موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)5%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 679

الجزء ١ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 212477 / تحميل: 11106
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

ونشر العدل والسعادة في ربوعهم، وإيصال الحق إلى أذهانهم.

واجتماع هاتين العاطفتين، أعني الشعور بالأُبوّة مع قصد القتل، لا تتوفّر لدى أيِّ أحد في التجربة الفعلية للفتح الإسلامي، إلاّ إذا كان معصوماً.

ومن هنا؛ رأينا الفتح الإسلامي بعد انحسار القيادة المعصومة عنه، قد تحوّل إلى مقاصد أُخرى لا تمتُّ إلى الشعور بالعطف الأبوي على الشعب المغلوب، بأيِّ صلة... وإنَّما أصبح الفتح تجاريَّاً محضاً، كما سمعنا طرفاً منه في (تأريخ الغيبة الصغرى)(١) .

فإذا كان هذا الشعور مُتعذِّراً لغير المعصوم في الفتح الإسلامي العالمي ذو النطاق المحدود، فكيف بالفتح الإسلامي العالمي، بما تزهق فيه من نفوس، وما تحصل فيه من أموال، وما يتّسع فيه من سلطان.

الفائدة الثالثة: عدم الانحراف بالقيادة عن مفهومها الإسلامي الصحيح، الذي يشجب استغلالها في سبيل ترسيخ الكرسي والتمسُّك بدفّة الحُكم والجَشَع الشخصي... هذه الآثار السيِّئة والعواطف المـُنحرفة التي لا يكاد تنفكُّ عن كل مَن يحكم رقعة من الأرض، أو دولة مُعيَّنة، فكيف إذا أصبح الحُكم عالمياً وأصبحت السيطرة والنفوذ في القمَّة من السعة والشمول.

إنّ الفرد مهما كان صالحاً ونقيَّاً قبل هذه القيادة، سيكون مثل هذه القيادة محكَّاً لانحرافه وطمعه، لمدى ضغط الدافع الشخصي والمصلحي على الفرد الحاكم، ما لم يكن معصوماً بالفعل عن ارتكاب كلِّ قبيح ومعصية في التشريع الإسلامي.

الفائدة الرابعة: الدقَّة الكاملة في التطبيق العالمي للأُطروحة العادلة الكاملة، ومن ثُمَّ الأخذ بزمام المجتمع للعبادة المحضة لله عزَّ وجلَّ، التي هي الهدف الأساسي من إيجاد الخليفة.

وهذه الدقَّة يمكن أن تتوفَّر للمعصوم بكل سهولة، بناءً على الفهم الإمامي للعصمة، وهو أنّ المعصوم مُمتنع عليه الخطأ والنسيان، مضافاً إلى عصمته من الذنوب، وأنّ الإمام ( متى أراد أن يعلم شيئاً أعلمه الله تعالى ذلك ) كما نطقت به الأخبار(٢) ، فإنَّ المشاكل العالمية مهما كثرت وتعقَّدت، يمكن للإمام المـُتَّصف بهذه الصفات، أن يُهيِّئ لحلِّها أقرب الأسباب.

____________________

(١) انظر ص٩٦ وما بعدها.

(٢) انظر: الكافي (الأصول) لثقة الإسلام الكليني (مخطوط) في باب بعنوان: أنَّ الأئمَّة إذا شاءوا أن يعلموا علموا.

٤١

ولعلَّ هذا هو السرُّ الأساسي في جعل هذه الصفات للمعصوم، واتِّصافه بها، مع أنًّه لا تترتَّب عليها مصالح الدعوة الإلهية بالمعنى الشخصي.

وذلك؛ أنَّه قد يُستشكل في الدليل العقلي التقليدي على العصمة، بأنَّ: غاية ما دلَّ عليه ذلك الدليل هو وجوب عصمته عن الذنوب، وعن الكذب في التبليغ والدعوة؛ لكي يكون كلامه مؤثِّراً في الآخرين ومُقنعاً لهم، بخلاف ما لو عرفوه مُحتمَل الكذب في حياته السابقة، فإنّ هذا التأثير لا يحصل لا محالة، أمّا عصمته عن الخطأ والنسيان فهو ممَّا لا يشمله ذلك الدليل؛ لإمكان تدراك ما فات بعد الالتفات.

والجواب عن ذلك - على ضوء النتائج السابقة: إنّ العصمة عن الخطأ والنسيان ممّا يتوقّف عليه التطبيق العالمي للعدل الكامل(١) ، وخاصة في مُهمَّته الأُولى، وتحويل العالم الفاسد إلى عالم صالح عادل، والمفروض في كل معصوم أن يكون على مستوى القيادة الثابتة له نظرياً، أعني أن يكون له من القابليّات ما يمنعه من التقصير في تنفيذها، باعتبار أنَّ إيكال الدعوة إلى شخص قاصر عن تطبيقها مُستحيل على الله عزَّ وجلّ، بل لا بدّ أن تنسجم دائماً مُدّعيات الدعوة الإلهيّة من الناحية النظرية، مع إمكان التطبيق على طول الخطِّ.

هذا حال المعصوم، أم الغير المعصوم، فيتعذَّر عليه تماماً قيادة العالم بالعدل، وخاصة في تحويل لأول مرَّة من الظلم إلى العدل، الأمر المملوء بالمشاكل والعَقبات.

ولعلَّ أطرف ما يُبرِّر ذلك، ما روي عن ذي القرنين، حين أوكل إليه الله تعالى قيادة العالم، ولم يكن حاكماً من الناحية العملية إلاَّ على بعض العالم... وقد أوحى الله تعالى: ( يا ذا القرنين، أنت حُجَّتي على جميع الخلائق ما بين الخافقين، من مطلع الشمس إلى مغربها، وهذا تأويل رؤياك.

____________________

(١) ولا يُنافي هذا ما قلناه في التاريخ السابق عن القاعدة القائلة: إذا أراد الإمام أن يعلم شيئاً أعلمه الله تعالى ذلك. فإنّنا حدّدناها هناك (ص٥١٧) ببعض القيود، ولكنّها في ضمن تلك الحدود تكون كافية للقيادة العالمية، ولا يقتضي الدليل الذي ذكرناه هنا ما هو أوسع من ذلك.

٤٢

فقال ذو القرنين:( يا إلهي، إنّك ندبتني لأمر عظيم، لا يقدر قدره غيرك، فأخبرني عن هذه الأمَّة، بأيَّة قوّة أُكابرهم؟ وبأيِّ عدد أغلبهم؟ وبأيِّ حيلة أكيدهم؟ وبأيّ صبر أُقاسيهم؟ وبأيِّ لسان أُكلِّمهم؟ وكيف لي بأن أعرف لغاتهم؟ وبأيّ سمع أعي قولهم؟ وبأيّ بصر أنقدهم؟ وبأيّ حُجّة أُخاصمهم؟ وبأيّ قلب أعقل عنهم؟ وبأيّ حكمة أُدبِّر أمرهم؟ وبأيّ علم أُتْقِنُ أمرهم؟ وبأيّ حِلم أُصابرهم؟ وبأيّ معرفة أُفضِّل بينهم؟ وبأيّ عقل أُحصيهم؟ وبأيِّ جُند أُقاتلهم؟ فإنّه ليس عندي ممّا ذكرت - يا ربِّ شيء -! فقوِّني عليهم، فإنَّك الربُّ الرحيم، الذي لا تُكلِّف نفساً إلاَّ وسعها، ولا تُحمِّلها إلاَّ طاقتها ) (١) .

فهذه الرواية تُبرز بوضوح صعوبة مُمارسة الحُكم العالمي، ولئن ذلَّلت المدينة الحديثة بعض هذه المصاعب إلى حدٍّ ما، فإنَّها أضافت إليها مصاعب وتعقيدات جديدة، تزيد في الطين بَلَّة، ولولا أنّ الله عزَّ وجلَّ وعده بعد ذلك - لو صحَّت الرواية - بالتوفيق والتسديد، لكان من الحقِّ تعذُّر - بل استحالة - القيادة الشخصية غير المعصومة للعالم، بل لبعض العالم، فإنَّ ذا القرنين لم يكن حاكماً للعالم، بل لبعض العالم، فإنَّ ذا القرنين لم يكن حاكماً للعالم كلِّه.

نعم، ترتفع هذه الاستحالة ويقلُّ التعذُّر، مع وجود القيادة الجماعية، إلاَّ أنَّنا سبق أن ناقشناها بالتفصيل في التاريخ السابق(٢) ، وسيأتي تطبيق ذلك في مُستقبل هذا التاريخ، وسيتَّضح أنَّه لا يمكن للمهدي أن يأخذ بالقيادة الجماعية إلاَّ بعد أن تمرَّ البشرية بتربية طويلة، طبقاً للمناهج التي يضعها بنفسه.

وعلى أي حال، فقد كان المقصود البَرْهنة على أهمِّيَّة الخصِّيصة الأُولى للمهدي (ع)، وهي صفة العصمة، وأنَّه لا يمكن لأيِّ شخص غير معصوم الاضطلاع بمُهمَّة القيادة العالمية.

وأمَّا الخصّيصة الثانية للإمام المهدي (ع) في الفهم الإمامي، وهي كونه القائد الشرعي والوحيد للعالم عامة، ولقواعده الشعبية خاصة، حتى في حال غيبته... فتترتَّب عليها عدَّة فوائد بالنسبة إلى مَن يؤمِن بقيادته، فإنَّ أثرها الكبير في تعميق التمحيص

____________________

(١) انظر إكمال الدين للشيخ الصدوق ( نسخة مخطوطة).

(٢) انظر تاريخ الغيبة الكبرى، ص ٤٧٧ وما بعدها.

٤٣

الإلهي وتوسيعه.

فإنَّ الفرد المؤمن بقيادته حال غيبته، حين يكون على محكِّ التمحيص الإلهي، الساري المفعول لأجل صقل إيمانه، وتعميق إخلاصه، وتكميل نفسه... إذا أخذ الفرد مفهوم القيادة المهدوي في ذهنه، فإنَّه سوف ينعكس على سلوكه بكل وضوح، وسيتَّجه إلى العمل والتضحية أكثر من الفرد الخالي من هذه الفكرة بطبيعة الحال، وذلك؛ لاقتران مفهوم القيادة المهدوية في ذهنه بعدَّة حقائق:

الحقيقة الأُولى: كونه جنديّاً مأموراً موجَّهاً بالفعل للعمل في سبيل الله وإطاعة أحكامه، وأنَّ أوامر قائده المهدي (ع) موجودة ومُتوفِّرة لدية مُتمثِّلة بالأحكام الإسلامية، فإنَّ المهدي هو المـُمثِّل الحقيقي للإسلام، فأوامر الإسلام أوامره، ورغبات النبي (ص) في أُمَّته رغباته.

الحقيقة الثانية: كونه مسوؤلاً ومحاسَباً أمام هذا القائد، ولو بشكل غير مُباشر، كيف، وأنَّ صوت القائد موجود في ضميره الإسلامي، يحمله على الخير ويردعه عن الشرِّ، وهذا الفرد يعلم أنَّ قائده حيٌّ مُطَّلع على ما يصدر منه من أعمال ويُقيِّم ما يقوم به من حسنات أو سيِّئات؟! فأحرى به أن يُدخل السرور عليه بحسناته، وأن لا يخجل أمامه بسيِّئاته وانحرافه.

الحقيقة الثالثة: الشعور بمظلومية هذا القائد حال غيبته، وبمظلومية البشر البائسة التي أوجبت لها غيبة إمامها، ومرورها بعصور الظلم والانحراف، كثيراً من القَمع والاضطهاد.

الحقيقة الرابعة: الشعور باتنظار هذا القائد، واحتمال ظهوره وقيامه بدولة الحق في أيِّ لحظة من الزمن، وهذا يستدعي، بطبيعة الحال، أن يُراعي الفرد تعميق إخلاصه، وإيمانه، وتضحياته في سيبل دينه... ليكون له الزلفة لدى إمامه وقائده عند ظهور وأهليَّة شرف المـُشاركة بين يديه في إصلاح العالم وقيادته.

إلى غير ذلك من الحقائق التي تكون كل واحدة منها - فضلاً عن مجموعها - من أكبر المـُحفِّزات للفرد المؤمن على مزيد العمل، والتضحية في الخطِّ الإسلامي الصحيح، وهذا نفسه يوجب النجاح في التمحيص الإلهي بشكل أعمق وأسرع بطبيعة الحال، ولا يمكن أن يترتَّب شيء من هذه الفوائد مع عدم الإيمان بقيادة الإمام المهدي (ع) وغيبته.

وهناك فوائد أُخرى تترتَّب على ذلك، تكون مشتركة مع الخصائص الآتية بحسب التطبيق والوجود؛ ومن هنا كان الأفضل ذكرها مع تلك الخصائص.

٤٤

الخصّيصة الثالثة: وهي عبارة عن مُعاصرة الإمام المهدي (ع) لأجيال طويلة من البشرية... ولها عدَّة فوائد، نقتصر منها على فائدتين تعود إحداهما على الإمام نفسه، وتعود الأُخرى على البشرية:

أمَّا الفائدة التي تعود إلى الإمام، فهي ما عرضناه في التاريخ السابق(١) وأقمنا عليه القرائن من أنّ مُعاصرة الإمام للأجيال توجب اطِّلاعه المـُباشر على قوانين تطوُّر التاريخ وتسلسل حوادثه، الأمر الذي يؤثِّر تأثيراً كبيراً في عُمق قيادته بعد ظهوره.

وأمّا الفائدة التي تعود إلى البشر، فهي باعتبار ما ورد في أخبار المصادر الخاصة، من الحاجة إلى وجود الإمام حاجةً كونيَّةً قهريَّةً مُضافاً إلى الحاجة القيادية.

منها: ما أخرجه ثقة الإسلام الكُليني في الكافي(٢) ، بإسناده عن أبي حمزة، قال: قلت لأبي عبد الله - الصادق - (ع): تبقى الأرض بغير إمام؟

قال: ( لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت ).

وما أخرجه بسنده عن أبي هراسة، عن أبي جعفر - الباقر - (ع)، قال: ( لو أنَّ الإمام رُفِع من الأرض ساعة لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله ).

وهي تدلُّ بظاهرها - بغض النظر عن إمكان حملها على الرمزية - بأنَّ بقاء الإمام ضروري لحفظ بقاء الأرض ومَن عليها، حتى يكون لها وجود ونظام كَوْنِي كامل، يمكن تنفيذ الوعد الإلهي وإنتاج التخطيط العام من خلاله، وهذا إنَّما يتمُّ مع وجود الإمام مُعاصراً لكل الأعوام والأجيال البشرية... وخاصة بعد الاعتقاد الإمامي المؤيَّد بأخبار العامة(٣) : بأنَّ الأئمة اثنا عشر. للحصول على هذه الفائدة.

وقد يكون هذا هو المراد من قول الإمام المهدي (ع)، فيما روي عنه: ( وإنِّي لأمان لأهل الأرض، كما أنَّ النجوم أمان لأهل السماء )(٤) .

____________________

(١) انظر تاريخ الغيبة الكبرى، ص ٥١٤ وما بعدها.

(٢) انظر باب: إنَّ الأرض لا تخلو من حُجّة، أصول الكافي، (نسخة مخطوطة).

وكذلك ما بعده. وانظر أيضاً: الغيبة للشيخ الطوسي ص ٩٢ ط النجف.

(٣) أخرجها البخاري: انظر ج٩ ص١٠١ ومسلم انظر ج ٦ ج ٣-٤ وغيرهما من الصحاح وكُتب الحديث.

(٤) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص ٥٤ عن الاحتجاج للطبرسي.

٤٥

الخصيصة الرابعة: كون الإمام المهدي (ع) على مستوى الاطِّلاع على الأحداث، يوماً فيوماً، وعاماً فعاماً، عارفاً بأسبابها ونتائجها.

وتحتوي على عدد من الفوائد مُضافاً إلى الفائدة الأُولى من الخصيصة الثالثة، أهمُّها: الحفاظ على المجتمع المسلم، ودفع البلاء الواقع عليه من أعدائه عليه.

فإنَّ الإمام المهدي (ع) حين يعلم يجريان الأحداث وأسبابها ومسبَّباتها، وما قد تؤول إليه من مُضاعفات، وحين يكون مُكلَّفاً إسلامياً برفع الأضرار والدواهي عن المجتمع المسلم، في بعض الحدود التي ذكرناها في التاريخ السابق(١) ... وقد وعد هو (ع) بذلك فيما وري عنه(٢) ... حين يكون كذلك، فإنَّه لا محالة يقوم بوظيفته المـُقدَّسة خير قيام، وقد عرضنا(٣) الأُسلوب الذي يُمكنه (ع) به أن يقوم بالأعمال النافعة خلال غيبته.

هذا مضافاً إلى تقييمه للناس والمجتمعات، طبقاً للميزان العميق الذي يحمله ويعرفه، الأمر الذي يوفِّر عدَّة نتائج:

منها: اطِّلاعه على درجة إيمان المؤمنين وإخلاص المـُخلصين، واتِّجاهاتهم السلوكية والعقائدية في الحياة.

ومنها: اطِّلاعه على سلوك المـُنحرفين والكافرين، ومُحتملات نتائجه على الإسلام والمسلمين، لأجل التوصُّل من ذلك إلى مُحاولة الحدِّ من تأثيره.

ومنها: معرفته بتحقيق شرط اليوم الموعود، الذي هو يوم ظهوره، وهو وجود العدد الكافي من الناصرين والمؤازرين له على فتح العالم، ومباشرة حكمه بالعدل طبقاً لأحد المـُحتملات في أسلوب تعرُّفه على يوم ظهوره، ممَّا سوف يأتي عرضه واختيار الصحيح منه.

الخصيصة الخامسة: وهي اتِّصال الإمام المهدي (ع) بالناس، ومُحادثته لهم وتفاعله معهم... ولها - على الأقلِّ - فائدتان، إحداهما خاصة بالإمام المهدي (ع)، والأُخرى عامة للمجتمع المسلم كله.

أمَّا الفائدة الخاصة به (ع)، فهو اختلاطه بالناس وارتفاع الوحشة عنه، تلك

____________________

(١) انظر تاريخ الغيبة الكبرى، ص ٥٣ وما بعدها.

(٢) المصدر ص ١٦٧ و ص١٧٥.

(٣) المصدر ص ١٧٦.

٤٦

الوحشة المـُشار إليها في بعض الأخبار(١) ، والثابتة له على تقدير بُعْدِه عن الناس وسُكناه في الصحارى والقفار، كما ورد في رواية ناقشناها في التاريخ السابق(٢) .

هذا، مضافاً إلى قضاء حوائجه الشخصية الضرورية لكل إنسان، بشكل أسهل من أيِّ أُسلوب آخر يتَّخذه في الحياة.

وأمَّا الفائدة التي تعمُّ المجتمع كله، باتِّصال المهدي (ع) بأفراده، فهي أنَّه (ع)، حين يتَّصل بالناس، يقوم بوظيفة الإسلامية تجاههم، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتقريبهم من الطاعة وإبعادهم عن المعصية، وحثِّهم على الأعمال العامة النافعة، وبذور الصلاح في الأفراد والمجتمع... في الحدود وبالشكل الذي سبق أن حوَّلناه على التاريخ السابق، ومن ثُمَّ السير قدماً بتحقيق الشرط الثالث من شرائط الظهور، باعتبار أنَّ الناس كلَّما ازداد إيمانهم وإخلاصهم، كلَّما كان احتمال تحقُّق العدد الكافي لغزو العالم أقرب وأوضح.

وهذا، وينبغي أن نعرف، في نهاية الحديث عن خصائص الإمام المهدي (ع) في غيبته، أنَّها خصائص مُتساندة ومُتعاضدة، باعتبار أنَّ المـُتَّصف بها شخص واحد، فمن المنطقي أن تكون الفوائد المـُشار إليها منطلقة من مجموع الخصائص، وإن كانت بواحدة ألصق ونحوها أقرب.

وبهذا يتمُّ الكلام عن المدلول الثاني للغيبة الكبرى.

وأمَّا المدلول الثالث للغيبة الكبرى، وهو استتار الإمام القائد، وخفاء شخصه وعمله ومكانه على الناس، أعني بصفته الحقيقية.

... ففائدته الكبرى بالنسبة إلى اليوم الموعود، هو حفظه (ع) من شرِّ الأعداء للقيام؛ ليبقى مذخوراً بالمهامِّ الكبرى في ذلك اليوم المجيد.

وهذا ما أُشير إليه في الأخبار:

____________________

(١) عن الإمام الباقر (ع) أنَّه قال: ( لابدَّ لصاحب هذا الأمر من عُزلة، ولابدَّ في عُزلته من قوَّة، وما بثلاثين من وحشة... ) الحديث. انظر تأريخ الغيبة الكبرى ص ٤٧ عن غيبة الشيخ الطوسي.

(٢) وهو ما ورد عن المهدي (ع) نفسه يقول - عن أبيه (ع) -: ( وأمرني أن لا أسكن من الجبال إلاَّ وَعِرها، ومن البلاد إلاَّ عفرها... ) الحديث. المصدر ص ٧٢.

٤٧

أخرج الشيخ الطوسي في الغيبة(١) ، بإسناده عن زرارة، قال: ( إنَّ للقائم غيبة قبل ظهوره ).

قلت: ولِمَ؟

قال: ( يخاف القتل ).

وفي حديث آخر(٢) ، عن زرارة بن أعين أيضاً، قال سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: ( إنّ للغلام غيبة قبل أن يقوم ).

قلت: ولِمَ؟

قال: ( يخاف ). وأومأ بيده إلى بطنه.

وأخرج الشيخ الصدوق في إكمال الدين(٣) ، بإسناده عن سعيد بن جبير قال: سمعت سيد العابدين علي بن الحسين يقول: ( في القائم منَّا سُنن من سُنَّة الأنبياء (ع)... - إلى أن قال: - وأمَّا موسى فالخوف والغَيْبَة... ) الحديث.

وفي حديث آخر(٤) ، عن محمد بن مسلم الثقفي الطحَّان، قال: دخلت على أبي جعفر محمد بن علي الباقر، وأنا أريد أن أسأله عن القائم من آل محمد صلوات الله عليه وعلى آله فقال لي، مُبتدئاً: ( يا محمد بن مسلم، إنَّ في القائم من آل محمد (ص) شَبهاً من خمسة من الرُّسل... - إلى أن يقول: - وأمَّا شَبهُه من موسى، فدوام خوفه، وطول غَيْبَته، وخفاء ولادته... ) الحديث.

ولعلَّ هذه الفائدة، هي المصلحة الوحيدة التي بيَّنتها الأخبار للغيبة الكبرى؛ باعتبارها المصلحة الوحيدة المناسبة مع المستوى الفكري والثقافي، الذي كان موجوداً في عصر صدور هذه الأخبار.

وثبوت هذه الفائدة واضح، بعد التسليم بأمرين:

الأمر الأول: الفَهْم الإمامي القائل: بأنَّ المهدي هو الإمام الثاني عشر من الأئمة المعصومين (ع). الذي هو الفهم الذي ننطلق منه في إثبات أكثر مداليل الغيبة الكبرى، كما عرفنا.

الأمر الثاني: إنَّ الإمام المهدي (ع) لو كان ظاهراً معروفاً بحقيقته، قبل اليوم

____________________

(١) ص٢٠١.

(٢) نفس المصدر ص٢٠٢.

(٣) نسخة مخطوطة غير مُرقَّمة الصفحات.

(٤) نفس المصدر.

٤٨

الموعود، لقتله الظالمون لا محالة... بعد التسالم الواضح على أنَّ هدفه الأساسي هو تطهير الأرض من الظلم، وتبديل أوضاع الظالمين. إذاً؛ فكل مَن لا يرضى بهذا التبديل، انطلاقاً من انحرافه ومصالحة الشخصية، سيكون ضدَّه.

وسيكون القضاء على المهدي (ع) مُتيسِّراً بأسهل طريق؛ لأنه ليس له مَن ينصره أو يُدافع عنه، أو ويوجَد مَن لا يكفي لذلك؛ لما عرفناه مُفصَّلاً من أنَّ نصره مُتوقِّف على تمخُّض التخطيط العام، عن وجود العدد الكافي لغزو العالم بالعدل، وإنَّ هذا لا يتمُّ إلاّ قُبيل ظهوره، وإمّا خلال المدّة المـُتخلِّلة قبله، فإنَّ التخطيط لم ينتهِ بعد ولم يُنتج هذا العدد الكافي. إذاً فقيامه بالثورة العالمية مُتعذِّر تماماً، ودفاعه عن نفسه بدون ذلك مُتعذر أيضاً؛ لاقتران وجوده في أذهان الناس بالثورة العالمية... إذاً فتعيَّن أن يكون غائباً غير معروف، وأن لا تنكشف حقيقته إلاَّ يوم ظهوره في اليوم الموعود؛ وذلك من أجل أن يبقى مذخوراً لتلك المـُهمَّة الأُخرى، ومن الواضح أنَّ مقتله يُفقد اليوم الموعود قائده، الذي لا يوجد غيره - بحسب الفهم الإمامي - ومن ثُمَّ يخلُّ بالدولة العالمية، وبالهدف العام من خلق البشرية.

وقد يخطر في الذهن: أنَّ المهدي (ع) يمكن أن يكون معروفاً، إلاَّ أنَّ الله تعالى يحفظه عن طريق المعجزة؛ لأجل تنفيذ اليوم الموعود والهدف العام... بعد أن عرفنا من قانون المعجزات، أنَّ كل ما يتوقَّف عليه الغرض الإلهي يمكن إقامة المعجزة فيه.

وجواب ذلك: إنَّنا عرفنا إلى جنب ذلك من قانون المعجزات، أنَّه متى أمكن السير نحو الهدف بدون مُعجزة، كان الطريق الطبيعي غير الاعجازي، مُتعيِّناً، ولا تحدث فيه معجزة.

فبالنسبة إلى المهدي (ع)، حين كان هو الإمام الثاني عشر من المعصومين (ع)، ولا إمام بعده، كان حفظه لليوم الموعود وإطالة عمره مُتعيِّناً بالمعجزات، ولا بديل لذلك؛ ومن أجل هذا حدثت المعجزة وطال عمره. وأمَّا حفظه لذلك اليوم، بمعنى دفع القتل عنه، فهذا لا يتعيَّن عن طريق المعجزة، بل يمكن أن يكون عن طريق الغيبة أيضاً، وهي طريق طبيعي واضح، كما سبق أن برهنَّا في التاريخ السابق(١) لا يتضمَّن في أساسه إلاَّ غفلة كل أفراد البشر عن حقيقته، وعدم العلم بكونه هو المهدي، ومن ثُمَّ لا يوجد عند أحد القصد إلى قتله، بصفته مهديَّاً. وقلنا: إنَّه إذا أمكن الطريق الطبيعي، ولا تقوم المعجزة بتنفيذه.

____________________

(١) انظر تأريخ الغيبة الكبرى ص ٣٨.

٤٩

وبمعرفتنا مداليل الغيبة الكبرى ونتائجها الكبرى، بالنسبة إلى الأُمَّة الإسلامية خاصة والبشرية عامة، وبالنسبة إلى الإمام المهدي (ع) خاصة، وتنفيذ اليوم الموعود عامة... يتبرهن لدينا - بوضوح - أهمِّيَّة الغيبة الكبرى، وكونها رئيسياً في التخطيط الإلهي العام لا يمكن الاستغناء عنه.

وأمَّا مع الأخذ بالفهم غير الإمامي للمهدي، وكونه شخصاً يولَد في زمانه، وسيُوفَّق للثورة العادلة في حينه، إنَّ مثل هذا القائد لن يستطيع بأيِّ حال قيادة العالم قيادة عادلة عادةً، ولو فرضنا - جدلاً - أنَّه استطاع ذلك لفترة، فهو لا يستطيع ضمان بقاء التطبيق الإسلامي على الدوام، كما هو المفروض في دولة المهدي، وسيأتي الاستدلال عليه.

وينطلق الحُكم بعدم استطاعة مثل هذا الإنسان القيام بهذه المهمَّة، من حقيقة عدم لياقته لذلك، وقصوره عنه قصوراً تامَّاً، بعد كونه فاقداً لكل النتائج التي عرفناها للغيبة الكبرى، وبخاصّة صفة العصمة التي يكون فاقداً لها ولكلِّ خصائصها المـُهمَّة.

وأمَّا المدلول الأول الذي يشمل الفهم غير الإمامي للمهدي، فنتائجه تظهر في الأمَّة أو البشرية، وليس لها نتائج خاصة بالمهدي كما مرَّ.

٥٠

الفصل الثالث

توقيت الظهور

من ناحية شرائطه وعلاماته

إنَّ أهمَّ الفروق بين شرائط الظهور وعلاماته، هو أنَّ الشرائط عدَّة خصائص لها التأثير الواقعي في إيجاد يوم الظهور والنصر فيه، وانجاز الدولة العالمية، ولولاها لا يمكن أن يتحقَّق، سواء وجدت أم لم توجد، وإنَّما هي أمور جُعلت من قِبَل الله سبحانه، وبلغت إلى البشر من قِبل الصادقين قادة الإسلام الأوائل، بصفتها دوالاَّ ًوكواشف عن قُرب الظهور، إذا كانت من العلامات القريبة، أو عن أصل حصوله، لو كانت من العلامات البعيدة؛ وذلك ليكون الأفراد المـُنتظِرون لذلك اليوم المـُختارون للعمل فيه نتيجة لنجاحهم التامِّ في التمحيص، بحالة التهيُّؤ النفسي الكامل لاستقباله عند حدوث العلامات القريبة.

وهذا هو الذي قلناه في التاريخ السابق(١) ، وعرفنا فيه(٢) عدَّة فروق بين الشرائط والعلامات بالنسبة إلى ما بعد الظهور.

عرفنا في الفصل الأول، أنَّ المـُهمَّ المـُتبقِّي ممَّا لم يحدث إلى الآن من شرائط الظهور، ولم يتمخَّض التخطيط الإلهي عن إيجاده، أمران:

الأمر الأول: تربية الأمَّة ككل من الناحية الفكريَّة؛ حتى يكون لها القابلية لاستيعاب وفَهْمِ وتطبيق القوانين الجديدة التي تُعلَن بعد الظهور.

الأمر الثاني: تربية العدد الكافي للنَّصْر في يوم الظهور، من الأفراد المـُخلصين

____________________

(١) تاريخ الغيبة الكبرى ص ٥٣٠

(٢) المصدر ص ٤١٠ وما بعدها.

٥١

الكاملين المـُمحَّصين، الذين يكونون على مستوى التضحية والفداء لتطبيق الأطروحة العادلة الكاملة.

وهذان الأمران يحدثان تدريجاً نتيجة للتربية الطويلة البطيئة للأمَّة، تحت الظروف والخصائص التي سبق أن عرفناها، وسوف لن يتمخَّض التخطيط الإلهي لإيجادهما إلاَّ قُبْيل الظهور.

وبتعبير آخر: إنَّهما عندما يتحقَّقان يكون اليوم الموعود نافذاً بجميع شرائطة، ومعه لا يمكن أن يكون مُتخلِّفاً أو مُتأخِّراً عن ذلك.

وأمَّا الاطَّلاع على أنَّهما تحقَّقا فعلاً أو لم يتحقَّقا، فهو ممَّا لا يمكن أن يعرفه الناس إلاَّ عند الظهور؛ لأنَّه يكون دالاَّ ًعلى تحقُّقهما قبله لا محالة، ولا يحصل هذا الاطِّلاع عند البشر إلاَّ للإمام المهدي نفسه، على ما سنذكره في فصل قادم.

وهذان الشرطان يكونان مُقترنين في تطوُّرهما التدريجي، والوصول إلى الغاية المطلوبة، وبخاصة وهما لا يتضمَّنان في مفهومهما مقداراً مُحدَّداً غير قابل للزيادة؛ إذ في الإمكان تطوُّر الأمَّة من الناحية الفكرية والإخلاص على الدوام، غير أنَّ لهذين الأمرين ( حدٌّ أدنى ) يصلح أن يقوم عليه اليوم الموعود، ومع تحقُّق هذا الحدِّ الأدنى لكلا الشرطين معاً يكون اليوم الموعود واقعاً ونافذاً لا محالة، ويكون التطوُّر الزائد في جوانب الأمَّة الإسلامية موكولا ً إلى ما بعد الظهور.

وهذان الشرطان مُتشابهان في التطوير إلى حدٍّ كبير، تبعاً لازدياد الظلم والانحراف، المـُنتج لهما معاً، ولكن لو فُرِض أنَّ أحدهما كان أسرع من الآخر، فترة من الوقت، بحيث وصل إلى الحدِّ الأدنى المطلوب قبل الآخر كما يُتصوَّر - عادة - في الجانب الفكري، فإنَّه أسرع تطوُّراً من جانب الإخلاص وقوَّة الإرادة، كما برهنَّا عليه في التاريخ السابق(١) ... هو حصول الحدِّ الأدنى من العدد الكافي من الجيش الفاتح للعالم، مع تعمُّق القابلية الفكرية للأمَّة أكثر دقَّةً ورسوخاً، وكذلك لو فُرِض تطوُّر الإخلاص أكثر من القابلية الفكرية، فإنَّه ممَّا لا ضير فيه، إن لم يكن أكثر نفعاً بالنسبة إلى يوم الظهور.

وعندما يتكامل هذان الشرطان، تكون كل الشرائط المطلوبة قد اجتمعت في زمن واحد، فالأطروحة العادلة

الكاملة موجودة بين البشر، مُتمثِّلة بتعاليم الإسلام كما برهنَّا

____________________

(١) انظر تأريخ الغيبة الكبرى ص٢٦٥.

٥٢

عليه في التاريخ السابق(١) ، والأمَّة قد تربَّت على فَهمها بدقَّة وإتقان، وأصبحت قابلة لتفهُّم القوانين الجديدة التي تكون على وَشَكِ الصدور في اليوم الوعود، والقائد موجود متمثل بالإمام المهدي (ع) على كلا الفَهْمين الإمامي وغيره، والعدد الكافي من الجيش العقائدي القيادي مُتوفِّر لفتح العالم، ونشر العدل والسلام بين ربوعه، مع وجود العامل المـُساعد المـُهمّ، وهو انكشاف نقاط الضعف لكلِّ التجارب البشريَّة والمبادئ والقوانين الوضعية السابقة على الظهور، واليأس من حلٍّ بشري جديد، كما سبق أن أوضحناه في التاريخ السابق(٢) .

وإذا اجتمعت هذه الشرائط، كان تنفيذ الوعد الإلهي والغرض الأهمّ من الخَلق ضرورياً، لاستحالة تخلُّف الوعد والغرض في الحِكمة الإلهية الأزليَّة.

ومن هنا نعرف أنَّ وقت الظهور، منوط باجتماع هذه الشرائط.

ومن أجل ذلك ، قد يخطر في الذهن مُنافات ذلك مع ما ورد في أخبار المصادر الخاصة، من نفي التوقيت وتكذيب الوقَّاتين.

كرواية الفضيل، قال: سألت أبا جعفر (ع): هل لهذا الأمر وقت؟

فقال: ( كَذَبَ الوقَّاتون! كَذَبَ الوقَّاتان! كَذَبَ الوقَّاتون ).

وعن أبي عبد الله الصادق (ع): ( كَذَبَ الوقَّاتون! وهلك المـُستعجلون، ونجا المـُسلِّمون، وإلينا يصيرون ).

وعنه (ع): ( مَن وقَّت لك من الناس شيئاً، فلا تهابنَّ أن تُكذِّبه، فلسنا نوقِّت لأحد وقتاً )(٣) .

وأخرج النعماني، عن أبي بكر الحضرمي، قال: سمعت أبا عبد الله ( ع) يقول: ( إنَّا لا نوقِّت هذا الأمر )(٤) .

وهذه الأخبار بعدد قابل للإثبات التاريخي، وواضحة الدلالة على نفي التوقيت، فلو كان ما ذكرناه من اقتران اليوم الموعود بشرائطه توقيتاً له، إذاً يجب تكذيبه جملةً وتفصيلاً.

____________________

(١) المصدر ص ٢٦١.

(٢) تأريخ الغيبة الكبرى ص٢٤٩ وغيرها.

(٣) الغيبة للشيخ الطوسي ص٢٦٢... الأخبار الثلاثة كلُّها

(٤) الغيبة للنعماني ص ١٥٥.

٥٣

إلاَّ أنَّه من حُسن الحظِّ! أنَّ التوقيت المنفي ليس هو ذلك، بل المراد به - بوضوح - تحديد الوقت بتاريخ مُعيَّن، كما لو قيل - مثلاً -: إنَّ الظهور أو اليوم الموعود، يكون في سنة ألفين ميلادية، أو في سنة ألفين هجرية.

والقرينة على ذلك، ما ورد من الأخبار التي تنفي توقيتاً مُعيَّناً، كالذي أخرجه النعماني(١) ، بإسناده عن عمار الصيرفي قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: ( قد كان لهذا الأمر(٢) وقت، كان في سنة أربعين ومئة، فحدَّثتم به وأذعتموه، فأخَّره عزَّ وجلَّ ).

وعن أبي الثمالي، قال سمعت أبا جعفر (ع) يقول: ( يا ثابت، إنَّ الله كان قد وقَّت هذا الأمر في سنة السبعين، فلمَّا حدَّثناكم بذلك أذعتم وكشفتم قناع الستر، فلم يجعل الله لهذا الأمر بعد ذلك عندنا وقتاً، يمحو الله ما يشاء ويُثبت وعنده أُمُّ الكتاب ).

وفي هذه الأخبار بعض المفاهيم وبعض المـُناقشات، لا مجال للدخول فيها، ولكنَّها لا تضرُّ بما نريده الآن، من أنَّها دالَّة على أنَّ المراد من التوقيت تحديد الوقت بتاريخ مُعيَّن، فإنَّ الروايات الأخص تكون قرينة على الأعم.

وهذا النحو من التوقيت فيه عدد من نقاط الضَّعف:

النقطة الأُولى: إنَّه جُزاف بدون أيِّ دليل؛ كيف، وقد أجمع المسلمون على أنَّ وقت اليوم الموعود موكول إلى علم الله عزَّ وجلّ. مع الغموض التام بالنسبة إلى الناس...؟! بل ظاهر الرواية الأخيرة أنَّه خفي حتى على المعصومين أنفسهم، ومن هنا يكون ذكر أيِّ تاريخ مُعيَّن جزافاً محضاً وكذباً صريحاً.

النقطة الثانية: إنَّ تاريخ الظهور لو كان مُحدَّداً معروفاً، لكان من أشدِّ العوامل على فَشل الثورة العالمية، وفناء الدولة العادلة؛ فإنَّه يكفي أن يحتمل الأعداء ظهوره في ذلك

____________________

(١) المصدر ص ١٥٧ وكذلك الخبر الذي يليه.

(٢) المراد من هذا الأمر ما يشمل ظهور المهدي (ع) وليس خاصاً بذلك، وفي بعض الروايات ما هو خاص به كذلك أخرجه النعماني، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع) قال قلت له: جُعلت فداك، متى خروج القائم عليه السلام. فقال: ( يا أبا محمد، إنَّا أهل بيت لا نوقِّت، وقد قال محمد (ص): كَذَب الوقَّاتون... ) الحديث ( غيبة النعماني ص١٥٥ وما بعدها ).

٥٤

التاريخ، ولو اعتبار المسلمين ذلك، فيجتمعوا على قتله في أول أمره وقبل اتِّساع مُلكه واستتباب أمره.

ولذا اقتضى التخطيط الإلهي - من أجل إنجاح اليوم الموعود - أن يكون الظهور فجائيَّاً، مثاله مثال الساعة لا يُجلِّيها لوقتها، كما نطقت بذلك الأخبار وسنرى ما لعنصر المفاجأة من أثر فعال في نصره.

النقطة الثالثة: إنَّ الأُمَّة الإسلامية حين يكون التخطيط الإلهي قد أنتج نتيجته فيها، ولم يُصبح بعد على مستوى مسؤولية اليوم الموعود، فإنَّها تكون مُقصِّرةً بالنسبة إلى كل حدود ومقدِّماته... وتكون هذه الحدود والمقدِّمات فوق مستواها العقلي والثقافي والديني؛ ومن هنا لم يتورَّع الناس عن إفشاء التوقيت الذي كان فيما سبق، ولو أعطوا وقتاً جديداً لأفشوه أيضاً لا محالة... ومن هنا أُلْغي التوقيت، كما سمعنا من هذه الأخبار.

وهذا أيضاً أحد الأسباب في تحريم تسمية الإمام المهدي (ع) خلال غيبته الصغرى، كما سمعنا في تاريخها(١) ؛ فإنَّهم إن عرفوا الاسم أذاعوه، وإن علموا بالمكان دلُّوا عليه.

وهذا القصور العام في الأمَّة هو المـُشار إليه في بعض الأخبار، كقول الإمام موسى بن جعفر (ع): ( يا بُني عقولكم تضعف عن هذا، وأحلامكم تضيق عن حمله، ولكن إن تعيشوا تُدركوه )(٢) .

فإنَّ المراد بالعقول ما نُسمِّيه بالمستوى الفكري والثقافي، والمراد بالأحلام ما نُسمِّيه بالإخلاص وقوَّة الإرادة، وكون الأُمَّة على مستوى المسؤولية... وكلاهما ضعيفان بمنطوق الرواية، كما دلَّ عليه البُرهان أيضاً.

وليس المراد من هذه الرواية وأمثالها ما يفهمه بعض الناس، من امتناع التعرُّف على مصلحة الغيبة، وخفاء مصلحة وجود الإمام خلالها... بعد كل الذي سبق أن عرضناه في كُتب هذه الموسوعة مُستفاداً من القرآن الكريم والسنَّة الشريفة نفسها.

النقطة الرابعة: إنَّ وقت الظهور وإن كان مُحدَّداً في علم الله الأزلي، لكنَّه بالنسبة إلى علله وشرائطه ينبغي أن لا يُفترض له وقت مُحدَّد.

____________________

(١) انظر تأريخ الغيبة الصغرى ص٢٧٧ وما بعدها.

(٢) رواه النعماني في غيبته ص٧٨، ونقلناه في تأريخ الغيبة الكبرى ص١١.

٥٥

فإنَّ تحديد التاريخ يمكن أن يكون على مُستويين:

المـُستوى الأول: علم الله الأزلي بالأشياء منذ القدم، المـُتعلِّق بكل المـُمكنات أو المخلوقات بأسبابها ومسببَّاتها.

المـُستوى الثاني: وجود المعلول بالنسبة إلى وجود علَّته، فإنَّ المعلول يحدث متى حدثت عِلَّته، بلا دخل للزمان في ذلك أصلا ً.

مثاله: إنَّنا لو نسبنا تاريخ إكمال بناء البيت بالنسبة إلى القوى المادَّية والبشرية العاملة فيه، كان تاريخه منوطاً بتحقيق هذه المـُكوِّنات، حتى ما إذا وضع البنَّاء آخر حجر في كيان الدار، تكون هذه الدار قد انتهت، بغَضِّ النظر عن طول زمن البناء وقصره... فإنَّه قابل للاختلاف حسب الظروف والطوارئ والقابليَّات والإمكانيَّات.

وحيث يُبرهَن فلسفيَّاً بأنَّ علم الله تعالى الأزلي المـُتعلِّق بالأشياء ليس علَّة لها، وإنَّما يتعلَّق بها ويكشف عنها على ما هي عليه في الواقع.

إذاً؛ ففي الإمكان قَصر النظر عن تعلُّق ذلك العلم به، ومعه يكون المستوى الثاني للتوقيت صحيحاً، ويكون وجود الشيء منوطاً بوجود عِلَّته واجتماع شرائطه ومُكوِّناته، من دون أن يكون الزمن ملحوظاً في تحديد حدوثه على الإطلاق... بل قد يكون قابلاً للزيادة والنقص، كما قلنا.

ومن هذا القبيل، يوم الظهور، فإنَّنا لو غضضنا النظر عن علم الله الأزلي لم يبقَ لدينا أيُّ وقت مُحدَّد له، وإنَّما هو منوط بحصول شرائطه وعِلله، فمثلاً نقول: متى اجتمع العدد الكافي للغزو العالمي بالعدل الكامل. من المـُخلصين المـُمحَّصين، كان يوم الظهور ناجزاً، سواء كان زمان وجودهم والفترة التي تُحقِّقهم طويلة جدَّاً أم قصيرة.

وهذا دليل آخر على أنَّ التوقيت بمعنى تحديد التاريخ المـُعيَّن جُزاف محض.

وهذا هو مُرادنا من التوقيت الذي برهنَّا عليه، وهو توقيت إجمالي يخلو من التحديد بالزمان تماماً، فلا يكون قولاً جزافاً ولا واجب التكذيب، كما لا يكون تحديده الإجمالي خطراً على الإمام المهدي، وموجباً لفشل مُهمَّته بعد الظهور. هذا تمام الحديث في توقيت الظهور باعتبار شرائطه.

وأمَّا توقيت الظهور باعتبار علاماته، فقد سبق أن عرفنا في التاريخ السابق جملة من العلامات، وفحصنا أدلَّتها ودقَّقنا في معانيها... ولنا موقف آخر معها في الباب الثاني الآتي من هذا التأريخ.

٥٦

والمـُهمُّ هنا هو أن نعرف أنَّ العلامات على قسمين:

القسم الأول: علامات واردة في الأخبار، لا على أن تقع قبل الظهور بزمن قليل، بل على أن تقع قبله، ولو بزمان بعيد وأمد طويل.

وقد عرفنا في التاريخ السابق، أنَّ أغلب هذه العلامات قد تحقَّقت وصدَّقت بها الأخبار، إلاَّ إنَّها في واقعها لا تحتوي على أيِّ توقيت بالنسبة إلى الظهور، وإنَّما لها فوائد أُخرى، أهمُّها: أنَّ الخبر الوارد إذا قرن الحادثة بالظهور وأنَّها واقعه قبله في الجملة.

ثمَّ رأينا الحادثة قد حدثت، فنعرف أنَّ الخبر صادق في إخباره عن الحادثة، ومن ثَمَّ فهو صادق بإخباره عن حصول الظهور ولو في مستقبل الدهر، وبهذا تكون هذه الحادثة علامة على الظهور.

القسم الثاني: من العلامات ما صرَّحت الأخبار بقُرب حصوله من زمن الظهور.

وقد قلنا في التاريخ السابق(١) : إنَّ هذا النحو من العلامات وإن لم يكن له ارتباط سببي بيوم الظهور، إلاَّ أنَّه ممَّا جعله الله تعالى تنبيهاً لخاصة أوليائه المـُخلصين المـُمحَّصين علامةً على قُرب الظهور، ليكونوا على الاستعداد التام من الناحية النفسية والعقائدية لاستقبال إمامهم وقائدهم، وتلقِّي مهامَّهم ومسؤولياتهم عنه.

بل إنَّ التهيُّؤ النفسي غير خاص بالمـُمحَّصين، بل شامل لكل مسلم مسبوق بوجود هذه العلامات، وخاصة بعد تحقُّقها والتأكُّد من صدق الإخبار السابق عنها، غير أنَّ تهيُّؤ الأفراد لاستقبال الظهور يختلف باختلاف درجة ثقافتهم وإيمانهم ووعيهم، ويكون أحسن أشكال التهيُّؤ صادراً - بطبيعة الحال - من المـُخلصين المـُمحَّصين، وسيكون لهذه الفكرة نتائجها في مُستقبل هذا البحث.

وهذا القسم من العلامات يتضمَّن التوقيت بوضوح، ويُشير إلى قُرب حصول الظهور؛ ومن هنا أمكن التهيُّؤ لاستقباله.

إلاَّ إنَّه قد يخطر في الذهن سؤالان حول ذلك:

السؤال الأول: إنَّ هذه العلامات كما تُنبِّه المـُخلصين الذين يعدُّون أنفسهم للفداء بين يدي المهدي (ع)، كذلك تكون مُنبِّهة لأعداء المهدي (ع)، فيُعدُّون أنفسهم للقضاء عليه وطمس حركته، في أول حدوثها.

____________________

(١) انظر تأريخ الغيبة الصغرى ص٥٣٠.

٥٧

وهذا سؤال أثرناه في التاريخ السابق، وأجبنا عنه مُفصَّلاً(١) ، ومُجمل الفكرة: أنَّ الأعداء سوف لن يلتفتوا إلى حصول هذه العلامات، ولو التفتوا فإنَّهم لن يعلموا أنَّها من قَبيل العلامات إلى ظهور المهدي (ع)، ولو علموا فإنَّهم لن يستطيعوا التألُّب عليه؛ لأنَّه يظهر في زمان غير مناسب لذلك، على ما سنرى في فصل قادم.

ولو فرضنا أنَّهم التفتوا وتألَّبوا، فلا يكون ذلك مُجدياً أيضاً؛ لما سنعرفه في مُستقبل البحث، من أنَّ المهدي (ع)، لن يُعلن عن أهدافه الكاملة لأول وهْلَة؛ ومن هنا فلن تلتفت الدول إلى خطره المباشر عليها، إلاَّ بعد أن تقوى شوكته ويتَّسع سلطانه.

إذاً؛ فلو كانوا تألَّبوا فإنَّهم سوف لن يستعملوه ضدَّه إلاَّ بعد فوات الأوان.

السؤال الثاني: إنَّ التوقيت بهذه العلامات، مُنافٍ للأخبار النافية للتوقيت، والآمرة بتكذيب الوقَّاتين.

والجواب على ذلك، يكون على مستويين:

المستوى الأول: أن ننظر إلى الزمان المـُتخلِّل بين وقوع هذه العلامات كزماننا هذا... ونقول: بأنَّ هذه العلامات لو وقعت لدلَّت على قُرب الظهور، وهذه قضية صادقة لا تشتمل على التوقيت المنهي عنه على الإطلاق، وإنَّما هي توقيت إجمالي، كالذي قلناه في شرائط الظهور تماماً: من أنَّها لو حصلت لظهر المهدي (ع)، فإنَّ عدم الاطِّلاع على زمان وقوع هذه العلامات، مُستلزم بطبيعة الحال لجهالة زمان الظهور وعدم تحديده، ذلك التحديد المـُنفي من الأخبار.

المستوى الثاني: أن ننظر إلى الزمان المـُتخلل بين وقوع هذه العلامات وبين الظهور، فإنَّ كل فرد يُشاهد إحدى العلامات القريبة، من حقِّه أن يقول: إنَّ المهدي (ع) سيظهر بعد قليل. ويمكن أن نفهم هذا القول على شكلين:

الشكل الأول: إنَّ هذا القول لا يحتوي على تحديد مُعيَّن للوقت، باعتبار أنَّه يبقى مُردَّداً بين اليوم والأيام، بل بين العام والأعوام، فإنَّ تخلُّل عشرة أعوام - ممَّا بين ظهور العلامة القريبة وظهور المهدي (ع) - غير ضائر بكونها قريبة، لضآلة هذه الأعوام العشرة، تجاه الزمان الطويل السابق عليها، ومعه فلا تكون تحديداً، ولا تندرج في الأخبار النافية للتحديد.

____________________

(١) المصدر السابق ص ٥٣٢.

٥٨

الشكل الثاني: أن نتنازل عمَّا قلناه في الشكل الأول، ونقول: إنَّ هذا القول، أعني: أنَّ المهدي سيظهر بعد قليل... يتضمَّن التحديد والتوقيت.

إذاً، فلا بدَّ من الالتزام بأنَّ الأخبار الدالَّة على وقوع العلامات القريبة مُخصِّصة لأخبار التكذيب، وخارجة عن مدلولها، وتكون النتيجة: أنَّ كل تحديد لتاريخ يوم الظهور كذب وواجب الرفض، إلاَّ إذا كان مُستنداً إلى حدوث علامة من العلامات القريبة، فإنَّه يكون صادقاً وجائز التلقِّي بالقبول.

ولأجل ذلك - في الحقيقة - وضِعت هذه العلامات، وهو تأكُّد المـُخلصين المـُمحَّصين من قُرب الظهور، ومعه؛ فمن غير المـُحتمَل بقاء التحديد كاذباً ومُحرَّماً إلى ذلك الحين، كما أنَّه ليس جزافاً من القول بعد استناده إلى العلامة التي سمع بوقوعها في الأخبار، وقد رآها مُتحقِّقة في عالم الوجود.

مع العلم، أنَّ هذه العلامات لا تدلُّ على أكثر من اقتراب اليوم الموعود، وأمَّا تحديده باليوم والشهر ونحوه، فيبقى سِرَّاً في علم الله تعالى، حتى يتحقَّق الظهور.

٥٩

٦٠

الفصل الرابع

الأيديولوجيَّة العامَّة التي يتبنَّاها المهدي (ع)

تجاه الكون والحياة والتشريع

والذي نريد التعرُّف عليه في هذا الصدد، هو الاطِّلاع الكامل على العُمق الحقيقي للوعي الذي ينشره الإمام المهدي في المجتمع، لا تفاصيل الأُسس العامة التي تبتني عليها الأيديولوجية يومذاك، فإنَّ ذلك ممَّا يتعذَّر الاطِّلاع عليه قبل يوم الظهور، كما ذكرنا في التمهيد.

وإنَّما الذي نُثير التساؤل عنه ونُحاول التعرُّف عليه الآن، هو بعض العناوين العامة التي يُتصوَّر اتجاه الأيديولوجية المهدوية نحوها، أو التي قد يخطر في الذهن ذلك منها، ومعه يكون التساؤل مُثاراً عن أمور أربعة:

الأمر الأول: الدين يعتنقه المهدي (ع)، ويُعلنه في العالم.

الأمر الثاني: المذهب الذي يتَّخذه (ع).

الأمر الثالث: التساؤل عمَّا إذا كان يتبنَّى بعض المفاهيم المـُحدَّدة الضيِّقة، كالعنصرية، والقومية، والوطنية ونحوها.

الأمر الرابع: التساؤل عمَّا إذا كان نظامه مُشابهاً في المفهوم أو المدلول مع الأنظمة السابقة على الظهور، كالرأسمالية والاشتراكيَّة، أو لا؟

ونتكلَّم عن كل من هذه التساؤلات الأربعة، في ضمن جهة من الكلام.

الجهة الأُولى: في الدين الذي يتبنَّاه الإمام المهدي (ع) ويحكم العالم على أساسه.

وهو دين الإسلام بصفته الأطروحة الكاملة التي تُحقِّق العبادة الحقيقية المـُستهدفة من خلق البشرية أساساً، كما سبق أن عرفنا.

٦١

ويتمُّ الاستدلال على ذلك بعدَّة أساليب، نذكر منها ما يلي:

الأُسلوب الأول: أن نستعرض بعض الظواهر المـُهمَّة لنتائج العدل السائدة في دولة المهدي... فإذا عطفنا على ذلك انحصار العدل الكامل بالإسلام، إذاً، فهذا الأُسلوب متوقُّف على مُقدَّمتين:

المـُقدِّمة الأُولى: استعراض بعض الظواهر المـُهمَّة والنتائج العظيمة للعدل السائد في دولة المهدي العالمية.

وهذا بتفاصيله موكول إلى الباب الثالث من القسم الثاني من هذا التاريخ، وإنَّما نقتصر في المقام على ذكر بعض الأمثلة.

فمن ذلك ما أخرجه ابن ماجه(1) ، عن أبي سعيد الخدري: أنَّ النبي (ص) قال: ( يكون في أُمَّتي المهدي... فتنعم فيه أُمَّتي نعمةً لم ينعموا مثلها قطُّ، تؤتي أُكلها ولا تدخر منهم شيئاً. والمال يومئذ كدوس، فيقوم الرجل فيقول: يا مهدي، عطني فيقول: خُذْ ).

وما يرويه البخاري(2) ، عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله ( ص) قال، - في حديث -: ( ومتى يكثر فيكم المال فيفيض، حتى يَهمُّ ربُّ المال مَن يقبل صدقته، ومتى يعرضه فيقول الذي يُعرَض عليه لا أرِبَ لي به ).

وقد برهنَّا في التاريخ السابق(3) ، بانحصار حدوث هذه الكثرة من المال في دولة المهدي (ع) دون ما قبلها، مضافاً إلى دلالة هذه الأخبار المرويَّة هنا.

وما أخرجه مسلم في صحيحه(4) ، عن أبي سعيد وجابر بن عبد الله قالا: قال رسول الله (ص): ( يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعدُّه ).

وما أخرجه الشيخ المفيد في الإرشاد(5) ، عن المفضَّل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: ( إنَّ قائمنا إذا قام أشرقت الأرض بنور

____________________

(1) انظر السُّنن ج2 ص1367.

(2) انظر الصحيح ج9 ص74.

(3) انظر تاريخ الغيبة الصغرى ص 231 و ص335.

(4) ج8 ص 185.

(5) انظر ص342.

٦٢

ربِّها - إلى أن قال: - وتُظهر الأرض من كنوزها حتى الناس الأرض على وجهها، ويطلب الرجل منكم مَن يصله بماله ويأخذ منه زكاته، فلا يجد أحداً يقبل منه ذلك، واستغنى الناس بما رزقهم الله من فضله ).

ومثل ذلك ما ورد في كتاب العهدين في وصف دولة العدل المـُنتظرة، كقوله(1) :وتنفتح أبوابك دائماً (2) نهاراً وليلاً لا تُغلق، ليؤتى إليك بغنى الأُمم وتُقاد ملكهم؛ لأنَّ الأمة والمملكة التي لا تخدمك تبيد، وخراباً تخرب الأُمم.

وكقوله:بل يقضي بالعدل للمساكين، ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض، ويضرب الأرض بقضيب فمه، ويُميت المـُنافق بنفخة شفتيه... فيسكن الذئب مع الخروف، ويربض النمر مع الجدي... والبقر والدُّبَّة ترعيان، تربض أولادهما معاً، والأسد كالبقر يأكل تبناً، ويلعب الرضيع على سرب الصل، ويمدُّ الفطيم يده على جحر الأفعوان، لا يسوؤن ولا يفسدون، في كل جبل قدسي؛ لأن الأرض تمتلئ من معرفة الربِّ (1) .

إلى غير ذلك من النصوص في كُتب العهدين، ولكلٍّ من هذه النصوص تحليله وتفسيره الذي سيأتي في مستقبل البحث... وإنَّما المراد الإلمام في الجملة بحالة السعادة والرفاه التي يعيشها شعب المهدي (ع) – وهو كل البشرية – في دولته وتحت نظامه.

المـُقدِّمة الثانية: انحصار العدل الكامل في الإسلام.

وهذا يحتاج إلى بحث عقائدي لسنا الآن بصدده، وإنَّما نُشير الآن إلى خلاصة نتائجه: وهي أنَّنا بعد أن علمنا الإسلام هو آخر الشرائع السماوية، وأنَّ العقل البشري قاصر عن إيجاد العدل الكامل في العالم، وأنَّ الله تعالى وعد في كتابه الكريم بتطبيق العدل الكامل والعبادة المحضة على وجه الأرض، بل كان هذا هو الغرض الأساسي للخَلق.

____________________

(1) أشعيا:60/ 13.

(2) مرجع ضمير المؤنث المـُخاطب هو ( أورشليم ) عاصمة بني إسرائيل في نظر اليهود، ولكنَّنا سنُبرهن في الكتاب القادم على انحصار صحَّة هذه النبُّؤات بدولة المهدي (ع)، وإنَّما ذكرت أورشليم باعتبارها العاصمة الدينية المـُهمَّة في نظر اليهود. فإن انتقلت الأهمِّيَّة إلى غيرها انتقلت النبُّؤات أيضاً؛ لأنَّها تتبع الدين الحق حيث يكون.

(3) أشعيا: 11/ 4 - 8.

٦٣

إذن؛ فينحصر أن يكون هذا العدل المـُشار إليه هو الإسلام؛ لعدم إمكان حصوله من العقل البشري، وعدم إمكان نزول شريعة أُخرى بعد الإسلام.

وإذا تمَّ الأسلوب الأول وبكلا مُقدِّمتيه، عرفنا أنَّ كل ما ذُكِر من أنحاء وأنواع السعادة والرفاه الموجود في دولة المهدي (ع)، دولة الحق والعدل المـُنتَظرة، هو في الحقيقة نتيجة لتطبيق مفاهيم وقوانين الإسلام فيها.

إذاً؛ فقد تبرهن أنَّ الدين الإسلامي الذي يُعتنق، والقانون الذي يُتَّخذ في تلك الدولة هو الإسلام، بقيادة القائد العظيم الإمام المهدي (ع).

الأُسلوب الثاني: أن نستعرض نصوص الأخبار الدالَّة على أنَّ الإمام المهدي (ع) يُطبِّق الإسلام بالخصوص، وهي على عدَّة أقسام:

القسم الأول: الأخبار الدالَّة على أنَّ المهدي من النبي (ص)، ومن عترته، ومن أُمَّته، ومن أهل البيت، وإذا كان المهدي مُتَّصفاً بهذه الصفات، فهو على دين الإسلام بالضرورة.

أخرج أبو داوود(1) ، ونعيم بن حماد، والحاكم، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله (ص): ( المهدي منِّي... ) الحديث.

وأخرج أحمد، والباوردي في المعرفة، وأبو نعيم، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله (ص): ( أُبشِّركم بالمهدي، رجل من قريش، من عترتي... ) الحديث.

وأخرج أبو داود، وابن ماجة، والطبراني، والحاكم، عن أُمِّ سلمة: سمعت رسول الله (ص) يقول: ( المهدي منَّا أهل البيت، رجل من أُمَّتي... ) الحديث.

وأخرج أحمد، وابن أبي شيبة، وابن ماجة، ونعيم بن حماد في الفتن عن علي قال: ( قال رسول الله (ص): المهدي منَّا أهل البيت... ) الحديث.

وأخرج(2) ابن أبي شيبة، والطبراني، والدارقطني في الإفراد، وأبو نعيم،

____________________

(1) انظر الحاوي للفتاوي للسيوطي ج2 ص124. وكذلك الأخبار الأربعة التي تليه.

(2) المصدر ص125 وكذلك الخبر الذي يليه.

٦٤

والحاكم، عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله (ص): ( لا تذهب الدنيا حتى يبعث الله تعالى رجلاً من أهل بيتي... ) الحديث.

وأخرج الطبراني، عن ابن مسعود، عن النبي (ص) قال: ( لو لم يبقَ من الدنيا إلاَّ ليلة لمَلك فيه رجل من أهل بيتي ).

إلى غير ذلك من الأخبار، ودلالتها على المطلوب أوضح من أن تخفى.

القسم الثاني: الأخبار الدالَّة على أنَّ المهدي (ع) يحكم الأُمّة الإسلامية على الأخص، وهو حين يحكمها بصفتها الإسلامية، فسوف لن يكون حُكمه إلاَّ بالإسلام.

أخرج الترمذي(1) وحسَّنه، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي (ص) قال: ( إنَّ في أُمّتي المهدي، يخرج... ) الحديث. أقول: يخرج فيها يعني يحكمها.

وأخرج نعيم بن حماد، وابن ماجة، عن أبي سعيد، أنَّ النبي (ص) قال: ( يكون في أُمَّتي المهدي... ) الحديث.

وأخرج(2) أحمد ومسلم، عن جابر، قال: قال رسول الله (ص): ( يكون في آخر أُمَّتي خليفة... ) الحديث.

القسم الثالث: الأخبار الدالَّة على تطبيق المهدي (ع) للإسلام وسنَّة النبي (ص).

أخرج الطبراني في الأوسط(3) ، وأبو نعيم، عن أبي سعيد: سمعت رسول الله (ص) يقول: ( يخرج رجل من أهل بيتي يقول بسنَّتي ) الحديث.

وأخرج - يعني نعيم بن حماد -(4) ، عن علي، عن النبي (ص )، قال: ( المهدي رجل من عترتي، يُقاتل على سنَّتي، كما قاتلت أنا على الوحي ).

وأخرج ابن حجر في الصواعق(5) قال: وصحَّ أنَّه (ص) قال:

____________________

(1) المصدر ص126 وكذلك الخبر الذي يليه.

(2) المصدر ص131.

(3) المصدر والصفحة

(4) المصدر ص148.

(5) انظر ص98.

٦٥

( يكون اختلاف عند موت خليفة... إلى أن قال: ويعمل في الناس بسنَّة نبيِّهم (ص) ويُلقي الإسلام بجرانه على الأرض ).

وروى الشيخ الطوسي في الغيبة(1) ، عن أبي جعفر الباقر (ع)، قال: ( ويقتل الناس حتى لا يبقى إلاَّ دين محمد (ص)... ) الحديث.

واخرج أبو يعلى(2) ، عن أبي هريرة قال: حدَّثني خليلي أبو القاسم (ص) قال: ( لا تقوم الساعة حتى يخرج عليهم رجل من أهل بيتي، فيضربهم حتى يرجعوا إلى الحق... ) الحديث.

أقول: الحقُّ في نظر رسول الله هو الإسلام.

وروى الشيخ المفيد في الإرشاد(3) ، عن المفضَّل بن عمر الجُعفي، قال: سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد (ع) يقول: ( إذا أذِنَ الله تعالى للقائم في الخروج، صعد المنبر فدعا الناس إلى نفسه، وناشدهم بالله ودعاهم إلى حقِّه، وأن يسير فيهم بسنَّة رسول الله (ص) ويعمل فيهم بعمله... ) الحديث.

القسم الرابع: من الأخبار، ما دلَّ على أنَّ المهدي (ع) يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، بعد ما مُلئت ظلماً وجوراً.

وهي أخبار متواترة، مروية عن النبي (ص) وقادة الإسلام الأوائل، وهم يرون أنَّ القسط والعدل هو الإسلام ليس إلاَّ؛ فيكون المعنى اعتناق وتطبيق الإمام المهدي (ع) للإسلام عقيدة ونظاماً.

وقد أحصى الصافي في مُنتخب الأثر(4) لهذه العبارة الكريمة مئة وتسعة وعشرين حديثاً، وقد روتها المصادر العامة بكثرة، بما فيها الصحاح، كأبي داود، وابن ماجة، والترمذي إلى مصادر أُخرى كثيرة ذكرناها في التاريخ السابق(5) ، مضافاً إلى مصادر علماء الإمامية ومُصنِّفيهم، فإنها أكثر من أن تُحصى.

____________________

(1) انظر ص 283.

(2) الحاوي للفتاوي ص131

(3) انظر ص 342 وما بعدها.

(4) انظر ص478.

(5) تاريخ الغيبة الكبرى ص281 وما بعدها.

٦٦

وسيأتي في القسم الثاني من هذا الكتاب ما يزيد هذه الأخبار بأقسامها الأربعة وضوحاً.

وهذان الأسلوبان من الاستدلال على حقيقة الدين الذي يتَّخذه المهدي (ع)، ثابتان بغضِّ النظر عن الدليل القائم على أساس التخطيط الإلهي، والقائل: بأنَّ الأُطروحة العادلة والكاملة المـُطبَّقة في اليوم الموعود في دولة المهدي (ع) هي الإسلام، وتصلح نتيجة هذين الأسلوبين للاستدلال على هذه الحقيقة، بأن نقول:

إنَّ المهدي (ع) يُطبِّق الأطروحة العادلة الكاملة في دولته العالمية، كما ثبت في التخطيط العام، وهو يعتنق ويُطبِّق الإسلام، كما ثبت بهذين الأسلوبين الأخيرين...

إذاً؛ فالإسلام هو الأطروحة العادلة الكاملة.

وكذلك يصحُّ الاستدلال بالعكس، بأن نغضَّ النظر عن هذين الأسلوبين، ونتساءل من جديد عن حقيقة الدين الذي يعتنقه المهدي ( ع)، فنقول: إنَّ المهدي يُطبِّق الأطروحة العادلة الكاملة في دولته، كما ثبت في التخطيط العام، والإسلام هو الأطروحة العادلة الكاملة، كما استدللنا في التاريخ السابق(1) ، وسيأتي الحديث عن ذلك في الكتاب الآتي أيضاً...

إذاً؛ يثبت أنَّ الدين الذي يعتنقه المهدي (ع) ويُطبِّقه هو الإسلام، إذ لا يُحتمل أنَّه يُطبِّق الإسلام وليس بمسلم... فإنَّ التطبيق الإسلامي سوف لن يكون تامَّاً وعادلاً، إلاَّ إذا كان الرئيس الأعلى مسلماً، كما ثبت في الفقه الإسلامي، ويصلح أن يكون هذا أسلوباً ثالثاً إلى جنب الأسلوبين السابقين.

إذاً؛ فهاتان الحقيقتان وهما:

1- إنَّ دين المهدي (ع) هو الإسلام.

2- إنَّ الإسلام هو الأطروحة العادلة الكاملة، يمكن الاستدلال بإحداهما على الأُخرى، بعد أخذ إحداهما مُسلَّمة والأُخرى محلاَّ ًللاستلال، وكلتاهما مدعمتان بأدلَّة أُخرى غير هذه.

وإذا تبرهن على أنَّ المهدي (ع) يُطبِّق الإسلام في اليوم الموعود، باعتبار النظام الذي يتكفَّل العدل الكامل... فإنَّه يترتَّب على ذلك عدَّة نتائج، فيما إذا قورنت دولته بالدولة الحاضرة، وهذا ما سيأتي في القسم الثاني من الكتاب، ونذكر الآن بعضها على

____________________

(1) انظر ص 261 منه.

٦٧

سبيل المثال.

منها: توحيد المـُعتقَد الديني في العالم بدين الإسلام، طبقاً لقوله تعالى:

( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ... ) ، على أساس أنَّ هذا الدين هو الذي يُنظِّم العالم ويحلُّ مشاكله، ويُحقِّق له العدل الكامل، ويأتي هذا التوحيد تحت ظروف مُعيَّنة يُهيِّؤها القائد المهدي، نُشير إليها في مُستقبل البحث.

ومنها: أنَّ العالم سوف يحكم بأُطروحة قانونية واحدة، لا يحق فيها التجزئة، ولا يجوز عليها الخروج.

ومنها اتِّحاد السياسة والدين في سير التطبيق والتاريخ، كما كان عليه الحال في زمن النبي (ص) والخلافة الأُولى، وإنهاء فكرة: فصل الدين عن الدولة.

ومنها: إبتناء الحُكم، ابتناء التكامل الفردي والاجتماعي على الأساس الإلهي، ويتمُّ القضاء تماماً على أيِّ اتِّجاه مادي في العالم، مهما كان نوعه.

ومنها: إنهاء فكرة كحق تقرير المصير، فإنَّ مصير البشر قد تقرَّر من الأعلى، من التخطيط الإلهي العام ولن يكون مُنبثقاً من البشر، أو ناتجاً عن آرائهم الناقصة.

إلى غير ذلك من النتائج، التي سيأتي التعرض لأسبابها ونتائجها مُفصَّلاً.

الجهة الثانية: المذهب الذي يتَّخذه المهدي (ع) من مذاهب الإسلام، يمكن أن يراد من المذهب أحد المعنيين:

المعنى الأول: أن يُراد بالمذهب مجموع الأفكار المـُتبنَّاة من العقائد والفقه السائد، بحيث يكون كلام شيوخ المذهب وعلمائه دخيلاً في بلورته وصقل فكرته.

المعنى الثاني: أن يُراد بالمذهب العقائد الرئيسية التي تُشكِّل حجر الزاوية فيه والأساس الرئيس له... كالقول بالعدل والإمامة اللذين كانا محلَّ الخلاف بين الإمامية وغيرهم من المسلمين.

فإن أردنا المعنى الأول من المذهب، فينبغي لنا أن نجزم بأنَّ المهدي (ع) سيُغيِّر في تفاصيل تشريعه كل مذاهب المسلمين الموجودة قبل ظهوره، ولا يُحتمل فيه أن يكون منسوباً إلى أيٍّ من المذاهب السائدة؛ لأنَّ الكثير من أفكار كلِّ مذهب، ناتج عن أفكار

____________________

(1) آل عمران: 3/ 85.

٦٨

مُفكِّريه واستنتاجات علمائه، وهي - على أيِّ حال - قابلة للخطأ والصواب، ما لم تكن من ضروريَّات الدين أو واضحات العقل.

والمهدي (ع) سيُطبِّق عند ظهوره الإسلام الواقعي، كما جاء به النبي (ص) سواء وافق الأحكام المعروفة للمذاهب أو خالفها، وسيأتي بقوانين إسلامية جديدة لتنظيم العالم؛ ليجعله كله على عتبة الرُّقيِّ والتكامل.

ولذا؛ صرَّح عدد من علماء العامة ومفكريهم في مناسبات مُختلفة، بعد انطباق أحكام المهدي مع شيء من المذاهب الأربعة، ولا غيرها.

قال ابن العربي في الفتوحات المكِّيَّة(1) في كلامه عن المهدي: به يرفع المذاهب من الأرض، فلا يبقى إلاَّ الدين الخالص، أعداؤه مُقلِّدة العلماء أهل الاجتهاد لما يرونه من الحُكم بخلاف ما ذهبت إليه أئمتهم...

وقال السيوطي(2) - عن الحُكم الذي سيُمارسه عيسى بن مريم (ع) وهو العضد الأيمن للمهدي (ع)، كما سنعرف، في دولة الحق، قال -: وإذا قلتم: إنَّه يحكم بشرع نبيِّنا، فكيف طريق حُكمه به أبمذهب من المذاهب الأربعة المـُقرَّرة، أو باجتهاد منه؟!

هذا السؤال أعجب من سائله!! وأشدُّ عجباً منه قوله فيه: بمذهب من المذاهب الأربعة!! فهل خطر ببال السائل: أنَّ المذاهب في المِلَّة الشريفة مُنحصرة في أربعة، والمجتهدون من الأُمَّة لا يُحصون كثرة...؟! فلأيِّ شيء خَصَّص السائل المذاهب الأربعة؟!

ثمَّ كيف يظنُّ بنبيٍّ أنَّه يُقلِّد مذهباً من المذاهب، والعلماء يقولون: إنَّ المجتهد لا يُقلِّد مُجتهداً؟! فإذا كان المجتهد من آحاد الأمة لا يقلد، فكيف يظن بالنبي أنه يقلد؟!

إلى غير ذلك من الكلمات التي لا حاجة إلى استقصائها.

وأمَّا موقف الإمامية من ذلك فواضح، فإنَّهم يعتبرون المهدي (ع)، مصدراً من مصادر التشريع الإسلامي، بصفته الإمام الثاني عشر من أئمَّتهم (ع)، فمن غير المـُحتمل لديهم رجوعه في التشريع أو غيره إلى أحد علمائهم أو إلى أكثر، بل هو يستقيل ببيان التشريع الإسلامي، ويكون واجب الطاعة في غيبته.

وأمَّا إذا أردنا بالمذهب، ما يعود إلى المقوِّمات الرئيسية، كالاعتقاد بالعدل

____________________

(1) ج3 ص327.

(2) انظر الحاوي للفتاوي، للسيوطي ج2 ص280.

٦٩

والإمامة، وعدمه...

فالمـُلاحَظ بالنسبة إلى المهدي (ع) سكوت الأخبار الواردة في مصادر العامة والجماعة عن مذهبه، سكوتاً تامَّاً، في حدود اطِّلاعنا، فلو أردنا الجواب على مثل هذا السؤال، وهو: أنَّ المهدي من أهل السنَّة، يؤمِن بأصولهم الاعتقادية، أو بالأهمِّ منها على الأقل... كان ذلك مُتعذِّراً عن طريق الأخبار.

ومن هنا سكتت كلمات مُحقِّقيهم عن التعرُّض لذلك... واكتفوا بالقول: بأنَّه يُطبِّق الدين الحقيقي، من دون أيِّ إشارة إلى أنَّه ممَّن يوافقهم في المذهب أولا.

نعم، مَن يرى منهم بأنَّ المهدي (ع) يعمل بفقه أحد المذاهب الأربعة يرى - بطبيعة الحال - أنَّه مُلتزم عقائدياً بما يعتقدونه، غير أنَّ مُحقِّقيهم اعترضوا على هذا القول واستنكروه، كما سمعنا.

إذاً؛ فلم يتمَّ الإثبات التاريخي الكافي لذلك.

نعم، تبقى هناك فكرتان، إحداهما أشمل من الأُخرى، لابدَّ من عرضهما في هذا الصدد:

الفكرة الأُولى: فيما تقتضيه القواعد العامة، من تعيُّن مذهبه على وجه الإجمال.

من المـُسلَّم به بين المسلمين، كون أحد المذاهب الموجودة بين مذاهبهم حقَّاً، وأنَّ المذاهب الأُخرى باطلة غير مطابقة للعقائد الإسلامية الصحيحة، وسبق أن قلنا: إنَّ أصحاب الإمام المهدي (ع) المـُمحَّصين في عصر الغيبة، إنَّما يكونون من ذلك المذهب - أيَّاً كان - دون غيرهم؛ ليتمَّ تمحيصهم على الحق وإخلاصهم له، لا على غيره، كما هو واضح.

ومعه؛ فلابدَّ من الالتزام بأنَّ مذهب المهدي (ع) هو ذلك المذهب الحقُّ، الذي يختار له الله تعالى عليه أصحابه، ولا يُحتمل أن يكون مُخالفاً لهم في المذهب؛ لأنَّه يلزم منه أن لا يكون أحدهما على الحقِّ. وهو باطل بالضرورة.

وأمّا تعيين هذا المذهب الحق، وتسميته من دون المذاهب الأُخرى... فهذا راجع إلى وجدان كل مسلم، وما قام الدليل عنده من صحَّة أيِّ مذهب من المذاهب.

ستكون الفكرة الأُولى لدى الفرد المسلم أن يقول: إنَّ المذهب الحق هو مذهبي؛ والدليل على صحَّته قائم عندي.

إذاً؛ فالمهدي يكون عليه، هكذا يقول أهل كل مذهب... ويبقى مذهب المهدي - بعد ذلك - مُجملاً.

٧٠

وقد لا يكون هذا ضائراً، فإنَّ التعرُّف الإجمالي على مذهبه، بالشكل الذي قلناه، كافٍ على المستوى الذي يُقنع سائر المسلمين، ويكون البحث فيه إسلامياً عامَّاً غير طائفي، ويكون المهدي (ع) - في ذاته - مختاراً في تطبيق المذهب الذي يُريده على العالم.

الفكرة الثانية: وهي أخصُّ من سابقتها، فإنَّه يمكن القول: بأنَّ المهدي (ع) على المذهب الإمامي الاثني عشري؛ وذلك باعتبار القرائن والمـُرجِّحات التالية:

المـُرجِّح الأول: ما ورد أنَّ المهدي (ع) من أهل البيت ومن العترة، وقد سمعنا عدداً من هذه الأخبار فيما سبق، ومنها ما هو موجود في الصحاح الستَّة، التي سنقتصر على النقل عنها:

أخرج أبو داود(1) ، وابن ماجة(2) ، عن أُمِّ سلمة، قالت: سمعت رسول الله (ص) يقول: ( إنَّ المهدي من عترتي من وُلْد فاطمة ).

وأخرج أبو داود أيضاً(3) قوله (ص): ( لو لم يبقَ من الدهر إلاَّ يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي... ) الحديث.

وأخرج ابن ماجة(4) قوله (ص): ( المهدي منَّا أهل البيت... ) الحديث.

وأخرج الترمذي(5) قوله (ص): ( لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي ).

إلى غير ذلك من الأخبار.

وإنَّ أخص موارد انطباق مفهومي العترة وأهل البيت هم: بنت النبي (ص) الزهراء وزوجها وولداها، وقد يشمل سلمان الفارسي رضوان الله عليه، الذي ورد في شأنه قول النبي (ص): ( سلمان منَّا أهل البيت )(6) ، فليكن الإمام المهدي (ع) على مذهبهم، وليس هو غامضاً ولا مُجملاً في التاريخ.

____________________

(1) انظر السُّنن ج 2 ص 422.

(2) انظر السُّنن ج2 ص 1368.

(3) انظر السُّنن ج2 ص 422.

(4) انظر السُّنن ج2 ص 1367.

(5) انظر الجامع الصحيح ج 3 ص 343.

(6) انظر أُسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير 2 ص331. ذكر له أكثر من رواية.

٧١

المـُرجِّح الثاني: ما ورد من الأخبار في مصادر العامة، من أنَّ الأئمَّة اثنا عشر بعد النبي (ص)... أمَّا بالنص على أنَّ المهدي (ع) هو آخرهم، أو بدون ذلك، فإنَّها تنطبق على الاتِّجاه الإمامي في فَهْمِ الإسلام بالتعيين، دون غيره، ومعه؛ يتعيَّن الالتزام بأنَّ مذهب المهدي (ع) موافق لهذا الاتِّجاه.

أخرج البخاري(1) عن جابر بن سمرة، قال: سمعت النبي (ص) يقول: ( يكون اثنا عشر أميراً ). فقال كلمة لم أسمعها. فقال أبي: إنَّه قال: ( كلُّهم من قريش ).

وأخرج مسلم(2) نحوه، وذكر له أسناد عديدة إلى جابر بن سمرة.

وأخرج الترمذي(3) ، عن جابر بن سمرة، قال: قال رسول الله (ص): ( يكون من بعدي اثنا عشر أميراً ).

قال: ثمَّ تكلَّم بشيء لم أفهمه.

فسألت الذي يليني، فقال: ( كلُّهم من قريش ).

ثمَّ قال الترمذي: هذا حديث حَسن، وقد روي من غير وجه عن جابر بن سمرة.

وأمَّا ما رواه أحمد وغيره في خارج الصحاح، فكثير.

وإذا تعيَّن صحَّة الاتِّجاه الإمامي، بهذه الأخبار، ثبت كون المهدي هو الثاني عشر من هؤلاء الأُمراء الذين يُشير إليهم النبي (ص)، وهو المطلوب.

كالذي أخرجه القندوزي في ينابيع المودَّة(4) ، نقلاً عن فرائد السمطين للحمويني، بسنده عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: قدم يهودي يُقال له: نعثل. فقال: يا محمد، أسألك عن أشياء تُلَجْلِجُ في صدري منذ حين... إلى أن يقول: فما من نبيٍّ إلاَّ وله وصي، وأنَّ نبينا موسى بن عمران أوصى يوشع بن نون.

فقال: ( إنَّ وصيِّي علي بن أبي طالب، وبعده سبطاي

____________________

(1) انظر الجامع الصحيح ج 9 ص 101.

(2) انظر صحيح مسلم ج 6 ص 3-4.

(3) انظر الجامع الصحيح ج3 ص 240.

(4) انظر ص 529 ط النجف. وص 369 ط الهند عام 1311 هـ.

٧٢

الحسن والحسين، تتلوه تسعة أئمة من صُلب الحسين ).

قال: يا محمد، قَسِّمْهم لي.

قال: ( إذا مضى الحسين فابنه علي، فإذا مضى علي فابنه محمد، فإذا مضى محمد فابنه جعفر، فإذا مضى جعفر فابنه موسى، فإذا مضى موسى فابنه علي، فإذا مضى علي فابنه محمد، فإذا مضى محمد فابنه علي، فإذا مضى علي فابنه الحسن، فإذا مضى الحسن فابنه الحجة محمد المهدي ).

فهؤلاء اثنا عشر.

وهذه النتيجة، وهي صحَّة الاتِّجاه الإمامي في فهم المهدي (ع)، ومن ثمَّ القول: بأنَّ المهدي إمامي المذهب، وأنَّه أحد الأئمة الاثنا عشر... هذه النتيجة لازمة لكل مَن يقول من علماء العامَّة: بأنَّ المهدي هو محمد بن الحسن العسكري. كابن عربي في الفتوحات المكِّيَّة على ما نُقل عنه في إسعاف الراغبين(1) ، إذ نسمعه يقول: ( وهو عترة رسول لله (ص) من وُلْد فاطمة رضي الله عنها، جدُّه الحسين بن علي بن أبي طالب، ووالده الإمام حسن العسكري بن الإمام علي النقي - بالنون - بن الإمام محمد ( التقي - بالتاء - بن الإمام علي )(2) الرضا بن الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد ( التقي - بالتاء - بن الإمام علي ) الباقر بن الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم. يواطئ اسمه اسم رسول الله (ص)... ).

وكذلك الشعراني في اليواقيت والجواهر(3) ، إذ قال هناك: المهدي من وُلْد الإمام حسن العسكري.

وذكر موافقة الشيخ حسن العراقي، وسيدي علي الخواص على ذلك.

وكذلك كمال الدين بن طلحة، في مطالب السؤول(4) ، حيث قال: الباب الثاني عشر: في أبي القاسم بن محمد الحسن الخالص بن علي المـُتوكِّل بن القانع بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الزكي بن علي المرتضى أمير المؤمنين بن أبي طالب. المهدي الحجَّة الخَلَف الصالح المـُنتظر (ع) ورحمة الله و بركاته.

____________________

(1) انظر ص 142

(2) ما بين القوسين عبارة نُقلت من محلِّه إلى المحلِّ الذي أثبتناه بين القوسين فيما يلي، وهو خطأ مطبعي غريب. وهي في الأول صحيحة وفي الثاني خاطئة.

(3) انظر ص 288 ط 1306 وانظر إسعاف الراغبين ص141.

(4) انظر ص 79.

٧٣

وكذلك الحافظ الكنجي، في كتابه البيان(1) ، حيث قال: وأمَّا بقاء المهدي (ع)، فقد جاء في الكتاب والسنَّة... ثم شرح ذلك إلى أن قال: وأمَّا ألإمام المهدي (ع)، مُذْ غيبته عن الأبصار إلى يومنا هذا لم يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما تقدَّمت الأخبار في ذلك، فلابدَّ أن يكون ذلك مشروطاً بآخر الزمان، فقد صارت هذه الأسباب لاستيفاء الأجل المعلوم(2) .

أقول: وهذا الكلام منه واضح في اختيار الاتِّجاه الإمامي في فَهْم المهدي.

وكذلك ابن الصبَّاغ، في الفصول المهمَّة(3) ، إذ نجده يتحدَّث عن المهدي مُفصلاً، وقال - فيما قال -: وأمَّا نسبه أُمَّاً وأباً، فهو أبو القاسم، محمد الحجَّة بن الحسن الخالص بن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم أجمعين... وأمَّا لقبه: فالحجَّة، والمهدي، والخَلَف الصالح، والقائم المـُنتظر، وصاحب الزمان... إلخ.

وذكر الحافظ القندوزي، في ينابيع المودَّة، عدداً من العلماء الذاهبين إلى ذلك: منهم: الشيخ صلاح الدين الصفدي في شرح الدائرة(4) ، وشيخ الإسلام أحمد الجامي النامقي، والشيخ عطَّار النيشابوري، وشمس الدين التبريزي، وجلال الدين الرومي، والسيد نعمة الله الولي، والسيد النسيمي(5) ، والشيخ عزيز بن محمد النسفي(6) ، مُضافاً إلى مَن ذكرناهم قبل قليل.

المـُرجِّح الثالث: اعتراف الأئمَّة المعصومين السابقين عليه به عليه وعليهم السلام... بل تنويههم به والحثُّ على إطاعته وانتظاره في عدد من الأخبار تفوق حدَّ التواتر، وقد نَقل عنهم بعض هذه الأخبار عدد من مصادر العامة، كالبيان للكنجي، وينابيع المودَّة للقندوزي، وغيرهما.

أمَّا علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (ع):

____________________

(1) انظر ص 109.

(2) انظر ص111 من البيان

(3) انظر ص310.

(4) انظر ينابيع المودَّة ص 565 ط النجف وص 293 ط الهند.

(5) المصدر ص 566 ط النجف وص 293 ط الهند.

(6) المصدر ص 569 ط النجف وص 359 ط الهند.

٧٤

فأخرج عنه الكنجي(1) ، وابن ماجة(2) وغيرهما، قال: ( قال رسول الله (ص): المهدي منَّا أهل البيت يُصلحه الله في ليلة ).

وأمَّا فاطمة الزهراء بنت الرسول (ص)، فقد قال لها أبوها - كما أخرجه عنه للكنجي في البيان(3) ، وابن الصبَّاغ في الفصول المـُهمَّة(4) وغيرهما، واللفظ للكنجي -: ( أنا خاتم النبيِّين وأكرم النبيِّين على الله وأحبُّ المخلوقين إلى الله، وأنا أبوك، ووصيِّي خير الأوصياء وأحبُّهم إلى الله وهو بعلك... ومنَّا سبطا هذه الأُمَّة وهما ابناك الحسن والحسين، وهما سيِّدا شباب أهل الجنَّة، وأبوهما – والذي بعثني بالحق – خير منهما. يا فاطمة، والذي بعثني بالحق، إنَّ منهما مهدي هذه الأُمَّة، إذا صارت الدنيا هرجاً ومرجاً وتظاهرت الفتن... ) الحديث.

والإمام الحسن الزكي بن علي (ع) نظر إليه النبي (ص) - فيما رواه السيوطي(5) - فقال: ( إنَّ ابني هذا سيِّد، كما سمَّاه النبي (ص)، سيخرج من صُلبه رجل يُسمَّى اسم نبيِّكم يُشبهه في الخَلق ولا يُشبه في الخُلُق ).

واخرج السيوطي(6) ، عن ابن عساكر، عن الحسين (ع): ( أنَّ رسول الله (ص ) قال: أبْشِري يا فاطمة، المهدي منك ).

وأخرج أيضاً(7) ، عن الدار قطني في سُننه، عن محمد بن علي ( وهو الإمام الباقر عليه السلام) قال: ( إن لمهديِّنا آيتين لم يكونا منذ خلق الله السموات والأرض: ينكسف القمر لأول ليلة من رمضان، وتنكسف الشمس في النصف منه... ) الحديث.

وأخرج عنه (ع) أيضاً بكُنيته: أبي جعفر(8) بعض الأخبار.

____________________

(1) انظر البيان ص 65.

(2) انظر السُّنن ج2 ص 1367.

(3) انظر ص 56.

(4) انظر ص 314 وما بعدها.

(5) انظر الحاوي للفتاوي ص 125 ج 2.

(6) نفس المصدر ص 137.

(7) المصدر ص 136.

(8)المصدر ص 141.

٧٥

وأمّا الإمام أبو عبد الله الصادق (ع)، فقد كان له في ذكر الإمام المهدي (ع) موقف عاطفي عظيم...

أخرج القندوزي(1) ، عن المناقب، عن سدير الصيرفي قال: دخلت أنا والمفضَّل بن عمر وأبو بصير وإبان بن تغلب على مولانا أبي عبد الله جعفر الصادق (رضي الله عنه) فرأيناه جالساً على التراب وهو يبكي بكاءً شديداً ويقول: ( سيّدي، غيبتك نفت رقادي! وسلبت منِّي راحة فؤادي! ).

قال سدير: تصدَّعتْ قلوبنا جزعاً. فقلنا: لا أبكى الله - يا بن خير الورى - عينيك!

فزفر زفرةً انتفخ منها جوفه. فقال: ( نظرت في كتاب الجفر الجامع صبيحة هذا اليوم... وتأمَّلت فيه مولِد قائمنا المهدي، وطول غيبته، وطول عمره، وبلوى المؤمنين في زمان غيبته... ) إلخ الحديث وهو مطوَّل.

والإمام الرضا علي بن موسى (ع) بشر بالمهدي (ع) أيضاً:

أخرج القندوزي(2) ، عن الحمويني الشافعي في فرائد السمطين، بإسناده عن دعبل بن علي الخزاعي قال: أنشدت قصيدة لمولاي الإمام علي الرضا، رضي الله عنه، أولها:

مدارس آياتٍ خَلَتْ من تِلاوةٍ

ومنزل وحيٍ مُقفِرُ العَرصاتِ

إلى أن قال دعبل: ثمَّ قرأت باقي القصيدة عنده، فلمَّا انتهيت إلى قولي:

خروج إمامٍ لا محالة واقع

يقوم على اسم الله والبركاتِ

يُميِّز فينا كلَّ حقٍ وباطلٍ

ويجزي على النعماء والنقماتِ

بكى الرضا بكاء شديداً. ثم قال: ( يا دعبل، نطق روح القُدس بلسانك! أتعرف هذا الإمام؟).

قلت: لا، إلاَّ أنِّي سمعت خروج إمام منكم يملأ الأرض قسطاً وعدلاً.

فقال: ( إنَّ الإمام بعدي ابني محمد، وبعد

____________________

(1) انظر ينابيع المودَّة ص 454 ط النجف وص 379 ط الهند.

(2) المصدر ص 544 ط النجف وص 379 ط الهند.

٧٦

محمد ابنه علي، وبعد علي ابنه الحسن، وبعد الحسن ابنه الحجَّة القائم، وهو المـُنتظر في غيبته المـُطاع في ظهوره، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت جوراً وظلماً ) الحديث.

وروى القندوزي في الينابيع(1) حادثة ولادة المهدي (ع)، وفيها بشارة أبيه الإمام الحسن العسكري (ع) بولادته... منها قوله عن أُمِّه رضي الله عنها، أنَّه: ( سيخرج منها ولَد كريم على الله عزّ وجلّ، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما مُلئت ظلماً وجوراً ).

فهذا ما روته المصادر العامة، عن الأئمة المعصومين (ع)، وقد أخرجت عن كلٍّ منهم عدداً من الأحاديث، ذكرنا قسماً منها كنموذج.

وأمَّا المصادر الإمامية، فقد روت عن جميع المعصومين عدداً وافراً من الأخبار في التبشير بالمهدي (ع)، لا حاجة إلى نقلها.

والأئمَّة المعصومين عليهم السلام - بغضِّ النظر عن المفهوم الإمامي عنهم - أُناس أتقياء علماء صالحون، لا يوجد لهم في المصادر العامة إلاَّ الذكر الجميل، ومذهبهم الإسلامي أشهر من أن يُذكر، فإنَّهم جميعاً إماميُّون اثنا عشريُّون، يؤمن كلٌّ منهم بإمامة نفسه وإمامة الباقين من آبائه وأولاده.

ومن هنا ينبثق عندنا تقريبان لتعيين مذهب الإمام المهدي على هذا الضوء:

التقريب الأول: إنَّه من غير المـُحتمَل أن يقوم الأئمَّة المعصومون بهذا التأييد للإمام المهدي (ع)، وينوُّهوا به هذا التنويه المـُتواصل الشديد، وهو شخص يختلف عنهم في المذهب، ويُغايرهم في الفَهْم والمـُعتقد الإسلامي.

إذاً؛ فيتعيَّن أن يكون الإمام المهدي على مذهبهم واتِّجاههم واعتقادهم، وهو المطلوب.

التقريب الثاني: إنَّنا لو قلنا: بأنَّ المهدي (ع) يختلف عنهم في المذهب، للزم الالتزام ببطلان مذهبه أو مذهبهم... باعتبار وضوح أنَّ المذهب الحق واحد في الإسلام بالضرورة والإجماع، وهذا ممَّا لا يمكن التفوُّه به تجاه الأئمَّة المعصومين ولا تجاه المهدي.

إذاً؛ فهُمْ جميعاً على مذهب واحد.

المرجح الرابع: ما اعترف به عدد من علماء العامة والجماعة، من أنَّ المهدي

____________________

(1) المصدر ص450 ط النجف وص376 ط الهند. وانظر ص464 ط النجف.

٧٧

(ع) لا يُفضَّل عليه أبو بكر وعمر.

روى السيوطي في العرف الوردي(1) ، بسنده عن محمد بن سيرين أنَّه ذكر فتنة تكون، فقال: إذا كان ذلك فاجلسوا في بيوتكم حتى تسمعوا على الناس بخير من أبي بكر وعمر.

قيل: أفيأتي خيرٌ من أبي بكر وعمر؟!

قال: قد كان يُفضَّل على بعض.

قال السيوطي: قلت: في هذا ما فيه.

وقال ابن أبي شيبة في المـُصنَّف في باب المهدي: حدَّثنا أبو أُسامة عن عوف بن محمد - هو ابن سيرن - قال: يكون على هذه الأُمَّة خليفة لا يُفضَّل عليه أبو بكر ولا عمر.

قال السيوطي: قلت: هذا إسناد صحيح، وهذا اللفظ أخفُّ من الأول... إلى آخر كلامه.

وظاهر اللفظ أنَّه خبر عن ابن سيرين نفسه، لا عن النبي (ص).

إذاً؛ فابن سيرين يرى عدم أفضلية الشيخين على المهدي، ووافقه البرزنجي في الإشاعة، حيث قال - بعد نقل ما ذكره السيوطي(2) -: وتقدَّم عن الشيخ في الفتوحات أنَّه معصوم في حُكمه مُقْتَفٍ أثر النبي (ص) لا يُخطئ أبداً، ولا شكَّ أنَّ هذا لم يكن في الشيخين، وأنَّ الأمور التسعة التي مرَّت لم تجتمع كلُّها في إمام من أئمَّة الدين قبله؛ فمن هذه الجهات يجوز تفضيله عليهما، وإن كان لهما فضل الصحبة ومُشاهدة الوحي والسابقة، وغير ذلك، والله أعلم.

قال الشيخ علي القاري في المشرب الوردي في مذهب المهدي: وممَّا يدلُّ على أفضليَّته، أنَّ النبي (ص) سمَّاه خليفة الله، وأبو بكر لا قال له إلاَّ خليفة رسول الله، انتهى كلام البرزنجي.

وإذا تمَّ ذلك، فمن البعيد جدَّاً، إن لم يكن من القبيح عقلاً اتِّباع الأفضل للمفضول، ومُسايرته في فَهْمِه واتَّجاهه... مع أنَّ سرَّ فضله كامن في الاطِّلاع على الحقائق، والاتِّساع في النظر، والعمل بشكل غير موجود لدى المفضول.

إذاً؛ فكل واحد من هذه القرائن، يُبرهن على أنَّ مذهب الإمام المهدي (ع) من حيث الأصول الرئيسية، هو المذهب الإمامي الاثنا عشري، بحسب الأدلَّة التي ينبغي أن يعترف بها سائر المسلمين.

____________________

(1) انظر الحاوي للفتاوي ج2 ص 153.

(2) انظر الإشاعة في أشراط الساعة ص 113.

٧٨

وأمَّا عند الشيعة الإمامية الاثني عشرية، فهذا من الضروريات القطعيَّات، التي لا يمكن أن يرقى إليها الشكُّ، وتدلُّ عليه أعداد غفيرة من أخبارهم في المهدي، ممَّا لا حاجة إلى الإفاضة فيه، يكفي في ذلك أن نعرف أنَّهم يرون أنَّ المهدي إمامهم الثاني عشر، وأنَّهم يرون وجوب طاعته ولزوم انتظاره.

وفي أخبار المصادر العامة ما يدلُّ على ذلك، وقد سمعنا قبل قليل بعضها، وفيها تعبير الأئمة المعصومين عنه (ع) بقائمنا ومهديّنا، ونحو ذلك، فليرجع القارئ إليها.

الجهة الثالثة: موقف الإمام المهدي (ع) من العنصريَّة وأمثالها.

وهي عدَّة مفاهيم ذات مدلول أناني ضيِّق، يتضمَّن تفضيل عنصر على عنصر من البشر، على أساس الدم، أو اللغة، أو اللون، أو الوطن، أو القبيلة، أو نحو ذلك، ولنصطلح عليها جميعاً بالعنصرية، من أجل تخفيف التعبير.

والرأي الذي لا بدَّ من الجزم به - باعتبار الأدلَّة الآتية - هو أنَّ موقف الإمام المهدي (ع) من العنصرية دائماً موقف سلبي ومُعارض... بل دعوته ودولته عالمية، تصل إلى كل البشر على حدٍّ سواء، بدون تفضيل لجماعة على أُخرى.

ويُمكن إقامة الدليل على ذلك على عِدَّة مُستويات:

المـُستوى الأول: أنَّ دعوة المهدي (ع) قائمة على الإسلام، كما برهنَّا، فإنَّه إنَّما يُطبِّق الإسلام على وجه الأرض، ويرفض أيَّ عنصر غريب عنه أو أجنبي.

ونحن نعرف أنَّ الإسلام نصَّ - بكل صراحة - على إلغاء العنصرية، بمثل قوله تعالى:

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) (1) .

وقول النبي (ص) المشهور عنه: ( لا فضل لعربيٍّ على أعجميٍّ إلاَّ بالتقوى ).

والإسلام دين الناس أجمعين، وليس خاصاً بأحد، قال الله تعالى:( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا... ) (2) .

وقال عزوجل:( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا

____________________

(1) الحجرات: 49/ 13. (2) الأعراف: 7/ 158.

٧٩

وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) (1) .

وقد أعطى الإسلام للتفاضل أُسُساً جديدة، لا تمتُّ إلى أيِّ شكل من أشكال العنصرية بصِلَةٍ، وهي ثلاثة:

الأساس الأول: العلم. قال الله سبحانه:( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ ) (2) .

الأساس الثاني: التقوى. قال تعالى:( ... إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (3) ، ويدلُّ عليه الحديث النبوي الشريف السابق أيضاً.

الأساس الثالث: الجهاد. قال الله تعالى:( لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاَّ ًوَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) (4) .

هذا بعد التساوي بالإسلام وحُسن العقيدة والتطبيق بطبيعة الحال، ولا يبقي ذلك في الإسلام أيَّ تفاضل، وإنَّما الناس سواسية كأسنان المشط، تجاه عدله الكامل... يكون العظيم عنده صغيراً حتى يأخذ منه الحق، والحقير عنده عظيماً حتى يؤخَذ له الحق.

فإذا كان هذا هو الرأي الصريح للإسلام، وهو الأمر العادل بحكم العقل أيضاً وفطرة الفكر، كما أشار إليه سبحانه حين قال:( ... إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ ) . إذاً، فالمهدي (ع) سوف يسير على ذلك أيدولوجيته العامة، وتفاصيل تشريعه وقضائه، وكيف لا، وهو الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، ويُطبِّق الأطروحة العادلة الكاملة.

وقد يخطر في الذهن هذا السؤال: إنَّ الإسلام مهما شجب العنصرية، فإنَّنا نعرف إلى جنب ذلك أنَّ الإمام المهدي (ع) سيأتي بأمر جديد وكتاب جديد وقضاء جديد، فلعلَّ فيما يأتي به من الأمور إنفاذ العنصرية والاعتراف ببعض حدودها، ومعه لا يكون الدليل تامَّاً.

____________________

(1) سبأ: 24/ 28.

(2) الزُّمر: 39 /9.

(3) الحُجرات:49/13.

(4) النساء:4/95-96.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679