موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)5%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 679

الجزء ١ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 212499 / تحميل: 11107
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً *وَحَدَائِقَ غُلْبًا *وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ) ( عبس: ٢٧ ـ ٣١ )، ثمّ قال: ( هذا كله عرفناه فما الأبّ ؟ ) ثمّ رفع عصا كانت في يده فقال: ( هذا لعمر الله هو التكلّف فما عليك أن تدري ما الأبّ، اتبعوا ما بيّن لكم هداه من الكتاب فاعملوا به، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربّه )(١) .

(ز): خمسةُ أشخاصٍ أُخذوا في الزنا

أحضر عمر بن الخطاب خمسة نفر أخذوا في زنا فأمر أن يقام على كلّ واحد منهم الحدّ وكان أمير المؤمنين حاضراً فقال: « يا عمر، ليس هذا حكمهم »، قال عمر: أقم أنت عليهم الحكم، فقدّم واحداً منهم فضرب عنقه، وقدم الثاني فرجمه حتّى مات وقدّم الثالث فضربه الحدّ، وقدّم الرابع فضربه نصف الحدّ، وقدّم الخامس فعزّره، فتحير الناس وتعّجب عمر فقال: يا أبا الحسن خمسة نفر في قصّة واحدة، أقمت عليهم خمس حكومات ( أي أحكام ) ليس فيها حكم يشبه الآخر ؟ قال :

« نعم أما الأوّل: فكان ذميّاً وخرج عن ذمّته فكان الحكم فيه السيف.

وأمّا الثاني: فرجل محصن قد زنا فرجمناه.

وأمّا الثالث: فغير محصن زنا فضربناه الحدّ.

وأمّا الرابع: فرجل عبد زنا فضربناه نصف الحدّ.

وأمّا الخامس: فمجنون مغلوب على عقله عزّرناه ».

فقال عمر: ( لا عشت في أمّة لست فيها يا أبا الحسن )(٢) .

هذه نماذج قليلة من الموارد التي لم يرد فيها نص صريح، وقد واجهت كبار الصحابة بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعجزوا عن حلّ معضلاتها ممّا يدلّ بوضوح، على أنّه لو كان

__________________

(١) المستدرك للحاكم ٢: ٥١٤، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ١١: ٢٦٨، الكشّاف ٣: ٣١٤.

(٢) الكافي ٧: ٢٦٥.

١٢١

الصحابة مستوعبين لكلّ أحكام الشريعة وأبعادها، لأجابوا عليها دون تحيّر أو تردد. ولأصابوا فيما أجابوا. وهذا يدل بصراحة لا إبهام فيها، على أنّ الاُمّة كانت بحاجة شديدة إلى إمام عارف بأحكام الإسلام معرفةً كافيةً كاملةً وحامل لنفس الكفاءات والمؤهلات النفسيّة والفكريّة التي كان يتحلّى بها الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ( فيما عدا مقام الوحي والنبوة )، إذ بهذه الصورة فحسب، كان من الممكن أن يلي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويخلفه في قيادة الاُمّة ويسد مسدّه، من حل معضلاتها، ومعالجة مشاكلها التشريعية والفكريّة المستجدّة، دون أن يحدث له ما حدث للصحابة من العجز والارتباك، ومن التحيّر والمفاجأة ـ كما عرفت ـ.

وإليك بقية الأوجه التي تدلّ على هذا الادّعاء المدعم بالدليل :

* * *

٢. الفراغ في مجال تفسير القرآن وشرح مقاصده

لم يكن القرآن الكريم حديثاً عاديّاً، وعلى نسق واحد، بل فيه: المحكم والمتشابه والعامّ، والخاصّ، والمطلق والمقيّد، والمنسوخ والناسخ، مما يجب على المسلمين أن يعرفوها جيداً ليتسنّى لهم أن يدركوا مقاصد الكتاب العزيز ومفاداته(١) .

ثمّ لـمّا كان هذا الكتاب الإلهيّ، جارياً في حديثه مجرى كلام العرب وسائراً على نهجهم في البلاغة وطرقها فإنّ الوقوف على معانيه ورموزه ولطائفه كان يتوقف على معرفة كاملة بكلامهم وبلاغتهم.

أضف إلى كل ذلك، أنّ القرآن إذ كان كتاباً إلهياً حاوياً لأدقّ المعارف وأرفعها

__________________

(١) ولقد أشار الإمام عليّعليه‌السلام إلى هذه الاُمور بقوله :

« خلّف ( أي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فيكم كتاب ربّكم، مبيّناً حلاله وحرامه وفرائضه وفضائله، وناسخه ومنسوخه ورخصه وعزائمه وخاصّه وعامّه وعبره وأمثاله، ومرسله ومحدوده ومحكمه ومتشابهه، مفسّراً مجمله ومبيّناً غوامضه » نهج البلاغة: الخطبة رقم (١).

١٢٢

درجةً، ومنطوياً على علوم لم تكن مألوفةً في ذلك العصر، وعلى أبعاد عديدة(١) تخفى على العاديين من الناس، فإنّ الإطلاع على هذه الأبعاد والأوجه والحقائق كان يقتضي أن يتصدى لشرحها وتفسيرها وبيان مفاهيمها العالية جليلها ودقيقها: النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو من يليه في العلم والكفاءة والمؤهلات الفكريّة صيانةً من الوقوع في الاتجاهات المتباينة، والتفاسير المتعارضة التي تؤول إلى المذاهب المتناقضة والمسالك المتناحرة ـ كما حدث ذلك في الاُمّة الإسلاميّة ـ مع الأسف.

ولو سأل سائل :

إنّ القرآن الكريم يصف نفسه بأنه كتاب مبين إذ يقول:( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) ( المائدة: ١٥ ).

كما يصف نفسه بأنّه نزل بلسان عربي مبين فيقول:( وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) ( النحل: ١٠٣ ).

ويقول في آية اخرى بأن الله سبحانه وتعالى يسّره للذكر حيث يقول مكرّراً:( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ) ( القمر: ١٧، ٢٢، ٣٢، ٤٠ ).

ويصرّح في موضع آخر بأنّه سبحانه يسره بلسان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :( فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) ( الدخان: ٥٨ ).

ومع ذلك كيف يحتاج إلى التفسير والتوضيح، وما التفسير إلّا رفع الستر وكشف القناع عنه ؟.

كيف يحتاج إلى مبيّن ومفسّر قد قال الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله فيه: « إنّ القرآن يفسر بعضه بعضاً ».

وقال الإمام عليّعليه‌السلام في شأنه: « كتاب الله تبصرون به وتنطقون به

__________________

(١) ولقد أشار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى هذا بقوله :

« له ظهر وبطن وظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره انيق وباطنه عميق له نجوم وعلى نجومه نجوم لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه » الكافي ( كتاب القرآن ) ٢: ٥٩٨ ـ ٥٩٩.

١٢٣

وتسمعون به وينطق بعضه ببعض »(١) .

لأجبنا: صحيح أنّ القرآن الكريم يصف نفسه بما ذكر، ولكنّه يصف نفسه أيضاً بأنّه نزل حتى يبيّنه الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله للناس إذ يقول تعالى:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) ( النحل: ٤٤ ).( وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إلّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ) ( النحل: ٦٤ ).

فقد وصف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في هاتين الآيتين، بأنّه مبيّن لما في الكتاب لا قارئ فقط.

فكم من فرق بين القراءة والتبيين ؟.

بل يذكر القرآن الكريم بأنّ بيان القرآن عليه سبحانه، فهو يبيّن للرسول والرسول يبيّن للناس، كما يقول سبحانه:( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ *فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثمّ إنّعَلَيْنَا بَيَانَهُ ) ( القيامة: ١٦ ـ ١٩ ).

إنّ وجود هاتين الطائفتين من الآيات في القرآن، يكشف لنا عن أنّ القرآن رغم وضوحه من حيث اللفظ والمعنى والظواهر، ورغم أنّه منزّه عن الشباهة بكتب الألغاز والأحاجي إذ أنّه كتاب تربية وتزكية وهداية عامّة، فإنّه يحتاج إلى ( مبيّن ) ومفسّر لعدّة أسباب :

أوّلاً: وجود المجملات في أحكام العبادات والمعاملات الواردة في آياته.

ثانياً: كون آياته ذات أبعاد وبطون متعددة.

ثالثاً : ، غياب القرائن الحاليّة التي كانت آياته محفوفة بها حين النزول، وكانت معلومةً للمخاطبين بها في ذلك الوقت.

كلّ هذه الاُمور توجب أن يراجع من يريد فهم الكتاب مصادر تشرح هذه الأمور، وإليك مفصل هذا القول فيما يأتي :

أوّلاً: إنّ القرآن كما ذكرنا ليس كتاباً عادياً، بل هو كتاب إلهيّ اُنزل للتربية

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١٢٩ ( طبعة عبده ).

١٢٤

والتعليم ولهداية البشريّة وتهذيبها، وذلك يقتضي أن ينزل القرآن بألوان مختلفة من الخطاب تناسب ما تقتضيه طبيعة التربية والتعليم، ومن هنا نشأ في أسلوب القرآن: المطلق والمقيّد، والعام والخاصّ، والمنسوخ والناسخ، والمحكم والمتشابه، والمجمل والمبيّن كمفاهيم الصلاة والزكاة والحج والجهاد وغيرها فهي رغم كونها واضحة في أول نظرة ولكنّها مجملة من حيث الشروط والأجزاء والموانع والمبطلات والتفاصيل.

فكان لابدّ أن يتولّى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بيان مجمله ومطلقه ومقيده وما شابه ذلك، وقد فعل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك بقدر ما تطلّبه ظرفه واقتضته حاجة المسلمين بيد أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكشف القناع عن جميع تفاصيل هذه الاُمور وجزئياتها قاطبة، لعدم الحاجة إلى ذلك، وتحيّناً للظروف المناسبة، وانتظاراً للحاجات والحالات المستجدّة. وإن كان قد أخبر عن اُصولها واُمهاتها أو معظمها، فتعيّن أن يخلّف النبيّ ـ من يماثله بالعلم والدراية بالوحي الإلهيّ المدوّن في الكتاب العزيز، ليسدّ مسدّه في بيان ما يتعلق بالكتاب من اُمور مستجدّة، ويكشف النقاب عن بقية الجزئيات والتفاصيل لتلك المجملات حسب الظروف والحاجات الجديدة والضرورات الطارئة، ممّا أودع النبيّ عنده من معارف الكتاب وعلومه، ويخرج إلى الاُمّة من تلكم المعارف شيئاً فشيئاً.

نعم، قال شيخ الطائفة الطوسيّرحمه‌الله في تفسير قوله سبحانه:( حم *وَالْكِتَابِ المُبِينِ ) ( الزخرف: ١ ـ ٢ والدخان: ١ ـ ٢ ).

( إنّما وصف بأنّه مبين، وهو بيان مبالغة في وصفه بأنّه بمنزلة الناطق بالحكم الذي فيه، من غير أن يحتاج إلى استخراج الحكم من مبيّن آخر، لأنّه يكون من البيان ما لا يقوم بنفسه دون مبيّن حتّى يظهر المعنى فيه )(١) .

ولكن الصحيح أنّ توصيف القرآن بكونه كتاباً مبيّناً، هو وضوح انتسابه إلى الله، بحيث لا يشك أحد في كونه كلام الله والآية نظير قوله سبحانه( ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ

__________________

(١) التبيان ٩: ٢٢٤ ( طبعة النجف الأشرف ).

١٢٥

فِيهِ ) ( البقرة: ٢ )، أي لا ريب أنّه منّزل من جانب الله سبحانه.

أضف إلى ذلك أنّ الجمع بين هذه الآية وقوله سبحانه:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) ( النحل: ٤٤ ) وقوله سبحانه:( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ *فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثمّ إنّعَلَيْنَا بَيَانَهُ ) ( القيامة: ١٦ ـ ١٩، ، يقضي، بأنّ المراد هو وضوح مفاهيمه الكليّة لا خصوصياته وجزئياته كما أوضحناه.

ثانياً: لـمّا كان القرآن كتاباً خالداً انزل ليكون دستور البشريّة مدى الدهور، ومعجزة الرسالة الإسلامية الخالدة، تطلّب ذلك أن يكون ذا أبعاد وبطون يكتشف منه كل جيل، ما يناسب عقله وفكره وتقدّمه وترقّيه في مدارج الكمال والصعود، وقد أشار الإمام عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام إلى هذا الأمر حيث قال عن القرآن وعلّة خلوده وغضاضته الدائمة: « إنّ الله تعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس، فهو في كلّ زمان جديد، وعند كلّ قوم غضّ إلى يوم القيامة »(١) .

فكأنّ القرآن الكريم ـ في انطوائه على الحقائق العلميّة الزاخرة، وعدم إمكان التوصل إلى أعماقه ـ هو النسخة الثانية لعالم الطبيعة الواسع الأطراف، الذي لا يزيد البحث فيه والكشف عن حقائقه وأسراره، إلّا معرفة أنّ الإنسان لا يزال في الخطوات الاولى من التوصّل إلى مكامنه الخفيّة وأغواره، فإنّ كتاب الله تعالى كذلك لا يتوصّل إلى جميع ما فيه من الحقائق والأسرار، لأنّه منزّل من عند الله الذي لا يضمّه أين ولا تحدّده نهاية، ولا تحصى أبعاد قدرته، ولا تعرف غاية عظمته.

إذن، فكون القرآن أمراً مبيّناً لا ينافي أن تكون له أبعاد متعدّدة، وأفاق كثيرة، يكون البعد الواحد منه واضحاً مبيّناً دون الأبعاد الاُخرى.

ولهذا، فإنّ الوقوف على البطون المتعددة بحاجة إلى ما روي من روايات وأخبارحول الآيات، وما ورد في السّنّة من النصوص المبيّنة والأحاديث الموضّحة ،

__________________

(١) البرهان في تفسير القرآن ١: ٢٨.

١٢٦

حتّي تكشف بعض البطون والأبعاد الخفيّة كما هو الحال في بعض أحاديث النبيّ وأهل بيته: وإن كان بعض هذه البطون تنكشف لنا بمرور الزمن وتكامل العقول ونضج العلوم.

وبتعبير آخر: إنّ فهم بعد واحد من أبعاد معاني الآية القرآنيّة، وإن كان ممكناً للجميع، غير أنّ وضوح بعد واحد ومعلوميّته لا تغني عن الإحاطة بالأبعاد والأوجه الاخرى لها.

إنّ فهم بعد واحد من أبعاد الآيات التالية :

( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلّا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الأنبياء: ٢٢ ).

( وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ) ( المؤمنون: ٩١ ).

( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ ) ( النمل: ٨٢ ).

وكذا الآيات الواقعة في سورة الحديد، وما بدأ من السور بالتسبيحات.

أقول: إنّ فهم بعد واحد من أبعاد هذه الآيات وإن كان أمراً ميسّراً للجميع، ولكن لا يمكن لمن له أدنى إلمام بمفاهيم القرآن وأسلوب خطاباته أن يدّعي، أنّ جميع أبعاد هذه الآيات مفهومة للجميع بمجّرد الوقوف على اللغة العربيّة والاطّلاع على قواعدها.

كلاّ، فإنّ الوقوف على مغزى هذه الآيات وأبعادها وبطونها وآفاقها، يحتاج إلى جهود علميّة واطّلاع شامل ودقيق على السنّة المطهّرة، وما جاء فيها حول الآيات من توضيحات وبيانات.

وقد تمكّن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يرفع النقاب عن جملة من هذه الأبعاد في حدود ما سمحت له الظروف، واستعدّت له النفوس المعاصرة، فكان لابدّ من وجود من يخلّفه

١٢٧

للقيام بهذه المهمة الخطيرة، فيما يأتي من الزمان، ولمن يأتي من الأفراد والجماعات.

ثالثاً: لقد نزل القرآن الكريم بالتدريج في مناسبات مختلفة كانت تستدعي نزول آيات من الوحي الإلهيّ المقدسّ ولذلك، فقد كان القرآن ـ في عصر تنزّله ـ محفوفاً بالقرائن التي كانت تبيّن مقاصده، وتعيّن على فهم أهدافه وغاياته.

ولهذا فإنّ القرآن وإن كان مبيّناً في حين نزوله بيد أنّ مرور الزمن، وبعد الناس عن عهد نزوله، وانفصال القرائن الحالية عن الآيات صيّر القرآن ذا وجوه وجعل آياته ذات احتمالات عديدة، لغياب علل النزول وأسبابه التي كانت قرائن حاليّة من شأنها أن توضّح مقاصد الكتاب وتفسر عن غاياته.

وهذا أمر يعرفه كلّ من له إلمام بالقرآن الكريم، وتاريخه، وعلومه.

ولأجل ذلك، يطلب الإمام عليّعليه‌السلام من ابن عباس عندما بعثه للمحاجّة مع الخوارج أن لا يحاججهم بالقرآن، لأنّه أصبح ذا وجوه إذ يقولعليه‌السلام : « لا تخاصمهم بالقرآن، فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه تقول ويقولون. ولكن حاججهم بالسنّة فإنهم لم يجدوا عنها محيصاً »(١) .

وإليك نماذج من الاختلاف الموجود في هذه الآيات بين الاُمّة، ولا يمكن رفع هذا الاختلاف إلّا بإمام معصوم تعتمد عليه الاُمّة، وتعتبر قوله قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

١. قال سبحانه في آية الوضوء:( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) ( المائدة: ٦ ).

وقد تضاربت الآراء في فهم هذه الآية، وصارت الاُمّة إلى قولين :

فمن عاطف لفظ( أَرْجُلَكُمْ ) على الرؤوس فيحكم على الأرجل بالمسح.

ومن عاطف له على الأيدي فيحكم على الأرجل بالغسل.

ومن المعلوم، أنّ إعراب القرآن الكريم إنّما حدث بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة (٧٧).

١٢٨

فأيّ الرأيين هو الصحيح ؟(١) .

٢. لقد حكم الله تعالى على السارق والسارقة بقطع الأيدي حيث قال:( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) ( المائدة: ٣٨ ).

وقد اختلفت الاُمّة في مقدار القطع وموضع اليد :

فمن قائل: إنّ القطع من اُصول الأصابع دون الكفّ وترك الإبهام، كما عليه الإماميّة وجماعة من السلف.

ومن قائل: إنّ القطع من الكوع، وهو المفصل بين الكفّ والذراع، كما عليه أبو حنيفة ومالك والشافعيّ.

ومن قائل: إنّ القطع من المنكب كما عليه الخوارج(٢) .

٣. أمر الله سبحانه الورثة بإعطاء السدس للكلالة في قوله سبحانه:( وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ ) ( النساء: ١٢ ).

وفي الوقت نفسه يحكم سبحانه بأعطاء الكلالة النصف أو الثلثين كما قال:( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ ) ( النساء: ١٧٦ ).

فما هو الحل وكيف الجمع بين هاتين الآيتين ؟

لا شكّ أنّه لم يكن ثمة إبهام في مورد هاتين الآيتين بل حدث الإبهام في ذلك فيما بعد.

ألا يدلّ هذا على ضرورة وجود الإمام، الذي يرفع الستار عن الوجه الحقّ بما

__________________

(١) وممّن أقرّ بالحقيقة وأنّ مدلولها يوافق مذهب الإماميّة، ابن حزم الظاهريّ في كتابه المحلّى، والفخر الرازيّ في تفسيره والحلبيّ في كتاب منية المتملّي في شرح غنية المصلّي فلاحظ المحلّى ٣: ٥٤، لاحظ المسألة (٢٠٠) فإنّه أدّى حقّ المقال فيها، ومفاتيح الغيب ١١: ١٦١ ( طبع دار الكتب العلمية ).

(٢) راجع الخلاف للطوسيّ ( كتاب السرقة ): ١٨٤.

١٢٩

عنده من علوم مستودعة.

ولهذا أيضاً عمد علماء الإسلام إلى تأليف كتاب حول شأن نزول الآيات، كالواحديّ وغيره، جمعوا فيها ما عثروا عليه من وقائع وأحاديث في هذا السبيل.

على أنّ بعض الآيات ما لم يضّم إليها، ما ورد حولها من شأن النزول لكانت غير واضحة المقصود، وإليك نماذج من ذلك :

١. قوله سبحانه:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( البقرة: ١٨٩ ).

فيقال، أي مناسبة بين السؤال عن الأهلّة والإجابة عنها بأنّها مواقيت للناس وبين قوله:( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا ) وعلى فرض وضوح المناسبة، ماذا يقصد القرآن من هذا الدستور( وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ) ؟ أليس هذا توضيحاً للواضح ؟ ولكن بالمراجعة إلى ما ورد حوله يظهر الجواب عن كلا السؤالين.

٢. قوله سبحانه:( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ ) ( النمل: ٨٢ ).

فما هذه الدابة التي تخرج من الأرض، وكيف تكلمهم ومع من تتكلم ؟.

٣. وقوله سبحانه:( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إلّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( التوبة: ١١٨ ).

إلى غير ذلك من هذه الآيات التي تتضح الحقيقة فيها بالمراجعة إلى ما حولها من الأحاديث الصحيحة.

هذا هو مجمل القول في علّة احتياج القرآن إلى مبيّن، وللوقوف على تفصيله لابدّ من بسط الكلام والتوسع في الحديث، وقد ألفّنا في ذلك رسالةً خاصّة.

١٣٠

إنّ إيقاف الاُمّة على مقاصد الكلام الإلهيّ، من دون زيادة أو نقصان، ومن دون تحريف أو تزييف، ومن دون جهل أو شطط يحتاج إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو من يتحلى بمثل ما يتحلى به النبيّ من كفاءات علمية ومؤهلات فكريّة ويكون مضافاً إلى ذلك عيبةً لعلمه، وأميناً على سره، ومؤدّباً بتأديبه، وناشئاً على ضوء تربيته، حفاطاً على خطّ الرسالة من الشذوذ، وصيانةً للفكر الإسلاميّ من الانحراف، وصوناً للاُمّة من الوقوع في متاهات الحيرة والضلال والأخذ بالأهواء والأضاليل.

لقد كان من المتعيّن على الله بحكم الضرورة والعقل، وانطلاقاً من الاعتبارات المذكورة، أن يقرن كتابه بهاد يوضح خصوصياته، ويبيّن أبعاده، ويكشف عن معالمه، ليؤوب إليه المسلمون عند الحاجة، وترجع إليه الاُمّة عند الضرورة ويكون المرجع الصادق الأمين لمعرفة القرآن حتّى يتحقّق بذلك غرض الرسالة الإلهيّة، وهو الإرشاد والهداية، ودفع الاختلاف والغواية الناشئة من التفسيرات الشخصيّة العفويّة للقرآن الكريم.

إنّ ترك أمر الاُمّة وعدم نصب من يقدر ـ فيما يقدر ـ على هذه المهمّة القرآنيّة الخطيرة على ضوء ما استودع عنده النبيّ من معارف وعلوم إلهيّة قرآنيّة يؤدّي إلى اختلاف الاُمّة في الرأي والتفسير، وهو بدوره يؤدّي لا محالة إلى ظهور الفرق والمذاهب المختلفة الشاذّة كما يشهد بذلك تأريخ الاُمّة الإسلاميّة.

يقول منصور بن حازم، قلت لأبي عبد الله ( جعفر بن محمّد الصادق )عليه‌السلام :

إنّ الله أجلّ وأكرم من أن يعرف بخلقه بل الخلق يعرفون بالله.

قال: « صدقت ».

قلت: إنّ من عرف أنّ له ربّاً فينبغي له أن يعرف أنّ لذلك الربّ رضىً وسخطاً، وأنّه لا يعرف رضاه وسخطه إلّا بوحي أو رسول، فمن لم يأته الوحي فقد ينبغي له أن يطلب الرسل فإذا لقيهم عرف أنّهم الحجّة، وأنّ لهم الطاعة المفترضة، وقلت للناس: تعلمون أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان هو الحجّة من الله على خلقه ؟ قالوا: بلى، قلت: فحين

١٣١

مضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من كان الحجّة على خلقه ؟ فقالوا: القرآن، فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجّيء والقدريّ والزنديق الذي لا يؤمن به حتّى يغلب الرجال بخصومته، فعرفت أنّ القرآن لا يكون حجّةً إلّا بقيّم، فما قال فيه من شيء كان حقاً، فقلت لهم: من قيّم القرآن ؟(١) فقالوا: ابن مسعود قد كان يعلم، وعمر يعلم، وحذيفة يعلم، قلت: كلّه ؟ قالوا: لا، فلم أجد أحداً يقال أنّه يعرف ذلك كلّه إلّا عليّاًعليه‌السلام وإذا كان الشيء بين القوم فقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، وقال هذا: أنا أدري، فأشهد أنّ عليّاًعليه‌السلام كان قيّم القرآن، وكانت طاعته مفترضةً، وكان الحجّة على الناس بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّ ما قال في القرآن فهو حقّ.

فقال ( الإمام الصادق ): « رحمك الله »(٢) .

كما ورد شاميّ على الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام فقال له: « كلّم هذا الغلام »، يعني هشام بن الحكم، فقال: نعم، ثمّ دار بينهم حديث فقال الغلام للشاميّ: أقام ربّك للناس حجّةً ودليلاً كيلا يتشتتوا أو يختلفوا، يتألّفهم ويقيم أودهم ويخبرهم بفرض ربّهم.

قال: فمن هو ؟

قال: رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال هشام: فبعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

قال: الكتاب والسنّة.

قال هشام: فهل نفعنا اليوم الكتاب والسنّة في رفع الاختلاف عنّا ؟

قال الشاميّ: نعم.

قال: فلم اختلفنا أنا وأنت وصرت إلينا من الشام في مخالفتنا إياّك ؟

__________________

(١) أي من يقوم بأمر القرآن ويعرف ظاهره وباطنه ومجمله ومأوّله ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه بوحي إلهيّ أو بإلهام رباني، أو بتعلم نبويّ ( راجع مرآة العقول ).

(٢) الكافي ١: ١٦٨ ـ ١٦٩.

١٣٢

قال: فسكت الشاميّ.

فقال أبو عبد الله للشاميّ: « مالك لا تتكلم ؟ ».

قال الشاميّ: إن قلت: لم نختلف كذبت، وإن قلت: إنّ الكتاب والسنّة يرفعان عنّا الاختلاف أبطلت، لأنهّما يحتملان الوجوه، وإن قلت: قد اختلفنا وكلّ واحد منّا يدّعي الحقّ، فلم ينفعنا إذن الكتاب والسنّة إلّا أنّ لي عليه هذه الحجّة(١) .

أجل، لابدّ من قائم بأمر القرآن وهاد للاُمّة إلى مقاصده وحقائقه، لكي لا تضلّ الاُمّة ولا تشذّ عن صراطه المستقيم.

وهذا الهادي الذي يجب أن يقرن الله به كتابه هو من عناه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله الذي تواتر نقله بين السنّة والشيعة.

فقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيب إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله وأهل بيتي وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض »(٢) .

وروي هكذا أيضاً: « إنّي قد تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي: الثّقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، إلّا وأنهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض »(٣) .

فقد صرح النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بعدم افتراق الكتاب والعترة، وهذا دليل على علمهم بالكتاب علماً وافياً وعدم مخالفتهم له قولاً وعملاً.

كما أنّه جعلهما خليفتين بعده، وذلك يقتضي، وجوب التمسك بهم كالقرآن

__________________

(١) الكافي ١: ١٧٢.

(٢ و ٣) رواه أحمد بن حنبل في مسنده ٥: ١٨٢ و ١٨٩، والحاكم في مستدركه ٣: ١٠٩، ومسلم في صحيحه ٧: ١٢٢، والترمذيّ في سننه ٢: ٣٠٧، والدارميّ في سننه ٢: ٤٣٢، والنسائيّ في خصائصه: ٣٠، وابن سعد في طبقاته ٤: ٨، والجزريّ في اسد الغابة ٢: ١٢، وغيرها من كتب المسانيد والتفاسير والسير والتواريخ واللغة من الفريقين.

وقد أفرد دار التقريب رسالةً ذكر فيها مسانيد الحديث ومتونه ونشره عام ١٣٧٥ ه‍.

١٣٣

ولزوم اتّباعهم على الإطلاق لعلمهم بالكتاب وأسراره وبمصالح الاُمّة واحتياجاتها المتعلقة بالقرآن.

وهو من حيث المجموع، يدلّ على حاكميّة العترة النبويّة وسلطتهم وولايتهم على الناس بعد الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

* * *

٣. الفراغ في مجال تكميل الاُمّة روحياً

إنّ نظرةً دقيقةً إلى الكون، تهدينا إلى أنّ الله خلق كلّ شيء لهدف معيّن هو غاية كماله، وعلّته الغائيّة، وقد زوده بكلّ ما يبلّغه إلى ذلك الكمال، ويوصله إلى تلك الغاية المنشودة.

ولم يكن « الإنسان » بمستثنى من هذه القاعدة الكلية الكونيّة، فقد زوده الله تعالى ـ بعد أن أفاض عليه الوجود ـ بكل ما يوصله إلى كماله الماديّ

ولم يكن معقولاً أن يهمل الله تكامل الإنسان في الجانب المعنويّ، وهو الذي أراد له الكمال المادّيّ وهيّأ له أسبابه، وقيّض وسائله.

ولمّا كان تكامل الإنسان في الجانبين: المادّيّ والمعنويّ لا يمكن إلّا في ظلّ الهداية الإلهيّة خاصّةً، وكانت الهداية فرع الإحاطة بما في الشيء من إمكانات وخصوصيّات وأجهزة وحاجات، وليس أحد أعرف بالإنسان من خالقه فهو القادر على هدايته، وتوجيهه، نحو التكامل والصعود إلى كماله المطلوب.

من هنّا تطلّب الأمر إرسال الرسل إلى البشر ليضيئوا للبشريّة طريق الرقيّ والتقدّم، بالتزكية والتعليم والتربية، ويساعدوها على تجاوز العقبات والعراقيل، ليبلغوا بها إلى الكمال الذي أراده الله لها.

وقد قام انبياء الله ورسله الكرام ـ بكلّ ما في مقدورهم ووسعهم ـ بهداية البشريّة على مدار الزمن، وحقّقوا من النجاحات والنتائج العظيمة ما غيّر وجه التاريخ البشريّ ،

١٣٤

وكان منشأ الحضارات الإنسانيّة العظمى، ومنطلقاً للمدنيّات الخالدة.

لقد كان دور الأنبياء والرسل في تكميل البشريّة معنويّاً وروحيّاً، دوراً أساسيّاً وعظيماً، بحيث لولاه لبقيت البشريّة في ظلام دامس من التخلّفات الفكريّة والجاهليّات المقيتة.

ولقد كان هذا الدور منطقيّاً وطبيعيّاً، فالبشريّة بحكم ما تتنازعها من أهواء ومطامع، ويكتنفها من جهل بالحقّ والعدل، لا يمكنها بنفسها أن تشقّ طريقها نحو التكامل المنشود فكم من مرّة ابتعدت البشريّة عن العناية الربانيّة والهدايّة الإلهيّة، فسقطت في الحضيض، ونزلت إلى مستوى الطبيعة البهيميّة وعادت كالأنعام بل أضلّ.

ولقد أشار الإمام السجّاد زين العابدين عليّ بن الحسينعليه‌السلام إلى حاجة البشريّة إلى الهدايّة الإلهيّة، وأثر هذه الهداية في تكامل البشريّة سلباً وإيجاباً، إذ قال في دعائه الأوّل في الصحيفة السجاديّة: « الحمد لله الذي لو حبس عن عباده معرفة حمده على ما أبلاهم من مننه المتتابعة وأسبغ عليهم من نعمه المتظاهرة لتصرّفوا في مننه فلم يحمدوه وتوسّعوا في رزقه فلم يشكروه، ولو كانوا كذلك لخرجوا من حدود الإنسانيّة إلى حدّ البهيميّة، فكانوا كما وصف في محكم كتابه( إِنْ هُمْ إلّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ) »(١) .

ولقد كان إيصال هذه الهداية الإلهيّة التكميليّة الضروريّة إلى البشر غير ميسور إلّا عن طريق إرسال الرسل وبعث الأنبياء الأصفياء الهداة.

إنّ دراسةً سريعةً خاطفةً لحالة العالم الإنسانيّ، وخاصّة حالة المجتمع العربيّ الساكن في الجزيرة العربية قبيل الإسلام، وما كان يعاني منه الإنسان من تخلف وتأخّر وسقوط، وما تحقق له من تقدّم ورقيّ واعتلاء في جميع الأبعاد الأخلاقيّة والفكريّة والإنسانيّة بفضل الدعوة المحمديّة، والجهود التي بذلها صاحب هذه الدعوة المباركة ،

__________________

(١) الصحيفة السجادية: الدعاء الأوّل.

١٣٥

وبفضل ما قام به من عناية ورعاية وإراءة الطريق الصحيح، يكشف عن مدّعى تأثير الهداية الإلهيّة في تكامل المجتمع الإنسانيّ.

إنّ توقف تكامل البشريّة الروحيّ والمعنويّ على إرسال الرسل، وهداية الأنبياء ورعايتهم، هو نفسه يستدعي، وجود الخلف المعصوم العارف بالدين، للنبيّ، ليواصل دفع المجتمع الإسلاميّ في طريق الكمال، ويحفظه من الانقلاب على الأعقاب، والتقهقر إلى الوراء، كيف لا، ووجود الإمام المعصوم العارف بأسرار الشريعة ومعارف الدين، ضمان لتكامل المجتمع، وخطوة كبيرة في سبيل إرتقائه الروحيّ والمعنويّ.

فهل يسوغ لله سبحانه أن يهمل هذا العامل البنّاء الهادي للبشريّة إلى ذروة الكمال ؟.

إنّ الله سبحانه جهّز الإنسان بأجهزة ضروريّة وغير ضروريّة، ليوصله إلى الكمال المطلوب حتّى أنّه تعالى قد زودّه بإنبات الشعر على أشفار عينيه وحاجبيه وتقعير الأخمص من القدمين، لكي تكون حياته لذيذة غير متعبة، فهل تكون حاجته إلى هذه الاُمور أشد من حاجته إلى الإمام المعصوم الذي يضمن كماله المعنوي ؟(١) .

وما أجمل ما قاله أئمة أهل البيت: في فلسفة وجود الإمام المعصوم المنصوب من جانب الله سبحانه، ومدى تأثيره في تكامل الاُمّة :

أ ـ يقول الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام : « إنّ الأرض لا تخلو إلّا وفيها إمام كي ما إذا زاد المؤمنون شيئاً ردهم وإذا نقصوا شيئاً أتمّه لهم »(٢) .

ب ـ روى أبو بصير عن الإمام الصادق [ جعفر بن محمّد ] والإمام الباقر [ محمّد بن عليّ ]عليهما‌السلام : « إنّ الله لم يدع الأرض بغير عالم ولولا ذلك لم يعرف الحقّ من الباطل »(٣) .

__________________

(١) هذا الاستدلال مأخوذ من كلام الشيخ الرئيس ابن سينا في إلهيّات الشفا وكتاب النجاة ( له أيضاً ): ٣٠٤.

(٢ و ٣) الكافي ١: ١٧٨.

١٣٦

ج ـ قال الإمام أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام في نهج البلاغة: « أللّهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة، إمّا ظاهراً مشهوراً وإمّا خائفاً مغموراً، لئلاّ تبطل حجج الله وبيّناته »(١) .

وفي حوار طويل جرى بين هشام بن الحكم وهو شاب وبين عمرو بن عبيد العالم المعتزليّ البصريّ، أشار إلى الفائدة المعنويّة الكبرى لوجود الإمام المعصوم فقال هشام: أيّها العالم إنّي رجل غريب أتأذن لي في مسألة ؟

فقال: نعم.

فقال: ألك عين ؟

قال: نعم.

قال: فما تصنع بها ؟

فقال: أرى بها الألوان والأشخاص.

قال: فلك أنف ؟

فقال: نعم.

قال: فما تصنع به ؟

فقال: أشمّ به الرائحة.

قال: ألك فم ؟

فقال: نعم.

قال: فما تصنع به ؟

فقال: أذوق به الطعام.

قال: فلك اُذن ؟

فقال: نعم.

قال: فما تصنع به ؟

__________________

(١) نهج البلاغة: قصار الكلمات.

١٣٧

فقال: أسمع به.

قال: ألك قلب ؟

فقال: نعم.

قال: فما تصنع به ؟

فقال: اميّز به كلّما ورد على هذه الجوارح والحواس.

قال: أو ليس في هذه الجوارح غنىً عن القلب ؟

فقال: لا.

قال: وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة ؟

فقال: يا بنيّ إنّ الجوارح إذا شكّت في شيء شمّته أو رأته، أو ذاقته، أو سمعته، ردته إلى القلب فيستيقن اليقين ويبطل الشكّ.

قال هشام: فإنّما أقام الله القلب لشكّ الجوارح [ أي لضبطها ] ؟

قال: نعم.

قال: لا بدّ من القلب وإلاّ لم تستيقن الجوارح ؟

قال: نعم.

قال: يا أبا مروان، فالله تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتّى جعل لها ( إماماً ) يصحّح لها الصحيح ويتيّقن به ما شكّ فيه، ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكّهم واختلافهم لايقيم لهم ( إماماً )يردون إليه شكّهم وحيرتهم ويقيم لك ( إماماً ) لجوارحك تردّ إليه حيرتك وشكّك ؟!

قال هشام: فسكت ولم يقل لي شيئاً(١) .

وغير خفي على القارئ النابه، أنّ لزوم الحاجة إلى الإمام المعصوم ليس بمعنى تعطيل أثر الكتاب والسنّة وإنكار قدرتهما على حلّ الكثير من المشكلات والاختلافات، بالنسبة إلى من يرجع إليهما بنيّة صادقة، وتجرّد عن الآراء المسبقة.

__________________

(١) الكافي ١: ١٧٠.

١٣٨

غير أنّ هناك مسائل واُموراً عويصةً ـ خصوصاً فيما يرجع إلى المبدأ والمعاد وإلى فهم كتاب الله وسنّة رسوله ـ فلا مناص للاُمّة من وجود إمام عارف معصوم يخلِّف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويقوم مقامه في تكميل المجتمع الإسلاميّ في جميع شؤونه.

وصفوة القول: أنّ تكامل البشريّة الروحيّ والمعنويّ كما أنّه منوط ببعثة الأنبياء ووجود الرسل، فهو كذلك منوط بوجود الإمام المعصوم الذي يتسنى له بما اوتي من علم وعصمة وملكات عالية وكفاءات قياديّة أن يوصل هداية المجتمع الإسلاميّ إلى ذرى الكمال الروحيّ والارتقاء المعنويّ بلا تعثّر ولا إبطاء، ولا تقهقر ولا تراجع.

ومن المعلوم، أنّ الاُمّة لا تقدر على معرفة ذاك الإمام، إلّا بتنصيب من الله سبحانه وتعيينه.

٤. الفراغ في مجال الرد على الأسئلة والشبهات

لقد تعرض الإسلام منذ بزوغه لأعنف الحملات التشكيكية، وكان هدفاً لسهام الشبهات والتساؤلات العويصة والمريبة، التي كان يثيرها اعداء الإسلام والنبيّ والمسلمين من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين.

وقد قام الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله في حياته بردّ هذه الشبهات وتبديد تلك الشكوك وصدّ الحملات التشكيكيّة بحزم فريد، وتفوّق عليها بنجاح كبير مستعيناً بالوحي الإلهيّ.

وقد كانت هذه الشبهات تتراوح بين التشكيك في أصل وجود الله أو توحيده أو صدق الرسالة الإسلاميّة أو المعاد والحشر، وغيرها من الاُمور الاعتقاديّة وبعض الاُمور العمليّة.

ولا شكّ، أنّ هذه الحملات كانت تجد اذناً صاغيةً بين بعض المسلمين، وتوجب بعض التزعزع في مواقفهم إلّا أنّها كانت تتبدّد وينعدم أثرها بما كان يقوم به الرسول الأكرم المعلم من ردّ ودفع قاطع وحاسم.

١٣٩

نماذج من الأسئلة العويصة

عندما راجعت قريش يهود يثرب لمعرفة صدق ما يدّعيه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لهم اليهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهنّ، فإن لم يخبر بها فالرجل متقوِّل فروا فيه رأيكم :

١. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان أمرهم ؟ فإنّه قد كان لهم حديث عجب.

٢. وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه ؟

٣. وسلوه عن الروح ما هي ؟

فأقبلوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وطرحوا عليه الأسئلة المذكورة، فأخبرهم عن أجوبتها، وأخبرهم بأنّ الأوّل، هم أصحاب الكهف الذين ذكرهم القرآن في سورة الكهف، والثاني، هو ذو القرنين الذي ذكره الله في سورة الكهف أيضاً، وأمّا الثالث فقد أوكل علمه إلى الله بأمره حيث قال:( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إلّا قَلِيلاً ) ( الإسراء: ٨٥ )، وقد أخبر بكل ذلك بما أوحى الله تعالى إليه(١) .

كما قدم جماعة من كبار النصارى وعلمائهم إلى المدينة لمحاججة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فاستدلوا لاعتقادهم في المسيحعليه‌السلام بكونه ولداً لله، بأنّه لم يكن له أب يعلم وقد تكلّم في المهد، وهذا لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله، فأجابهم بما أوحى إليه الله سبحانه بأنّ أمر عيسى ليس أغرب من أمر آدم الذي لم يكن له لا أب ولا أمّ. فهو أعجب من عيسى الذي ولد من أمّ حيث قال الله في هذا الصدد:( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ( آل عمران: ٥٩ )(٢) .

وعن أمير المؤمنين عليٍّعليه‌السلام أنّه اجتمع يوماً عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أهل خمسة أديان: اليهود والنصارى والثنويّة والدهريّة ومشركو العرب.

ثمّ وجّه كلّ طائفة من هذه الطوائف أسئلة عويصة ومشكلة إلى النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١: ٣٠٠ و ٥٧٥.

(٢) سيرة ابن هشام ١: ٣٠٠ و ٥٧٥.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

بعد الدعاء للمهدي (ع) والسلام عليه.

ففي بعض الأدعية المكرّسة للدعاء للمهدي (ع) والثناء عليه، يقول في آخره:

اللّهمّ صلّ على ولاة عهده والأئمّة من بعده، وزد في آجالهم، وأعزّ نصرهم، وتمّم لهم ما أسندت إليهم من أمرك، وثبّت دعائمهم، واجعلنا لهم أعواناً وعلى دينك أنصاراً... الخ الدعاء(١) .

وفي دعاء آخر يذكر فيه المهدي (ع) ويثني عليه طويلاً، ويقال في آخره:

وصلّ على وليّك وولاة عهدك والأئمّة من ولده، ومدّ في أعمارهم، وزد في آجالهم، وبلّغهم أقصى آمالهم ديناً ودنياً وآخرة؛ إنّك على كل شيءٍ قدير (٢) .

إلى غير ذلك من الأدعية.

هذا، وقد حاول المجلسي في البحار(٣) أن يرفع التنافي بين هذه الأخبار من حيث كونها دالّة على إيكال الرئاسة العليا بعد المهدي (ع) إلى غير الأئمّة المعصومين (عليهم السلام)، وبين القول بالرجعة الذي يقول: بإيكال الرئاسة إلى الأئمّة المعصومين أنفسهم. حيث قال: هذه الأخبار مخالفة للمشهور. يعني القول بالرجعة.

وطريق التأويل أحد وجهين:

الأوّل: أن يكون المراد بالاثني عشر مهديّاً: النبي وسائر الأئمّة سوى القائم (ع)، بأن يكون ملكهم بعد القائم....

والثاني: أن يكون هؤلاء المهديّون من أحبّاء القائم هادين للخلق في زمن سائر الأئمّة الذين رجعوا؛ لئلاّ يخلو الزمان من حجّة. وإن كان أوصياء الأنبياء الأئمّة حججاً أيضاً. والله تعالى أعلم.

وقال الطبرسي في أعلام الورى(٤) : وجاءت الرواية الصحيحة بأنّه ليس بعد دولة القائم دولة لأحد، إلاّ ما روي من قيام ولده إن شاء الله ذلك، ولم ترد في الرواية على القطع والثبات. وأكثر الروايات أنّه لن يمضي - يعني المهدي القائم (ع) - من الدنيا إلاّ

____________________

(١) مفاتيح الجنان المعرّب ص٥٤٢.

(٢) المصدر ص٥٣.

(٣) ج١٣ ص٢٣٧.

(٤) ص٤٣٥.

٦٤١

قبل القيامة بأربعين يوماً، يكون فيها الهرج.

هذا ما قالته المصادر الإمامية، ولم نجد لدولة ما بعد المهدي في المصادر العامّة أيّ أثر.

ونودّ أن نعلّق أوّلاً على كلام المجلسي: إنّه يعترف سلفاً أنّ كلا الوجهين نحو من أنحاء التأويل، والتأويل دائماً خلاف الظاهر، فلا يصار إليه إلاّ عند الضرورة، ولا يكفي مجرّد الإمكان أو الاحتمال لإثباته.

وعلى أي حال، فالوجه الأوّل حاول فيه المجلسي على أن يقول أنّ الأولياء الاثني عشر بعد المهدي (ع) هم الأئمّة المعصومون الاثنا عشر أنفسهم، فترتفع المعارضة بين روايات الأولياء وروايات الرجعة، ويكون المراد منهما معاً الأئمّة المعصومين أنفسهم.

إلاّ أنّ هذا الوجه قابل للمناقشة من وجوه، نذكر منها اثنين:

الوجه الأوّل: إنّ عدداً من روايات الأولياء التي سمعناه، تنصّ على أنّ الأولياء الاثني عشر من ولد الإمام المهدي (ع).

قال في أحد الأخبار: ( ثم يكون من بعده اثني عشر مهديّاً، فإذا حضرته الوفاة - يعني المهدي - فليسلّمها إلى ابنه أوّل المهديين ).

وقال في الدعاء ( والأئمّة من ولده ). مع أنّ الأئمّة المعصومين السابقين هم آباء الإمام المهدي (ع) بكل وضوح.

الوجه الثاني: إنّنا لم نجد - كما عرفنا - دليلاً كافياً على عودة الأئمّة الاثنا عشر كلهم، لا بشكل عكسي ولا بشكل مشوّش، وإنّما نصّ فقط - بعد النبي (ص) - على أمير المؤمنين (ع) وابنه الحسين (ع).

وإذا لم يثبت رجوع الأئمّة الاثنا عشر جميعاً، كيف يمكن حمل هذه الأخبار عليه؟

وأمّا الوجه الثاني: االذي ذكره المجلسي، فيتلخّص في الاعتراف بوجود الأئمّة المعصومين (ع) والأولياء الصالحين في مجتمع ما بعد المهدي (ع) متعاصرين. ولكنّ الحكم العام سيكون للمعصومين (ع). وأمّا الأولياء فسيكونون هداةً عاملين في العالم من الدرجة الثانية؛ وبذلك يرتفع التعارض بين الروايات.

وأوضح ما يرد على هذا الوجه، هو أنّ روايات الأولياء، صريحة بمباشرتهم للحكم على أعلى مستوى، بحيث يكون التنازل عن هذه الدلالة تأويلاً باطلاً، كقوله: ( ليملكن من أهل البيت رجل ) وقوله: ( فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها - يعني الإمامة، أو

٦٤٢

الخلافة - إلى ابنه أوّل المهديين ) قوله: ( اللّهمّ صلِّ على ولاة عهده والأئمّة من بعده ) ونحوه في الدعاء الآخر.

ويحتوي كلام المجلسي في الوجه الثاني على استدلال ضمني على الرجعة مع جوابه.

وملخّص الاستدلال: أنّه ثبت في الفكر الإسلامي أنّ الأرض لا تخلو من حجّة باستمرار ما دام للبشرية وجود، حتى لو كان اثنان كان أحدهما الحجّة على صاحبه. ولكنّ الأرض بعد الإمام المهدي (ع) ستخلو من الحجّة، ما لا نقل بالرجعة، ليرجع الأئمّة المعصومون (ع) ليكونوا هم الحجج بعده، تطبيقاً لهذه القاعدة.

إلاّ أنّه من حسن الحظ أن يكون المجلسي نفسه قد أجاب على ذلك.

وملخّص الجواب: إنّنا لا نحتاج إلى القول بالرجعة كتطبيق لتلك القاعدة، بل إنّ حكم الأولياء الصالحين تطبيق لها أيضاً، قال المجلسي لأنّ ( أوصياء الأنبياء و( أوصياء ) الأئمّة حجج أيضاً ) فالأرض تكون مشغولة بصفتهم أوصياء للأئمّة (ع)، فلا تكون خالية من الحجّة.

ومعه لا تكون هذه القاعدة مثبتة للرجعة، ولا منافية مع حكم الأولياء الصالحين.

وأمّا تعليقنا على كلام الطبرسي، فهو أنّ ما ذكره من أنّ ما رُوي من قيام ولد المهدي (ع) بعده، لم يرد على القطع واليقين، أمر صحيح؛ لأنّ الروايات الدالة على حكم الأولياء الصالحين متواترة، ولكنّنا سنرى أنّها صالحة للإثبات التاريخي، وهذا يكفينا في المقام.

وأمّا ما ذكر من أنّه ليست بعد دولة القائم دولة لأحد، فهو أمر صحيح؛ لأنّه إن أُريد بدولة القائم نظام حكمه، فهو نظام مستمر إلى نهاية البشرية تقريباً أو تحقيقاً على ما سنسمع، وليس وراءه حكم آخر. وإن أُريد به حكمه ما دام في الحياة، بحيث تنتهي البشرية بعده مباشرة، فهو أمر غير محتمل؛ لأنّه أمر تدل كثير من الروايات على نفيه: كروايات الرجعة وروايات الأولياء وروايات أنّ الساعة لا تقوم إلاّ على شرار الخلق، وغير ذلك، بل تدل على ذلك بعض آيات القرآن: كآية دابّة الأرض بعد العلم بعدم خروجها في زمن المهدي (ع) نفسه.

إذاً، فالبشرية، ستبقى بعد المهدي (ع) والنظام سوف يستمر، وإنّما يراد من ذلك القول: إنّه ليس بعد دولة القائم دولة لأحد من المنحرفين والكافرين على الشكل الذي كان قبل ظهوره.

٦٤٣

وأمّا قوله: وأكثر الروايات أنّه لن يمضي من الدنيا إلاّ قبل القيامة بأربعين يوماً... فهذه الروايات سنسمعها، ومؤدّاها أنّ الحجّة سيُرفع - أي يموت - قبل القيامة بأربعين يوم، وسنرى أنّه ليس المراد بالحجّة شخص الإمام المهدي بل شخص آخر، قد يوجد بعد زمان المهدي (ع) بدهرٍ طويل.

وبعد هذه المناقشات، وقبل إعطائهم الفهم الكامل لحكم الأولياء الصالحين، لابد لنا أن نجيب على هذا السؤال الذي يخطر في ذهن القارئ: وهو أنّنا كيف استطعنا أن نعتبر روايات كافية للإثبات التاريخي، على حين لم نعتبر روايات الرجعة كافية للإثبات، مع أنّها أكثر عدداً وأغزر مادةً وأوضح في أذهان العديدين.

وأمّا من زاوية كفاية روايات الأولياء للإثبات التاريخي، فهو واضح طبقاً لمنهجنا في هذا التاريخ أنّها متكاثرة ومتعاضدة، وذات مدلول متشابه إلى حدٍّ بعيد.

وأمّا من زاوية معارضتها لأخبار الرجعة، فهو واضح بعد فشل الوجهين اللذين ذكرهما المجلسي للجمع بين الأخبار، إذ يدور الأمر عندئذٍ بين أن يكون الحكم بعد المهدي (ع) موكولاً إلى المعصومين (ع) أو إلى الأولياء الصالحين.

ونحن حين نجد أنّ أخبار الرجعة غير قابلة للإثبات، كما عرفنا، ونجد أنّ أخبار الأولياء قابلة للإثبات. كما سمعنا، لا محيص لنا على الأخذ بمدلول أخبار الأولياء بطبيعة الحال.

وبالرغم من أنّ مجرّد ذلك كافٍ في السير البرهاني، إلاّ أنّنا نودّ أن نوضح ذلك بشكل أكثر تفصيلاً.

إنّ نقطة القوّة الرئيسية في أخبار الأولياء المفقودة في أخبار الرجعة، هي أنّ أخبار الأولياء ذات مضمون مشترك تتسالم عليه، بخلاف أخبار الرجعة، فإنّها ذات عشرة مداليل على الأقل، ليس لكل مدلول إلاّ عدد ضئيل من الأخبار قد لا يزيد أحياناً على خبرٍ واحد.

ومن هنا نقول لمَن يفضّل أخبار الرجعة: ها أنت تفضّل أخباراً منها ذات مدلول معيّن، كرجوع الإمام الحسين (ع) مثلاً، أو تفضّل تقديم مجموع أخبار الرجعة.

فإن رأيت تفضيل قسم معيّن من أخبار الرجعة، فهي لا شك أقل عدداً وأضعف سنداً من أخبار الأولياء، بل وأقل شهرةً أيضاً. وكل قسم معيّن منها يصدق عليه ذلك بكل تأكيد، غير ما دلّ على رجوع الإمام علي بن أبي طالب (ع)، الذي سوف نشير إليه.

٦٤٤

وإن رأيت تفضيل مجموع أخبار الرجعة على أخبار الأولياء، إذاً فستصبح أخبار الرجعة بهذا النظر متعارضة ومختلفة المدلول - كما عرفنا - غير ذلك المدلول العام الإجمالي الذي برهنا على انطباقه على خروج دابّة الأرض التي نطق بخروجها القرآن الكريم. وهو - بمنطوق الأخبار - يعني خروج علي أمير المؤمنين (ع)، وهو بعيد عن أي مفهوم تقيلدي للرجعة، بل هو ليس من الرجعة في شيء؛ فإنّ مفهوم دابّة الأرض غير مفهوم الرجعة عندهم.

وهذا المفهوم لا ينافي حكم الأولياء الصالحين، ولا يعارض الأخبار الدالة عليه؛ وذلك لعدّة أُمور، نشير إلى أمرين منها:

الأمر الأوّل: إنّ خروج دابّة الأرض غير محدّد بتاريخ، لا في القرآن الكريم ولا في السنّة الشريفة، ومعه فقد يحدث بعد حكم الأولياء الصالحين بمدة طويلة.

الأمر الثاني: إنّ دابّة الأرض سوف لن تأتي لتمارس الحكم الأعلى في الدولة العالمية العادلة، كما يُستشعر من القرآن وتصرّح به الأخبار، بل تأتي من أجل إعطاء الأفراد حسابهم الكامل فتعيّن منزلة كل فرد ودرجة تطبيقه للمنهج العادل المطلوب منه، ولعلّنا نوضح ذلك فيما بعد.

وإذا تمّ ذلك، لم يكن خروج الدابّة منافياً مع حكم الأولياء حتى لو خرجت في زمن حكمهم؛ لأنّ وظيفتهم في المجتمع غير وظيفتها.

وبعد ترجيح روايات حكم الأولياء الصالحين، ينبغي لنا أن نقدّم لها فهماً متكاملاً ملحقاً بالتسلسل الفكري الذي سرنا عليه في هذا الكتاب. ثم نعقبه بدرأ ومناقشة بعض الإشكالات التي قد تخطر في الذهن في هذا الصدد.

إنّ الإمام المهدي (ع) لن يهمل أمر الأُمّة الباقية بعده، لا لمجرّد أن لا تبقى رهن الانحلال والضياع، وإن كان هذا صحيحاً كل الصحّة، بل لأكثر من ذلك، وهو ما قلناه من أنّ إحدى الوظائف الرئيسة للمهدي (ع) بعد ظهوره هو: تأسيس القواعد العامّة المركّزة والبعيدة الأمد لتربية البشرية في الخط الطويل، تربية تدريجية لكي تصل إلى المجتمع المعصوم.

وهذه التربية لا يمكن أن يأخذ بزمام تطبيقها إلاّ الإنسان الصالح الكامل حين يصبح رئيساً للدولة العادلة، ومثل هذا الرجل لا يمكن معرفته لأحد غير الإمام المهدي نفسه، ولعلّه يوليه التربية الخاصّة التي تؤهّله لهذه المهمّة الجليلة. وأمّا احتمال تعيينه بالانتخاب فهو غير وارد على ما سنقول.

٦٤٥

ومن هنا سيقوم الإمام (ع) بتعيين ولي عهده أو خليفته، خلال حياته وربّما في العام الأخير، ليكون هو الرئيس الأعلى للدولة العالمية العادلة بعده، والحاكم الأوّل لفترة حكم ( الأولياء الصالحين ).

وبالرغم من أنّ هذا الحاكم قد يكون هو أفضل من الأحد عشر الآتين بعده؛ باعتبار أنّه نتيجة تربية الإمام المهدي (ع) شخصيّاً، والمعاصر لأقواله وأفعاله وأساليبه، بخلاف ما سيأتي بعده من الحاكمين، بالرغم من ذلك فإنّه سيفرق فرقاً كبيراً عن المهدي (ع ) نفسه، على حدٍّ يصدق ( أنّه لا خير في الحياة بعده ).

والسر في ذلك - على ما يبدو - يعود إلى أمرين رئيسيين:

الأمر الأوّل: ما سبق أن عرفناه من الفرق الشخصي والثقافي والنفسي بين الإمام المهدي (ع) وخليفته؛ الأمر الذي ينتج اختلافاً واضحاً في التصرّفات بينهما.

الأمر الثاني: راجع إلى الأُمّة نفسها أو البشرية كلها، بتعبيرٍ آخر من حيث أنّ المجتمع مهما كان قد سار بخطوات كبيرة نحو الأمام، في السعادة والعدالة والتكامل، إلاّ أنّه لم يصل إلى درجة العصمة بأي شكلٍ من أشكالها التي سنشير إليها، وبقيت هناك في أطراف العالم مجتمعات متخلّفة عن الركب العام؛ لوجود انخفاض مدني أو حضاري جديد سابق فيها، منعها أن تكون - مهما ارتفعت بجهود الإمام المهدي (ع) - مواكبة للاتجاه العالمي العادل العام.

إذاً فستكون التركة العالمية ثقيلة جدّاً، وتخلّفات عدد من الأفراد والمجتمعات عن تطبيق العدل، بعد ذهاب القائد الأعلى، محتملة جدّاً... وعدم استيعاب الكثيرين من وعيهم العقائدي لضرورة التجاوب الكلّي مع الرئيس الجديد، احتمال وارد تماماً، وخاصّة وأنّ الأمر الأوّل من هذين الأمرين سيعيشه العالم يومئذٍ بكل وضوح.

نعم، لا شك أنّ الإمام المهدي (ع) قبل وفاته قد أكّد وشدّد، بإعلانات عالمية متكرّرة على ضرورة إطاعة خليفتة، وعلى ترسيخ ( حكم الأولياء الصالحين ) في الأذهان ترسيخاً عميقاً، إلاّ أنّ البشرية حيث لا تكون بالغة درجة الكمال المطلوب؛ فإنّها ستكون مظنّة العصيان والتمرّد في أكثر من مجال.

ولكن وجود هذه المصاعب لا يعني الفشل بحال، بعد القواعد التربوية التي تلقّاها هذا الحاكم عن الإمام المهدي بكل تفصيل.

إنّ الدولة ستبقى مهيبة ومحبوبة للجماهير على العموم، وستبقى تمارس التربية المركّزة باستمرار، تماماً كما كانت عليه في

٦٤٦

عصر الإمام المهدي، أخذاً بالمنهج المهدوي العام.

وسيكون حكم الأولياء الصالحين، فترة تمهيدية أو انتقالية، يوصل المجتمع العالمي إلى عصر العصمة، حيث يكون الرأي العام المتّفق معصوماً، كما أشرنا في التاريخ السابق(١) وعندئذٍ سترتفع الحاجة إلى التعيين في الرئاسة العامّة، كما كان عليه الحال خلال حكم الأولياء الصالحين، وستوكل الرئاسة إلى الانتخاب أو الشورى، حين يكون الأفراد كلهم من:

( لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) (٢) .

وستوضع الشورى موضع التنفيذ طبقاً لقوانين تصدر يومئذٍ، لا يمكن التعرّف عليها الآن.

وببدء الشورى يكون عصر حكم الأولياء الصالحين المنصورين بالتعيين قد انتهى. ولكنّ الحكّام الجدد المنتخبين سيكونون أولياء صالحين أيضاً، إلاّ أنّ هناك فرقاً بين أُسلوب تربيته أساساً.

إنّ الحاكم الذي سيتم تنصيبه عن طريق التعيين، يكون بكل تأكيد نتيجة لتربية خاصّة مركّزة من قِبل سلفه، مقترنة بالتعليم الواضح المفصّل للقواعد الموروثة من قِبل الإمام المهدي (ع).

وأمّا الحاكم المنتخب، فهو لا يكون إلاّ في مجتمع يكون رأيه العام معصوماً، ومثل هذا المجتمع كما أنّ الأعم الأغلب من أفراده صالحين وعادلين، ولذا أصبح رأيه العام معصوماً؛ لأنّ الرأي العام من الصالحين لا يكون إلاّ صالحاً. يحتوي - إلى جنب ذلك - على عدد يقل أو يكثر وصلوا إلى درجة عليا من العدالة والالتزام الصالح، قد نسمّيها بالعصمة، أعني ما يُسمّى بلغة الفلاسفة المسلمين: بالعصمة غير الواجبة. وبتلك الصفة نفسها يكونون مؤهّلين لتولّي الرئاسة العامّة للدولة العالمية العادلة، ولن يكون بينهم وبين تولّيهم الفعلي إلاّ تجمّع الأصوات في صالح أحدهم.

بقيت بعض الأسئلة و المناقشات، تلقي أجوبتها أضواء كافية على هذا التسلسل الفكري، نعرضها على شكل سؤال وجواب.

____________________

(١) تاريخ الغيبة الكبرى ص٤٨٠.

(٢) ٤٢/٣٦ - ٣٨.

٦٤٧

السؤال الأوّل: ما هو عدد الأولياء الصالحين؟

هذا ما لابد في تعيينه الرجوع إلى الأخبار السابقة. قال الخبر الأوّل الذي نقلناه: ( إنّ منّا بعد القائم أحد عشر مهديّاً ).

وقال في خبرٍ آخر ( ثم يكون من بعده اثنا عشر مهديّاً ).

وموقفنا من هذا الاختلاف: أنّنا إمّا أن نعتبر كلا الخبرين، إذا نظرنا لكل واحد منهما مستقلاًّ، قابلاً للإثبات التاريخي.

وإمّا أن نعتبرهما معاً غير قابلين له، أو يكون أحدهما قابلاً دون الآخر.

فإن لم يكونا قابلين للإثبات، وهذا لا يعني سقوط أصل نظرية حكم الأولياء الصالحين؛ لاستفادتها من مجموع الأخبار... إذاً فيصعب الجواب على هذا السؤال، فقد يكون عددهم كثيراً وقد يكون قليلاً، تبعاً للمصلحة التي يراها المهدي نفسه حين يؤسّس هذا الحكم بعده، وميزاته - كما عرفنا - تصل البشرية إلى عهد الشورى حين يكون الرأي العام معصوماً، ولا يبقى العدد مهمّاً إلى درجة عالية.

نعم، قد ينبثق من التفكير الإمامي رجحان أن يكون الأولياء اثني عشر، كما كان الأئمّة المعصومون (ع) اثني عشر، غير أنّ هذا بمجرّده لا يكفي للإثبات كما هو واضح.

وإن كان كلا الخبرين قابلاً للإثبات دون الآخر، أخذ بمدلوله دون الآخر، ويمكننا بَدويّاً أن نقول: إنّ الخبر القائل بعدد الاثني عشر أصحّ وأثبت فيُؤخذ به، ويبقى الآخر غير قابل للإثبات.

وأمّا إذا كان كلا الخبرين قابلين للإثبات، فيمكن الجمع بينهما برفع اليد عن ظهور الخبر القائل بالأحد عشر وليّاً، عن ظهوره بالحصر والضبط، بقرينة الخبر الآخر القائل بالاثني عشر، تكون النتيجة هو الالتزام بالاثني عشر بطبيعة الحال.

وبذلك يظهر أنّ الرقم الاثني عشر راجح على كل التقادير، وإن كان يحتاج إلى دليل مثبت أحياناً، وسنفرضه فيما يلي أمراً مسلّماً لتسهيل الفكرة على أقل تقدير.

السؤال الثاني: كم مدّة حكم الأولياء الصالحين بالسنين؟

إذا كان عدد الأولياء الحاكمين اثني عشر، وهم يتولّون الرئاسة في عمر اعتيادي بطبيعة الحال، غير أنّ معدّل العمر الاعتيادي في دولة العدل الكامل في مجتمع السعادة والأُخوّة والرفاه، لن يكون هو الستين أو السبعين، بل هو مئة على أقل تقدير، ومن هنا

٦٤٨

يمكن أن يعيش الرئيس ثمانين عاماً منها، وهو على كرسي الرئاسة؛ فإذا كان معدّل بقاء الفرد منهم ستّين عاماً، كان مجموع مدّة حكم الأولياء الصالحين سبعمئة وعشرين عاماً.

وهي مدّة كافية جدّاً لتربية البشرية تربيةً مركّزة دائبة ودقيقة، وإيصالها إلى مجتمع العصمة.

السؤال الثالث: كيف يعرف المجتمع بدء صفة العصمة؟

ومعرفته بذلك يعني عدّة نتائج، أهمّها ما عرفناه من انتهاء حكم الأولياء الصالحين وبدء حكم الأولياء المنتخبين عن طريق الشورى.

لمعرفة المجتمع بذلك عدّة أُطروحات محتملة:

الأُطروحة الأُولى:

في غاية البساطة، وهي أنّ المجتمع عرف بوصيّة المهدي (ع) نفسه عدد الأولياء الصالحين الذين سيمارسون الحكم فيه، ككونهم اثني عشر فرداً - مثلاً - فإذا تمّ العدد؛ كان حكم هؤلاء الأولياء قد انتهى وبالملازمة يكون مجتمع العصمة قد بدأ، إذ من غير المحتمل أن تكون الدولة قد فشلت في مهامّها التربوية.

الأُطروحة الثانية: لو فرضنا عدد الأولياء كان مجهولاً، وهو أمر بعيد عن أي حال، فمن المحتمل أن تكون هناك وصيّة خاصّة بالأولياء أنفسهم موروثة من الإمام المهدي (ع) تقول: في عام كذا إذا مات الولي الحاكم يومئذ، فعليه ألاّ يوصي إلى شخصٍ بعده، بل ينتقل الأمر إلى الشورى. وقد يكون في ضمن الوصيّة تعليل ذلك بأنّ مجتمع العصمة قد بدأ.

الأُطروحة الثالثة: أن تكون هناك وصيّة خاصّة بالأولياء موروثة عن الإمام المهدي (ع) تحدّد انتهاء حكمهم بحوادث وصفات اجتماعية معيّنة، تعود إمّا إلى وقائع تاريخية، أو إلى تحديد في المستوى العقلي والثقافي للبشرية، الذي سيكون عليه في المستقبل، أو إلى غير ذلك.

وهذه الأُطروحة صادقة أيضاً فيما إذا لم يكن عدد الأولياء الصالحين معيّناً سلفاً.

السؤال الرابع: إنّ هؤلاء الأولياء الصالحين، هل هم متفرّقون من حيث النسب، أو أنّهم متسلسلون في النسب ينتهون إلى الإمام المهدي (ع) نفسه، أو أنّهم على شكلٍ آخر؟

وينبغي أن نفهم سلفاً أنّه لا أهميّة كبيرة في الجواب على هذا السؤال؛ إذ الأهم في الموضوع هو صفاتهم الذاتية وأعمالهم العادلة، دون قضيّة النسب.

٦٤٩

نعم، أجابت بعض الأخبار على ذلك، قال أحدها: ( إنّ منّا بعد القائم أحد عشر مهديّاً ). والمفهوم من قوله من أنّهم من نسل أهل البيت (ع) إجمالاً. وقال الخبر الآخر: ( فليسلّمها إلى ابنه أوّل المهديين ) وهو دال على أنّ الولي الأوّل ابن المهدي نفسه، ولم يذكر الأولياء الذين بعده.

ويقول أحد الأدعية التي سمعناها: ( وولاة عهدك والأئمّة من ولدك ).

فلو اعتبرنا كل هذه الأخبار قابلة للإثبات مستقلّة، لفهمنا أنّ هؤلاء الأولياء الصالحين هم من نسل أهل البيت (ع) ولا يراد بأهل البيت في لغة الأخبار إلاّ الأئمّة المعصومين (ع). وحيث لا يحتمل أن يكونوا من نسل إمام آخر غير المهدي (ع) باعتبار بُعد المسافة الزمنية، إذاً فهم من أولاد الإمام المهدي نفسه. وهذا افتراض واضح تعضده بعض هذه الأخبار، ولا تنفيه الأخبار الأُخرى.

يبقى لدينا: هل أنّهم متسلسلون في النسب أحدهم ابن الآخر، أو أنّهم متفرّقون من هذه الجهة، وإن انتسبوا إلى المهدي في النهاية.

وفي هذا الصدد لا تسعفنا الأخبار بشيء، لكن هناك فكرة عامّة صالحة للقرينية على التسلسل النسبي. وهي ما نسمّيه بتسلسل الولاية. فإنّ كل ولي في ذلك العهد المرحلي، السابق على صفة العصمة، يحتاج إلى إعداد خاص وتربية معيّنة، قبل أن يتولّى الحكم.

ومن الصحيح أنّ المجتمع ككل، وخاصّة إذا كان صالحاً وعادلاً، يمكنه أن يربّي الحاكم أفضل تربية، إلاّ أنّ هناك عدداً من الحقائق والأساليب والقوانين الاجتماعية وغيرها، تكون خاصّة بالحاكم عادةً ولا يعرفها غيره على الإطلاق، وهي موروثة وراثة خاصّة عن الإمام المهدي (ع)، وهي تحتاج في ترسيخها وكشفها إلى الحاكم الجديد، إلى مدّةٍ وجهود من قِبل الحاكم السابق، الأمر الذي لا يتوفّر عادةً بين الوالد وولده، ومن الصعب جدّاً توفّره بين أبناء الأعمام مثلاً.

ومعه، فمن المظنون جدّاً أن يكون تسلسلهم النسبي محفوظاً، من أجل الحفاظ على تسلسل الولاية الضروري لتربية كل حاكم.

السؤال الخامس: هل المنطلق إلى فكرة ( حكم الأولياء الصالحين ) بعد الإمام المهدي هو الفهم الإمامي للمهدي، أو ينسجم مع الفهم الآخر.

كلاّ. إنّ حكم الأولياء الصالحين الذي طرحناه، ينسجم تماماً مع الفهم الآخر

٦٥٠

الذي يقول: إنّ المهدي رجل يولد في حينه فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، ولا ربط له مباشر بغيبة المهدي قبل ظهوره ولا بكونه الإمام الثاني عشر من الأئمّة المعصومين كما هو واضح.

غير أنّ فكرة حكم الأولياء الصالحين، يبقى مفتقراً للدليل من أخبار العامّة أنفسهم. ولم نجد في حدود تتبّعنا أيّ إشارةٍ في تلك المصادر إلى دولة ما بعد المهدي (ع)، مهما كانت صفتها، ويبقى مفكرو العامّة بعد ذلك مخيّرين بالالتزام بهذه الأُطروحة.

السؤال السادس: ماذا - بعد ذلك - عن احتمال العصيان والتمرّد خلال حكم الأولياء الصالحين.

لا شك أنّ هذا الاحتمال يتضاءل تدريجياً، بالتربية المركّزة التي تمارسها الدولة باتجاه العدالة والكمال. حتى ما إذا وصل المجتمع إلى درجة العصمة، ولو بأوّل أشكالها، ارتفع احتمال التمرّد والعصيان ارتفاعاً قطعيّاً؛ لبرهان بسيط هو: منافاة العصمة مع العصيان، ولا أقل من أن تكون الأكثرية الساحقة للبشرية كذلك، بحيث من الصعب أن يفكّر أحد في حركة تمرّد أو بثّ دعاية باطلة.

وإنّما يقع التساؤل عن الفترات الأُولى لحكم الأولياء الصالحين، عدّة ضمانات ضد مثل هذا الاحتمال، يمكننا أن نتعرّف على بعضها، بحسب مستوانا الذهني المعاصر:

الضمان الأوّل: السعادة والرفاه والأُخوة والتناصف بين الناس، هذا الذي أسّسه ونشره الإمام المهدي نفسه، الأمر الذي يجعل الفرد، ومن ثمّ الجماعات تميل تلقائياً إلى حب هذا النظام واحترامه والتعاطف معه، ممّا يحدو بالأعمّ الأغلب جدّاً من الناس بعدم التفكير بأي عصيان واضح، بل يحدو الكثيرين إلى الوقوف تلقائياً تجاه أي تمرّد أو عصيان يفهمون به، وفضحه ولوم صاحبه لوماً شديداً.

الضمان الثاني: القواعد والأُسس الخاصّة التي علّمها المهدي (ع) نفسه لخلفائه، ممّا يمتّ إلى طبيعة المجتمع وحركة التاريخ، وأفضل الطُرق في التصرّف به ودفع شروره، وجلب مصالحه. الأمر الذي كان هو (ع)، أكثر الناس علماً به واطلاعاً على تفاصيله.

ومن أجل فوائد علمه بذلك، تزريقه إلى خلفائه الصالحين، ليستطيعوا أن يبنوا دولتهم الحديثة، ويدفعوا عنها الشرور بأيسر طريق.

٦٥١

الضمان الثالث: عالمية الدولة العادلة: فإنّ لهذا العنصر جهتين من الضمان:

الجهة الأُولى: الهيبة التي تكسبها الدولة العالمية في نفوس الناس وعقولهم، بصفتها تمارس حكماً مركزيّاً مهمّاً لم تمارسه أي دولة أُخرى في التاريخ.

الجهة الثانية: سيطرتها على كل مصادر ومصانع الأسلحة في العالم لا يستثنى من ذلك شيء، ولها الطُرق المعقّدة للحد من التهريب والختل والخداع ونحو ذلك.

فهذه الضمانات وغيرها، تنتج في هذا الصدد، نتيجتين مهمّتين:

النتيجة الأُولى: أنّها تقف ضد احتمال كثرة التمرّد والعصيان، بشكل يعيق عن تطبيق المنهج التربوي العام، إذ مع وجودها سيقل مَن يفكّر من البشر بالحركات العصيانية.

النتيجة الثانية: أنّها تقف ضد ما قد يحدث من حوادث التمرّد والعصيان من القلائل الذين قد يفكّرون بذلك، وعن طريق هذه الضمانات التي تملكها الدولة، ستستطيع أن تقضي على كل حركة.

السؤال السابع: هل لدابّة الأرض خلال هذا العهد، وظيفة معيّنة؟

لمّا كانت الوظيفة الرئيسة لدابّة الأرض، كما يُستفاد من الأخبار، هي تمييز الكافر من المؤمن، والمنحرف من الملتزم، وإعطاء القيمة الأخلاقية لكل منهم علانية، فهذا لا يمكن أن ينجز في عهد ما بعد الظهور، المتطوّر نحو المجتمع المعصوم الخالي من الكفّار والمنحرفين... فهو لا يمكن أن يُنجز إلاّ في إحدى فترتين:

الفترة الأُولى: فترة ما بعد المهدي (ع) مباشرةً، حيث تعيش الدولة العالمية العادلة أحرج عهودها وأدق فتراتها، بعد فقد قائدها العظيم.

فإنّه من الصحيح - كما عرفنا - أنّ الإمام المهدي (ع) قام باستئصال المنحرفين من الكرة الأرضية، إلاّ أنّ هناك جزءاً من البشر، مهما كان قليلاً، قد سلّم لدولة المهدي خوفاً أو طمعاً، لا عن إخلاصٍ حقيقي، فمن المحتمل جدّاً أن تتحرّك الأطماع بعد القائد الأعظم إلى السيطرة على الدولة، أو على بعض أجزائها على الأقل.

والضمانات السابقة وإن كانت صالحة للوقوف ضد أي احتمال، غير أنّه من المحتمل أن تخرج دابّة الأرض، لتأخذ بعضد الدولة العالمية العادلة، باتجاه النصر والسيطرة على كل تمرّد وعصيان.

٦٥٢

الفترة الثانية: الفترة السابقة على يوم القيامة مباشرة، وهي فترة سنبحث عن صحّة وجودها في الفصل القادم. غير أنّه - على تقدير صحّتها - سيتصف المجتمع العالمي خلالها بالكفر والانحراف، بعد أن يكون قد تنازل عن آخر صفات العصمة والعدالة. فمن المحتمل أنّ دابّة الأرض تخرج لتضمن بقاء المؤمنين على إيمانهم، ومدى خسارة الكافرين والمنحرفين، حين تنازلوا بسوء تصرّفاتهم عن العصمة والعدالة، وتقف في وجه الذين يكفرون بقتل المؤمنين، أو الإطاحة بكيانهم بشكلٍ وآخر.

وعلى أي حال، فحيث نعلم من القرآن الكريم، بضرورة خروج دابّة الأرض، وعدم خروجها خلال المجتمع المعصوم؛ لعدم انسجام وظيفتها معه، كما أنّه ليس هناك احتمال حقيقي لخروجها قبل الظهور... إذاً يتعيّن وجودها في إحدى الفترتين المشار إليهما. وأمّا إذا عرفنا في الفصل الآتي عدم وجود الدليل على انحراف المجتمع بعد اتصافه بالعصمة، إذاً ينحصر خروج دابّة الأرض بعد وفاة المهدي (ع) مباشرة، لتقوم بوظيفتها الكاملة.

وبذلك يكون سيف الإمام علي بن أبي طالب قد وطّد الإسلام في ( آخر الزمان ) كما وطّده في عصر الرسالة وصدر الإسلام (سلام الله عليه).

وبهذه الأسئلة وضعنا الرتوش الكافية على فترة حكم الأولياء الصالحين وما بعدها، ولا ينبغي لنا أن نزيد على ذلك، وإنّما نحيل القارئ إلى الكتاب الرابع الآتي من هذه الموسوعة.

٦٥٣

٦٥٤

الباب الثاني

قيام الساعة على شِرار الخَلْق

وهو بابٌ في فصلٍ واحد

٦٥٥

٦٥٦

وينبغي أن يتمّ الحديث في هذا الفصل ضمن عدّة جهات:

الجهة الأُولى: في سرد أهم الأخبار الدالة على ذلك، وهي واردة في مصادر الفريقين.

أخرج مسلم في صحيحه(١) عن عبد الله بن عمر، عن رسول الله (ص) - في حديث تحدّث فيه عن الدجّال والمسيح عيسى بن مريم (ع)، ثم تحدّث فيه عن عصر ما بعد المسيح، فقال فيما قال -:

( فيبقى شرار الناس في خفّة الطير وأحلام الساعة، لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، فيتمثّل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون؟ فيقولون: فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان، وهم في ذلك دارٌّ رزقهم حسنٌ عيشهم، ثم ينفخ في الصور ).

وأخرج أبو داود(٢) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (ص):

لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمن مَن عليها، فذاك حين( لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً ) (٣) .

وأخرج الحاكم في المستدرك(٤) عن أبي أُمامة، قال: سمعت رسول الله (ص) يقول:

____________________

(١) ج٨ ص٢٠١.

(٢) ج٢ ص٤٣٠.

(٣) ٦ / ١٥٨.

(٤) ج٤ ص٤٤٠.

٦٥٧

( لا يزداد الأمر إلاّ شدّة، ولا المال إلاّ إفاضة، ولا تقوم الساعة إلاّ على شرارٍ من خلقه ).

وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وأخرج أيضاً(١) عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله (ص):

( لا يزداد الأمر إلاّ شدّة، ولا الدين إلاّ إدباراً، ولا الناس إلاّ شحّاً، ولا تقوم الساعة إلاّ على شرار الناس، ولا مهدي إلاّ عيسى بن مريم ).

وأخرج الشيخ في الغيبة(٢) عن عبد الله بن جعفر الحميري، قال:

اجتمعت أنا والشيخ أبو عمرو(٣) عند أحمد بن اسحاق بن سعيد الأشعري القمّي، فغمزني أحمد أن أسأله عن الخَلَف - يعني الحجّة المهدي (ع).

فقلت له: يا أبا عمرو إنّي أريد ( أن ) أسألك وما أنا بشاكٍّ فيما أريد أريد أن أسألك عنه، فإنّ اعتقادي وديني: أنّ الأرض لا تخلو من حجّة إلاّ إذا كان قبل يوم القيامة بأربعين يوماً، فإذا كان ذلك وقعت ( رفعت ) الحجّة، وغلق باب التوبة. فلم يكن( يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً... ) (٤) فأولئك الأشرار من خلق الله عزّ وجلّ. وهم الذين تقوم عليهم القيامة... الحديث.

وأخرج السيد البحراني في معالم الزلفى(٥) عن بستان الواعظين، قال حذيفة: كان الناس يسألون رسول الله (ص) عن الخير وكنت أسأله عن الشر فقال النبي (ص):

( يكون في آخر الزمان فتن كقطع الليل المظلم، فإذا غضب الله تعالى على أهل الأرض أمر الله سبحانه وتعالى إسرافيل أن ينفخ نفخة الصعق، فينفخ على حين غفلة من الناس... ) الحديث.

فهذه كل الروايات التي وجدناها دالة على هذا المضمون.

الجهة الثانية: في نقد هذه الأخبار:

____________________

(١) ج٤ ص٤٤٠ ويرويه في الصواعق (٩٨) عن ابن ماجة.

(٢) ص ٢١٨.

(٣) هو الشيخ عثمان بن سعيد، النائب الأوّل للمهدي (ع) خلال غيبته الصغرى.

(٤) ٦ / ١٥٨.

(٥) ص ١٣٦.

٦٥٨

إنّ أكثر هذه الأخبار يمكن إسقاطها عن الاستدلال تماماً؛ لأنّ كل خبر يواجه بحياله بعض المناقشات، فلا يبقى منها إلاّ القليل.

أمّا الخبر الذي أخرجه مسلم في صحيحه، فهو يصف أوّلاً فسق الناس وإطاعتهم للشيطان، وتحوّلهم إلى عابدي أوثان. وهذا كُلّه - بمعنىً وآخر - ممّا يقع قبل الظهور.

ويقول بعدها: ثم يُنفخ في الصور. والنفخ فيه كناية عن نهاية البشرية، إلاّ أنّ وجود هذه النهاية في ذلك الجوّ الفاسق ممّا لا يدل عليه الخبر؛ لأنّ حرف العطف ( ثم ) دليل على التراخي والانفصال كما نصّ النحاة واللغويون، فإن لم يكن الخبر دليلاً على بقاء البشرية بعد ذلك المجتمع الفاسق، فلا أقل من كونه ليس دليلاً على انتهائه به.

وأمّا خبر أبي داود، فهو غير دال بالمرّة على المضمون المشار إليه، فهو دال على أنّ الناس يؤمنون كلهم حين تطلع الشمس من مغربها. ولا يقول شيئاً غير ذلك، وقد قلنا في التاريخ السابق(١) إنّ المراد من الشمس التي تطلع من مغربها: المهدي، حيث يطلع بعد غيبته، ولا تُقبل عندئذٍ من الفاسق توبة.

وكذلك الخبر الثاني الذي نقلناه عن الحاكم، فإنّ فيه قوله: ولا مهدي إلاّ عيسى بن مريم، وقد نقده ورفضه أهل الحديث العامّة والخاصّة، كما سبق، ولا حاجة إلى تكراره، مضافاً إلى إشكالات أُخرى مشتركة ستأتي.

وكذلك الخبر الذي نقلناه عن معالم الزلفى، فإنّه خبر مرسَل وضعيف، ويحتوي من خلاله على مضامين مدسوسة وغير صحيحة، كما يبدو لمَن راجعه في مصدره.

لا يبقى عندنا - بعد هذا - إلاّ خبران، أحدهما: الخبر الأوّل الذي نقلناه عن الحاكم، والخبر الذي أخرجه الشيخ في الغيبة.

على أنّ خبر الشيخ أيضاً لا يخلو من مناقشة، فإنّه ليس رواية عن معصوم، وإنّما يعبِّر فيه عبد الله بن جعفر الحميري عن اعتقاده، وليس بالضرورة أنّ كل ما يعتقده له الإثبات التاريخي الكافي، وإن كان هو شخصيّاً من العلماء الصالحين، كما ثبت في تاريخه.

وعلى أي حال، فالخبران يواجهان إشكالاً مشتركاً، هو أنّ مثل هذه القضيّة وهي: أنّ الساعة لا تقوم إلاّ على شرار الناس، من الأُمور الاعتقادية في الدين، ومن الواضح عند العلماء أنّ الأُمور الاعتقادية لا تثبت بخبر الواحد وإن كان صحيحاً سنداً وواضحاً

____________________

(١) تاريخ الغيبة الكبرى ص ٥٩٦.

٦٥٩

مضموناً، وإنّما تثبت فقط بالخبر المتواتر القطعي، مع العلم أنّ مجموع هذه الأخبار غير متواترة، فضلاً عمّا بقي بعد النقد منها.

هذا مضافاً إلى إشكال مشترك آخر على أكثر من خبر واحد. كالخبر الذي يقول: ( لا يزاد الأمر إلاّ شدّة، ولا الدين إلاّ إدباراً ولا الناس إلاّ شُحّاً... ) فإنّ قارئ هذه الموسوعة، وخاصّة التاريخ السابق، يعلم أنّ هذه هي صفة المجتمع قبل الظهور.

وسيرتفع كل ذلك بالظهور، مع أنّ ظهور الخبرين هو أنّ ذلك باقٍ إلى يوم القيامة. وهو أمر تنفيه كل الدلائل السابقة التي عرفناها.

أضف إلى ذلك معارضة هذه الأخبار، بما دلّ على بقاء دولة العدل إلى يوم القيامة؛ لأنّ الانحراف القوي يستدعي لا محالة، انتقال الحكم إلى المنحرفين مع أنّ الأخبار تنصّ على بقاء الدولة مع المؤمنين العادلين.

أخرج الصدوق(١) في إكمال الدين بإسناده عن عبد السلام بن صالح الهروي، عن الإمام الرضا (ع)، عن آبائه، عن النبي (ص) - في حديثٍ طويل - قال (ص):

( فنُوديت: يا محمد، أنت عبدي وأنا ربّك - ويستمر الحديث إلى ذكر آخر الأئمّة الاثني عشر، المهدي (ع) فيقول: - حتى يعلن دعوتي ويجمع الخلق على توحيدي، ثم لأديمنّ مُلْكه ولأداولنّ الأيام بين أوليائي إلى يوم القيامة ).

وأخرج النعماني في الغيبة(٢) بسنده عن يونس بن رباط، قال: سمعت أبن عبد الله (ع) يقول:

( إنّ أهل الحق لم يزالوا منذ كانوا في شدّة، أما أنّ ذلك إلى مدّة قريبة وعاقبة طويلة ).

وأخرج الشيخ في الغيبة(٣) بإسناده عن أبي صادق، عن أبي جعفر (ع) قال:

( دولتنا آخر الدول، ولم يبق بيت لهم دولة إلاّ ملكوا قبلنا؛ لئلاّ

____________________

(١) نسخة مخطوطة.

(٢) ص١٥٢.

(٣) ص٢٨٢.

٦٦٠

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679