موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)8%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 679

الجزء ١ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 212400 / تحميل: 11104
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

موسوعة الإمام المهدي (عليه السلام)

تاريخ ما بعد الظهور

تأليف:

الشهيد السعيد السيّد محمّد محمّد صادق الصدر (قُدّس سرّه)

١

٢

تاريخ ما بعد الظهور

٣

٤

تمهيد

قد يكون من الطريف أن يتصدَّى الباحث للنظر إلى ما وراء الغيب، ليخطّ تاريخ المستقبل بسطور، وقد لا يعدو هذا التاريخ في نظر الكثيرين، عن كونه سرداً لمجموعة من التنبُّؤات التي قد لا يقع شيء منها في مستقبل الدهر، وأيّ فشل لتنبُّؤات الفرد، أكثر رَكاكة من أن يثبت كَذِب هذه التنبُّؤات وسقوط هذه الإخبارات.

إذن؛ فقد يبدو أنّه من الأفضل أن يعرض الفرد صفحاً مثل هذا التاريخ ويُهمله إهمالاً، ويدع تسلسل الحوادث على مقاديرها، بدون أن يزعم لنفسه القدرة على اسْتِكْنَاه المـُستقبل أو النظر إلى ما وراء الغيوب.

إلا أنّ هذه الفكرة يمكن أن تزول عن الذهن تماماً، وتوجد الهِمَّة في النفس نحو هذه البحوث … حين نعرف أنّ هذه المـُحاولة، وإن كانت في حقيقتها سرداً لحوادث لم تقع في الزمان، وإنّما المـُستقبَل وحده هو الكفيل بمُعاصرتها وعرضها للعيان، إلا أنّها لن تكون مُحاولة لادّعاء معرفة ما وراء الغيب، كما أنّها ليست تنبُّؤاً محضاً غير منطلق من قاعدة أو قائم على أساس، ويتمّ إيضاح ذلك فيما سنذكره من جهات الكلام، كما يلي:

الجهة الأُولى: في أهمّيّة الموضوع في نفسه:

الجهة الثانية: في طُرق الاستدلال التي سوف تكون مُتّبعة خلال هذا البحث.

الجهة الثالثة: في الصعوبات التي تواجه البحث.

الجهة الرابعة: في أُسلوب الخروج عن هذه الصعوبات ومُحاولة تذليلها جهد الإمكان.

الجهة الخامسة: في ترتيب أبواب وفصول هذا الكتاب.

٥

الجهة الأُولى: أهمِّيَّة هذا الموضوع:

يكتسب هذا الموضوع أهمّيّته، من أهمّيّة البحث حول المهدي (ع) ككل، من حيث كون هذا التاريخ حقلاً من حقوله وشعبة من شعبه.

ومن المعلوم أنّ الفكرة المهدويّة عند كل قائل بها ومؤمن بصدقها، تقوم على أساس كون المهدي هو مصلحة العالم في المـُستقبل، وهو الذي يقلب الظلم إلى العدل، ويُحوِّل الظلام إلى نور ويُحقِّق الرفاه والسعادة لكل فرد على وجه الأرض.

فمن الحق أن يطمع الفرد إلى التعرُّف على تصرُّفات هذا المـُصلِح العظيم في يومه الموعود، وعلى أسلوبه وسياسته وطريقته في التدبير والقيادة.

وأنّ هناك العشرات من الأسئلة تنبثق حول ذلك، وخاصة بعد أن يُعاصر الفرد الحياة الحاضرة بما فيها من تعقيد اجتماعي، وتنظيم دولي وسياسي، فهل سيكون للمهدي المـُصلِح نفس هذا التنظيم بحقوله العديدة، أو أنّه سيتّخذ للعالم وجهاً آخر، ويُبيِّنه بيده على شكل جديد؟

فإذا استطاع هذا البحث أن يُزيل الغموض - ولو عن بعض هذه الأسئلة - ويُقرِّب جوابها إلى الذهن إلى حدٍّ كبير، فهو غاية المطلوب.

إذن؛ فالحديث عن ( تاريخ ما بعد الظهور ) يعني التعرُّف على يوم الإصلاح العام على يد القائد المـُنتظر، وهو يعني – بكلِّ صراحة – التعرُّض إلى النتائج النهائية التي تتبنَّاها الفكرة المهدوية ككل، ووصف البشرية المـُثلى في مُستقبله السعيد.

والتعرُّض إلى هذا التاريخ، لا يتوقَف على الإيمان بأطروحة مهدوية مُعينة، هي الأطروحة الإمامية – مثلاًً – التي تؤمن بالغيبية الطويلة للمهدي الموعود، إذ يكون في الإمكان أن يقوم بمثل هذه الأعمال التي سنذكرها له بعد ظهوره، وسواء كان غائباً في الفترة السابقة على ظهوره أم لم يكن(١) ؛ ومن هنا يكون لهذا البحث فائدة شاملة لكل المسلمين بصفتهم مؤمنين بفكرة المهدي، بل يكون لها أثر قريب بالنسبة إلى غير المسلمين ممَّن يؤمن بالمـُصلح المـُنتظر.

وتنبثق أهمّية هذا البحث مرّة أُخرى، في مُحاولة تصفية ما قيل أو يُقال، في تحديد ما

____________________

(١) هذا بحسب التصوُّر، بغضِّ النظر عمَّا قلناه في تأريخ الغيبة الكبرى (ص٥٠١) وما بعدها من البرهان على تأثير الغيبة الطويلة على جانب تكامل القيادة لديه , وتعميق تطبيقاته العدالة في اليوم الموعود.

٦

سوف يحدث يوم الظهور وبعده، ممّا قد يكون مُشوَّهاً بالأساطير، ومُحاولة الاقتصار على إثبات ما قام عليه الدليل، ورفض أيِّ أمر آخر.

وتنبثق فائدة هذا البحث من زاوية ثالثة، من البرهنة على الارتباط العضوي الوثيق بين يوم العدل الموعود، وبين الأساس العام الذي يقوم عليه الكون وأهدافه الكبرى التي خُلِق من أجلها، تلك الأهداف التي كانت تطبيقات من مفهوم العدل العام، والتي سار عليها التكوين والتشريع، واضطلع بالسير على طبقه موكب الأنبياء والشهداء، والأولياء والمـُصلحين على مدى التاريخ.

وسيظهر بجلاء، أنّ يوم الظهور ليس تاريخاً طارئاً أو قدراً مُرتجلاً، وإنّما هو في واقعه النتيجة الطبيعيّة الكبرى التي أرادها الخالق الحكيم في تخطيطه العام … والتي شارك في إعدادها الأنبياء، وبُذِلت في سبيلها التضحيات على مدى التاريخ.

والفائدة الرابعة - وليست الأخيرة - هي أنَّ الفرد بعد اطِّلاعه على هذا التاريخ، يستطيع أن يحمل فكرة كافية عن أوصاف المهدي وأعماله عند ظهوره، وممَّا يوفِّر الدليل الكافي بأن يعرف: أنّ مُدّعي المهدوية هل هو المهدي الموعود قائد العالم، أو أنّه رجل مُبطِل كذَّاب؟

فإنَّ الفرد قد يواجه في غضون حياته أو يقرأ في التاريخ دعوات مهدوية مُتعدِّدة، فلا يَحْار في مبدأ الأمر في تصديقها وتكذيبها، إن كان ممَّن يؤمن بالفكرة المهدوية أساساً، فلا يعلم أنَّ هذا هو المهدي المـُنتظر أو غيره.

وهذه المـُشكلة وإن استطاع الفكر الإسلامي أن يُذلِّلها عن طريق البرهان العقائدي، إلا أنَّه - بغضِّ النظر عن ذلك - نستطيع أن نُذلِّلها عن طريق الدليل التاريخي … وذلك بمُحاولة تطبيق الصفات الثابتة تاريخيَّاً للمهدي الموعود على مُدَّعي المهدوية، فإن كانت ثابتة له؛ إذن فهو على الحقِّ، وهو المهدي الموعود.

وهذه جهة - بطبيعتها - مُهمَّة لكل مُعتقد بالفكرة المهدوية؛ فإنّه من المؤسِف حقَّاً ومن المـُحرَّم دينيّاً، أن يكون المهدي حقيقياً ثمّ لا يستطيع الفرد التعرُّف عليه، أو أن يكون المـُدّعي كاذباً ثمّ لا يستطيع الفرد معرفة كذبه، وإنّما ينحرف باتِّجاهه وينجرف بتيَّاره، فلا بدّ أن يكون للفرد محكٌّ عقائدي، وميزان تاريخي في التعرُّف على رفض مَن يرفض وقبول مَن يقبل، وقد وفَّر الإسلام كِلا الجانبين، وما هو محلُّ كلامنا الآن هو الميزان التاريخي.

٧

فهذه بعض فوائد هذا البحث، التي تجعله من الأهمِّيَّة والرسوخ ما يؤهِّله أن يكون شعبة من المعرفة الإسلامية، وحقلاً من المعرفة الإنسانية.

الجهة الثانية: في طرق الاستدلال التي سنتَّبعها من خلال البحث للتعرُّف على ما هو ثابت وما هو مرفوض.

والاستدلال يختلف – بطبيعة الحال – باختلاف النتائج التي نريد التوصُّل إليها، وهي ممَّا يمكن تقسيمها بانقسامات ثلاثة، لابدّ من التعرُّف عليها، وما هو محلُّ الحاجة ومنطلق البحث منها … لكي نختار ما يُناسبها من الاستدلالات.

الانقسام الأول: التقسيم من حيث اتِّجاه الفكرة المهدوية، أعني تحديد المـُصلح المـُنتظر في نظر الفرد، فإنّ الاتِّجاهات هنا ذات ثلاثة مسارات رئيسية:

المسار الأول: المـُصلِح المـُنتظر الذي يؤمِن به غير المسلمين، على اختلاف بينهم في تشخيصه وصفاته، كالمسيحيِّين واليهود والبراهمة وغيرهم.

المسار الثاني: المـُصلِح المـُنتظَر الذي يؤمِن به المسلمون غير الإماميين عادةً، وهو رجل يُلقَّب بالمهدي، يولَد في زمانه، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت جوراً.

المسار الثالث: المـُصلِح المـُنتظَر للمسلمين الإمامين خاصة، وهو المهدي الغائب محمد بن الحسن بن علي عليهم السلام الذي يظهر، فيملأ الأرض عدلاً كما مُلئت جوراً.

وهذه المسارات في جوهرها واحدة، تُشير إلى مفهوم واحد مُندرج في التخطيط الإلهي العام، بشَّرت به الأديان وأكّد عليه الإسلام، وإنّما حصل الاختلاف فيه نتيجةً لظروف مُعيّنة، تمُتُّ إلى التربية الفكرية للبشرية بصلة، كما سبق أن حملنا عنه فكرة في التاريخ السابق(١) ، وسنعرف تفاصيله في الكتاب القادم

إلاَّ أنَّنا على أيِّ حال، ينبغي أن ننطلق في البرهان على حوادث المـُستقبل من أُسُس مُسلَّمة، لهذه المسارات الثلاث ليكون الكلام مقبولاً مُسلَّم الصحَّة لديها جُهد الإمكان.

ومعه؛ فمَن المـُتعذَّر - إلى حدٍّ كبير - التعرُّف على أُسُس مُشتركة بالنسبة إلى المسار الأول - بتعبير آخر - مشتركة بين المسارات الثلاثة كلها … ممَّا يعود إلى مفهوم المهدوية العام، الذي تتسالم عليه الأديان؛ وذلك لعدم تسالمها - في حدود المقدار المعروف لدى أهلها من

____________________

(١) انظر ص٢٥١ وما بعدها إلى آخر الفصل.

٨

القواعد والأُسُس - على أُمور مشتركة يمكن الانطلاق منها على حقيقة مُعيَّنة بهذا الصدد، ومعه يكون البحث عن تفاصيل اليوم الموعود، والأعمال التي سيقوم بها القائد المـُنتظر مُتعذِّراً، وإنَّما غاية ما يمكن التعرُّف عليه والتسالم على صحَّته، هو تطبيق للعدل على وجه الأرض على الإجمال.

نعم، لو اقتصرنا في فكرة المـُصلِح المـُنتظَر على اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام أمكن الانطلاق من بعض الأُسُس المشتركة إلى بعض تفاصيل اليوم الموعود كما سنرى، وخاصة بعد أن يثبت في الإسلام - على ما ستسمع - نزول المسيح في ذلك اليوم، وسيكون لما ذكر في التوراة والإنجيل من تفاصيل جزء خاص آتٍ من الموسوعة.

وأمَّا الاستدلال على التفاصيل، من خلال المسارين الثاني والثالث، ففي الإمكان الحصول على الكثير من الأُسُس المشتركة النافعة بهذا الصدد، وسيكون المنطلق الأساسي المـُشترك، هو ما نطق به القرآن الكريم من الوعد بيوم التطبيق الإسلامي العادل، ومن الخصائص الكبرى التي يتَّصف بها ذلك اليوم - على ما ستسمع - كما سينطلق الاستدلال ممَّا تسالمت عليه أخبار الفريقين من الحقائق، أمّا ما استقلَّ به كل فريق من الأخبار، فسيكون لنا منه موقف خاص، سنذكره.

وينبغي الإلماع إلى أنَّ الأخبار الإمامية، قد تكفَّلت بنقل الحوادث للفترة الزمنية التي نؤرِّخ لها، أكثر بكثير ممَّا نقلته أخبار العامة، وخاصة فيما يعود إلى المهدي وأصحابه وأعماله، وإن أكثرت الأخبار العامة الحديث عن المسيح والدجَّال وأشراط الساعة.

وعلى أيِّ حال، فما يعود إلى مقدار الأخذ بالخبر أو رفضه سنذكره في الانقسام الثالث إن شاء الله تعالى.

الانقسام الثاني: التقسيم من حيث مقدار الحوادث التي يُراد الحصول عليها وإثباتها تاريخياً.

وذلك أنَّنا كنَّا نتوخَّى الاطِّلاع على التاريخ التفصيلي لما بعد الظهور، وذكر حودثه وأقوال مُعاصريه - جملة وتفصيلاً - كما لو كان مشاهداً محسوساً فعلاً، فهذا ممَّا لا يُمكن أساساً وينبغي الاعتراف سلفاً بتعذُّره وانقطاع السبيل إليه، بسبب ما سنسمعه فيما يلي من البحث، من وجود الفجوات الواسعة في الروايات الناقلة للتاريخ المطلوب.

إلاَّ أنَّ مثل هذا التفصيل، ممَّا لا يُهمُّ التعرُّض له، وليس هناك مصلحة في معرفته، وإنَّما المـُستقبل وحده هو الكفيل بمُعاصرته، والله عزَّ وجلّ هو القدير على إيجاده

٩

والعليم به... وإن عشت أراك الدهر عَجَباً، فإنَّ أيَّاً من المصالح الأربعة السابقة لا يتوقَّف تحقُّقها على مثل هذا التفصيل، بل يكفي فيها التعرُّف على الأفكار العامة والحوادث الرئيسية في ذلك العهد، وواردة في الأخبار بشكل يمكن إثباته تاريخياً، دون ما هو أوسع من ذلك.

ومن ثمَّ؛ لا ينبغي أن نتوقَّع من الباحث في تاريخ ما بعد الظهور، زيادة من التفاصيل، وإنَّما يقتصر بمُقتضى مادَّة عمله وأُسُس مصادره على الأفكار العامّة، والحوادث الرئيسية بطبيعة الحال.

الانقسام الثالث: التقسيم من حيث ما نتطلَّبه من الإثبات التاريخي، باعتبار أنَّنا تارةً نتوخَّى حصول الاطمئنان والوثوق بوجود الحادثة المـُعيَّنة، وأُخرى نكتفي بالإخبار الاعتيادي في إثباته.

ومن هنا يكون لنا – بلحاظ ذلك – موقفان:

الموقف الأوَّل: إذا أردنا حصول الاطمئنان بوجود حادثة مُعيَّنة ممَّا يُنقَل حدوثها بعد الظهور... أمكننا الاعتماد على المصادر التالية:

المصدر الأوّل: القرآن الكريم بما فيه من ظواهر واضحة دالَّة على وصف العدل الإسلامي، والخيرات التي تعود على البشرية عند تطبيق أحكام الإسلام.

المصدر الثاني: الروايات المـُتعدِّدة الناقلة لحادثة مُعيَّنة، بحيث تكون إحداها قرينة على الأُخرى، ومصداقية لها، بحيث تكون بمجموعها موجبة للثبوت التاريخي في أيِّ حقل اعتيادي من حقول التاريخ.

المصدر الثالث: أخبار الفريقين إذا تسالمت على نقل حادثة مُعيَّنة، ولو كانت بعدد قليل عند كل فريق، فإنَّه يكفي لإثباتها؛ وذلك لأنّ ظروف الرواية وأشخاص الرواة، مُختلفَين عند كل مذهب إسلامي، ممَّا يوجب الاختلاف الكبير في النقل، فإذا تسالموا على نقل مضمون بعينه، كان هذا بعيداً عن الخطأ إلى حدٍّ كبير.

المصدر الرابع: الخبر الذي تعضده القواعد الإسلامية العامة، وتؤكِّد مضمونه، فإنَّه يكفي إثباتاً تاريخيّاً، ومثاله: الأخبار القائلة: بأنَّ المهدي ( عليه السلام ) يُطبِّق الإسلام كما جاء به النبي (ص) فإنَّها مُطابقة لنظرة الإسلام إلى استمرار تعاليم الدين الإسلامي إلى نهاية البشرية.

المصدر الخامس: القواعد الإسلامية العامّة المـُبرهَن عليها في علوم مُختلفة من حقول

١٠

الإسلام، كالعقائد و الفقه وغيره، فإنَّها إذا كانت ثابتة في محلِّها أمكن التوصُّل بها إلى بعض النتائج، ومثاله: القاعدة التي تقتضي عدم جواز الحُكم القضائي إلا بسماع البيِّنة مع توفُّرها، فإنَّها تنفي الأخبار الدالَّة على أنَّ المهدي (ع) يقضي بدون سماع البيِّنة، كما سيأتي إيضاحه.

فإذا اجتمعت هذه المصادر الخمسة بنتائجها، كان تخطيطنا العام لهذا التاريخ قد كمل؛ إذ بها نستطيع أن نُثبت كل ما هو مُهمُّ ورئيسي في عهد الظهور، وتبقى جملة من التفاصيل يوكَل إثباتها بشيء من هذه المصادر الخمسة.

الموقف الثاني: إذا اكتفينا في الإثبات التاريخي الاعتيادي أو النقل المـُنفرد، وهو ما سنحتاج إليه بطبيعة الحال(١) في سرد عدد من التفاصيل التي لا يمكن التوصُّل إلى معرفتها بدون ذلك، بالرغم من أنّ قيمة الإثبات لا تزيد على قيمة هذا الخبر المـُنفرد.

ونحن بهذا الصدد، نستطيع أن نقبل بعض المصادر، وأن نرفض بعضاً:

أمّا المصادر التي نقبلها، فهي كما يلي:

المصدر الأول: النقل المـُنفرد الذي تقوم القرائن القليلة على تأييده... كالقرائن الحالية، أو وجود روايتين فقط بمضمون واحد، أو سندين لرواية واحدة، فإنَّ أحدهما يكون قرينة على صحَّة الآخر.

المصدر الثاني: النقل المـُنفرِد الذي يُقبل عادةً في الفقه كمُثبت للحُكم الشرعي الإسلامي، وهو الخبر الذي يتَّصل بالمـُتحدِّث الأول عن طريق الثقات، فإنَّه يمكن اعتباره إثباتاً كافياً بلحاظ الموقف الثاني، وإن تجرَّد عن القرينة على صدقه.

وأمَّا المصادر التي نرفضها، فهي كما يلي:

المصدر الأول: الخبر الذي تنفيه القواعد الإسلامية العامَّة المـُبرهَن عليها كما سبق

____________________

(١) وهذا هو فرق الإثبات الذي نحتاجه في هذا التاريخ، عن الإثبات الذي أسَّسناه في التاريخ السابق (٢٠٨) فإنَّه كان قائماً على رفض الخبر المـُنفرِد بكل أشكاله وسمَّيناه بالتشدُّد السندي؛ وذلك لعدم الاحتياج إلى مثل هذا الخبر، أمَّا هنا فسنحتاج إليه بالضرورة؛ لأنَّ عدداً من الحوادث منقولة بالخبر المـُنفرد فقط، وهي ممَّا نحتاج إليها في ضبط التسلسل العام للحوادث، وسيكون لهذا الفرق نتائج ملموسة كما سيأتي.

١١

مثاله: لا يختلف ذلك بين ما إذا كان خبراً مُنفرِداً أو عدَّة أخبار، ولا يختلف في القاعدة بين أن يكون مُستفادة من الكتاب أو السنَّة أو غيرهما.

المصدر الثاني: الخبر الذي يوجَد له معارض ينقل خلافه، وذلك فيما إذا وجِد لدينا خبران ينقلان حادثة مُعيَّنة بشكلين مُتغايرين، أو ينقلان حادثتين مُتنافيتين، ونحو ذلك.

وفي مثل ذلك، إذا كان أحد طرفي المعارضة - أعني أحد الخبرين - راجحاً على صاحبه، كما لو كان مُستفيضَ النقل، أو موافقاً مع القواعد العامة أو الشواهد الأُخرى، أخذنا به وطرحنا الآخر، وإن لم يكن هناك رجحان في أحد الطرفين سقط كلاهما عن إمكان الإثبات التاريخي، وقد فصَّلنا القول في ذلك التمهيد الذي عقدناه لـ ( تاريخ الغيبة الصغرى )(١) فلا حاجة إلى الإطالة فيه.

المصدر الثالث: المصدر الذي لا يوجد له مؤيِّد ولا مُفنِّد، ممَّا لم يروِه الثقات، ولا ارتباط له بالقواعد العامة بشكل مُباشر، لتدلّ على صحّته أو نفيه، فإنَّه بطيعة الحال لا يصلح للإثبات التاريخي بهذا الصدد، ويُرفَض هذا المصدر إلى جنب المصدرين السابقين، يمكن ملاحظة أنَّ الروايات الناقلة لحوادث اليوم الموعود، قد تخلصَّت ممَّا يحتمل أن يتطرَّق إليها من دسٍّ، أو يحزم حولها من وهمٌ أو يكتنف حقلها من أساطير، وبذلك تكون مصادرنا المـُعتمدة واضحة لا غبار عليها، وصالحة لعرض الفكرة المهدوية تجاه العالم.

الجهة الثالثة: في الصعوبات التي يواجهها هذا البحث.

وهي صعوبات عديدة، اقتضتها ظروفها ومصالحها الخاصة والعامة، على ما سنرى.

ولا بدّ في المقام من أن نستثني ما ذكرناه من الصعوبات في تاريخ ( الغيبة الصغرى )، ممَّا يعود إلى التاريخ بشكل عام(٢) وإلى الروايات الواردة في المهدي بشكل خاص(٣) ، فإنَّها صعوبات شاملة لهذا التاريخ، وقد ذلَّلناها هناك.

ونقتصر هنا على الصعوبات التي يختص بها هذا التاريخ، وهي قد تتَّحد مع تلك الصعوبات أحياناً في العنوان، إلاَّ أنَّها من حيث الفكرة والأهمِّيَّة تختلف عن سابقاتها، كما

____________________

(١) انظر ص٢٨ وما بعدها وص٤٦ وما بعدها.

(٢) ص٢٤ وما بعدها إلى عدَّة صفحات.

(٣) ص٤٢ وما بعدها إلى عدَّة صفحات.

١٢

لا يخفى على المقارن.

ويمكن أن نعرض الصعوبات فيما يلي:

الصعوبة الأُولى: قيام الأخبار الناقلة لحوادث المـُستقبل، على الرمزية في كثير من أساليبها ونقاط عرضها، وخاصة فيما يعود إلى شخص المهدي (ع)، كقوله في بعض الروايات الآتية( إذا هزَّ رأسه أضاء له ما بين المشرق والمغرب ) وأنَّه( يضع يده على رؤوس الأنام فيجمع أحلامها ) وإن( رايته ليست من قطن و لا كتَّان، وإنَّما هي ورقة من أوراق الجنّة ) وغير ذلك من التعبيرات.

ويراد بها حقائق إسلامية واعية، لكنَّها لم تستعمل المداليل الاعتيادية للألفاظ، وإنّما استعملت الرمزية التي عرفناها في تاريخ الغيبة الكبرى(١) .

الصعوبة الثانية: تعمُّد الإجمال في الروايات، والسكوت عن بعض ما سيحدث من الأعمال والأقوال … بشكل يبدو بوضوح إرادة المـُتكلِّم حذف بعض الحقائق التي لا يجد مصلحة في التصريح بها، كسكوت بعض الروايات عن ذكر مضمون خُطبة المهدي في المسجد الحرام أول ظهوره، وسكوت الروايات عن مضمون خُطبته في مسجد الكوفة عند وروده العراق، وسكوتها عن كثير من نصائحه وأساليب امتحانه لأصحابه، بل يقتصر على القول:( وأنا أعلم بما يقوله لهم ) . وإمَّا ماذا يقول لهم، فهذا ممَّا لا سبيل إليه.

ومثله ما ورد في عدد من الروايات عن أصحاب المهدي (ع):( وأنا أعرف أسمائهم وأسماء أبائهم... ) ، ولكنَّه لا يُسمِّي واحداً بالمرة.

الصعوبة الثالثة: وجود الفجوات الضخمة فيما يُنقل من الروايات، وعدم انحفاظ تسلسل الحوادث بأيِّ حال، وهذا ما كان يبدو مثله في ما سمعناه من التواريخ السابقة، إلاَّ أنَّه في هذا التاريخ أشدُّ تركيزاً ووضوحاً، فانحفاظ التسلسل الزمني للعديد من الحوادث، يكاد يكون مُتعذِّراً، كما أنَّ كثيراً من مُهمَّات الأعمال التي سيُقام بها بعد الظهور محذوفة بالمرَّة، ومن المـُلاحَظ أنَّه كلمَّا تقدَّم الزمن مُبتعداً قلّت الحوادث المنقولة، وازدادت الفجوات، مضافاً إلى ازدياد الرمزية والإجمال أيضاً.

فبالنسبة إلى الصعوبة التي نتحدَّث عنها، نُلاحظ أنَّ الحوادث الواقعة قبل الظهور بقليل أو بعده بقليل، منقولة ومتوفِّرة إلى حدٍّ كبير، وأما في الفترة اللاحقة لذلك، فليس

____________________

(١) ص٢١٢ وما بعدها.

١٣

هناك إلاَّ حوادث مُتفرِّقة ولمام من الأقوال من دون ترتيب أو تعيين، وإذا ازداد البُعْد وتوجَّه النظر - مثلاً - إلى حادثة موته أو قتله وإلى مَن يخلفه بعده، كانت الروايات نادرة إلى حدٍّ كبير.

وهذه الصعوبات الثلاثة أمور راهنة تعمَّدها النبي (ص) والأئمة (ع) في حديثهم عن المهدي (ع) لعدَّة أسباب، أهمُّها: وجود الفجوات الثقافية والفكرية الواسعة بين عصر صدور الروايات والعصر الذي تتحدَّث عنه الروايات، من حيث إنَّ تطوُّر الفكر الإسلامي وتعمُّقه خلال القرون المـُتطاولة التي يعيشها ما بين هذين العصرين، وتطوُّره المتزايد على يد القائد المهدي (ع)... جعل من المـُتعذِّر على سامعي هذه الأحاديث في عصر المعصومين ( عليهم السلام ) فَهْمُ واستيعاب ما قد يقع من أعمال وأقوال في العصر المؤرَّخ له؛ ومن هنا كان من المصلحة سكوت المعصومين عن التصريح بها أساساً؛ وفقاً لقانون:كلِّم الناس على قدر عقولهم.

الصعوبة الرابعة: اتِّخاذ الروايات مساراً مُعيَّناً من التفكير، بحسب المذهب الإسلامي الذي تتبنَّاه.

والحديث عن ذلك، يتشعب إلى شعبتين، باعتبار ما ورد من الأخبار في مصادر العامة تارةً، وما ورد من الأخبار في المصادر الخاصة أُخرى.

الشعبة الأُولى: في الأخبار الواردة من مصادر العامة من إخواننا أهل السنَّة والجماعة، كالصحاح الستَّة وغيرها، فإن هذه الأخبار التي تتضمَّن التنبُّؤ بحوادث المـُستقبل - من هذه المصادر - تنقسم إلى أربعة أقسام، وما يُفيدنا - كما سنعرف – هو أشدُّها اختصاراً وغموضاً.

القسم الأوَّل: وهو الذي يُمثِّل المسار العريض والاتِّجاه الفكري الأهمّ لهذه الأخبار، وهو الحديث عن الفتن والملاحم، أي الحروب التي تقع خلال التاريخ، وما ينبغي أن يكون موقف الفرد المسلم منها، ثمَّ الحديث عن الدجَّال وأوصافه وأفعاله، والحديث عن عيسى بن مريم (ع) ونزوله إلى الأرض وحروبه مع الدجَّال، ومع يأجوج ومأجوج بعد انفتاح السَّدِّ الذي حُبسوا خلفه، ونحو ذلك من المضامين.

وهذا هو الذي يُمثِّل الأعمال أغلب من الأخبار الناقلة لحوادث المستقبل، وقد سبق أنَّا ذكرنا وناقشنا في ( تاريخ الغيبة الكبرى ) ما يعود منها إلى تلك الفترة.

وهي لا تمتُّ إلى ( اليوم الموعود ) بصلة، وسنذكر في هذا التاريخ ما يعود منها إلى

١٤

نزول المسيح وبعض الأمور الأُخرى.

القسم الثاني: وهو يُمثِّل طائفة مُهمَّة من الأخبار، وهي الأخبار المـُثبتة لوجود المهدي (ع) أساساً، وأنَّه من وُلْد فاطمة مع التعرُّض إلى اسمه وأوصاف جسمه، وأنَّه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وهي بمجموعها تزيد على التواتر بكثير، وتُثبت وجود المهدي بالضرورة... ولكنَّها لا تنفعنا في تاريخ ما بعد الظهور إلاَّ قليلاً.

القسم الثالث: ما يعود إلى شرح نتائج التطبيق الإسلامي الكامل، والمصالح الواسعة التي تترتَّب على العدل الحقيقي... كالأخبار الدالَّة على كثرة المال، وأنَّه يبحث الرجل عمَّن يقبل زكاته فلا يجد، وبأنَّ الفرات يحسر عن جبل من ذهب، لو فسَّرناه بسعة الزراعة وكثرة الخيرات، وهذا القسم لا يذكر في المصادر العامة مقترناً باسم المهدي (ع) وظهوره.

نعم، قام البرهان على أنَّ مضمونها لا يمكن أن يتحقَّق إلاَّ في ذلك العصر، لعدم توفُّر التطبيق العالمي الكامل قبله.

القسم الرابع: الأخبار المـُتكفِّلة لبيان المصالح وبعض النتائج الكبرى، التي تترتَّب على ظهور المهدي (ع) بنفسه وعنوانه.

وهذا القسم وإن لم يرد في الصحاح الستَّة، إلاَّ أنَّه ورد في المصادر الحديثيّة الأُخرى، كمسند أحمد بن حنبل، ومستدرك الحاكم - وأربعين الحافظ الأصفهاني وغيرها.

وأوضح مثال على ذلك، ما ورد في هذه المصادر عن النبي (ص)، بمضمون:( تتنعَّم الأُمَّة في عهده نعمةً لم تتنعَّم مثلها قطُّ، يرضى عنه ساكن الأرض وساكن السماء ) .

وما يمتُّ إلى هذا القسم بصلة مُتوفِّر في الأخبار، إلاَّ أنّه يقتصر على العموميات، ولا يكاد يكون يُشكِّل تاريخاً واضحاً.

على أنَّه - مهما تعدَّد - فإنَّه يُشكِّل الجزء الأقلَّ من الأقسام الأربعة، بالنسبة إلى مجموع المصادر... كما أنَّ القسم الثالث، هو الجزء الأقلّ بالنسبة إلى الصحاح الستّة، وسنرى موقفنا من هذه القلَّة فيما يلي من البحث.

الشعبة الثانية: في الأخبار الواردة في مصادر الخاصة، فيما يمتُّ إلى تاريخ ما بعد الظهور بصِلَة.

والاتِّجاه الفكري الذي تتَّخذه هذه الأخبار - عادةً - هو الاتِّجاه الطائفي، فالمهدي (ع) يُناقِش طِبْقاً له، ويُحارب لأجله، ويُقيم الامتحانات المـُعقَّدة للآخرين على أساسه،

١٥

وكأنَّه ليس في العالم من البشر إلاَّ المسلمين بمذاهبهم المختلفة.

نعم، من المنطقي الصحيح، أن يجمع المهدي (ع) المسلمين على الحق الذي يعتقد به، وأن يختبر الناس على أساسه، إلاَّ أنَّ هذا لا يعني بأيِّ حال اقتصار جهوده على المسلمين، بعد الذي سنُبرهن عليه من عالميَّة دعوته من ناحية والعلم الوجداني، بأنَّ غير المسلمين أضعاف المسلمين إلى حين أو الظهور، كيف وإنَّ الأرض كانت وستبقى إلى يومئذ مملوءة ظلماً وجوراً؟!

إذاً، فالجهود المبذولة من قِبَل المهدي (ع)، وأصحابه الخاصة المـُخلصين على سائر العالم، أضعاف الجُهد المبذول على المسلمين، أو قل: تعادلهما على أقلِّ تقدير. أمَّا أن تكون الجهود المبذولة على المسلمين أضعاف جهوده على غيرهم، كما تدلُّ عليه المصادر الخاصة، فهو ممَّا لا يكاد يُفهم.

ولعلَّ فبالإمكان إعطاء المـُبرِّرات الكافية لمثل هذا الاتِّجاه في الأخبار، إلاَّ أنَّها - بأيِّ حال - تبقى مُقتضبة بالنسبة لموقف المهدي (ع) من غير المسلمين.

وأهمُّ تبرير لذلك، هو كون هذه الأخبار - في واقعها - انعكاساً للظروف المـُعاشة في زمن صدورها، ولا نعني بذلك كونها كاذبةً أو مفتعلةً على نسق مُعيَّن؛ فإنَّ لكل خبر حسابه الخاص طِبقاً للمنهج الذي أسلفناه، بل تعني أنَّ ظروف الظلم والمصاعب التي كان يعيشها أصحاب الأئمة (ع) في المجتمع الإسلامي، من الدولتين الأُموية والعبّاسية، كانت تعكس في نفوس القواعد الشعبية الإمامية الاعتقاد بأنَّ الجبهة المـُضطهِدة - بالكسر - لها، تُمثِّل المذاهب الإسلامية الأُخرى، ومن ثَمَّ تكتسب القضية المذهبية في أذهانهم عُمقاً وأصالةً، أكثر من نسبتها العالمية، لو صحَّ التعبير، ويكون هو بحاجة إلى رفع معنويَّاتهم من قِبَل قادتهم الأئمة المعصومين (ع)، من هذه الناحية أكثر من أيِّ ناحية أُخرى، وذلك باستخدام عدَّة طُرق، من أهمِّها: الكشف عن هذا الجانب بعينه من أعمال الإمام المهدي (ع)، والسكوت عن أعماله الأُخرى التي لا تمتُّ إلى حاجة المجتمع بصلة وثيقة، وإن كانت تُمثِّل الجانب الأكبر في دولته.

ومن المـُستطاع القول أيضاً: إنَّ الفجوات التي تُرِكت، لم يكن المجتمع عموماً ليهضمها بوضوح، باعتبارها مُمثِّلة لتصرُّفات المهدي (ع) على المستوى العالمي، وفي عُمق الوعي الذي يُريده، ممَّا لم يكن المجتمع في عصر صدور هذه الأخبار على مستوى استيعابه؛ ومن ثَمَّ كان قانون ( كَلِّم الناس على قدر عقولهم ). مانعاً للمعصومين (ع) عن الإعراب والكشف عن هذا الجانب من دولة المهدي (ع) مهما كان واسعاً.

وعلى أيِّ حال، فهذه الصعوبة التي نحن بصددها، تُعتبر واقعاً لا محيص عنه، وإنَّ

١٦

علاقات المهدي بغير المسلمين، لم تذكرها الأخبار إلاَّ بأقلِّ القليل.

الصعوبة الخامسة: ما يعود إلى نقص الباحث بصفته مُمثِّلاً لمرحلة مُعيَّنة من تطوُّر الفكر الإسلامي.

ويتمُّ إيضاح ذلك بتقديم عدَّة نقاط:

النقطة الأُولى: يُمثِّل مفهوم الفكر الإسلامي مستويين مُستقلَّين:

المستوى الأوّل: الفكر الإسلامي بصفته مجموعة من الحقائق والتشريعات، كما يُعرِّفها الله ورسوله وأولياؤه (عليه وعليهم السلام )... وهو الفكر الإسلامي الأعلى، والأطروحة العادلة الكاملة للحياة.

المستوى الثاني: الفكر الإسلامي الموجود عند علماء المسلمين والمـُفكِّرين الإسلاميين على مَرِّ العصور، وهو في واقعه ناقل للمستوى الأول وحاكٍ عنه ومُنبثق عنه إلى حدٍّ كبير، نتيجة للتبليغات والبيانات التي قيلت من قِبَل المشرِّع الإسلامي المـُقدَّس في الكتاب الكريم والسنَّة الشريفة.

والمقصود الأساسي هو تربية الأُمَّة على فَهْم وامتثال المستوى الأول، عن طريق مُمارستها وتدقيقها للمـُستوى الثاني، بصفته مُمثِّلاً لمستوى الأول، وهي بأجيالها المـُتعقِّبة كفيلة بأن تقوم بذلك تدريجيَّاً، وكما سبق أن عرفنا في التاريخ السابق.

ولا زال الفكر الإسلامي بمستواه الثاني في طريق التطوُّر والتعمُّق والتوسُّع؛ ومن هنا صح أن يُقال: إنَّ كل جيل أو عدَّة أجيال من الأُمَّة الإسلامية يُمثِّل مرحلة للفكر الإسلامي، ولا زال الفكر الإسلامي في طريق الرُّقي، وينبغي الاعتراف بعدم وصوله إلى الكمال، ووجود عدد من البحوث غير المطروقة فيه، كما هو غير خفيٍّ على المـُحقِّقين في هذا الصدد.

النقطة الثانية: إنَّه ينتج من ذلك: أنَّ كل باحث ومُفكِّر، هو بطبيعة تكوينه ابن الفترة التي يُعاصرها والزمن الذي يمرُّ فيه، ويتعذَّر عليه بالمرَّة - مهما أوتي من عبقرية وطول باع - أن يسبق الزمن، فيدَّعي الوصول إلى المـُستوى الأول للفكر الإسلامي، أو أنَّه محتوٍ على وعي وثقافة الأجيال الإسلامية القادمة من المستوى الثاني... تلك الثقافة القائمة على انكشاف ما في سوابقها من الأخطاء، وملء ما فيها من فجوات.

إذاً؛ فكل باحث يحتوي على قصور طبيعي وذاتي في تفكيره الإسلامي، بصفته مُمثِّلاً

١٧

لمرحلة مُعيَّنة من تطوُّر الفكر الإسلامي لا يمكن أن يتعدَّاها، في حين يُمثِّل الإمام المهدي (ع) بما ينشر في عصر ظهوره من ثقافات وأفكار وتشريعات، يُمثِّل المستوى الأول من الفكر الإسلامي، ويصل بالمستوى الثاني إلى صفِّ المستوى الأول تماماً، كما نصَّت على ذلك الأخبار، واعترف به سائر مذاهب الإسلام من أن يُطبِّق الإسلام كما جاء به رسول الله (ص).

ومن هنا تنشأ الصعوبة، من أن يتصدَّى باحث قاصر للتفكير فيما يتعدَّى عصره، وللتوصُّل إلى حقيقة شخص كامل ومجتمع عادل.

النقطة الثالثة: أنَّه بعد الذي عرفناه من فجوات ومصاعب فيما وردنا من الأخبار من تاريخ ما بعد الظهور، سوف نضطرُّ - على ما سنعرضه عن قريب - إلى تذليل هذه المصاعب، عن طريق انتهاج القواعد الإسلامية المعروفة، في عدَّة مجالات: في فَهْمِ النصوص عامة، وفيما هو المقصود من الاستعمالات الرمزية خاصة، في مُحاولة التعرُّف على الاتجاهات العامة التي سيسير عليها الإمام القائد على الصعيدين، الاجتماعي والتشريعي، وفي ترجيح بعض النصوص على بعض، إلى غير ذلك من المسؤوليات في البحث والاستنتاج.

ويبدو من الواضح، بعد هذه النقاط: أنَّ كل باحث إنَّما يملأ هذه الفجوات بمقدار ما لديه من الثقافة الإسلامية، وما وصل إليه تطوُّر الفكر الإسلامي في عصره، ويستحيل في حقِّه أن يصل إلى الواقع الراهن القائم بعد عصر الظهور على عُمقه وشموله، وبخاصة بعد ورود ما سنسمعه في العديد من الأخبار من أنَّ المهدي (ع) يأتي بأمر جديد وكتاب جديد وسلطان جديد.

ولعلَّ من أوضح أمثلة ذلك، كما ذكره ابن عربي ( في الفتوحات المكِّيَّة )(١) عن تاريخ ما بعد الظهور، ممَّا يظنُّ أنَّ المهدي (ع) يقوم به من تصرُّفات، وما يُعيِّنه من وزراء وما يسنُّه من تشريعات، فإنَّه إنَّما كتبه بمستواه من التفكير الإسلامي، ونحن نجده الآن - بعد تعمُّق الفكر الإسلامي - في غاية الغرابة والتعقيد.

وهذه الصعوبة، بما ينفرد بها هذا البحث عن سائر أبحاث التاريخ، وبما فيها ما كتبناه من تاريخ الإمام المهدي (ع) في غيبته الصغرى وغيبته الكبرى، فإنّ تلك الأبحاث

____________________

(١) انظر ج ٣ ص٣٢٧ وما بعدها.

١٨

كانت عرضاً لحوادث مُعاشة سابقة أو مُعاصَرة، مفهومة الأبعاد والجوانب، يمكن للمـُفكِّر الإسلامي الأخذ بزمامها، بخلاف العرض التاريخي لما بعد الظهور، لما عرفناه من قصور الباحث من إدراك العُمق الحقيقي لذلك العصر.

الصعوبة السادسة: أنَّه قد يخطر على الذهن في نقد الأخبار الشارحة لحوادث الفترة التي نؤرِّخها: أنَّها قائمة على المعجزات وخوارق العادات، وهي بطبيعتها بعيدة الحدوث صعبة التصديق؛ ومن ثمََّ يُشكِّل ذلك ضعفاً في هذه الأخبار وصعوبة في فهمها واستيعابها.

إلاَّ أنَّ هذه الصعوبة ممَّا لا يمكن إدراجها في قائمة المصاعب الحقيقية للبحث، تلك المصاعب التي تضطرُّ الباحث إلى التسليم بالأمر الواقع، وإدخال النقص الحقيقي على بحثه، فإنّ هذه الصعوبة ليست كذلك، وإنّما تُعتبر نقطة ضعف في البحث عند اتِّجاه المـُفكِّرين الذين اسقطوا المعجزات عن نظر الاعتبار.

فإنَّ عدداً مُهمَّاً من تلك الأخبار لا تحتوي على الإشارة إلى أيِّ معجزة على الإطلاق، وإنَّما تروي أعمال المهدي (ع)، ومُنجزاته، وعدد أصحابه وغير ذلك؛ ومعه فلا تكون مشمولة هذه الفكرة أساساً.

وأمَّا الأخبار الدالَّة على المعجزات منها، فينبغي فحصها ومُحاسبة كل خبر وكلّ حادثة على حِدة، فما كان منها مُطابقاً لقانون المعجزات الذي برهنَّا عليه في ( تاريخ الغيبة الكبرى )(١) ... أخذنا به، بمعنى أنَّه لم يواجه صعوبة من هذه الناحية، وما كان خارجاً عن حدود هذا القانون، كان مرفوضاً من هذه الناحية، وساقطاً عن الإثبات التاريخي، وقد سبق أن طبَّقنا ذلك بدقَّة في الكتاب المـُشار إليه، ويكون ذلك من القواعد العامة الدالَّة على تكذيبه.

إذاً؛ فهذه الصعوبة، لا تكاد تشكل عَقَبة حقيقية تجاه هذا البحث، وإنَّما المـُهمُّ هو الصعوبات الخمس الأُولى. ولابدَّ من البحث عن إمكان تذليلها والكفكفة من عمق تأثيرها جَهد الإمكان.

الجهة الرابعة: في أُسلوب الخروج عن الصعوبات السابقة، وتذليلها، بمقدار ما هو المـُمكن والمـُتوفَّر.

____________________

(١) ص٣٧.

١٩

وقد أشرنا فيما سبق، إلى أنّ الجواب الحاسم على هذه المشكلات، والقاضي على هذه العقبات - جُملة وتفصيلاً - ممَّا لا يتوفَّر، ولا يمكن توفُّره لأيِّ باحث، ما لم يكن مُعاصراً لعصر الظهور، أو مُتأخِّراً.

ومن ثَمَّ؛ ينبغي الاعتراف بقصور هذا البحث عن الإحاطة بالعُمق الحقيقي لليوم الموعود، والحوادث التفصيلية الواقعة فيه، وإنَّما غاية ما نُحاول أن نُصوِّر الأفكار العامة والأعمال الرئيسيّة المـُتوفّرة فيه، من خلال ما بلغنا من أخبار وما نعرفه من قواعد، وأنَّ خير ما يخرج من تلك المصاعب السابقة هو اتِّخاذ أُسلوبين مُترتِّبين:

الأُسلوب الأول: تذليل المصاعب عن طريق القواعد العامة المؤسَّسة في الكتاب والسنَّة، وذلك بعرض جميع ما وردَنا في مصادر هذا التاريخ، عرضه على ما هو المعروف من فَهْمِ الإسلام لأُمور ووجهة نظره إلى القضايا العامة والخاصة... ذلك الفَهم المـُستنتَج من الكتاب والسنَّة، والمـُستشهَد عليه بآية أو رواية، أو المعروف عن طريق الاستدلال العقلي القطعي.

ونستطيع بهذه القواعد، أن نصل إلى عدَّة نتائج أساسية حاسمة في تذليل تلك المصاعب:

أوَّلاً: مُحاولة فَهْم العبارات الرمزية، بنحو ينسجم مع الفَهم الإسلامي الصحيح؛ باعتبار أنَّ فَهم ظواهرها المباشرة غير مُحتمل أساساً، وإلاَّ كان أساساً لتصورات خاطئة إسلامياً، كما هو المـُبرهَن عليه في البحوث الإسلامية.

وإذ يدور الأمر بين إهمالها وتأويلها، يكون تأويلها إلى المعنى الصحيح أفضل، كيف، ونحن نعلم أنَّ استعمال الرمز على لسان النبي (ص) والأئمة (ع) أمر غير غريب، وخاصة فيما يكون فوق فَهم السامعين المباشرين لهم، كما هو الحال في التعبير عن حوادث تاريخ ما بعد الظهور.

ثانياً: مُحاولة ملء بعض الفجوات الموجودة في هذا التاريخ المنقول، بما نعلم عادة قيام المهدي (ع) به بعد ظهوره، بحسب القواعد العامة... وإن لم يُصرَّح به في الأخبار نتيجةً لظروفها الخاصة.

ولكن تبقى – مع ذلك – فجوات واسعة قد نستطيع ملأها، أو جملة منها، عن طريق الأُسلوب الثاني الآتي. وبدونه ينبغي الاعتراف بالعجز عن الملء، لكنَّنا سنرى أنَّنا نستطيع بالأخبار مع تحكيم هذين الأُسلوبين تغطية المـُهمّ منها.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

التدريجي وقبول الانقسام والتجزّي - لكان مادّيّاً متغيّراً وقابلاً للانقسام، وليس كذلك، فإنّ كلّ أحدٍ إذا رجع إلى هذه المشاهدة النفسانيّة اللاّزمة لنفسه، وذكر ما كان يجده من هذه المشاهدة منذ أوّل شعوره بنفسه ؛ وجده معنىً مشهوداً واحداً باقياً على حاله من غير أدنى تعدّدٍ وتغيّر، كما يجد بدنه وأجزاء بدنه، والخواصّ الموجودة معها متغيّرة متبدّلة من كلّ جهةٍ في مادّتها وشكلها وسائر أحوالها وصورها، وكذا وجده معنىً بسيطاً غير قابلٍ للانقسام والتجزّي، كما يجد البدن وأجزائه وخواصّه - وكلّ مادّة وأمرٍ مادّيٍّ كذلك - ؛ فليست النفس هي البدن ولا جزءاً من أجزائه، ولا خاصّة من خواصّه، سواء أدركناه بشيءٍ من الحواسّ، أو بنحوٍ من الاستدلال، أو لم ندرك ؛ فإنّها جميعاً مادّية كيفما فُرضت، ومن حكم المّادة التغيّر وقبول الانقسام، والمفروض أنْ ليس في مشهودنا المسمّى بالنفس شيء من هذه الأحكام ؛ فليست النفس بمادّيّة بوجه.

وأيضاً، هذا الذي نشاهده، نشاهده أمراً واحداً بسيطاً، ليس فيه كثرة من الأجزاء، ولا خليط من خارج، بل هو واحد صِرْف، فكلّ إنسانٍ يشاهد ذلك من نفسه، ويرى أنّه هو وليس بغيره، فهذا المشهود أمرٌ مستقلٌّ في نفسه، لا ينطبق عليه حدّ المادّة، ولا يوجد فيه شيء من أحكامها اللاّزمة، فهو جوهر مجرّد عن المادّة متعلّق بالبدن نحو تعلّق يوجب اتحاداً ما له بالبدن، وهو التعلّق التدبيري ؛ وهو المطلوب.

وقد أنكر تجرّد النفس جميع المادّيّين، وجمعٌ من الإلهيّين من المتكلّمين والظاهريّين من المحدثين، واستدلّوا على ذلك، وردّوا ما ذُكر من البرهان بما لا يخلو عن تكلّف من غير طائل.

قال المادّيّون: إنّ الأبحاث العلميّة على تقدّمها وبلوغها اليوم إلى غاية

٤١

الدقّة في فحصها وتجسّسها، لم تجد خاصّة من الخواصّ البدنيّة إلاّ وجدت علّتها المادّيّة، ولم تجد أثراً روحيّاً لا يقبل الانطباق على قوانين المادّة حتّى تحكم بسببها بوجود روح مجرّدة.

قالوا: وسلسلة الأعصاب تؤدّي الإدراكات إلى العضو المركزي وهو الجزء الدماغي، على التوالي وفي نهاية السرعة، ففيه مجموعة متّحدة ذات وضع واحد لا يتميّز أجزائها ولا يُدرك بطلان بعضها وقيام الآخر مقامه، وهذا الواحد المتحصّل هو نفسنا التي نشاهدها ونحكي عنها ب-: أنا.

فالذي نرى أنّه غير جميع أعضائنا صحيح، إلاّ أنّه لا يثبت أنّه غير البدن وغير خواصّه، بل هو مجموعة متّحدة من جهة التوالي والتوارد لا نغفل عنه، فإنّ لازم الغفلة عنه - على ما تبيّن - بطلان الأعصاب، ووقوفها عن أفعالها وهو الموت، والذي نرى أنّه ثابت صحيح لكنّه لا من جهة ثباته وعدم تغيّره في نفسه بل الأمر مشتبه على المشاهدة من جهة توالي الواردات الإدراكيّة وسرعة ورودها، كالحوض الذي يرد عليه الماء من جانب ويخرج من جانب بما يساويه وهو مملوء دائماً، فما فيه من الماء يجده الحسّ واحداً ثابتاً، وهو بحسب الواقع لا واحدٌ ولا ثابت، وكذا يجد عكس الإنسان، أو الشجر أو غيرهما فيه واحداً ثابتا، وليس واحداً ثابتاً بل هو كثيرٌ متغيّر تدريجاً بالجريان التدريجي الذي لأجزاء الماء فيه، وعلى هذا النحو وجود الثبات والوحدة والشخصيّة التي نرى في النفس.

قالوا: فالنفس التي يُقام البرهان على تجرّدها من طريق المشاهدة الباطنيّة، هي في الحقيقة مجموعة من خواصّ طبيعيّة، وهي: الإدراكات العصبيّة، التي هي نتائج حاصلة من التأثير والتأثّر المتقابلين بين جزء المادّة الخارجيّة وجزء المركّب العصبي، ووحدتها وحدة اجتماعيّة لا وحدة واقعيّة حقيقيّة.

٤٢

أقول : أمّا قولهم: ( إنّ الأبحاث العلميّة المبتنية على الحسّ والتجربة، لم تظفر في سيرها الدقيق بالروح، ولا وجدت حكماً من الأحكام غير قابل التعليل إلاّ بها )، فهو كلام حقٍّ لا ريب فيه، لكنّه لا ينتج انتفاء النفس المجرّدة التي أُقيم البرهان على وجودها، فإنّ العلوم الطبيعيّة الباحثة عن أحكام الطبيعة، وخواص المادّة، إنّما تقدر على تحصيل خواصّ موضوعها الذي هو المادّة، وإثبات ما هو من سنخها، وكذا الخواص والأدوات المادّيّة، التي نستعملها لتتميم التجارب المادّيّة، إنّما لها أن تحكم في الأُمور المادّيّة، وأمّا ما وراء المادّة والطبيعة فليس لها أن تحكم فيها نفياً ولا إثباتاً، وغاية ما يشعر البحث المادّي به هو عدم الوجدان، وعدم الوجدان غير عدم الوجود، وليس من شأنه - كما عرفت - أن يجد ما بين المادّة التي هي موضوعها ولا بين أحكام المادّة وخواصّها، التي هي نتائج بحثها، أمراً مجرّداً خارجاً عن سنخ المادّة، وحكم الطبيعة.

والذي جرّأهم على هذا النفي ؛ زعمهم أنّ المثبتين لهذه النفس المجرّدة، إنّما أثبتوها لعثورهم إلى أحكام حيويّة من وظائف الأعضاء، ولم يقدروا على تعليلها العلمي، فأثبتوا النفس المجرّدة لتكون موضوعاً مُبْدئاً لهذه الأفاعيل، فلمّا حصل العلم اليوم على عللها الطبيعيّة لم يبق وجهٌ للقول بها. ونظير هذا الزعم ما زعموه في باب إثبات الصانع.

وهو اشتباهٌ فاسدٌ، فإنّ المثبتين لوجود هذه النفس لم يثبتوها لذلك، ولم يسندوا بعض الأفاعيل البدنيّة إلى البدن، فيما علله ظاهرة، وبعضها إلى النفس فيما علله مجهولة، بل أسندوا الجميع إلى العلل البدنيّة بلا واسطة وإلى النفس بواسطتها، وإنّما أسندوا إلى النفس ما لا يمكن إسناده إلى البدن ألبتّة، وهو علم الإنسان بنفسه ومشاهدته ذاته، كما مرّ.

٤٣

وأمّا قولهم: ( إنّ الإنيّة المشهودة للإنسان على صفة الوحدة، هي عدّة من الإدراكات العصبيّة الواردة على المركز، على التوالي، وفي نهاية السرعة - ولها وحدة اجتماعية - ) فكلام لا محصّل له، ولا ينطبق عليه الشهود النفساني ألبتّة، وكأنّهم ذهلوا عن شهودهم النفساني ؛ فعدلوا عنه إلى ورود المشهودات الحسّيّة إلى الدماغ، واشتغلوا بالبحث عمّا يلزم ذلك من الآثار التالية، وليت شعري، إذا فرض أنّ هناك أُموراً كثيرة بحسب الواقع لا وحدة لها ألبتّة، وهذه الأُمور الكثيرة التي هي الإدراكات أُمور مادّيّة ليس ورائها شيء آخر إلاّ نفسها، وأنّ الأمر المشهود الذي هو النفس الواحدة هو عين هذه الإدراكات الكثيرة، فمِن أين حصل هذا الواحد الذي لا نشاهد غيره ؟!

ومن أين حصلت هذه الوحدة المشهودة فيها عياناً ؟!

والذي ذكروه من وحدتها الاجتماعية كلام أشبه بالهزل منه بالجد ؛ فإنّ الواحد الاجتماعي هو كثير في الواقع من غير وحدة، وإنّما وحدتها في الحسّ أو الخيال - كالدار الواحد والخطّ الواحد مثلاً - لا في نفسه، والمفروض، في محلّ كلامنا، أنّ الإدراكات والشعورات الكثيرة في نفسها هي شعور واحد عند نفسها، فلازم قولهم:

إنّ هذه الإدراكات في نفسها كثيرة لا ترجع إلى وحدة أصلاً، وهي بعينها شعور واحد نفساني واقعاً، وليس هناك أمر آخر له هذه الإدراكات الكثيرة فيدركها على نعت الوحدة، كما يدرك الحاسّة أو الخيال المحسوسات، أو المخيّلات الكثيرة المجتمعة على وصف الوحدة الاجتماعية، فإنّ المفروض أنّ مجموع الإدراكات الكثيرة في نفسها، نفس الإدراك النفساني الواحد في نفسه، ولو قيل: إنّ المُدْرك هاهنا الجزء الدماغي، يدرك الإدراكات الكثيرة على نعت الوحدة ؛ كان الإشكال بحاله، فإنّ المفروض: أنّ إدراك الجزء الدماغي نفس هذه الإدراكات الكثيرة

٤٤

المتعاقبة بعينها، لا أنّ للجزء الدماغي قوّة إدراك تتعلّق بهذه الإدراكات، كتعلّق القوى الحسيّة بمعلوماتها الخارجيّة وانتزاعها منها صوراً حسّيّة، فافهم ذلك.

والكلام في كيفيّة حصول الثبات والبساطة في هذا المشهود، الذي هو متغيّر متجزّئ في نفسه كالكلام في حصول وحدته، مع أنّ هذا الفرض أيضاً - أعني أن تكون الإدراكات الكثيرة المتوالية المتعاقبة مشعورةً بشعورٍ دماغيٍّ على نعت الوحدة - نفسه فرض غير صحيح، فما شأن الدماغ والقوّة التي فيه، والشعور الذي لها، والمعلوم الذي عندها ؟!

وهي جميعاً أُمورٌ مادّيّةٌ، ومن شأن المادّة والمادّي الكثرة والتغيّر وقبول الانقسام، وليس في هذه الصورة العلميّة شيء من هذه الأوصاف والنعوت، وليس غير المادة والمادي هناك شيء.

وقولهم: ( إنّ الأمر يشتبه على الحسّ أو القوّة المُدْرِكة، فيدرك الكثير المتجزّي المتغيّر واحداً بسيطاً ثابتاً ) غلط واضح، فإنّ الغلط والاشتباه من الأُمور النسبيّة التي تحصل بالمقايسة والنسبة، لا من الأُمور النفسيّة، مثال ذلك أنّا نشاهد الأجرام العظيمة السماويّة صغيرة كالنقاط البيض، ونغلط في مشاهدتنا هذه على ما تبيّنه البراهين العلميّة، وكثير من مشاهدات حواسّنا، إلاّ أنّ هذه الأغلاط، إنّما تحصل وتوجد إذا قايسنا ما عند الحسّ ممّا في الخارج من واقع هذه المشهودات، وأمّا ما عند الحسّ في نفسه، فهو أمرٌ واقعيٌّ كنقطة بيضاء لا معنى لكونه غلطاً ألبتّة.

والأمر فيما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ حواسّنا وقوانا المُدْرِكة إذا وجدت الأُمور الكثيرة المتغيِّرة المتجزّية على صفة الوحدة والثبات والبساطة ؛ كانت القوى المُدْرِكة غالطة في إدراكها، مشتبهة في معلومها

٤٥

بالقياس إلى المعلوم الذي في الخارج، وأمّا هذه الصورة العلميّة الموجودة عند القوّة فهي واحدة ثابتة بسيطة في نفسها ألبتّة، ولا يمكن أن يُقال للأمر الذي هذا شأنه: إنّه مادّي لفقده أوصاف المادّة العامّة.

فقد تحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ الحجّة التي أوردها المادّيون من طريق الحسّ والتجربة إنّما ينتج عدم الوجدان، وقد وقعوا في المغالطة بأخذ عدم الوجود ( وهو مدَّعاهم ) مكان عدم الوجدان، وما صوّروه لتقرير الشهود النفساني - المثبت لوجود أمرٍ واحدٍ بسيطٍ ثابتٍ - تصوير فاسد، لا يوافق لا الأُصول المادّيّة المسلِّمة بالحسّ والتجربة، ولا واقع الأمر الذي هو عليه في نفسه.

وأمّا ما افترضه الباحثون في علم النفس الجديد، في أمر النفس، وهو أنّه الحالة المتّحدة الحاصلة من تفاعل الحالات الروحيّة من الإدراك والإرادة والرضا والحب وغيرها، المنتجة لحالة متّحدة مؤلّفة، فلا كلام لنا فيه، فإن لكلّ باحثٍ أنّ يفترض موضوعاً، ويضعه موضوعاً لبحثه، وإنّما الكلام فيه من حيث وجوده وعدمه في الخارج والواقع، مع قطع النظر عن فرض الفارض وعدمه، وهو البحث الفلسفي، كما هو ظاهر على الخبير بجهات البحث.

وقال قوم آخرون من نُفاة تجرّد النفس من الملِّيّين: إنّ الذي يتحصّل من الأُمور المربوطة بحياة الإنسان: كالتشريح والفيزيولوجي، إنّ هذه الخواص الروحيّة الحيويّة تستند إلى جراثيم الحياة والسلولات التي هي الأُصول في حياة الإنسان، وسائر الحيوان، وتتعلّق بها، فالروح خاصّة، وأثر مخصوص فيها لكلّ واحدٍ منها أرواح متعدّدة، فالذي يسمّيه الإنسان روحاً لنفسه، ويحكي عنه ب-: أنا: مجموعة متكوّنة من أرواح غير محصورة على نعت الاتحاد

٤٦

والاجتماع، ومن المعلوم أنّ هذه الكيفيّات الحيويّة، والخواصّ الروحيّة، تبطل بموت الجراثيم والسلولات، وتفسد بفسادها، فلا معنى للروح الواحدة المجرّدة الباقية بعد فناء التركيب البدني، غاية الأمر أنّ الأُصول المادّيّة المكتشَفة بالبحث العلمي لمّا لم تفِ بكشف رموز الحياة ؛ كان لنا أن نقول: إنّ العلل الطبيعيّة لا تفي بإيجاد الروح، فهي معلولة لموجود آخر وراء الطبيعة، وأمّا الاستدلال على تجرّد النفس من جهة العقل محضاً فشيء لا يقبله ولا يصغي إليه العلم اليوم، لعدم اعتمادها على غير الحسّ والتجربة، هذا.

أقول : وأنت خبير بأنّ جميع ما أوردناه على حجّة الماديّين وارد على هذه الحجّة المختلَقة من غير فرق، ونزيدها أنّها مخدوشة:

أوّلاً : بأنّ عدم وفاء الأُصول العلميّة المكتَشَفة إلى اليوم ببيان حقيقة الروح والحياة، لا ينتج عدم وفائها أبداً، ولا عدم انتهاء هذه الخواص إلى العلل المادّيّة في نفس الأمر على جهلٍ منّا، فهل هذا إلاّ مغالطة وُضع فيها العلم بالعدم مكان عدم العلم ؟!

وثانياً : بأنّ استناد بعض حوادث العالم - وهي الحوادث المادّيّة - إلى المادّة وبعضها الآخر - وهي الحوادث الحيويّة - إلى أمر وراء المادّة - وهو الصانع - قول بأصلين في الإيجاد، ولا يرتضيه المادّي ولا الإلهي، وجميع أدلّة التوحيد تُبطله.

وهنا إشكالات أُخر أوردوها على تجرّد النفس، مذكورة في الكتب الفلسفيّة والكلاميّة، غير أنّ جميعها ناشئة عن عدم التأمّل والإمعان فيما مرّ من البرهان، وعدم التثبّت في تعقّل الغرض منه ؛ ولذلك أضربنا عن إيرادها، والكلام

٤٧

عليها، فمَن أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع إلى مظانّها، والله الهادي(١) انتهى كلامه.

وأمّا الكلام في الجهة الثانية - وهي دلالة القرآن والسنّة على أنّ للإنسان روحاً ونفساً غير البدن، فنقتصر فيه على نقل جملةٍ من الآيات الكريمة:

١ -( وَ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ‌ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‌ ) (آل عمران ١٦٩ - ١٧١ ).

٢ -( وَ لاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَ لٰکِنْ لاَ تَشْعُرُونَ‌ ) ( البقرة ١٥٤ ).

٣ - (وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غُدُوّاً وعشيّاً ويوم تقوم الساعة أدْخِلُوا آل فروعون أشدّ العذاب ) ( المؤمن ٤٥ - ٤٦ ).

واعلم أنّ هذه الآيات الثلاث تدلّ على أمرين:

أوّلهما : الحياة البرزخيّة للشهداء وأئمّة الكفر فقط دون غيرهما، أي لا يُستفاد منها عموم الحياة البرزخيّة للجميع، والاستدلال عليه بآيات أُخر لا يخلو عن منع وإشكال.

ثانيهما : أنّ للإنسان شيئاً آخر وراء البدن لا يموت بموت البدن وفنائه، وهو المستحقّ للثواب والعذاب، وهو الذي يُسمّى بالروح والنفس.

٤ -( فَلَوْ لاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ‌ ) ( الواقعة ٨٣ ).

___________________

(١) ص ٣٦٤ إلى ٣٧٠ ج١ تفسير الميزان.

٤٨

٥ -( کَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِي ) ( القيامة ٢٦ ).

٦ -( إِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ کَافِرُونَ‌ * قُلْ يَتَوَفَّاکُمْ مَلَکُ الْمَوْتِ الَّذِي وُکِّلَ بِکُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّکُمْ تُرْجَعُونَ‌ ) ( السجدة ١٠ ).

أقول : ملك الموت لا يتوفّى الجسم الذي يُدفن في الأرض ويضلّ فيها، بل يتوفّى النفس.

٧ -( وَ لَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلاَئِکَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَکُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ.. ) ( الأنعام ٩٣ ).

٨ -( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِکُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذٰلِکَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَکَّرُونَ‌ ) ( الزمر ٤٢)(١) .

___________________

(١) وقد يُقال أنّ قوله تعالى( هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاکُمْ بِاللَّيْلِ وَ يَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُکُمْ فِيهِ ) ( الأنعام ٦٠ )، يدلّ على موت الإنسان في المنام، والحال أنّه حيّ نائم.

وقد يُجاب عنه بأنّ الموت والنوم يشتركان في انقطاع تصرّف النفس في البدن، كما أنّ البعث بمعنى الإيقاظ بعد النوم يشارك البعث بمعنى الإحياء بعد الموت في عود النفس إلى تصرّفها في البدن بعد الانقطاع، فلأجله عُدت الإنامة توفياً، وإن شئت فقل إنّ التوفّي على قسمين: توفّي مؤقّت وهو الإنامة، وتوفّي يستمر وهو الإماتة كما يُستفاد من قوله تعالى:

( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِکُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الْأُخْرَى... ) ( الزمر آية ٤٢).

ويقول بعض الأطبّاء: إنّ حياة النوم ليست بها حسّ ولا وعي ولا حركة.

ويجب أن نعرف أنّ للنوم درجات، والدرجات السطحيّة منه يخالطها بعض اليقظة، وبعض الحسّ والحركة من تقليب وخلافه.

وأمّا الدرجات العميقة فلا، ونفس الشيء يحدث في التخدير وفقد الوعي المؤقّت، وفقد الوعي الدائم كتلف قشرة المخّ الكامل ( ص ٣٤٤ الحياة الإنسانيّة ).

أقول : وبعد فقد بقى الفرق العلمي بين الموت والنوم، وأخواته المشار إليها، وكذا الجنون وبيانه على عهدة العلوم.

وسيأتي في الفصل الثاني من المسألة التاسعة

=

٤٩

( البحث الرابع ) : النفس والروح مفهومان لحقيقةٍ واحدةٍ، فهما موجود واحد قطعاً، ومهما قيل في الفرق بينهما فهو بلحاظ الاعتبارات والمراتب لا غير، فإنّ كلّ إنسان يُدرك من ضميره أنّه واحد لا اثنان !

وتخيّل التعدّد من أوهام العوام، ومَن بحكمهم من مدّعي العلم المبتلين بالجهل المركّب.

ويناسب هنا أنْ نرجع إلى الكتاب والسنّة ؛ لنرى رأيهما في حقّهما وما يتعلّق بهما من خصوصياتهما.

أمّا الروح فقد استُعملت في القرآن في معانٍ مختلفةٍ غير ما به حياة الإنسان وشخصيّته، بل ليس فيه أنّ آدمعليه‌السلام أعطاه الله روحاً، وإنّما فيه أنّه تعالى نفخ في آدم من روحه ( الحجر ٢٩ - ص٧٢ ) كما ورد ( مثله ) في حقّ عيسىعليه‌السلام ، فلعلّ المراد من النفخ هو الإحياء فقط لا أنّ آدم وعيسى صاحبا روح(١) .

وأمّا قوله تعالى:( ويسئلونك عن الرُّوح قُلِ الرُّوح من أمر ربّي ) فالمراد بها مجهول، ويُحتمل أنّها الروح الأمين، أو روح القُدُس(٢) ، أو أُريد به ما أُريد بقوله تعالى:( تَنَزَّلُ الْمَلاَئِکَةُ وَ الرُّوحُ ) ، وبقوله:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلاَئِکَةُ صَفّاً ) ، أو روح الإنسان. لكن في الأحاديث أنّه خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل...(٣) .

وأمّا قوله تعالى:( أُولٰئِکَ کَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) ( المجادلة ٢٢ ) فهي الروح المؤيّدة للمؤمنين - رزقنا الله بفضله -

___________________

=

عشرة حول النسيج الشبكي ما ينفع للمقام، وكذا في الفصل الرابع في جواب الإشكال السابع.

(١) نعم الأحاديث تدلّ على أن للإنسان روحاً كما تأتي.

(٢) بناءً على أنّه غير الروح الأعلين أي جبرئيل وفيه بحث.

(٣) لاحظ ج١٨ وغيره من بحار الأنوار.

٥٠

وليست بروح تنشأ منها الحياة الإنسانية، كما لا يخفى.

وأما النفس والأنفس فقد وردت في القرآن كثيراً، وإليك بعض ما يتعلّق بها:

١ - النفس هي المسؤولة عن أعمال الإنسان كقوله تعالى:( ثُمَّ تُوَفَّى کُلُّ نَفْسٍ مَا کَسَبَتْ ) ( البقرة ٢٨١ )، وقوله:

( وَ وُفِّيَتْ کُلُّ نَفْسٍ مَا کَسَبَتْ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‌ ) (١) .

والآيات الدالّة عليه كثيرة(٢) .

٢ - أنّها تذوق الموت وإليها أُسند القتل، كقوله تعالى:( کُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ) ( آل عمران ١٨٠ )، ( الأنبياء ٢٥ )، ( العنكبوت ٥٧ ).

٣ - أنّها تُلْهَم فجورها وتقواها.

٤ - أنّها المكلّفة:( لاَ يُکَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ) ( البقرة ٢٨٦ )، ولاحظ سورة الأنعام ١٥٢، والأعراف ٤٢، والمؤمنون ٦٢، والطلاق ٧.

٥ - أنّها أمّارة بالسوء، وأنّها لوّامة، ومطمئنة وترجع إلى ربّها راضيةً مرضيّة.

٦ - أنّها متنعّمة في الجنّة، ( الزخرف ٧١ - فُصّلت ٣١ )(٣) .

وأمّا الأحاديث المعتَبَرة الواردة في المقام فقد استوفيناها في موسوعتنا الحديثيّة( معجم الأحاديث المعتبرة ) وذكرنا بعضها في سائر كتبنا ( گوناگون ج١ - عقايد براى همه وغيرها )، وإليك جملة منها:

١ - صحيح أبي ولاّد المروي في الكافي عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال: قلت له: جعلت فداك يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر

___________________

(١) آل عمران أية ٢٥.

(٢) البقرة ٤٨، ١٢٣، ٢٨١، آل عمران ٢٥..

(٣) ونسب إلى النفس - أيضاً - زائداً على ما في المتن: الإيمان والتفريط في جنب الله، والوسوسة، والتسويل، والشّحّ، والاشتهاء، والهوى، والأكنان، والحرج، والإخفاء، والاستيقان في آيات أُخر.

٥١

حول العرش، فقال: ( لا، المؤمن أكرم على الله مِن أن يجعل روحه في حوصلة طير ( و ) لكن في أبدان كأبدانهم )(١) .

٢ - صحيح محمّد بن قيس المروي في الخصال عن الإمام الباقرعليه‌السلام قال: سأل الشامي... عن العين التي تأوي إليها أرواح المشركين ؟ فقال: ( هي عينٌ يُقال لها سلمى )(٢) .

٣ - صحيح الكناسي المروي في الكافي، عن الباقرعليه‌السلام ...: ( إنّ لله جنّة خلقها الله في المغرب... وإليها تخرج أرواح المؤمنين من حفرهم عند كلّ مساء... وإنّ لله ناراً في المشرق خلقها ليسكنها أرواح الكفار... )(٣) .

٤ - صحيح الأحول المروي فيه قال: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن الروح التي في آدم قوله:( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) (٤) ، قال: ( هذه روح مخلوقة، والروح في عيسى مخلوقة)(٥) .

٥ - حسنة حمران، قال: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن قول الله عزّ وجلّ:( وَرُوحٌ مِنْهُ ) (٦) قال: ( هي روح الله مخلوقة خلقها الله في آدم وعيسى )(٧) .

٦ - صحيح أبي بصير المروي في الكافي، قال: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن قول الله عزّ وجلّ:( وَ يَسْأَلُونَکَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) (٨) ،

___________________

(١) ص ٢٦٨ ج٦ بحار الأنوار.

(٢) ص ٢٧٤ نفس المصدر.

(٣) ص ٢٩٠ المصدر.

(٤) الحجر آية ٢٩.

(٥) ص ١٣٣ ج١ الكافي.

(٦) النساء آية ١٧١.

(٧) الكافي ١: ١٣٣.

(٨) الإسراء آية ٨٥.

٥٢

قال: ( خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل(١) ... )

٧ - معتبرة ابن أبي يعفور المرويّة في العلل عن الصادقعليه‌السلام :

( إنّ الأرواح جنود مجنّدة فما تعارف منها في الميثاق ائتلف ههنا، وما تناكر منها في الميثاق اختلف ههنا )(٢) .

أقول : هذا المضمون وارد في عدّة من الأحاديث، لكنّ أكثرها ضعيفة سنداً فتكون مؤيّدة لها.

٨ - موثّقة ابن بكير، عن الباقرعليه‌السلام : (... وخلق الله أرواح شيعتنا قبل أبدانهم بألفَي عام)(٣) .

أقول : خلقة الأرواح قبل الأبدان بألفي عام وردت في جملة من الأحاديث(٤) ، ولا يبعد حصول الاطمئنان بصدور بعضها عن الأئمّةعليهم‌السلام ، والظاهر أنّها تنافي قول بعض الفلاسفة: إنّ الروح جسمانيّة الحدوث روحانيّة البقاء، ولذا أوّله في الأسفار تأويلاً باطلاً.

واعلم أنّ الروح لا تُطلق على الإنسان المركّب منها ومن البدن، بل يطلق على نفسها فقط، بخلاف النفس، فإنّها تطلق على خصوص معناها، كما تُطلق على معنىً يُعبّر عنه بالفارسيّة بكلمة ( خود، خودتان، خودما )، أي: على مجموع الإنسان، كقوله تعالى:( فسلِّموا على أنفُسِكُم ) (٥) ، بل ربّما على ما استحال البدن والنفس فيه ؛ كما في حقّه تعالى:( وَ يُحَذِّرُکُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ) (٦) .

___________________

(١) الكافي ١: ٢٧٣، نسخة الكومبيوتر.

(٢) ص ١٣٩ ص ٥٨ البحار.

(٣) ص ١٣٨ ج ١ الكافي.

(٤) النور آية ٦١.

(٥) لاحظ ج٥٨ وغيره من بحار الأنوار.

(٦) آل عمران آية ٢٨ و ٣٠.

٥٣

بقي شيء وهو: أنّ عوام المسلمين يزعمون أنّ الروح لا تأمر بالشرّ بل تأمر بالخير دائماً، وأمّا النفس، فهي تأمر بالخير والشرّ، ولعلّ وجه هذا الزعم أنّ القرآن أسند الشرّ إلى النفس ولم يسنده إلى الروح، لكنّ القرآن لم يفصّل القول في الروح الإنسانيّة، كما عرفت، وما تقدّم من الأحاديث المعتبرة يكفي في ضعف الزعم المذكور.

وبالجملة : هما مفهومان لمصداقٍ واحدٍ كما عرفت.

وأمّا الكلام في الجهة الثالثة - وهي دلالة العلم على وجود الروح - فهو طويل نقتصر فيه هنا على كلام بعض الفضلاء فقط ؛ حتى لا يطول بنا المقام:

والمادّة التي يتكوّن منها الدماغ، هي عين المادّة التي تنشأ منها بقيّة أعضاء الجسد، ونوع الحياة الذي يتسبّب في نشوء الجميع واحد. فإنّ أصل الجنين خليّة واحدة ثمّ تتكثّر، وعليه، يلزم أن تكون الوظائف التي تقوم بها مختلف أعضاء الجسم من جنسٍ واحدٍ دون اختلاف تخصّصاتها، وهي وظائف غير إراديّة ولا فكريّة، لأنّها اللاّرادة، ويستحيل بحسب سنن الكون وموجوداته أن يتولّد - بصورة آليّة - المريد من غير المريد والمفكِّر من غير المفكِّر.

وماقيل من أنّ: الإرادة، والفكر، والشعور، وغيرها من الأنشطة الإنسانيّة الاختياريّة، إنّما تنشأ من الدماغ نتيجة تفاعلات كيميائية وفيزيائية، غير صحيح ؛ فإنّ كلّ تفاعلٍ لابُدّ له من عامل، فهو إن كان خارجيّاً يلزم استناد إرادته وأفكاره ومشاعره المختلفة غير اختياريّة له، مع أن المادّيّين لم يستطيعوا - ولن يستطيعوا - ولا مرّة واحدة أن يضعوا العناصر والمركّبات في أنابيب الاختبار، ثمّ يدفعونها بالتأشيرات المعنويّة بدلاً من العوامل المادّيّة المعهودة.

٥٤

وإن كان داخليّاً فما هو ؟

هل هو مجرد احتكاك الخلايا والأعصاب، أم هو مجرد وصول الدماء إلى عروق الدماغ، أم هو شيءٌ آخر ؟

فليكن أيّ شيء فلماذا تتحدّد وتختلف نتائج ذلك التفاعل الكيميائي المزعوم، باختلاف الأشخاص من جهة، وباختلاف الأزمان والساعات والأحوال في الشخص الواحد من جهةٍ أُخرى ؟

إنّ محتويات الأدمغة واحدة في الأشخاص والأزمان، وأنشطتهما المادّيّة واحدة، فلماذا تتعدّد إذن نتائج التفاعلات التي تحدث فيها ؟

فتتعدّد الأفكار، وتتعدّد المشاعر والأحاسيس، وتعدّد الاكتشافات، وتتعدّد المواهب عند الأشخاص، بل وتعدّد عند الشخص الواحد في ساعتين...، أقول : ولا تفسير له سوى الإقرار بوجود الروح...(١) . انتهى ما أردنا نقله.

واعلم أنّ الاعتقاد بوجود الروح، لا ينقص من أهميّة المخّ وعظم عمله، فلا تغفل، ويقول طبيب مسلم: إنّ كثيراً من العلماء، ذكروا أنّ المظاهر النفسيّة: كالوعي، والإدراك، والانفعال، والذاكرة، والقدرة على التعلّم، والإحساس النهائي للّذّة والألم، وكلّ هذه المظاهر النفسيّة لم يثبت علميّاً - إلى الآن - أنّ مراكزها النهائيّة موجودة في خلايا المخّ.

والحقيقة أنّنا نتعلّم الطبّ حسب المدرسة الغربيّة، التي ينفصل عندها العلم عن الدين، فهي ترى: أنّ المظاهر النفسيّة عبارة عن تفاعلات كيمياوية معقّدة تحدث داخل خلايا المخّ، وهذا أمر لم يثبت علميّاً للآن(٢) .

أقول : ولتأثير الروح والمخّ وأهمّيّة كلتيهما لنضرب مثلاً، ونشبّه

___________________

(١) ص ١٢٧ إلى ص١٣١ رؤية إسلاميّة لزراعة بعض الأعضاء البشريّة، نقلنا عنها بعض القليل مع الاختصار.

(٢) ص٨٦ نفس المصدر.

٥٥

الروح بالمصوِّر، وخلايا المخّ بجهاز التصوير، والصورة كما تحتاج إلى المصوِّر تحتاج إلى آلة التصوير ولا يغني أحدهما عن الآخر في إنتاج الصورة.

( البحث الخامس ) في بدء حياة الإنسان.

المتدبّر في البحثين الأخيرين، يقتنع بسهولة أنّ الحياة الإنسانيّة إنّما هي بتعلّق الروح بالبدن، كما أنّ موت الإنسان بانقطاع هذا التعلّق نهائياً، ولا ربط لحياة الخلايا بحياة الإنسان، ولا موته بموتها، وهذا الذي اعتقده علماء الإسلام، هو الصحيح المطابق للبراهين العقليّة أيضاً.

وإنْ شئت فقل: إنّ قوام إنسانيّة الإنسان بروحه لا ببدنه، وإنّ فُرض موجوداً تامّاً في الخارج وكان جميع خلاياه حيّة، فالجنين مهما تكامل وتنامى فهو - قبل تعلّق الروح - جنين الإنسان، وما يؤل إلى الإنسان وليس بإنسان نفسه.

متى تتعلّق الروح بالبدن ؟

هذا هو السؤال المهمّ في المقام، ولا يصلح علم الطب وعلم الأجنّة، وسائر العلوم للإجابة عليه، لحدّ الآن، ولا أظنّ اهتداء العقل إليه أيضاً، فلا بُدّ من الرجوع إلى الدين فيه، لكنّ القرآن الكريم - وحسب فهمي - ليس فيه ما يدلّ على توقيت تعلّق الروح بالبدن، سوى قوله تعالى:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَکَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ‌ ) (١) ، ولا بُعد في إرادة تعلّق الروح بالجنين من هذه الآية، إذ إنشاء الجنين مخلوقاً آخر لا يناسب إلاّ صيرورته ذات روح، ويؤكِّده قوله:( فَتَبَارَکَ اللَّهُ... ) ، بل يدلّ على إرادة التعلّق المذكور بعض الروايات المعتبرة الآتية، لكن لا يُستفاد أنّ تعلق الروح

___________________

(١) المؤمنون آية ١٤.

٥٦

بالجنين في أيّ شهرٍ من شهور الحمل، وإنّما يُستفاد من الآية المذكورة أنّه بعد كسوة العظام لحماً. وإن قدّر الطب بشكلٍ دقيقٍ محسوسٍ على تعيين زمن كسوتها لحماً لم يقدر على زمان تعلّق الروح بالجنين، إذ لا دليل على أنّه بعدها بلا فصل، بل ظاهر قوله:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ ) ، الفصل بينهما، فلا يبقى أمامنا للحصول على جواب السؤال المذكور سوى الأحاديث، فنقول:

١ - الصحيح المرويّ في التهذيب عن أمير المؤمنينعليه‌السلام :

(... فإذا أُنشئ فيه خلقٌ آخر، وهو الروح، فهو حينئذٍ نفس، ألف دينار كاملة إن كان ذكراً، وإن كان أُنثى فخمسمئة دينار )(١) .

٢ - صحيح محمّد بن مسلم المرويّ في الكافي، قال:

سألت أبا جعفرعليه‌السلام ... قلت: فما صفة النطفة التي تُعرف بها ؟

فقال: ( النطفة تكون بيضاء مثل النخامة الغليظة، فتمكث في الرحم إذا صارت أربعين يوماً، ثمّ تصير إلى علقة.

قلت: فما صفة خلقة العلقة التي تُعرف بها ؟

فقال: هي علقة كعلقة الدم المحجمة الجامدة تمكث في الرحم بعد تحويلها عن النطفة أربعين يوماً، ثمّ تصير مضغة.

قلت: فما صفة المضغة وخلقتها التي تُعرف بها ؟

قال: هي مضغة لحمٍ حمراءَ فيها عروقٌ خضرٌ مشتبكة، ثمّ تصير إلى عظم.

قلت: فما صفة خلقته إذا كان عظماً ؟

فقال: إذا كان عظماً شقّ له السمع والبصر، ورُتّبت جوارحه، فإذا كان كذلك فإنّ فيه الديّة كاملة )(٢) ، ورواه الشيخ في تهذيبه بتفاوت(٣) .

أقول : لم يذكر في هذا الصحيح توقيت المضغة بأربعين يوماً، ولا

___________________

(١) ص ٢٨٥ ج ١٠ نسخة الكومبيوتر.

(٢) ص ٣٤٥ ج ٧ الكافي.

(٣) ص ٤٧٥ ج ٢٦ جامع الأحاديث.

٥٧

يضر، فإنّه مذكور في صحيح زرارة وغيره، الآتية في مسألة الإجهاض(١) . ولم يذكر تعلّق الروح بالجنين أيضاً.

أقول : لا يُفهم من هذه الأحاديث مع الآية أنّ بدء الحياة الإنسانيّة، في أوّل الشهر الخامس من الحمل، أي في اليوم ١٢١ من الحمل، بل يُحتمل نفخ الروح بأطول من ذلك، كما لا يخفى، بل في رواية أبي شبل:

( هيهاتَ يا أبا شبل، إذا مضت الخمسة الأشهر فقد صارت فيه الحياة، وقد استوجب الديّة)(٢) ، ولعلّه اشتباه ومحرّف الأربعة الأشهر، لكنّه محتمل، إذ لا يخالفه نصٌّ معتبر، سوى معتبرة ابن الجهم الآتية(٣) ، ولا بُدّ لك أن تُلاحظ ما يأتي من الآية والأحاديث في المسألة الآتية، مع هذه الأحاديث جمعاً.

ومقتضى النظر الدقيق، أنّ جميع الأحاديث لا تدلّ على أنّ نفخ الروح يكون في أوّل الشهر الخامس من الحمل، حتّى معتبرة ابن الجهم في المطلب الأوّل من المسألة الآتية، وإنْ كانت مشعرة بها، نعم مدلولها نفخ الروح في الجنين بعد أربعة أشهر، فلاحظ وتأمّل جيّداً، والله العالم.

ولعلّه لأجل ما ذكرنا ؛ قال صاحب الجواهرقدس‌سره في باب الدية ( ص٣٦٥ ج٤٣ ): بل عن ظاهر الأصحاب عدم اعتبار مضيّ الأربعة أشهر في الحكم بحياته على وجه يترتّب عليه الديّة، وإن قال الصادقعليه‌السلام في خبر زرارة:

( السّقط إذا تمّ له أربعة أشهر غُسِّل )(٤) .

وأفتى الأصحاب بمضمونه، إلاّ أنّ ذلك لا يقتضي تحقّق العنوان في المقام.

أقول : أي حياة الجنين لوجوب الدية الكاملة.

___________________

(١) لاحظ ص ٦٤ هذا الكتاب.

(٢) جامع الأحاديث ٢٦ / ٤٨١.

(٣) الكافي ٧: ٣٤٦، نسخة الكومبيوتر.

(٤) الكافي ٣: ٢٠٦.

٥٨

المسألة السادسة

حول إجهاض الجنين(١)

الإجهاض: إلقاء حَمْلٍ ناقص الخَلْق بغير تمام، سواء من المرأة أو من غيرها، وكثيراً ما يُعبّر عن الإجهاض بالإسقاط، أو الطرح أو الإلقاء، وفي المقام مطالب ننقلها عن الأطبّاء:

١ - الثابت في علم الأجنّة أنّ الحياة موجودة في الحيوان المنوي قبل التلقيح، وموجودة في البويضة قبل الالتقاء، وقد يلتقي الحيوان المنوي والبويضة ويُسفر عن ذلك حمل عنقود وليس إنساناً، والحمل العنقودي ليس جنيناً، وإنّما مجرد خلايا لا تكون في مجموعها أي شكل من الأشكال، وإنّما شكلها شكل عنقود العنب، وبعد فترةٍ من الزمن يتقلّص الرحم ويطرد هذا المحتوى، ولكن ليس فيه ما يدلّ على الإنسان، أو على صورة الإنسان، أو على الحياة، وهو - أيضاً - نتيجة التقاء الحيوان المنوي بالبويضة(٢) .

٢ - فترة الإنشاء - يعني به قوله تعالى:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ ) (٣) -

___________________

(١) الإجهاض - كما في معاجم اللُّغة واستعمال الفقهاء - هو إلقاء الحمْل ناقص الخَلْق، أو ناقص المدّة.

وقد أطلق مجمع اللُّغة العربية كلمة الإجهاض: على خروج الجنين قبل الشهر الرابع، وكلمة الإسقاط على إلقائه ما بين الشهر الرابع والسابع. هكذا قيل.

(٢) قال بعض الأطباء: إنّ البويضة المخصبة من ناحية خلويّة بالتأكيد هي ليست الجنين، إنّ جزءً يسيراً منها يتكوّن منه الجنين، وهذا يحدث في اليوم العاشر بعد العلوق، وقد لا يحدث فتكون بويضةً فاسدةً لا ينتج عنها جنين، وقد يحدث منها حمل عنقودي، وقد يحدث توأم... ص٦٧٧، الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبّيّة.

(٣) المؤمنون آية ١٤.

٥٩

حسبما رأيناه في الفيلم: أنّه في الأُسبوع السادس أو السابع بعد الفترة من الأُسبوع الأوّل إلى الأُسبوع السادس كانت مجموعة من الأنسجة لم تظهر بالفيلم، وإنّما ظهر لنا من بعد الأُسبوع السادس، وبعد الأربعين يوماً بدأ يتخلّق، بدأ يظهر الرأس وتظهر الأطراف، بدء خَلْقٍ آخر... ( و) من بعد الأُسبوع السادس ما هو إلاّ نموٌّ وليس تكويناً جديداً(١) .

٣ - إنّ الجنين يتحرّك ويتحرّك من قبل نهاية الشهر الرابع بزمن ٍطويل، ولكنّ السيّدة لا تحس به ؛ لأنّ الكيس المائي الذي يسبح فيه يكون في البداية كبيراً فسيحاً بالنسبة لجسمه الصغير، ويمرّ زمن حتّى يكبر الجنين، فتستطيع لكماته وركلاته أنْ تطال جدار الرحم ؛ فتشعر بها السيّدة بعد أربعة أشهر من الحمل، بل إنّ لدينا الآن من الأجهزة ما نسمع به دقّات قلب الجنين وهو في الأُسبوع الخامس، ولدينا من الأجهزة ما نرصد به حركة الجنين حتّى مِن قبل ذلك...(٢) .

وقيل: إنّ الحركة متّصلة قبل ذلك ؛ لأنّ الخلايا منذ المراحل الأُولى في حركة، حتّى إنْ لم ترها الأجهزة ؛ لأنّ الخلايا تتحرّك، وترتّب نفسها إلى آخره(٣) .

٤ - مبرِّرات الإجهاض في الغرب قد اتّسعت حتّى بلغت خاتمة المطاف بالإجهاض حسب الطلب !!!

ومن المبرِّرات: الدواعي الطبّيّة، لكن وسع في بعض البلاد مدلولها فبدأت بالخطر على حياة الأُمّ إن استمرّ الحمل، ثمّ الخطر على صحّتها، ثمّ على صحّتها الجسميّة، أو النفسيّة، ثمّ عليها في الحاضر وفي المستقبل المنظور، ثمّ على الصحّة الجسميّة أو

___________________

(١) ص٢٣٤ وص٢٣٥، الإنجاب في ضوء الإسلام.

(٢) ص٢٥٤ وص٢٥٥، نفس المصدر.

(٣) ص٢٨٢، نفس المصدر.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679