الإيمان بمهدويَّته؟!

المناقشة الرابعة: إنَّنا سبق أن ذكرنا في تاريخ الغيبة الكبرى(1) أنَّ احتجاب الإمام المهدي (ع) خلال غيبته الكبرى، مهما كان دقيقاً شاملاً، إلاَّ أنَّ الفرد إذا وصل في تربيته وتمحيصه إلى درجة مُعيَّنة عالية من الإيمان، فأصبح له من المـُخلصين الكاملين، كان له أن يرى الإمام، ولا دليل على أنَّه (ع) يحتجب عن مثل هذا المستوى الرفيع من المؤمنين.

وهناك من الأخبار ما يدلُّ على مرافقة المهدي (ع) لجماعة من الناس، مع معرفتهم بحقيقة الغيبة الكبرى، وأنَّ عدداً من الناس ممَّن كانوا يُشاهدونه خلال ذلك، كانوا يعرفونه حين يُصادفونه بعد ذلك.

إذاً؛ فهؤلاء المـُخلصون المـُعاصرون للظهور، كانوا يعرفون الإمام المهدي (ع) خلال غيبته، وربَّما كان بعضهم مُتَّصلاً به ومعاشراً له، فمثل هؤلاء يكونون مُطَّلعين على حقيقة المهدي (ع) منذ غيبته، وقد سمعنا غير بعيد، احتمال أنَّ الإمام (ع) يخصُّهم خلال ذلك بالتعاليم التي تؤهِّلهم لتولِّي مسؤولياتهم الجسيمة بعد الظهور.

____________________

(1) انظر ص150 وما بعدها إلى عدَّة صفحات.

٥٢٦

إذاً؛ فهؤلاء الخاصة على يقين بأنَّ هذا الشخص بعينه هو المهدي المـُنتظر منذ غيبته، فضلاً عن عصر ظهوره؛ ومعه فمن غير المـُحتمل أن يخطر على بالهم التشكيك بمهدويَّته.

ومع وجود هذه المناقشات وغيرها، يُكمننا أن نطمئنَّ تماماً على استقامة هؤلاء الخاصة خلال مُمارستهم الحُكم والقضاء في دولة العدل العالمية، وخاصَّة بعد أن عرفنا أنَّ أسلوب الإمام القائد (ع)، هو تعاهدهم بالتوجيه والرعاية والإصلاح.

ومعه؛ لا يكون مضمون هذا الخبر الدال على ارتدادهم، قابلاً للإثبات التاريخي.

الجهة الرابعة: في تمحيص الإمام المهدي (ع) للأُمَّة ككل.

والأُمَّة الإسلامية تُشكِّل يومئذ أكثرية البشر، إن لم يكن جميعها، والدولة الإسلامية المهدوية مُسيطرة على العالم كله بطبيعة الحال.

والفرد الاعتيادي فيها يواجه عدَّة مستويات من التمحيص، بحسب ما يُدركه الباحث على الظهور.

المستوى الأول: التمحيص تجاه عواطف الفرد وغرائزه وشهواته.

فإنَّ الإنسان خلال الحُكم العادل، لا يتحوَّل عمَّا خُلق عليه من الميول والغرائز، وما رُكِّب فيه من الشهوات، بل يبقى إنساناً بماله من عقل وفكر، وغرائز وميول، وقصارى ما يُقدِّمه التشريع العادل، هو أن يُنظِّم له متطلَّبات هذه الجهات، بحيث يضمن له التوازن بينها أولاً، والتكامل المـُستمرَّ ثانياً.

كما أنَّ قصارى ما تُقدِّمه الدولة العادلة، هو أن تفتح له فرص هذا التوازن والتكامل على مصراعيها، اجتماعياً واقتصادياً، ونفسياً وفكرياً.

وأمَّا الأخذ بزمام المبادرة إلى التحكُّم في الغرائز المنطلقة وكبح جماحها، وتطبيق مفاهيم الفضيلة والعدل عليها، أو تطبيقها على هذه المفاهيم... فهو موكول إلى الفرد نفسه على طول الخطِّ، بحسب منطق الدعوة الإلهية، لا يختلف ما قبل الظهور عمَّا بعده في ذلك.

إذاً؛ فالفرد يواجه هذه المسؤولية على طول الخطِّ، وهي تُشكِّل تمحيصاً مُهمَّاً بالنسبة إليه، حيث تُقاس تصرُّفاته وردود فعله، تجاه مُتطلَّبات عواطفه وشهواته المـُنحرفة! فبمقدار ما يمكنه أن يُطبِّق عليها المنهج العادل في التوازن والتكامل، يكون ناجحاً في التمحيص، ومهما قصر في ذلك استطاعت شهواته السيطرة على سلوكه وتفكيره، وأعاقت سيره نحو الكمال، كان فاشلاً في التمحيص.

٥٢٧

المستوى الثاني: المـُشاركة في تطبيق العدل الكامل.

فإنَّ العدل الكامل يتوقَّف على تجاوب وتعاطف بين الدولة والأفراد من ناحية، وبين الأفراد أنفسهم من ناحية أخرى، وعلى إطاعة كاملة وتطبيق حقيقي للتشريع العادل، على كل المستويات؛ لكي يكون لكل فرد في الدولة والمجتمع شرف المشاركة في إنجاح التجربة العادلة الكبرى، وفي جعل البشرية جمعاء في طريق التكامل الحقيقي والسعادة الكاملة، التي يهدف إليها تخطيط ما بعد الظهور.

وإنَّ أيَّ تقصير أو تخلُّف - مهما كان بسيطاً - سوف يكون عاملاً عكسياً هدَّاماً في هذا التخطيط المـُقدَّس، وهذا الهدف العظيم، ويُعتبر انحرافاً مُهمَّاً، وفشلاً ذريعاً في التمحيص، قال الله تعالى:

( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) (1) .

إذاً؛ فالكفر والتمرُّد على مُتطلَّبات العدل بعد تنفيذ هذا الوعد وإقامة الدولة العالمية العادلة، أمر يُمثِّل أقصى الخسَّة والانحطاط.

والدولة - بطبيعة الحال - تُساعد بكل اهتمام، في إيجاد الظروف الملائمة لتطبيق هذه المسؤوليات، على ما سنسمع في الفصل الآتي الخاص بأسلوب تربية الأُمَّة.

وفي مثل ذلك، يكون الأخذ بزمام المـُبادرة إلى الطاعة وتطبيق العدل، من قِبَل الفرد سهلاً إلى حدٍّ كبير؛ ومن هنا تكون بوادر الانحراف والتمرُّد على هذه المسؤوليات من أعظم الجرائم وأكبرها، ولا يكون العقاب بالقتل عقاباً مُجحفاً.

المستوى الثالث: التسليم بكل ما يقوم به الإمام المهدي (ع) من أفعال وأقوال، والاعتقاد بكونه هو الحق الصحيح، وعدم الاستماع إلى الإرجاف الذي قد يحصل حول ذلك، مهما كان فعله (ع) مُلفتاً للنظر وغير معروف المصلحة؛ لأنَّ هذا التسليم هو الذي يُمكِّن المهدي (ع) من تربية الأُمَّة والبشرية تربية كاملة

____________________

(1) النور / 55.

٥٢٨

ومُستمرَّة، ووضع الأُسس التربوية التي يتبعها الحكَّام العالميون، الذين يُمارسون الحُكم بعده، بعد وضوح أنَّه هو الشخص الوحيد المـُسدَّد من قِبَل الحكيم المطلق تعالى، في معرفة الحقائق والمصالح والأحكام.

والأخبار التي رويناها في الجهة الأُولى من هذا الفصل، حين تتعرَّض إلى صور التمحيص، يمكننا فهمها على أساس هذه المستويات الثلاثة.

فأخبار قضاء الإمام المهدي (ع) بأساليب الأنبياء السابقين، تتعرَّض إلى التمحيص، على الأساس الثالث، لوجوب التسليم بالقضاء الذي يتَّخذه المهدي (ع) على كل تقدير.

وكذلك هؤلاء الخاصة الذين يجفلون عنه إجفال النعم - لو تمَّ الخبر - فإنَّهم نجحوا في التمحيص بالمستويين ( الأول والثاني )، وفشلوا في المستوى الثالث، وقد عرفنا تفصيله.

أمَّا امتحان أصحاب طالوت، وتطبيقها على أصحاب الإمام المهدي (ع)، فإنَّ القسم الأول منهم إن كانوا نجحوا بالمستوى الأول، فإنَّهم فشلوا في المستوى الثاني والثالث، فإنَّه كان اللازم الالتزام بكلام قائدهم بدون مناقشة للوصول إلى الخير والسعادة، بل إنَّهم لم ينجحوا حتى في المستوى الأول؛ لأنَّهم قدَّموا مصالحهم الحياتية على تطبيق التشريع العادل.

وأمَّا القسم الثالث من أصحابه، فقد نجحوا نجاحاً كاملاً في كل المستويات، فأصبحوا من الخاصة المؤمنين، الذين نصر الله تعالى بهم دعوته العامة.

وكذلك سيمرُّ أصحاب الإمام (ع) بالتمحيص، وستتعدَّد مستويات النجاح بالنسبة إليهم، مع فرق مُهمٍّ بينهم وبين أصحاب طالوت في فَهْم المستوى الثاني للتمحيص، فإنَّ أصحاب الإمام يتحمَّلون مسؤولية تطبيق العدل المطلق، وأصحاب طالوت يتحمَّلون مسؤولية تطبيق مرحلة من العدل، تُناسب المستوى الذي عاصروه من تطوُّر البشرية.

ولن يكون الامتحان الذي يمرُّ به أصحاب الإمام تماماً كذلك الامتحان بكل

٥٢٩

حوادثه، وإنَّما تُشير الرواية إلى وجود تمحيصات لهم، لم تُشِرْ إلى هويَّتها، وإنَّما مثَّلت لها تمثيلاً، وقد شرحتها الروايات الأخرى بوضوح.

وأمَّا قوله في الحديث الآخر: ( إذا خرج القائم، خرج من هذا الأمر مَن كان يرى أنَّه من أهله، ودخل فيه شِبه عَبدة الشمس والقمر... )، فهو بالرغم من كونه خبراً مُرسلاً لا يصلح للإثبات، غير أنَّنا لو لاحظناه على ضوء مجموع الفَهم الذي أعطيناه لتمحيص الأُمَّة، يُصبح فَهمه أمراً طبيعياً وسهلاً، بل يمكن الوثوق بصحَّة الحديث، على ضوء هذه القرائن العامة.

فإنَّ ذلك يُعتبر من النتائج الرئيسية للتمحيصات السارية المفعول في تخطيط ما بعد الظهور، فبينما يكون جماعة من المـُتديِّنين بالحق، نجدهم يخرجون من عقيدتهم وينحرفون انحرافاً شنيعاً... بينما نرى قوماً آخرين ربَّما يكونون أكثر عدداً وأكبر عدَّة، يكون واقعهم قائماً على الإلحاد والمادِّية أو التسيُّب واللا مُبالاة، ( شِبه عبدة الشمس والقمر ) يؤمنون بالمهدي (ع) ويحسن إيمانهم؛ نتيجةً لوضوح الحجَّة التي يُعلنها (ع)، وجمال العدل والسعادة التي تعمُّ دولته العالمية، وإذا كان المادِّيون، وهم أبعد الناس في تسلسل الفكر الاعتقادي لدى البشر عن الإسلام، يُصبحون مُسارعين إلى الإيمان، فكيف بالآخرين من ذوي الأديان السماوية وغيرهم، ممَّن هم أقرب في تسلسل الفكر الاعتقادي إلى الإسلام، نتيجةً لاعتقادهم بالخالق الحكيم وإنكارهم للمادِّية المـُطلقة، وسنذكر في الباب التالي من هذا الكتاب، الفرص الكبرى التي تنفتح لأهل الكتاب من اليهود والنصارى للدخول في دين الله أفواجاً.

وأودُّ في هذا الصدد، أن يُفرِّق القارئ، بين سيطرة الإمام المهدي (ع) على العالم، وبين دخول الناس في عقيدته، فإنَّ هذه التمحيصات إنَّما تؤثِّر في زيادة الإيمان ونقصه، بعد استتباب الدولة العالمية، ولا ربط لها بتأسيس هذه الدولة.

٥٣٠

الفصل السادس

أُسلوب الإمام المهدي (ع) في تربية الأُمَّة

تمهيد:

ينبغي في هذا الفصل أن نأخذ بنظر الاعتبار نقطتين رئيسيتين:

النقطة الأُولى: إنَّ بحثنا عن أُسلوب الإمام (ع) في تربية الأُمَّة، سوف يكون بحثاً إجمالياً بعد تعذُّر الاطِّلاع على التفصيل؛ لأنَّ ذلك يقتضي الاطِّلاع الكامل على عُمق الوعي الذي ينشره الإمام (ع) في ربوع البشرية، ليمكننا أن نرى أصحَّ الطرق وأسهل الأساليب التي يتَّخذها (ع) في هذا الصدد، فيبقى تفصيل ذلك مؤجَّلاً إلى عصر الظهور.

ومن هنا؛ سوف نقتصر بالضرورة، على ما تُدركه أذهاننا من عناوين عامة، وأساليب مفهومة، مطابقة للقواعد العامة المـُبرهنة الصحَّة في الإسلام.

النقطة الثانية: إنَّ هذا البحث، بالرغم من إجماله، سوف لن يعدم المصادر للاطِّلاع على بعض الخصائص من هذه الناحية، تلك المصادر التي اتبعناها في كل هذا التاريخ، وهي القواعد العامة في الإسلام والأخبار الواردة بالخصوص، ممَّا يمكن أن يُلقي ضوءاً على محلِّ الكلام، وسنرى هنا أنَّ في هذين المصدرين غناء وعطاء سخياً.

وسنتحدَّث في هذا الفصل عن جهتين:

إحداهما: في الأساليب العامة المـُتَّخذة لتربية الأُمَّة في عهد الظهور.

والأخرى: في نتائج هذه التربية، أو ما يمكن أن يصل إليه المستوى الثقافي والإيماني للأُمَّة الإسلامية، نتيجةً للتربية المهدوية.

الجهة الأُولى: في الأساليب العامة المـُتَّخذة لتربية الأُمَّة في عصر الظهور، ويكون في الإمكان أن نُدرك تلك الأساليب، لو استطعنا أن نحمل فكرةً واضحةً عن

٥٣١

دواعي الانحراف وموجباته في المجتمع المـُنحرف فيما قبل الظهور.

وتتلخَّص تلك الدواعي - بشكل عام - فيما يلي:

أولاً: التثقيف المـُنحرف الموجَّه من قِبَل الدولة للأجيال الصاعدة، في المدارس والمعاهد ووسائل الإعلام بشكل عام.

ثانياً: الضغط الموجَّه من قِبَل الدولة، لإطاعة وتطبيق القوانين الوضعية المـُخالفة للعدل الإسلامي.

ثالثاً: الحاجة المالية عموماً، والتنافس المالي خاصة، الذي يدعو الفرد إلى ارتكاب كل الأساليب في الحصول على المال، سواء في الصناعة أم التجارة أم خدمة الدولة أم غيرها.

رابعاً: التنافس الاجتماعي في توسيع السكن، وتجميل الثياب، وتحسين وجبات الطعام، والحصول على الآلات الحديثة المـُوفِّرة للراحة، والرافعة من شأن صاحبها نتيجةً لهذا التنافس.

خامساً: الإغراء الجنسي، على مُختلف مستوياته وأشكاله.

وتتداخل هذه الأسباب وتتشعَّب، فيشعر الفرد المعاصر - بكل وضوح - بأنَّ السير في اتجاهها هو الأصلح له، والذي يوفِّر له قسطاً من الراحة والهناء؛ ومن هنا يندفع تلقائياً إلى التكيف طبقاً لمـُتطلَّباتها، فيُعطيها من جانبه المعنوي والخلقي ومن راحته وهناءة نفسه الشيء الكثير.

ومن هذا المنطلق يحدث التغيير، إذ يشعر الفرد بالراحة والهناء، بدون وجود أسباب الانحراف ليتوفَّر له فرصة الهداية والسير نحو العدل والحق.

ومن هنا نستطيع أن نتبيَّن - بوضوح - الأسلوب الرئيسي الجديد لتربية الأُمَّة، ضمن النقاط التالية، كل واحدة بإزاء أحد الدواعي السابقة.

النقطة الأُولى: إنَّ التثقيف الخاص والعام، يُصبح موجَّهاً نحو طاعة الله وعبادته، في كل حقولها ومستوياتها، والخلق الرفيع، وذلك عن طريق كل ألسنة المهدوية... ابتداءً بالتوجيهات العُلْيا الصادرة من الإمام (ع) نفسه، وانتهاءً بأجهزة الإعلام، كالإذاعة والتلفزيون والصُّحف، وكذلك المناهج التربوية في المدارس والمعاهد العلمية في كل العالم.

٥٣٢

النقطة الثانية: إنَّ الضغط بدل أن يكون موجَّهاً نحو تطبيق القانون المـُنحرف، سيكون موجَّهاً ضدَّه، وسيستأصل كل مُنحرف وفاشل في التمحيص الإلهي، كما رأينا وسمعنا، وبذلك تنقطع الأرضية العامَّة لنموِّ الفساد انقطاعاً كاملاً، ويُطبَّق القانون العادل الكامل تطبيقاً كاملاً.

النقطة الثالثة: إنَّ التنافس سوف يكون موجَّهاً ومركَّزاً نحو الخير والصلاح، طبقاً للمفاهيم والقوانين العامة، التي تُصبح سائدة في ذلك العصر.

النقطة الرابعة: إنَّ الحاجة المالية، وهي من أعظم أُسس الجريمة في العالم اليوم، سوف ترتفع تماماً بعد الذي سنسمعه في الفصل الآتي، من توفير المهدي للمال وفرةً كبيرة جدَّاً، يرتفع فيه الدخل لكل أحد، ارتفاعاً كبيراً، وتتوفَّر فرصة العمل لكل الأفراد توفُّراً حقيقياً بشكل متساوي، على ما سنسمع أيضاً.

النقطة الخامسة: إنَّ الإغراء الجنسي المـُنحرف ينعدم بالمرَّة، بعد تطبيق الأحكام الإسلامية في تنظيم العلاقة بين الجنسين؛ إذ بعد بناء النفوس والأفكار بناءً صالحاً عن طريق التثقيف العام والخاص، سوف تتمثَّل هذه العلاقة على أرفع صورها وأعدل أشكالها.

ومع اجتماع هذه النقاط، سوف يصدر الفرد عن قناعة وإخلاص، إلى ضرورة إقامته للخير والسلوك العادل، ومواكبة الأطروحة العادلة الكاملة، التي يدعو إليها المهدي (ع) ويُطبِّقها.

وسيشعر الفرد بوضوح: أنَّ السلوك الشرِّير على خلاف مصلحته الخاصة والعامة، على طول الخطِّ وفضلاً عن كونه خروجاً عن الخط العبادي لله عز وجل، ومستوجباً للعقاب في الدنيا والآخرة.

فهذا موجز عن الظروف التي توفِّرها دولة الإمام المهدي (ع) للصلاح والإيمان، وبالتالي: العدل... بغضِّ النظر عن تفاصيل المفاهيم التي يُعلنها في المجتمع... تلك المفاهيم والظروف التي تؤدِّي إلى النتائج الكبرى التي نُحاول أن نحمل عنها صورة واضحة في الجهة الآتية.

الجهة الثانية: في نتائج التربية الإسلامية في دولة المهدي (ع)، وما يمكن لأن يصل إليه المستوى الثقافي والإيماني في المجتمع، بشكل عام.

ونحن تارةً نُحاول أن نتناول ذلك من زاوية القواعد العامة التي عرفناها، أعني من

٥٣٣

حيث الارتباط بالتخطيط الإلهي العام لهداية البشرية، وأخرى من حيث الاعتماد على الأخبار الواردة بهذا الصدد، ممَّا يمكن جعله منطلقاً إلى معرفة خصائص المستوى الثقافي والإيماني للناس، فيما بعد الظهور.

وأمَّا إذا نظرنا من زاوية التخطيط الإلهي العام، فمن مُكرَّر القول أن نؤكِّد على أنَّ النتيجة الأُولى التي تحدث باستتباب الحكم للمهدي (ع) في العالم، هو تطبيق ما سمَّيناه بـ ( الأُطروحة العادلة الكاملة ) من الناحية القانونية، وأنَّ النتيجة الكبرى والنهائية التي تحدث نتيجةً للخطِّ التربوي الطويل الذي يتَّخذه الإمام المهدي (ع) في دولته، هو الهدف الإلهي نفسه من خلق البشرية، ذلك الهدف الذي أعرب عنه قوله تعالى:( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) (1) ، وهو وجود المجتمع العادل في أفراده و( المعصوم ) في رأيه العام... بل المجتمع المعصوم في أفراده أيضاً في نهاية المطاف، وسيأتي البرهان الكامل عليه في الكتاب الآتي من هذه الموسوعة.

وأمَّا إذا نظرنا من زاوية الأخبار الواردة في هذا الصدد، فنجد أمثلة مُتفرِّقة تُعطينا صوراً كافية عن السلوك الصالح والمستوى الثقافي والإيماني، الذي يصله الأفراد بعد استتباب دولة المهدي (ع).

فمن ناحية الأخَّوة في الهدف المـُشترك، والتصافي بين أفراد المجتمع، نسمع الأخبار التالية:

فمن ذلك: ما أخرجه السيوطي في الحاوي(2) ، عن نعيم بن حمَّاد، وأبو نعيم من طريق مكحول عن علي قال: ( يا رسول الله، أمِنَّا آل محمد المهدي أم من غيرنا؟ ).

فقال: ( لا، بل منَّا، يختم الله به الدين كما فُتح بنا، وبنا يؤلِّف الله قلوبهم بعد عداوة الفتنة، إخواناً في دينهم ).

أقول: وهذا حديث مشهور أوردته الكثير من مصادر الفريقين.

وأخرج مسلم(3) ، عن أبي هريرة في حديث عن النبي (ص) أنَّه قال: ( لتذهبنَّ الشحناء والتباغض ).

____________________

(1) الذاريات: 56.

(2) ج2 ص129.

(3) ج1 ص94.

٥٣٤

وأخرج النعماني(1) ، بسنده عن عميرة بنت نفيل، قالت:

سمعت الحسن ( الحسين ) بن علي (ع) يقول: ( لا يكون الأمر الذي تنظرون، حتى يبرأ بعضكم من بعض، ويتفل بعضكم في وجوه بعض، فيشهد بعضكم على بعض بالكفر، ويلعن بعضكم بعضاً! ).

فقلت له: ما في ذلك الزمان من خير!

فقال الحسين (ع): ( الخير كله في ذلك الزمان، يقوم قائمنا ويدفع ذلك كله ).

وأخرج المجلسي(2) في البحار، بإسناده عن بريد العجلي، قال: قيل لأبي جعفر (ع): إنَّ أصحابنا في الكوفة جماعة كثيرة، فلو أمرتهم أطاعوك واتَّبعوك.

فقال: ( يجيء أحدهم إلى كيس أخيه فيأخذ منه حاجته؟! ).

فقال: لا.

فقال: ( هم بدمائهم أبخل!... ).

ثمَّ قال: ( إنَّ الناس في هُدنة، نُناكحهم ونوارثهم ونُقيم عليهم الحدود ونؤدِّي أماناتهم، حتى إذا قام القائم جاءت المـُزايلة، ويأتي الرجل إلى كيس أخيه فيأخذ حاجته ولا يمنعه ).

أقول: المـُزايلة هي المـُفارقة والمـُباينة بين أهل الحق وأهل الباطل، والكيس المراد به محلُّ حفظ النقود.

وهذه الصورة كافية لأن نستشفَّ من خلالها حياة الأخوَّة التي يبذرها الإمام القائد في مجتمعه العادل، لو أخذنا بنظر الاعتبار أنَّها أخبار قيلت طبقاً لفَهْم المجتمع الذي صدرت فيه.

فحسبنا أن نتصوَّر الأُخوَّة التي استطاع رسول الله (ص) أن يبذرها في صحابته، تلك الأُخوَّة الخالصة المبنيَّة على العقيدة والهدف المشترك، لكي نتصوَّر أنَّ الإمام المهدي (ع) يُقيم مجتمعه على نفس المستوى الذي أقام النبي (ص) مجتمعه عليه، طبقاً لما سمعناه عن رسول الله (ص) في الخبر: ( وبنا يُصبحون بعد عداوة الفتنة إخواناً، كما أصبحوا بعد عداوة الشرك إخواناً في دينهم ).

ولا يخفانا لُطْف المـُقايسة في هذا الخبر، بين عصر الجاهلية وما استتبعه من (عداوة الشرك )،

____________________

(1) ص109.

(2) ج13 ص195 - 196.

٥٣٥

وعصر الغيبة وما يستتبعه من (عداوة الفتنة) إلى جانب المقايسة بين عصر النبي كرافع لعداوة الشرك، وعصر المهدي (ع) كمزيل لعداوة الفتنة، وما حدث ويحدث في هذين العصرين من أُخوَّة ووفاق.

كما أنَّ حسبنا أن نتصوَّر مستوى الأُخوَّة العظيم، المـُقترن بالمفهوم الصحيح، وهو أنَّ لأخيك في الإيمان حقَّاً في مالك متى احتاج إليه، يُصبح أيُّ فرد مسروراً إذا امتدَّت يد أخيه المحتاج إلى كيسه أو محفظته ليأخذ مقدار حاجته، تلك الأُخوَّة التي يمكن بها فتح العالم، وتأسيس دولة العدل العالمية، ولئن كانت هذه الأُخوَّة في أول عهد الظهور محصورة بين الخاصة المـُمحَّصين، فستكون بعد قليل هي الصفة الشائعة المسلَّمة، الموجودة في كل مسلم، نتيجةً لتربية المهدي (ع) وجهوده.

وأمَّا من ناحية المستوى الثقافي للأُمَّة، فتُعطينا الصور التالية:

أخرج الصدوق في إكمال الدين(1) ، بسنده عن أبي جعفر (ع) قال: ( إذا قام قائمنا (ع) وضع يده على رؤوس العباد، فجمع بها عقولهم، وكمُلت بها أحلامهم ).

وفي رواية الكافي(2) : ( وضع الله يده... ) الخ.

وأخرج النعماني(3) ، بسنده عن حبَّة العوني، قال: قال أمير المؤمنين (ع): ( كأنِّي أنظر إلى شيعتنا بمسجد الكوفة، قد ضربوا الفساطيط يُعلِّمون الناس القرآن كما أُنزل ).

وفي خبر آخر، عن أبي عبد الله (ع) أنَّه قال: ( كأنِّي بشيعة عليٍّ في أيديهم المثاني، يُعلِّمون الناس المثال المـُستأنف ).

وفي حديث آخر(4) ، عن حمران بن أعين، عن أبي جعفر (ع)، أنَّه تحدث عن المهدي (ع) فقال - فيما قال -: ( وتؤتون الحكمة في زمانه؛ حتى إنَّ المرأة لتقضي في بيتها بكتاب الله وسنَّة رسول الله (ص) ).

____________________

(1) انظر كمال الدين المخطوط.

(2) انظر: مُنتخب الأثر ص483.

(3) ص171، وكذلك الخبر الذي بعده.

(4) ص126.

٥٣٦

إلى غير ذلك من الأخبار، وسيأتي في الفصل الآتي ما ينفع في هذا الصدد:

والأحلام جمع حِلم بكسر فسكون، وهو الأناة والرُّشد والعقل. قال تعالى:( أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا... ) (1) ، أي عقولهم، وقد يُقابل به الجهل والسفاهة. قال زهير: وأنَّ سفاه الشيخ لا حِلم بعده.

وقوله: ( وضع يده على رؤوسهم )، قال المجلسي في مرآة العقول(2) : الضمير في قوله: ( يده )، إمَّا راجع إلى الله أو إلى القائم (ع)، وعلى التقديرين: كنايةً عن الرحمة والشفقة، أو القدرة والاستيلاء، وعلى الأخير يحتمل الحقيقة.

أقول: ليس المراد به شيء من ذلك... وإنَّما المراد الكناية عن تربية القائم (ع) للأُمَّة الإسلامية، وإنَّما عبَّر بالرؤوس باعتبار كونها وعاءً العقل والفكر باعتقاد الناس.

ووضع اليد عليها كناية عن السيطرة عليها بالإقناع والتربية، لا يختلف الحال في ذلك سواء كان الفاعل المـُربِّي هو الله تعالى أم المهدي (ع)، فإنَّ شريعة المهدي (ع) هي شريعة الله تعالى، وتربيته هي تربية الله عزَّ وعلا، فكلاهما المـُربِّي في حقيقة الأمر.

ومن هنا تُنتِج التربية نتيجتها الطبيعية المطلوبة، وهي اجتماع العقول، وتكامل الأحلام.

والمراد من اجتماع العقول، الجانب العلمي أو الثقافي من حياة الإنسان.

والمراد من اجتماعها تسالمها على مفهوم عقائدي واحد، وعلى أُطروحة تشريعية واحدة، بحيث يكون من الصعب أن نتصوَّر وقوع الخلاف بين شخصين مُندمجين في الإيديولوجية العامة لدولة المهدي العالمية، وخاصة إذا أصبحت الأُمَّة والبشرية بدرجة من الكمال، بحيث يُصبح الرأي فيها (معصوماً)، ويكون تحصُّل الاجتماع والاتِّفاق على الأمور سهلاً إلى حدٍّ كبير.

والمراد من تكامل الأحلام: ارتفاع مستوى الأناة والرُّشد، وهو الجانب العاطفي والنفسي للإنسان، ذلك الجانب الذي يُمثِّل بأول درجاته مستوى ( العدالة ) الفردية في الإسلام، ويُمثِّل في درجاته العُلْيا ( مستوى العصمة ) التي سوف يصل إليها المجتمع بعد فترة من الزمن.

____________________

(1) الطور: 32.

(2) انظر هامش مُنتخب الأثر ص 483 نقلاً عن مرآة العقول.

٥٣٧

وهذه النتيجة بجانبها العلمي والعاطفي، هي التي تُمثِّل الوعي العالي، الذي يوجِده المهدي (ع) في دولته ومجتمعه. وذلك الوعي الذي قلنا: إنَّه لا يمكن أن يُدرِك الفرد كُنهه إلاَّ المـُفكِّر المـُعاصر لعهد الظهور، وإنَّما نُدركه الآن بعناوينه العامة ليس غير.

ومن هنا؛ يتَّضح أنَّ وضع اليد على رؤوس العباد، لا يُراد به المعنى الحقيقي، ولا الرحمة ولا الاستيلاء بمعنى المـُلك والسلطة، فإنَّ كل ذلك بمُجرَّده لا يُنتِج تكامل الأحلام ولا اجتماع العقول، كما هو واضح، وإنَّما الذي يُنتِج ذلك هو التربية والإعلاء للعقول والأفكار والعواطف.

والمراد بالقرآن كما أُنزل، ذلك الذي يعلمه أصحاب المهدي للناس، كما نطق به الخبر... المراد به المعاني الواقعية للقرآن، بعد وضوح عدم اختلاف القرآن عن عهد رسول الله (ص) لفظياً.

ومن الطبيعي أن يُعرض القرآن يومئذ كما أُنزل؛ لما سمعناه في الأخبار العديدة: بانَّ المهدي يأتي بالإسلام جديداً، كما جاء به رسول الله (ص)، فكانت وظيفة النبي (ص) هو التنزيل، ووظيفة المهدي (ع) هي التأويل، أي التطبيق، وإنَّ أهمَّ فقرات التطبيق وخُططه تفهيم الناس المقاصد الواقعية للقرآن الكريم، وتثقيفهم الثقافة العالية عن هذا الطريق... عن طريق الإمام المهدي (ع) وعن طريق أصحابه ثانياً.

والمثاني التي هي بيد أصحاب المهدي (ع) - كما نطق الخبر - هي الواردة في قوله تعالى:( وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ ) ، وقد فُسرِّت في اللغة بآيات القرآن الكريم، وهو لا يكاد يكون صحيحاً؛ فإنَّ الآيات لا تنحصر بسبعة، إلاَّ أن يُراد بها سورة الحمد خاصة، وهو تفسير وردت به بعض الأخبار، إلاَّ أنَّها لن تثبت، وهو - أيضاً - خلاف ظاهر الآية الكريمة.

والأوفق بالقواعد اللغوية والإسلامية معاً، هو هذا الاحتمال الذي نعرضه كأُطروحة مُحتملة في تفسيرها، فإنَّ المثاني في اللغة هو ما بعد الأول من الأشياء؛ ومعه يكون الأول هو القرآن الكريم الذي عطفته الآية على المثاني، وتكون المثاني مستويات سبعة مُتأخِّرة في الرتبة عن القرآن الكريم من قواعد الإسلام العامة، والأنسب عندئذ، هو أن يكون كل واحد من هذه الأمور السبعة يلي القرآن مباشرة في الأهمِّيَّة، بحيث يُعتبَر كل واحد منها ثاني القرآن، ليكون الجمع بالمثاني أقرب وأوضح.

وأمَّا أنَّ هذه القواعد بالتعيين ما هي، فيمكننا أن نعرف قليلاً منها: كالسنَّة والعقل

٥٣٨

والسيرة العقلائية... والمظنون أنَّ عدداً منها غير معروف أساساً... فإنَّ المثاني إنَّما أوتيت إلى النبي (ص)( وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ... ) ، ومن المظنون أنَّ بعضها بلَّغه النبي (ص) إلى الناس، وبعضه بقي مذخوراً إلى اليوم الموعود.

وسواء عرفناها أم لم نعرفه، فاليوم الموعود، هو وقت إعلانها جميعاً، فأصحاب الإمام المهدي (ع) سيُصبحون - باعتبار تعاليمه وهداه - عارفين بكل المثاني السبع، يُطبِّقون مُتطلَّباتها، ويُفهمون الناس موجباتها وآثارها، في حدود ما تقتضيه مصالح التكامل البشري يومئذ.

والخبر الذي يُعرب عن ذلك، لا يدلُّ على أنَّ أصحاب الإمام (ع) يُعلِّمون الناس المثاني نفسها، وإنَّما قال: ( بأيديهم المثاني يُعلِّمون الناس المثال المـُستأنف )، فهم يأخذون المثاني بنظر الاعتبار، من أجل إشاعة الثقافة العُلْيا بين الناس.

والمثال المـُستأنف، هو هذه الثقافة، وهي الإيديولوجية الكبرى التي يُبشِّر بها المهدي في دولته، نعرف ذلك من خبر آخر أخرجه النعماني، بسنده عن جعفر بن محمد (ع) أنَّه قال: ( كيف أنتم لو ضرب أصحاب القائم الفساطيط في مسجد كوفان، ثمَّ يخرج إليهم المثال المستأنف؟! ).

وإنَّما سُمِّيت هذه الثقافة بالمثال المـُستأنف باعتبار أمرين:

أحدهما: كونها مثالية ( أعلى من الواقع المـُعاصر بكل مستوياته )، بالنسبة إلى عصر صدور هذه الأخبار، بالنسبة إلى عصر ما قبل الظهور عموماً.

ثانيهما: باعتبار كونها جديدة على الأذهان، غير معهودة لدى أغلب الناس، بل جميعهم في عصر ما قبل الظهور، فباعتبار الأمر الأول كانت ( مثالاً )، وباعتبار الأمر الثاني كانت أمراً مُستأنفاً.

المثال المـُستأنف يُخرجه المهدي (ع) إلى العالم بشكل رئيسي، فيتلقَّاه أصحابه عنه بشكل كامل ودقيق، فيُعطونه إلى العالم ويُبلِّغونه إلى البشر؛ توصُّلاً إلى الهدف الإلهي الرئيسي في إيجاد المجتمع الكامل ذو العبادة الإلهية الكاملة... طبقاً لقوله تعالى:( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) .

هذا، وقد اشتملت بعض هذه الأخبار على التصريح بأنَّ شيعة علي (ع) هم الذين يقومون بهذه المـُهمَّة الكبرى، وهو دالٌّ - بوضوح - على أنَّ أصحاب المهدي (ع) على مثل هذا المذهب، وقد سبق أن بسطنا الكلام في ذلك عند الحديث عن المذهب الإسلامي

٥٣٩

للمهدي (ع)، والمـُهمُّ الآن أنَّهم أصحاب الإمام المهدي (ع) نفسه.

والحديث الأخير الذي سمعناه يتحدَّث عن المرأة، وعن المستوى الثقافي العالي الذي تبلغه في عصر الظهور، تلك المرأة عانت من المجتمع المـُنحرف ظروفاً من الجهل والكبت والظلم، أمَّا في الدولة العالمية، فهي تنطق بالحكمة، وهي: المفاهيم المهدوية العُلْيا، وتقضي بكتاب الله وسنَّة رسوله، وتقوم بقيادة جانب مُهمٍّ من المجتمع على أحسن وجه، وإذا كانت كذلك، فما أحسن تعاملها مع زوجها! وما أفضل تربيتها لأولادها!

وهي في قيادتها تُطبِّق عملها على آداب اللياقة الإسلامية، وهو الحجاب والجانب الأخلاقي في العلاقة بين الجنسين، كما يقتضيه العدل الكامل، ذلك الجانب الذي قلنا في بعض بحوثنا: إنَّه لا يمنع من أيِّ عمل أو تجارة أو قيادة.

٥٤٠

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679