موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)0%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 679

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الصفحات: 679
المشاهدات: 202043
تحميل: 10344


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 202043 / تحميل: 10344
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء 3

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بعد الدعاء للمهدي (ع) والسلام عليه.

ففي بعض الأدعية المكرّسة للدعاء للمهدي (ع) والثناء عليه، يقول في آخره:

اللّهمّ صلّ على ولاة عهده والأئمّة من بعده، وزد في آجالهم، وأعزّ نصرهم، وتمّم لهم ما أسندت إليهم من أمرك، وثبّت دعائمهم، واجعلنا لهم أعواناً وعلى دينك أنصاراً... الخ الدعاء(1) .

وفي دعاء آخر يذكر فيه المهدي (ع) ويثني عليه طويلاً، ويقال في آخره:

وصلّ على وليّك وولاة عهدك والأئمّة من ولده، ومدّ في أعمارهم، وزد في آجالهم، وبلّغهم أقصى آمالهم ديناً ودنياً وآخرة؛ إنّك على كل شيءٍ قدير (2) .

إلى غير ذلك من الأدعية.

هذا، وقد حاول المجلسي في البحار(3) أن يرفع التنافي بين هذه الأخبار من حيث كونها دالّة على إيكال الرئاسة العليا بعد المهدي (ع) إلى غير الأئمّة المعصومين (عليهم السلام)، وبين القول بالرجعة الذي يقول: بإيكال الرئاسة إلى الأئمّة المعصومين أنفسهم. حيث قال: هذه الأخبار مخالفة للمشهور. يعني القول بالرجعة.

وطريق التأويل أحد وجهين:

الأوّل: أن يكون المراد بالاثني عشر مهديّاً: النبي وسائر الأئمّة سوى القائم (ع)، بأن يكون ملكهم بعد القائم....

والثاني: أن يكون هؤلاء المهديّون من أحبّاء القائم هادين للخلق في زمن سائر الأئمّة الذين رجعوا؛ لئلاّ يخلو الزمان من حجّة. وإن كان أوصياء الأنبياء الأئمّة حججاً أيضاً. والله تعالى أعلم.

وقال الطبرسي في أعلام الورى(4) : وجاءت الرواية الصحيحة بأنّه ليس بعد دولة القائم دولة لأحد، إلاّ ما روي من قيام ولده إن شاء الله ذلك، ولم ترد في الرواية على القطع والثبات. وأكثر الروايات أنّه لن يمضي - يعني المهدي القائم (ع) - من الدنيا إلاّ

____________________

(1) مفاتيح الجنان المعرّب ص542.

(2) المصدر ص53.

(3) ج13 ص237.

(4) ص435.

٦٤١

قبل القيامة بأربعين يوماً، يكون فيها الهرج.

هذا ما قالته المصادر الإمامية، ولم نجد لدولة ما بعد المهدي في المصادر العامّة أيّ أثر.

ونودّ أن نعلّق أوّلاً على كلام المجلسي: إنّه يعترف سلفاً أنّ كلا الوجهين نحو من أنحاء التأويل، والتأويل دائماً خلاف الظاهر، فلا يصار إليه إلاّ عند الضرورة، ولا يكفي مجرّد الإمكان أو الاحتمال لإثباته.

وعلى أي حال، فالوجه الأوّل حاول فيه المجلسي على أن يقول أنّ الأولياء الاثني عشر بعد المهدي (ع) هم الأئمّة المعصومون الاثنا عشر أنفسهم، فترتفع المعارضة بين روايات الأولياء وروايات الرجعة، ويكون المراد منهما معاً الأئمّة المعصومين أنفسهم.

إلاّ أنّ هذا الوجه قابل للمناقشة من وجوه، نذكر منها اثنين:

الوجه الأوّل: إنّ عدداً من روايات الأولياء التي سمعناه، تنصّ على أنّ الأولياء الاثني عشر من ولد الإمام المهدي (ع).

قال في أحد الأخبار: ( ثم يكون من بعده اثني عشر مهديّاً، فإذا حضرته الوفاة - يعني المهدي - فليسلّمها إلى ابنه أوّل المهديين ).

وقال في الدعاء ( والأئمّة من ولده ). مع أنّ الأئمّة المعصومين السابقين هم آباء الإمام المهدي (ع) بكل وضوح.

الوجه الثاني: إنّنا لم نجد - كما عرفنا - دليلاً كافياً على عودة الأئمّة الاثنا عشر كلهم، لا بشكل عكسي ولا بشكل مشوّش، وإنّما نصّ فقط - بعد النبي (ص) - على أمير المؤمنين (ع) وابنه الحسين (ع).

وإذا لم يثبت رجوع الأئمّة الاثنا عشر جميعاً، كيف يمكن حمل هذه الأخبار عليه؟

وأمّا الوجه الثاني: االذي ذكره المجلسي، فيتلخّص في الاعتراف بوجود الأئمّة المعصومين (ع) والأولياء الصالحين في مجتمع ما بعد المهدي (ع) متعاصرين. ولكنّ الحكم العام سيكون للمعصومين (ع). وأمّا الأولياء فسيكونون هداةً عاملين في العالم من الدرجة الثانية؛ وبذلك يرتفع التعارض بين الروايات.

وأوضح ما يرد على هذا الوجه، هو أنّ روايات الأولياء، صريحة بمباشرتهم للحكم على أعلى مستوى، بحيث يكون التنازل عن هذه الدلالة تأويلاً باطلاً، كقوله: ( ليملكن من أهل البيت رجل ) وقوله: ( فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها - يعني الإمامة، أو

٦٤٢

الخلافة - إلى ابنه أوّل المهديين ) قوله: ( اللّهمّ صلِّ على ولاة عهده والأئمّة من بعده ) ونحوه في الدعاء الآخر.

ويحتوي كلام المجلسي في الوجه الثاني على استدلال ضمني على الرجعة مع جوابه.

وملخّص الاستدلال: أنّه ثبت في الفكر الإسلامي أنّ الأرض لا تخلو من حجّة باستمرار ما دام للبشرية وجود، حتى لو كان اثنان كان أحدهما الحجّة على صاحبه. ولكنّ الأرض بعد الإمام المهدي (ع) ستخلو من الحجّة، ما لا نقل بالرجعة، ليرجع الأئمّة المعصومون (ع) ليكونوا هم الحجج بعده، تطبيقاً لهذه القاعدة.

إلاّ أنّه من حسن الحظ أن يكون المجلسي نفسه قد أجاب على ذلك.

وملخّص الجواب: إنّنا لا نحتاج إلى القول بالرجعة كتطبيق لتلك القاعدة، بل إنّ حكم الأولياء الصالحين تطبيق لها أيضاً، قال المجلسي لأنّ ( أوصياء الأنبياء و( أوصياء ) الأئمّة حجج أيضاً ) فالأرض تكون مشغولة بصفتهم أوصياء للأئمّة (ع)، فلا تكون خالية من الحجّة.

ومعه لا تكون هذه القاعدة مثبتة للرجعة، ولا منافية مع حكم الأولياء الصالحين.

وأمّا تعليقنا على كلام الطبرسي، فهو أنّ ما ذكره من أنّ ما رُوي من قيام ولد المهدي (ع) بعده، لم يرد على القطع واليقين، أمر صحيح؛ لأنّ الروايات الدالة على حكم الأولياء الصالحين متواترة، ولكنّنا سنرى أنّها صالحة للإثبات التاريخي، وهذا يكفينا في المقام.

وأمّا ما ذكر من أنّه ليست بعد دولة القائم دولة لأحد، فهو أمر صحيح؛ لأنّه إن أُريد بدولة القائم نظام حكمه، فهو نظام مستمر إلى نهاية البشرية تقريباً أو تحقيقاً على ما سنسمع، وليس وراءه حكم آخر. وإن أُريد به حكمه ما دام في الحياة، بحيث تنتهي البشرية بعده مباشرة، فهو أمر غير محتمل؛ لأنّه أمر تدل كثير من الروايات على نفيه: كروايات الرجعة وروايات الأولياء وروايات أنّ الساعة لا تقوم إلاّ على شرار الخلق، وغير ذلك، بل تدل على ذلك بعض آيات القرآن: كآية دابّة الأرض بعد العلم بعدم خروجها في زمن المهدي (ع) نفسه.

إذاً، فالبشرية، ستبقى بعد المهدي (ع) والنظام سوف يستمر، وإنّما يراد من ذلك القول: إنّه ليس بعد دولة القائم دولة لأحد من المنحرفين والكافرين على الشكل الذي كان قبل ظهوره.

٦٤٣

وأمّا قوله: وأكثر الروايات أنّه لن يمضي من الدنيا إلاّ قبل القيامة بأربعين يوماً... فهذه الروايات سنسمعها، ومؤدّاها أنّ الحجّة سيُرفع - أي يموت - قبل القيامة بأربعين يوم، وسنرى أنّه ليس المراد بالحجّة شخص الإمام المهدي بل شخص آخر، قد يوجد بعد زمان المهدي (ع) بدهرٍ طويل.

وبعد هذه المناقشات، وقبل إعطائهم الفهم الكامل لحكم الأولياء الصالحين، لابد لنا أن نجيب على هذا السؤال الذي يخطر في ذهن القارئ: وهو أنّنا كيف استطعنا أن نعتبر روايات كافية للإثبات التاريخي، على حين لم نعتبر روايات الرجعة كافية للإثبات، مع أنّها أكثر عدداً وأغزر مادةً وأوضح في أذهان العديدين.

وأمّا من زاوية كفاية روايات الأولياء للإثبات التاريخي، فهو واضح طبقاً لمنهجنا في هذا التاريخ أنّها متكاثرة ومتعاضدة، وذات مدلول متشابه إلى حدٍّ بعيد.

وأمّا من زاوية معارضتها لأخبار الرجعة، فهو واضح بعد فشل الوجهين اللذين ذكرهما المجلسي للجمع بين الأخبار، إذ يدور الأمر عندئذٍ بين أن يكون الحكم بعد المهدي (ع) موكولاً إلى المعصومين (ع) أو إلى الأولياء الصالحين.

ونحن حين نجد أنّ أخبار الرجعة غير قابلة للإثبات، كما عرفنا، ونجد أنّ أخبار الأولياء قابلة للإثبات. كما سمعنا، لا محيص لنا على الأخذ بمدلول أخبار الأولياء بطبيعة الحال.

وبالرغم من أنّ مجرّد ذلك كافٍ في السير البرهاني، إلاّ أنّنا نودّ أن نوضح ذلك بشكل أكثر تفصيلاً.

إنّ نقطة القوّة الرئيسية في أخبار الأولياء المفقودة في أخبار الرجعة، هي أنّ أخبار الأولياء ذات مضمون مشترك تتسالم عليه، بخلاف أخبار الرجعة، فإنّها ذات عشرة مداليل على الأقل، ليس لكل مدلول إلاّ عدد ضئيل من الأخبار قد لا يزيد أحياناً على خبرٍ واحد.

ومن هنا نقول لمَن يفضّل أخبار الرجعة: ها أنت تفضّل أخباراً منها ذات مدلول معيّن، كرجوع الإمام الحسين (ع) مثلاً، أو تفضّل تقديم مجموع أخبار الرجعة.

فإن رأيت تفضيل قسم معيّن من أخبار الرجعة، فهي لا شك أقل عدداً وأضعف سنداً من أخبار الأولياء، بل وأقل شهرةً أيضاً. وكل قسم معيّن منها يصدق عليه ذلك بكل تأكيد، غير ما دلّ على رجوع الإمام علي بن أبي طالب (ع)، الذي سوف نشير إليه.

٦٤٤

وإن رأيت تفضيل مجموع أخبار الرجعة على أخبار الأولياء، إذاً فستصبح أخبار الرجعة بهذا النظر متعارضة ومختلفة المدلول - كما عرفنا - غير ذلك المدلول العام الإجمالي الذي برهنا على انطباقه على خروج دابّة الأرض التي نطق بخروجها القرآن الكريم. وهو - بمنطوق الأخبار - يعني خروج علي أمير المؤمنين (ع)، وهو بعيد عن أي مفهوم تقيلدي للرجعة، بل هو ليس من الرجعة في شيء؛ فإنّ مفهوم دابّة الأرض غير مفهوم الرجعة عندهم.

وهذا المفهوم لا ينافي حكم الأولياء الصالحين، ولا يعارض الأخبار الدالة عليه؛ وذلك لعدّة أُمور، نشير إلى أمرين منها:

الأمر الأوّل: إنّ خروج دابّة الأرض غير محدّد بتاريخ، لا في القرآن الكريم ولا في السنّة الشريفة، ومعه فقد يحدث بعد حكم الأولياء الصالحين بمدة طويلة.

الأمر الثاني: إنّ دابّة الأرض سوف لن تأتي لتمارس الحكم الأعلى في الدولة العالمية العادلة، كما يُستشعر من القرآن وتصرّح به الأخبار، بل تأتي من أجل إعطاء الأفراد حسابهم الكامل فتعيّن منزلة كل فرد ودرجة تطبيقه للمنهج العادل المطلوب منه، ولعلّنا نوضح ذلك فيما بعد.

وإذا تمّ ذلك، لم يكن خروج الدابّة منافياً مع حكم الأولياء حتى لو خرجت في زمن حكمهم؛ لأنّ وظيفتهم في المجتمع غير وظيفتها.

وبعد ترجيح روايات حكم الأولياء الصالحين، ينبغي لنا أن نقدّم لها فهماً متكاملاً ملحقاً بالتسلسل الفكري الذي سرنا عليه في هذا الكتاب. ثم نعقبه بدرأ ومناقشة بعض الإشكالات التي قد تخطر في الذهن في هذا الصدد.

إنّ الإمام المهدي (ع) لن يهمل أمر الأُمّة الباقية بعده، لا لمجرّد أن لا تبقى رهن الانحلال والضياع، وإن كان هذا صحيحاً كل الصحّة، بل لأكثر من ذلك، وهو ما قلناه من أنّ إحدى الوظائف الرئيسة للمهدي (ع) بعد ظهوره هو: تأسيس القواعد العامّة المركّزة والبعيدة الأمد لتربية البشرية في الخط الطويل، تربية تدريجية لكي تصل إلى المجتمع المعصوم.

وهذه التربية لا يمكن أن يأخذ بزمام تطبيقها إلاّ الإنسان الصالح الكامل حين يصبح رئيساً للدولة العادلة، ومثل هذا الرجل لا يمكن معرفته لأحد غير الإمام المهدي نفسه، ولعلّه يوليه التربية الخاصّة التي تؤهّله لهذه المهمّة الجليلة. وأمّا احتمال تعيينه بالانتخاب فهو غير وارد على ما سنقول.

٦٤٥

ومن هنا سيقوم الإمام (ع) بتعيين ولي عهده أو خليفته، خلال حياته وربّما في العام الأخير، ليكون هو الرئيس الأعلى للدولة العالمية العادلة بعده، والحاكم الأوّل لفترة حكم ( الأولياء الصالحين ).

وبالرغم من أنّ هذا الحاكم قد يكون هو أفضل من الأحد عشر الآتين بعده؛ باعتبار أنّه نتيجة تربية الإمام المهدي (ع) شخصيّاً، والمعاصر لأقواله وأفعاله وأساليبه، بخلاف ما سيأتي بعده من الحاكمين، بالرغم من ذلك فإنّه سيفرق فرقاً كبيراً عن المهدي (ع ) نفسه، على حدٍّ يصدق ( أنّه لا خير في الحياة بعده ).

والسر في ذلك - على ما يبدو - يعود إلى أمرين رئيسيين:

الأمر الأوّل: ما سبق أن عرفناه من الفرق الشخصي والثقافي والنفسي بين الإمام المهدي (ع) وخليفته؛ الأمر الذي ينتج اختلافاً واضحاً في التصرّفات بينهما.

الأمر الثاني: راجع إلى الأُمّة نفسها أو البشرية كلها، بتعبيرٍ آخر من حيث أنّ المجتمع مهما كان قد سار بخطوات كبيرة نحو الأمام، في السعادة والعدالة والتكامل، إلاّ أنّه لم يصل إلى درجة العصمة بأي شكلٍ من أشكالها التي سنشير إليها، وبقيت هناك في أطراف العالم مجتمعات متخلّفة عن الركب العام؛ لوجود انخفاض مدني أو حضاري جديد سابق فيها، منعها أن تكون - مهما ارتفعت بجهود الإمام المهدي (ع) - مواكبة للاتجاه العالمي العادل العام.

إذاً فستكون التركة العالمية ثقيلة جدّاً، وتخلّفات عدد من الأفراد والمجتمعات عن تطبيق العدل، بعد ذهاب القائد الأعلى، محتملة جدّاً... وعدم استيعاب الكثيرين من وعيهم العقائدي لضرورة التجاوب الكلّي مع الرئيس الجديد، احتمال وارد تماماً، وخاصّة وأنّ الأمر الأوّل من هذين الأمرين سيعيشه العالم يومئذٍ بكل وضوح.

نعم، لا شك أنّ الإمام المهدي (ع) قبل وفاته قد أكّد وشدّد، بإعلانات عالمية متكرّرة على ضرورة إطاعة خليفتة، وعلى ترسيخ ( حكم الأولياء الصالحين ) في الأذهان ترسيخاً عميقاً، إلاّ أنّ البشرية حيث لا تكون بالغة درجة الكمال المطلوب؛ فإنّها ستكون مظنّة العصيان والتمرّد في أكثر من مجال.

ولكن وجود هذه المصاعب لا يعني الفشل بحال، بعد القواعد التربوية التي تلقّاها هذا الحاكم عن الإمام المهدي بكل تفصيل.

إنّ الدولة ستبقى مهيبة ومحبوبة للجماهير على العموم، وستبقى تمارس التربية المركّزة باستمرار، تماماً كما كانت عليه في

٦٤٦

عصر الإمام المهدي، أخذاً بالمنهج المهدوي العام.

وسيكون حكم الأولياء الصالحين، فترة تمهيدية أو انتقالية، يوصل المجتمع العالمي إلى عصر العصمة، حيث يكون الرأي العام المتّفق معصوماً، كما أشرنا في التاريخ السابق(1) وعندئذٍ سترتفع الحاجة إلى التعيين في الرئاسة العامّة، كما كان عليه الحال خلال حكم الأولياء الصالحين، وستوكل الرئاسة إلى الانتخاب أو الشورى، حين يكون الأفراد كلهم من:

( لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) (2) .

وستوضع الشورى موضع التنفيذ طبقاً لقوانين تصدر يومئذٍ، لا يمكن التعرّف عليها الآن.

وببدء الشورى يكون عصر حكم الأولياء الصالحين المنصورين بالتعيين قد انتهى. ولكنّ الحكّام الجدد المنتخبين سيكونون أولياء صالحين أيضاً، إلاّ أنّ هناك فرقاً بين أُسلوب تربيته أساساً.

إنّ الحاكم الذي سيتم تنصيبه عن طريق التعيين، يكون بكل تأكيد نتيجة لتربية خاصّة مركّزة من قِبل سلفه، مقترنة بالتعليم الواضح المفصّل للقواعد الموروثة من قِبل الإمام المهدي (ع).

وأمّا الحاكم المنتخب، فهو لا يكون إلاّ في مجتمع يكون رأيه العام معصوماً، ومثل هذا المجتمع كما أنّ الأعم الأغلب من أفراده صالحين وعادلين، ولذا أصبح رأيه العام معصوماً؛ لأنّ الرأي العام من الصالحين لا يكون إلاّ صالحاً. يحتوي - إلى جنب ذلك - على عدد يقل أو يكثر وصلوا إلى درجة عليا من العدالة والالتزام الصالح، قد نسمّيها بالعصمة، أعني ما يُسمّى بلغة الفلاسفة المسلمين: بالعصمة غير الواجبة. وبتلك الصفة نفسها يكونون مؤهّلين لتولّي الرئاسة العامّة للدولة العالمية العادلة، ولن يكون بينهم وبين تولّيهم الفعلي إلاّ تجمّع الأصوات في صالح أحدهم.

بقيت بعض الأسئلة و المناقشات، تلقي أجوبتها أضواء كافية على هذا التسلسل الفكري، نعرضها على شكل سؤال وجواب.

____________________

(1) تاريخ الغيبة الكبرى ص480.

(2) 42/36 - 38.

٦٤٧

السؤال الأوّل: ما هو عدد الأولياء الصالحين؟

هذا ما لابد في تعيينه الرجوع إلى الأخبار السابقة. قال الخبر الأوّل الذي نقلناه: ( إنّ منّا بعد القائم أحد عشر مهديّاً ).

وقال في خبرٍ آخر ( ثم يكون من بعده اثنا عشر مهديّاً ).

وموقفنا من هذا الاختلاف: أنّنا إمّا أن نعتبر كلا الخبرين، إذا نظرنا لكل واحد منهما مستقلاًّ، قابلاً للإثبات التاريخي.

وإمّا أن نعتبرهما معاً غير قابلين له، أو يكون أحدهما قابلاً دون الآخر.

فإن لم يكونا قابلين للإثبات، وهذا لا يعني سقوط أصل نظرية حكم الأولياء الصالحين؛ لاستفادتها من مجموع الأخبار... إذاً فيصعب الجواب على هذا السؤال، فقد يكون عددهم كثيراً وقد يكون قليلاً، تبعاً للمصلحة التي يراها المهدي نفسه حين يؤسّس هذا الحكم بعده، وميزاته - كما عرفنا - تصل البشرية إلى عهد الشورى حين يكون الرأي العام معصوماً، ولا يبقى العدد مهمّاً إلى درجة عالية.

نعم، قد ينبثق من التفكير الإمامي رجحان أن يكون الأولياء اثني عشر، كما كان الأئمّة المعصومون (ع) اثني عشر، غير أنّ هذا بمجرّده لا يكفي للإثبات كما هو واضح.

وإن كان كلا الخبرين قابلاً للإثبات دون الآخر، أخذ بمدلوله دون الآخر، ويمكننا بَدويّاً أن نقول: إنّ الخبر القائل بعدد الاثني عشر أصحّ وأثبت فيُؤخذ به، ويبقى الآخر غير قابل للإثبات.

وأمّا إذا كان كلا الخبرين قابلين للإثبات، فيمكن الجمع بينهما برفع اليد عن ظهور الخبر القائل بالأحد عشر وليّاً، عن ظهوره بالحصر والضبط، بقرينة الخبر الآخر القائل بالاثني عشر، تكون النتيجة هو الالتزام بالاثني عشر بطبيعة الحال.

وبذلك يظهر أنّ الرقم الاثني عشر راجح على كل التقادير، وإن كان يحتاج إلى دليل مثبت أحياناً، وسنفرضه فيما يلي أمراً مسلّماً لتسهيل الفكرة على أقل تقدير.

السؤال الثاني: كم مدّة حكم الأولياء الصالحين بالسنين؟

إذا كان عدد الأولياء الحاكمين اثني عشر، وهم يتولّون الرئاسة في عمر اعتيادي بطبيعة الحال، غير أنّ معدّل العمر الاعتيادي في دولة العدل الكامل في مجتمع السعادة والأُخوّة والرفاه، لن يكون هو الستين أو السبعين، بل هو مئة على أقل تقدير، ومن هنا

٦٤٨

يمكن أن يعيش الرئيس ثمانين عاماً منها، وهو على كرسي الرئاسة؛ فإذا كان معدّل بقاء الفرد منهم ستّين عاماً، كان مجموع مدّة حكم الأولياء الصالحين سبعمئة وعشرين عاماً.

وهي مدّة كافية جدّاً لتربية البشرية تربيةً مركّزة دائبة ودقيقة، وإيصالها إلى مجتمع العصمة.

السؤال الثالث: كيف يعرف المجتمع بدء صفة العصمة؟

ومعرفته بذلك يعني عدّة نتائج، أهمّها ما عرفناه من انتهاء حكم الأولياء الصالحين وبدء حكم الأولياء المنتخبين عن طريق الشورى.

لمعرفة المجتمع بذلك عدّة أُطروحات محتملة:

الأُطروحة الأُولى:

في غاية البساطة، وهي أنّ المجتمع عرف بوصيّة المهدي (ع) نفسه عدد الأولياء الصالحين الذين سيمارسون الحكم فيه، ككونهم اثني عشر فرداً - مثلاً - فإذا تمّ العدد؛ كان حكم هؤلاء الأولياء قد انتهى وبالملازمة يكون مجتمع العصمة قد بدأ، إذ من غير المحتمل أن تكون الدولة قد فشلت في مهامّها التربوية.

الأُطروحة الثانية: لو فرضنا عدد الأولياء كان مجهولاً، وهو أمر بعيد عن أي حال، فمن المحتمل أن تكون هناك وصيّة خاصّة بالأولياء أنفسهم موروثة من الإمام المهدي (ع) تقول: في عام كذا إذا مات الولي الحاكم يومئذ، فعليه ألاّ يوصي إلى شخصٍ بعده، بل ينتقل الأمر إلى الشورى. وقد يكون في ضمن الوصيّة تعليل ذلك بأنّ مجتمع العصمة قد بدأ.

الأُطروحة الثالثة: أن تكون هناك وصيّة خاصّة بالأولياء موروثة عن الإمام المهدي (ع) تحدّد انتهاء حكمهم بحوادث وصفات اجتماعية معيّنة، تعود إمّا إلى وقائع تاريخية، أو إلى تحديد في المستوى العقلي والثقافي للبشرية، الذي سيكون عليه في المستقبل، أو إلى غير ذلك.

وهذه الأُطروحة صادقة أيضاً فيما إذا لم يكن عدد الأولياء الصالحين معيّناً سلفاً.

السؤال الرابع: إنّ هؤلاء الأولياء الصالحين، هل هم متفرّقون من حيث النسب، أو أنّهم متسلسلون في النسب ينتهون إلى الإمام المهدي (ع) نفسه، أو أنّهم على شكلٍ آخر؟

وينبغي أن نفهم سلفاً أنّه لا أهميّة كبيرة في الجواب على هذا السؤال؛ إذ الأهم في الموضوع هو صفاتهم الذاتية وأعمالهم العادلة، دون قضيّة النسب.

٦٤٩

نعم، أجابت بعض الأخبار على ذلك، قال أحدها: ( إنّ منّا بعد القائم أحد عشر مهديّاً ). والمفهوم من قوله من أنّهم من نسل أهل البيت (ع) إجمالاً. وقال الخبر الآخر: ( فليسلّمها إلى ابنه أوّل المهديين ) وهو دال على أنّ الولي الأوّل ابن المهدي نفسه، ولم يذكر الأولياء الذين بعده.

ويقول أحد الأدعية التي سمعناها: ( وولاة عهدك والأئمّة من ولدك ).

فلو اعتبرنا كل هذه الأخبار قابلة للإثبات مستقلّة، لفهمنا أنّ هؤلاء الأولياء الصالحين هم من نسل أهل البيت (ع) ولا يراد بأهل البيت في لغة الأخبار إلاّ الأئمّة المعصومين (ع). وحيث لا يحتمل أن يكونوا من نسل إمام آخر غير المهدي (ع) باعتبار بُعد المسافة الزمنية، إذاً فهم من أولاد الإمام المهدي نفسه. وهذا افتراض واضح تعضده بعض هذه الأخبار، ولا تنفيه الأخبار الأُخرى.

يبقى لدينا: هل أنّهم متسلسلون في النسب أحدهم ابن الآخر، أو أنّهم متفرّقون من هذه الجهة، وإن انتسبوا إلى المهدي في النهاية.

وفي هذا الصدد لا تسعفنا الأخبار بشيء، لكن هناك فكرة عامّة صالحة للقرينية على التسلسل النسبي. وهي ما نسمّيه بتسلسل الولاية. فإنّ كل ولي في ذلك العهد المرحلي، السابق على صفة العصمة، يحتاج إلى إعداد خاص وتربية معيّنة، قبل أن يتولّى الحكم.

ومن الصحيح أنّ المجتمع ككل، وخاصّة إذا كان صالحاً وعادلاً، يمكنه أن يربّي الحاكم أفضل تربية، إلاّ أنّ هناك عدداً من الحقائق والأساليب والقوانين الاجتماعية وغيرها، تكون خاصّة بالحاكم عادةً ولا يعرفها غيره على الإطلاق، وهي موروثة وراثة خاصّة عن الإمام المهدي (ع)، وهي تحتاج في ترسيخها وكشفها إلى الحاكم الجديد، إلى مدّةٍ وجهود من قِبل الحاكم السابق، الأمر الذي لا يتوفّر عادةً بين الوالد وولده، ومن الصعب جدّاً توفّره بين أبناء الأعمام مثلاً.

ومعه، فمن المظنون جدّاً أن يكون تسلسلهم النسبي محفوظاً، من أجل الحفاظ على تسلسل الولاية الضروري لتربية كل حاكم.

السؤال الخامس: هل المنطلق إلى فكرة ( حكم الأولياء الصالحين ) بعد الإمام المهدي هو الفهم الإمامي للمهدي، أو ينسجم مع الفهم الآخر.

كلاّ. إنّ حكم الأولياء الصالحين الذي طرحناه، ينسجم تماماً مع الفهم الآخر

٦٥٠

الذي يقول: إنّ المهدي رجل يولد في حينه فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، ولا ربط له مباشر بغيبة المهدي قبل ظهوره ولا بكونه الإمام الثاني عشر من الأئمّة المعصومين كما هو واضح.

غير أنّ فكرة حكم الأولياء الصالحين، يبقى مفتقراً للدليل من أخبار العامّة أنفسهم. ولم نجد في حدود تتبّعنا أيّ إشارةٍ في تلك المصادر إلى دولة ما بعد المهدي (ع)، مهما كانت صفتها، ويبقى مفكرو العامّة بعد ذلك مخيّرين بالالتزام بهذه الأُطروحة.

السؤال السادس: ماذا - بعد ذلك - عن احتمال العصيان والتمرّد خلال حكم الأولياء الصالحين.

لا شك أنّ هذا الاحتمال يتضاءل تدريجياً، بالتربية المركّزة التي تمارسها الدولة باتجاه العدالة والكمال. حتى ما إذا وصل المجتمع إلى درجة العصمة، ولو بأوّل أشكالها، ارتفع احتمال التمرّد والعصيان ارتفاعاً قطعيّاً؛ لبرهان بسيط هو: منافاة العصمة مع العصيان، ولا أقل من أن تكون الأكثرية الساحقة للبشرية كذلك، بحيث من الصعب أن يفكّر أحد في حركة تمرّد أو بثّ دعاية باطلة.

وإنّما يقع التساؤل عن الفترات الأُولى لحكم الأولياء الصالحين، عدّة ضمانات ضد مثل هذا الاحتمال، يمكننا أن نتعرّف على بعضها، بحسب مستوانا الذهني المعاصر:

الضمان الأوّل: السعادة والرفاه والأُخوة والتناصف بين الناس، هذا الذي أسّسه ونشره الإمام المهدي نفسه، الأمر الذي يجعل الفرد، ومن ثمّ الجماعات تميل تلقائياً إلى حب هذا النظام واحترامه والتعاطف معه، ممّا يحدو بالأعمّ الأغلب جدّاً من الناس بعدم التفكير بأي عصيان واضح، بل يحدو الكثيرين إلى الوقوف تلقائياً تجاه أي تمرّد أو عصيان يفهمون به، وفضحه ولوم صاحبه لوماً شديداً.

الضمان الثاني: القواعد والأُسس الخاصّة التي علّمها المهدي (ع) نفسه لخلفائه، ممّا يمتّ إلى طبيعة المجتمع وحركة التاريخ، وأفضل الطُرق في التصرّف به ودفع شروره، وجلب مصالحه. الأمر الذي كان هو (ع)، أكثر الناس علماً به واطلاعاً على تفاصيله.

ومن أجل فوائد علمه بذلك، تزريقه إلى خلفائه الصالحين، ليستطيعوا أن يبنوا دولتهم الحديثة، ويدفعوا عنها الشرور بأيسر طريق.

٦٥١

الضمان الثالث: عالمية الدولة العادلة: فإنّ لهذا العنصر جهتين من الضمان:

الجهة الأُولى: الهيبة التي تكسبها الدولة العالمية في نفوس الناس وعقولهم، بصفتها تمارس حكماً مركزيّاً مهمّاً لم تمارسه أي دولة أُخرى في التاريخ.

الجهة الثانية: سيطرتها على كل مصادر ومصانع الأسلحة في العالم لا يستثنى من ذلك شيء، ولها الطُرق المعقّدة للحد من التهريب والختل والخداع ونحو ذلك.

فهذه الضمانات وغيرها، تنتج في هذا الصدد، نتيجتين مهمّتين:

النتيجة الأُولى: أنّها تقف ضد احتمال كثرة التمرّد والعصيان، بشكل يعيق عن تطبيق المنهج التربوي العام، إذ مع وجودها سيقل مَن يفكّر من البشر بالحركات العصيانية.

النتيجة الثانية: أنّها تقف ضد ما قد يحدث من حوادث التمرّد والعصيان من القلائل الذين قد يفكّرون بذلك، وعن طريق هذه الضمانات التي تملكها الدولة، ستستطيع أن تقضي على كل حركة.

السؤال السابع: هل لدابّة الأرض خلال هذا العهد، وظيفة معيّنة؟

لمّا كانت الوظيفة الرئيسة لدابّة الأرض، كما يُستفاد من الأخبار، هي تمييز الكافر من المؤمن، والمنحرف من الملتزم، وإعطاء القيمة الأخلاقية لكل منهم علانية، فهذا لا يمكن أن ينجز في عهد ما بعد الظهور، المتطوّر نحو المجتمع المعصوم الخالي من الكفّار والمنحرفين... فهو لا يمكن أن يُنجز إلاّ في إحدى فترتين:

الفترة الأُولى: فترة ما بعد المهدي (ع) مباشرةً، حيث تعيش الدولة العالمية العادلة أحرج عهودها وأدق فتراتها، بعد فقد قائدها العظيم.

فإنّه من الصحيح - كما عرفنا - أنّ الإمام المهدي (ع) قام باستئصال المنحرفين من الكرة الأرضية، إلاّ أنّ هناك جزءاً من البشر، مهما كان قليلاً، قد سلّم لدولة المهدي خوفاً أو طمعاً، لا عن إخلاصٍ حقيقي، فمن المحتمل جدّاً أن تتحرّك الأطماع بعد القائد الأعظم إلى السيطرة على الدولة، أو على بعض أجزائها على الأقل.

والضمانات السابقة وإن كانت صالحة للوقوف ضد أي احتمال، غير أنّه من المحتمل أن تخرج دابّة الأرض، لتأخذ بعضد الدولة العالمية العادلة، باتجاه النصر والسيطرة على كل تمرّد وعصيان.

٦٥٢

الفترة الثانية: الفترة السابقة على يوم القيامة مباشرة، وهي فترة سنبحث عن صحّة وجودها في الفصل القادم. غير أنّه - على تقدير صحّتها - سيتصف المجتمع العالمي خلالها بالكفر والانحراف، بعد أن يكون قد تنازل عن آخر صفات العصمة والعدالة. فمن المحتمل أنّ دابّة الأرض تخرج لتضمن بقاء المؤمنين على إيمانهم، ومدى خسارة الكافرين والمنحرفين، حين تنازلوا بسوء تصرّفاتهم عن العصمة والعدالة، وتقف في وجه الذين يكفرون بقتل المؤمنين، أو الإطاحة بكيانهم بشكلٍ وآخر.

وعلى أي حال، فحيث نعلم من القرآن الكريم، بضرورة خروج دابّة الأرض، وعدم خروجها خلال المجتمع المعصوم؛ لعدم انسجام وظيفتها معه، كما أنّه ليس هناك احتمال حقيقي لخروجها قبل الظهور... إذاً يتعيّن وجودها في إحدى الفترتين المشار إليهما. وأمّا إذا عرفنا في الفصل الآتي عدم وجود الدليل على انحراف المجتمع بعد اتصافه بالعصمة، إذاً ينحصر خروج دابّة الأرض بعد وفاة المهدي (ع) مباشرة، لتقوم بوظيفتها الكاملة.

وبذلك يكون سيف الإمام علي بن أبي طالب قد وطّد الإسلام في ( آخر الزمان ) كما وطّده في عصر الرسالة وصدر الإسلام (سلام الله عليه).

وبهذه الأسئلة وضعنا الرتوش الكافية على فترة حكم الأولياء الصالحين وما بعدها، ولا ينبغي لنا أن نزيد على ذلك، وإنّما نحيل القارئ إلى الكتاب الرابع الآتي من هذه الموسوعة.

٦٥٣

٦٥٤

الباب الثاني

قيام الساعة على شِرار الخَلْق

وهو بابٌ في فصلٍ واحد

٦٥٥

٦٥٦

وينبغي أن يتمّ الحديث في هذا الفصل ضمن عدّة جهات:

الجهة الأُولى: في سرد أهم الأخبار الدالة على ذلك، وهي واردة في مصادر الفريقين.

أخرج مسلم في صحيحه(1) عن عبد الله بن عمر، عن رسول الله (ص) - في حديث تحدّث فيه عن الدجّال والمسيح عيسى بن مريم (ع)، ثم تحدّث فيه عن عصر ما بعد المسيح، فقال فيما قال -:

( فيبقى شرار الناس في خفّة الطير وأحلام الساعة، لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، فيتمثّل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون؟ فيقولون: فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان، وهم في ذلك دارٌّ رزقهم حسنٌ عيشهم، ثم ينفخ في الصور ).

وأخرج أبو داود(2) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (ص):

لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمن مَن عليها، فذاك حين( لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً ) (3) .

وأخرج الحاكم في المستدرك(4) عن أبي أُمامة، قال: سمعت رسول الله (ص) يقول:

____________________

(1) ج8 ص201.

(2) ج2 ص430.

(3) 6 / 158.

(4) ج4 ص440.

٦٥٧

( لا يزداد الأمر إلاّ شدّة، ولا المال إلاّ إفاضة، ولا تقوم الساعة إلاّ على شرارٍ من خلقه ).

وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وأخرج أيضاً(1) عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله (ص):

( لا يزداد الأمر إلاّ شدّة، ولا الدين إلاّ إدباراً، ولا الناس إلاّ شحّاً، ولا تقوم الساعة إلاّ على شرار الناس، ولا مهدي إلاّ عيسى بن مريم ).

وأخرج الشيخ في الغيبة(2) عن عبد الله بن جعفر الحميري، قال:

اجتمعت أنا والشيخ أبو عمرو(3) عند أحمد بن اسحاق بن سعيد الأشعري القمّي، فغمزني أحمد أن أسأله عن الخَلَف - يعني الحجّة المهدي (ع).

فقلت له: يا أبا عمرو إنّي أريد ( أن ) أسألك وما أنا بشاكٍّ فيما أريد أريد أن أسألك عنه، فإنّ اعتقادي وديني: أنّ الأرض لا تخلو من حجّة إلاّ إذا كان قبل يوم القيامة بأربعين يوماً، فإذا كان ذلك وقعت ( رفعت ) الحجّة، وغلق باب التوبة. فلم يكن( يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً... ) (4) فأولئك الأشرار من خلق الله عزّ وجلّ. وهم الذين تقوم عليهم القيامة... الحديث.

وأخرج السيد البحراني في معالم الزلفى(5) عن بستان الواعظين، قال حذيفة: كان الناس يسألون رسول الله (ص) عن الخير وكنت أسأله عن الشر فقال النبي (ص):

( يكون في آخر الزمان فتن كقطع الليل المظلم، فإذا غضب الله تعالى على أهل الأرض أمر الله سبحانه وتعالى إسرافيل أن ينفخ نفخة الصعق، فينفخ على حين غفلة من الناس... ) الحديث.

فهذه كل الروايات التي وجدناها دالة على هذا المضمون.

الجهة الثانية: في نقد هذه الأخبار:

____________________

(1) ج4 ص440 ويرويه في الصواعق (98) عن ابن ماجة.

(2) ص 218.

(3) هو الشيخ عثمان بن سعيد، النائب الأوّل للمهدي (ع) خلال غيبته الصغرى.

(4) 6 / 158.

(5) ص 136.

٦٥٨

إنّ أكثر هذه الأخبار يمكن إسقاطها عن الاستدلال تماماً؛ لأنّ كل خبر يواجه بحياله بعض المناقشات، فلا يبقى منها إلاّ القليل.

أمّا الخبر الذي أخرجه مسلم في صحيحه، فهو يصف أوّلاً فسق الناس وإطاعتهم للشيطان، وتحوّلهم إلى عابدي أوثان. وهذا كُلّه - بمعنىً وآخر - ممّا يقع قبل الظهور.

ويقول بعدها: ثم يُنفخ في الصور. والنفخ فيه كناية عن نهاية البشرية، إلاّ أنّ وجود هذه النهاية في ذلك الجوّ الفاسق ممّا لا يدل عليه الخبر؛ لأنّ حرف العطف ( ثم ) دليل على التراخي والانفصال كما نصّ النحاة واللغويون، فإن لم يكن الخبر دليلاً على بقاء البشرية بعد ذلك المجتمع الفاسق، فلا أقل من كونه ليس دليلاً على انتهائه به.

وأمّا خبر أبي داود، فهو غير دال بالمرّة على المضمون المشار إليه، فهو دال على أنّ الناس يؤمنون كلهم حين تطلع الشمس من مغربها. ولا يقول شيئاً غير ذلك، وقد قلنا في التاريخ السابق(1) إنّ المراد من الشمس التي تطلع من مغربها: المهدي، حيث يطلع بعد غيبته، ولا تُقبل عندئذٍ من الفاسق توبة.

وكذلك الخبر الثاني الذي نقلناه عن الحاكم، فإنّ فيه قوله: ولا مهدي إلاّ عيسى بن مريم، وقد نقده ورفضه أهل الحديث العامّة والخاصّة، كما سبق، ولا حاجة إلى تكراره، مضافاً إلى إشكالات أُخرى مشتركة ستأتي.

وكذلك الخبر الذي نقلناه عن معالم الزلفى، فإنّه خبر مرسَل وضعيف، ويحتوي من خلاله على مضامين مدسوسة وغير صحيحة، كما يبدو لمَن راجعه في مصدره.

لا يبقى عندنا - بعد هذا - إلاّ خبران، أحدهما: الخبر الأوّل الذي نقلناه عن الحاكم، والخبر الذي أخرجه الشيخ في الغيبة.

على أنّ خبر الشيخ أيضاً لا يخلو من مناقشة، فإنّه ليس رواية عن معصوم، وإنّما يعبِّر فيه عبد الله بن جعفر الحميري عن اعتقاده، وليس بالضرورة أنّ كل ما يعتقده له الإثبات التاريخي الكافي، وإن كان هو شخصيّاً من العلماء الصالحين، كما ثبت في تاريخه.

وعلى أي حال، فالخبران يواجهان إشكالاً مشتركاً، هو أنّ مثل هذه القضيّة وهي: أنّ الساعة لا تقوم إلاّ على شرار الناس، من الأُمور الاعتقادية في الدين، ومن الواضح عند العلماء أنّ الأُمور الاعتقادية لا تثبت بخبر الواحد وإن كان صحيحاً سنداً وواضحاً

____________________

(1) تاريخ الغيبة الكبرى ص 596.

٦٥٩

مضموناً، وإنّما تثبت فقط بالخبر المتواتر القطعي، مع العلم أنّ مجموع هذه الأخبار غير متواترة، فضلاً عمّا بقي بعد النقد منها.

هذا مضافاً إلى إشكال مشترك آخر على أكثر من خبر واحد. كالخبر الذي يقول: ( لا يزاد الأمر إلاّ شدّة، ولا الدين إلاّ إدباراً ولا الناس إلاّ شُحّاً... ) فإنّ قارئ هذه الموسوعة، وخاصّة التاريخ السابق، يعلم أنّ هذه هي صفة المجتمع قبل الظهور.

وسيرتفع كل ذلك بالظهور، مع أنّ ظهور الخبرين هو أنّ ذلك باقٍ إلى يوم القيامة. وهو أمر تنفيه كل الدلائل السابقة التي عرفناها.

أضف إلى ذلك معارضة هذه الأخبار، بما دلّ على بقاء دولة العدل إلى يوم القيامة؛ لأنّ الانحراف القوي يستدعي لا محالة، انتقال الحكم إلى المنحرفين مع أنّ الأخبار تنصّ على بقاء الدولة مع المؤمنين العادلين.

أخرج الصدوق(1) في إكمال الدين بإسناده عن عبد السلام بن صالح الهروي، عن الإمام الرضا (ع)، عن آبائه، عن النبي (ص) - في حديثٍ طويل - قال (ص):

( فنُوديت: يا محمد، أنت عبدي وأنا ربّك - ويستمر الحديث إلى ذكر آخر الأئمّة الاثني عشر، المهدي (ع) فيقول: - حتى يعلن دعوتي ويجمع الخلق على توحيدي، ثم لأديمنّ مُلْكه ولأداولنّ الأيام بين أوليائي إلى يوم القيامة ).

وأخرج النعماني في الغيبة(2) بسنده عن يونس بن رباط، قال: سمعت أبن عبد الله (ع) يقول:

( إنّ أهل الحق لم يزالوا منذ كانوا في شدّة، أما أنّ ذلك إلى مدّة قريبة وعاقبة طويلة ).

وأخرج الشيخ في الغيبة(3) بإسناده عن أبي صادق، عن أبي جعفر (ع) قال:

( دولتنا آخر الدول، ولم يبق بيت لهم دولة إلاّ ملكوا قبلنا؛ لئلاّ

____________________

(1) نسخة مخطوطة.

(2) ص152.

(3) ص282.

٦٦٠