موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)0%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 679

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الصفحات: 679
المشاهدات: 202041
تحميل: 10344


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 202041 / تحميل: 10344
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء 3

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وهذه الحاجة خاصة بالشخص الذي تمَّ تعيينه من قِبَل التشريع الإلهي لقيادة العالم، باعتبار أنَّ ما قلناه من ضرورة تساوق قابليَّات الشخص مع مقدار سعة مسؤولياته الموكولة إليه في التشريع، فإذا كانت قابليَّاته قاصرة بدون الإلهام، كان وجود الإلهام ضرورياً.

وأمَّا الشخص الذي تكون مسؤوليَّاته محدودة، ذات منطقة صغيرة نسبيَّاً، بحيث يمكن تغطية تلك الحاجة بأساليب اعتيادية، فلا يكون مشمولاً لهذا الدليل.

وبمثل هذه المـُناقشات تُصبح الأُطروحة الأُولى ممَّا لا دليل عليه.

نعم، لا مانع من وجود مضمون هذه الأطروحة، فيما إذا وقع أحد أصحاب الإمام المهدي في صعوبة فكرية بالِغة، واعتاصت عليه مشكلة اجتماعية يتوقَّف تطبيق العدل الكامل على تذليلها، وتعذَّر عليه الاتِّصال بإمامه، فسوف يكون الإلهام هو المـُنقذ الوحيد في هذا الموقف، حفاظاً على العدل الكامل، فيكون الالتزام بصحَّة هذه الأُطروحة مُمكناً.

غير أنَّ هذا نادر الوجود؛ لوضوح إمكان الاتِّصال بالمهدي في أيِّ منطقة من مناطق العالم.

الأُطروحة الثانية: إنَّ أصحاب المهدي يتلقُّون علومهم في العصر السابق على الظهور، أو قد يُمارسون بعض أشكال الحُكم والقضاء أيضاً.

وذلك انطلاقاً من عدَّة وجوه:

الوجه الأول: إنَّ ظاهر نفس الروايات هو ذلك، بمعنى أنَّهم ناجزين علماً وعملاً قبل الظهور، وإنَّما يتسنَّى لهم مُمارسة الحُكم والقضاء في الدولة العالمية، انطلاقاً من هذه الخبرات، مضافاً إلى التعليمات المهدوية الجديدة، فإنَّنا نسمع الرواية تقول: (... هذه العدَّة التي يخرج فيها القائم (ع)، وهم النُّجباء والفقهاء، وهم الحكَّام وهم القُضاة ). فنفهم منها: أنَّهم مُتَّصفون بهذه الصفات من حين خروجهم مع القائم ومُبايعتهم له، وهذا لا يكون إلاَّ إذا كانوا قد عرفوا كذلك قبل الظهور.

وأمَّا قوله: ( الذين يمسح على بطونهم وظهورهم فلا يُشكِل عليهم حُكم )، فهو إشارة إلى التعليمات المهدوية الجديدة، كما سوف نُشير.

وكذلك الرواية التي تُعدِّد من أصحاب القائم: يوشع بن نون، وسلمان، ومالك

٥٠١

الأشتر وغيرهم. فإنَّهم إن أرادتهم بأشخاصهم، فمن المعلوم أنَّهم ناجزون علماً وعملاً، ولهم تاريخ إيماني ناصع قبل الظهور، وإن أرادت الرواية أنَّ أصحاب القائم المهدي يُشبَّهون بهؤلاء في صفاتهم الرئيسية، فمن الواضح أنَّ كونهم ناجزين في لعلم والعمل من أهمِّ هذه الصفات.

وكذلك خُطبة البيان حين تصف عدداً منهم بكونهم: العارفين لإقامة الدعائم، أو كونهم رجالاً أتقياء أبراراً، أو كون الفرد منهم نقيَّاً من العيوب. فإنَّه واضح أنَّ اتِّصافهم بذلك ثابت لهم في أنفسهم قبل حصول الظهور.

إذن؛ فالروايات لا قصور فيها عن الدلالة على هذه الأُطروحة.

الوجه الثاني: أنَّه ليس من الصحيح القول: بأنَّه يمكن أن يوجد التمحيص العالي والإخلاص الكبير، بدون ثقافة عالية تتناسب معه؛ إذ مع الجهل يكون الفرد معرَّضاً لكل فظيعة من دون أن يعلم، فيُخلُّ فعله بإخلاصه ويعتبر ذلك منه فشلاً في الامتحان.

وبكلمة أوضح: إنَّ ردَّ الفعل الصحيح العادل تجاه الوقائع المختلفة، الذي هو معنى النجاح في التمحيص، لا يكون إلاَّ مع معرفة ماهية ردِّ الفعل هذا، وهذه المعرفة تتوقَّف على العلم، بل هي نفس العلم، وكلَّما كان المتوقَّع من الفرد ردود فعل أصلح وأعلى، كان العلم المطلوب منه أوسع وأعمق.

ومعه؛ يكون الأفراد العالين في التمحيص، الذين هم ( خير فوارس على وجه الأرض )، هم أعلم أهل الأرض بالشريعة، وأطلع الناس على دقائقها.

الوجه الثالث: أنَّه لا شكَّ في وجود الفقهاء المـُحقِّقين في علوم الشريعة، والعلماء المـُطَّلعين على دقائقها في عصر ما قبل الظهور بأعداد غير قليلة، ولا يمكن القول - بطبيعة الحال -: بأنَّ جميعهم من الفاشلين في التمحيص الإلهي. بل إنَّنا إن لم نقل: بأنَّ جميعهم من الناجحين المـُمحَّصين، فلا أقلَّ من أنَّ عدداً منهم كذلك، فإنَّ دقَّة العلم والثقافة الدينية مساوقة عادة مع الإخلاص والمحافظة على السلوك العادل و الصفاء في النيَّة، وبالتالي مع النجاح في التمحيص، ما لم يكن الفرد مُتمرِّساً في الإجرام، ومُتوحِّشاً في الضمير.

وأمَّا ما نجده الآن من ضعف الفقهاء الإسلاميين، بالنسبة إلى القوى العالمية، وانصرافهم الظاهري عن الخوض في الأمور العامة، فهو ناشئ من مقدار إمكانياتهم، وشعورهم بقلَّة تكليفهم الإسلامي من هذه الناحية، وسترتفع هذه الصفة عنهم بعد الظهور - بطبيعة الحال - وسيتبعون في سلوكهم الجِدِّي هدي الإمام المهدي وأوامره

٥٠٢

وأهدافه، وبالتاي يصلحون لأن يكونوا عدداً من المـُخلصين من أصحابه.

الوجه الرابع: أنَّنا برهنَّا في هذا التاريخ وما سبقه، على تطوُّر الفكر الإسلامي خلال العصر الطويل السابق على الظهور، تطوُّراً يؤهِّل الأُمَّة الإسلامية خاصة، والبشرية عامة لفَهْم القوانين والمفاهيم الجديدة التي يُعلنها المهدي في دولته العالمية بعد الظهور... التي يكون من الضروري إعلانها من أجل اكتساب ( الأُطروحة العادلة الكاملة ) صفة العدل المـُطلق، الذي يمكنه أن يعمَّ العالم بالسعادة والرفاه، ويسير به نحو الكمال.

ومن الواضح أنَّ الفرد كلَّما كان أكثر إخلاصاً للإسلام، وأشدَّ تطبيقاً للعدل على حياته، سيكون أحرص على فهمه واستيعابه، ومواكبة آخر أشكال تطوُّره، وخاصة إذا كان احتمل أنَّه سيكون له مشاركة حسنة بشكل وآخر في الدولة المهدوية، ولو كفرد اعتيادي عليه أن يفهم القوانين، ويستوعب المفاهيم الجديدة المـُعلنة يومئذ... فضلاً عمَّا إذا شُرِّف بإعطاء بعض درجات المسؤولية في تلك الدولة.

إذاً؛ فالخاصة الثلاثمئة والثلاثة عشر، هم بكل تأكيد من مواكبي وقارئي أعلى تطوُّرات الفكر الإسلامي.. إن لم يكن العديد منهم، من صانعي الفكر المـُتطوِّر، والمشاركين في إيجاده، ونفس هذه الصفة تنطبق بدرجة أضعف على المـُخلصين من الدرجة الثانية، غير أنَّ القارئين المواكبين أوسع بكثير من المشاركين في التطوير.

إذاً؛ فالأطروحة الثانية صحيحة، لصحَّة الوجوه الأربعة الدالَّة عليها جميعاً، غير أنَّ هذه الوجوه تُثبت الاستيعاب النظري لتفاصيل الفكر الإسلامي، ولا تُثبت وجود المـُمارسة الفعلية للحُكم أو القضاء من قِبلهم خلال العصر السابق على الظهور.

هذا، مع العلم أنَّ المـُمارسة الفعلية ليس لها دخل مُهمٌّ في نجاح الفرد في مُهمَّته، إذا كان مستوعباً لها نظرياً، وعارفاً بطبيعة مجتمعه الذي أوكِلت له قيادته، وخاصة مع الالتفات إلى أنَّ ذلك لو كان لازماً لكان لا بدَّ لكل موظَّف أو حاكم أو قاضٍ أن يكون مُتمرِّناً قبل ذلك، وهذه قضية (مُتناقضة)؛ لأنَّ كل حاكم وقاضٍ لا بدَّ أن يكون غير مُتمرِّن عند أول استلامه لمـُهمَّته، وإلاَّ لما أمكن الحصول على أيِّ حاكم أو قاضٍ على الإطلاق.

وهذه الوجوه - أيضاً - تُثبت اطِّلاع هؤلاء على الفكر الإسلامي السابق، وأمَّا التوجيهات المهدوية والقوانين الجديدة، فهي تبقى محلَّ حاجتهم بطبيعة الحال، وهذا ما سنبحثه في

٥٠٣

الأُطروحة الثالثة.

الأُطروحة الثالثة: إنَّ المخلصين يتلقُّون ثقافتهم من الإمام المهدي (ع)، على أحد مستويات مُحتملة، بعد غضِّ النظر عن تلقِّيهم الإعجازي منه (ع)، الذي ناقشناه في الأُطروحة الأُولى:

المستوى الأول: إنَّ المـُخلصين يتلقُّون ثقافتهم المـُعمَّقة التي تؤهِّلهم لتولِّي أعلى المناصب في دولة العدل العالمية، من المهدي نفسه، قبل ظهوره.

وذلك، انطلاقاً من الفكرة التي سبق أن ذكرناها، وهي أنَّ المهدي لا يحتجب عن خاصته، وأنَّهم يعرفونه بحقيقته في عصر غيبته، وليس بين الفرد وبلوغه هذه المرتبة إلاَّ أن يُصبح من المـُخلصين المـُمحَّصين المبرَّئين من الذنوب والعيوب، وقد دلَّت الأخبار على أنَّ سبب احتجاب المهدي (ع) وغيبته إنَّما هو ذنوب الناس وانحرافهم، فمع ارتفاع هذه الصفة الرديئة عن بعض الأفراد، يكون سبب الغيبة مرتفعاً فيه، ومعناه أنَّه سوف يرى المهدي (ع) بالرغم من احتجابه عن الآخرين.

ومعنى ذلك أن الجماعة المتصفين بالدرجة الأولى من الإخلاص كلهم يتشرفون بلقائه وسماع كلامه وتوجيهاته حال غيابه.

وهذا المستوى الأول للأُطروحة لطيف ومُحتمل الصحَّة، لو أخذنا بالفهم الإمامي لفكرة المهدي، إلاَّ أنَّه غير قابل للإثبات.

المستوى الثاني: إنَّ المـُخلصين يتلقُّون كل ثقافتهم أو جُلَّها بتعليم من قائدهم المهدي بعد ظهوره، سواءٌ في ذلك المستوى الفكري العام والتعاليم الجديدة.

وأحسن ما يُقال في هذا المستوى: إنَّه أمر مُستأنف بالنسبة إلى المستوى الفكري العام، الممكن اكتسابه طبقاً للأُطروحة الثانية.

المستوى الثالث: إنَّ المـُخلصين يتلقُّون تعاليم وثقافات جديدة من الإمام المهدي، فوق مستواهم الفكري السابق، قبل ذهابهم إلى مناطق حكمهم؛ تمهيداً لتمكينهم الكامل من الحكم العادل والقضاء الفاصل.

وهذا المستوى ضروري الصحَّة، بعد وضوح عدم مساعدة الفكر السابق، بالرغم من عُمقه وشموله، على انجاز الأهداف المهدوية العالمية.

وهذا هو الذي أشارت إليه الأخبار التي سمعناها تنقل عن المهدي حين يريد

٥٠٤

إرسال شخصٍ حاكماً على منطقة في العالم، قوله: ( عهدك في كفِّك، فإذا ورد عليك ما لا تفهمه أو تعرف القضاء فيه، فانظر في كفِّك واعمل بما فيها ).

وهذا يعني أنَّه(ع) يكتب لكل شخص يُرسله ( عهداً )(1) ، يحتوي على ( التخطيط ) الذي يجب عليه أن يسير عليه في فترة حكمه، تماماً كما فعل جدُّه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، حين أرسل مالكاً الأشتر والياً على مصر، وكتب له العهد المطول المشهور الموجود في نهج البلاغة.

ولكن يبدو أنَّ هذا العهد ليس على شكل القواعد العامة، كما كان عليه عهد مالك الأشتر، بل يُفترض أنَّهم قادرون على تطبيق القواعد العامة، مأخوذة من الفقه العادل في ثوبه الجديد، وإنَّما يُعطي هذا العهد الوارد الضرورة، حين يقع الحاكم في صعوبة من حيث تطبيق القواعد العامة على بعض المشاكل العالمية؛ ولذا نجده يقول: ( فإذا ورد عليك ما لا تفهمه ولا تعرف القضاء فيه - يعني طبقاً للقواعد العامة - فانظر إلى كفِّك – يعني إلى العهد الذي تحمله فيها – واعمل بما فيها ).

ويقترن هذا المستوى الفكري المـُعمَّق بمستوى نفسي مُعمَّق، يكون الفرد الحاكم محتاجاً إليه، حين يذهب إلى منطقته أول مرَّة، وتكون الدولة مؤسَّسة لأول مرَّة. إنَّه يتحمَّل مسؤوليَّات ضخمة، قد يعجز عن مُجرَّد تصوُّره، فكيف وهو سيوضع في وسط معمَّعتها، وهو مؤهَّل في تربيته السابقة التي عرفنا جذورها وفروعها مفصلاً، من الناحيتين الإيمانية والفكرية؟ إلاَّ أنَّه يحتاج إلى جانب ثالث، هو الجانب النفسي ليكون ( أجرأ من ليث، وأمضى من سنان )، وليواجه العالم بمعنويَّات عالية، وقوَّة بالغة مناسبة مع المستوى المطلوب للدولة العالمية.

ومن هنا؛ نجد المهدي (ع) - كما في الروايات - يمسح على بطونهم وظهورهم، فلا يُشكل عليهم حكم، ولا يتعايون في قضاء، فإنَّ الفكرة وحلَّ المشكلة قد يعتاص على الإنسان مع وجود الارتباك والتردُّد في نفسه، فيُصبح في حالة شرود وانحطاط، وأمَّا مع ارتفاع المعنويَّات وقوَّة الإرادة، فلا معنى لحصول ذلك، وأدنى ما يعمله المهدي (ع) في هذا الصدد هو أن يُعانقهم هذه المـُعانقة عند الوداع. ولعلَّه يتَّخذ خطوات أُخرى بهذا

____________________

(1) قالت اللغة: العهد هو الذي يكتبه وليُّ الأمر للولاة إيذاناً بتوليهم، مع الأمر بلزوم الشريعة وإقامة النصفة. انظر: أقرب الموارد.

٥٠٥

الصدد، سكتت عنها الأخبار باعتبارها تتحدَّث بلغة عصر صدورها، طبقاً لقانون ( كلِّم الناس على قدر عقولهم ).

وبهذا الأسلوب، وعن هذا الطريق، سوف يتوزَّع حكَّام المهدي ( ع ) أقاليم العالم، وتستتبُّ الدولة العالمية، حتى ( لا تبقى أرض إلاَّ نودي فيها شهادة أن لا إله إلاَّ ألله، وحده لا شريك له، وأنَّ محمداً رسول الله )، وهو قوله تعالى:( ... وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ) .

٥٠٦

الفصل الخامس

تمحيص الإمام المهدي

لأصحابه خاصة وللأُمَّة عامة

تمهيد:

يتَّخذ الإمام المهدي هذا الأسلوب من التمحيص، للحصول على فوائد عديدة، نذكر بعضها ممَّا يخطر على البال، طبقاً للقواعد والروايات السابقة.

الفائدة الأُولى: تعويد الأمَّة الإسلامية خاصة - والبشرية عامة - على شكل جديد من السلوك، لم يكن معهوداً من قبل. وإنَّ التوقُّعات من الحاكم والفرد معاً أصبحت أعمق وأعقد.

الفائدة الثانية: إظهار نقاط الضعف التي لم يستطع التمحيص السابق على الظهور إظهارها؛ ومن هنا قد يفشل في هذا التمحيص مَن سبق له النجاح في التمحيص السابق؛ لأنَّ هذا التمحيص سوف يبتني على أُسس أصعب وأعمق.

الفائدة الثالثة: تهيئة أساليب عميقة، يمكن لأصحاب المؤهَّلات العالية النجاح من خلالها والتكامل عن طريقها.

الفائدة الرابعة: إنجاز أسلوب عام لتربية البشرية ككل، بصفتها مُطبِّقة للعدل الكامل من الآن فصاعداً، وقد سبق أن قلنا: إنَّ الدولة ستقوم بأعمال اختيارية، يُقصد بها تربية الأُمَّة والبشرية عن طريق التمحيص.

وهذا هو أحد الفروق المـُهمَّة بين التمحيصين ( السابق واللاحق )، فإنَّ التمحيص السابق على الظهور كان مُسبَّباً عن أمر غير اختياري بالنسبة إلى الفرد الناجح فيه، باعتباره ناشئاً من ظروف الظلم والفساد التي لا بدَّ للفرد فيها، وأمَّا التمحيص اللاحق للظهور، وفي المجتمع الخالي من الكافرين والمـُنحرفين، فيتعيَّن أن يكون التمحيص اختيارياً، تقوم

٥٠٧

به الدولة أو الإمام (ع) من أجل تربية الأُمَّة أو البشرية.

الفائدة الخامسة: التخلُّص ممَّن قد يكون شارك في الدولة العالمية بحكم أو قضاء، وليس في واقعه أهلاً لذلك بالمعنى العميق، وسنذكر فلسفته فيما بعد.

إلى غير ذلك من الفوائد...

ومن حيث الفرق في الهدف بين التمحيصين، نجد أنَّ التمحيص السبق كان مُستهدفاً لإيجاد جماعة محدودة من المـُخلصين، ذوو عدد كافٍ لغزو العالم، وأمَّا الباقون، فقد أوجب ذلك التمحيص تطرُّفهم إلى جانب الظلم والباطل.

وأمَّا هذا التمحيص الجديد، فهو يستهدف التخطيط العام الشامل له، أعني تخطيط ما بعد الظهور، من تربية البشرية حكَّاماً ومحكومين، تربية مركَّزة ومُستمرَّة نحو التكامل لإيجاد المجتمع العادل المطلق في كل أفراده، وليس على مستوى الحكم فقط، وهو ( المجتمع المعصوم )، الذي ألمحنا إليه في التاريخ السابق(1) ، وسيأتي في الكتاب الآتي من الموسوعة تفاصيل مُهمَّة عن خصائصه.

وعلى أيِّ حال، فينبغي أن ينفتح الحديث عن هذا التمحيص في عدَّة جهات:

الجهة الأُولى: في سرد الأخبار الواردة في هذا الصدد.

ونحن هنا لا نتوخَّى استيعاب كل ما دلَّ على ذلك، بل نقتصر على المـُهمِّ منه، فنروي ما كان متَّصفاً بوصفين:

الوصف الأول: كون الخبر مُطابقاً مع القواعد المعروفة لنا، فلو كان يُمثِّل فَهْماً مُنحرفاً أو شاذَّاً لم نروه؛ لأنَّ أمارات الوضع والانتحال عليه واضحة.

الوصف الثاني: ما لم تكن فيه إثارة طائفية من الأخبار، فإن كان في الخبر إثارة من هذا القبيل حذفناه، وإن أحدث نقصاً في التسلسل الفكري العام.

والأخبار في ذلك عديدة، شاملة لمختلف جهات التمحيص.

____________________

(1) تاريخ الغيبة الكبرى ص481.

٥٠٨

أخرج النعماني(1) ، عن أبي عبد الله (ع) أنَّه قال: ( لو قد قام القائم لأنكره الناس، لأنَّه يرجع إليهم شابَّاً موفَّقاً، لا يثبت عليه إلاَّ مَن أخذ الله ميثاقه... وإنَّ من أعظم البليَّة أن يخرج إليهم صاحبهم شابَّاً وهو يحسبونه شيخاً كبيراً ).

وأخرج أيضاً(2) ، عن محمد بن مسلم، قال: سمعنا أبا جعفر (ع) يقول: ( لو يعلم الناس ما يصنع القائم إذا خرج لأحبَّ أكثرهم إلاَّ يروه ممَّا يقتل الناس، أما إنَّه لا يبدأ إلاَّ بقريش، فلا يأخذ منها إلاَّ السيف، ولا يُعطيها إلاَّ السيف. حتى يقول كثير من الناس: ليس هذا من آل محمد، لو كان من آل محمد لرحم ).

وأخرج أيضاً(3) مُرسلاً، عن أبي عبد الله يقول: ( إذا خرج القائم، خرج من هذا الأمر مَن كان يرى أنَّه من أهله، ودخل فيه شِبه عبدة الشمس والقمر ).

وأخرج أيضاً(4) ، بسنده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع) قال: ( إنَّ أصحاب طالوت ابتُلوا بالنهر الذي قال الله تعالى: ( سيبتليكم بِنَهَرٍ )(5) ، وإنَّ أصحاب القائم (ع) يُبتلون بمثل ذلك ).

وأخرج المجلسي في البحار(6) ، بإسناده عن أبي بصير، عن أبي جعفر (ع)، قال: ( يقضي القائم بقضايا يُنكرها بعض أصحابه ممَّن قد ضرب قدَّامه بالسيف، وهو قضاء آدم (ع)، فيُقدِّمهم فيضرب أعناقهم، ثمَّ يقضي الثانية، فيُنكرها قوم آخرون ممَّن قد ضرب قدَّامه بالسيف، وهو قضاء داود (ع)، فيُقدِّمهم فيضرب أعناقهم، ثمَّ يقضي الليلة الثالثة، فيُنكرها قوم

____________________

(1) الغيبة ص99.

(2) المصدر ص122.

(3) المصدر ص177.

(4) المصدر ص170.

(5) البقرة: 2/ 249، وهو نقل بالمعنى عن الآية.

(6) ج13 ص200.

٥٠٩

آخرون ممَّن قد ضَرب قدَّامه بالسيف، وهو قضاء إبراهيم (ع)، فيُقدِّمهم فيضرب أعناقهم، ثمَّ يقضي الرابعة، وهو قضاء محمد (ص)، فلا يُنكرها عليه أحد ).

وأخرج المجلسي في البحار(1) ، بإسناده عن المفضل بن عمر، قال الصادق (ع): ( كأنِّي انظر إلى القائم على منبر الكوفة، وحوله أصحابه ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً عدَّة أهل بدر، وهم أصحاب الألوية، وهم حكَّام الله على خلقه، حتى يستخرج من قبائه كتاباً مختوماً بخاتم من ذهب، عهدٌ معهود من رسول الله (ص)، فيجفلون عنه إجفال الغنم، فلا يبقى منهم إلاَّ الوزير وأحد عشر نقيباً، كما بقوا مع موسى بن عمران (ع)، فيجولون في الأرض فلا يجدون عنه مذهباً، فيرجعون إليه، وإنِّي أعرف الكلام الذي يقوله لهم، فيكفرون به ).

الجهة الثانية: في فَهم مفردات هذه الأخبار، أعني ما ورد فيها من ألفاظ ومفاهيم بعيدة عن الذهن؛ لكي يكون هذا منطلقاً إلى الفَهم الكامل الذي سوف تُعرِب عنه في الجهات التالية:

( قضاء محمد ) نبي الإسلام (ص)، هو ما أعرب عنه قوله (ص): ( إنما أقضي بينكم بالبيِّنات والإيمان )، وهو حديث مشهور مروي بطريق الفريقين، وقد فَهِم منه فقهاء الإسلام قواعد القضاء الرئيسية للمرافعات، وهو أن تكون البيِّنة من المـُدَّعي، واليمين على المنكر.

وأضاف (ص) في حديث(2) : ( فأيُّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً، فإنَّما قطعت له به قطعة من النار )، يعني أنَّ هذه القواعد القضائية إذا أثبتت حقَّاً غير واقعي، كان أخذه من قِبل غير مُستحقِّة حراماً غير مشروع، وإن كان القاضي معذوراً؛ باعتباره جاهلاً بالواقع، ومتَّبعاً للقواعد الشرعية العامة الغالبية الصدق.

( قضاء داود ) ( ع )، هو ما شرحه القرآن الكريم في قوله تعالى:

____________________

(1) ج13 ص184 - 185.

(2) الوسائل ج3 ص435.

٥١٠

( وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ) (1) .

والنقطة الرئيسية في هذه الحادثة التي ترويها الآية، هو أنَّ داود (ع) أخذ جانب المـُدَّعي من دون أن يُطالبه بالإثبات القضائي، أعني البيِّنة، فقال:( ... لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ... ) ، وقد نطقت به الأخبار أيضاً.

منها عدد من الأخبار تدلُّ على أنَّ الخصوصية الرئيسية فيه، هو الحكم طبقاً لعلم القاضي بواقع الحادثة، لا طبقاً للبيِّنة.

منها ما رواه الحُرُّ العالمي(2) ، بسنده عن أبي عبيدة الحذَّاء، عن أبي جعفر (ع) - في حديث -، قال: ( إذا قام قائم آل محمد (ص) حكم بحكم داود (ع) لا يسأل البيِّنة ).

وفي رواية أُخرى، عن أبان قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: ( لا تذهب الدنيا حتى يخرج رجل منِّي، يحكم بحكومته آل داود ولا يسأل بيِّنة، يُعطي كل نفس حقَّها ).

وفي رواية أخرى مُرسلة، عن أبي عبد الله (ع) - في حديث - قال: ( إنَّ داود (ع) قال: يا ربِّ، أرني الحقَّ كما هو عندك حتى أقضي به.

فقال: إنَّك لا تُطيق ذلك.

فألحَّ على ربِّه حتى فعل، فجاء رجل يستعدي على رجل، فقال: إنَّ هذا أخذ مالي. فأوحى الله إلى داود بالمـُستعدي فقُتل، وأخذ ماله

____________________

(1) سورة ص: 21 - 25.

(2) الوسائل ج3 ص435، وكذا الخبران اللذان بعده.

٥١١

فدفع إلى المـُستعدى عليه.

قال: فعجب الناس وتحدَّثوا، حتى بلغ داود (ع)، ودخل عليه من ذلك ما كره، فدعا ربَّه أن يرفع ذلك ففعل، ثمَّ أوحى الله إليه أن احكُم بينهم بالبيِّنات، وأضفهم إلى اسمي يحلفون به ).

وإنَّما نقلنا هذا الحديث المـُرسل، لوجود فارق بينه وبين الآية، فإنَّ الحادثة التي يُعرب عنها الخبر - لو صحَّ - حادثة واقعية، يمكن أن يعلم بها القاضي عن طريق الوحي أو عن طريق مُعاشرة الخصمين ونحوه.

وأمَّا الحادثة التي تُعرب عنها الآية، فالمشهور عنها أنَّها آية امتحانية، أوجدها الله تعالى من أجل امتحان النبي داود (ع) واختباره، وقد فشل في هذا الامتحان، وهو قوله تعالى:( ... وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ ) .

فالخصمان لم يكونا خصمين حقيقة، وإنَّما كانا مَلَكين أرسلهما الله تعالى لاختبار داود (ع)، واستدلُّوا على ذلك بقوله:( ... إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ) ؛ فإنَّ البشر لا يتسوَّرون الحائط على القاضي الذي يريدون التحاكم عنده، ولا يردون عليه في وقت عبادته، بل في وقت استعداده للحكم.

وكان من واجب النبي داود (ع) طبقاً للقواعد القضائية العامة أن يسأل من المـُدَّعي - وهو صاحب النعجات التسع والتسعين - أن يأتي بالبيِّنة الدالَّة على أنَّ تلك النعجة الواحدة له، ولكنَّه أسرع بقبول قول المنكر بدون مُطالبة البيِّنة، وصار إلى جانبه، بدون دليل، ولكنَّه فكَّر بعد ذلك وعلم بخطئه، فاستغفر الله وخرَّ راكعاً وأناب، فعفا الله عنه وأكرم مقامه.

غير أنَّ الصحيح هو أنَّ الآية لا تدلُّ على أنَّ الحادثة مُصطنعة وغير واقعية، بل تدلُّ على واقعية الحادثة، بعدَّة قرائن في الآية نفسها:

القرينة الأُولى: قوله تعالى:( الخصمين ) ؛ فإنَّ ظاهره كونهما خصمين حقيقة، وحمله على الخصمين المـُصطنعين خلاف الظاهر؛ لأنَّه مجاز لا يُصار إليه إلاَّ بقرينة.

القرينة الثانية: قوله:( إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ... ) ؛ وهو ظاهر بالأخوَّة الحقيقية، ومن المعلوم أنَّهما لو كانا مَلَكين لم يكن صِدْقُ ذلك ممكناً.

القرينة الثالثة: قوله:( ... تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ... ) ؛ فإنَّ ظاهره المِلكيَّة الحقيقية لنعجات حقيقية، وما خالف ذلك مُحتاج إلى تأويل.

القرينة الرابعة: قوله:( ... لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ... ) ؛ فإنَّه لا يكون ظالماً على الإطلاق لو كانت المرافعة صورية، ولكانت هذه الجملة كاذبة.

٥١٢

وأمَّا ما ذكروه من أنَّ العبور على الحائط ليس من أفعال البشر، فهو غير صحيح، فإنَّه أقرب إلى فعل البشر الدنيء منه إلى فعل الملائكة.

وأمَّا كون الحادثة لامتحانه وفتنته - كما دلت عليه الآية فعلاً - فهذا لا يقتضي لإرسال الملائكة إليه، بل يكون حاصلاً مع وجود هذا الترافع بين بشرين، بدليل على أنَّهما لو كانا رجلين حقيقين لما كان في مستوى الامتحان الإلهي أيُّ تغيير.

بل ليس في الآية الكريمة أنَّ داود (ع) كان يعلم بحقيقة الموقف، بطريق الغيب، ولا أنَّه مال إلى جانب المـُدَّعي لمـُجرَّد سماع المرافعة، بل لعلَّه كان يعرفهما عن قريب أو مُطَّلع على حالهما بشكل وآخر.

وإذا كان المفروض لداود في هذه الحادثة وغيرها أن يحكم بعلمه، كما سيحكم الإمام المهدي (ع) أحياناً، إذاً فحكمه صحيح لا غبار عليه، وجائز للقاضي أحياناً، إذاً كان نبيَّاً أو ولياً على الأقل.

ومن هذه الزاوية نعرف دليلاً آخر على واقعية هذه المرافعة، لأنَّها لو كانت صورية لم يكن لوجود العلم بالواقع أي معنى. بل كان الأنسب أن يعلم داود (ع) أنها مرافعة صورية،أو أن يعلم أن الأفضل السير على طبق القاعدة القضائية العامة.وحيث حكم في الواقعة بعلمه،إذاً، فهي حادثة واقعية.

وأما توبته واستغفاره، فهو ناشىء من أحد منشئين:

المنشأ الأول: ما هو الموجود في بعض الأخبار، من أن مؤدى هذه المرافعة، كان مماثلاً لأمر كان يعيشه في حياته،وهو أنه (ع) بالرغم من كثرة زوجاته، طلب من أحد أصحابه أن يطلق زوجته لكي يتزوجها هو،فأراد الله تعالى أن ينبهه على ذلك، فقيض له هذه المرافعة.

إذاً، فاستغفاره لم يكن لأجل التسرع في القضاء،وإنما كان من أجل موقفه الحياتي الخاص.

المنشأ الثاني: أن كلا الأسلوبين القضائيين:أعني طلب البينة،والحكم طبقاً للعلم...كانا جائزين له، فكان (ع) حين يرى اختلاف هذين الأسلوبين في النتيجة أحياناً فإنه يرجح الحكم بعلمه لأنه أوصل إلى الواقع من الطريق الآخر.كما في هذا المورد بالذات.

٥١٣

غير أنَّ متابعة العلم كان هو الأسلوب المرجوح في الشريعة الإلهية؛ لأنَّه يتعذَّر استعماله دائماً ولكل أحد... وكان من الراجح استعمال الأسلوب القضائي العام، وهو طلب البيِّنة دائماً وبلا استثناء، حتى لو كان خاطئاً أحياناً؛ ليستقيم القضاء على وتيرة واحدة عنده وعند غيره من الناس.

إذاً؛ فقد استعمل النبي داود (ع) الأسلوب المرجوح في هذه الواقعة، وعرف بعد ذلك أنَّ هذا كان امتحاناً؛ لأنَّ الحادثة من موارد اختلاف الأسلوبين كما أشرنا، وكان الراجح استعمال الأسلوب الآخر، فخرَّ راكعاً وأناب.

وقد يخطر في البال: أنَّ هذا الأسلوب إذا كان مرجوحاً، فكيف سمعنا من الروايات عمل المهدي (ع) به؟

وجوابه يكون من عدَّة وجوه، تأتي عند التعرُّض لقضاء المهدي (ع)، وأوضحها أنَّ ظروف التمحيص المـُخطَّطة تُجيز للمهدي (ع) ذلك، على أقلِّ تقدير.

فهذا هو قضاء داود (ع)، ولا مجال للتفصيل فيه أكثر من هذا المقدار.

وأمَّا ( قضاء إبراهيم ) و( قضاء آدم ) (ع)، فهو ممَّا لم يرد في التاريخ، إذ لم يُنقَل - حسب اطِّلاعي - أنَّه عرضت عليهما قضايا مُعيَّنة حَكَمَا فيها بأحكام خاصة، وإن كان لا بدَّ أنَّ هذا قد حدث فعلاً؛ لأنَّ البشرية لا تخلو من مخاصمات، غير أنَّه لم يردنا بالتحديد أنواع تلك القضايا ومؤدَّيات الأحكام فيها، غير أنَّ الإمام المهدي (ع) عالم بها، فيُمكنه تطبيقها في مواردها.

قوله: ( إنَّ أصحاب طالوت ابتُلوا بالنهر )، وقصَّتهم مشهورة مذكورة بالقرآن الكريم، لا حاجة إلى تفصيلها، ولكن يحسن بنا عرض فكرة الامتحان الذي مرُّوا به:

إنَّهم حين ساروا بقيادة طالوت مدَّة مُتوجِّهين إلى منطقة العدوِّ، مرُّوا على نهر في طريقهم، وكانوا في أشدِّ التلهُّف إلى الماء هم ودوابهم، فأصدر طالوت القائد قراراً بعدم جواز الشرب من النهر، إلاَّ في حدود غَرفة واحدة من الكفِّ يشربها كل فرد:

( ... قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ... ) (1) .

وكان ردُّ الفعل تجاه هذا التشريع من قِبل الجيش على ثلاثة أقسام:

____________________

(1) البقرة: 249

٥١٤

القسم الأول: وهم الأكثرية الكاثرة، الذين أسقطوا هذا الأمر عن نظر الاعتبار، وشربوا من النهر بكثرة وسقوا دوابَّهم، فكان أن عزلهم القائد عن الجيش، ومنعهم من المسير معه، وخرجوا بذلك عن الإيمان، قال الله تعالى:( ... فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ... ) ، وهم غير هذا القسم.

القسم الثاني: وهم الذين أخذوا بالاستثناء في كلام القائد، فشربوا بالمقدار الذي أجازه، واكتفوا بالكفِّ الواحدة عن الكثير.

وقد دلَّ سياق القرآن الكريم على أنَّ هؤلاء هم الذين قالوا عند مواجهة العدو:( ... قَالُوا لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ... ) ؛ باعتبارهم القسم الأضعف إيماناً من الجماعة التي صاحبت القائد من حادثة النهر.

القسم الثالث: وهم الذين لم يشربوا على الإطلاق؛ أخذاً بالحيطة لدينهم، وتقويةً لعزائمهم وإرادتهم؛ ومن هنا لن تُرهبهم كثرة العدوِّ، بل قال:( ... الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) .

فالقسم الأول هو الفاشل في هذا التمحيص، والقسم الثالث هو الناجح بشكل كامل، والقسم الثاني كان ناجحاً في حادثة النهر، ولكن برزت نقطة ضعفه في آخر لحظة عند مواجهة العدوِّ، ففشل في هذا الامتحان الجديد.

وقد يخطر على البال: أنَّ تطبيق هذا الامتحان على أصحاب الإمام المهدي (ع) إنَّما هو باعتبار التمحيص الموجود في التخطيط العام السابق على الظهور، حيث عرفنا انقسام المـُخلصين باعتباره إلى عدَّة أقسام، يكون الخاصة منهم كالقسم الثالث من أصحاب طالوت، وهم الذين حاربوا عدوَّهم وانتصروا عليه، وفي بعض الروايات التي سمعنا إحداها فيما سبق أنَّ عددهم كان أيضاً ثلاثمئة وثلاثة عشر.

فليس هذا الخبر ناظراً إلى التمحيص الذي يمرُّ به أصحاب الإمام المهدي بعد ظهوره، فلا يكون من الأخبار النافعة لنا في هذا الباب.

وجواب ذلك: أنَّ هذا مُحتمَل فعلاً، إلاَّ أنَّ ظاهر الخبر بخلافه، حيث يقول: ( وإنَّ أصحاب القائم (ع) يُبتلون بمثل ذلك )، فإنَّهم لا يكونون أصحابه حقيقة إلاَّ بعد ظهوره وانضمامهم إليه، كما هو واضح.

قوله: ( شِبه عَبَدَة الشمس والقمر )، وهم المـُلحدون والمادِّيون، يدخلون في ( هذا الأمر )، يعني الحق والعدل الذي يُعلنه الإمام المهدي (ع) ويوضِّحه للعالم بكل صراحة.

٥١٥

قوله: ( فيجفلون عنه إجفال الغنم )، أي يهربون ويفرُّون. يُقال: جفل البعير إذا ندّ وشرد، وجفل القوم إذا أسرعوا الهرب(1) .

قوله: ( فلا يبقى منهم إلاَّ الوزير وأحد عشر نقيباً )، الوزير: حَبَأُ الملك الذي يحمل ثقله ويُعينه برأيه وتدبيره(2) ، وقد كان الوزير في الدول السابقة واحداً توكَل إليه مهمَّات الدولة، وهو بإزاء رئيس الدولة الحديثة.

والوزير أيضاً: المعاون، يُقال: هو وزيره، أي معاونه(3) .

والنقيب: شاهد القوم وضمينهم وعريفهم.

ونقيب الأشراف: مَن يُنقِّب عن أحوالهم ( إسلامية )(4) .

ويبدو من سياق الحديث أنَّه بمنزلة الوزير في الدولة الحديثة.

قوله: ( كما بقوا مع موسى بن عمران )... فيه إشارة إلى قوله تعالى:( وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا... ) (4) الخ الآية.

والآية واضحة في أنَّ هؤلاء النُّقباء أفضل أصحاب موسى (ع)، غير أنَّها لا تدلُّ على أنَّهم نتجوا عن تمحيص سابق فشل فيه غيرهم، كما هو ظاهر الخبر... إلاَّ أنَّ الآية لا تنفي ذلك على أيِّ حال، وقد علمنا من القواعد العامة أنَّ هذه الأهمِّية والعُمق في الإخلاص لا يكون إلاَّ نتيجةً لتمحيص عميق، يمرُّ به المجتمع، فينجح فيه القليل ويفشل فيه الكثير.

الجهة الثالثة: في مُحاولة فَهْم عام لهذه الأخبار:

يدلُّ مجموع هذه الأخبار، على أنَّ أسباب التمحيص ومناشئه عديدة:

المنشأ الأول: ظهور المهدي شابَّاً موفَّقاً، مع أنَّ الناس يحسبونه شيخاً كبيراً.

وقد سبق أن حلَّلنا ذلك، وقلنا: إنَّه إنَّما يحدث في الأوساط البعيدة عن الفكر الديني، وعن التعمُّق... لوضوح أنَّه لا معنى لهذا التوقُّع في المهدي (ع) طبقاً لكلا

____________________

(1) انظر أقرب الموارد.

(2) ذات المصدر.

(3) المصدر نفسه.

(4) المائدة: 12.

٥١٦

الأُطروحتين في فَهْم الفكرة المهدوية ( الإمامية والعامة )... كما سبق أن أوضحنا.

والذي يبدو أنَّ هذا التوقُّع لا تدلُّ على حدوثه إلاَّ هذه الرواية... بينما دلَّت على ظهور المهدي (ع) شابَّاً عدد لا يُستهان به من الروايات، خالية من هذا التوقُّع، وعليه؛ ففكرة هذا التمحيص منوطة بصحَّة هذه الرواية بالذات.

المنشأ الثاني - للتمحيص -: كثرة القتل الذي يقوم به الإمام (ع) في الفترة الأُولى من ظهوره.

وقد سبق أن حلَّلنا لك، وقلنا: إنَّ هذه الحملة تُنتج ردَّ فعل عنيف لدى الجماعات الموجهة ضدَّهم، فيواجهونها بمقدار ما يستطيعون من السوء والإرجاف، وأنَّ من أوضح وأصرح أشكال الإرجاف ضدَّ الإمام المهدي (ع) هو التشكيك بمهدويَّته، (... وليس هذا من آل محمد، لو كان من آل محمد لرحم ).

والمهدي المنتظر لابدَّ أن يكون من آل محمد بإجماع المسلمين، وهذا ليس من آل محمد بإجماع المسلمين، إذاً فليس هو المهدي المنتظر.

والإمام المهدي (ع) بعد أن يكون قد أقام الحجَّة الكاملة على صدقه وعدالة قضيته، فثبت للرأي العام العالمي، باليقين، وأنَّه هو المهدي المنتظر، لا يبقى عنده من جواب على هذه الشبهة، إلاَّ أن يستمرَّ في القتل حتى يستوعب جميع المرجفين.

فهذا التمحيص - إذاً - سيوجب زيادة فشل الفاشلين في التمحيص السابق، وأمَّا المؤمنين بالمهدي، فسوف لن يكون لهم في هذا التمحيص أيُّ اشتراك، بمعنى أنَّهم سيكونون من الناجحين فيه بكل تأكيد.

وكلا هذين المنشأين للتمحيص ممَّا سيحدث قبل استتباب الدولة العالمية؛ ومن هنا لا يكونان مُندرجين في المناهج التربوية العامة التي تُعمِّمها الدولة في سبيل تطوير المجتمع وتقدُّمه نحو الكمال.

وهذان المنشأن معاً من الأسباب العامة للتمحيص، وغير خاصة بأصحاب الإمام المهدي (ع)... وهما من السهولة بالنسبة إليهم، بحيث يُحرز نجاحهم فيهما، بخلاف الامتحانات الآتية، فإنَّها من التعقيد بحيث لا يُحرز فيها هذا النجاح.

المنشأ الثالث: للتمحيص، اتِّخاذ المهدي (ع) لأساليب الأنبياء السابقين في القضاء بين الناس.

إذ يكون ذلك، منشأ للبلبلة والشكِّ في بعض الأوساط من أصحابه، فيقوم الإمام

٥١٧

المهدي (ع) بقتل كل المـُشكِّكين من هذه الناحية، كما سمعنا من الأخبار.

ويحسن أن نتحدَّث عن هذا المنشأ ضمن عدَّة حقول:

الحقل الأول: أنَّ التشكيك بهذه القضية والاحتجاج عليها ناتج عن الغفلة أو التغافل عن أمرين:

الأمر الأول: كون الإمام المهدي أولى بالمؤمنين أنفسهم وأموالهم، تماماً كما كان رسول الله (ص)، كما ثبت بالدليل؛ ومعه فهو يستطيع أن يعمل أيَّ عمل تقتضيه المصلحة، من دون أن تجوز مناقشته.

الأمر الثاني: أنَّ هذه القضية كلها ذات وجوه صحيحة، من وجهة نظر إسلامية وفقهية، كما سوف يأتي.

فإن لم يلتفت الفرد إلى هذين الأمرين، وتناسى - على وجه الخصوص - الحجَّة القطعيَّة التي أقامها الإمام المهدي (ع) على صدقه وعدالة قضيته... لم نستغرب منه أن يستغرب من هذه الأقضية، وإذا سنحت له الفرصة لأن يحتجَّ فإنَّه يبوح باستغرابه واستنكاره.

وقد يكون لهذا الاحتجاج صيغة فقهيَّة، هي أنَّ المهدي يجب عليه أن يُطبِّق القواعد القضائية الاعتيادية، ولكنَّه لم يفعل ذلك.

الحقل الثاني: أنَّنا لو نظرنا إلى الشخص المـُتديِّن الملتزم، نرى موقفه من تمحيص عصر ما قبل الظهور واضحاً إلى حدٍّ كبير، من حيث فهمه التام بأنَّ كل الأوضاع العالمية سياسية واجتماعية واقتصادية، قائمة على الظلم والانحراف، واتِّخاذ موقف الاحتجاج والسلبية تجاه هذه الظروف، أمر واضح عقائدياً لا غبار عليه، إذاً؛ فمن اللازم على هذا المـُتديِّن أن يصمد تجاه التيَّار، وأن ينجح في الامتحان الإلهي.

ولكنَّ هذا الفرد المـُتديِّن المـُلتزم، حين يواجه دولة الحق، وهو خالي الذهن عن احتمالات تصرُّفات المهدي وأقواله... وهو أيضاً قد يكون فجَّ التفكير من ناحية إمكان حمل التصرُّفات المـُلفتة للنظر والتساؤل على وجه صحيح، وليس في تصرُّفات الإمام المهدي (ع) ما يُخالف ذلك.

وهو أيضاً يحمل عن دولة الحق وعن تصرُّفات رئيسه مسبقات ذهنية مُعيَّنة، نتيجةً لثقافته الإسلامية التي تلقَّاها قبل الظهور، إذاً؛ فمن الطبيعي أن يكون له توقُّعات

٥١٨

مُعيَّنة عن سيرة الإمام وقضائه , وخاصة وهو لم يفهم وضوح معنى الحديث القائل: ( إنَّ المهدي يأتي بكتاب جديد، وأمر جديد، و قضاء جديد ).

فمثلاً: يجد هذا الفرد المـُتديِّن أنَّه من الواضح جدَّاً في الإسلام، أن يحكم القاضي طبقاً لقانون البيِّنة واليمين، فسوف يُمْنى بالصدمة العقائدية الشديدة، حين يرى إمامه وقائده يُخالف قواعد القضاء، ويُخالف باعتقاده واضحات الشريعة الإسلامية.

وحيث لا يعرف هذا الفرد وجوه التصحيح، فسوف يحتجُّ انتصاراً لاعتقاده، بل قد يؤول موقفه إلى الشكِّ بصدق المهدي (ع)؛ إذ لو كان هو المهدي المنتظر لكان مُطبِّقاً للشريعة، في حدود ضرورياتها الواضحة على الأقلِّ.

إنَّه من المـُحتمل أن يكون مثل هذا الفرد قد اعتقد بصدق المهدي (ع) مدَّة من الزمن، وقاتل بين يديه وتحت قيادته قتال الأبطال، وشارك بشرف فتح العالم بالعدل، غير أنَّه يجد الآن بعد سماعه قضاء المهدي أنَّه كان مُتوهِّم، وإنَّ أفعاله راحت هدراً، أنَّه لم يكن في حسبانه أنَّ هذا الإمام سيترك العمل بواضحات الشريعة.

وهكذا يبوء هذا الفرد بالفشل في هذا الامتحان الجديد، فيُصبح مُنحرفاً، كان يجب عليه التسليم لإمامه في كلَّما يفعل؛ لأنَّ واضحات الشريعة الشريعة إنَّما تؤخَذ منه لا أنَّها تُفرَض عليه، فاستنكار ذلك يُعدُّ انحرافاً، ولا بقاء للمـُنحرف في دولة العدل؛ ومن هنا يأمر المهدي بقتل كل مَن يحتجُّ على قضائه، وبذلك يذهب جماعة ممَّن ضرب قدَّام المهدي (ع) بالسيف.

الحقل الثالث: يُمكننا أن نُلاحظ في هذه الأقضية عدَّة أمور:

الأمر الأول: أنَّ الاحتجاج عليها خاص بالفقهاء العارفين بالشريعة، ومَن يقرب من مستواهم، وأمَّا عوام الناس فلا معرفة له بصحَّة ذلك أو فساده؛ ومن هنا يكون في المـُحتجِّين مَن كان قد اعتقد بالمهدي، وشارك في الفتح العالمي ممَّن له ثقافة إسلامية واسعة.

الأمر الثاني: أنَّ الرواية لا تدلُّ على انحصار الاحتجاج بأصحاب المهدي، وإنَّما تدلُّ على وجود الاحتجاج في أصحابه بالجملة، بشكل يُناسب أن يكون معهم غيرهم.

الأمر الثالث: أنَّ الرواية لا تدلُّ على كثرة المـُحتجِّين بشكل زائد في كل واقعة، بل لعلَّه عدد قليل.

٥١٩

الأمر الرابع: من المـُستطاع القول: إنَّ هؤلاء المـُحتجِّين من أصحاب الإمام (ع)، ليسوا على الإطلاق من المـُخلصين المـُمحَّصين من الدرجة الأُولى، وإنَّما هم من الدرجة الثانية فما دون.

وهذا واضح من الرواية حين تقول: ( يُنكرها بعض أصحابه، ممَّن قد ضرب قدَّامه بالسيف ).

فإنَّ الذي يُباشر الحرب ويتعرَّض للقتل بشكل رئيسي هو الجندي المـُحارب، دون القائد، وقد سبق أن عرفنا أنَّ الجنود يُمثِّلون الدرجة الثانية، على حين لا يتولَّى الأفراد من الدرجة الأُولى إلاَّ مراكز القيادة.

وأمَّا المـُخلصون من الدرجة الأُولى، ففشل بعضهم في هذا الامتحان، وإن كان مُحتملاً على أيِّ حال، طبقاً لما قلناه من صعوبة هذا التمحيص، إلاَّ أنَّ الصفات الكثيرة التي سمعنا عنهم تنفي ذلك... مثل كونهم لا تأخذهم في الله لومة لائم، وكونهم من خشية الله مُشفقون، وكونهم رُهبان بالليل وفُرسان بالنهار... وغير ذلك من صفاتهم.

فيكون من الراجح عدم فشلهم في هذا التمحيص، واختصاص هذا الفشل بمَن هو أقلُّ منهم إخلاصاً وتمحيصاً.

الأمر الخامس: أنَّ هذه الأقضية لا يعملها المهدي (ع)، إلاَّ بعد انتهاء الفتح العالمي واستتباب الأمن، والبدء بمُباشرة التطبيقات الإسلامية على كافَّة الأمور، بما فيها القضاء.

وهذا واضح من قوله: ( ممَّن ضرب قدَّامه بالسيف... )، الدالِّ على أنَّ الضرب بالسيف، يعني الفتح العالمي يكون قد انتهى، وهذا واضح أيضاً من القرائن العامة؛ إذ لا يكون للمهدي (ع) فرصة الفراغ إلى مثل هذه الأقضية إلاَّ بعد الحرب عادة، وهناك بعض النقاط حول ذلك نوكِلها إلى ذكاء القارئ.

الأمر السادس: أنَّه لا دليل على تتابع هذه الأقضية في أيَّام قليلة، من قِبل المهدي (ع)، والخبر الدالُّ على ذلك وإن أوحى ظاهره بذلك إلاَّ أنَّ (العطف) بـ ( ثُمَّ ) دليل على التراخي والفصل بين قضاء وقضاء بمدَّة كافية، وإن كان المظنون أنَّ مجموع هذه الأقضية لا يستغرق وقتاً طويلاً جدَّاً، بل يكفي فيه العام الواحد تقريباً.

الأمر السابع: أنَّه لا دليل على استمرار سيرة المهدي على العمل بهذه الأقضية، وإنَّما هو يعملها في الفترة الأُولى من مُباشرته للقضاء... ثمَّ يحكم أخيراً بقضاء محمد صلى الله عليه وسلم، ويستمرُّ عليه.

٥٢٠