موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)5%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 679

الجزء ١ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 212431 / تحميل: 11106
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

بسيف المهدي. وقد كان إحدى الصفات المنحرفة لمجتمع الظلم والفساد السابق على الظهور، فكيف يحتمل وجودها مع وجود النظام العادل؟

الصورة الثانية: إنّ هذه المرأة القاتلة تنفرّد بوضع الباروكة، من دون كل النساء.

ولعلّ هذا أبعد الاحتمالات وأشدّها فساداً، إذ يكفي في نفيه: أنّه بذلك تدل على نفسها، وتجعل نفسها عرضة لاحتمال كونها القاتلة للإمام المهدي، أو أكثر من الاحتمال. وهذه ورطة تكون هذه المرأة في غنى عنها مع إهمال استعمال الباروكة، بل لعلّ فرص القتل عندئذٍ ستكون أكثر لو كانت شرّيرة قاصدة على كل حال.

وإذا بطلت كل المحتملات، كان افتراض وجود اللحية لهذه اللحية افتراض باطل، أو إنّه يفتقر إلى الإثبات على أقل تقدير.

النقطة الرابعة: يدل الخبر على أنّ الإمام الحسين بن علي هو الذي يقوم بتجهيز الإمام المهدي ودفنه بعد موته.

وهذا افتراض يقوم على أُسس تقليدية ثلاثة:

الأساس الأوّل: القول بالرجعة عموماً بمعنى رجوع الأئمّة المعصومين السابقين مرّةً أُخرى إلى الدنيا؛ ليمارسوا الحكم من جديد بعد المهدي.

وهذا ما سوف نناقشه في الباب الآتي، وسنرى أنّه ممّا لا يمكن إثباته إثباتاً كافياً بالرغم من اندفاع البعض في تصحيحه والالتزام به.

الأساس الثاني: هو تطبيق من تطبيقات الرجعة، وهو الالتزام بأنّ الذي يرجع ويمارس الحكم بعد المهدي (ع) هو الإمام الحسين (ع) بالخصوص، وهذا أبعد عن إمكان الإثبات التاريخي من الأساس السابق، ولعلّنا نلم بذلك في الباب الآتي.

الأساس الثالث: أنّ الإمام المعصوم لا يقوم بتجهيزه بعد موته إلاّ الإمام المعصوم.

وهي فكرة تقليدية مرتكزة في بعض الأذهان إلى اليوم، بالرغم من أنّه لم يقم عليها دليلٌ كافٍ.

وحيث إنّ الإمام المهدي(ع) هو آخر الأئمّة المعصومين الاثني عشر، في الفهم الإمامي، إذاً فسوف لن يوجد أمام معصوم آخر يقوم بتجهيزه ما لم نقل بالرجعة، وأنّ إماماً من الأئمّة السابقين يعود إلى الدنيا بهذه المهمّة؛ ومن هنا قد يجعل هذا الأساس الثالث دليلاً على الرجعة نفسها.

٦٢١

إلاّ أنّ الصحيح: أنّ الأساس الأوّل هو الالتزام بالرجعة على وجه الإجمال أقوى الأُسس الثلاثة دليلاً، فمن غير المحتمل أن يصلح الأساسان الآخران كدليل عليه، لكنّنا سنرى في أدلّة الرجعة تشويشاً واضطراباً وغرابةً، تسقطها عن كفاية الإثبات التاريخي.

ولو أنّنا سلّمنا بالأساس الثالث، فلا ضرورة إلى القول بالرجعة؛ لإمكان تطبيق هذه القاعدة على البديل الآخر للرجعة، وهو أن يمارس الحكم بعد المهدي (ع) أولياء صالحون غير الأئمّة المعصومين السابقين، كما سنوضحه في الباب التالي.

فمع شيءٍ من التوسّع في فهم هذا الأساس الثالث، يكون خليفة المهدي (ع) تطبيقاً من تطبيقات هذا الأساس؛ لأنّه معصوم بمعنى من المعاني - على ما سنعرف - ولأنّه خير أهل الأرض بعد المهدي (ع).

فلو فرضنا قيام الدليل الكافي على هذا الأساس الثالث، فهو لا يأبى عن هذه الصورة بكل تأكيد، ولشرح ذلك والتوسّع فيه مجال آخر.

الجهة الخامسة: - من هذا الباب -: في أُمور أُخرى أشارت إليها الأخبار السابقة.

الأمر الأوّل: أنّ المهدي (ع) إذا مات صلّى عليه المسلمون.

وهذا أمر طبيعي بصفته إمام المسلمين ورئيسهم الأعلى، وهم يشكّلون يومئذٍ الأكثرية الساحقة في العالم.

والذي يصلّي عليه - عادةً - هو خليفته، أيّاً كان، أعني: سواء صحّ القول بالرجعة أو لم يصح؛ فإنّه - بعد المهدي - رئيس المسلمين وخير أهل الأرض.

ويبدو أنّ المسيح عيسى بن مريم (ع)، لن يقوم بهذه الصلاة، لنفس السبب الذي رفض في أوّل نزوله تولّي إمامة الجماعة، كما انحسرت عنه خلافة المهدي بالرغم من بقائه بعده، وهو السبب الذي أشار إليه الخبر السابق، تكرمة الله هذه الأُمّة.

الأمر الثاني: قال الخبر الأخير: فإذا تمّت السبعون أتى الحجّة الموت. يُراد بهذه السبعين أنّ الحجّة القائم المهدي (ع) يبقى في الحكم سبعين عاماً، ولابد أنّ هذا منطلق من الخبر الذي سمعناه في فصل سابق من أنّه يبقى سبع سنين، كل سنة كعشر سنين من سنيّكم هذه، إذاً، فهو يبقى سبعين سنة. وقد سبق أن فهمنا هذا الخبر وأمثاله بشكل لا نصل معه إلى هذه النتيجة، فليراجع.

الأمر الثالث: نصّ أكثر من خبر واحد: أنّه لا خير في الحياة بعد المهدي (ع)، أو

٦٢٢

لا خير في العيش بعده.

وهو أمر صحيح كما سنذكر، وقد اختصّت به المصادر العامّة، دون الإمامية، ولكن قد يبدو للذهن منافاته مع إحدى فكرتين:

الفكرة الأُولى: القول بالرجعة، فإنّ وجود الأئمّة المعصومين (ع) بعد المهدي (ع) يعني: انحفاظ التطبيق على مستواه الرفيع من دون أي خلّةٍ أو نقصٍ، فيكون الخير في العيش بعد المهدي موجوداً.

ولعلّه لهذا لم يتبيّن الفكر الإمامي التقليدي مثل هذه العبارة، وخاصّةً وهو يؤمن: أنّ الأئمّة المعصومين من نورٍ واحدٍ، ولهم قابليات متماثلة وآراء مشتركة لا يختلف أوّلهم عن آخرهم؛ فإذا وُجد الحسين (ع) بعد المهدي (ع) أمكن أن يأخذ بزمام القيادة الإسلامية، تماماً كالمهدي.

ولا يحول دون ذلك سوى احتمال واحد من احتمالين ذكرناها في التاريخ السابق(١) وهو أن يكون المهدي أفضل ممّن سبقه من الأئمّة (ع) أو من أكثرهم على الأقل، وقد سمعنا هناك الأخبار الدالّة على ذلك والمبررات الكافية له؛ إذ يكون الفرق بين القيادتين كافياً على صدق هذه العبارة: لا خير في الحياة بعده.

الفكرة الثانية: القول بوجود المجتمع المعصوم، فإنّ وجوده يعني: وجود الخير كله بعد المهدي، لا أنّه خير في الحياة بعده.

والصحيح صدق هذه العبارة حتى مع القول بوجود هذه المجتمع، إذ سيأتي في الباب التالي: أنّ القيادة التي ستخلف المهدي هي قيادة الأولياء الصالحين، وليس الأئمّة المعصومين، كما أنّ المجتمع المعصوم سوف لن يوجد بسرعة وبسهولة، بل سيتأخر كثيراً بعد وفاة الإمام المهدي.

فإذا التفتنا إلى ذلك، استطعنا أن نعرف: أنّ هناك فترة من الزمن هي التي تلي وفاة الإمام المهدي (ع) يشعر فيها المجتمع العالمي بكل وضوح الفرق بين القيادتين، وهو فرق كبير مهما أرادت القيادة الجديدة أن تبذل من الجهود، ومهما استطاعت أن تنتج من النتائج.

فإنّ المجتمع سيرى الفرق الكبير بين القيادة المهدوية التي عاصرها، وسعد تحت لوائها، وشاهد مميّزاتها، وبين القيادة الجديدة، كل ما في الأمر أنّ هذه القيادة ستستطيع بالتدريج البطيء،

____________________

(١) ص ٥١٢.

٦٢٣

وتحت القواعد المهدوية العامّة لتربية البشرية، الوصول بالبشري إلى المجتمع المعصوم.

فهذا الجيل المعاصر لقيادة الإمام المهدي، سيقول عند وفاته بكل تأكيد: إنّه لا خير في حياةٍ بعده.

٦٢٤

القسم الثالث

العالم بعد المهدي (ع)

وهو ينقسم إلى بابين:

٦٢٥

٦٢٦

الباب الأوّل

قيادة ما بعد المهدي (ع)

من حيث خصائص الدولة والمجتمع

ونتكلّم عن ذلك في فصل واحد ذو عدّة عناوين داخلية:

٦٢٧

٦٢٨

قيادة ما بعد المهدي

وأعني به نوعيّة الحاكم الأعلى الذي يتولّى رئاسة الدولة العالمية العادلة بعده.

ونوجه بهذا الصدد أُطروحتين رئيسيّتين:

الأُطروحة الأولى: القول بالرجعة، أي الالتزام برجوع الأئمّة المعصومين إلى الدنيا ليمارسوا الحكم بعد المهدي.

الأطروحة الثانية: حكم الأولياء الصالحين بعد المهدي (ع).

وقد ورد في إثبات كل من الأطروحتين عدد من الأخبار، لابد من سماع المهم منها، وعرضها على القواعد والقرائن العامّة، لنختار في النهاية إحدى الأُطروحتين.

القول بالرجعة:

حين ننظر إلى المفهوم على سعته، يحتمل أن يكون له أحد عدّة معان:

المعنى الأوّل: ظهور المهدي نفسه، فإنّه قد يصطلح عليه بالرجعة، باعتبار رجوعه إلى الناس بعد الغيبة، أو باعتبار رجوع العالم إلى الحق والعدل بعد الانحراف.

وهذا المعنى حق صحيح، إلاّ أنّ اصطلاح الرجعة عليه غير صحيح؛ لأنّه يوهم المعاني الأُخرى الآتية التي هي محل الجدل والنقاش، ونحن في غنى عن هذا الاصطلاح بعد إمكان التعبير عن ظهور المهدي بمختلف التعابير، وقد مشينا في هذا الكتاب على تسميته ( بالظهور ).

المعنى الثاني: رجوع بعض الأموات إلى الدنيا، وإن لم يكونوا من الأئمّة المعصومين، وخاصّة مَن محض الإيمان محضاً، ومَن محض الكفر محضاً.

٦٢٩

المعنى الثالث: رجوع بعض الأئمّة المعصومين (ع) كأمير المؤمنين علي (ع) والحسين، وربّما قيل برجوع النبي أيضاً. وهم يرجعون على شكل يختلف عن حال وجودهم الأوّل في الدنيا، من حيث الترتيب، ومن حيث الفترة الزمنية أيضاً.

المعنى الرابع: رجوع كل الأئمّة (ع) بشكل عكسي، ضد الترتيب الذي كانوا عليه في الدنيا، فبعد المهدي يظهر أبوه الإمام الحسن العسكري، وبعده يظهر أبوه الإمام علي الهادي، وهكذا.

ويمارسون الحكم في الدنيا ما شاء الله تعالى، حتى إذا وصل الحكم إلى أمير المؤمنين كان هو دابة الأرض، وكانت نهاية البشرية بعد موته بأربعين يوماً.

والمعنيان الأخيران قائمان على الفهم الإمامي للإسلام، كما هو واضح، كما أنّ المعاني الثلاثة الأخيرة التي وقعت محل الجدل والنقاش في الفكر الإسلامي.

وينبغي لنا أوّلاً: أن نسرد الأخبار الدالة على ذلك، ونحن نختار نماذج مهمّة ولا نقصد الاستيعاب:

أخرج المجلسي في البحار(١) بالإسناد عن محمد بن مسلم، قال: سمعت حمران بن أعين وأبا الخطاب يحدّثان جميعاً - قبل أن يحدث أبو الخطاب ما أحدث - أنّهما سمعا أبا عبد الله (ع) يقول:

( أوّل مَن تنشق الأرض عنه ويرجع إلى الدنيا الحسين بن علي. وإنّ الرجعة ليست بعامّة، وهي خاصّة، لا يرجع إلاّ مَن محض الإيمان محضاً، أو محض الكفر محضاً ).

وبهذا الإسناد عن بكر بن أعين، قال: قال لي مَن لا أشك فيه، يعني أبا جعفر (ع): أنّ رسول الله (ص) وعليّاً سيرجعان.

( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً ) فقال: ليس أحداً من المؤمنين قُتل إلاّ وسيرجع حتى يموت، ولا أحد من المؤمنين مات إلاّ سيرجع حتى يُقتل.

وفي روايةٍ أُخرى عنه (ع) يقول فيها:

____________________

(١) البحار:ج١٣ ص٢١٠ وكذلك الأخبار الثلاثة التي بعده.

٦٣٠

( فلم يبعث الله نبيّاً ولا رسولاً إلاّ ردّهم جميعاً إلى الدنيا، حتى يقاتلوا بين يدي على بن أبي طالب أمير المؤمنين (ع) ).

وفي رواية أُخرى(١) عن حمران عن أبي جعفر، قال:

( إنّ أوّل مَن يرجع لجاركم الحسين (ع)، فيملك حتى تقع حاجباه على عينيه من الكبر ).

وعن أبي بصير(٢) عن أبي عبد الله (ع)، قال:

انتهى رسول الله (ص) إلى أمير المؤمنين (ع) وهو نائم في المسجد، وقد جمع رملاً ووضع رأسه عليه. فحرّكه برجله ثم قال: قم يا دابّة الله. فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله، أنُسمي بعضنا بعضاً بهذا الاسم؟ فقال: لا والله ما هو إلاّ له خاصّة، وهو الدابة التي ذكر الله في كتابه:( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ ) (٣) .

ثم قال: يا علي، إذا كان آخر الزمان أخرجك الله في أحسن صورة ومعك ميسم تسم به أعدائك... إلى أن قال: فقال الرجل لأبي عبد الله (ع): إنّ العامّة تزعم أن قوله:( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً ) (٤) عنى في القيامة، فقال أبو عبد الله (ع) فيحشر الله يوم القيامة من كل أُمّة فوجاً ويدع الباقين؟ لا، ولكنّه في الرجعة، وأما آية القيامة:( وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ) (٥) .

وعن(٦) الحسن بن الجهم، قال: قال المأمون للرضا (ع): يا أبا الحسن ما تقول في الرجعة؟ فقال:

( إنّها الحق، قد كانت في الأُمم السالفة ونطق بها القرآن ). وقد قال

____________________

(١) المصدر: ص٢١١.

(٢) المصدر: ص٢١٣.

(٣) ٢٧/٨٢.

(٤) ٢٧/٨٣.

(٥) ١٨/٤٧.

(٦) البحار ج ١٣ص٢١٤.

٦٣١

رسول الله (ص): يكون في هذه الأُمّة كل ما كان في الأُمم السالفة حذوا النعل بالنعل والقذّة بالقذّة. وقال (ع): ( إذا خرج المهدي من ولدي، نزل عيسى بن مريم فصلّى خلفه ). وقال (ع): ( إنّ الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء. قيل: يا رسول الله. ثم يكون ماذا؟ قال: ثم يرجع الحق إلى أهله ).

وعن(١) عبد الله بن سنان، قال: قال أبو عبد الله (ع) قال رسول الله (ص):

( لقد أسرى بي ربّي عزّ وجلّ، فأوحى إليّ من وراء حجاب ما أوحى وكلّمني ما كلّم به، وكان ممّا كلّمني به... يا محمد، عليٌّ آخر مَن أقبض روحه من الأئمّة (ع) وهو الدابة التي تكلّمهم..... ) الخبر.

وفي البحار أيضاً(٢) عن الإرشاد: روى عبد الكريم الخثعمي، عن أبي عبد الله (ع) قال:

( إذا آن قيام القائم مطر الناس جمادى الآخرة وعشرة أيام من رجب، لم تر الخلائق مثله. فينبت الله به لحوم المؤمنين وأبدانهم في قبورهم، وكأنّي أنظر إليهم مقبلين من قبل جهينة، ينفضون شعورهم من التراب ).

وقال المجلسي بعد سرده للأخبار:

اعلم يا أخي أنّي لا أظنّك ترتاب بعد ما مهّدت وأوضحت لك في القول بالرجعة التي أجمعت الشيعة عليها في جميع الأعصار، واشتهرت بينهم كالشمس في رابعة النهار.... وكيف يشك مؤمن بحقّية الأئمّة الأطهار فيما تواتر عنهم من مئتي حديث صريح، رواها نيّف وأربعون من الثقات العظام والعلماء الأعلام، في أزيد من خمسين من مؤلّفاتهم، ثم عدّهم المجلسي واحداً واحداً.

وهذا الكلام من المجلسي يواجه عدّة مناقشات:

المناقشة الأُولى: إنّ إجماع الشيعة وضرورة المذهب عندهم، لن تثبت على الإطلاق، بل المسألة عندهم محل الخلاف والكلام على طول الخط. والمتورّعون منهم

____________________

(١) المصدر: ص٢١٧.

(٢) المصدر: ص٢٢٣.

٦٣٢

يقولون: إنّ الرجعة ليست من أُصول الدين ولا من فروعه ولا يجب الاعتقاد بشيء، بل يكفي إيكال علمها إلى أهله. فهل في هذا الكلام - وهو الأكثر شيوعاً - اعتراف بالرجعة.

وإنّما اعتراف مَن اعترف بالرجعة وأخذ بها، نتيجة لهذه الأخبار التي ادعى المجلسي تواترها، إذاً، فالرأي العام المتّخَذ حولها - ولا أقول الإجماع - ناتج من هذه الأخبار، ولا يمكن أن تزيد قيمة الفرع على الأصل.

المناقشة الثانية: إنّه من الواضح: أنّ مجرّد نقل الرواية لا يعني الالتزام بمضمونها والتصديق بصحّتها، من قِبل الناقل أو الراوي؛ إذاً فهؤلاء الأربعون الناقلون لهذه الروايات لا يمكن أن نعدّهم من المعترفين بالرجعة.

المناقشة الثالثة: إنّ هؤلاء الرواة الاثنين والأربعون الذين عدّدهم المجلسي لم يجتمعوا في جيل واحد. فلو رُويت أخبار الرجعة من قِبل أربعين شخصاً في كل جيل حتى يتصل بزمن المعصومين (ع)، لكانت أخبار الرجعة متواترة. ولكن يبدو من كلام المجلسي نفسه، وهو أوسع الناس اطّلاعاً في عصره، أنّ مجموع الناقلين لأخبار الرجعة من المؤلّفين في كل الأجيال الإسلامية إلى حين عصره، لا يعدو النيّف والأربعين راوياً. فلو أخذنا المعدّل، وهو عملية لا مبرّر لها الآن، لرأينا أنّه يعود إلى كل جيل حوالي أحد عشر مؤلّفاً، لأن المجلسي عاش في القرن الحادي عشر الهجري،وهو عدد لا يكفي للتواتر.

المناقشة الرابعة: إنّ عدد المؤلَّفات التي ذكرها المجلسي، لا تثبت عن مؤلِّفيها، أو لم تصلنا عنهم بطريق صحيح مضبوط، أو أنّ روايته عن مؤلّفه ضعيفة أساساً، كتفسير علي بن إبراهيم، وكتب أُخرى لا حاجة إلى تعدادها.

المناقشة الخامسة: إنّ الروايات التي نقلها هؤلاء، ليست كلها صريحة وواضحة، وسنعرف عمّا قليل أنّها مشوّشة قد لا تدل على الرجعة أصلاً، وقد تدل على الرجعة بالمعنى العام المشترك بين الاحتمالات الثلاثة السابقة، وقد تدل على واحد منها بعينه وتنفي الاحتمالات الأُخرى. وهكذا.

إذاً فالتواتر المدّعى ليس له مدلول معيّن، ومعنى ذلك: أنّ الأخبار لم تتواتر على مدلول بعينه. وسنحاول إيضاح هذه النقطة أكثر.

ومعه، فكلام المجلسي يحتوي على شيءٍ من المبالغة في الإثبات على أقل تقدير وأمّا مناقشات مداليل الأخبار، فنشير إلى المهم منها:

المناقشة الأولى: عدم اتحاد الأخبار بالمضمون؛ فإنّ مداليلها مختلفة اختلافاً

٦٣٣

شديداً، حتى لا يكاد يشترك خبران على مدلولٍ واحدٍ تقريباً.

والمداليل التي تُعرب عنها الأخبار عديدة:

المدلول الأوّل: رجوع مَن محض الإيمان محضاً، ورجوع مَن محض الكفر محضاً.

المدلول الثاني: رجوع كل مؤمن على الإطلاق؛ لأنّه إن كان قد مات فهو يرجع ليقتل، وإن كان قد قتل فيرجع ليموت.

المدلول الثالث: رجوع الأنبياء جميعاً.

المدلول الرابع: رجوع رسول الله (ص).

المدلول الخامس: رجوع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.

المدلول السادس: رجوع الحسين بن علي (ع).

المدلول السابع: رجوع جماعة من كل أمة.

المدلول الثامن: رجوع عدد من المؤمنين في الجملة.

المدلول التاسع: رجوع بعض الأئمّة المعصومين (ع) إجمالاً.

المدلول العاشر: رجوع الحق إلى أهله، وهو ليس قولاً بالرجعة كما عرفنا.

وليس شيء من هذه المداليل متواتر في الأخبار بكل تأكيد.

نعم، هناك مدلول مشترك إجمالي بين الأخبار الدالة على المداليل التسعة الأُولى.

وهو رجوع بعض الأموات إجمالاً إلى الدنيا قبل يوم القيامة. وهو ما تتسالم عليه كثير من الأخبار. ومن هنا يكون قابلاً للإثبات، إلاّ أنّه لا ينفع القائلين بالرجعة، على ما سنقول.

المناقشة الثانية: إنّ الالتزام بصحّة المداليل التسعة جميعاً، أي القول بصحّة الرجعة على إطلاقها، ممّا لا يمكن، لضعف الأخبار الدالة على كثيرٍ منها. وأمّا الالتزام بها إجمالاً، بالمعنى الذي أشرنا إليه، فهو لا ينفع القائلين بالرجعة؛ لأنّ القول بالرجعة من الناحية الرسميّة يتضمّن أحد المعاني الثلاثة التي ذكرناها في أوّل الفصل. وهذا المعنى الإجمالي لا يعني واحداً منها، بل ينسجم مع افتراضات أُخرى كما هو واضح.

فهي لا تتعيّن في حدوثها بعد وفاة المهدي (ع) مباشرةً، ولا أنّها على نطاقٍ واسع.

ولا تتعيّن في أحد المعصومين (ع) ولا مَن محض الإيمان محضاً، ولا غير ذلك.

٦٣٤

نعم، هناك مداليل تتكرّر في الأخبار، وأوضحها رجوع الإمام أمير المؤمنين (ع) بصفته دابّة الأرض التي نصّ عليها القرآن االكريم. إنّ هذه المداليل لا ترد عليها هذه المناقشة، وهي قابلة للإثبات من زاويتها.

المناقشة الثالثة: إنّ القول بالرجعة يتخذ سمةً عقائدية، فإنّه على تقدير صحّته يعتبر أحد العقائد - وإن لم يكن من أُصولها - وليس هو من الفروع والتشريعات على أيّ حال.

وقد نصّ علماء الإسلام بأنّ العقائد لا تثبت بخبر الواحد، وإن كان صحيحاً ومتعدّداً، ما لم يبلغ حدَّ التواتر، وقد علمنا أنّ الأخبار في المداليل التسعة والمعاني الثلاثة غير متواترة، فلا تكون الأخبار قابلة لإثبات أيٍّ منها، حتى لو كان المضمون متكرّراً في الأخبار، ما لم يصل إلى حدّ التواتر.

وأمّا المضمون الإجمالي المتواتر، فقد عرفنا أنّه لا ينفع القائلين بالرجعة، وسنزيد هذا إيضاحاً.

المناقشة الرابعة: إنّ المعنى الأخير من المعاني الأربعة التي ذكرناها أوّلاً، وهو رجوع الأئمّة المعصومين (ع) بشكل عكسي، لعلّه من أكثر أشكال الرجعة تقليديّةً ورسوخاً في الأذهان المعتقدة بها؛ وقد وجدنا أنّه ليس هناك ما يدل عليها على الإطلاق ولا خبر واحد ضعيف، بل ليس هناك أي خبر يدل على رجوع جميع الأئمّة المعصومين على التعيين، ولو بشكل مشوّش، إلاّ بحسب إطلاقات أعم منها بكثير، ككونهم ممّن محض الإيمان محضاً.

بل إنّ هناك ما يدل على نفي هذا المعنى التقليدي، كقوله في الخبر: أوّل مَن تنشقّ الأرض عنه ويرجع إلى الدنيا الحسين بن علي.... فإنّه لو صحّ ذلك لكان أوّل مَن يرجع هو الإمام الحسن العسكري (ع) وليس الحسين (ع).

وأمّا دلالة القرآن الكريم على الرجعة: فإمّا أن نفهمه على ضوء الأخبار المفسِّرة له، وإمّا أن نفهمه مستقلاًّ.

أمّا فهمه على ضوء الأخبار، وهو باستقلاله، غير ظاهر بذلك المعنى، فهذا لا يعدو قيمة الخبر الدال على هذا الفهم، ويواجه نفس الإشكالات التي واجهناها في الأخبار. ومن ثم يكون من اللازم الاستقلال في فهم الآيات.

وإذا نظرنا إلى الآيات المذكورة للرجعة؛ وجدنا لكل منها معنىً مستقلاًّ لا يمتّ إلى الرجعة بصلة، حتى بذلك المعنى الإجمالي العام، أي أنّها لا تدل على إحياء بعض الموتى

٦٣٥

قبل يوم القيامة، ولا أقل من احتمال ذلك المسقط لها عن الاستدلال على الرجعة.

وقد استدل البعض بأكثر من ثلاثين آية في هذا الصدد، وهو تطرّف ومبالغة في الاستدلال بكل تأكيد، وإنّما نودّ أن نشير هنا إلى ثلاث آيات فقط، تعتبر هي الأهم بهذا الصدد، لنرى مقدار دلالتها على الرجعة:

الآية الأُولى: قوله تعالى:( قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ) (١) .

وطريقة فهم الرجعة منها: أنّ الآية تشير إلى حياتين وموتين للناس. ونحن لا نعرف إلاّ حياةً واحدةً وموتاً واحداً، فأين الثاني منهما؟

وجوابه: إنّ ذلك إنّما يكون في الرجعة، فإنّها تتضمّن حياةً ثانيةً وموتاً بعدها، فإذا أضفناها إلى الحياة المعاصرة والموت الذي يليها، كان المجموع اثنين اثنين.

غير أنّ هذا الفهم إنّما يكون صحيحاً بأحد أُسلوبين:

الأُسلوب الأول: أن تصح الأخبار الدالة عليه. وقد عرفنا مناقاشاتها.

الأُسلوب الثاني: أن يكون فهماً منحصراً، بحيث لا يوجد مثله أو أظهر منه في سياق الآية، فإن وُجد ذلك، لم يكن الاعتماد على هذا الفهم.

وهذه الآية تتضمّن معاني محتملة غير الرجعة:

المعنى الأوّل: أن يكون الموت يشير إلى ما قبل الميلاد، حال وجود النطفة مثلاً، وأن تكون الحياة الثانية هي الحياة في يوم القيامة، فإذا أضفناها إلى الحياة والموت المعهودَين كانا كما قالت الآية الكريمة.

المعنى الثاني: أن يكون المشار إليه هو حياة وموت آخر يكون في داخل القبر لأجل الحساب والسؤال، كما ثبت في الإسلام وقوعه.

المعنى الثالث: أن يكون المشار إليه هو حياة وموت آخر يكون في عالم البرزخ، أي أنّ الميّت يحيى بعد موته إلى عهدٍ قريب من يوم القيامة، ثم يموت بنفخة الصور الأُولى حين يُصعق مَن في السموات والأرض، وأمّا الإحياء ليوم القيامة فهو زمن التكلم وكأنّه غير

____________________

(١) ٤٠ / ١١.

٦٣٦

داخل في الحساب.

إلى معاني أُخرى محتملَة، ولعلّ أكثرها ظهوراً هو المعنى الأوّل، دون معنى الرجعة والمعاني الأُخرى؛ فلا تكون الآية دالّة على الرجعة بحال.

ولعلّ أوضح ما يقرّب المعنى الأوّل على معنى الرجعة هو أنّ المعنى الأوّل عامّ لكل الناس، والرجعة خاصّة ببعضهم، وظهور الآية هو العموم.

الآية الثانية: قوله تعالى:( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً ) (١) .

وقد أشار أحد الأخبار التي سمعناها إلى طريقة فهم الرجعة من هذه الآية: أنّ الله تعالى يحشر في يوم القيامة الناس جميعاً، لا أنّه يحشر بعضاً ويدع بعضاً: وهو المشار إليه في قوله تعالى:( وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ) ، إذاً فهي لا تشير إلى حشر يوم القيامة، وإنّما تشير إلى حشر آخر هو الحشر في الرجعة.

وإنّما سُمّي حشراً باعتبار أنّه يتضمّن الحياة بعد الموت لجماعات كثيرة، مشابهاً من هذه الجهة لحشر يوم القيامة.

ونحن إذا نظرنا إلى الآية الكريمة باستقلالها، لن نجدها دالّةً على الرجعة بحال، ولا اقل من احتمال معنى آخر بديل لمعنى الرجعة، لا تكون الآية دالّة عليه أقل من دلالتها على معنى الرجعة.

وهذا المعنى هو الحشر التدريجي، فإنّ الحشر والحساب في يوم القيامة له أحد أُسلوبين محتمَلَين:

الأُسلوب الأوّل: الحشر الدفعي أو المجموعي، بمعنى: أن يُحشر الناس كلهم من أوّل البشرية إلى آخرها سويّةً، ويحاسبون على أعمالهم.

وهذا هو المركوز في الأذهان عادةً، غير أنّه ليس في القرآن ما يدل عليه، وترد عليه بعض المناقشات لسنا الآن في صددها.

الأُسلوب الثاني: الحشر التدريجي: جيلاً بعد جيل، أو ديناً بعد دين، أو مجموعة بعددٍ معيّنٍ بعد مجموعة، وهكذا. وحتى يتمّ حساب الدفعة الأُولى تُحشر الدفعة الثانية، وهكذا.

____________________

(١) ٢٧ /٨٣.

٦٣٧

فقد تكون الآية التي نحن بصددها دالّة على هذا الأُسلوب من الحشر، حيث يقول:( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً ) ؛ لأنّ حشر الجيل الواحد يتضمّن أن يعود إلى الحياة جماعة من كل مذهب ودين:( مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ ) كما كان عليه الحال في الدنيا. وهو لا يريد إهمال الآخرين، بل هو يشير إلى دفعة واحدة من الحشر التدريجي، وأما الدفعات الأُخرى فيأتي دورها تباعاً. ولن تكون مهملة بدليل قوله تعالى:( وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ) أي أنّ الحشر التدريجي سيستوعب في النتيجة كل البشرية من أوّلها إلى آخرها.

إذاً، فكلتا الآيتين تشير إلى يوم القيامة، ولا تمتّ إلى الرجعة بصلة، ولا أقل من احتمال ذلك، بحيث تكون دلالتها على الرجعة غير ظاهرة.

الآية الثالثة:

( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ ) (١) .

وطريقة دلالتها على الرجعة بأحد أُسلوبين:

الأُسلوب الأوّل: أنّ حادثة خروج دابّة الأرض تكون عند الرجعة، فهي تخرج مع الراجعين لتقوم بوظيفتها بينهم.

إلاّ أنّ هذا الأُسلوب غير صحيح بكل وضوح؛ لأنّ الآية لا تشير إلاّ إلى خروج دابّة الأرض، وأمّا أنّها تخرج في جيل طبيعي في جيل الرجعة، فهذا ما لا تشير إليه الآية إليه بحال.

الأُسلوب الثاني: أنّها تشير إلى رجعة دابّة الأرض نفسها، أعني حياتها بعد الموت، فهي تشير إلى رجعة شخص واحد لا أكثر. وإذا أمكن ذلك في شخص أمكن في عديدين.

وهذا يتوقّف على أن نفهم من ( دابّة الأرض ) أنّه إنسان سبق له أن عاش في هذه الحياة؛ وفي الآية قرينة على بشريّة هذه الدابّة وهي قوله: ( تكلّمهم ) فإنّ الكلام يكون من البشر دون غيره. ويتوقّف على أن نفهم من قوله ( أخرجنا ) معنى: أرجعنا إلى الحياة بعد الموت، لا أنّ هذا الإنسان يولد في حينه. وقد يجعل قوله تعالى:( أَنَّ النَّاسَ

____________________

(١) ٢٧ / ٨٢.

٦٣٨

كَانُوا بِآَيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ ) ، دليلاً على ذلك؛ لأنّ الآية إنّما تكون بالرجوع بعد الموت، وأمّا لو كان يولد في زمانه، لما حدثت الآية، وقد قامت الأخبار التي سمعنا طرفاً منها، بتعيين هذا الإنسان بالإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع).

والإنصاف: أنّ فكرة الأُسلوب الثاني هي المستفادة من الآية الكريمة، فدابّة الأرض هو إنسان بعينه، وقوله أخرجنا دالٌّ على الإيجاد غير الطبيعي لا على مجرّد الولادة؛ إذاً، فالآية الكريمة دالة على رجعة هذا الإنسان.

غير أنّها لا تدل على أي معنى آخر للرجعة، لا العام ولا الخاص، ومن المحتمل بل المؤكّد أنّ هناك مصلحة في حكمة الله تعالى لرجوع دابّة الأرض، لا تتوفّر في أي بشريٍّ آخر، ومعه لا يمكن القول بالتعميم منه إلى رجعة أي شخص آخر. ومجرّد الإمكان في قدرة الله عزّ وجلّ، وهو ممّا لا شك فيه، لا يدل على الوقوع الفعلي.

وإذا وصلنا إلى هذه النتيجة، استطعنا أن نستنتج نتيجةً أُخرى مهمّة، هي التوحيد بين مدلول القرآن ومدلول الأخبار. فإنّنا عرفنا أنّ الأخبار لا يمكنها أن تثبت إلاّ المعنى الإجمالي الذي تواترت الأخبار عليه، وهو رجوع بعض الأموات إلى الحياة قبل يوم القيامة، بشكل يناسب أن يكون هذا الراجع واحداً لا أكثر. وهذا صالح للانطباق على ما دلّ عليه القرآن الكريم من رجعة دابّة الأرض. فإنّ هذا المعنى الإجمالي لم يثبت انطباقه بدليلٍ كافٍ إلاّ على دابّة الأرض فيتعيّن فيه، بعد ضمّ الدليلين إلى بعضهما.

ومعه في الإمكان القول: إنّ المقدار الثابت في السنّة الشريفة، ليس أكثر ممّا دلّ عليه القرآن الكريم، كما أنّ ما دلّ عليه القرآن الكريم هو بعينه ما ثبت في السنّة.

ومعه، فلم يثبت أي معنى من معاني الرجعة ولا احتمالاتها السابقة، وإنّما لابد لنا كمسلمين: أن نتعبّد بخروج دابّة الأرض التي نطق بها القرآن الكريم. وفي الإمكان أن نسمّي ذلك بالرجعة، إلاّ أنّه على خلاف اصطلاحهم.

فهذا هو نبذة الكلام حول الرجعة.

حكم الأولياء الصالحين:

أخرج الشيخ في الغيبة(١) بسنده عن أبي حمزة، عن أبي عبد الله (ع) - في حديث

____________________

(١) ص٢٨٥.

٦٣٩

طويل - أنّه قال:

يا أبا حمزة، إنّ منّا بعد القائم أحد عشر مهديّاً.

وأخرج أيضاً(١) بإسناده إلى جابر الجعفي، قال:

سمعت أبا جعفر(ع) يقول: والله ليملكنّ منّا أهل البيت رجل بعد موته ثلاثمئة سنة. قلت: متى يكون ذلك؟ قال: بعد القائم. قلت: وكم يبقى القائم في عالمه. قال: تسع عشر سنة. ثم يخرج المنتصر فيطلب بدم الحسين (ع) ودماء أصحابه فيقتل ويسبي، حتى يخرج السفّاح.

وأخرجه النعماني في الغيبة(٢) إلى قوله:

تسع عشر سنة، إلاّ أنّه قال: ثلاثمئة سنة ويزداد تسعاً.

وأخرج في البحار(٣) نقلاً عن غيبة الشيخ، عن أبي عبد الله الصادق (ع)، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (ع)، قال:

قال رسول الله (ص) في الليلة التي كانت فيها وفاته، لعلي: يا أبا الحسن، أحضر صحيفة ودواة. فأملى رسول الله (ص) وصيته حتى انتهى ( إلى ) هذا الموضع. فقال: يا علي: إّنّه سيكون بعدي اثنا عشر إماماً ومن بعدهم اثني عشر مهديّاً. فأنت يا علي أوّل الاثنا عشر إمام... وساق الحديث، إلى أن قال: وليسلّمها الحسن ( يعني الإمام العسكري (ع) إلى ابنه محمد المستحْفَظ من آل محمد صلّى الله عليه وعليهم. فذلك اثني عشر إماماً. ثم يكون من بعده اثنا عشر مهديّاً. فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه أوّل المهديين ( المقرّبين: نسخة الغيبة ). له ثلاثة أسامي: اسم كاسمي واسم أبي، وهو: عبد الله، وأحمد. والاسم الثالث: المهدي. وهو أوّل المؤمنين.

وفي عدد من الأدعية الواردة في المصادر الإمامية الدعاء لهؤلاء الأولياء الصالحين

____________________

(١) ص٢٨٦.

(٢) ص١٨١.

(٣) ج١٣ ص٢٣٧. وانظر غيبة الشيخ.

٦٤٠

بعد الدعاء للمهدي (ع) والسلام عليه.

ففي بعض الأدعية المكرّسة للدعاء للمهدي (ع) والثناء عليه، يقول في آخره:

اللّهمّ صلّ على ولاة عهده والأئمّة من بعده، وزد في آجالهم، وأعزّ نصرهم، وتمّم لهم ما أسندت إليهم من أمرك، وثبّت دعائمهم، واجعلنا لهم أعواناً وعلى دينك أنصاراً... الخ الدعاء(1) .

وفي دعاء آخر يذكر فيه المهدي (ع) ويثني عليه طويلاً، ويقال في آخره:

وصلّ على وليّك وولاة عهدك والأئمّة من ولده، ومدّ في أعمارهم، وزد في آجالهم، وبلّغهم أقصى آمالهم ديناً ودنياً وآخرة؛ إنّك على كل شيءٍ قدير (2) .

إلى غير ذلك من الأدعية.

هذا، وقد حاول المجلسي في البحار(3) أن يرفع التنافي بين هذه الأخبار من حيث كونها دالّة على إيكال الرئاسة العليا بعد المهدي (ع) إلى غير الأئمّة المعصومين (عليهم السلام)، وبين القول بالرجعة الذي يقول: بإيكال الرئاسة إلى الأئمّة المعصومين أنفسهم. حيث قال: هذه الأخبار مخالفة للمشهور. يعني القول بالرجعة.

وطريق التأويل أحد وجهين:

الأوّل: أن يكون المراد بالاثني عشر مهديّاً: النبي وسائر الأئمّة سوى القائم (ع)، بأن يكون ملكهم بعد القائم....

والثاني: أن يكون هؤلاء المهديّون من أحبّاء القائم هادين للخلق في زمن سائر الأئمّة الذين رجعوا؛ لئلاّ يخلو الزمان من حجّة. وإن كان أوصياء الأنبياء الأئمّة حججاً أيضاً. والله تعالى أعلم.

وقال الطبرسي في أعلام الورى(4) : وجاءت الرواية الصحيحة بأنّه ليس بعد دولة القائم دولة لأحد، إلاّ ما روي من قيام ولده إن شاء الله ذلك، ولم ترد في الرواية على القطع والثبات. وأكثر الروايات أنّه لن يمضي - يعني المهدي القائم (ع) - من الدنيا إلاّ

____________________

(1) مفاتيح الجنان المعرّب ص542.

(2) المصدر ص53.

(3) ج13 ص237.

(4) ص435.

٦٤١

قبل القيامة بأربعين يوماً، يكون فيها الهرج.

هذا ما قالته المصادر الإمامية، ولم نجد لدولة ما بعد المهدي في المصادر العامّة أيّ أثر.

ونودّ أن نعلّق أوّلاً على كلام المجلسي: إنّه يعترف سلفاً أنّ كلا الوجهين نحو من أنحاء التأويل، والتأويل دائماً خلاف الظاهر، فلا يصار إليه إلاّ عند الضرورة، ولا يكفي مجرّد الإمكان أو الاحتمال لإثباته.

وعلى أي حال، فالوجه الأوّل حاول فيه المجلسي على أن يقول أنّ الأولياء الاثني عشر بعد المهدي (ع) هم الأئمّة المعصومون الاثنا عشر أنفسهم، فترتفع المعارضة بين روايات الأولياء وروايات الرجعة، ويكون المراد منهما معاً الأئمّة المعصومين أنفسهم.

إلاّ أنّ هذا الوجه قابل للمناقشة من وجوه، نذكر منها اثنين:

الوجه الأوّل: إنّ عدداً من روايات الأولياء التي سمعناه، تنصّ على أنّ الأولياء الاثني عشر من ولد الإمام المهدي (ع).

قال في أحد الأخبار: ( ثم يكون من بعده اثني عشر مهديّاً، فإذا حضرته الوفاة - يعني المهدي - فليسلّمها إلى ابنه أوّل المهديين ).

وقال في الدعاء ( والأئمّة من ولده ). مع أنّ الأئمّة المعصومين السابقين هم آباء الإمام المهدي (ع) بكل وضوح.

الوجه الثاني: إنّنا لم نجد - كما عرفنا - دليلاً كافياً على عودة الأئمّة الاثنا عشر كلهم، لا بشكل عكسي ولا بشكل مشوّش، وإنّما نصّ فقط - بعد النبي (ص) - على أمير المؤمنين (ع) وابنه الحسين (ع).

وإذا لم يثبت رجوع الأئمّة الاثنا عشر جميعاً، كيف يمكن حمل هذه الأخبار عليه؟

وأمّا الوجه الثاني: االذي ذكره المجلسي، فيتلخّص في الاعتراف بوجود الأئمّة المعصومين (ع) والأولياء الصالحين في مجتمع ما بعد المهدي (ع) متعاصرين. ولكنّ الحكم العام سيكون للمعصومين (ع). وأمّا الأولياء فسيكونون هداةً عاملين في العالم من الدرجة الثانية؛ وبذلك يرتفع التعارض بين الروايات.

وأوضح ما يرد على هذا الوجه، هو أنّ روايات الأولياء، صريحة بمباشرتهم للحكم على أعلى مستوى، بحيث يكون التنازل عن هذه الدلالة تأويلاً باطلاً، كقوله: ( ليملكن من أهل البيت رجل ) وقوله: ( فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها - يعني الإمامة، أو

٦٤٢

الخلافة - إلى ابنه أوّل المهديين ) قوله: ( اللّهمّ صلِّ على ولاة عهده والأئمّة من بعده ) ونحوه في الدعاء الآخر.

ويحتوي كلام المجلسي في الوجه الثاني على استدلال ضمني على الرجعة مع جوابه.

وملخّص الاستدلال: أنّه ثبت في الفكر الإسلامي أنّ الأرض لا تخلو من حجّة باستمرار ما دام للبشرية وجود، حتى لو كان اثنان كان أحدهما الحجّة على صاحبه. ولكنّ الأرض بعد الإمام المهدي (ع) ستخلو من الحجّة، ما لا نقل بالرجعة، ليرجع الأئمّة المعصومون (ع) ليكونوا هم الحجج بعده، تطبيقاً لهذه القاعدة.

إلاّ أنّه من حسن الحظ أن يكون المجلسي نفسه قد أجاب على ذلك.

وملخّص الجواب: إنّنا لا نحتاج إلى القول بالرجعة كتطبيق لتلك القاعدة، بل إنّ حكم الأولياء الصالحين تطبيق لها أيضاً، قال المجلسي لأنّ ( أوصياء الأنبياء و( أوصياء ) الأئمّة حجج أيضاً ) فالأرض تكون مشغولة بصفتهم أوصياء للأئمّة (ع)، فلا تكون خالية من الحجّة.

ومعه لا تكون هذه القاعدة مثبتة للرجعة، ولا منافية مع حكم الأولياء الصالحين.

وأمّا تعليقنا على كلام الطبرسي، فهو أنّ ما ذكره من أنّ ما رُوي من قيام ولد المهدي (ع) بعده، لم يرد على القطع واليقين، أمر صحيح؛ لأنّ الروايات الدالة على حكم الأولياء الصالحين متواترة، ولكنّنا سنرى أنّها صالحة للإثبات التاريخي، وهذا يكفينا في المقام.

وأمّا ما ذكر من أنّه ليست بعد دولة القائم دولة لأحد، فهو أمر صحيح؛ لأنّه إن أُريد بدولة القائم نظام حكمه، فهو نظام مستمر إلى نهاية البشرية تقريباً أو تحقيقاً على ما سنسمع، وليس وراءه حكم آخر. وإن أُريد به حكمه ما دام في الحياة، بحيث تنتهي البشرية بعده مباشرة، فهو أمر غير محتمل؛ لأنّه أمر تدل كثير من الروايات على نفيه: كروايات الرجعة وروايات الأولياء وروايات أنّ الساعة لا تقوم إلاّ على شرار الخلق، وغير ذلك، بل تدل على ذلك بعض آيات القرآن: كآية دابّة الأرض بعد العلم بعدم خروجها في زمن المهدي (ع) نفسه.

إذاً، فالبشرية، ستبقى بعد المهدي (ع) والنظام سوف يستمر، وإنّما يراد من ذلك القول: إنّه ليس بعد دولة القائم دولة لأحد من المنحرفين والكافرين على الشكل الذي كان قبل ظهوره.

٦٤٣

وأمّا قوله: وأكثر الروايات أنّه لن يمضي من الدنيا إلاّ قبل القيامة بأربعين يوماً... فهذه الروايات سنسمعها، ومؤدّاها أنّ الحجّة سيُرفع - أي يموت - قبل القيامة بأربعين يوم، وسنرى أنّه ليس المراد بالحجّة شخص الإمام المهدي بل شخص آخر، قد يوجد بعد زمان المهدي (ع) بدهرٍ طويل.

وبعد هذه المناقشات، وقبل إعطائهم الفهم الكامل لحكم الأولياء الصالحين، لابد لنا أن نجيب على هذا السؤال الذي يخطر في ذهن القارئ: وهو أنّنا كيف استطعنا أن نعتبر روايات كافية للإثبات التاريخي، على حين لم نعتبر روايات الرجعة كافية للإثبات، مع أنّها أكثر عدداً وأغزر مادةً وأوضح في أذهان العديدين.

وأمّا من زاوية كفاية روايات الأولياء للإثبات التاريخي، فهو واضح طبقاً لمنهجنا في هذا التاريخ أنّها متكاثرة ومتعاضدة، وذات مدلول متشابه إلى حدٍّ بعيد.

وأمّا من زاوية معارضتها لأخبار الرجعة، فهو واضح بعد فشل الوجهين اللذين ذكرهما المجلسي للجمع بين الأخبار، إذ يدور الأمر عندئذٍ بين أن يكون الحكم بعد المهدي (ع) موكولاً إلى المعصومين (ع) أو إلى الأولياء الصالحين.

ونحن حين نجد أنّ أخبار الرجعة غير قابلة للإثبات، كما عرفنا، ونجد أنّ أخبار الأولياء قابلة للإثبات. كما سمعنا، لا محيص لنا على الأخذ بمدلول أخبار الأولياء بطبيعة الحال.

وبالرغم من أنّ مجرّد ذلك كافٍ في السير البرهاني، إلاّ أنّنا نودّ أن نوضح ذلك بشكل أكثر تفصيلاً.

إنّ نقطة القوّة الرئيسية في أخبار الأولياء المفقودة في أخبار الرجعة، هي أنّ أخبار الأولياء ذات مضمون مشترك تتسالم عليه، بخلاف أخبار الرجعة، فإنّها ذات عشرة مداليل على الأقل، ليس لكل مدلول إلاّ عدد ضئيل من الأخبار قد لا يزيد أحياناً على خبرٍ واحد.

ومن هنا نقول لمَن يفضّل أخبار الرجعة: ها أنت تفضّل أخباراً منها ذات مدلول معيّن، كرجوع الإمام الحسين (ع) مثلاً، أو تفضّل تقديم مجموع أخبار الرجعة.

فإن رأيت تفضيل قسم معيّن من أخبار الرجعة، فهي لا شك أقل عدداً وأضعف سنداً من أخبار الأولياء، بل وأقل شهرةً أيضاً. وكل قسم معيّن منها يصدق عليه ذلك بكل تأكيد، غير ما دلّ على رجوع الإمام علي بن أبي طالب (ع)، الذي سوف نشير إليه.

٦٤٤

وإن رأيت تفضيل مجموع أخبار الرجعة على أخبار الأولياء، إذاً فستصبح أخبار الرجعة بهذا النظر متعارضة ومختلفة المدلول - كما عرفنا - غير ذلك المدلول العام الإجمالي الذي برهنا على انطباقه على خروج دابّة الأرض التي نطق بخروجها القرآن الكريم. وهو - بمنطوق الأخبار - يعني خروج علي أمير المؤمنين (ع)، وهو بعيد عن أي مفهوم تقيلدي للرجعة، بل هو ليس من الرجعة في شيء؛ فإنّ مفهوم دابّة الأرض غير مفهوم الرجعة عندهم.

وهذا المفهوم لا ينافي حكم الأولياء الصالحين، ولا يعارض الأخبار الدالة عليه؛ وذلك لعدّة أُمور، نشير إلى أمرين منها:

الأمر الأوّل: إنّ خروج دابّة الأرض غير محدّد بتاريخ، لا في القرآن الكريم ولا في السنّة الشريفة، ومعه فقد يحدث بعد حكم الأولياء الصالحين بمدة طويلة.

الأمر الثاني: إنّ دابّة الأرض سوف لن تأتي لتمارس الحكم الأعلى في الدولة العالمية العادلة، كما يُستشعر من القرآن وتصرّح به الأخبار، بل تأتي من أجل إعطاء الأفراد حسابهم الكامل فتعيّن منزلة كل فرد ودرجة تطبيقه للمنهج العادل المطلوب منه، ولعلّنا نوضح ذلك فيما بعد.

وإذا تمّ ذلك، لم يكن خروج الدابّة منافياً مع حكم الأولياء حتى لو خرجت في زمن حكمهم؛ لأنّ وظيفتهم في المجتمع غير وظيفتها.

وبعد ترجيح روايات حكم الأولياء الصالحين، ينبغي لنا أن نقدّم لها فهماً متكاملاً ملحقاً بالتسلسل الفكري الذي سرنا عليه في هذا الكتاب. ثم نعقبه بدرأ ومناقشة بعض الإشكالات التي قد تخطر في الذهن في هذا الصدد.

إنّ الإمام المهدي (ع) لن يهمل أمر الأُمّة الباقية بعده، لا لمجرّد أن لا تبقى رهن الانحلال والضياع، وإن كان هذا صحيحاً كل الصحّة، بل لأكثر من ذلك، وهو ما قلناه من أنّ إحدى الوظائف الرئيسة للمهدي (ع) بعد ظهوره هو: تأسيس القواعد العامّة المركّزة والبعيدة الأمد لتربية البشرية في الخط الطويل، تربية تدريجية لكي تصل إلى المجتمع المعصوم.

وهذه التربية لا يمكن أن يأخذ بزمام تطبيقها إلاّ الإنسان الصالح الكامل حين يصبح رئيساً للدولة العادلة، ومثل هذا الرجل لا يمكن معرفته لأحد غير الإمام المهدي نفسه، ولعلّه يوليه التربية الخاصّة التي تؤهّله لهذه المهمّة الجليلة. وأمّا احتمال تعيينه بالانتخاب فهو غير وارد على ما سنقول.

٦٤٥

ومن هنا سيقوم الإمام (ع) بتعيين ولي عهده أو خليفته، خلال حياته وربّما في العام الأخير، ليكون هو الرئيس الأعلى للدولة العالمية العادلة بعده، والحاكم الأوّل لفترة حكم ( الأولياء الصالحين ).

وبالرغم من أنّ هذا الحاكم قد يكون هو أفضل من الأحد عشر الآتين بعده؛ باعتبار أنّه نتيجة تربية الإمام المهدي (ع) شخصيّاً، والمعاصر لأقواله وأفعاله وأساليبه، بخلاف ما سيأتي بعده من الحاكمين، بالرغم من ذلك فإنّه سيفرق فرقاً كبيراً عن المهدي (ع ) نفسه، على حدٍّ يصدق ( أنّه لا خير في الحياة بعده ).

والسر في ذلك - على ما يبدو - يعود إلى أمرين رئيسيين:

الأمر الأوّل: ما سبق أن عرفناه من الفرق الشخصي والثقافي والنفسي بين الإمام المهدي (ع) وخليفته؛ الأمر الذي ينتج اختلافاً واضحاً في التصرّفات بينهما.

الأمر الثاني: راجع إلى الأُمّة نفسها أو البشرية كلها، بتعبيرٍ آخر من حيث أنّ المجتمع مهما كان قد سار بخطوات كبيرة نحو الأمام، في السعادة والعدالة والتكامل، إلاّ أنّه لم يصل إلى درجة العصمة بأي شكلٍ من أشكالها التي سنشير إليها، وبقيت هناك في أطراف العالم مجتمعات متخلّفة عن الركب العام؛ لوجود انخفاض مدني أو حضاري جديد سابق فيها، منعها أن تكون - مهما ارتفعت بجهود الإمام المهدي (ع) - مواكبة للاتجاه العالمي العادل العام.

إذاً فستكون التركة العالمية ثقيلة جدّاً، وتخلّفات عدد من الأفراد والمجتمعات عن تطبيق العدل، بعد ذهاب القائد الأعلى، محتملة جدّاً... وعدم استيعاب الكثيرين من وعيهم العقائدي لضرورة التجاوب الكلّي مع الرئيس الجديد، احتمال وارد تماماً، وخاصّة وأنّ الأمر الأوّل من هذين الأمرين سيعيشه العالم يومئذٍ بكل وضوح.

نعم، لا شك أنّ الإمام المهدي (ع) قبل وفاته قد أكّد وشدّد، بإعلانات عالمية متكرّرة على ضرورة إطاعة خليفتة، وعلى ترسيخ ( حكم الأولياء الصالحين ) في الأذهان ترسيخاً عميقاً، إلاّ أنّ البشرية حيث لا تكون بالغة درجة الكمال المطلوب؛ فإنّها ستكون مظنّة العصيان والتمرّد في أكثر من مجال.

ولكن وجود هذه المصاعب لا يعني الفشل بحال، بعد القواعد التربوية التي تلقّاها هذا الحاكم عن الإمام المهدي بكل تفصيل.

إنّ الدولة ستبقى مهيبة ومحبوبة للجماهير على العموم، وستبقى تمارس التربية المركّزة باستمرار، تماماً كما كانت عليه في

٦٤٦

عصر الإمام المهدي، أخذاً بالمنهج المهدوي العام.

وسيكون حكم الأولياء الصالحين، فترة تمهيدية أو انتقالية، يوصل المجتمع العالمي إلى عصر العصمة، حيث يكون الرأي العام المتّفق معصوماً، كما أشرنا في التاريخ السابق(1) وعندئذٍ سترتفع الحاجة إلى التعيين في الرئاسة العامّة، كما كان عليه الحال خلال حكم الأولياء الصالحين، وستوكل الرئاسة إلى الانتخاب أو الشورى، حين يكون الأفراد كلهم من:

( لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) (2) .

وستوضع الشورى موضع التنفيذ طبقاً لقوانين تصدر يومئذٍ، لا يمكن التعرّف عليها الآن.

وببدء الشورى يكون عصر حكم الأولياء الصالحين المنصورين بالتعيين قد انتهى. ولكنّ الحكّام الجدد المنتخبين سيكونون أولياء صالحين أيضاً، إلاّ أنّ هناك فرقاً بين أُسلوب تربيته أساساً.

إنّ الحاكم الذي سيتم تنصيبه عن طريق التعيين، يكون بكل تأكيد نتيجة لتربية خاصّة مركّزة من قِبل سلفه، مقترنة بالتعليم الواضح المفصّل للقواعد الموروثة من قِبل الإمام المهدي (ع).

وأمّا الحاكم المنتخب، فهو لا يكون إلاّ في مجتمع يكون رأيه العام معصوماً، ومثل هذا المجتمع كما أنّ الأعم الأغلب من أفراده صالحين وعادلين، ولذا أصبح رأيه العام معصوماً؛ لأنّ الرأي العام من الصالحين لا يكون إلاّ صالحاً. يحتوي - إلى جنب ذلك - على عدد يقل أو يكثر وصلوا إلى درجة عليا من العدالة والالتزام الصالح، قد نسمّيها بالعصمة، أعني ما يُسمّى بلغة الفلاسفة المسلمين: بالعصمة غير الواجبة. وبتلك الصفة نفسها يكونون مؤهّلين لتولّي الرئاسة العامّة للدولة العالمية العادلة، ولن يكون بينهم وبين تولّيهم الفعلي إلاّ تجمّع الأصوات في صالح أحدهم.

بقيت بعض الأسئلة و المناقشات، تلقي أجوبتها أضواء كافية على هذا التسلسل الفكري، نعرضها على شكل سؤال وجواب.

____________________

(1) تاريخ الغيبة الكبرى ص480.

(2) 42/36 - 38.

٦٤٧

السؤال الأوّل: ما هو عدد الأولياء الصالحين؟

هذا ما لابد في تعيينه الرجوع إلى الأخبار السابقة. قال الخبر الأوّل الذي نقلناه: ( إنّ منّا بعد القائم أحد عشر مهديّاً ).

وقال في خبرٍ آخر ( ثم يكون من بعده اثنا عشر مهديّاً ).

وموقفنا من هذا الاختلاف: أنّنا إمّا أن نعتبر كلا الخبرين، إذا نظرنا لكل واحد منهما مستقلاًّ، قابلاً للإثبات التاريخي.

وإمّا أن نعتبرهما معاً غير قابلين له، أو يكون أحدهما قابلاً دون الآخر.

فإن لم يكونا قابلين للإثبات، وهذا لا يعني سقوط أصل نظرية حكم الأولياء الصالحين؛ لاستفادتها من مجموع الأخبار... إذاً فيصعب الجواب على هذا السؤال، فقد يكون عددهم كثيراً وقد يكون قليلاً، تبعاً للمصلحة التي يراها المهدي نفسه حين يؤسّس هذا الحكم بعده، وميزاته - كما عرفنا - تصل البشرية إلى عهد الشورى حين يكون الرأي العام معصوماً، ولا يبقى العدد مهمّاً إلى درجة عالية.

نعم، قد ينبثق من التفكير الإمامي رجحان أن يكون الأولياء اثني عشر، كما كان الأئمّة المعصومون (ع) اثني عشر، غير أنّ هذا بمجرّده لا يكفي للإثبات كما هو واضح.

وإن كان كلا الخبرين قابلاً للإثبات دون الآخر، أخذ بمدلوله دون الآخر، ويمكننا بَدويّاً أن نقول: إنّ الخبر القائل بعدد الاثني عشر أصحّ وأثبت فيُؤخذ به، ويبقى الآخر غير قابل للإثبات.

وأمّا إذا كان كلا الخبرين قابلين للإثبات، فيمكن الجمع بينهما برفع اليد عن ظهور الخبر القائل بالأحد عشر وليّاً، عن ظهوره بالحصر والضبط، بقرينة الخبر الآخر القائل بالاثني عشر، تكون النتيجة هو الالتزام بالاثني عشر بطبيعة الحال.

وبذلك يظهر أنّ الرقم الاثني عشر راجح على كل التقادير، وإن كان يحتاج إلى دليل مثبت أحياناً، وسنفرضه فيما يلي أمراً مسلّماً لتسهيل الفكرة على أقل تقدير.

السؤال الثاني: كم مدّة حكم الأولياء الصالحين بالسنين؟

إذا كان عدد الأولياء الحاكمين اثني عشر، وهم يتولّون الرئاسة في عمر اعتيادي بطبيعة الحال، غير أنّ معدّل العمر الاعتيادي في دولة العدل الكامل في مجتمع السعادة والأُخوّة والرفاه، لن يكون هو الستين أو السبعين، بل هو مئة على أقل تقدير، ومن هنا

٦٤٨

يمكن أن يعيش الرئيس ثمانين عاماً منها، وهو على كرسي الرئاسة؛ فإذا كان معدّل بقاء الفرد منهم ستّين عاماً، كان مجموع مدّة حكم الأولياء الصالحين سبعمئة وعشرين عاماً.

وهي مدّة كافية جدّاً لتربية البشرية تربيةً مركّزة دائبة ودقيقة، وإيصالها إلى مجتمع العصمة.

السؤال الثالث: كيف يعرف المجتمع بدء صفة العصمة؟

ومعرفته بذلك يعني عدّة نتائج، أهمّها ما عرفناه من انتهاء حكم الأولياء الصالحين وبدء حكم الأولياء المنتخبين عن طريق الشورى.

لمعرفة المجتمع بذلك عدّة أُطروحات محتملة:

الأُطروحة الأُولى:

في غاية البساطة، وهي أنّ المجتمع عرف بوصيّة المهدي (ع) نفسه عدد الأولياء الصالحين الذين سيمارسون الحكم فيه، ككونهم اثني عشر فرداً - مثلاً - فإذا تمّ العدد؛ كان حكم هؤلاء الأولياء قد انتهى وبالملازمة يكون مجتمع العصمة قد بدأ، إذ من غير المحتمل أن تكون الدولة قد فشلت في مهامّها التربوية.

الأُطروحة الثانية: لو فرضنا عدد الأولياء كان مجهولاً، وهو أمر بعيد عن أي حال، فمن المحتمل أن تكون هناك وصيّة خاصّة بالأولياء أنفسهم موروثة من الإمام المهدي (ع) تقول: في عام كذا إذا مات الولي الحاكم يومئذ، فعليه ألاّ يوصي إلى شخصٍ بعده، بل ينتقل الأمر إلى الشورى. وقد يكون في ضمن الوصيّة تعليل ذلك بأنّ مجتمع العصمة قد بدأ.

الأُطروحة الثالثة: أن تكون هناك وصيّة خاصّة بالأولياء موروثة عن الإمام المهدي (ع) تحدّد انتهاء حكمهم بحوادث وصفات اجتماعية معيّنة، تعود إمّا إلى وقائع تاريخية، أو إلى تحديد في المستوى العقلي والثقافي للبشرية، الذي سيكون عليه في المستقبل، أو إلى غير ذلك.

وهذه الأُطروحة صادقة أيضاً فيما إذا لم يكن عدد الأولياء الصالحين معيّناً سلفاً.

السؤال الرابع: إنّ هؤلاء الأولياء الصالحين، هل هم متفرّقون من حيث النسب، أو أنّهم متسلسلون في النسب ينتهون إلى الإمام المهدي (ع) نفسه، أو أنّهم على شكلٍ آخر؟

وينبغي أن نفهم سلفاً أنّه لا أهميّة كبيرة في الجواب على هذا السؤال؛ إذ الأهم في الموضوع هو صفاتهم الذاتية وأعمالهم العادلة، دون قضيّة النسب.

٦٤٩

نعم، أجابت بعض الأخبار على ذلك، قال أحدها: ( إنّ منّا بعد القائم أحد عشر مهديّاً ). والمفهوم من قوله من أنّهم من نسل أهل البيت (ع) إجمالاً. وقال الخبر الآخر: ( فليسلّمها إلى ابنه أوّل المهديين ) وهو دال على أنّ الولي الأوّل ابن المهدي نفسه، ولم يذكر الأولياء الذين بعده.

ويقول أحد الأدعية التي سمعناها: ( وولاة عهدك والأئمّة من ولدك ).

فلو اعتبرنا كل هذه الأخبار قابلة للإثبات مستقلّة، لفهمنا أنّ هؤلاء الأولياء الصالحين هم من نسل أهل البيت (ع) ولا يراد بأهل البيت في لغة الأخبار إلاّ الأئمّة المعصومين (ع). وحيث لا يحتمل أن يكونوا من نسل إمام آخر غير المهدي (ع) باعتبار بُعد المسافة الزمنية، إذاً فهم من أولاد الإمام المهدي نفسه. وهذا افتراض واضح تعضده بعض هذه الأخبار، ولا تنفيه الأخبار الأُخرى.

يبقى لدينا: هل أنّهم متسلسلون في النسب أحدهم ابن الآخر، أو أنّهم متفرّقون من هذه الجهة، وإن انتسبوا إلى المهدي في النهاية.

وفي هذا الصدد لا تسعفنا الأخبار بشيء، لكن هناك فكرة عامّة صالحة للقرينية على التسلسل النسبي. وهي ما نسمّيه بتسلسل الولاية. فإنّ كل ولي في ذلك العهد المرحلي، السابق على صفة العصمة، يحتاج إلى إعداد خاص وتربية معيّنة، قبل أن يتولّى الحكم.

ومن الصحيح أنّ المجتمع ككل، وخاصّة إذا كان صالحاً وعادلاً، يمكنه أن يربّي الحاكم أفضل تربية، إلاّ أنّ هناك عدداً من الحقائق والأساليب والقوانين الاجتماعية وغيرها، تكون خاصّة بالحاكم عادةً ولا يعرفها غيره على الإطلاق، وهي موروثة وراثة خاصّة عن الإمام المهدي (ع)، وهي تحتاج في ترسيخها وكشفها إلى الحاكم الجديد، إلى مدّةٍ وجهود من قِبل الحاكم السابق، الأمر الذي لا يتوفّر عادةً بين الوالد وولده، ومن الصعب جدّاً توفّره بين أبناء الأعمام مثلاً.

ومعه، فمن المظنون جدّاً أن يكون تسلسلهم النسبي محفوظاً، من أجل الحفاظ على تسلسل الولاية الضروري لتربية كل حاكم.

السؤال الخامس: هل المنطلق إلى فكرة ( حكم الأولياء الصالحين ) بعد الإمام المهدي هو الفهم الإمامي للمهدي، أو ينسجم مع الفهم الآخر.

كلاّ. إنّ حكم الأولياء الصالحين الذي طرحناه، ينسجم تماماً مع الفهم الآخر

٦٥٠

الذي يقول: إنّ المهدي رجل يولد في حينه فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، ولا ربط له مباشر بغيبة المهدي قبل ظهوره ولا بكونه الإمام الثاني عشر من الأئمّة المعصومين كما هو واضح.

غير أنّ فكرة حكم الأولياء الصالحين، يبقى مفتقراً للدليل من أخبار العامّة أنفسهم. ولم نجد في حدود تتبّعنا أيّ إشارةٍ في تلك المصادر إلى دولة ما بعد المهدي (ع)، مهما كانت صفتها، ويبقى مفكرو العامّة بعد ذلك مخيّرين بالالتزام بهذه الأُطروحة.

السؤال السادس: ماذا - بعد ذلك - عن احتمال العصيان والتمرّد خلال حكم الأولياء الصالحين.

لا شك أنّ هذا الاحتمال يتضاءل تدريجياً، بالتربية المركّزة التي تمارسها الدولة باتجاه العدالة والكمال. حتى ما إذا وصل المجتمع إلى درجة العصمة، ولو بأوّل أشكالها، ارتفع احتمال التمرّد والعصيان ارتفاعاً قطعيّاً؛ لبرهان بسيط هو: منافاة العصمة مع العصيان، ولا أقل من أن تكون الأكثرية الساحقة للبشرية كذلك، بحيث من الصعب أن يفكّر أحد في حركة تمرّد أو بثّ دعاية باطلة.

وإنّما يقع التساؤل عن الفترات الأُولى لحكم الأولياء الصالحين، عدّة ضمانات ضد مثل هذا الاحتمال، يمكننا أن نتعرّف على بعضها، بحسب مستوانا الذهني المعاصر:

الضمان الأوّل: السعادة والرفاه والأُخوة والتناصف بين الناس، هذا الذي أسّسه ونشره الإمام المهدي نفسه، الأمر الذي يجعل الفرد، ومن ثمّ الجماعات تميل تلقائياً إلى حب هذا النظام واحترامه والتعاطف معه، ممّا يحدو بالأعمّ الأغلب جدّاً من الناس بعدم التفكير بأي عصيان واضح، بل يحدو الكثيرين إلى الوقوف تلقائياً تجاه أي تمرّد أو عصيان يفهمون به، وفضحه ولوم صاحبه لوماً شديداً.

الضمان الثاني: القواعد والأُسس الخاصّة التي علّمها المهدي (ع) نفسه لخلفائه، ممّا يمتّ إلى طبيعة المجتمع وحركة التاريخ، وأفضل الطُرق في التصرّف به ودفع شروره، وجلب مصالحه. الأمر الذي كان هو (ع)، أكثر الناس علماً به واطلاعاً على تفاصيله.

ومن أجل فوائد علمه بذلك، تزريقه إلى خلفائه الصالحين، ليستطيعوا أن يبنوا دولتهم الحديثة، ويدفعوا عنها الشرور بأيسر طريق.

٦٥١

الضمان الثالث: عالمية الدولة العادلة: فإنّ لهذا العنصر جهتين من الضمان:

الجهة الأُولى: الهيبة التي تكسبها الدولة العالمية في نفوس الناس وعقولهم، بصفتها تمارس حكماً مركزيّاً مهمّاً لم تمارسه أي دولة أُخرى في التاريخ.

الجهة الثانية: سيطرتها على كل مصادر ومصانع الأسلحة في العالم لا يستثنى من ذلك شيء، ولها الطُرق المعقّدة للحد من التهريب والختل والخداع ونحو ذلك.

فهذه الضمانات وغيرها، تنتج في هذا الصدد، نتيجتين مهمّتين:

النتيجة الأُولى: أنّها تقف ضد احتمال كثرة التمرّد والعصيان، بشكل يعيق عن تطبيق المنهج التربوي العام، إذ مع وجودها سيقل مَن يفكّر من البشر بالحركات العصيانية.

النتيجة الثانية: أنّها تقف ضد ما قد يحدث من حوادث التمرّد والعصيان من القلائل الذين قد يفكّرون بذلك، وعن طريق هذه الضمانات التي تملكها الدولة، ستستطيع أن تقضي على كل حركة.

السؤال السابع: هل لدابّة الأرض خلال هذا العهد، وظيفة معيّنة؟

لمّا كانت الوظيفة الرئيسة لدابّة الأرض، كما يُستفاد من الأخبار، هي تمييز الكافر من المؤمن، والمنحرف من الملتزم، وإعطاء القيمة الأخلاقية لكل منهم علانية، فهذا لا يمكن أن ينجز في عهد ما بعد الظهور، المتطوّر نحو المجتمع المعصوم الخالي من الكفّار والمنحرفين... فهو لا يمكن أن يُنجز إلاّ في إحدى فترتين:

الفترة الأُولى: فترة ما بعد المهدي (ع) مباشرةً، حيث تعيش الدولة العالمية العادلة أحرج عهودها وأدق فتراتها، بعد فقد قائدها العظيم.

فإنّه من الصحيح - كما عرفنا - أنّ الإمام المهدي (ع) قام باستئصال المنحرفين من الكرة الأرضية، إلاّ أنّ هناك جزءاً من البشر، مهما كان قليلاً، قد سلّم لدولة المهدي خوفاً أو طمعاً، لا عن إخلاصٍ حقيقي، فمن المحتمل جدّاً أن تتحرّك الأطماع بعد القائد الأعظم إلى السيطرة على الدولة، أو على بعض أجزائها على الأقل.

والضمانات السابقة وإن كانت صالحة للوقوف ضد أي احتمال، غير أنّه من المحتمل أن تخرج دابّة الأرض، لتأخذ بعضد الدولة العالمية العادلة، باتجاه النصر والسيطرة على كل تمرّد وعصيان.

٦٥٢

الفترة الثانية: الفترة السابقة على يوم القيامة مباشرة، وهي فترة سنبحث عن صحّة وجودها في الفصل القادم. غير أنّه - على تقدير صحّتها - سيتصف المجتمع العالمي خلالها بالكفر والانحراف، بعد أن يكون قد تنازل عن آخر صفات العصمة والعدالة. فمن المحتمل أنّ دابّة الأرض تخرج لتضمن بقاء المؤمنين على إيمانهم، ومدى خسارة الكافرين والمنحرفين، حين تنازلوا بسوء تصرّفاتهم عن العصمة والعدالة، وتقف في وجه الذين يكفرون بقتل المؤمنين، أو الإطاحة بكيانهم بشكلٍ وآخر.

وعلى أي حال، فحيث نعلم من القرآن الكريم، بضرورة خروج دابّة الأرض، وعدم خروجها خلال المجتمع المعصوم؛ لعدم انسجام وظيفتها معه، كما أنّه ليس هناك احتمال حقيقي لخروجها قبل الظهور... إذاً يتعيّن وجودها في إحدى الفترتين المشار إليهما. وأمّا إذا عرفنا في الفصل الآتي عدم وجود الدليل على انحراف المجتمع بعد اتصافه بالعصمة، إذاً ينحصر خروج دابّة الأرض بعد وفاة المهدي (ع) مباشرة، لتقوم بوظيفتها الكاملة.

وبذلك يكون سيف الإمام علي بن أبي طالب قد وطّد الإسلام في ( آخر الزمان ) كما وطّده في عصر الرسالة وصدر الإسلام (سلام الله عليه).

وبهذه الأسئلة وضعنا الرتوش الكافية على فترة حكم الأولياء الصالحين وما بعدها، ولا ينبغي لنا أن نزيد على ذلك، وإنّما نحيل القارئ إلى الكتاب الرابع الآتي من هذه الموسوعة.

٦٥٣

٦٥٤

الباب الثاني

قيام الساعة على شِرار الخَلْق

وهو بابٌ في فصلٍ واحد

٦٥٥

٦٥٦

وينبغي أن يتمّ الحديث في هذا الفصل ضمن عدّة جهات:

الجهة الأُولى: في سرد أهم الأخبار الدالة على ذلك، وهي واردة في مصادر الفريقين.

أخرج مسلم في صحيحه(1) عن عبد الله بن عمر، عن رسول الله (ص) - في حديث تحدّث فيه عن الدجّال والمسيح عيسى بن مريم (ع)، ثم تحدّث فيه عن عصر ما بعد المسيح، فقال فيما قال -:

( فيبقى شرار الناس في خفّة الطير وأحلام الساعة، لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، فيتمثّل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون؟ فيقولون: فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان، وهم في ذلك دارٌّ رزقهم حسنٌ عيشهم، ثم ينفخ في الصور ).

وأخرج أبو داود(2) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (ص):

لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمن مَن عليها، فذاك حين( لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً ) (3) .

وأخرج الحاكم في المستدرك(4) عن أبي أُمامة، قال: سمعت رسول الله (ص) يقول:

____________________

(1) ج8 ص201.

(2) ج2 ص430.

(3) 6 / 158.

(4) ج4 ص440.

٦٥٧

( لا يزداد الأمر إلاّ شدّة، ولا المال إلاّ إفاضة، ولا تقوم الساعة إلاّ على شرارٍ من خلقه ).

وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وأخرج أيضاً(1) عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله (ص):

( لا يزداد الأمر إلاّ شدّة، ولا الدين إلاّ إدباراً، ولا الناس إلاّ شحّاً، ولا تقوم الساعة إلاّ على شرار الناس، ولا مهدي إلاّ عيسى بن مريم ).

وأخرج الشيخ في الغيبة(2) عن عبد الله بن جعفر الحميري، قال:

اجتمعت أنا والشيخ أبو عمرو(3) عند أحمد بن اسحاق بن سعيد الأشعري القمّي، فغمزني أحمد أن أسأله عن الخَلَف - يعني الحجّة المهدي (ع).

فقلت له: يا أبا عمرو إنّي أريد ( أن ) أسألك وما أنا بشاكٍّ فيما أريد أريد أن أسألك عنه، فإنّ اعتقادي وديني: أنّ الأرض لا تخلو من حجّة إلاّ إذا كان قبل يوم القيامة بأربعين يوماً، فإذا كان ذلك وقعت ( رفعت ) الحجّة، وغلق باب التوبة. فلم يكن( يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً... ) (4) فأولئك الأشرار من خلق الله عزّ وجلّ. وهم الذين تقوم عليهم القيامة... الحديث.

وأخرج السيد البحراني في معالم الزلفى(5) عن بستان الواعظين، قال حذيفة: كان الناس يسألون رسول الله (ص) عن الخير وكنت أسأله عن الشر فقال النبي (ص):

( يكون في آخر الزمان فتن كقطع الليل المظلم، فإذا غضب الله تعالى على أهل الأرض أمر الله سبحانه وتعالى إسرافيل أن ينفخ نفخة الصعق، فينفخ على حين غفلة من الناس... ) الحديث.

فهذه كل الروايات التي وجدناها دالة على هذا المضمون.

الجهة الثانية: في نقد هذه الأخبار:

____________________

(1) ج4 ص440 ويرويه في الصواعق (98) عن ابن ماجة.

(2) ص 218.

(3) هو الشيخ عثمان بن سعيد، النائب الأوّل للمهدي (ع) خلال غيبته الصغرى.

(4) 6 / 158.

(5) ص 136.

٦٥٨

إنّ أكثر هذه الأخبار يمكن إسقاطها عن الاستدلال تماماً؛ لأنّ كل خبر يواجه بحياله بعض المناقشات، فلا يبقى منها إلاّ القليل.

أمّا الخبر الذي أخرجه مسلم في صحيحه، فهو يصف أوّلاً فسق الناس وإطاعتهم للشيطان، وتحوّلهم إلى عابدي أوثان. وهذا كُلّه - بمعنىً وآخر - ممّا يقع قبل الظهور.

ويقول بعدها: ثم يُنفخ في الصور. والنفخ فيه كناية عن نهاية البشرية، إلاّ أنّ وجود هذه النهاية في ذلك الجوّ الفاسق ممّا لا يدل عليه الخبر؛ لأنّ حرف العطف ( ثم ) دليل على التراخي والانفصال كما نصّ النحاة واللغويون، فإن لم يكن الخبر دليلاً على بقاء البشرية بعد ذلك المجتمع الفاسق، فلا أقل من كونه ليس دليلاً على انتهائه به.

وأمّا خبر أبي داود، فهو غير دال بالمرّة على المضمون المشار إليه، فهو دال على أنّ الناس يؤمنون كلهم حين تطلع الشمس من مغربها. ولا يقول شيئاً غير ذلك، وقد قلنا في التاريخ السابق(1) إنّ المراد من الشمس التي تطلع من مغربها: المهدي، حيث يطلع بعد غيبته، ولا تُقبل عندئذٍ من الفاسق توبة.

وكذلك الخبر الثاني الذي نقلناه عن الحاكم، فإنّ فيه قوله: ولا مهدي إلاّ عيسى بن مريم، وقد نقده ورفضه أهل الحديث العامّة والخاصّة، كما سبق، ولا حاجة إلى تكراره، مضافاً إلى إشكالات أُخرى مشتركة ستأتي.

وكذلك الخبر الذي نقلناه عن معالم الزلفى، فإنّه خبر مرسَل وضعيف، ويحتوي من خلاله على مضامين مدسوسة وغير صحيحة، كما يبدو لمَن راجعه في مصدره.

لا يبقى عندنا - بعد هذا - إلاّ خبران، أحدهما: الخبر الأوّل الذي نقلناه عن الحاكم، والخبر الذي أخرجه الشيخ في الغيبة.

على أنّ خبر الشيخ أيضاً لا يخلو من مناقشة، فإنّه ليس رواية عن معصوم، وإنّما يعبِّر فيه عبد الله بن جعفر الحميري عن اعتقاده، وليس بالضرورة أنّ كل ما يعتقده له الإثبات التاريخي الكافي، وإن كان هو شخصيّاً من العلماء الصالحين، كما ثبت في تاريخه.

وعلى أي حال، فالخبران يواجهان إشكالاً مشتركاً، هو أنّ مثل هذه القضيّة وهي: أنّ الساعة لا تقوم إلاّ على شرار الناس، من الأُمور الاعتقادية في الدين، ومن الواضح عند العلماء أنّ الأُمور الاعتقادية لا تثبت بخبر الواحد وإن كان صحيحاً سنداً وواضحاً

____________________

(1) تاريخ الغيبة الكبرى ص 596.

٦٥٩

مضموناً، وإنّما تثبت فقط بالخبر المتواتر القطعي، مع العلم أنّ مجموع هذه الأخبار غير متواترة، فضلاً عمّا بقي بعد النقد منها.

هذا مضافاً إلى إشكال مشترك آخر على أكثر من خبر واحد. كالخبر الذي يقول: ( لا يزاد الأمر إلاّ شدّة، ولا الدين إلاّ إدباراً ولا الناس إلاّ شُحّاً... ) فإنّ قارئ هذه الموسوعة، وخاصّة التاريخ السابق، يعلم أنّ هذه هي صفة المجتمع قبل الظهور.

وسيرتفع كل ذلك بالظهور، مع أنّ ظهور الخبرين هو أنّ ذلك باقٍ إلى يوم القيامة. وهو أمر تنفيه كل الدلائل السابقة التي عرفناها.

أضف إلى ذلك معارضة هذه الأخبار، بما دلّ على بقاء دولة العدل إلى يوم القيامة؛ لأنّ الانحراف القوي يستدعي لا محالة، انتقال الحكم إلى المنحرفين مع أنّ الأخبار تنصّ على بقاء الدولة مع المؤمنين العادلين.

أخرج الصدوق(1) في إكمال الدين بإسناده عن عبد السلام بن صالح الهروي، عن الإمام الرضا (ع)، عن آبائه، عن النبي (ص) - في حديثٍ طويل - قال (ص):

( فنُوديت: يا محمد، أنت عبدي وأنا ربّك - ويستمر الحديث إلى ذكر آخر الأئمّة الاثني عشر، المهدي (ع) فيقول: - حتى يعلن دعوتي ويجمع الخلق على توحيدي، ثم لأديمنّ مُلْكه ولأداولنّ الأيام بين أوليائي إلى يوم القيامة ).

وأخرج النعماني في الغيبة(2) بسنده عن يونس بن رباط، قال: سمعت أبن عبد الله (ع) يقول:

( إنّ أهل الحق لم يزالوا منذ كانوا في شدّة، أما أنّ ذلك إلى مدّة قريبة وعاقبة طويلة ).

وأخرج الشيخ في الغيبة(3) بإسناده عن أبي صادق، عن أبي جعفر (ع) قال:

( دولتنا آخر الدول، ولم يبق بيت لهم دولة إلاّ ملكوا قبلنا؛ لئلاّ

____________________

(1) نسخة مخطوطة.

(2) ص152.

(3) ص282.

٦٦٠

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679