موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)5%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 679

الجزء ١ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 212509 / تحميل: 11107
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

إنّما يؤثّر في الأعمال الظاهريّة والأفعال والحركات البدنيّة المادّيّة، وأمّا الاعتقاد القلبيّ فله علل وأسباب اُخرى قلبيّة من سنخ الاعتقاد والإدراك، ومن المحال أن ينتج الجهل علماً، أو تولّد المقدّمات غير العلميّة تصديقاً علميّاً، فقوله: لا إكراه في الدين، إن كان قضيّة إخباريّة حاكية عن حال التكوين أنتج حكماً دينيّاً بنفي الإكراه على الدين والاعتقاد، وإن كان حكماً انشائيّاً تشريعيّاً كما يشهد به ما عقّبه تعالى من قوله: قد تبيّن الرشد من الغيّ، كان نهياً عن الحمل على الاعتقاد والإيمان كرهاً، وهو نهي متّك على حقيقة تكوينيّة، وهي الّتي مرّ بيانها أنّ الإكراه إنّما يعمل ويؤثّر في مرحلة الأفعال البدنيّة دون الاعتقادات القلبيّة.

وقد بيّن تعالى هذا الحكم بقوله: قد تبيّن الرشد من الغيّ، وهو في مقام التعليل فإنّ الإكراه والإجبار إنّما يركن إليه الآمر الحكيم والمربّي العاقل في الاُمور المهمّة الّتي لا سبيل إلى بيان وجه الحقّ فيها لبساطة فهم المأمور وردائة ذهن المحكوم، أو لأسباب وجهات اُخرى، فيتسبّب الحاكم في حكمه بالإكراه أو الأمر بالتقليد ونحوه، وأمّا الاُمور المهمّة الّتي تبيّن وجه الخير والشرّ فيها، وقرّر وجه الجزاء الّذي يلحق فعلها وتركها فلا حاجة فيها إلى الإكراه، بل للإنسان أن يختار لنفسه ما شاء من طرفي الفعل وعاقبتي الثواب والعقاب، والدين لمّا انكشفت حقائقه واتّضح طريقه بالبيانات الإلهيّة الموضحة بالسنّة النبويّة فقد تبيّن أنّ الدين رشد والرشد في اتّباعه، والغيّ في تركه والرغبة عنه، وعلى هذا لا موجب لأن يكره أحد أحداً على الدين.

وهذه إحدى الآيات الدالّة على أنّ الإسلام لم يبتن على السيف والدم، ولم يفت بالإكراه والعنوة على خلاف ما زعمه عدّة من الباحثين من المنتحلين وغيرهم أنّ الإسلام دين السيف واستدلّوا عليه: بالجهاد الّذي هو أحد أركان هذا الدين.

وقد تقدّم الجواب عنه في ضمن البحث عن آيات القتال وذكرنا هناك أنّ القتال الّذي ندب إليه الإسلام ليس لغاية إحراز التقدّم وبسط الدين بالقوّة والإكراه، بل لإحياء الحقّ والدفاع عن أنفس متاع للفطرة وهو التوحيد، وأمّا بعد انبساط

٣٦١

التوحيد بين الناس وخضوعهم لدين النبوّة ولو بالتهوّد والتنصّر فلا نزاع لمسلم مع موحّد ولا جدال، فالإشكال ناش عن عدم التدبّر.

ويظهر ممّا تقدّم أنّ الآية أعني قوله: لاإكراه في الدين غير منسوخة بآية السيف كما ذكره بعضهم.

ومن الشواهد على أنّ الآية غير منسوخة التعليل الّذي فيها أعني قوله: قد تبيّن الرشد من الغيّ، فإنّ الناسخ ما لم ينسخ علّة الحكم لم ينسخ نفس الحكم، فإنّ الحكم باق ببقاء سببه، ومعلوم أنّ تبيّن الرشد من الغيّ في أمر الإسلام أمر غير قابل للارتفاع بمثل آية السيف، فإنّ قوله: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم مثلاً، أو قوله: وقاتلوا في سبيل الله الآية لا يؤثّران في ظهور حقّيّة الدين شيئاً حتّى ينسخا حكماً معلولاً لهذا الظهور.

وبعبارة اُخرى الآية تعلّل قوله: لا إكراه في الدين بظهور الحقّ، هو معنى لا يختلف حاله قبل نزول حكم القتال وبعد نزوله، فهو ثابت على كلّ حال، فهو غير منسوخ.

قوله تعالى: ( فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ ) الخ، الطاغوت هو الطغيان والتجاوز عن الحدّ ولا يخلو عن مبالغة في المعنى كالملكوت والجبروت، ويستعمل فيما يحصل به الطغيان كأقسام المعبودات من دون الله كالأصنام والشياطين والجنّ وأئمّة الضلال من الإنسان وكلّ متبوع لا يرضى الله سبحانه باتّباعه، ويستوى فيه المذكّر والمؤنّث والمفرد والتثنية والجمع.

وإنّما قدّم الكفر على الإيمان في قوله فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله، ليوافق الترتيب الّذي يناسبه الفعل الواقع في الجزاء أعني الاستمساك بالعروة الوثقى، لأنّ الاستمساك بشئ إنّما يكون بترك كلّ شئ والأخذ بالعروة، فهناك ترك ثمّ أخذ، فقدّم الكفر وهو ترك على الإيمان وهو أخذ ليوافق ذلك، والاستمساك هو الأخذ والإمساك بشدّة، والعروة ما يؤخذ به من الشئ كعروة الدلو وعروة الإناء، والعروة

٣٦٢

هي كلّ ماله أصل من النبات وما لا يسقط ورقه، وأصل الباب التعلّق يقال: عراه واعتريه أي تعلّق به.

والكلام أعني قوله: فقد استمسك بالعروة الوثقى، موضوع على الاستعارة للدلالة على أنّ الإيمان بالنسبة إلى السعادة بمنزلة عروة الإناء بالنسبة إلى الإناء وما فيه، فكما لا يكون الأخذ أخذاً مطمئنّاً حتّى يقبض على العروة كذلك السعادة الحقيقيّة لا يستقرّ أمرها ولا يرجى نيلها إلّا أن يؤمن الإنسان بالله ويكفر بالطاغوت.

قوله تعالى: ( لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ، الانفصام: الانفصام والانكسار، والجملة في موضع الحال من العروة تؤكّد معنى العروة الوثقى، ثمّ عقّبه بقوله: والله سميع عليم، لكون الإيمان والكفر متعلّقاً بالقلب واللسان.

قوله تعالى: ( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم ) إلى آخر الآية، قد مرّ شطر من الكلام في معنى إخراجه من النور الى الظلمات، وقد بيّنّا هناك أنّ هذا الإخراج وما يشاكله من المعاني اُمور حقيقيّة غير مجازيّة خلافاً لما توهّمه كثير من المفسّرين وسائر الباحثين أنّها معان مجازيّة يراد بها الأعمال الظاهريّة من الحركات والسكنات البدنيّة، وما يترتّب عليها من الغايات الحسنة والسيّئة، فالنور مثلاً هو الاعتقاد الحقّ بما يرتفع به ظلمة الجهل وحيره الشكّ واضطراب القلب، والنور هو صالح العمل من حيث أن رشده بيّن، وأثره في السعادة جليّ، كما أنّ النور الحقيقيّ على هذه الصفات. والظلمة هو الجهل في الاعتقاد والشبهة والريبة وطالح العمل، كلّ ذلك بالاستعارة. والإخراج من الظلمة إلى النور الّذي ينسب إلى الله تعالى كالإخراج من النور إلى الظلمات الّذي ينسب إلى الطاغوت نفس هذه الاعمال والعقائد، فليس وراء هذه الاعمال والعقائد، لا فعل من الله تعالى وغيره كالإخراج مثلاً ولا أثر لفعل الله تعالى وغيره كالنور والظلمة وغيرهما، هذا ما ذكره قوم من المفسّرين والباحثين.

وذكر آخرون: أنّ الله يفعل فعلاً كالإخراج من الظلمات إلى النور وإعطاء الحياة والسعة والرحمة وما يشاكلها ويترتّب على فعله تعالى آثار كالنور والظلمة والروح والرحمة ونزول الملائكة، لا ينالها أفهامنا ولا يسعها مشاعرنا، غير أنّا نؤمن

٣٦٣

بحسب ما أخبر به الله - وهو يقول الحقّ - بأنّ هذه الاُمور موجودة وأنّها أفعال له تعالى وإن لم نحط بها خبراً، ولازم هذا القول أيضاً كالقول السابق أن يكون هذه الألفاظ أعني أمثال النور والظلمة والإخراج ونحوها مستعملة على المجاز بالاستعارة، وإنّما الفرق بين القولين أنّ مصاديق النور والظلمة ونحوهما على القول الأوّل نفس أعمالنا وعقائدنا، وعلى القول الثاني اُمور خارجة عن أعمالنا وعقائدنا لا سبيل لنا إلى فهمها، ولا طريق إلى نيلها والوقوف عليها.

والقولان جميعاً خارجان عن صراط الاستقامة كالمفرط والمفرّط، والحقّ في ذلك أنّ هذه الاُمور الّتي أخبر الله سبحانه بإيجادها وفعلها عند الطاعة والمعصية إنّما هي اُمور حقيقيّة واقعيّة من غير تجوّز غير أنّها لا تفارق أعمالنا وعقائدنا بل هي لوازمها الّتي في باطنها، وقد مرّ الكلام في ذلك، وهذا لا ينافي كون قوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات، كنايتين عن هداية الله سبحانه وإضلال الطاغوت، لما تقدّم في بحث الكلام أنّ النزاع في مقامين: أحدهما كون النور والظلمة وما شابههما ذا حقيقة في هذه النشأة أو مجرّد تشبيه لا حقيقة له. وثانيهما: أنّه على تقدير تسليم أنّ لها حقائق وواقعيّات هل استعمال اللفظ كالنور مثلاً في الحقيقة الّتي هي حقيقة الهداية حقيقة أو مجاز؟ وعلى أيّ حال فالجملتان أعني: قوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات كنايتان عن الهداية والاضلال، وإلّا لزم أن يكون لكلّ من المؤمن والكافر نور وظلمة معاً، فإنّ لازم إخراج المؤمن من الظلمة إلى النور أن يكون قبل الإيمان في ظلمة وبالعكس في الكافر، فعامّة المؤمنين والكفّار - وهم الّذين عاشوا مؤمنين فقط أو عاشوا كفّاراً فقط - إذا بلغوا مقام التكليف فإن آمنوا خرجوا من الظلمات إلى النور، وإن كفروا خرجوا من النور إلى الظلمات، فهم قبل ذلك في نور وظلمة معاً وهذا كما ترى.

لكن يمكن أن يقال: إنّ الإنسان بحسب خلقته على نورالفطرة، هو نور إجماليّ يقبل التفصيل، وأمّا بالنسبة إلى المعارف الحقّة والأعمال الصالحة تفصيلاً

٣٦٤

فهو في ظلمة بعد لعدم تبيّن أمره، والنور والظلمة بهذا المعنى لا يتنافيان ولا يمتنع اجتماعهما، والمؤمن بإيمانه يخرج من هذه الظلمة إلى نور المعارف والطاعات تفصيلاً، والكافر بكفره يخرج من نور الفطرة إلى ظلمات الكفر والمعاصي التفصيليّة، والإتيان بالنور مفرداً وبالظلمات جمعاً في قوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات، للإشارة إلى أنّ الحقّ واحد لا اختلاف فيه كما أنّ الباطل متشتّت مختلف لا وحدة فيه، قال تعالى:( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ ) الأنعام - ١٥٣.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور أخرج أبوداود والنسائيّ وابن المنذر وابن أبي حاتم والنّحاس في ناسخه وابن منده في غرائب شعبه وابن حبّان وابن مردويه والبيهقيّ في سننه والضياء في المختارة عن ابن عبّاس قال: كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة لا يكاد يعيش لها ولد، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوّده، فلمّا أجليت بنوا النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبنائنا فأنزل الله لا إكراه في الدين.

اقول: وروي أيضاً هذا المعنى بطرق اُخرى عن سعيد بن جبير وعن الشعبيّ.

وفيه: أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال: كانت النضير أرضعت رجالاً من الأوس، فلمّا أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإجلائهم، قال أبنائهم من الأوس: لنذهبنّ معهم ولنديننّ دينهم، فمنعهم أهلوهم وأكرهوهم على الإسلام، ففيهم نزلت هذه الآية لا إكراه في الدين.

اقول: وهذا المعنى أيضاً مرويّ بغير هذا الطريق، وهو لا ينافي ما تقدّم من نذر النساء اللّاتي ما كان يعيش أولادها أن يهوّدنهم.

وفيه أيضاً: أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عبّاس: في قوله: لا إكراه في الدين قال: نزلت في رجل من الأنصارمن بني سالم بن عوف يقال له: الحصين كان له

٣٦٥

ابنان نصرانيّان، وكان هو رجلاً مسلماً فقال للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألا أستكرههما فإنّهما قد أبيا إلّا النصرانيّة؟ فأنزل الله فيه ذلك.

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام : قال: النور آل محمّد و الظلمات أعداؤهم.

اقول: وهو من قبيل الجري أو من باب الباطن أو التأويل.

٣٦٦

( سورة البقرة آية ٢٥٨ - ٢٦٠)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ٢٥٨ ) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٢٥٩ ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٢٦٠ )

( بيان)

الآيات مشتملة على معنى التوحيد ولذلك كانت غير خالية عن الارتباط بما قبلها من الآيات فمن المحتمل أن تكون نازلة معها.

قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ) ، المحاجّة إلقاء الحجّة قبال الحجّة لإثبات المدّعي أو لإبطال ما يقابله، وأصل الحجّة هو القصد، غلب استعماله فيما يقصد به إثبات دعوى من الدعاوي، وقوله: في ربّه متعلّق بحاجّ، والضمير لإبراهيم كما يشعر به قوله تعالى فيما بعد: قال إبراهيم ربّي الّذي يحيى ويميت، وهذا الّذي حاج إبراهيمعليه‌السلام في ربّه هو الملك الّذي كان يعاصره وهو نمرود من ملوك

٣٦٧

بابل على ما يذكره التاريخ والرواية.

وبالتأمّل في سياق الآية، والّذي جرى عليه الأمر عند الناس ولا يزال يجري عليه يعلم معنى هذه المحاجّة الّتي ذكرها الله تعالى في هذه الآية، والموضوع الّذي وقعت فيه محاجّتهما.

بيان ذلك: أنّ الإنسان لا يزال خاضعاً بحسب الفطرة للقوى المستعلية عليه، المؤثّرة فيه، وهذا ممّا لا يرتاب فيه الباحث عن أطوار الاُمم الخالية المتأمّل في حال الموجودين من الطوائف المختلفة، وقد بيّنا ذلك فيما مرّ من المباحث. وهو بفطرته يثبت للعالم صانعاً مؤثّراً فيه بحسب التكوين والتدبير، وقد مرّ أيضاً بيانه، وهذا أمر لا يختلف في القضاء عليه حال الإنسان سواء قال بالتوحيد كما يبتني عليه دين الأنبياء وتعتمد عليه دعوتهم أو ذهب إلى تعدّد الآلهة كما عليه الوثنيّون أو نفي الصانع كما عليه الدهريّون والمادّيّون، فإنّ الفطرة لا تقبل البطلان ما دام الإنسان إنساناً وإن قبلت الغفلة والذهول.

لكن الإنسان الأولىّ الساذج لمّا كان يقيس الأشياء إلى نفسه، وكان يرى من نفسه أنّ أفعاله المختلفة تستند إلى قواه وأعضائه المختلفة، وكذا الأفعال المختلفة الإجتماعيّة تستند إلى أشخاص مختلفة في الاجتماع، وكذا الحوادث المختلفة إلى علل قريبة مختلفة وإن كانت جميع الأزمّة تجتمع عند الصانع الّذي يستند إليه مجموع عالم الوجود لا جرم أثبت لأنواع الحوادث المختلفة أرباباً مختلفة دون الله سبحانه فتارة كان يثبت ذلك باسم أرباب الأنواع كربّ الأرض وربّ البحار وربّ النار وربّ الهواء والأرياح وغير ذلك، وتارة كان يثبته باسم الكواكب وخاصّة السيّارات الّتي كان يثبت لها على اختلافها تأثيرات مختلفة في عالم العناصر والمواليد كما نقل عن الصابئين ثمّ كان يعمل صوراً وتماثيل لتلك الأرباب فيعبدها لتكون وسيلة الشفاعة عند صاحب الصنم ويكون صاحب الصنم شفيعاً له عند الله العظيم سبحانه، ينال بذلك سعادة الحياة والممات.

ولذلك كانت الأصنام مختلفة بحسب اختلاف الاُمم والأجيال لأنّ الآراء كانت

٣٦٨

مختلفة في تشخيص الأنواع المختلفة وتخيّل صور أرباب الانواع المحكيّة بأصنامها، وربّما لحقت بذلك أميال وتهوّسات اُخرى. وربّما انجرّ الأمر تدريجاً إلى التشبّث بالأصنام ونسيان أربابها حتّى ربّ الأرباب لأنّ الحسّ والخيال كان يزيّن ما ناله لهم، وكان يذكرها وينسى ما وراها، فكان يوجب ذلك غلبة جانبها على جانب الله سبحانه، كلّ ذلك إنّما كان منهم لأنّهم كانوا يرون لهذه الأرباب تأثيراً في شؤن حياتهم بحيث تغلب إرادتها إرادتهم، وتستعلي تدبيرها على تدبيرهم.

وربّما كان يستفيد بعض اُولي القوّة والسطوة والسلطة من جبابرة الملوك من اعتقادهم ذلك ونفوذ أمره في شؤون حياتهم المختلفة، فيطمع في المقام ويدّعي الاُلوهيّة كما ينقل عن فرعون ونمرود وغيرهما، فيسلك نفسه في سلك الأرباب وإن كان هو نفسه يعبد الأصنام كعبادتهم، وهذا وإن كان في بادء الأمر على هذه الوتيرة لكن ظهور تأثيره ونفوذ أمره عند الحسّ كان يوجب تقدّمه عند عبّاده على سائر الأرباب وغلبة جانبه على جانبها، وقد تقدّمت الإشارة إليه آنفاً كما يحكيه الله تعالى من قول فرعون لقومه:( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ ) النازعات - ٢٤، فقد كان يدّعي أنّه أعلى الأرباب مع كونه ممّن يتّخذ الأرباب كما قال تعالى:( وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) الأعراف - ١٢٧، وكذلك كان يدّعي نمرود على ما يستفاد من قوله: أنا اُحيي واُميت، في هذه الآية على ما سنبيّن.

وينكشف بهذا البيان معنى هذه المحاجّة الواقعة بين إبراهيمعليه‌السلام ونمرود، فإنّ نمرود كان يرى لله سبحانه اُلوهيّة، ولو لا ذلك لم يسلم لإبراهيمعليه‌السلام قوله: إنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، ولم يبهت عند ذلك بل يمكنه أن يقول: أنا آتي بها من المشرق دون من زعمت أو أنّ بعض الآلهة الاُخرى يأتي بها من المشرق، وكان يرى أنّ هناك آلهة اُخرى دون الله سبحانه، وكذلك قومه كانوا يرون ذلك كما يدلّ عليه عامّة قصص إبراهيمعليه‌السلام كقصّة الكوكب والقمر والشمس وما كلّم به أباه في أمر الأصنام وما خاطب به قومه وجعله الأصنام جذاذاً إلّا كبيراً لهم وغير ذلك، فقد كان يرى لله تعالى اُلوهيّة، وأنّ معه آلهة اُخرى لكنّه

٣٦٩

كان يرى لنفسه اُلوهيّة، وأنّه أعلى الآلهة، ولذلك استدلّ على ربوبيّته عند ما حاجّ إبراهيمعليه‌السلام في ربّه، ولم يذكر من أمر الآلهة الاُخرى شيئاً.

ومن هنا يستنتج أنّ المحاجّة الّتي وقعت بينه وبين إبراهيمعليه‌السلام هي: أنّ إبراهيمعليه‌السلام كان يدّعي أنّ ربّه الله لا غير ونمرود كان يدّعي أنّه ربّ إبراهيم وغيره ولذلك لمّا احتجّ إبراهيمعليه‌السلام على دعواه بقوله: ربّي الّذي يحيي ويميت، قال: أنا اُحيي واُميت، فادّعى أنّه متّصف بما وصف به إبراهيم ربّه فهو ربّه الّذي يجب عليه أن يخضع له ويشتغل بعبادته دون الله سبحانه ودون الأصنام، ولم يقل: وأنا اُحيي واُميت لأنّ لازم العطف أن يشارك الله في ربوبيّته ولم يكن مطلوبه ذلك بل كان مطلوبه التعيّن بالتفوّق كما عرفت، ولم يقل أيضاً: والآلهة تحيي وتميت.

ولم يعارض إبراهيمعليه‌السلام بالحقّ، بل بالتمويه والمغالطة وتلبيس الأمر على من حضر، فإنّ إبراهيمعليه‌السلام إنّما أراد بقوله: ربّي الّذي يحيي ويميت، الحياة والموت المشهودين في هذه الموجودات الحيّة الشاعرة المريدة فإنّ هذه الحياة المجهولة الكنه لا يستطيع أن يوجدها إلّا من هو واجد لها فلا يمكن أن يعلّل بالطبيعة الجامدة الفاقدة لها، ولا بشئ من هذه الموجودات الحيّة، فإنّ حياتها هي وجودها، وموتها عدمها، والشئ لا يقوى لا على إيجاد نفسه ولا على إعدام نفسه، ولو كان نمرود أخذ هذا الكلام بالمعنى الّذي له لم يمكنه معارضته بشئ لكنّه غالط فأخذ الحياة والموت بمعناهما المجازيّ أو الأعمّ من معناهما الحقيقيّ والمجازيّ فإنّ الإحياء كما يقال على جعل الحياة في شئ كالجنين إذا نفخت فيه الحياة كذلك يقال: على تلخيص إنسان من ورطة الهلاك، وكذا الإماتة تطلق على التوفّي وهو فعل الله وعلى مثل القتل بآلة قتّالة، وعند ذلك أمر بإحضار رجلين من السجن فأمر بقتل أحدهما وإطلاق الآخر فقتل هذا وأطلق ذاك فقال: أنا اُحيي واُميت، ولبّس الأمر على الحاضرين فصدّقوه فيه، ولم يستطع لذلك إبراهيمعليه‌السلام أن يبيّن له وجه المغالطة، وأنّه لم يرد بالإحياء والإماتة هذا المعنى المجازيّ، وأنّ الحجّة لا تعارض الحجّة، ولو كان في وسعهعليه‌السلام ذلك لبيّنه، ولم يكن ذلك إلّا لأنّه شاهد حال نمرود في تمويهه، وحال الحضّار في

٣٧٠

تصديقهم لقوله الباطل على العمياء، فوجد أنّه لو بيّن وجه المغالطة لم يصدّقه أحد، فعدل إلى حجّة اُخرى لا يدع المكابر أن يعارضه بشئ فقال إبراهيمعليه‌السلام : إنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، وذلك أنّ الشمس وإن كانت من جملة الآلهة عندهم أو عند بعضهم كما يظهر من ما يرجع إلى الكوكب والقمر من قصّتهعليه‌السلام لكنّها وما يلحق وجودها من الأفعال كالطلوع والغروب ممّا يستند بالأخرة إلى الله الّذي كانوا يرونه ربّ الأرباب، والفاعل الإراديّ إذا اختار فعلاً بالإرادة كان له أن يختار خلافه كما اختار نفسه فإنّ الأمر يدور مدار الإرادة، وبالجملة لمّا قال إبراهيم ذلك بهت نمرود، إذ ما كان يسعه أن يقول: إنّ هذا الأمر المستمرّ الجاري على وتيرة واحدة وهو طلوعها من المشرق دائماً امر اتّفاقيّ لا يحتاج إلى سبب، ولا كان يسعه أن يقول: إنّه فعل مستند إليها غير مستند إلى الله فقد كان يسلّم خلاف ذلك، ولا كان يسعه أن يقول: إنّي أنا الّذي آتيها من المشرق وإلّا طولب بإتيانها من المغرب، فألقمه الله حجراً وبهته، والله لا يهدي القوم الظالمين.

قوله تعالى: ( أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ) ، ظاهر السياق: أنّه من قبيل قول القائل: أساء إلىّ فلان لأنّي أحسنت إليه يريد: أنّ إحساني إليه كان يستدعي أن يحسن إلىّ لكنّه بدّل الإحسان من الاسائه فأساء إلى، وقولهم: واتّق شرّ من أحسنت إليه، قال الشاعر:

جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر

وحسن فعل كما يجزى سنمّار

فالجملة أعني قوله: أن آتاه الله الملك بتقدير لام التعليل وهي من قبيل وضع الشئ موضع ضدّه للشكوى والاستعداء ونحوه، فإنّ عدوان نمرود وطغيانه في هذه المحاجّة كان ينبغي أن يعلّل بضدّ إنعام الله عليه بالملك، لكن لمّا لم يتحقّق من الله في حقّه إلّا الإحسان إليه وايتاؤه الملك فوضع في موضع العلّة فدلّ على كفرانه لنعمة الله فهو بوجه كقوله تعالى:( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ) القصص - ٨، فهذه نكتة في ذكر إيتائه الملك.

وهناك نكته اُخرى وهي: الدلالة على ردائة دعواه من رأس، وذلك أنّه إنّما

٣٧١

كان يدّعي هذه الدعوى لملك آتاه الله تعالى من غير أن يملكه لنفسه، فهو إنّما كان نمرود الملك ذا السلطة والسطوة بنعمة من ربّه، وأمّا هو في نفسه فلم يكن إلّا واحداً من سواد الناس لا يعرف له وصف، ولا يشار إليه بنعت، ولهذا لم يذكر اسمه وعبّر عنه بقوله: الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه، دلالة على حقارة شخصه وخسّة أمره.

وأمّا نسبة ملكه إلى إيتاء الله تعالى فقد مرّ في المباحث السابقة: أنّه لا محذور فيه، فإنّ الملك وهو نوع سلطنة منبسطة على الاُمّة كسائر أنواع السلطنة والقدرة نعمة من الله وفضل يؤتيه من يشاء، وقد أودع في فطرة الإنسان معرفته، والرغبة فيه، فإن وضعه في موضعه كان نعمة وسعادة، قال تعالى:( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ) القصص - ٧٧، وإن عدا طوره وانحرف به عن الصراط كان في حقّه نقمة وبواراً، قال تعالى:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) إبراهيم - ٢٨، وقد مرّ بيان أنّ لكلّ شئ نسبة إليه تعالى على ما يليق بساحة قدسه تعالى وتقدّس من جهة الحسن الّذي فيه دون جهة القبح والمسائة.

ومن هنا يظهر سقوط ما ذكره بعض المفسّرين: أنّ الضمير في قوله أن آتيه الله الملك، يعود إلى إبراهيمعليه‌السلام ، والمراد بالملك ملك إبراهيم كما قال تعالى:( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ) النساء - ٥٤، لا ملك نمرود لكونه ملك جور ومعصية لا يجوز نسبته إلى الله سبحانه.

ففيهأوّلا: أنّ القرآن ينسب هذا الملك وما في معناه كثيراً إليه تعالى كقوله حكاية عن مؤمن آل فرعون:( يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ ) المؤمن - ٢٩، وقوله تعالى حكاية عن فرعون - وقد أمضاه بالحكاية -:( يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ) الزخرف - ٥١، وقد قال تعالى:( لَهُ الْمُلْكُ ) التغابن - ١، فقصر كلّ الملك لنفسه فما من ملك إلّا وهو منه تعالى، وقال تعالى حكايه عن موسىعليه‌السلام :( رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً ) يونس - ٨٨، وقال تعالى في قارون:( وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ) القصص - ٧٦، وقال تعالى خطاباً لنبيّه:

٣٧٢

( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا - إلى أن قال -وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ) المدّثّر - ١٥، إلى غير ذلك.

وثانياً: أنّ ذلك لا يلائم ظاهر الآية فإنّ ظاهرها أنّ نمرود كان ينازع إبراهيم في توحيده وإيمانه لا أنّه كان ينازعه ويحاجّه في ملكه، فإنّ ملك الظاهر كان لنمرود، وما كان يرى لإبراهيم ملكاً حتّى يشاجره فيه.

وثالثاً: أنّ لكلّ شئ نسبة إلى الله سبحانه والملك من جملة الأشياء ولا محذور في نسبته إليه تعالى وقد مرّ تفصيل بيانه.

قوله تعالى: ( قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ) ، الحياة والموت وإن كانا يوجدان في غير جنس الحيوان أيضاً كالنبات، وقد صدّقه القرآن كما مرّ بيانه في تفسير آية الكرسيّ، لكن مرادهعليه‌السلام منهما إمّا خصوص الحياة والممّات الحيوانيّين أو الأعمّ الشامل له لإطلاق اللفظ، والدليل على ذلك قول نمرود: أنا اُحيي واُميت، فإنّ هذا الّذي ادّعاه لنفسه لم يكن من قبيل إحياء النبات بالحرث والغرس مثلاً، ولا إحياء الحيوان بالسفاد والتوليد مثلاً، فإنّ ذلك وأشباهه كان لا يختصّ به بل يوجد في غيره من أفراد الإنسان، وهذا يؤيّد ما وردت به الروايات: أنّه أمر بإحضار رجلين ممّن كان في سجنه فأطلق أحدهما وقتل الآخر، وقال عند ذلك: أنا اُحيي واُميت.

وإنّما أخذعليه‌السلام في حجّته الإحياء والإماتة لأنّهما أمران ليس للطبيعة الفاقدة للحياة فيهما صنع، وخاصّة الّتي في الحيوان حيث تستتبع الشعور والإرادة وهما أمران غير مادّيّين قطعاً، وكذا الموت المقابل لها، والحجّة على ما فيها من السطوع والوضوح لم تنجح في حقّهم، لأنّ انحطاطهم في الفكر وخبطهم في التعقّل كان فوق ما كان يظنّهعليه‌السلام في حقّهم، فلم يفهموا من الإحياء والإماتة إلّا المعنى المجازيّ الشامل لمثل الإطلاق والقتل، فقال نمرود: أنا اُحيي واُميت وصدّقه من حضره، ومن سياق هذه المحاجّة يمكن أن يحدس المتأمّل ما بلغ إليه الانحطاط الفكريّ يؤمئذ في المعارف والمعنويّات، ولا ينافي ذلك الارتقاء الحضاريّ والتقدّم

٣٧٣

المدنيّ الّذي يدلّ عليه الآثار والرسوم الباقية من بابل كلدة ومصر الفراعنة وغيرهما، فإنّ المدنيّة المادّيّة أمر والتقدّم في معنويّات المعارف أمر آخر، وفي ارتقاء الدنيا الحاضرة في مدنيّتها وانحطاطها في الأخلاق والمعارف المعنويّة ما تسقط به هذه الشبهة.

ومن هنا يظهر: وجه عدم أخذهعليه‌السلام في حجّته مسألة احتياج العالم بأسره إلى الصانع الفاطر للسماوات والأرض كما أخذ به في استبصار نفسه في بادي أمره على ما يحكيه الله عنه بقوله:( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) الأنعام - ٧٩، فإنّ القوم على اعترافهم بذلك بفطرتهم إجمالاً كانوا أنزل سطحاً من أن يعقلوه على ما ينبغي أن يعقل عليه بحيث ينجح احتجاجه ويتّضح مرادهعليه‌السلام ، وناهيك في ذلك ما فهموه من قوله: ربّي الّذي يحيي ويميت.

قوله تعالى: ( قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ) ، أي فأنا ربّك الّذي وصفته بأنّه يحيي ويميت.

قوله تعالى: ( قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ) ، لمّا أيسعليه‌السلام من مضيّ احتجاجه بأنّ ربّه الّذي يحيي ويميت، لسوء فهم الخصم وتمويهه وتلبيسه الأمر على من حضر عندهما عدل عن بيان ما هو مراده من الإحياء والإماتة إلى حجّة اُخرى، إلّا أنّه بنى هذه الحجّة الثانية على دعوى الخصم في الحجّة الاُولى كما يدلّ عليه التفريع بالفاء في قوله: فإنّ الله الخ، والمعنى: إن كان الأمر كما تقول: إنّك ربّي ومن شأن الربّ أن يتصرّف في تدبير أمر هذا النظام الكونيّ فالله سبحانه يتصرّف في الشمس بإتيانها من المشرق فتصرّف أنت بإتيانها من المغرب حتّى يتّضح إنّك ربّ كما أنّ الله ربّ كلّ شئ أو أنّك الربّ فوق الأرباب فبهت الّذي كفر، وإنّما فرّع الحجّة على ما تقدّمها لئلّا يظنّ أنّ الحجّة الأولى تمّت لنمرود وأنتجت ما ادّعاه، ولذلك أيضاً قال، فإنّ الله ولم

٣٧٤

يقل: فإنّ ربّي لأنّ الخصم استفاد من قوله: ربّي سوءاً وطبّقه على نفسه بالمغالطة فأتىعليه‌السلام ثانياً بلفظة الجلالة ليكون مصوناً عن مثل التطبيق السابق! قد مرّ بيان أنّ نمرود ما كان يسعه أن يتفوّه في مقابل هذه الحجّة بشئ دون أن يبهت فيسكت.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) ، ظاهر السياق أنّه تعليل لقوله فبهت الّذي كفر فبهته هو عدم هداية الله سبحانه إيّاه لا كفره، وبعبارة اُخرى معناه أنّ الله لم يهده فبهت لذلك ولو هداه لغلب على إبراهيم في الحجّة لا أنّه لم يهده فكفر لذلك وذلك لأنّ العناية في المقام متوجّهة إلى محاجّته إبراهيمعليه‌السلام لا إلى كفره وهو ظاهر.

ومن هنا يظهر: أنّ في الوصف إشعاراً بالعلّيّة أعني: أنّ السبب لعدم هداية الله الظالمين هو ظلمهم كما هو كذلك في سائر موارد هذه الجملة من كلامه تعالى كقوله:( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَىٰ إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) الصفّ - ٧، وقوله:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) الجمعة - ٥، ونظير الظلم الفسق في قوله تعالى:( فلمّا زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين ) الصفّ - ٥.

وبالجملة الظلم وهو الانحراف عن صراط العدل والعدول عمّا ينبغي من العمل إلى غير ما ينبغى موجب لعدم الاهتداء إلى الغاية المقصودة، ومؤدّ إلى الخيبة والخسران بالأخرة، وهذه من الحقائق الناصعة الّتي ذكرها القرآن الشريف وأكّد القول فيها في آيات كثيرة.

٣٧٥

( كلام في الاحسان وهدايته والظلم واضلاله)

هذه حقيقة ثابتة بيّنها القرآن الكريم كما ذكرناه آنفاً، وهي كلّيّة لاتقبل الاستثناء وقد ذكرها بألسنة مختلفة وبنى عليها حقائق كثيرة من معارفه، قال تعالى:( الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) طه - ٥٠، دلّ على أنّ كلّ شئ بعد تمام خلقه يهتدي بهداية من الله سبحانه إلى مقاصد وجوده وكمالات ذاته، وليس ذلك إلّا بارتباطه مع غيره من الأشياء واستفادته منها بالفعل والانفعال بالاجتماع والافتراق والاتّصال والانفصال والقرب والبعد والأخذ والترك ونحو ذلك، ومن المعلوم أنّ الاُمور التكوينيّة لا تغلط في آثارها، والقصود الواقعيّة لاتخطي ولا تخبط في تشخيص غاياتها ومقاصدها، فالنار في مسّها الحطب مثلاً وهي حارّة لا تريد تبريده، والنامي كالنبات مثلاً وهو نام لا يقصد إلّا عظم الحجم دون صغره وهكذا، وقد قال تعالى:( إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) هود - ٥٦، فلا تخلّف ولا اختلاف في الوجود.

ولازم هاتين المقدّمتين أعني عموم الهداية وانتفاء الخطّأ في التكوين أن يكون لكلّ شئ روابط حقيقيّة مع غيره، وأن يكون بين كلّ شئ وبين الآثار والغايات الّتي يقصد لها طريق أو طرق مخصوصة هي المسلوكة للبلوغ إلى غايته والأثر المخصوص المقصود منه، وكذلك الغايات والمقاصد الوجوديّة إنّما تنال إذا سلك إليها من الطرق الخاصّة بها والسبل الموصلة إليها، فالبذرة إنّما تنبت الشجرة الّتي في قوّتها إنباتها مع سلوك الطريق المؤدّي إليها بأسبابها وشرائطها الخاصّة، وكذلك الشجرة إنّما تثمر الثمرة الّتي من شأنها إثمارها، فما كلّ سبب يؤدّي إلى كلّ مسبّب، قال تعالى:( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ) الأعراف - ٥٨، والعقل والحسّ يشهدان بذلك وإلّا اختلّ قانون العلّيّة العامّ.

وإذا كان كذلك فالصنع والإيجاد يهدي كلّ شئ إلى غاية خاصّة، ولايهديه إلى غيرها، ويهدي إلى كلّ غاية من طريق خاصّ لا يهدي إليها من غيره، صنع الله الّتي

٣٧٦

أتقن كلّ شئ، فكلّ سلسلة من هذه السلاسل الوجوديّة الموصلة إلى غاية وأثر إذا فرضنا تبدّل حلقة من حلقاتها أوجب ذلك تبدّل أثرها لا محالة، هذا في الاُمور التكوينيّة.

والاُمور غير التكوينيّة من الاعتبارات الإجتماعيّة وغيرها على هذا الوصف أيضاً من حيث إنّها نتائج الفطرة المتّكئة على التكوين، فالشؤن الإجتماعيّة والمقامات الّتي فيه والأفعال الّتي تصدر عنها كلّ منها مرتبط بآثار وغايات لا تتولّد منه إلّا تلك الآثار والغايات ولاتتولّد هي إلّا منه فالتربية الصالحة لاتتحقّق إلّا من مربّ صالح والمربّي الفاسد لا يترتّب على تربيته، إلّا الأثر الفاسد (ذاك الفساد المكمون في نفسه) وإن تظاهر بالصلاح ولازم الطريق المستقيم في تربيته، وضرب على الفساد المطويّ في نفسه بمأة ستر واحتجب دونه بألف حجاب، وكذلك الحاكم المتغلّب في حكومته، والقاضي الواثب على مسند القضاء بغير لياقة في قضائه، وكلّ من تقلّد منصباً اجتماعيّاً من غير طريقه المشروع، وكذلك كلّ فعل باطل بوجه من وجوه البطلان إذا تشبّه بالحقّ وحلّ بذلك محلّ الفعل الحقّ، والقول الباطل إذا وضع موضع القول الحقّ كالخيانة موضع الأمانة والإسائة موضع الإحسان والمكر موضع النصح والكذب موضع الصدق فكلّ ذلك سيظهر أثرها ويقطع دابرها وإن اشتبه أمرها أيّاماً، وتلبّس بلباس الصدق والحقّ أحياناً، سنّة الله الّتي جرت في خلقه ولن تجد لسنّة الله تحويلاً ولن تجد لسنّة الله تبديلاً.

فالحقّ لا يموت ولا يتزلزل أثره، وإن خفي على إدراك المدركين اُويقات، والباطل لا يثبت ولا يبقى أثره، وإن كان ربّما اشتبه أمره ووباله، قال تعالى:( لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ ) الأنفال - ٨، من تحقيق الحقّ تثبيت أثره، ومن إبطال الباطل ظهور فساده وانتزاع ما تلبّس به من لباس الحقّ بالتشبّه والتمويه، وقال تعالى:( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ

٣٧٧

الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) إبراهيم - ٢٧، وقد أطلق الظالمين فالله يضلّهم في شأنهم، ولا شأن لهم إلّا أنّهم يريدون آثار الحقّ من غير طريقها أعني: من طريق الباطل كما قال تعالى - حكاية عن يوسف - الصدّيق:( قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) يوسف - ٢٣، فالظالم لا يفلح في ظلمه، ولا أنّ ظلمه يهديه إلى ما يهتدي إليه المحسن بإحسانه والمتّقي بتقواه، قال تعالى:( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) العنكبوت - ٦٩، وقال تعالى:( وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ ) طه - ١٣٢.

والآيات القرآنيّة في هذه المعاني كثيرة على اختلافها في مضامينها المتفرّقة، ومن أجمعها وأتمها بياناً فيه قوله تعالى:( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْض كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ) الرعد - ١٧.

وقد مرّت الإشارة إلى أنّ العقل يؤيّده، فإنّ ذلك لازم كلّيّة قانون العلّيّة والمعلوليّة الجارية بين أجزاء العالم، وأنّ التجربة القطعيّة الحاصلة من تكرّر الحسّ تشهد به، فما منّا من أحد إلّا وفي ذكره أخبار محفوظة من عاقبة أمر الظالمين وانقطاع دابرهم.

قوله تعالى: ( وْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا ) ، الخاوية هي الخالية يقال: خوت الدار تخوي خوائاً إذا خلت، والعروش جمع العرش وهو ما يعمل مثل السقف للكرم قائماً على أعمدة، قال تعالى:( جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ) الأنعام - ١٤٢، ومن هنا أطلق على سقف البيت العرش، لكنّ بينهما فرقاً، فإنّ السقف هو ما يقوم من السطح على الجدران والعرش وهو السقف مع الأركان الّتي يعتمد عليها كهيئة عرش الكرم، ولذا صحّ أن يقال في الديار أنّها خالية على عروشها ولا يصحّ أن يقال: خالية على سقفها.

وقد ذكر المفسّرون وجوها في توجيه العطف في قوله تعالى: أو كالّذي، فقيل:

٣٧٨

إنّه عطف على قوله في الآية السابقة: الّذي حاجّ إبراهيم، والكاف اسميّة، والمعنى أو هل رأيت مثل الّذي مرّ على قرية الخ، وقد جيئ بهذا الكاف للتنبيه على تعدّد الشواهد، وقيل: بل الكاف زائدة، والمعنى: ألم تر إلى الّذي حاجّ إبراهيم أو الّذي مرّ على قرية الخ، وقيل: إنّه عطف محمول على المعنى، والمعنى: ألم تر كالّذي حاجّ إبراهيم أو كالّذي مرّ على قرية، وقيل: إنّه من كلام إبراهيم جواباً عن دعوى الخصم أنّه يحيي ويميت، والتقدير: وإن كنت تحيى فأحيى كإحياء الّذي مرّ على قرية الخ فهذه وجوه ذكروه في الآية لتوجيه العطف لكنّ الجميع كما ترى.

وأظنّ - والله أعلم - أنّ العطف على المعنى كما مرّ في الوجه الثالث إلّا أنّ التقدير غير التقدير، توضيحه: أنّ الله سبحانه لمّا ذكر قوله: الله وليّ الّذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والّذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات، تحصّل من ذلك: أنّه يهدي المؤمنين إلى الحقّ ولا يهدي الكافر في كفره بل يضلّه أولياؤه الّذين اتّخذهم من دون الله أولياء، ثمّ ذكر لذلك شواهد ثلاث يبيّن بها أقسام هدايته تعالى، وهي مراتب ثلاث مترتّبة:

أوليها: الهداية إلى الحقّ بالبرهان والاستدلال كما في قصّة الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه، حيث هدى إبراهيم إلى حقّ القول، ولم يهد الّذي حاجّه بل أبهته وأضلّه كفره، وإنّما لم يصرّح بهداية إبراهيم بل وضع عمدة الكلام في أمر خصمه ليدلّ على فائدة جديدة يدلّ عليها قوله: والله لا يهدي القوم الظالمين.

والثانية: الهداية إلى الحقّ بالإرائة والإشهاد كما في قصّة الّذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها فإنّه بيّن له ما أشكل عليه من أمر الإحياء بإماتته وإحيائه وسائر ما ذكره في الآية، كلّ ذلك بالإرائة والإشهاد.

الثالثة: الهداية إلى الحقّ وبيان الواقعة بإشهاد الحقيقة والعلّة الّتي تترشّح منه الحادثة، وبعبارة اُخرى بإرائة السبب والمسبّب معاً، وهذا أقوى مراتب الهداية والبيان وأعلاها وأسناها كما أنّ من كان لم ير الجبن مثلاً وارتاب في أمره تزاح شبهته تارةً بالاستشهاد بمن شاهده وأكل منه وذاق طعمه، وتارةً بإرائته قطعة من الجبن

٣٧٩

وإذاقته طعمه وتارة بإحضار الحليب وعصارة الإنفحه وخلط مقدار منها به حتّى يجمد ثمّ إذاقته شيئاً منه وهي أنفى المراتب للشبهة.

إذا عرفت ما ذكرناه علمت أنّ المقام في الآيات الثلاث - وهو مقام الاستشهاد - يصحّ فيه جميع السياقات الثلاث في إلقاء المراد إلى المخاطب بأن يقال: إنّ الله يهدي المؤمنين إلى الحقّ: ألم تر إلى قصّة إبراهيم ونمرود، أو لم تر إلى قصّة الّذي مرّ على قرية، أو لم تر إلى قصّة إبراهيم والطير، أو يقال: إنّ الله يهدي المؤمنين إلى الحقّ: إمّا كما هدى إبراهيم في قصّة المحاجّة وهي نوع من الهداية، أو كالّذي مرّ على قرية وهي نوع آخر، أو كما في قصّة إبراهيم والطير وهي نوع آخر، أو يقال: إنّ الله يهدي المؤمنين إلى الحقّ واُذكّرك ما يشهد بذلك فاذكر قصّة المحاجّة، واذكر الّذي مرّ على قرية، واذكر إذ قال إبراهيم ربّ أرني.

فهذا ما يقبله الآيات الثلاث من السياق بحسب المقام، غير أنّ الله سبحانه أخذ بالتفنّن في البيان وخصّ كلّ واحدة من الآيات الثلاث بواحد من السياقات الثلث تنشيطاً لذهن المخاطب واستيفائاً لجميع الفوائد السياقيّة الممكنة الاستيفاء.

ومن هنا يظهر: أنّ قوله تعالى: أو كالّذي، معطوف على مقدّر يدلّ عليه الآية السابقة، والتقدير: إمّا كالّذي حاجّ إبراهيم أو كالّذي مرّ على قرية، ويظهر أيضاً أنّ قوله في الآية التالية: واذ قال إبراهيم، معطوف على مقدّر مدلول عليه بالآية السابقة والتقدير: اذكر قصّة المحاجّة وقصّة الّذي مرّ على قرية، واذكر إذ قال إبراهيم ربّ أرني الخ.

وقد أبهم الله سبحانه اسم هذا الّذي مرّ على قرية واسم القرية والقوم الّذين كانوا يسكنونها، والقوم الّذين بعث هذا المارّ آية لهم كما يدلّ عليه قوله ولنجعلك آية للناس، مع أنّ الأنسب في مقام الاستشهاد الإشارة إلى أسمائهم ليكون أنفى للشبهة.

لكنّ الآية وهي الإحياء بعد الموت وكذا أمر الهداية بهذا النحو من الصنع لمّا

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

وحينما يقضي على الدجّال تكون مهمّته الثانية تأييد المؤمنين في العالم والقضاء على الكافرين والمنحرفين. أمّا المؤمنين فيواجههم ويحدّثهم عن درجاتهم في الجنّة، وأمّا الكافرين فيقاتلهم على الإسلام ويدق الصليب بمعنى أنّه يقضي على المسيحية المعروفة المتخذة للصليب، ويقتل الخنزير، بمعنى أنّه يحرّم أكله، ويأمر بالقضاء على الموجود للتدجين منه ( ويضع الجِزية على مَن بقي على دين اليهودية والنصرانية ) كما فعل رسول الله (ص) معهم، فيمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفّى فيصلّي عليه المسلمون.

وأمّا المهدي (ع) فهو الشخص الرئيسي من هؤلاء المؤمنين الذين يواجههم المسيح. وحين تحين الصلاة بعد وصولهم إليه أو وصوله إليهم، يدعوه الإمام المهدي (ع) احتراماً له، أن يكون هو الإمام في صلاة الجماعة، فيأبى ذلك قائلاً: لا، إنّ بعضكم على بعض أُمراء، تكرمة الله لهذه الأُمّة يعني: أنّ الأُمّة الإسلامية لابد - في الحكم الإلهي - أن يحكمها شخص منها، وحيث أنّ المسيح عيسى بن مريم ليس منها، باعتباره نبيّاً لدينٍ سابق، إذاً فلا ينبغي أن يحكم المسلمين أو أن يأمّهم في الصلاة. وبعد هذا الاعتذار، يتقدّم المهدي إماماً للصلاة ويصلّي المسيح خلفه مأموماً.

وسيحين خلال هذه المدّة، الوقت المناسب لمنازلة الكافرين والمنحرفين، متمثّلين بيأجوج ومأجوج، وبالرغم من أنّ هذه القيادة العالمية إنّما هي بيد الإمام المهدي (ع) غير أنّ قيادة الحرب ستكون بيد المسيح (ع)، ومن هنا نُسب القضاء على يأجوج ومأجوج إليه، كما نُسب قتل الدجّال إليه أيضاً، مع أنّ هناك من الأخبار ما يدل على أنّ المهدي (ع) هو الذي يقتل الدجّال(١) وكلا النسبتين صادقة، باعتبار وحدة العمل والهدف.

وهذا التسلسل الفكري، يمكننا دمجه بفهمنا العام السابق للحوادث، وربطه بالتخطيط العام اللاحق له، فينتج لدينا النتيجة التالية: أنّ الدجّال ليس شخصاً معيّناً - كما قلنا - وإنّما هو كناية عن الحضارة المادية في قمّتها وأوج عِزّها وإغرائها. ومن الواضح أنّ مثل هذه الحضارة لا يمكن القضاء عليها بقتل شخص معيّن، وإنّما تحتاج إلى عمل فكري وعسكري عالمي للقضاء عليها، وتحويل الوضع إلى الحكم العادل الصحيح.

وهذا العمل موكول أساساً إلى المهدي (ع) بصفته القائد الأعلى ليوم العدل

____________________

(١) انظر منتخب الأثر ص٤٨٠ عن إكمال الدين وغيره.

٦٠١

الموعود. ومن هنا ذكرت الأخبار بأنّه يقتل الدجّال. هذا لا ينافي أنّ شخصاً من أصحابه وتحت إمرته يشارك في هذه المهمّة مشاركةً رئيسية، بحيث تصحّ نسبة القتل إليه أيضاً، كما تصحح كونه مسيحيّاً مصلحاً للعالم.

والمستفاد عموماً من الأخبار: أنّ نزول عيسى (ع)، يكون بعد ظهور المهدي ولكن قبل استتباب دولته، يعني خلال محاربته للكافرين والمنحرفين وممارسته للفتح العالمي. وهناك(١) من الأخبار ما يدل على أنّه يبايعه في المسجد الحرام مع أصحابه الخاصّة الأوائل، غير أنّه غير قابل للإثبات التاريخي.

وهذا هو المراد من كون المهدي في وسط الأُمّة، وعيسى في آخرها، لو صحّ الخبر؛ لأنّه ينزل بعد ظهور المهدي، ويبقى بعد وفاته، فأصبح كأنّه بعد المهدي في الزمان، فيصدق عليه مجازاً، أنّه في آخر الأُمّة.

والمسيح يواجه بعد نزوله يأجوج ومأجوج، قد خرجوا من الردم، وقد عرفنا أنّهما يمثّلان الحضارة المادية ذات الفرعين الأساسيين في البشرية، ويكون مسؤولاً - خلال الفتح العالمي - عن محاربتهما والقضاء عليهما، وقد سبق أن تحدثنا عن ذلك مفصّلاً.

وهنا قد يبدو أنّ الخبر الدال على ذلك، دال أيضاً على تأخّر خروج يأجوج ومأجوج من الردم، على نزول عيسى، ثم على ظهور المهدي، وهذا مخالف لفهمنا السابق؛ لأنّ الحضارة المادية بكلا فرعيها إنّما تكون قبل الظهور.

إلاّ أنّ دلالة الخبر على ذلك غير صحيحة؛ لأنّه دال على أنّ عيسى بعد أن يجتمع بالمؤمنين الصالحين، يخبره الله تعالى بإخراج يأجوج ومأجوج ( فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى: إنّي قد أخرجت عباداً لي، لا يُدان أحد بقتالهم ). إنّ هذا التوقيت توقيت للإخبار لا للخروج من الردم، وليس في الخبر الذي يتلقّاه هذا النبي أنّهم قد خرجوا لفورهم.

وهذا الإخبار لا يتضمّن معناه المطابقي اللفظي بطبيعة الحال، وإنّما يتضمّن الأمر بالمبادرة إلى قتالهم بعد أن التأم جمع المؤمنين مكوّناً من: المهدي والمسيح (ع) وأصحابهما، وقد أزفت ساعة الصفر للفتح العالمي، واقتضى التخطيط الإلهي ذلك.

ثم يكشف المهدي عن مواريث الأنبياء بشكلها الواقعي، كما خلفها الأنبياء

____________________

(١) انظر إلزام الناصب ص٣٠٧.

٦٠٢

أنفسهم في الأرض، كلٌّ في منطقته، وهي: تابوت آدم (ع) أي الصندوق الذي كان يحفظ فيه كتاباته الدينية وتشريعاته، وعصر موسى (ع) والتوراة، والزبور، والإنجيل، وسائر كتب الله، فيبدأ هو والمسيح (ع) بمناقشة أهل الأديان السماوية بهذه الكتب والمواريث.

فيدخلون في الإسلام، وأمّا المتبقّي منهم، فيقول الخبر إنّهم يدخلون في ذمّة الإسلام ويدفعون الجِزْية، كما كان الحال في زمن رسول الله (ص)، ريثما يتمّ بالتدريج دخولهم في الإسلام.

وعندئذٍ ( تذهب الشحناء والتباغض والتحاسد ) ويعمّ الغنى أُمّة محمد (ص) وهم كل البشر ( وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد ) عند استتباب الدولة العالمية.

فهذا هو المضمون العام لهذه الأخبار، وأمّا التفاصيل فسنعرفها في الجهات الآتية.

الجهة الرابعة: في الحديث عن بعض خصائص المسيح عيسى بن مريم (ع).

ونتكلّم عن ذلك في عدّة نواحي:

الناحية الأُولى: حين عبّرت الأخبار السابقة بنزول عيسى (ع)، فإنّما تريد نزوله من السماء بعد أن رفعه الله تعالى إليه؛ حين أراد اليهود قتله، فشُبّه لهم وقتلوا غيره مكانه... وهذا انطلاق من الفهم التقليدي للمسلمين عن ذلك، وقد ورد في أخبار الفريقين ما يؤيّده ويدل عليه.

ونحن لا نريد الدخول في إثبات ذلك الآن، وحسبنا أنّ القرآن الكريم بعد ضمّ بعض آياته إلى بعض غير صريح في ذلك... وإنّما غاية ما ينفعنا في المقام هو: أن نلتفت إلى أنّ مجيء المسيح مع المهدي لا يعني صحّة هذا الفهم بالتعيين، بل يمكن رجوعه بقدرة الله تعالى مهما كانت خاتمة حياته السابقة، وكما هو واضح.

الناحية الثانية: في الحكمة من بقاء المسيح (ع) خلال هذه المدّة الطويلة طبقاً للفهم التقليدي المشار إليه:

إنّ الحكمة من ذلك، حسب ما تدركه عقولنا الآن، تتمثّل في عدّة أُمور:

الأمر الأوّل: اختصاص هذا النبي (ع) بمميّزات شخصية أساسية من دون سائر الأنبياء: كولادته الإعجازية بدون الأب، وإحيائه للموتى، ورفعه إلى السماء. كما اختص موسى بالكلام مع الله عزّ وجلّ، ومحادثته مدّة عشرة أيام كاملة. واختص محمد، نبي الإسلام (ص) بالقرآن الكريم معجزة الإسلام الخالدة. ولابد لكل نبي رئيسي من خصائص تميّزه على أيّ حال.

٦٠٣

الأمر الثاني: البرهان على صحّة الغيبة بالنسبة إلى المهدي (ع)، حيث يكون المسيح أكبر عمراً منه مهما طالت الغيبة بعدّة مئات من السنين، هي الفرق بين عصر ولادة المسيح وعصر ولادة المهدي (ع) وهي حوالي التسعمئة عام.

وحيث اعترف الفكر التقليدي الإسلامي ببقاء المسيح حيّاً لم يمت، إذاً، ففي الإمكان تماماً بقاء مَن هو أصغر منه عمراً، وإن لم يكن هو أولى بالبقاء منه.

وهذه تماماً هي الحكمة من بقاء الخضر (ع) حيّاً، كما اعترف به الفكر التقليدي الإسلامي أيضاً، ووردت به الأخبار من الفريقين. وورد في الأخبار الإشارة إلى هذه الحكمة بالذات لبقائه(١) . فإنّ عمره يزيد على عمر المسيح والمهدي معاً باعتبار أسبق ولادة منهما. فإذا كان بالإمكان بقاء الإنسان خلال هذا الدهر الطويل، فبالأولى أن يبقى شخص آخر بمقدار أقل منه. ولئن كان المسيح يعيش في السماء، فإنّ الخضر يعيش على الأرض تماماً كالمهدي (ع) وهو يزيد على عمره بأكثر من ألفي عام.

الأمر الثالث: تكامل المسيح (ع) خلال هذا العصر الطويل، من التكامل الذي سمّيناه بتكامل ما بعد العصمة. وقد برهنّا التاريخ السابق(٢) على ثبوته للمهدي (ع) من خلال عمره الطويل على الأرض، ومعاشرته للأجيال الطويلة للبشرية.

فكذلك يمكن القول بالنسبة للمسيح في عمره الطويل في السماء، في الملكوت الأعلى، وما يشاهده من عظمة الله وحكمته وعدله في ذلك العالم، الأمر الذي يوجب له أكبر الكمال.

وسوف يستفيد المسيح من هذا التكامل العالي، في تدبير المجتمع العالمي العادل، تماماً كما يستفيد المهدي (ع) من تكامله العالي أيضاً. فانظر إلى هذه القيادة العالمية الرشيدة المكوَّنة من هذين التكاملَين العاليين.

____________________

(١) أخرج الصدوق في إكمال الدين ( نسخة مخطوطة ) بسنده عن سدير الصيرفي، عن أبي عبد الله الصادق (ع) في حديثٍ طويل يقول فيه: وأمّا العبد الصالح أعني الخضر، فإنّ الله تبارك وتعالى ما طوّل عمره لنبوّةٍ قدّرها له، ولا لكتابٍ ينزل عليه، ولا لشريعة ينسخ بها شريعة مَن كان قبله من الأنبياء، ولا لإمامةٍ يلزم عباده الإقتداء بها، ولا لطاعةٍ يفرضها له، بلى إنّ الله تبارك وتعالى لما كان في سابق علمه أن يقدّر من عمر القائم في أيام غيبته ما قدّر، وعلم من إنكار عباده بمقدار ذلك العمر في الطول، طول عمر العبد الصالح من غير سببٍ أوجب ذلك إلاّ لعلّة الاستدلال به على عمر القائم؛ ليقطع بذلك حجّة المعاندين، ولئلاّ يكون على الناس حجّة... الحديث.

(٢) تاريخ الغيبة الكبرى: ص ٥٠٤ وما بعدها إلى عدّة صفحات.

٦٠٤

الناحية الثالثة: في الحكمة من مشاركة المسيح في الدولة العالمية العادلة.

يؤثّر وجود المسيح (ع) في الدولة العالمية، وبالتالي في التخطيط اللاحق للظهور، في حدود ما نفهم الآن، في عدّة أُمور:

الأمر الأوّل: إيمان اليهود والنصارى به، وهم يمثّلون ردحاً كبيراً من البشرية، وذلك حين يثبت لهم بالحجّة الواضحة أنّه هو المسيح يسوع الناصري نفسه، وأنّ الإنجيل والتوراة إنّما هي هكذا وليست على شكلها الذي كان معهوداً، وأنّ ملكوت الله الذي بشّر به هو في حياته الأُولى على الأرض قد تحقّق فعلاً، متمثّلاً بدولة العدل العالمية.

ولن يبقى منهم شخص من ذلك الجيل المعاصر للظهور إلاّ ويؤمن به، كما هو المستفاد من قوله تعالى:

( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) (١) .

فإنّ الاستثناء بعد النفي يفيد العموم.

الأمر الثاني: أنّه نتيجة للأمر الأوّل سوف يتيسّر الفتح العالمي بدون قتال، بل نتيجة للإيمان بالحق والإذعان له، وقد سبق أن تكلّمنا عن ذلك مفصّلاً، وعرفنا أنّ الجانب الفكري في الفتح العالمي سيكون أوسع بكثير من الجانب العسكري.

الأمر الثالث: تكفّل المسيح عيسى بن مريم (ع) للقيادة في جانب أو عدّة جوانب من الدولة العالمية، وتحمّله مسؤوليّتها، كما لو أصبح في مركز مشابه لرئيس الوزراء في الدولة الحديثة، أو تكفّل الحكم في رقعة كبيرة من الأرض، أو الدولة العالمية.

الناحية الرابعة: إنّ المسيح ابن مريم (ع) وإن كان نبيّاً مرسَلاً، وليس الإمام المهدي (ع) كذلك، غير أنّ القيادة العليا تبقى موكولةً إلى المهدي (ع)؛ وذلك لعدّة وجوه نذكر بعضها:

الوجه الأوّل: إنّ الإمام المهدي (ع) هو الوريث الشرعي للأُطروحة العادلة الكاملة عن نبي الإسلام (ص)، يروي عنه وعن قادة الإسلام الأوائل تفاصيلها وحل معضلاتها، وفهم ظواهرها وخفاياها؛ وبالتالي فقد مرّ الإمام المهدي (ع) بجوٍّ كافٍ للتعرّف على هذه الأُمور على يد آبائه (ع)، وهو ممّا لم يحدث أن وُفّق له المسيح عيسى بن مريم (ع).

____________________

(١) ٤ / ١٥٩.

٦٠٥

الوجه الثاني: القاعدة العامّة التي نصّت عليها الأخبار التي سمعناها، وهي يقولها المسيح نفسه حين يعتذر عن تقدّمه إمامة الجماعة بالمسلمين: إنّ بعضكم على بعض أُمراء، تكرمة الله هذه الأُمّة.

فإنّه بصفته نبيّاً لملّةٍ أُخرى غير دين الإسلام، يكون من الوهن في الحكمة الإلهية أن يكون حاكماً للمجتمع المسلم بما فيه من أولياء وصالحين، وكأنّه يظهر عندئذٍ عجز الأُمّة الإسلامية عن إيجاد قائد كبير منها. بل إنّ الحكمة والتفضّل الإلهيين اقتضى أن يكون الحاكم الأعلى للدولة الإسلامية مسلماً بالأصل، لا يمت إلى أيّ دينٍ آخر بصلة، مضافاً إلى صفاته الأُخرى.

الناحية الخامسة: دلّت الروايات على أنّ بقاء المسيح في الأرض بعد نزوله أربعين سنة، ولعلّ المراد به مجرّد فكرة الكثرة، بشكل يناسب أن تكون أكثر أو أقل بمقدارٍ ما. وحيث يكون من الراجح، كما سوف نشير أنّ الإمام المهدي (ع) لن يبقى في الحياة بعد ظهوره، إلاّ حوالي العشر سنوات، إذاً فسوف يبقى المسيح بعد المهدي (ع) حوالي ثلاثين عاماً، وهي فترة ليست بالقصيرة بالنسبة إلى النظام المهدوي الجديد. ويؤيّد ذلك قوله في رواية أُخرى، وعيسى في آخرها. فإنّه لا يكون في آخرها إلاّ إذا كان متأخّراً في البقاء في الحياة بعد الإمام المهدي (ع).

ومهما يكن من شكل الرئاسة العليا لدولة العدل العالمية بعد الإمام المهدي (ع) - وهذا ما سنذكره في الباب الآتي - فإنّ المسيح (ع) لن يتولّ الرئاسة على أيّ حال، بل سيكون له قسط من العمل والتوجيه، أو يستمر بنفس صفته التي كان عليها بين يدي شخص الإمام المهدي (ع).

نعرف ذلك من القاعدة التي سمعناها: إنّ بعضكم على بعض أُمراء. ومن الواضح أنّ الأولياء الموجودين بعد المهدي (ع) كلهم مسلمون بالأصل غير المسيح؛ لأنّه نبي لدين سابق، فيكون هؤلاء الأولياء أولى منه بتولّي الرئاسة.

وإذ تنتهي حياته ويحين أجله، تسكت الروايات عن كيفية موته وسببه. والمفروض أنّه يموت كما يموت غيره من البشر، فهو الآن يصعد بروحه وحدها إلى السماء، بعد أن كان قد صُعد فيما سبق بروحه وجسمه معاً.

إنّ قانون:( كلّ نفسٍ ذائقة الموت ) يعيّن عليه الموت مهما طال عمره؛ فإنّه قانون عام

٦٠٦

لا يُستثنى منه نبي ولا ولي. وحيث لم يكن ارتفاعه الأوّل موتاً حقيقياً أو كاملاً، كان اللازم بمقتضى هذا القانون: أن يموت الموت الحقيقي الموعود، ولو بعد مئات أو آلاف من عمره الطويل.

فهذا هو الحديث عن بعض النواحي المهمّة من خصائص المسيح (ع).

الجهة الخامسة: في بعض خصائص أهل الكتاب وعقيدتهم يومئذ.

ونتكلّم عن ذلك في عدّة نواحي:

الناحية الأُولى: دلّت بعض الروايات، بما فيها بعض ما سبق: على أنّ المهدي (ع) يستخرج التوراة والإنجيل، وكل الكتب والصحف المـُنزَلة على الأنبياء من غار في أنطاكية، فيحتج بها على اليهود والنصارى، فيدخلون في الإسلام.

إلاّ أن هذا التعيين للمكان لا يخلو من بعض نقاط الضغف:

النقطة الأُولى: عدم كفاية هذه الروايات لإثبات هذا الأمر تاريخياً؛ فإنّها روايات قليلة نسبيّاً وضعيفة السند.

النقطة الثانية: إنّنا أشرنا خلال فهمنا لهذه الأخبار: أنّ المهدي (ع) يستخرج كل كتاب من المكان المذخور فيه... وذلك بعد ضمّ أمرين إعجازيين:

الأمر الأوّل: انحفاظ هذه الكتب من التلف خلال آلاف الأعوام.

الأمر الثاني: إطلاع الإمام المهدي على مكانها، وهي موزّعة في بقاع العالم.

وإنّما حدثت هذه المعجزة باعتبار هداية الناس بهذه الكتب بعد الظهور، فأصبحت مطابقة لقانون المعجزات، على أنّه يمكن حمل الأمرين على الشكل الطبيعي أيضاً.

وأمّا اجتماع هذه الكتب كلها من غار أنطاكية، فهو ممّا لا مبرّر له لا إعجازي ولا طبيعي، كما هو واضح، فيكون باطلاً.

الناحية الثانية: كيف يثبت للناس أنّ هذه هي الكتب الحقيقية؟ وكيف يثبت أنّ هذا هو عيسى بن مريم (ع) نفسه، وأن هذه هي الكتب الواقعية؟ مع أنّ الناس غير مشاهدين وغير معاصرين له ولا لها، وخاصّة أنّ هناك في اليد نُسَخ من التوراة والإنجيل ستكون مختلفة عن تلك النسخ الأصلية.

وجواب ذلك: أنّ هذا الإثبات يتم بعد إقامة الحجّة الكاملة من قِبَل المهدي (ع) على مهدويّته وصدقه، بحيث يكون كل ما يخبر به مسلّم الصحّة عند الناس؛ فيعرّفهم على

٦٠٧

المسيح وعلى التوراة والإنجيل، مضافاً إلى ما قد يضيفه المسيح نفسه من حجج وبيّنات، فيثبت بها نفسه وصدقه، إلى جنب عدالة القضية ككل.

وبهذا نعرف أنّ قضية نزول المسيح أو استخراج الكتب لا يكون بمجرّد حجّة كافية؛ لوضوح أنّ نزول عيسى من السماء لن يشاهده إلاّ القليل، وربّما لا يشاهده أحد.

فيحتاج هو على الأرض إلى إثبات لشخصيّته، وكذلك الكتب فإنّ مجرّد وجودها هناك لا يعني صدقها ومطابقتها للواقع، ما لم يقترن كل ذلك بالحجّة الكافية لإثباته.

نعم، بعد أن يثبت كل ذلك بالحجّة، وقد سبق أيضاً للناس التبشير بحصول ذلك في عصر المهدي (ع) في الأخبار التي سمعناها، يكون ذلك بطبيعة الحال، دعماً لصدقه وعدالة قضيّته.

الناحية الثالثة: أنّه دلّت بعض الأخبار على أنّ الإمام المهدي (ع) أنّه قال:

( لو ثُنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم )(١) .

كما يؤيّد أيضاً بقوله تعالى:

( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ

____________________

(١) انظر إرشاد الديلمي ج ٢ ص٦ ط بيروت.

٦٠٨

فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (١) .

( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ) .

وقال تعالى:

( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ... ) الآية(٢) .

حيث دلّت هذه النصوص على أنّه عند الحكم العادل، ينبغي أن تنزل كل الكتب السماوية إلى حيّز التطبيق، وكل منها على مَن يؤمن بها. وقد وصف من يعصي حكم التوراة بالكافرين تارةً وبالظالمين أُخرى، ووصف مَن يعصي حكم الإنجيل بالفاسقين. كل ما في الأمر أنّ الزمام الأعلى للحكم الإسلامي الذي أنزله الله تعالى في القرآن، مهيمناً على الملل السابقة.

وإنّما تمنّى أمير المؤمنين (ع) إنجاز ذلك، وإنّما يقوم المهدي (ع) به، تطبيقاً لهذا التأكيد القرآني الذي سمعناه.

ويمكن فهم هذا التأكيد على أساس عدّة أُطروحات محتملة:

الأُطروحة الأُولى: أن يُراد من تطبيق هذه الكتب: تطبيق ما أمرت به من الدخول في الإسلام، وبشّرت به من وجود نبي الإسلام. وسيكون هذا واضحاً في النسخ التي سوف يجيء بها المهدي (ع) من هذه الكتب.

وهذا هو الفهم التقليدي لهذه الآيات القرآنية، وهو فهم محترم لولا أنّه يخالف ظاهر بعض الآيات، فإنّ قوله تعالى:( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ إلى أن يقول:وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ظاهر بأنّ المطلوب هو تطبيق هذه الأحكام نفسها التي عدّدتها الآية الكريمة. وقوله:( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ... لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) ظاهر بأنّ الرفاه الاجتماعي ناتج عن إقامة الأحكام التفصيلية للكتب نفسها، وقَصْرها على مجرّد تبشيرها بالإسلام، خلاف

____________________

(١) ٥ / ٤٤ - ٤٨.

(٢) ٥ / ٦٦.

٦٠٩

الظاهر لا يُصار إليه إلاّ بدليل.

الأُطروحة الثانية: أن يراد من تطبيق هذه الكتب، تطبيق أحكامها جملةً وتفصيلاً، وخاصةً تلك الكتب التي يخرجها المهدي (ع) ويثبت أنّها هي التوراة والإنجيل الواقعية.

إلاّ أنّ هذه الأُطروحة غير محتملة؛ لأنّ في هذه الكتب ناسخ ومنسوخ، وكلها منسوخة بشريعة الإسلام؛ فالتوراة ناسخة للشرائع السابقة عليها، والإنجيل ناسخ لأحكام التوراة، والقرآن ناسخ لأحكام الإنجيل. ومعنى كونه منسوخاً أنّه يجب العمل عليه في حكم الله عزّ وجلّ، بل يجب العمل فقط على الشريعة الأخيرة الناسخة لكل الشرائع السابقة، والتي ليس بعدها ناسخ لها، وهي الإسلام؛ ومعه، لا معنى للعمل بالأحكام التفصيلية للشرائع السابقة.

وهذا النسخ لا يختلف فيه الحال بين المسلمين وبين اليهود والنصارى، فليس من الصحيح أنّ أحكام التوراة - مثلاً - منسوخة بالنسبة إلى المسلمين، ولكنّها سارية المفعول على اليهود؛ لأنّ الشرائع المتأخّرة عن التوراة إن لم تكن صحيحة، كانت تلك الأحكام منسحبة عن كل البشر، ولا معنى للتفريق.

على أنّ بعض هذه الكتب لا يحتوي على أحكام بالمرّة، أو يحتوي على شيءٍ قليل لا يكفي لتطبيق العدل: كالزبور والإنجيل نفسه.

الأُطروحة الثالثة: تطبيق هذه الكتب من زاوية عدد من الأحكام المهمّة التي أعربت عنها، وليس المراد تطبيقها جملةً وتفصيلاً.

فإنّ هناك من الأحكام ما كان ناشئاً من فهم معيّن للعدل والقانون بشكلٍ عام، حتى أصبح عدد من واضحاتها ضروري التطبيق في المجتمعات البشرية كلها على خط وجودها الطويل، منذ أن استطاعت تطبيق الشرائع.

وحيث يكون فهم العدل والقانون في الشرائع السماوية عموماً واحداً، أعني الشرائع بشكلها الواقعي، فإنّها صادرة من مصدر واحد حكيم لا نهائي في علمه وقدرته؛ كانت الأحكام الأساسية مشتركة ما بين الشرائع، لا تختلف إلاّ في حدود اختلاف الحاجات التربوية التي تمرّ بها المجتمعات.

وإذ يكون هذا الفهم العام موجوداً أيضاً في دولة العدل العالمية، لكن بشكل معمّق

٦١٠

وموسّع، يكون من المنطقي جدّاً: أن يكون تطبيق الأحكام الأساسية المشتركة الناشئة من ذلك الفهم مطلوباً أيضا ًفي هذه الدولة، مضافاً إلى الأحكام الأُخرى المطبّقة فيها.

وهذا التطبيق يكون عامّاً على كل البشر وغير خاص بأهل الملل السابقة، بل تدخل هذه الأحكام في ضمن قوانين الدولة العالمية، ويكون هو المراد من تطبيق هذه الكتب والحكم بمؤديات أحكامها، فإنّ تطبيق أحكامها الأساسية والفهم العام الذي تقوم عليه، يعتبر تطبيقاً لها، مضافاً إلى تطبيق تبشيراتها بالإسلام، واليوم الموعود، يوم العدل العالمي.

وهذه الأُطروحة صحيحة، بمعنى أنّها منسجمة مع سائر النصوص، ولا دليل على بطلانها، في تعيّن القول بصحّتها، مع بطلان الأُطروحتين السابقتين.

ولا ينافي صحّة هذه الأُطروحة، أن نلتزم بصحّة الأُطروحة الآتية لو رأينا الدليل عليها تامّاً، فإنّهما أطروحتان غير متنافيتين.

الأُطروحة الرابعة: أن يكون المراد من تطبيق التوراة والإنجيل، تطبيقهما على أهل الملل المؤمنين بهما دون غيرهم.

لكن لا بمعنى التفريق بينهم وبين غيرهم بشكلٍ كامل، الأمر الذي نفيناه فيما سبق، بحيث يكون الشامل لهؤلاء خصوص أحكام هذه الكتب دون سائر قوانين وأنظمة الدولة العالمية، بل إنّ هذه القوانين شاملة للجميع، ويختص هؤلاء بأحكام كتبهم، ريثما يدخلون في الإسلام تدريجيّاً.

وفي كل مادة قانونية اختلف فيه قانون الدولة عن حكم الكتب، كان الحاكم العادل مخيّراً بين تطبيق قانونه أو قانونهم عليهم، كما أفتى به الفقهاء المسلمون أيضاً، واستفادوا ذلك من قوله تعالى:

( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) (١) .

يعني أحكم بينهم بحكم الإسلام، أو أعرض عنهم ودعهم ليطبّقوا أحكامهم الخاصّة.

وهذا هو الأنسب مع نصوص الأخبار التي سمعنا بهذا الصدد، حيث قالت: إنّ أحكام التوراة تُطبّق على أهل التوراة، وأحكام الإنجيل تُطبّق على أهل الإنجيل.

____________________

(١) ٥ / ٤٢.

٦١١

وعلى أيّ حال، فقد تكون كلا الأُطروحتين الثالثة والرابعة صادقتين، ومعه لا تكون الأُطروحة الثالثة منافية مع هذا الظهور الذي أشرنا إليه في الأخبار، كما هو غير خفي.

هذا وسيأتي في الكتاب القادم، ما يلقي ضوءاً إضافيّاً على فهم النصوص.

الناحية الرابعة: في وضع الجِزْية على أهل الكتاب.

صرّحت عدد من الأخبار السابقة، بأنّ السياسة العامّة للدولة العادلة مع أهل الكتاب، ما داموا لم يسلموا، هي إقرارهم على دينهم وأخذ الجزية منهم، كما كان عليه الحكم الإسلامي قبل الظهور، وكما طبّقه رسول الله (ص)، وبقي عليه الحكم المسلم ردحاً طويلاً من الزمن.

كل ما في الأمر أنّ بعض الأخبار نسبت هذه السياسة إلى المسيح عيسى بن مريم (ع)، وبعضها نسبته إلى المهدي (ع)؛ وقد عرفنا أنّ هذا اختلاف شكلي يعود إلى عمل واحد وأهداف مشتركة، يقوم بها هذان القائدان على السواء.

وهذا هو الظاهر من قوله: يضع الجِزْية. يعني يشرّعها ويطبّقها، بعد أن كانت مرتفعة بعد انحسار الحكم الإسلامي قبل الظهور، وهذا هو المشهور في الأخبار كما سمعنا، والموافق للقاعدة الإسلامية المعروفة الواضحة قبل الظهور.

غير أنّنا سمعنا في خبر منها: تخيير المهدي (ع) لليهود والنصارى بين الإسلام والقتل، كما يفعل بسائر المشركين والملحدين في العالم. وهو الرأي الذي مال إليه المجلسي في البحار(١) حيث نسمعه يقول:

وقوله: ( ويضع الجِزْية معناه: أنّه يضعها من أهل الكتاب ويحملهم على الإسلام ).

وهذا أمر محتمل في التصوّر على أيّ حال، حيث يكون ذلك من التشريعات المهدوية الجديدة التي تختلف عن الأحكام السابقة. غير أنّه ممّا لا يمكن الالتزام به بعد ظهور الأخبار بتشريع الجِزْية، وهي الأكثر عدداً بشكلٍ زائد.

وعلى أيّ حال، فالقضيّة منحصرة بمن يبقى على دين اليهودية والنصرانية، وهم عدد قليل يومئذٍ على كل حال، بعدما عرفنا من الفُرَص المتزايدة، والتركيز الكبير على نشر الدين الإسلامي في البشر أجمعين.

____________________

(١) ج١٣ ص١٩٨.

٦١٢

الباب السادس

في انتهاء حياة الإمام المهدي (ع)

وهو باب متكوّن من فصلٍ واحدٍ،

نتكلّم خلاله في عدّة جهات:

٦١٣

٦١٤

الجهة الأُولى: إنّ النتائج التي عرفناها فيما يخص المقام، تتلخّص في عدّة أُمور:

الأمر الأوّل: إنّ مدّة بقاء المهدي (ع) بعد ظهوره، ستكون محدودة، قد لا تزيد على العشر سنوات، كما سبق أن رجّحناه.

الأمر الثاني: إنّ المهدي (ع) سيمارس الحكم من حين سيطرته على العالم إلى وفاته، ومن ثم يكون تحديد عمره حين الظهور، تحديد لمدّة حكمه.

الأمر الثالث: إنّ المهمّة التي يتكفّلها المهدي (ع) في دولته، بعد التجاوز عن الأُمور الإدارية، هي وضع الأُسس العامّة لتربية البشرية، من خلال الأُطروحة العادلة الكاملة باتجاه المجتمع المعصوم.

الأمر الرابع: إنّ نظام المهدي (ع) سيبقى بعد وفاته، وستستمر دولته إلى نهاية البشرية أو قريباً من النهاية، وسنوضّح هذه الجهة في القسم الآتي من الكتاب.

ومن هنا لن تكون الآن هذه الأُمور مورداً للبحث، وإنّما نتكلّم عن أُسلوب وكيفيّة موت الإمام المهدي (ع) إذا شاء الله عزّ وجلّ أن يلحقه بالرفيق الأعلى.

الجهة الثانية: في الأخبار التي تنفع بهذا الصدد:

أخرج أبو داود(١) بسنده عن أُمّ سلمة في حديث يقول فيه (ص)عن المهدي (ع):

فيلبث سبع سنين، ثم يتوفّى ويصلّي عليه المسلمون.

____________________

(١) سنن أبي داود ج٢ ص ٤٢٣.

٦١٥

وأخرج ابن طاووس في الملاحم والفتن(١) عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله (ص):

( أُبشّركم بالمهدي... إلى أن قال: فيكون ذلك سبع سنين أو ثمان سنين أو تسع سنين. ثم لا خير في العيش بعده، أو قال: لا خير في الحياة بعده ).

وأخرج الأربلي(٢) عن أربعين الأصفهاني بسنده عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله (ص):

( لو لم يبق من الدنيا إلاّ ليلة؛ لطوّل الله تلك الليلة حتى يملك رجل من أهل بيتي... إلى أن قال: فيملك سبعاً أو تسعاً، لا خير في عيش الحياة بعد المهدي.

وقال في البحار(٣) : على ما ورد عنهم (صلوات الله عليهم) فيما تقدّم من: أنّ الحسين بن علي (ع) هو الذي يغسّل المهدي (ع) ويحكم في الدنيا ما شاء الله.

وقال في إلزام الناصب(٤) ملخّص الاعتقاد في الغيبة والظهور، ورجعة الأئمّة لبعض العلماء، ويقول فيما يقول:

فإذا تمّت السبعون سنة أتى الحجّة الموت فتقتله امرأة من بني تميم اسمها سعيدة. ولها لحية كلحية الرجل بجاون صخر من فوق سطح، وهو متجاوز في الطريق. فإذا مات تولّى تجهيزه الحسين (ع)... الخ.

الجهة الثالثة: إنّ التبادر الأوّلي في الذهن الاعتيادي، هو أن يموت المهدي (ع) حتف أنفه كما يموت سائر الناس، غير أنّه في الإمكان الالتفات إلى عدّة وجوه مقرِّبة لإثبات قتله:

الوجه الأوّل: الخبر المـُرسَل عن الإمام الصادق (ع):

____________________

(١) ص ١٣٥.

(٢) ج٣ص٢٦٤.

(٣) ج١٣ ص٢٢٩.

(٤) ص١٩٠.

٦١٦

( ما منّا إلاّ مقتول أو شهيد ) (١) .

والمراد به أنّ الأئمّة المعصومين (ع) لابد أن يخرجوا من الدنيا بحادث تخريبي خارجي، ولن يموت واحد منهم حتف أنفه، بمَن فيهم الإمام المهدي نفسه، بحسب الفهم الإمامي.

إلاّ أنّ هذا الخبر قاصر عن الإثبات التاريخي، باعتباره خبراً مرسلاً لم تذكر له المصادر سنداً.

الوجه الثاني: ما أشرنا إليه في تاريخ الغيبة الصغرى(٢) من الفكرة التقليدية القائلة بأنّ النبي (ص) والأئمّة (ع) قد خلقت بنيتهم الجسدية قويّة كاملة، لا تكون قابلة للموت والتلف إلاّ بعارضٍ خارجي، فلو لم يحدث شيء على المعصوم، لكان قابلاً للبقاء إلى الأبد. ولكن طبقاً للقانون العام للموت الذي أعربت عنه الآية:

( كلُّ نفسٍ ذائقة الموت ) (٣) .

لابد أن يطرأ عارض خارجي كالقتل ونحوه على كل معصوم؛ لكي يكون هو السبب في انتهاء حياته. وهذه الفكرة تشمل الإمام المهدي (ع) بطبيعة الحال.

وقد ذكرنا في تاريخ الغيبة الصغرى(٤) ما يصلح أن يكون مثبّتاً لهذه الفكرة، وعرفنا هناك أنّها غير صالحة للإثبات؛ فلا يكون هذا الوجه صحيحاً.

الوجه الثالث: النص الأخير الذي نقلناه مع الروايات عن إلزام الناصب، فإنّه يصرّح بأنّ المهدي يموت مقتولاً، ويذكر طريقة موته، وسنعرض مضمونها ونناقشه في الجهات الآتية. والمهم الآن: أنّها هل تصلح دليلاً على إثبات هذه الفكرة بمجرّدها، وهي: أنّ المهدي (ع) يموت مقتولاً؟

والصحيح أنّ هذا النص غير قابل للإثبات أساساً؛ لأنّه ليس رواية عن أحد المعصومين بل عن بعض العلماء، وهذا العالِم لم نعرف اسمه. ولو كان هذا النص إشارة إلى مضامين الروايات - كما هو المضمون - فإنّه يصبح رواية مرسَلة ليس لها أي سند، ولا يعرف الإمام المروي عنه. على أنّ تلك الروايات المشار إليها لا تكون - عادةً - ضعيفة السند وغريبة

____________________

(١) انظر أعلام الورى ص٣٤٩، وتاريخ الغيبة الصغرى ص٢٣٠.

(٢) ص٢٣٠.

(٣) آل عمران: ١٨٥.

(٤) ص٢٣٢.

٦١٧

المضامين، بشكل تسقط معه عن الإثبات التاريخي.

هذا، وستأتي بقيّة مناقشات هذا النص عند التعرّض لتفاصيله.

الوجه الرابع: استبعاد أنّ المهدي (ع) يموت حتف أنفه، وذكر قرائن معيّنة توجب الظن أو الاطمئنان بكونه غير قابل لمثل هذا الموت خلال سبع أو عشر سنين، بل حتى خلال سبعين عاماً.

فمن ذلك قوّته البدنية الموصوفة في الأخبار، التي سمعناها فيما سبق، والتي في بعضها أنّه لو مدّ يده إلى شجرة عظيمة لقلعها، ولو صاح بالجبال لتدكدكت، وقد وُصف بدنه بالضخامة وعظامه بالخشونة ووجهه بالحمرة، ممّا يدل على قوّة بنيته إلى حدٍّ بعيد.

ومن ذلك غيبته المترامية في الطول، بحسب الفهم الإمامي فإنّ مَن عاش هذه القرون، قابل لأن يعيش ردحاً طويلاً من الزمن.

مضافاً إلى ما سبق أن قلناه من أنّ فترات عمر الإنسان، كالشباب والكهولة، تنقسم من عمره بنسب معيّنة، فإن كان العمر طبيعياً كالمعهود، كانت كل فترة خمسة عشر عاماً أو عشرين مثلاً، وإن كان أطول كانت الفترات مقسّمة بنفس النسبة لكن بسنوات أكثر، على مقدار العمر المفترَض، فقد تكون فترة الشباب خمسمئة عام وهكذا.

فإذا علمنا أنّ الإمام المهدي يظهر بعد أكثر من ألف عام وهو في آخر الشباب، في عمر الأربعين، كما سمعنا من الأخبار، إذاً فقد بقيت فترات أُخرى من عمره لم يمر بها بعد وهي في الكهولة والشيخوخة، ويحتاج من خلال عمره الطويل أن يمر بنفس المقدار السابق من السنين تقريباً؛ لكي يستوفي هاتين الفترتين.

ومن ذلك، ما عرفناه مفصّلاً من الخبرة العميقة التي تكون لدى الإمام المهدي، بما فيها من خبرات طبيّة تعود إلى أُسلوب العناية بالجسم وإبقائه صحيحاً معافى إلى أكبر حدّ ممكن.

إلى قرائن أُخرى تدعم الظن، بأنّ الإمام المهدي لن يموت بهذه السرعة بدون حادث تخريبي خارجي.

وهذه القرائن قائمة، ولا نافي لها، إلاّ أنّها تعدو الظن، ولا تصل إلى درجة الإثبات التاريخي بطبيعة الحال.

وإذا لم يتم شيء من هذه الوجوه، كان احتمال موته حتف الأنف قابلاً للإثبات التاريخي؛ لأنّه القاعدة العامّة في البشر، حيث لا يوجد حادث خارجي.

٦١٨

الجهة الرابعة: إنّ الخبر الأخير الدال على كيفية مقتله (ع)، يحتوي على عدّة نقاط ضعف، غير ما سبق:

النقطة الأُولى: إنّ الأمام المهدي يُقتل بحادث عمدي تخريبي، أو بمؤامرة مدبّرة ضدّه، وهذا بعيد جدّاً، بعد أن استطاع المهدي تربية البشرية بشكلٍ عام، وإحراز الرأي العام لعدالة نظامه وعظمة شخصه، وما له من المميّزات والقدرات، الأمر الذي يخلّف أفضل الأثر في نفوس الناس وأعظم الاحترام، ممّا يستبعد معه تفكير أيّ منهم في التآمر ضدّه.

وسيدرك الناس تدريجيّاً وبسرعة: المبرّرات الواقعية التي قام المهدي بموجبها بحملات القتل الكثير في أوّل ظهوره، وسيعرفون أنّهم قد استفادوا من ذلك فائدةً كبيرة، إذ مع وجود أولئك المنحرفين لا يمكن إقامة العدل، ولا شمول السعادة والرفاه، ومعه لن يكون لتلك الحوادث انعكاس سيّئ في النفوس ليوجب تآمر البعض للإجهاز عليه.

ومعه، يكون ما دلّ عليه الخبر من وجود التآمر بعيد جدّاً.

النقطة الثانية: يدل الخبر على أنّ المهدي (ع) يُقتل بجاون صخر يقع عليه، من أعلى وهو ماشٍ في الطريق، والجاون آلة قديمة لسحق الأشياء ودقّها: كالحبوب، وهو عبارة عن جسم مجوّف ثقيل الوزن له فتحة من أعلاه توضع فيه الحبوب، ويلحق به جسم اسطواني ضخم للدق فيه، وهو قد يُعمل من الصخر وقد يُعمل من الخشب.

واستعمال مثل هذه الآلة في العصر المهدوي القائم على العمق الحضاري والعمق المدني معاً، كما سبق أن برهنّا، أمر غير محتمل، كما أنّ وجوده على السطح في مثل هذه البيوت القديمة التي كان يوجد فيها، أمر غير محتمل لثقله وقوّة الضرب فيه، ممّا يوجب انهدام السطح، وإنّما كان يستعمل عادةً على الأرض.

وقد يخطر في الذهن: أنّه في الإمكان حمل ( الجاون ) على بعض الآلات المتطوّرة كما حملنا السيف على كل آلة للقتال.

وهذا أمر محتمل، إلاّ أنّ جوّ الخبر ينافيه، ويدل على نفيه كما هو واضح، بخلاف مثل قولنا: إنّ المهدي يظهر بالسيف، فإنّ معناه: أنّه يظهر حاملاً للسلاح، وليس في تلك الأخبار ما يدل على نفي هذا المعنى.

النقطة الثالثة: يدل الخبر على أنّ المرأة التي تقتله ذات لحية كلحية الرجل.

وهذا المعنى له عدّة محتملات كلها فاسدة، فيكون أصل المعنى فاسداً.

٦١٩

الاحتمال الأوّل: أن يكون لهذه المرأة شعر غير قليل في مكان اللحية حرصت على تنميته وإظهاره. وهذا ما قد يحدث لبعض النساء وإن كان نادراً. غير أنّ اللحية عندئذٍ لا تكون كلحية الرجل، بل لا تكون لحية إلاّ مجازاً؛ لأنّ المناطق الخالية من الشعر كثيرة جدّاً، فهي أشبه بلحية الرجل الأحص أو الأكوس، لا بلحية الرجل الطبيعي، مع أنّ ظاهر الخبر: أنّها كلحية الرجل الطبيعي.

الاحتمال الثاني: أن يكون لهذه المرأة لحية كلحية الرجل تماماً، وهذا مقطوع العدم؛ لأنّه لم يحدث في التاريخ لأيّ امرأة، ممّا يدل على أنّ الجنس الناعم مناف مع وجود مثل هذه اللحية خَلْقيّاً.

ويجيب الفكر التقليدي على ذلك:أنّه ما من عام إلاّ وقد خُصّ، وقدرة الله تعالى شاملة لمثل ذلك، ومن ثم توجد هذه المرأة بلحيتها لتكون هي القاتلة للإمام المهدي بعد ظهوره.

والجواب على ذلك: أنّه بعد التجاوز عمّا قلناه من عدم قابليّة الخبر للإثبات، بالرغم من أنّ الفكر التقليدي قائم على قبوله وقبول أمثاله تعبّداً.

إنّ هذه المرأة لو وُجدت في عصر الظهور، وعاشت بين الناس وأظهرت لحيتها، والتفت الناس إلى هذه الظاهرة النادرة، وكان مفكروهم وعلماؤهم قد قرأوا في الكتب أنّ مثل هذه المرأة تقتل المهدي.. إذاً فسوف تتعيّن هذه المرأة لقتل المهدي قبل أن تقوم به بسنين، وسوف يقع على ذلك كلام كثير ومناقشات، وسوف يسأل المهدي (ع) نفسه عنها، وسوف يكون للدولة تجاهها موقف معيّن لا نستطيع الآن أن نعرف كنهه، ليس هو غضّ النظر عنها وإهمالها بالمرّة على أيّ حال، فقد لا تكون النتيجة تماماً كما يتوقّع الفكر التقليدي أن يكون.

الاحتمال الثالث: أن تكون هذه المرأة طبيعية الخَلْق كباقي النساء، ولكنّها تضع لحية على نحو الاستعارة، على شكل باروكة تضعها على وجهها تشبّهاً بالرجل، وهذا الاحتمال له صورتان:

الصورة الأُولى: أن يفترض أنّه يوجد للنساء اتجاه عام لوضع اللحى المستعارة على الذقون، وتكون المرأة القاتلة واحدة من هؤلاء النساء.

إلاّ أنّ وجود مثل هذا الاتجاه في دولة العدل العالمية من غير المحتمل أن يوجد، بعد أن انتهت قصّة ( تشبّه النساء بالرجال ) بالظهور نفسه، وتمّ القضاء على جذورها

٦٢٠

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679