موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)8%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 679

الجزء ١ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 212399 / تحميل: 11104
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

التدريجي وقبول الانقسام والتجزّي - لكان مادّيّاً متغيّراً وقابلاً للانقسام، وليس كذلك، فإنّ كلّ أحدٍ إذا رجع إلى هذه المشاهدة النفسانيّة اللاّزمة لنفسه، وذكر ما كان يجده من هذه المشاهدة منذ أوّل شعوره بنفسه ؛ وجده معنىً مشهوداً واحداً باقياً على حاله من غير أدنى تعدّدٍ وتغيّر، كما يجد بدنه وأجزاء بدنه، والخواصّ الموجودة معها متغيّرة متبدّلة من كلّ جهةٍ في مادّتها وشكلها وسائر أحوالها وصورها، وكذا وجده معنىً بسيطاً غير قابلٍ للانقسام والتجزّي، كما يجد البدن وأجزائه وخواصّه - وكلّ مادّة وأمرٍ مادّيٍّ كذلك - ؛ فليست النفس هي البدن ولا جزءاً من أجزائه، ولا خاصّة من خواصّه، سواء أدركناه بشيءٍ من الحواسّ، أو بنحوٍ من الاستدلال، أو لم ندرك ؛ فإنّها جميعاً مادّية كيفما فُرضت، ومن حكم المّادة التغيّر وقبول الانقسام، والمفروض أنْ ليس في مشهودنا المسمّى بالنفس شيء من هذه الأحكام ؛ فليست النفس بمادّيّة بوجه.

وأيضاً، هذا الذي نشاهده، نشاهده أمراً واحداً بسيطاً، ليس فيه كثرة من الأجزاء، ولا خليط من خارج، بل هو واحد صِرْف، فكلّ إنسانٍ يشاهد ذلك من نفسه، ويرى أنّه هو وليس بغيره، فهذا المشهود أمرٌ مستقلٌّ في نفسه، لا ينطبق عليه حدّ المادّة، ولا يوجد فيه شيء من أحكامها اللاّزمة، فهو جوهر مجرّد عن المادّة متعلّق بالبدن نحو تعلّق يوجب اتحاداً ما له بالبدن، وهو التعلّق التدبيري ؛ وهو المطلوب.

وقد أنكر تجرّد النفس جميع المادّيّين، وجمعٌ من الإلهيّين من المتكلّمين والظاهريّين من المحدثين، واستدلّوا على ذلك، وردّوا ما ذُكر من البرهان بما لا يخلو عن تكلّف من غير طائل.

قال المادّيّون: إنّ الأبحاث العلميّة على تقدّمها وبلوغها اليوم إلى غاية

٤١

الدقّة في فحصها وتجسّسها، لم تجد خاصّة من الخواصّ البدنيّة إلاّ وجدت علّتها المادّيّة، ولم تجد أثراً روحيّاً لا يقبل الانطباق على قوانين المادّة حتّى تحكم بسببها بوجود روح مجرّدة.

قالوا: وسلسلة الأعصاب تؤدّي الإدراكات إلى العضو المركزي وهو الجزء الدماغي، على التوالي وفي نهاية السرعة، ففيه مجموعة متّحدة ذات وضع واحد لا يتميّز أجزائها ولا يُدرك بطلان بعضها وقيام الآخر مقامه، وهذا الواحد المتحصّل هو نفسنا التي نشاهدها ونحكي عنها ب-: أنا.

فالذي نرى أنّه غير جميع أعضائنا صحيح، إلاّ أنّه لا يثبت أنّه غير البدن وغير خواصّه، بل هو مجموعة متّحدة من جهة التوالي والتوارد لا نغفل عنه، فإنّ لازم الغفلة عنه - على ما تبيّن - بطلان الأعصاب، ووقوفها عن أفعالها وهو الموت، والذي نرى أنّه ثابت صحيح لكنّه لا من جهة ثباته وعدم تغيّره في نفسه بل الأمر مشتبه على المشاهدة من جهة توالي الواردات الإدراكيّة وسرعة ورودها، كالحوض الذي يرد عليه الماء من جانب ويخرج من جانب بما يساويه وهو مملوء دائماً، فما فيه من الماء يجده الحسّ واحداً ثابتاً، وهو بحسب الواقع لا واحدٌ ولا ثابت، وكذا يجد عكس الإنسان، أو الشجر أو غيرهما فيه واحداً ثابتا، وليس واحداً ثابتاً بل هو كثيرٌ متغيّر تدريجاً بالجريان التدريجي الذي لأجزاء الماء فيه، وعلى هذا النحو وجود الثبات والوحدة والشخصيّة التي نرى في النفس.

قالوا: فالنفس التي يُقام البرهان على تجرّدها من طريق المشاهدة الباطنيّة، هي في الحقيقة مجموعة من خواصّ طبيعيّة، وهي: الإدراكات العصبيّة، التي هي نتائج حاصلة من التأثير والتأثّر المتقابلين بين جزء المادّة الخارجيّة وجزء المركّب العصبي، ووحدتها وحدة اجتماعيّة لا وحدة واقعيّة حقيقيّة.

٤٢

أقول : أمّا قولهم: ( إنّ الأبحاث العلميّة المبتنية على الحسّ والتجربة، لم تظفر في سيرها الدقيق بالروح، ولا وجدت حكماً من الأحكام غير قابل التعليل إلاّ بها )، فهو كلام حقٍّ لا ريب فيه، لكنّه لا ينتج انتفاء النفس المجرّدة التي أُقيم البرهان على وجودها، فإنّ العلوم الطبيعيّة الباحثة عن أحكام الطبيعة، وخواص المادّة، إنّما تقدر على تحصيل خواصّ موضوعها الذي هو المادّة، وإثبات ما هو من سنخها، وكذا الخواص والأدوات المادّيّة، التي نستعملها لتتميم التجارب المادّيّة، إنّما لها أن تحكم في الأُمور المادّيّة، وأمّا ما وراء المادّة والطبيعة فليس لها أن تحكم فيها نفياً ولا إثباتاً، وغاية ما يشعر البحث المادّي به هو عدم الوجدان، وعدم الوجدان غير عدم الوجود، وليس من شأنه - كما عرفت - أن يجد ما بين المادّة التي هي موضوعها ولا بين أحكام المادّة وخواصّها، التي هي نتائج بحثها، أمراً مجرّداً خارجاً عن سنخ المادّة، وحكم الطبيعة.

والذي جرّأهم على هذا النفي ؛ زعمهم أنّ المثبتين لهذه النفس المجرّدة، إنّما أثبتوها لعثورهم إلى أحكام حيويّة من وظائف الأعضاء، ولم يقدروا على تعليلها العلمي، فأثبتوا النفس المجرّدة لتكون موضوعاً مُبْدئاً لهذه الأفاعيل، فلمّا حصل العلم اليوم على عللها الطبيعيّة لم يبق وجهٌ للقول بها. ونظير هذا الزعم ما زعموه في باب إثبات الصانع.

وهو اشتباهٌ فاسدٌ، فإنّ المثبتين لوجود هذه النفس لم يثبتوها لذلك، ولم يسندوا بعض الأفاعيل البدنيّة إلى البدن، فيما علله ظاهرة، وبعضها إلى النفس فيما علله مجهولة، بل أسندوا الجميع إلى العلل البدنيّة بلا واسطة وإلى النفس بواسطتها، وإنّما أسندوا إلى النفس ما لا يمكن إسناده إلى البدن ألبتّة، وهو علم الإنسان بنفسه ومشاهدته ذاته، كما مرّ.

٤٣

وأمّا قولهم: ( إنّ الإنيّة المشهودة للإنسان على صفة الوحدة، هي عدّة من الإدراكات العصبيّة الواردة على المركز، على التوالي، وفي نهاية السرعة - ولها وحدة اجتماعية - ) فكلام لا محصّل له، ولا ينطبق عليه الشهود النفساني ألبتّة، وكأنّهم ذهلوا عن شهودهم النفساني ؛ فعدلوا عنه إلى ورود المشهودات الحسّيّة إلى الدماغ، واشتغلوا بالبحث عمّا يلزم ذلك من الآثار التالية، وليت شعري، إذا فرض أنّ هناك أُموراً كثيرة بحسب الواقع لا وحدة لها ألبتّة، وهذه الأُمور الكثيرة التي هي الإدراكات أُمور مادّيّة ليس ورائها شيء آخر إلاّ نفسها، وأنّ الأمر المشهود الذي هو النفس الواحدة هو عين هذه الإدراكات الكثيرة، فمِن أين حصل هذا الواحد الذي لا نشاهد غيره ؟!

ومن أين حصلت هذه الوحدة المشهودة فيها عياناً ؟!

والذي ذكروه من وحدتها الاجتماعية كلام أشبه بالهزل منه بالجد ؛ فإنّ الواحد الاجتماعي هو كثير في الواقع من غير وحدة، وإنّما وحدتها في الحسّ أو الخيال - كالدار الواحد والخطّ الواحد مثلاً - لا في نفسه، والمفروض، في محلّ كلامنا، أنّ الإدراكات والشعورات الكثيرة في نفسها هي شعور واحد عند نفسها، فلازم قولهم:

إنّ هذه الإدراكات في نفسها كثيرة لا ترجع إلى وحدة أصلاً، وهي بعينها شعور واحد نفساني واقعاً، وليس هناك أمر آخر له هذه الإدراكات الكثيرة فيدركها على نعت الوحدة، كما يدرك الحاسّة أو الخيال المحسوسات، أو المخيّلات الكثيرة المجتمعة على وصف الوحدة الاجتماعية، فإنّ المفروض أنّ مجموع الإدراكات الكثيرة في نفسها، نفس الإدراك النفساني الواحد في نفسه، ولو قيل: إنّ المُدْرك هاهنا الجزء الدماغي، يدرك الإدراكات الكثيرة على نعت الوحدة ؛ كان الإشكال بحاله، فإنّ المفروض: أنّ إدراك الجزء الدماغي نفس هذه الإدراكات الكثيرة

٤٤

المتعاقبة بعينها، لا أنّ للجزء الدماغي قوّة إدراك تتعلّق بهذه الإدراكات، كتعلّق القوى الحسيّة بمعلوماتها الخارجيّة وانتزاعها منها صوراً حسّيّة، فافهم ذلك.

والكلام في كيفيّة حصول الثبات والبساطة في هذا المشهود، الذي هو متغيّر متجزّئ في نفسه كالكلام في حصول وحدته، مع أنّ هذا الفرض أيضاً - أعني أن تكون الإدراكات الكثيرة المتوالية المتعاقبة مشعورةً بشعورٍ دماغيٍّ على نعت الوحدة - نفسه فرض غير صحيح، فما شأن الدماغ والقوّة التي فيه، والشعور الذي لها، والمعلوم الذي عندها ؟!

وهي جميعاً أُمورٌ مادّيّةٌ، ومن شأن المادّة والمادّي الكثرة والتغيّر وقبول الانقسام، وليس في هذه الصورة العلميّة شيء من هذه الأوصاف والنعوت، وليس غير المادة والمادي هناك شيء.

وقولهم: ( إنّ الأمر يشتبه على الحسّ أو القوّة المُدْرِكة، فيدرك الكثير المتجزّي المتغيّر واحداً بسيطاً ثابتاً ) غلط واضح، فإنّ الغلط والاشتباه من الأُمور النسبيّة التي تحصل بالمقايسة والنسبة، لا من الأُمور النفسيّة، مثال ذلك أنّا نشاهد الأجرام العظيمة السماويّة صغيرة كالنقاط البيض، ونغلط في مشاهدتنا هذه على ما تبيّنه البراهين العلميّة، وكثير من مشاهدات حواسّنا، إلاّ أنّ هذه الأغلاط، إنّما تحصل وتوجد إذا قايسنا ما عند الحسّ ممّا في الخارج من واقع هذه المشهودات، وأمّا ما عند الحسّ في نفسه، فهو أمرٌ واقعيٌّ كنقطة بيضاء لا معنى لكونه غلطاً ألبتّة.

والأمر فيما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ حواسّنا وقوانا المُدْرِكة إذا وجدت الأُمور الكثيرة المتغيِّرة المتجزّية على صفة الوحدة والثبات والبساطة ؛ كانت القوى المُدْرِكة غالطة في إدراكها، مشتبهة في معلومها

٤٥

بالقياس إلى المعلوم الذي في الخارج، وأمّا هذه الصورة العلميّة الموجودة عند القوّة فهي واحدة ثابتة بسيطة في نفسها ألبتّة، ولا يمكن أن يُقال للأمر الذي هذا شأنه: إنّه مادّي لفقده أوصاف المادّة العامّة.

فقد تحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ الحجّة التي أوردها المادّيون من طريق الحسّ والتجربة إنّما ينتج عدم الوجدان، وقد وقعوا في المغالطة بأخذ عدم الوجود ( وهو مدَّعاهم ) مكان عدم الوجدان، وما صوّروه لتقرير الشهود النفساني - المثبت لوجود أمرٍ واحدٍ بسيطٍ ثابتٍ - تصوير فاسد، لا يوافق لا الأُصول المادّيّة المسلِّمة بالحسّ والتجربة، ولا واقع الأمر الذي هو عليه في نفسه.

وأمّا ما افترضه الباحثون في علم النفس الجديد، في أمر النفس، وهو أنّه الحالة المتّحدة الحاصلة من تفاعل الحالات الروحيّة من الإدراك والإرادة والرضا والحب وغيرها، المنتجة لحالة متّحدة مؤلّفة، فلا كلام لنا فيه، فإن لكلّ باحثٍ أنّ يفترض موضوعاً، ويضعه موضوعاً لبحثه، وإنّما الكلام فيه من حيث وجوده وعدمه في الخارج والواقع، مع قطع النظر عن فرض الفارض وعدمه، وهو البحث الفلسفي، كما هو ظاهر على الخبير بجهات البحث.

وقال قوم آخرون من نُفاة تجرّد النفس من الملِّيّين: إنّ الذي يتحصّل من الأُمور المربوطة بحياة الإنسان: كالتشريح والفيزيولوجي، إنّ هذه الخواص الروحيّة الحيويّة تستند إلى جراثيم الحياة والسلولات التي هي الأُصول في حياة الإنسان، وسائر الحيوان، وتتعلّق بها، فالروح خاصّة، وأثر مخصوص فيها لكلّ واحدٍ منها أرواح متعدّدة، فالذي يسمّيه الإنسان روحاً لنفسه، ويحكي عنه ب-: أنا: مجموعة متكوّنة من أرواح غير محصورة على نعت الاتحاد

٤٦

والاجتماع، ومن المعلوم أنّ هذه الكيفيّات الحيويّة، والخواصّ الروحيّة، تبطل بموت الجراثيم والسلولات، وتفسد بفسادها، فلا معنى للروح الواحدة المجرّدة الباقية بعد فناء التركيب البدني، غاية الأمر أنّ الأُصول المادّيّة المكتشَفة بالبحث العلمي لمّا لم تفِ بكشف رموز الحياة ؛ كان لنا أن نقول: إنّ العلل الطبيعيّة لا تفي بإيجاد الروح، فهي معلولة لموجود آخر وراء الطبيعة، وأمّا الاستدلال على تجرّد النفس من جهة العقل محضاً فشيء لا يقبله ولا يصغي إليه العلم اليوم، لعدم اعتمادها على غير الحسّ والتجربة، هذا.

أقول : وأنت خبير بأنّ جميع ما أوردناه على حجّة الماديّين وارد على هذه الحجّة المختلَقة من غير فرق، ونزيدها أنّها مخدوشة:

أوّلاً : بأنّ عدم وفاء الأُصول العلميّة المكتَشَفة إلى اليوم ببيان حقيقة الروح والحياة، لا ينتج عدم وفائها أبداً، ولا عدم انتهاء هذه الخواص إلى العلل المادّيّة في نفس الأمر على جهلٍ منّا، فهل هذا إلاّ مغالطة وُضع فيها العلم بالعدم مكان عدم العلم ؟!

وثانياً : بأنّ استناد بعض حوادث العالم - وهي الحوادث المادّيّة - إلى المادّة وبعضها الآخر - وهي الحوادث الحيويّة - إلى أمر وراء المادّة - وهو الصانع - قول بأصلين في الإيجاد، ولا يرتضيه المادّي ولا الإلهي، وجميع أدلّة التوحيد تُبطله.

وهنا إشكالات أُخر أوردوها على تجرّد النفس، مذكورة في الكتب الفلسفيّة والكلاميّة، غير أنّ جميعها ناشئة عن عدم التأمّل والإمعان فيما مرّ من البرهان، وعدم التثبّت في تعقّل الغرض منه ؛ ولذلك أضربنا عن إيرادها، والكلام

٤٧

عليها، فمَن أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع إلى مظانّها، والله الهادي(١) انتهى كلامه.

وأمّا الكلام في الجهة الثانية - وهي دلالة القرآن والسنّة على أنّ للإنسان روحاً ونفساً غير البدن، فنقتصر فيه على نقل جملةٍ من الآيات الكريمة:

١ -( وَ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ‌ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‌ ) (آل عمران ١٦٩ - ١٧١ ).

٢ -( وَ لاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَ لٰکِنْ لاَ تَشْعُرُونَ‌ ) ( البقرة ١٥٤ ).

٣ - (وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غُدُوّاً وعشيّاً ويوم تقوم الساعة أدْخِلُوا آل فروعون أشدّ العذاب ) ( المؤمن ٤٥ - ٤٦ ).

واعلم أنّ هذه الآيات الثلاث تدلّ على أمرين:

أوّلهما : الحياة البرزخيّة للشهداء وأئمّة الكفر فقط دون غيرهما، أي لا يُستفاد منها عموم الحياة البرزخيّة للجميع، والاستدلال عليه بآيات أُخر لا يخلو عن منع وإشكال.

ثانيهما : أنّ للإنسان شيئاً آخر وراء البدن لا يموت بموت البدن وفنائه، وهو المستحقّ للثواب والعذاب، وهو الذي يُسمّى بالروح والنفس.

٤ -( فَلَوْ لاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ‌ ) ( الواقعة ٨٣ ).

___________________

(١) ص ٣٦٤ إلى ٣٧٠ ج١ تفسير الميزان.

٤٨

٥ -( کَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِي ) ( القيامة ٢٦ ).

٦ -( إِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ کَافِرُونَ‌ * قُلْ يَتَوَفَّاکُمْ مَلَکُ الْمَوْتِ الَّذِي وُکِّلَ بِکُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّکُمْ تُرْجَعُونَ‌ ) ( السجدة ١٠ ).

أقول : ملك الموت لا يتوفّى الجسم الذي يُدفن في الأرض ويضلّ فيها، بل يتوفّى النفس.

٧ -( وَ لَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلاَئِکَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَکُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ.. ) ( الأنعام ٩٣ ).

٨ -( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِکُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذٰلِکَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَکَّرُونَ‌ ) ( الزمر ٤٢)(١) .

___________________

(١) وقد يُقال أنّ قوله تعالى( هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاکُمْ بِاللَّيْلِ وَ يَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُکُمْ فِيهِ ) ( الأنعام ٦٠ )، يدلّ على موت الإنسان في المنام، والحال أنّه حيّ نائم.

وقد يُجاب عنه بأنّ الموت والنوم يشتركان في انقطاع تصرّف النفس في البدن، كما أنّ البعث بمعنى الإيقاظ بعد النوم يشارك البعث بمعنى الإحياء بعد الموت في عود النفس إلى تصرّفها في البدن بعد الانقطاع، فلأجله عُدت الإنامة توفياً، وإن شئت فقل إنّ التوفّي على قسمين: توفّي مؤقّت وهو الإنامة، وتوفّي يستمر وهو الإماتة كما يُستفاد من قوله تعالى:

( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِکُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الْأُخْرَى... ) ( الزمر آية ٤٢).

ويقول بعض الأطبّاء: إنّ حياة النوم ليست بها حسّ ولا وعي ولا حركة.

ويجب أن نعرف أنّ للنوم درجات، والدرجات السطحيّة منه يخالطها بعض اليقظة، وبعض الحسّ والحركة من تقليب وخلافه.

وأمّا الدرجات العميقة فلا، ونفس الشيء يحدث في التخدير وفقد الوعي المؤقّت، وفقد الوعي الدائم كتلف قشرة المخّ الكامل ( ص ٣٤٤ الحياة الإنسانيّة ).

أقول : وبعد فقد بقى الفرق العلمي بين الموت والنوم، وأخواته المشار إليها، وكذا الجنون وبيانه على عهدة العلوم.

وسيأتي في الفصل الثاني من المسألة التاسعة

=

٤٩

( البحث الرابع ) : النفس والروح مفهومان لحقيقةٍ واحدةٍ، فهما موجود واحد قطعاً، ومهما قيل في الفرق بينهما فهو بلحاظ الاعتبارات والمراتب لا غير، فإنّ كلّ إنسان يُدرك من ضميره أنّه واحد لا اثنان !

وتخيّل التعدّد من أوهام العوام، ومَن بحكمهم من مدّعي العلم المبتلين بالجهل المركّب.

ويناسب هنا أنْ نرجع إلى الكتاب والسنّة ؛ لنرى رأيهما في حقّهما وما يتعلّق بهما من خصوصياتهما.

أمّا الروح فقد استُعملت في القرآن في معانٍ مختلفةٍ غير ما به حياة الإنسان وشخصيّته، بل ليس فيه أنّ آدمعليه‌السلام أعطاه الله روحاً، وإنّما فيه أنّه تعالى نفخ في آدم من روحه ( الحجر ٢٩ - ص٧٢ ) كما ورد ( مثله ) في حقّ عيسىعليه‌السلام ، فلعلّ المراد من النفخ هو الإحياء فقط لا أنّ آدم وعيسى صاحبا روح(١) .

وأمّا قوله تعالى:( ويسئلونك عن الرُّوح قُلِ الرُّوح من أمر ربّي ) فالمراد بها مجهول، ويُحتمل أنّها الروح الأمين، أو روح القُدُس(٢) ، أو أُريد به ما أُريد بقوله تعالى:( تَنَزَّلُ الْمَلاَئِکَةُ وَ الرُّوحُ ) ، وبقوله:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلاَئِکَةُ صَفّاً ) ، أو روح الإنسان. لكن في الأحاديث أنّه خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل...(٣) .

وأمّا قوله تعالى:( أُولٰئِکَ کَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) ( المجادلة ٢٢ ) فهي الروح المؤيّدة للمؤمنين - رزقنا الله بفضله -

___________________

=

عشرة حول النسيج الشبكي ما ينفع للمقام، وكذا في الفصل الرابع في جواب الإشكال السابع.

(١) نعم الأحاديث تدلّ على أن للإنسان روحاً كما تأتي.

(٢) بناءً على أنّه غير الروح الأعلين أي جبرئيل وفيه بحث.

(٣) لاحظ ج١٨ وغيره من بحار الأنوار.

٥٠

وليست بروح تنشأ منها الحياة الإنسانية، كما لا يخفى.

وأما النفس والأنفس فقد وردت في القرآن كثيراً، وإليك بعض ما يتعلّق بها:

١ - النفس هي المسؤولة عن أعمال الإنسان كقوله تعالى:( ثُمَّ تُوَفَّى کُلُّ نَفْسٍ مَا کَسَبَتْ ) ( البقرة ٢٨١ )، وقوله:

( وَ وُفِّيَتْ کُلُّ نَفْسٍ مَا کَسَبَتْ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‌ ) (١) .

والآيات الدالّة عليه كثيرة(٢) .

٢ - أنّها تذوق الموت وإليها أُسند القتل، كقوله تعالى:( کُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ) ( آل عمران ١٨٠ )، ( الأنبياء ٢٥ )، ( العنكبوت ٥٧ ).

٣ - أنّها تُلْهَم فجورها وتقواها.

٤ - أنّها المكلّفة:( لاَ يُکَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ) ( البقرة ٢٨٦ )، ولاحظ سورة الأنعام ١٥٢، والأعراف ٤٢، والمؤمنون ٦٢، والطلاق ٧.

٥ - أنّها أمّارة بالسوء، وأنّها لوّامة، ومطمئنة وترجع إلى ربّها راضيةً مرضيّة.

٦ - أنّها متنعّمة في الجنّة، ( الزخرف ٧١ - فُصّلت ٣١ )(٣) .

وأمّا الأحاديث المعتَبَرة الواردة في المقام فقد استوفيناها في موسوعتنا الحديثيّة( معجم الأحاديث المعتبرة ) وذكرنا بعضها في سائر كتبنا ( گوناگون ج١ - عقايد براى همه وغيرها )، وإليك جملة منها:

١ - صحيح أبي ولاّد المروي في الكافي عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال: قلت له: جعلت فداك يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر

___________________

(١) آل عمران أية ٢٥.

(٢) البقرة ٤٨، ١٢٣، ٢٨١، آل عمران ٢٥..

(٣) ونسب إلى النفس - أيضاً - زائداً على ما في المتن: الإيمان والتفريط في جنب الله، والوسوسة، والتسويل، والشّحّ، والاشتهاء، والهوى، والأكنان، والحرج، والإخفاء، والاستيقان في آيات أُخر.

٥١

حول العرش، فقال: ( لا، المؤمن أكرم على الله مِن أن يجعل روحه في حوصلة طير ( و ) لكن في أبدان كأبدانهم )(١) .

٢ - صحيح محمّد بن قيس المروي في الخصال عن الإمام الباقرعليه‌السلام قال: سأل الشامي... عن العين التي تأوي إليها أرواح المشركين ؟ فقال: ( هي عينٌ يُقال لها سلمى )(٢) .

٣ - صحيح الكناسي المروي في الكافي، عن الباقرعليه‌السلام ...: ( إنّ لله جنّة خلقها الله في المغرب... وإليها تخرج أرواح المؤمنين من حفرهم عند كلّ مساء... وإنّ لله ناراً في المشرق خلقها ليسكنها أرواح الكفار... )(٣) .

٤ - صحيح الأحول المروي فيه قال: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن الروح التي في آدم قوله:( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) (٤) ، قال: ( هذه روح مخلوقة، والروح في عيسى مخلوقة)(٥) .

٥ - حسنة حمران، قال: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن قول الله عزّ وجلّ:( وَرُوحٌ مِنْهُ ) (٦) قال: ( هي روح الله مخلوقة خلقها الله في آدم وعيسى )(٧) .

٦ - صحيح أبي بصير المروي في الكافي، قال: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن قول الله عزّ وجلّ:( وَ يَسْأَلُونَکَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) (٨) ،

___________________

(١) ص ٢٦٨ ج٦ بحار الأنوار.

(٢) ص ٢٧٤ نفس المصدر.

(٣) ص ٢٩٠ المصدر.

(٤) الحجر آية ٢٩.

(٥) ص ١٣٣ ج١ الكافي.

(٦) النساء آية ١٧١.

(٧) الكافي ١: ١٣٣.

(٨) الإسراء آية ٨٥.

٥٢

قال: ( خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل(١) ... )

٧ - معتبرة ابن أبي يعفور المرويّة في العلل عن الصادقعليه‌السلام :

( إنّ الأرواح جنود مجنّدة فما تعارف منها في الميثاق ائتلف ههنا، وما تناكر منها في الميثاق اختلف ههنا )(٢) .

أقول : هذا المضمون وارد في عدّة من الأحاديث، لكنّ أكثرها ضعيفة سنداً فتكون مؤيّدة لها.

٨ - موثّقة ابن بكير، عن الباقرعليه‌السلام : (... وخلق الله أرواح شيعتنا قبل أبدانهم بألفَي عام)(٣) .

أقول : خلقة الأرواح قبل الأبدان بألفي عام وردت في جملة من الأحاديث(٤) ، ولا يبعد حصول الاطمئنان بصدور بعضها عن الأئمّةعليهم‌السلام ، والظاهر أنّها تنافي قول بعض الفلاسفة: إنّ الروح جسمانيّة الحدوث روحانيّة البقاء، ولذا أوّله في الأسفار تأويلاً باطلاً.

واعلم أنّ الروح لا تُطلق على الإنسان المركّب منها ومن البدن، بل يطلق على نفسها فقط، بخلاف النفس، فإنّها تطلق على خصوص معناها، كما تُطلق على معنىً يُعبّر عنه بالفارسيّة بكلمة ( خود، خودتان، خودما )، أي: على مجموع الإنسان، كقوله تعالى:( فسلِّموا على أنفُسِكُم ) (٥) ، بل ربّما على ما استحال البدن والنفس فيه ؛ كما في حقّه تعالى:( وَ يُحَذِّرُکُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ) (٦) .

___________________

(١) الكافي ١: ٢٧٣، نسخة الكومبيوتر.

(٢) ص ١٣٩ ص ٥٨ البحار.

(٣) ص ١٣٨ ج ١ الكافي.

(٤) النور آية ٦١.

(٥) لاحظ ج٥٨ وغيره من بحار الأنوار.

(٦) آل عمران آية ٢٨ و ٣٠.

٥٣

بقي شيء وهو: أنّ عوام المسلمين يزعمون أنّ الروح لا تأمر بالشرّ بل تأمر بالخير دائماً، وأمّا النفس، فهي تأمر بالخير والشرّ، ولعلّ وجه هذا الزعم أنّ القرآن أسند الشرّ إلى النفس ولم يسنده إلى الروح، لكنّ القرآن لم يفصّل القول في الروح الإنسانيّة، كما عرفت، وما تقدّم من الأحاديث المعتبرة يكفي في ضعف الزعم المذكور.

وبالجملة : هما مفهومان لمصداقٍ واحدٍ كما عرفت.

وأمّا الكلام في الجهة الثالثة - وهي دلالة العلم على وجود الروح - فهو طويل نقتصر فيه هنا على كلام بعض الفضلاء فقط ؛ حتى لا يطول بنا المقام:

والمادّة التي يتكوّن منها الدماغ، هي عين المادّة التي تنشأ منها بقيّة أعضاء الجسد، ونوع الحياة الذي يتسبّب في نشوء الجميع واحد. فإنّ أصل الجنين خليّة واحدة ثمّ تتكثّر، وعليه، يلزم أن تكون الوظائف التي تقوم بها مختلف أعضاء الجسم من جنسٍ واحدٍ دون اختلاف تخصّصاتها، وهي وظائف غير إراديّة ولا فكريّة، لأنّها اللاّرادة، ويستحيل بحسب سنن الكون وموجوداته أن يتولّد - بصورة آليّة - المريد من غير المريد والمفكِّر من غير المفكِّر.

وماقيل من أنّ: الإرادة، والفكر، والشعور، وغيرها من الأنشطة الإنسانيّة الاختياريّة، إنّما تنشأ من الدماغ نتيجة تفاعلات كيميائية وفيزيائية، غير صحيح ؛ فإنّ كلّ تفاعلٍ لابُدّ له من عامل، فهو إن كان خارجيّاً يلزم استناد إرادته وأفكاره ومشاعره المختلفة غير اختياريّة له، مع أن المادّيّين لم يستطيعوا - ولن يستطيعوا - ولا مرّة واحدة أن يضعوا العناصر والمركّبات في أنابيب الاختبار، ثمّ يدفعونها بالتأشيرات المعنويّة بدلاً من العوامل المادّيّة المعهودة.

٥٤

وإن كان داخليّاً فما هو ؟

هل هو مجرد احتكاك الخلايا والأعصاب، أم هو مجرد وصول الدماء إلى عروق الدماغ، أم هو شيءٌ آخر ؟

فليكن أيّ شيء فلماذا تتحدّد وتختلف نتائج ذلك التفاعل الكيميائي المزعوم، باختلاف الأشخاص من جهة، وباختلاف الأزمان والساعات والأحوال في الشخص الواحد من جهةٍ أُخرى ؟

إنّ محتويات الأدمغة واحدة في الأشخاص والأزمان، وأنشطتهما المادّيّة واحدة، فلماذا تتعدّد إذن نتائج التفاعلات التي تحدث فيها ؟

فتتعدّد الأفكار، وتتعدّد المشاعر والأحاسيس، وتعدّد الاكتشافات، وتتعدّد المواهب عند الأشخاص، بل وتعدّد عند الشخص الواحد في ساعتين...، أقول : ولا تفسير له سوى الإقرار بوجود الروح...(١) . انتهى ما أردنا نقله.

واعلم أنّ الاعتقاد بوجود الروح، لا ينقص من أهميّة المخّ وعظم عمله، فلا تغفل، ويقول طبيب مسلم: إنّ كثيراً من العلماء، ذكروا أنّ المظاهر النفسيّة: كالوعي، والإدراك، والانفعال، والذاكرة، والقدرة على التعلّم، والإحساس النهائي للّذّة والألم، وكلّ هذه المظاهر النفسيّة لم يثبت علميّاً - إلى الآن - أنّ مراكزها النهائيّة موجودة في خلايا المخّ.

والحقيقة أنّنا نتعلّم الطبّ حسب المدرسة الغربيّة، التي ينفصل عندها العلم عن الدين، فهي ترى: أنّ المظاهر النفسيّة عبارة عن تفاعلات كيمياوية معقّدة تحدث داخل خلايا المخّ، وهذا أمر لم يثبت علميّاً للآن(٢) .

أقول : ولتأثير الروح والمخّ وأهمّيّة كلتيهما لنضرب مثلاً، ونشبّه

___________________

(١) ص ١٢٧ إلى ص١٣١ رؤية إسلاميّة لزراعة بعض الأعضاء البشريّة، نقلنا عنها بعض القليل مع الاختصار.

(٢) ص٨٦ نفس المصدر.

٥٥

الروح بالمصوِّر، وخلايا المخّ بجهاز التصوير، والصورة كما تحتاج إلى المصوِّر تحتاج إلى آلة التصوير ولا يغني أحدهما عن الآخر في إنتاج الصورة.

( البحث الخامس ) في بدء حياة الإنسان.

المتدبّر في البحثين الأخيرين، يقتنع بسهولة أنّ الحياة الإنسانيّة إنّما هي بتعلّق الروح بالبدن، كما أنّ موت الإنسان بانقطاع هذا التعلّق نهائياً، ولا ربط لحياة الخلايا بحياة الإنسان، ولا موته بموتها، وهذا الذي اعتقده علماء الإسلام، هو الصحيح المطابق للبراهين العقليّة أيضاً.

وإنْ شئت فقل: إنّ قوام إنسانيّة الإنسان بروحه لا ببدنه، وإنّ فُرض موجوداً تامّاً في الخارج وكان جميع خلاياه حيّة، فالجنين مهما تكامل وتنامى فهو - قبل تعلّق الروح - جنين الإنسان، وما يؤل إلى الإنسان وليس بإنسان نفسه.

متى تتعلّق الروح بالبدن ؟

هذا هو السؤال المهمّ في المقام، ولا يصلح علم الطب وعلم الأجنّة، وسائر العلوم للإجابة عليه، لحدّ الآن، ولا أظنّ اهتداء العقل إليه أيضاً، فلا بُدّ من الرجوع إلى الدين فيه، لكنّ القرآن الكريم - وحسب فهمي - ليس فيه ما يدلّ على توقيت تعلّق الروح بالبدن، سوى قوله تعالى:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَکَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ‌ ) (١) ، ولا بُعد في إرادة تعلّق الروح بالجنين من هذه الآية، إذ إنشاء الجنين مخلوقاً آخر لا يناسب إلاّ صيرورته ذات روح، ويؤكِّده قوله:( فَتَبَارَکَ اللَّهُ... ) ، بل يدلّ على إرادة التعلّق المذكور بعض الروايات المعتبرة الآتية، لكن لا يُستفاد أنّ تعلق الروح

___________________

(١) المؤمنون آية ١٤.

٥٦

بالجنين في أيّ شهرٍ من شهور الحمل، وإنّما يُستفاد من الآية المذكورة أنّه بعد كسوة العظام لحماً. وإن قدّر الطب بشكلٍ دقيقٍ محسوسٍ على تعيين زمن كسوتها لحماً لم يقدر على زمان تعلّق الروح بالجنين، إذ لا دليل على أنّه بعدها بلا فصل، بل ظاهر قوله:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ ) ، الفصل بينهما، فلا يبقى أمامنا للحصول على جواب السؤال المذكور سوى الأحاديث، فنقول:

١ - الصحيح المرويّ في التهذيب عن أمير المؤمنينعليه‌السلام :

(... فإذا أُنشئ فيه خلقٌ آخر، وهو الروح، فهو حينئذٍ نفس، ألف دينار كاملة إن كان ذكراً، وإن كان أُنثى فخمسمئة دينار )(١) .

٢ - صحيح محمّد بن مسلم المرويّ في الكافي، قال:

سألت أبا جعفرعليه‌السلام ... قلت: فما صفة النطفة التي تُعرف بها ؟

فقال: ( النطفة تكون بيضاء مثل النخامة الغليظة، فتمكث في الرحم إذا صارت أربعين يوماً، ثمّ تصير إلى علقة.

قلت: فما صفة خلقة العلقة التي تُعرف بها ؟

فقال: هي علقة كعلقة الدم المحجمة الجامدة تمكث في الرحم بعد تحويلها عن النطفة أربعين يوماً، ثمّ تصير مضغة.

قلت: فما صفة المضغة وخلقتها التي تُعرف بها ؟

قال: هي مضغة لحمٍ حمراءَ فيها عروقٌ خضرٌ مشتبكة، ثمّ تصير إلى عظم.

قلت: فما صفة خلقته إذا كان عظماً ؟

فقال: إذا كان عظماً شقّ له السمع والبصر، ورُتّبت جوارحه، فإذا كان كذلك فإنّ فيه الديّة كاملة )(٢) ، ورواه الشيخ في تهذيبه بتفاوت(٣) .

أقول : لم يذكر في هذا الصحيح توقيت المضغة بأربعين يوماً، ولا

___________________

(١) ص ٢٨٥ ج ١٠ نسخة الكومبيوتر.

(٢) ص ٣٤٥ ج ٧ الكافي.

(٣) ص ٤٧٥ ج ٢٦ جامع الأحاديث.

٥٧

يضر، فإنّه مذكور في صحيح زرارة وغيره، الآتية في مسألة الإجهاض(١) . ولم يذكر تعلّق الروح بالجنين أيضاً.

أقول : لا يُفهم من هذه الأحاديث مع الآية أنّ بدء الحياة الإنسانيّة، في أوّل الشهر الخامس من الحمل، أي في اليوم ١٢١ من الحمل، بل يُحتمل نفخ الروح بأطول من ذلك، كما لا يخفى، بل في رواية أبي شبل:

( هيهاتَ يا أبا شبل، إذا مضت الخمسة الأشهر فقد صارت فيه الحياة، وقد استوجب الديّة)(٢) ، ولعلّه اشتباه ومحرّف الأربعة الأشهر، لكنّه محتمل، إذ لا يخالفه نصٌّ معتبر، سوى معتبرة ابن الجهم الآتية(٣) ، ولا بُدّ لك أن تُلاحظ ما يأتي من الآية والأحاديث في المسألة الآتية، مع هذه الأحاديث جمعاً.

ومقتضى النظر الدقيق، أنّ جميع الأحاديث لا تدلّ على أنّ نفخ الروح يكون في أوّل الشهر الخامس من الحمل، حتّى معتبرة ابن الجهم في المطلب الأوّل من المسألة الآتية، وإنْ كانت مشعرة بها، نعم مدلولها نفخ الروح في الجنين بعد أربعة أشهر، فلاحظ وتأمّل جيّداً، والله العالم.

ولعلّه لأجل ما ذكرنا ؛ قال صاحب الجواهرقدس‌سره في باب الدية ( ص٣٦٥ ج٤٣ ): بل عن ظاهر الأصحاب عدم اعتبار مضيّ الأربعة أشهر في الحكم بحياته على وجه يترتّب عليه الديّة، وإن قال الصادقعليه‌السلام في خبر زرارة:

( السّقط إذا تمّ له أربعة أشهر غُسِّل )(٤) .

وأفتى الأصحاب بمضمونه، إلاّ أنّ ذلك لا يقتضي تحقّق العنوان في المقام.

أقول : أي حياة الجنين لوجوب الدية الكاملة.

___________________

(١) لاحظ ص ٦٤ هذا الكتاب.

(٢) جامع الأحاديث ٢٦ / ٤٨١.

(٣) الكافي ٧: ٣٤٦، نسخة الكومبيوتر.

(٤) الكافي ٣: ٢٠٦.

٥٨

المسألة السادسة

حول إجهاض الجنين(١)

الإجهاض: إلقاء حَمْلٍ ناقص الخَلْق بغير تمام، سواء من المرأة أو من غيرها، وكثيراً ما يُعبّر عن الإجهاض بالإسقاط، أو الطرح أو الإلقاء، وفي المقام مطالب ننقلها عن الأطبّاء:

١ - الثابت في علم الأجنّة أنّ الحياة موجودة في الحيوان المنوي قبل التلقيح، وموجودة في البويضة قبل الالتقاء، وقد يلتقي الحيوان المنوي والبويضة ويُسفر عن ذلك حمل عنقود وليس إنساناً، والحمل العنقودي ليس جنيناً، وإنّما مجرد خلايا لا تكون في مجموعها أي شكل من الأشكال، وإنّما شكلها شكل عنقود العنب، وبعد فترةٍ من الزمن يتقلّص الرحم ويطرد هذا المحتوى، ولكن ليس فيه ما يدلّ على الإنسان، أو على صورة الإنسان، أو على الحياة، وهو - أيضاً - نتيجة التقاء الحيوان المنوي بالبويضة(٢) .

٢ - فترة الإنشاء - يعني به قوله تعالى:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ ) (٣) -

___________________

(١) الإجهاض - كما في معاجم اللُّغة واستعمال الفقهاء - هو إلقاء الحمْل ناقص الخَلْق، أو ناقص المدّة.

وقد أطلق مجمع اللُّغة العربية كلمة الإجهاض: على خروج الجنين قبل الشهر الرابع، وكلمة الإسقاط على إلقائه ما بين الشهر الرابع والسابع. هكذا قيل.

(٢) قال بعض الأطباء: إنّ البويضة المخصبة من ناحية خلويّة بالتأكيد هي ليست الجنين، إنّ جزءً يسيراً منها يتكوّن منه الجنين، وهذا يحدث في اليوم العاشر بعد العلوق، وقد لا يحدث فتكون بويضةً فاسدةً لا ينتج عنها جنين، وقد يحدث منها حمل عنقودي، وقد يحدث توأم... ص٦٧٧، الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبّيّة.

(٣) المؤمنون آية ١٤.

٥٩

حسبما رأيناه في الفيلم: أنّه في الأُسبوع السادس أو السابع بعد الفترة من الأُسبوع الأوّل إلى الأُسبوع السادس كانت مجموعة من الأنسجة لم تظهر بالفيلم، وإنّما ظهر لنا من بعد الأُسبوع السادس، وبعد الأربعين يوماً بدأ يتخلّق، بدأ يظهر الرأس وتظهر الأطراف، بدء خَلْقٍ آخر... ( و) من بعد الأُسبوع السادس ما هو إلاّ نموٌّ وليس تكويناً جديداً(١) .

٣ - إنّ الجنين يتحرّك ويتحرّك من قبل نهاية الشهر الرابع بزمن ٍطويل، ولكنّ السيّدة لا تحس به ؛ لأنّ الكيس المائي الذي يسبح فيه يكون في البداية كبيراً فسيحاً بالنسبة لجسمه الصغير، ويمرّ زمن حتّى يكبر الجنين، فتستطيع لكماته وركلاته أنْ تطال جدار الرحم ؛ فتشعر بها السيّدة بعد أربعة أشهر من الحمل، بل إنّ لدينا الآن من الأجهزة ما نسمع به دقّات قلب الجنين وهو في الأُسبوع الخامس، ولدينا من الأجهزة ما نرصد به حركة الجنين حتّى مِن قبل ذلك...(٢) .

وقيل: إنّ الحركة متّصلة قبل ذلك ؛ لأنّ الخلايا منذ المراحل الأُولى في حركة، حتّى إنْ لم ترها الأجهزة ؛ لأنّ الخلايا تتحرّك، وترتّب نفسها إلى آخره(٣) .

٤ - مبرِّرات الإجهاض في الغرب قد اتّسعت حتّى بلغت خاتمة المطاف بالإجهاض حسب الطلب !!!

ومن المبرِّرات: الدواعي الطبّيّة، لكن وسع في بعض البلاد مدلولها فبدأت بالخطر على حياة الأُمّ إن استمرّ الحمل، ثمّ الخطر على صحّتها، ثمّ على صحّتها الجسميّة، أو النفسيّة، ثمّ عليها في الحاضر وفي المستقبل المنظور، ثمّ على الصحّة الجسميّة أو

___________________

(١) ص٢٣٤ وص٢٣٥، الإنجاب في ضوء الإسلام.

(٢) ص٢٥٤ وص٢٥٥، نفس المصدر.

(٣) ص٢٨٢، نفس المصدر.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

وحينما يقضي على الدجّال تكون مهمّته الثانية تأييد المؤمنين في العالم والقضاء على الكافرين والمنحرفين. أمّا المؤمنين فيواجههم ويحدّثهم عن درجاتهم في الجنّة، وأمّا الكافرين فيقاتلهم على الإسلام ويدق الصليب بمعنى أنّه يقضي على المسيحية المعروفة المتخذة للصليب، ويقتل الخنزير، بمعنى أنّه يحرّم أكله، ويأمر بالقضاء على الموجود للتدجين منه ( ويضع الجِزية على مَن بقي على دين اليهودية والنصرانية ) كما فعل رسول الله (ص) معهم، فيمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفّى فيصلّي عليه المسلمون.

وأمّا المهدي (ع) فهو الشخص الرئيسي من هؤلاء المؤمنين الذين يواجههم المسيح. وحين تحين الصلاة بعد وصولهم إليه أو وصوله إليهم، يدعوه الإمام المهدي (ع) احتراماً له، أن يكون هو الإمام في صلاة الجماعة، فيأبى ذلك قائلاً: لا، إنّ بعضكم على بعض أُمراء، تكرمة الله لهذه الأُمّة يعني: أنّ الأُمّة الإسلامية لابد - في الحكم الإلهي - أن يحكمها شخص منها، وحيث أنّ المسيح عيسى بن مريم ليس منها، باعتباره نبيّاً لدينٍ سابق، إذاً فلا ينبغي أن يحكم المسلمين أو أن يأمّهم في الصلاة. وبعد هذا الاعتذار، يتقدّم المهدي إماماً للصلاة ويصلّي المسيح خلفه مأموماً.

وسيحين خلال هذه المدّة، الوقت المناسب لمنازلة الكافرين والمنحرفين، متمثّلين بيأجوج ومأجوج، وبالرغم من أنّ هذه القيادة العالمية إنّما هي بيد الإمام المهدي (ع) غير أنّ قيادة الحرب ستكون بيد المسيح (ع)، ومن هنا نُسب القضاء على يأجوج ومأجوج إليه، كما نُسب قتل الدجّال إليه أيضاً، مع أنّ هناك من الأخبار ما يدل على أنّ المهدي (ع) هو الذي يقتل الدجّال(١) وكلا النسبتين صادقة، باعتبار وحدة العمل والهدف.

وهذا التسلسل الفكري، يمكننا دمجه بفهمنا العام السابق للحوادث، وربطه بالتخطيط العام اللاحق له، فينتج لدينا النتيجة التالية: أنّ الدجّال ليس شخصاً معيّناً - كما قلنا - وإنّما هو كناية عن الحضارة المادية في قمّتها وأوج عِزّها وإغرائها. ومن الواضح أنّ مثل هذه الحضارة لا يمكن القضاء عليها بقتل شخص معيّن، وإنّما تحتاج إلى عمل فكري وعسكري عالمي للقضاء عليها، وتحويل الوضع إلى الحكم العادل الصحيح.

وهذا العمل موكول أساساً إلى المهدي (ع) بصفته القائد الأعلى ليوم العدل

____________________

(١) انظر منتخب الأثر ص٤٨٠ عن إكمال الدين وغيره.

٦٠١

الموعود. ومن هنا ذكرت الأخبار بأنّه يقتل الدجّال. هذا لا ينافي أنّ شخصاً من أصحابه وتحت إمرته يشارك في هذه المهمّة مشاركةً رئيسية، بحيث تصحّ نسبة القتل إليه أيضاً، كما تصحح كونه مسيحيّاً مصلحاً للعالم.

والمستفاد عموماً من الأخبار: أنّ نزول عيسى (ع)، يكون بعد ظهور المهدي ولكن قبل استتباب دولته، يعني خلال محاربته للكافرين والمنحرفين وممارسته للفتح العالمي. وهناك(١) من الأخبار ما يدل على أنّه يبايعه في المسجد الحرام مع أصحابه الخاصّة الأوائل، غير أنّه غير قابل للإثبات التاريخي.

وهذا هو المراد من كون المهدي في وسط الأُمّة، وعيسى في آخرها، لو صحّ الخبر؛ لأنّه ينزل بعد ظهور المهدي، ويبقى بعد وفاته، فأصبح كأنّه بعد المهدي في الزمان، فيصدق عليه مجازاً، أنّه في آخر الأُمّة.

والمسيح يواجه بعد نزوله يأجوج ومأجوج، قد خرجوا من الردم، وقد عرفنا أنّهما يمثّلان الحضارة المادية ذات الفرعين الأساسيين في البشرية، ويكون مسؤولاً - خلال الفتح العالمي - عن محاربتهما والقضاء عليهما، وقد سبق أن تحدثنا عن ذلك مفصّلاً.

وهنا قد يبدو أنّ الخبر الدال على ذلك، دال أيضاً على تأخّر خروج يأجوج ومأجوج من الردم، على نزول عيسى، ثم على ظهور المهدي، وهذا مخالف لفهمنا السابق؛ لأنّ الحضارة المادية بكلا فرعيها إنّما تكون قبل الظهور.

إلاّ أنّ دلالة الخبر على ذلك غير صحيحة؛ لأنّه دال على أنّ عيسى بعد أن يجتمع بالمؤمنين الصالحين، يخبره الله تعالى بإخراج يأجوج ومأجوج ( فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى: إنّي قد أخرجت عباداً لي، لا يُدان أحد بقتالهم ). إنّ هذا التوقيت توقيت للإخبار لا للخروج من الردم، وليس في الخبر الذي يتلقّاه هذا النبي أنّهم قد خرجوا لفورهم.

وهذا الإخبار لا يتضمّن معناه المطابقي اللفظي بطبيعة الحال، وإنّما يتضمّن الأمر بالمبادرة إلى قتالهم بعد أن التأم جمع المؤمنين مكوّناً من: المهدي والمسيح (ع) وأصحابهما، وقد أزفت ساعة الصفر للفتح العالمي، واقتضى التخطيط الإلهي ذلك.

ثم يكشف المهدي عن مواريث الأنبياء بشكلها الواقعي، كما خلفها الأنبياء

____________________

(١) انظر إلزام الناصب ص٣٠٧.

٦٠٢

أنفسهم في الأرض، كلٌّ في منطقته، وهي: تابوت آدم (ع) أي الصندوق الذي كان يحفظ فيه كتاباته الدينية وتشريعاته، وعصر موسى (ع) والتوراة، والزبور، والإنجيل، وسائر كتب الله، فيبدأ هو والمسيح (ع) بمناقشة أهل الأديان السماوية بهذه الكتب والمواريث.

فيدخلون في الإسلام، وأمّا المتبقّي منهم، فيقول الخبر إنّهم يدخلون في ذمّة الإسلام ويدفعون الجِزْية، كما كان الحال في زمن رسول الله (ص)، ريثما يتمّ بالتدريج دخولهم في الإسلام.

وعندئذٍ ( تذهب الشحناء والتباغض والتحاسد ) ويعمّ الغنى أُمّة محمد (ص) وهم كل البشر ( وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد ) عند استتباب الدولة العالمية.

فهذا هو المضمون العام لهذه الأخبار، وأمّا التفاصيل فسنعرفها في الجهات الآتية.

الجهة الرابعة: في الحديث عن بعض خصائص المسيح عيسى بن مريم (ع).

ونتكلّم عن ذلك في عدّة نواحي:

الناحية الأُولى: حين عبّرت الأخبار السابقة بنزول عيسى (ع)، فإنّما تريد نزوله من السماء بعد أن رفعه الله تعالى إليه؛ حين أراد اليهود قتله، فشُبّه لهم وقتلوا غيره مكانه... وهذا انطلاق من الفهم التقليدي للمسلمين عن ذلك، وقد ورد في أخبار الفريقين ما يؤيّده ويدل عليه.

ونحن لا نريد الدخول في إثبات ذلك الآن، وحسبنا أنّ القرآن الكريم بعد ضمّ بعض آياته إلى بعض غير صريح في ذلك... وإنّما غاية ما ينفعنا في المقام هو: أن نلتفت إلى أنّ مجيء المسيح مع المهدي لا يعني صحّة هذا الفهم بالتعيين، بل يمكن رجوعه بقدرة الله تعالى مهما كانت خاتمة حياته السابقة، وكما هو واضح.

الناحية الثانية: في الحكمة من بقاء المسيح (ع) خلال هذه المدّة الطويلة طبقاً للفهم التقليدي المشار إليه:

إنّ الحكمة من ذلك، حسب ما تدركه عقولنا الآن، تتمثّل في عدّة أُمور:

الأمر الأوّل: اختصاص هذا النبي (ع) بمميّزات شخصية أساسية من دون سائر الأنبياء: كولادته الإعجازية بدون الأب، وإحيائه للموتى، ورفعه إلى السماء. كما اختص موسى بالكلام مع الله عزّ وجلّ، ومحادثته مدّة عشرة أيام كاملة. واختص محمد، نبي الإسلام (ص) بالقرآن الكريم معجزة الإسلام الخالدة. ولابد لكل نبي رئيسي من خصائص تميّزه على أيّ حال.

٦٠٣

الأمر الثاني: البرهان على صحّة الغيبة بالنسبة إلى المهدي (ع)، حيث يكون المسيح أكبر عمراً منه مهما طالت الغيبة بعدّة مئات من السنين، هي الفرق بين عصر ولادة المسيح وعصر ولادة المهدي (ع) وهي حوالي التسعمئة عام.

وحيث اعترف الفكر التقليدي الإسلامي ببقاء المسيح حيّاً لم يمت، إذاً، ففي الإمكان تماماً بقاء مَن هو أصغر منه عمراً، وإن لم يكن هو أولى بالبقاء منه.

وهذه تماماً هي الحكمة من بقاء الخضر (ع) حيّاً، كما اعترف به الفكر التقليدي الإسلامي أيضاً، ووردت به الأخبار من الفريقين. وورد في الأخبار الإشارة إلى هذه الحكمة بالذات لبقائه(١) . فإنّ عمره يزيد على عمر المسيح والمهدي معاً باعتبار أسبق ولادة منهما. فإذا كان بالإمكان بقاء الإنسان خلال هذا الدهر الطويل، فبالأولى أن يبقى شخص آخر بمقدار أقل منه. ولئن كان المسيح يعيش في السماء، فإنّ الخضر يعيش على الأرض تماماً كالمهدي (ع) وهو يزيد على عمره بأكثر من ألفي عام.

الأمر الثالث: تكامل المسيح (ع) خلال هذا العصر الطويل، من التكامل الذي سمّيناه بتكامل ما بعد العصمة. وقد برهنّا التاريخ السابق(٢) على ثبوته للمهدي (ع) من خلال عمره الطويل على الأرض، ومعاشرته للأجيال الطويلة للبشرية.

فكذلك يمكن القول بالنسبة للمسيح في عمره الطويل في السماء، في الملكوت الأعلى، وما يشاهده من عظمة الله وحكمته وعدله في ذلك العالم، الأمر الذي يوجب له أكبر الكمال.

وسوف يستفيد المسيح من هذا التكامل العالي، في تدبير المجتمع العالمي العادل، تماماً كما يستفيد المهدي (ع) من تكامله العالي أيضاً. فانظر إلى هذه القيادة العالمية الرشيدة المكوَّنة من هذين التكاملَين العاليين.

____________________

(١) أخرج الصدوق في إكمال الدين ( نسخة مخطوطة ) بسنده عن سدير الصيرفي، عن أبي عبد الله الصادق (ع) في حديثٍ طويل يقول فيه: وأمّا العبد الصالح أعني الخضر، فإنّ الله تبارك وتعالى ما طوّل عمره لنبوّةٍ قدّرها له، ولا لكتابٍ ينزل عليه، ولا لشريعة ينسخ بها شريعة مَن كان قبله من الأنبياء، ولا لإمامةٍ يلزم عباده الإقتداء بها، ولا لطاعةٍ يفرضها له، بلى إنّ الله تبارك وتعالى لما كان في سابق علمه أن يقدّر من عمر القائم في أيام غيبته ما قدّر، وعلم من إنكار عباده بمقدار ذلك العمر في الطول، طول عمر العبد الصالح من غير سببٍ أوجب ذلك إلاّ لعلّة الاستدلال به على عمر القائم؛ ليقطع بذلك حجّة المعاندين، ولئلاّ يكون على الناس حجّة... الحديث.

(٢) تاريخ الغيبة الكبرى: ص ٥٠٤ وما بعدها إلى عدّة صفحات.

٦٠٤

الناحية الثالثة: في الحكمة من مشاركة المسيح في الدولة العالمية العادلة.

يؤثّر وجود المسيح (ع) في الدولة العالمية، وبالتالي في التخطيط اللاحق للظهور، في حدود ما نفهم الآن، في عدّة أُمور:

الأمر الأوّل: إيمان اليهود والنصارى به، وهم يمثّلون ردحاً كبيراً من البشرية، وذلك حين يثبت لهم بالحجّة الواضحة أنّه هو المسيح يسوع الناصري نفسه، وأنّ الإنجيل والتوراة إنّما هي هكذا وليست على شكلها الذي كان معهوداً، وأنّ ملكوت الله الذي بشّر به هو في حياته الأُولى على الأرض قد تحقّق فعلاً، متمثّلاً بدولة العدل العالمية.

ولن يبقى منهم شخص من ذلك الجيل المعاصر للظهور إلاّ ويؤمن به، كما هو المستفاد من قوله تعالى:

( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) (١) .

فإنّ الاستثناء بعد النفي يفيد العموم.

الأمر الثاني: أنّه نتيجة للأمر الأوّل سوف يتيسّر الفتح العالمي بدون قتال، بل نتيجة للإيمان بالحق والإذعان له، وقد سبق أن تكلّمنا عن ذلك مفصّلاً، وعرفنا أنّ الجانب الفكري في الفتح العالمي سيكون أوسع بكثير من الجانب العسكري.

الأمر الثالث: تكفّل المسيح عيسى بن مريم (ع) للقيادة في جانب أو عدّة جوانب من الدولة العالمية، وتحمّله مسؤوليّتها، كما لو أصبح في مركز مشابه لرئيس الوزراء في الدولة الحديثة، أو تكفّل الحكم في رقعة كبيرة من الأرض، أو الدولة العالمية.

الناحية الرابعة: إنّ المسيح ابن مريم (ع) وإن كان نبيّاً مرسَلاً، وليس الإمام المهدي (ع) كذلك، غير أنّ القيادة العليا تبقى موكولةً إلى المهدي (ع)؛ وذلك لعدّة وجوه نذكر بعضها:

الوجه الأوّل: إنّ الإمام المهدي (ع) هو الوريث الشرعي للأُطروحة العادلة الكاملة عن نبي الإسلام (ص)، يروي عنه وعن قادة الإسلام الأوائل تفاصيلها وحل معضلاتها، وفهم ظواهرها وخفاياها؛ وبالتالي فقد مرّ الإمام المهدي (ع) بجوٍّ كافٍ للتعرّف على هذه الأُمور على يد آبائه (ع)، وهو ممّا لم يحدث أن وُفّق له المسيح عيسى بن مريم (ع).

____________________

(١) ٤ / ١٥٩.

٦٠٥

الوجه الثاني: القاعدة العامّة التي نصّت عليها الأخبار التي سمعناها، وهي يقولها المسيح نفسه حين يعتذر عن تقدّمه إمامة الجماعة بالمسلمين: إنّ بعضكم على بعض أُمراء، تكرمة الله هذه الأُمّة.

فإنّه بصفته نبيّاً لملّةٍ أُخرى غير دين الإسلام، يكون من الوهن في الحكمة الإلهية أن يكون حاكماً للمجتمع المسلم بما فيه من أولياء وصالحين، وكأنّه يظهر عندئذٍ عجز الأُمّة الإسلامية عن إيجاد قائد كبير منها. بل إنّ الحكمة والتفضّل الإلهيين اقتضى أن يكون الحاكم الأعلى للدولة الإسلامية مسلماً بالأصل، لا يمت إلى أيّ دينٍ آخر بصلة، مضافاً إلى صفاته الأُخرى.

الناحية الخامسة: دلّت الروايات على أنّ بقاء المسيح في الأرض بعد نزوله أربعين سنة، ولعلّ المراد به مجرّد فكرة الكثرة، بشكل يناسب أن تكون أكثر أو أقل بمقدارٍ ما. وحيث يكون من الراجح، كما سوف نشير أنّ الإمام المهدي (ع) لن يبقى في الحياة بعد ظهوره، إلاّ حوالي العشر سنوات، إذاً فسوف يبقى المسيح بعد المهدي (ع) حوالي ثلاثين عاماً، وهي فترة ليست بالقصيرة بالنسبة إلى النظام المهدوي الجديد. ويؤيّد ذلك قوله في رواية أُخرى، وعيسى في آخرها. فإنّه لا يكون في آخرها إلاّ إذا كان متأخّراً في البقاء في الحياة بعد الإمام المهدي (ع).

ومهما يكن من شكل الرئاسة العليا لدولة العدل العالمية بعد الإمام المهدي (ع) - وهذا ما سنذكره في الباب الآتي - فإنّ المسيح (ع) لن يتولّ الرئاسة على أيّ حال، بل سيكون له قسط من العمل والتوجيه، أو يستمر بنفس صفته التي كان عليها بين يدي شخص الإمام المهدي (ع).

نعرف ذلك من القاعدة التي سمعناها: إنّ بعضكم على بعض أُمراء. ومن الواضح أنّ الأولياء الموجودين بعد المهدي (ع) كلهم مسلمون بالأصل غير المسيح؛ لأنّه نبي لدين سابق، فيكون هؤلاء الأولياء أولى منه بتولّي الرئاسة.

وإذ تنتهي حياته ويحين أجله، تسكت الروايات عن كيفية موته وسببه. والمفروض أنّه يموت كما يموت غيره من البشر، فهو الآن يصعد بروحه وحدها إلى السماء، بعد أن كان قد صُعد فيما سبق بروحه وجسمه معاً.

إنّ قانون:( كلّ نفسٍ ذائقة الموت ) يعيّن عليه الموت مهما طال عمره؛ فإنّه قانون عام

٦٠٦

لا يُستثنى منه نبي ولا ولي. وحيث لم يكن ارتفاعه الأوّل موتاً حقيقياً أو كاملاً، كان اللازم بمقتضى هذا القانون: أن يموت الموت الحقيقي الموعود، ولو بعد مئات أو آلاف من عمره الطويل.

فهذا هو الحديث عن بعض النواحي المهمّة من خصائص المسيح (ع).

الجهة الخامسة: في بعض خصائص أهل الكتاب وعقيدتهم يومئذ.

ونتكلّم عن ذلك في عدّة نواحي:

الناحية الأُولى: دلّت بعض الروايات، بما فيها بعض ما سبق: على أنّ المهدي (ع) يستخرج التوراة والإنجيل، وكل الكتب والصحف المـُنزَلة على الأنبياء من غار في أنطاكية، فيحتج بها على اليهود والنصارى، فيدخلون في الإسلام.

إلاّ أن هذا التعيين للمكان لا يخلو من بعض نقاط الضغف:

النقطة الأُولى: عدم كفاية هذه الروايات لإثبات هذا الأمر تاريخياً؛ فإنّها روايات قليلة نسبيّاً وضعيفة السند.

النقطة الثانية: إنّنا أشرنا خلال فهمنا لهذه الأخبار: أنّ المهدي (ع) يستخرج كل كتاب من المكان المذخور فيه... وذلك بعد ضمّ أمرين إعجازيين:

الأمر الأوّل: انحفاظ هذه الكتب من التلف خلال آلاف الأعوام.

الأمر الثاني: إطلاع الإمام المهدي على مكانها، وهي موزّعة في بقاع العالم.

وإنّما حدثت هذه المعجزة باعتبار هداية الناس بهذه الكتب بعد الظهور، فأصبحت مطابقة لقانون المعجزات، على أنّه يمكن حمل الأمرين على الشكل الطبيعي أيضاً.

وأمّا اجتماع هذه الكتب كلها من غار أنطاكية، فهو ممّا لا مبرّر له لا إعجازي ولا طبيعي، كما هو واضح، فيكون باطلاً.

الناحية الثانية: كيف يثبت للناس أنّ هذه هي الكتب الحقيقية؟ وكيف يثبت أنّ هذا هو عيسى بن مريم (ع) نفسه، وأن هذه هي الكتب الواقعية؟ مع أنّ الناس غير مشاهدين وغير معاصرين له ولا لها، وخاصّة أنّ هناك في اليد نُسَخ من التوراة والإنجيل ستكون مختلفة عن تلك النسخ الأصلية.

وجواب ذلك: أنّ هذا الإثبات يتم بعد إقامة الحجّة الكاملة من قِبَل المهدي (ع) على مهدويّته وصدقه، بحيث يكون كل ما يخبر به مسلّم الصحّة عند الناس؛ فيعرّفهم على

٦٠٧

المسيح وعلى التوراة والإنجيل، مضافاً إلى ما قد يضيفه المسيح نفسه من حجج وبيّنات، فيثبت بها نفسه وصدقه، إلى جنب عدالة القضية ككل.

وبهذا نعرف أنّ قضية نزول المسيح أو استخراج الكتب لا يكون بمجرّد حجّة كافية؛ لوضوح أنّ نزول عيسى من السماء لن يشاهده إلاّ القليل، وربّما لا يشاهده أحد.

فيحتاج هو على الأرض إلى إثبات لشخصيّته، وكذلك الكتب فإنّ مجرّد وجودها هناك لا يعني صدقها ومطابقتها للواقع، ما لم يقترن كل ذلك بالحجّة الكافية لإثباته.

نعم، بعد أن يثبت كل ذلك بالحجّة، وقد سبق أيضاً للناس التبشير بحصول ذلك في عصر المهدي (ع) في الأخبار التي سمعناها، يكون ذلك بطبيعة الحال، دعماً لصدقه وعدالة قضيّته.

الناحية الثالثة: أنّه دلّت بعض الأخبار على أنّ الإمام المهدي (ع) أنّه قال:

( لو ثُنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم )(١) .

كما يؤيّد أيضاً بقوله تعالى:

( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ

____________________

(١) انظر إرشاد الديلمي ج ٢ ص٦ ط بيروت.

٦٠٨

فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (١) .

( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ) .

وقال تعالى:

( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ... ) الآية(٢) .

حيث دلّت هذه النصوص على أنّه عند الحكم العادل، ينبغي أن تنزل كل الكتب السماوية إلى حيّز التطبيق، وكل منها على مَن يؤمن بها. وقد وصف من يعصي حكم التوراة بالكافرين تارةً وبالظالمين أُخرى، ووصف مَن يعصي حكم الإنجيل بالفاسقين. كل ما في الأمر أنّ الزمام الأعلى للحكم الإسلامي الذي أنزله الله تعالى في القرآن، مهيمناً على الملل السابقة.

وإنّما تمنّى أمير المؤمنين (ع) إنجاز ذلك، وإنّما يقوم المهدي (ع) به، تطبيقاً لهذا التأكيد القرآني الذي سمعناه.

ويمكن فهم هذا التأكيد على أساس عدّة أُطروحات محتملة:

الأُطروحة الأُولى: أن يُراد من تطبيق هذه الكتب: تطبيق ما أمرت به من الدخول في الإسلام، وبشّرت به من وجود نبي الإسلام. وسيكون هذا واضحاً في النسخ التي سوف يجيء بها المهدي (ع) من هذه الكتب.

وهذا هو الفهم التقليدي لهذه الآيات القرآنية، وهو فهم محترم لولا أنّه يخالف ظاهر بعض الآيات، فإنّ قوله تعالى:( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ إلى أن يقول:وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ظاهر بأنّ المطلوب هو تطبيق هذه الأحكام نفسها التي عدّدتها الآية الكريمة. وقوله:( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ... لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) ظاهر بأنّ الرفاه الاجتماعي ناتج عن إقامة الأحكام التفصيلية للكتب نفسها، وقَصْرها على مجرّد تبشيرها بالإسلام، خلاف

____________________

(١) ٥ / ٤٤ - ٤٨.

(٢) ٥ / ٦٦.

٦٠٩

الظاهر لا يُصار إليه إلاّ بدليل.

الأُطروحة الثانية: أن يراد من تطبيق هذه الكتب، تطبيق أحكامها جملةً وتفصيلاً، وخاصةً تلك الكتب التي يخرجها المهدي (ع) ويثبت أنّها هي التوراة والإنجيل الواقعية.

إلاّ أنّ هذه الأُطروحة غير محتملة؛ لأنّ في هذه الكتب ناسخ ومنسوخ، وكلها منسوخة بشريعة الإسلام؛ فالتوراة ناسخة للشرائع السابقة عليها، والإنجيل ناسخ لأحكام التوراة، والقرآن ناسخ لأحكام الإنجيل. ومعنى كونه منسوخاً أنّه يجب العمل عليه في حكم الله عزّ وجلّ، بل يجب العمل فقط على الشريعة الأخيرة الناسخة لكل الشرائع السابقة، والتي ليس بعدها ناسخ لها، وهي الإسلام؛ ومعه، لا معنى للعمل بالأحكام التفصيلية للشرائع السابقة.

وهذا النسخ لا يختلف فيه الحال بين المسلمين وبين اليهود والنصارى، فليس من الصحيح أنّ أحكام التوراة - مثلاً - منسوخة بالنسبة إلى المسلمين، ولكنّها سارية المفعول على اليهود؛ لأنّ الشرائع المتأخّرة عن التوراة إن لم تكن صحيحة، كانت تلك الأحكام منسحبة عن كل البشر، ولا معنى للتفريق.

على أنّ بعض هذه الكتب لا يحتوي على أحكام بالمرّة، أو يحتوي على شيءٍ قليل لا يكفي لتطبيق العدل: كالزبور والإنجيل نفسه.

الأُطروحة الثالثة: تطبيق هذه الكتب من زاوية عدد من الأحكام المهمّة التي أعربت عنها، وليس المراد تطبيقها جملةً وتفصيلاً.

فإنّ هناك من الأحكام ما كان ناشئاً من فهم معيّن للعدل والقانون بشكلٍ عام، حتى أصبح عدد من واضحاتها ضروري التطبيق في المجتمعات البشرية كلها على خط وجودها الطويل، منذ أن استطاعت تطبيق الشرائع.

وحيث يكون فهم العدل والقانون في الشرائع السماوية عموماً واحداً، أعني الشرائع بشكلها الواقعي، فإنّها صادرة من مصدر واحد حكيم لا نهائي في علمه وقدرته؛ كانت الأحكام الأساسية مشتركة ما بين الشرائع، لا تختلف إلاّ في حدود اختلاف الحاجات التربوية التي تمرّ بها المجتمعات.

وإذ يكون هذا الفهم العام موجوداً أيضاً في دولة العدل العالمية، لكن بشكل معمّق

٦١٠

وموسّع، يكون من المنطقي جدّاً: أن يكون تطبيق الأحكام الأساسية المشتركة الناشئة من ذلك الفهم مطلوباً أيضا ًفي هذه الدولة، مضافاً إلى الأحكام الأُخرى المطبّقة فيها.

وهذا التطبيق يكون عامّاً على كل البشر وغير خاص بأهل الملل السابقة، بل تدخل هذه الأحكام في ضمن قوانين الدولة العالمية، ويكون هو المراد من تطبيق هذه الكتب والحكم بمؤديات أحكامها، فإنّ تطبيق أحكامها الأساسية والفهم العام الذي تقوم عليه، يعتبر تطبيقاً لها، مضافاً إلى تطبيق تبشيراتها بالإسلام، واليوم الموعود، يوم العدل العالمي.

وهذه الأُطروحة صحيحة، بمعنى أنّها منسجمة مع سائر النصوص، ولا دليل على بطلانها، في تعيّن القول بصحّتها، مع بطلان الأُطروحتين السابقتين.

ولا ينافي صحّة هذه الأُطروحة، أن نلتزم بصحّة الأُطروحة الآتية لو رأينا الدليل عليها تامّاً، فإنّهما أطروحتان غير متنافيتين.

الأُطروحة الرابعة: أن يكون المراد من تطبيق التوراة والإنجيل، تطبيقهما على أهل الملل المؤمنين بهما دون غيرهم.

لكن لا بمعنى التفريق بينهم وبين غيرهم بشكلٍ كامل، الأمر الذي نفيناه فيما سبق، بحيث يكون الشامل لهؤلاء خصوص أحكام هذه الكتب دون سائر قوانين وأنظمة الدولة العالمية، بل إنّ هذه القوانين شاملة للجميع، ويختص هؤلاء بأحكام كتبهم، ريثما يدخلون في الإسلام تدريجيّاً.

وفي كل مادة قانونية اختلف فيه قانون الدولة عن حكم الكتب، كان الحاكم العادل مخيّراً بين تطبيق قانونه أو قانونهم عليهم، كما أفتى به الفقهاء المسلمون أيضاً، واستفادوا ذلك من قوله تعالى:

( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) (١) .

يعني أحكم بينهم بحكم الإسلام، أو أعرض عنهم ودعهم ليطبّقوا أحكامهم الخاصّة.

وهذا هو الأنسب مع نصوص الأخبار التي سمعنا بهذا الصدد، حيث قالت: إنّ أحكام التوراة تُطبّق على أهل التوراة، وأحكام الإنجيل تُطبّق على أهل الإنجيل.

____________________

(١) ٥ / ٤٢.

٦١١

وعلى أيّ حال، فقد تكون كلا الأُطروحتين الثالثة والرابعة صادقتين، ومعه لا تكون الأُطروحة الثالثة منافية مع هذا الظهور الذي أشرنا إليه في الأخبار، كما هو غير خفي.

هذا وسيأتي في الكتاب القادم، ما يلقي ضوءاً إضافيّاً على فهم النصوص.

الناحية الرابعة: في وضع الجِزْية على أهل الكتاب.

صرّحت عدد من الأخبار السابقة، بأنّ السياسة العامّة للدولة العادلة مع أهل الكتاب، ما داموا لم يسلموا، هي إقرارهم على دينهم وأخذ الجزية منهم، كما كان عليه الحكم الإسلامي قبل الظهور، وكما طبّقه رسول الله (ص)، وبقي عليه الحكم المسلم ردحاً طويلاً من الزمن.

كل ما في الأمر أنّ بعض الأخبار نسبت هذه السياسة إلى المسيح عيسى بن مريم (ع)، وبعضها نسبته إلى المهدي (ع)؛ وقد عرفنا أنّ هذا اختلاف شكلي يعود إلى عمل واحد وأهداف مشتركة، يقوم بها هذان القائدان على السواء.

وهذا هو الظاهر من قوله: يضع الجِزْية. يعني يشرّعها ويطبّقها، بعد أن كانت مرتفعة بعد انحسار الحكم الإسلامي قبل الظهور، وهذا هو المشهور في الأخبار كما سمعنا، والموافق للقاعدة الإسلامية المعروفة الواضحة قبل الظهور.

غير أنّنا سمعنا في خبر منها: تخيير المهدي (ع) لليهود والنصارى بين الإسلام والقتل، كما يفعل بسائر المشركين والملحدين في العالم. وهو الرأي الذي مال إليه المجلسي في البحار(١) حيث نسمعه يقول:

وقوله: ( ويضع الجِزْية معناه: أنّه يضعها من أهل الكتاب ويحملهم على الإسلام ).

وهذا أمر محتمل في التصوّر على أيّ حال، حيث يكون ذلك من التشريعات المهدوية الجديدة التي تختلف عن الأحكام السابقة. غير أنّه ممّا لا يمكن الالتزام به بعد ظهور الأخبار بتشريع الجِزْية، وهي الأكثر عدداً بشكلٍ زائد.

وعلى أيّ حال، فالقضيّة منحصرة بمن يبقى على دين اليهودية والنصرانية، وهم عدد قليل يومئذٍ على كل حال، بعدما عرفنا من الفُرَص المتزايدة، والتركيز الكبير على نشر الدين الإسلامي في البشر أجمعين.

____________________

(١) ج١٣ ص١٩٨.

٦١٢

الباب السادس

في انتهاء حياة الإمام المهدي (ع)

وهو باب متكوّن من فصلٍ واحدٍ،

نتكلّم خلاله في عدّة جهات:

٦١٣

٦١٤

الجهة الأُولى: إنّ النتائج التي عرفناها فيما يخص المقام، تتلخّص في عدّة أُمور:

الأمر الأوّل: إنّ مدّة بقاء المهدي (ع) بعد ظهوره، ستكون محدودة، قد لا تزيد على العشر سنوات، كما سبق أن رجّحناه.

الأمر الثاني: إنّ المهدي (ع) سيمارس الحكم من حين سيطرته على العالم إلى وفاته، ومن ثم يكون تحديد عمره حين الظهور، تحديد لمدّة حكمه.

الأمر الثالث: إنّ المهمّة التي يتكفّلها المهدي (ع) في دولته، بعد التجاوز عن الأُمور الإدارية، هي وضع الأُسس العامّة لتربية البشرية، من خلال الأُطروحة العادلة الكاملة باتجاه المجتمع المعصوم.

الأمر الرابع: إنّ نظام المهدي (ع) سيبقى بعد وفاته، وستستمر دولته إلى نهاية البشرية أو قريباً من النهاية، وسنوضّح هذه الجهة في القسم الآتي من الكتاب.

ومن هنا لن تكون الآن هذه الأُمور مورداً للبحث، وإنّما نتكلّم عن أُسلوب وكيفيّة موت الإمام المهدي (ع) إذا شاء الله عزّ وجلّ أن يلحقه بالرفيق الأعلى.

الجهة الثانية: في الأخبار التي تنفع بهذا الصدد:

أخرج أبو داود(١) بسنده عن أُمّ سلمة في حديث يقول فيه (ص)عن المهدي (ع):

فيلبث سبع سنين، ثم يتوفّى ويصلّي عليه المسلمون.

____________________

(١) سنن أبي داود ج٢ ص ٤٢٣.

٦١٥

وأخرج ابن طاووس في الملاحم والفتن(١) عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله (ص):

( أُبشّركم بالمهدي... إلى أن قال: فيكون ذلك سبع سنين أو ثمان سنين أو تسع سنين. ثم لا خير في العيش بعده، أو قال: لا خير في الحياة بعده ).

وأخرج الأربلي(٢) عن أربعين الأصفهاني بسنده عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله (ص):

( لو لم يبق من الدنيا إلاّ ليلة؛ لطوّل الله تلك الليلة حتى يملك رجل من أهل بيتي... إلى أن قال: فيملك سبعاً أو تسعاً، لا خير في عيش الحياة بعد المهدي.

وقال في البحار(٣) : على ما ورد عنهم (صلوات الله عليهم) فيما تقدّم من: أنّ الحسين بن علي (ع) هو الذي يغسّل المهدي (ع) ويحكم في الدنيا ما شاء الله.

وقال في إلزام الناصب(٤) ملخّص الاعتقاد في الغيبة والظهور، ورجعة الأئمّة لبعض العلماء، ويقول فيما يقول:

فإذا تمّت السبعون سنة أتى الحجّة الموت فتقتله امرأة من بني تميم اسمها سعيدة. ولها لحية كلحية الرجل بجاون صخر من فوق سطح، وهو متجاوز في الطريق. فإذا مات تولّى تجهيزه الحسين (ع)... الخ.

الجهة الثالثة: إنّ التبادر الأوّلي في الذهن الاعتيادي، هو أن يموت المهدي (ع) حتف أنفه كما يموت سائر الناس، غير أنّه في الإمكان الالتفات إلى عدّة وجوه مقرِّبة لإثبات قتله:

الوجه الأوّل: الخبر المـُرسَل عن الإمام الصادق (ع):

____________________

(١) ص ١٣٥.

(٢) ج٣ص٢٦٤.

(٣) ج١٣ ص٢٢٩.

(٤) ص١٩٠.

٦١٦

( ما منّا إلاّ مقتول أو شهيد ) (١) .

والمراد به أنّ الأئمّة المعصومين (ع) لابد أن يخرجوا من الدنيا بحادث تخريبي خارجي، ولن يموت واحد منهم حتف أنفه، بمَن فيهم الإمام المهدي نفسه، بحسب الفهم الإمامي.

إلاّ أنّ هذا الخبر قاصر عن الإثبات التاريخي، باعتباره خبراً مرسلاً لم تذكر له المصادر سنداً.

الوجه الثاني: ما أشرنا إليه في تاريخ الغيبة الصغرى(٢) من الفكرة التقليدية القائلة بأنّ النبي (ص) والأئمّة (ع) قد خلقت بنيتهم الجسدية قويّة كاملة، لا تكون قابلة للموت والتلف إلاّ بعارضٍ خارجي، فلو لم يحدث شيء على المعصوم، لكان قابلاً للبقاء إلى الأبد. ولكن طبقاً للقانون العام للموت الذي أعربت عنه الآية:

( كلُّ نفسٍ ذائقة الموت ) (٣) .

لابد أن يطرأ عارض خارجي كالقتل ونحوه على كل معصوم؛ لكي يكون هو السبب في انتهاء حياته. وهذه الفكرة تشمل الإمام المهدي (ع) بطبيعة الحال.

وقد ذكرنا في تاريخ الغيبة الصغرى(٤) ما يصلح أن يكون مثبّتاً لهذه الفكرة، وعرفنا هناك أنّها غير صالحة للإثبات؛ فلا يكون هذا الوجه صحيحاً.

الوجه الثالث: النص الأخير الذي نقلناه مع الروايات عن إلزام الناصب، فإنّه يصرّح بأنّ المهدي يموت مقتولاً، ويذكر طريقة موته، وسنعرض مضمونها ونناقشه في الجهات الآتية. والمهم الآن: أنّها هل تصلح دليلاً على إثبات هذه الفكرة بمجرّدها، وهي: أنّ المهدي (ع) يموت مقتولاً؟

والصحيح أنّ هذا النص غير قابل للإثبات أساساً؛ لأنّه ليس رواية عن أحد المعصومين بل عن بعض العلماء، وهذا العالِم لم نعرف اسمه. ولو كان هذا النص إشارة إلى مضامين الروايات - كما هو المضمون - فإنّه يصبح رواية مرسَلة ليس لها أي سند، ولا يعرف الإمام المروي عنه. على أنّ تلك الروايات المشار إليها لا تكون - عادةً - ضعيفة السند وغريبة

____________________

(١) انظر أعلام الورى ص٣٤٩، وتاريخ الغيبة الصغرى ص٢٣٠.

(٢) ص٢٣٠.

(٣) آل عمران: ١٨٥.

(٤) ص٢٣٢.

٦١٧

المضامين، بشكل تسقط معه عن الإثبات التاريخي.

هذا، وستأتي بقيّة مناقشات هذا النص عند التعرّض لتفاصيله.

الوجه الرابع: استبعاد أنّ المهدي (ع) يموت حتف أنفه، وذكر قرائن معيّنة توجب الظن أو الاطمئنان بكونه غير قابل لمثل هذا الموت خلال سبع أو عشر سنين، بل حتى خلال سبعين عاماً.

فمن ذلك قوّته البدنية الموصوفة في الأخبار، التي سمعناها فيما سبق، والتي في بعضها أنّه لو مدّ يده إلى شجرة عظيمة لقلعها، ولو صاح بالجبال لتدكدكت، وقد وُصف بدنه بالضخامة وعظامه بالخشونة ووجهه بالحمرة، ممّا يدل على قوّة بنيته إلى حدٍّ بعيد.

ومن ذلك غيبته المترامية في الطول، بحسب الفهم الإمامي فإنّ مَن عاش هذه القرون، قابل لأن يعيش ردحاً طويلاً من الزمن.

مضافاً إلى ما سبق أن قلناه من أنّ فترات عمر الإنسان، كالشباب والكهولة، تنقسم من عمره بنسب معيّنة، فإن كان العمر طبيعياً كالمعهود، كانت كل فترة خمسة عشر عاماً أو عشرين مثلاً، وإن كان أطول كانت الفترات مقسّمة بنفس النسبة لكن بسنوات أكثر، على مقدار العمر المفترَض، فقد تكون فترة الشباب خمسمئة عام وهكذا.

فإذا علمنا أنّ الإمام المهدي يظهر بعد أكثر من ألف عام وهو في آخر الشباب، في عمر الأربعين، كما سمعنا من الأخبار، إذاً فقد بقيت فترات أُخرى من عمره لم يمر بها بعد وهي في الكهولة والشيخوخة، ويحتاج من خلال عمره الطويل أن يمر بنفس المقدار السابق من السنين تقريباً؛ لكي يستوفي هاتين الفترتين.

ومن ذلك، ما عرفناه مفصّلاً من الخبرة العميقة التي تكون لدى الإمام المهدي، بما فيها من خبرات طبيّة تعود إلى أُسلوب العناية بالجسم وإبقائه صحيحاً معافى إلى أكبر حدّ ممكن.

إلى قرائن أُخرى تدعم الظن، بأنّ الإمام المهدي لن يموت بهذه السرعة بدون حادث تخريبي خارجي.

وهذه القرائن قائمة، ولا نافي لها، إلاّ أنّها تعدو الظن، ولا تصل إلى درجة الإثبات التاريخي بطبيعة الحال.

وإذا لم يتم شيء من هذه الوجوه، كان احتمال موته حتف الأنف قابلاً للإثبات التاريخي؛ لأنّه القاعدة العامّة في البشر، حيث لا يوجد حادث خارجي.

٦١٨

الجهة الرابعة: إنّ الخبر الأخير الدال على كيفية مقتله (ع)، يحتوي على عدّة نقاط ضعف، غير ما سبق:

النقطة الأُولى: إنّ الأمام المهدي يُقتل بحادث عمدي تخريبي، أو بمؤامرة مدبّرة ضدّه، وهذا بعيد جدّاً، بعد أن استطاع المهدي تربية البشرية بشكلٍ عام، وإحراز الرأي العام لعدالة نظامه وعظمة شخصه، وما له من المميّزات والقدرات، الأمر الذي يخلّف أفضل الأثر في نفوس الناس وأعظم الاحترام، ممّا يستبعد معه تفكير أيّ منهم في التآمر ضدّه.

وسيدرك الناس تدريجيّاً وبسرعة: المبرّرات الواقعية التي قام المهدي بموجبها بحملات القتل الكثير في أوّل ظهوره، وسيعرفون أنّهم قد استفادوا من ذلك فائدةً كبيرة، إذ مع وجود أولئك المنحرفين لا يمكن إقامة العدل، ولا شمول السعادة والرفاه، ومعه لن يكون لتلك الحوادث انعكاس سيّئ في النفوس ليوجب تآمر البعض للإجهاز عليه.

ومعه، يكون ما دلّ عليه الخبر من وجود التآمر بعيد جدّاً.

النقطة الثانية: يدل الخبر على أنّ المهدي (ع) يُقتل بجاون صخر يقع عليه، من أعلى وهو ماشٍ في الطريق، والجاون آلة قديمة لسحق الأشياء ودقّها: كالحبوب، وهو عبارة عن جسم مجوّف ثقيل الوزن له فتحة من أعلاه توضع فيه الحبوب، ويلحق به جسم اسطواني ضخم للدق فيه، وهو قد يُعمل من الصخر وقد يُعمل من الخشب.

واستعمال مثل هذه الآلة في العصر المهدوي القائم على العمق الحضاري والعمق المدني معاً، كما سبق أن برهنّا، أمر غير محتمل، كما أنّ وجوده على السطح في مثل هذه البيوت القديمة التي كان يوجد فيها، أمر غير محتمل لثقله وقوّة الضرب فيه، ممّا يوجب انهدام السطح، وإنّما كان يستعمل عادةً على الأرض.

وقد يخطر في الذهن: أنّه في الإمكان حمل ( الجاون ) على بعض الآلات المتطوّرة كما حملنا السيف على كل آلة للقتال.

وهذا أمر محتمل، إلاّ أنّ جوّ الخبر ينافيه، ويدل على نفيه كما هو واضح، بخلاف مثل قولنا: إنّ المهدي يظهر بالسيف، فإنّ معناه: أنّه يظهر حاملاً للسلاح، وليس في تلك الأخبار ما يدل على نفي هذا المعنى.

النقطة الثالثة: يدل الخبر على أنّ المرأة التي تقتله ذات لحية كلحية الرجل.

وهذا المعنى له عدّة محتملات كلها فاسدة، فيكون أصل المعنى فاسداً.

٦١٩

الاحتمال الأوّل: أن يكون لهذه المرأة شعر غير قليل في مكان اللحية حرصت على تنميته وإظهاره. وهذا ما قد يحدث لبعض النساء وإن كان نادراً. غير أنّ اللحية عندئذٍ لا تكون كلحية الرجل، بل لا تكون لحية إلاّ مجازاً؛ لأنّ المناطق الخالية من الشعر كثيرة جدّاً، فهي أشبه بلحية الرجل الأحص أو الأكوس، لا بلحية الرجل الطبيعي، مع أنّ ظاهر الخبر: أنّها كلحية الرجل الطبيعي.

الاحتمال الثاني: أن يكون لهذه المرأة لحية كلحية الرجل تماماً، وهذا مقطوع العدم؛ لأنّه لم يحدث في التاريخ لأيّ امرأة، ممّا يدل على أنّ الجنس الناعم مناف مع وجود مثل هذه اللحية خَلْقيّاً.

ويجيب الفكر التقليدي على ذلك:أنّه ما من عام إلاّ وقد خُصّ، وقدرة الله تعالى شاملة لمثل ذلك، ومن ثم توجد هذه المرأة بلحيتها لتكون هي القاتلة للإمام المهدي بعد ظهوره.

والجواب على ذلك: أنّه بعد التجاوز عمّا قلناه من عدم قابليّة الخبر للإثبات، بالرغم من أنّ الفكر التقليدي قائم على قبوله وقبول أمثاله تعبّداً.

إنّ هذه المرأة لو وُجدت في عصر الظهور، وعاشت بين الناس وأظهرت لحيتها، والتفت الناس إلى هذه الظاهرة النادرة، وكان مفكروهم وعلماؤهم قد قرأوا في الكتب أنّ مثل هذه المرأة تقتل المهدي.. إذاً فسوف تتعيّن هذه المرأة لقتل المهدي قبل أن تقوم به بسنين، وسوف يقع على ذلك كلام كثير ومناقشات، وسوف يسأل المهدي (ع) نفسه عنها، وسوف يكون للدولة تجاهها موقف معيّن لا نستطيع الآن أن نعرف كنهه، ليس هو غضّ النظر عنها وإهمالها بالمرّة على أيّ حال، فقد لا تكون النتيجة تماماً كما يتوقّع الفكر التقليدي أن يكون.

الاحتمال الثالث: أن تكون هذه المرأة طبيعية الخَلْق كباقي النساء، ولكنّها تضع لحية على نحو الاستعارة، على شكل باروكة تضعها على وجهها تشبّهاً بالرجل، وهذا الاحتمال له صورتان:

الصورة الأُولى: أن يفترض أنّه يوجد للنساء اتجاه عام لوضع اللحى المستعارة على الذقون، وتكون المرأة القاتلة واحدة من هؤلاء النساء.

إلاّ أنّ وجود مثل هذا الاتجاه في دولة العدل العالمية من غير المحتمل أن يوجد، بعد أن انتهت قصّة ( تشبّه النساء بالرجال ) بالظهور نفسه، وتمّ القضاء على جذورها

٦٢٠

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679