موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)8%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 679

الجزء ١ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 212474 / تحميل: 11106
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

ثُمّ إنّ القرآن في الأصل مصدر نحو رجحان ، قال سبحانه :( إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ ) .(١)

قال ابن عبّاس : إذا جمعناه وأثبتناه في صدرك فاعمل به

وقد خُصّ بالكتاب المُنزَّل على نبيِّنا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فصار له كالعَلَم ، كما أنّ التوراة لمّا أُنزل على موسىعليه‌السلام ، والإنجيل لمّا أُنزل على عيسىعليه‌السلام

قال بعض العلماء : تسمية هذا الكتاب قُرآناً من بين كتب اللّه ، لكونه جامعاً لثَمرَة كُتبِه ، بل لجمعه ثَمرَة جميع العلوم ، كما أشار تعالى إليه بقوله :( وَتَفصيلاً لكلِّ شيء ) .(٢)

وعلى هذا ، فالقرآن مِن قَرَأَ بمعنى : جمع ، ولكن يُحتمل أن يكون بمعنى القراءة ، كما في قوله سبحانه : ( وَقُرآنَ الفَجْر ) (٣) ، أي : قراءته

الحلف بالكتاب :

حلف سبحانه بالكتاب مرَّتين وقال :

١ ـ( حم * والكتابِ المُبِين * إِنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرين ) (٤)

٢ ـ( حم * وَالكتابِ المُبِين * إِنّا جَعَلْناهُ قُرآناً عَرَبياً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون ) (٥)

ــــــــــــــــ

(١) القيامة : ١٧ـ ١٨

(٢) الأنعام : ١٥٤

(٣) الإسراء : ٧٨

(٤) الدخان : ١ـ٣

(٥) الزخرف : ١ـ٣

٦١

فالمُقسَم به هو الكتاب ، والمُقسَم عليه في الآية الأولى قوله :( إِنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَة مُباركة ) ، والصِلة بينهما واضحة ، حيث يحلف بالكتاب على أنّه مُنزَّل من جانبه سبحانه في ليلة مباركة

كما أنّ المُقسَم به في الآية الثانية هو الكتاب المبين ، والمُقسَم عليه هو الحلف على أنّه سبحانه جعله قرآناً عربيّاً للتعقّل ، والصِلة بينهما واضحة

ووُصف الكتاب بالمُبين دون غيره ؛ لاَنّ الغاية من نزول الكتاب هو إنذارهم وتعقّلهم ، كما جاء في الآيتين ، حيث قال :( إِنّا كُنّا مُنذرين ) ، وقال :( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون ) ، وهذا النوع من الغاية ، أي : الإنذار والتعقّل ، يطلب لنفسه أن يكون الكتاب واضحاً مفهوماً ، لا مجهولاً ومعقداً

والكتاب في الأصل مصدر ، ثُمّ سُمّي المكتوب فيه كتاباً

إلى هنا تمّ الحلف بالقرآن والكتاب

بقي هنا الكلام في عظمة المُقسَم به

ويكفي في ذلك أنّه فعله سبحانه ، حيث أنزله لهداية الناس وإنقاذهم من الضلالة

وقد تكلّم غير واحد من المُفكّرين الغربيّين حول عظمة القرآن ، والأحرى بنا أن نرجع إلى نفس القرآن ونَستنطِقه حتى يُبدي رأيه في حقِّ نفسه

أ ـ القرآن نور ينير الطريق لطلاّب السعادة ، قال سبحانه :( قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِين ) (١)

ب ـ إنّه هدى للمُتَّقين ، قال سبحانه : ( هُدىً لِلْمُتَّقين ) (٢) فهو وإن كان هدى لعامّة الناس ، إلاّ أنّه لا يستفيد منه إلاّ المُتَّقون ؛ ولذلك خصَّهم بالذِكر

ــــــــــــــــ

(١) المائدة : ١٥

(٢) البقرة : ٢

٦٢

ج ـ هو الهادي إلى الشريعة الأقوَم ، قال سبحانه :( إِنَّ هذا القُرآنَ يَهدِي لِلَّتي هِي أَقْوم ) (١)

د ـ الغاية من إنزاله قيام الناس بالقِسط ، قال سبحانه :( وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ ) .(٢)

هـ ـ لا يتطرَّق إليه الاختلاف في فصاحته وبلاغته ، ولا في مضامينه ولا محتواه ، قال سبحانه :( وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيرِ اللّهِ لوَجَدُوا فِيهِ اختلافاً كَثِيراً ) (٣)

و ـ يحثّ الناس إلى التدبُّر والتفكّر فيه :( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُباركٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ ) (٤)

ز ـ تبيان لكلّ شيء :( وَنَزلْنا عَليْكَ الكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيء ) (٥)

ح ـ نذير للعالمين :( تَبارَكَ الَّذي نَزَّل الفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً ) (٦)

ط ـ فيه أحسن القَصص :( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَص ) (٧)

ــــــــــــــــ

(١) الإسراء : ٩

(٢) الحديد : ٢٥

(٣) النساء : ٨٢

(٤) ص : ٢٩

(٥) النحل : ٨٩

(٦) الفرقان : ١

(٧) يوسف : ٣

٦٣

ي ـ ضُرب فيه للناس من كلِّ مَثل :( وَلَقَدْ صَرَّفْنا في هذا الْقُرآنِ لِلنّاسِ من كُلِّ مَثَل ) (١)

هذه نماذج من الآيات الّتي تصف القرآن ببعض الأوصاف

وللنبي والأئمّة المعصومين كلمات قيِّمة حول التعريف بالقرآن ، ننقل شذرات منها :

قام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطيباً ، فقال :( أيّها الناس ، إنّكم في دار هُدنة ، وأنتم على ظَهرِ سفر ، والسير بكم سريع ، وقد رأيتم الليل والنهار والشمس والقمر يُبليان كلّ جديد ، ويُقرّبان كلّ بعيد ، ويأتيان بكلّ موعود ، فأعدّوا الجهاز لبُعد المُجاز )

فقام المُقداد بن الأسود وقال : يا رسول اللّه ، و ما دار الهُدنة ؟

قال : ( دار بلاغٍ وانقطاعٍ .

فإذا التبست عليكم الفِتن كقطع اللّيل المُظلِم ، فعليكم بالقرآن ، فإنّه شافِع مُشفَّع وماحِل مُصدَّق ، ومَن جعله أَمامَه قادَه إلى الجنّة ، ومَن جعله خلفه ساقه إلى النار

وهو الدليل ، يدلُّ على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل ، وهو الفَصل ليس بالهَزل ، وله ظَهْر وبَطْن ، فظاهره حكم وباطنه عِلم ، ظاهره أنيق وباطنه عَميق ، له نجوم وعلى نجومه نجوم ، لا تُحصى عجائبه ولا تبلَى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ، ودليل على المعرفة لمَن عرف الصِفة

فليَجل جال بَصَره ، وليبلغ الصِفة نظره ، ينج مَن عطب ، ويتخلَّص مَن نشب ، فإنّ التَفكُّر حياة قلبِ البصير ، كما يمشي المُستنير في الظلمات بالنور ، فعليكم بحُسنِ التخلّص وقلَّة التربّص ) (٢)

ــــــــــــــــ

(١) الكهف : ٥٤

(٢) الكافي : ٢/٥٩٩ ، كتاب فضل القرآن

٦٤

وقال الإمام علي أمير المؤمنينعليه‌السلام في وصف القرآن :

( ثُمّ أنزلَ عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه ، وسراجاً لا يخبُو توقُّده ،وبحراً لا يُدرك قعرُه ، فهو ينابيع العلم وبحوره ، وبحر لا يَنزِفه المُستنزفون ، وعيون لا يُنضِبُها الماتِحُون ، ومناهل لا يَغيضُها الواردون ) (١)

إلى غير ذلك من الخُطب والكلم حول التعريف بالقرآن ، الواردة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام

ــــــــــــــــ

(١) نهج البلاغة : الخطبة ١٩٨

٦٥

الفصل الخامس : القَسَمُ بالعَصْر

حلف سبحانه بالعصر مرّةً واحدة ، دون أن يقرنه بمُقسَمٍ به آخر ، وقال :( وَالعَصْر * إِنّ الإنْسانَ لَفي خُسْر ) (١)

تفسير الآيات :

العَصْر يُطلق ويراد منه تارة : الدَهر ، وجَمْعه عصور

وأُخرى : العَشيّ مقابل الغداة ، يُقال : العصران : الغداة والعشي ، والعصران : الليل والنهار ، كالقمرين للشمس و القمر

وثالثة : بمعنى الضَغْط ، فيكون مصدر عَصَرْتُ ، والمَعصور الشيء العصر ، والعُصارة نفاية ما يُعصَر ، قال سبحانه :( أَراني أَعْصِرُ خَمراً ) (٢) ، وقال :( وفيهِ يَعْصِرُون ) (٣) ، وقال :( وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجّاجاً ) (٤) أي : السُّحُب الّتي تعتصرُ بالمَطَر

ورابعة : بمعنى ما يُثير الغبار ، قال سبحانه :( فَأَصابَها إعصار ) (٥) .(٦)

والمُراد من الآية أحد المَعنيين الأوّليين :

الأوّل : الدَهر والزمان

الثاني : العَصْر مقابل الغداة

ولا يناسب المعنى الثالث ، أعني : الضغط ، ولا الرابع ، كما هو واضح

ــــــــــــــــ

(١) العصر : ١ـ٢

(٢) يوسف : ٣٦

(٣) يوسف : ٤٩

(٤) النبأ : ١٤

(٥) البقرة : ٢٦٦

(٦) مفردات القرآن : مادّة عصر ، و مجمَع البيان : ٥/٥٣٥

٦٦

وإليك بيان المَعنَيين الأوّلين

١ ـ العَصْر : الدَهْر . وإنّما حلف به ؛ لأنّ فيه عبرة لذوي الأبصار من جهة مرور الليل والنهار

وقد نُسب ذلك القول إلى ابن عبّاس ، والكلبي ، والجبائي

قال الزَمخشري : وأقسَمَ بالزمان ؛ لما في مروره من أصناف العجائب(١)

ولعلّ المُراد من الدهر والزمان اللّذين يُفسِّرون بهما العصر هو تاريخ البشريّة ؛ وذلك لأنّه سبحانه جعل المُقسَم عليه كون الإنسان لفي خسر إلاّ طائفة خاصّة ، ومن المعلوم أنّ خسران الإنسان أنّه هو مِن تصرّم عُمْره ، ومضي حياته من دون أن ينتفع بأغلى رأس مالٍ وقع في يده

وقد نقل الرازي هنا حكاية طريفة ، نأتي بنصِّها :

قال : وعن بعضِ السَلَف ، تعلّمتُ معنى السورة من بائع الثلج ، كان يصيح ويقول : ارحموا مَن يذوب رأس ماله ، ارحموا مَن يذوب رأس ماله ، فقلت : هذا معنى أنّ الإنسان لفي خُسْر ؛ يمرّ به العصر فيمضي عمره ولا يكتسب ، فإذا هو خاسر(٢)

٢ ـ العصر : أحدُ طَرفَي النهار . وأقسم بالعَصر كما أَقسم بالضُحى ، وقال :( والضحى * واللَّيل إذا سَجى ) (٣) ، كما أقسم بالصبح وقال :( والصُّبح إِذا أَسفَر ) (١)

وإنّما أقسَمَ بالعَصرِ لأهمّيّته ، إذ هو في وقت من النهار يحدث فيه تغيير في نظام المَعيشة وحياة البشر ، فالأعمال اليوميّة تنتهي ، والطيور تعود إلى أوكارها ، وتبدأ الشمس بالميل نحو الغروب ، ويستولي الظلام على السماء ، ويخلد الإنسان إلى الراحة

ــــــــــــــــ

(١) الكشّاف : ٣/٣٥٧

(٢) تفسير الفخر الرازي : ٣٢/٨٥

(٣) الضحى : ١ـ٢

٦٧

وهناك قولان آخران :

أ ـ المرادُ عَصْر الرسول ذلك لما تضمَّنته الآيتان التاليتان من شمول الخسران للعالم الإنساني ، إلاّ لمَن اتَّبع الحقّ وصبر عليه ، وهم المؤمنون الصالحون عملاً ، وهذا يؤكّد على أن يكون المراد من العصر عصر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو عصر بزوغ نجم الإسلام في المجتمع البشري ، وظهور الحقّ على الباطل

ب ـ المراد به وقت العصر وهو المروي عن مقاتل ، وإنّما أقسَمَ بها ، لفضلها ، بدليل قوله :( حافِظُوا عَلى الصَّلواتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطى ) (٢) ، كما قيل أنّ المراد من قوله تعالى :( تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ ) (٣) هو صلاة العصر

أضف إلى ذلك ، أنّ صلاة العصر يحصل بها ختم طاعات النهار ، فهي كالتوبةِ تُختَم بها الأعمال.

ولا يخفى أنّ القول الأخير في غاية الضعف ؛ إذ لا صِلة بين القَسَم بصلاة العصر والمُقسَم عليه ، أعني :( الإنْسان لفي خُسر ) ، على أنّه لو كان المُقسَم به هو صلاة العصر ، لماذا اكتفى بالمضاف إليه وحذف المضاف ، مع عدم توفُّر قرينة عليه ؟! ومنه يظهر حال الوجه المُتقدّم عليه

والظاهر أنّ الوجه الأوّل هو الأقوى ؛ حيث أنّ الحلف بالزمان وتاريخ البشرية يتناسب مع الجواب ، أي : خسران الإنسان في الحياة ، كما سيوافيك بيانه

ــــــــــــــــ

(١) المُدّثّر : ٣٤

(٢) البقرة : ٢٣٨

(٣) المائدة : ١٠٦

٦٨

وأمّا المُقسَم عليه ، فهو قوله سبحانه :( إِنَّ الإنسانَ لَفي خُسْر ) ، والمراد من الخسران هو : مضيّ أثمَن شيء لديه وهو عمره ، فالإنسانُ في كلّ لحظة يفقد رأس ماله ، بنحوٍ لا يُعوَّض بشيء أبداً ، وهذه هي سُنَّة الحياة الدنيويّة ، حيث ينصرم عمره ووجوده بالتدريج ، كما تنصرم طاقاته إلى أن يهرم ويموت ، فأيُّ خسران أعظم من ذلك ؟!

وأمّا الصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه فأوضح من أن يخفى ؛ لاَنّ حقيقة الزمان حقيقة مُتصرّمة غير قارة ، فهي تنقضي شيئاً فشيئاً ، وهكذا الحال في عمر الإنسان ، فيخسر وينقص رأس ماله بالتدريج

ثُمّ أنّه سبحانه استثنى من الخسران مَن آمن وعمل صالحاً ، وتواصى بالحقِّ وتواصى بالصبر

ووجه الاستثناء واضح ؛ لأنّه بدَّلّ رأس ماله بشيء أغلى وأثمَن ، يستطيع أن يقوم مقام عمره المُنقضي ، فهو بإيمانه وعمله الصالح اشترى حياة دائمة ، حافلة برضوانه سبحانه ونِعمه المادِّية والمعنويّة

يقول سبحانه :( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (١)

ــــــــــــــــ

(١) التوبة : ١١١

٦٩

الفصل السادس : القَسَم بالنَجْم

وردتْ كلمة النجم في القرآن الكريم أربع مرّات في أربع سور(١) ، وحلف به مرَّة واحدة وقال :( وَالنَّجمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى ) (٢) ، وهي من السور المكِّية

تفسير الآيات :

النَجْمُ في اللغة : الكوكب الطالِع ، وجمعه نُجوم ، فالنجوم مرّة اسم كالقلوب والجيوب ، ومرّة مصدر كالطلوع والغروب

وأمّا ( هوى ) في قوله :( إِذا هَوى ) ، فيُطلق تارة على ميل النفس إلى الشهوة ، وأُخرى على السقوط من علوٍ إلى سفل

ولكنّ تفسيره بسقوط النجم وغروبه لا يُساعده اللفظ ، وإنّما المُراد هو ميله

وسيوافيك وجه الحلف بالنجم إذا هوى ، أي : إذا مالَ

ثُمّ إنّ المراد من النجم أحد الأمرين :

أ ـ أمّا مُطلَق النجم ، فيشمل كافّة النجوم الّتي هي من آيات عظمة اللّه سبحانه ، ولها أسرار ورموز يعجز الذهن البشري عن الإحاطة بها

ــــــــــــــــ

(١) وهي : النحل : ١٦ ، النجم : ١ ، الرحمن : ٦ ، الطارق : ٣

(٢) النجم : ١ـ٤

٧٠

ب ـ المراد هو نجم الشِعْرَى ، الّذي جاء في نفس السورة ، قال سبحانه :( وَانَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعرى ) (١)

ونظيره القول بأنّ المراد هو الثُريّا ، وهي مجموعة من سبعة نجوم ، ستَّة منها واضحة وواحد خافت النور ، وبه تُختبر قوَّة البَصَرِ

وربّما فُسّر بالقرآن الّذي نزل على قلب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طيلة ٢٣ سنة ؛ لنزوله نجوماً(٢) ، لكنّ لفظ الآية لا يُساعد على هذا المعنى ، فاللّه سبحانه إمّا أن يحلف بعامّة النجوم ، أو بنجم خاصِّ يهتدي به السائر

ويدلّ على ذلك أنّه قيَّد القَسَم بوقت هويِّه ، ولعلّ الوجه هو أنّ النجم إذا كان في وسط السماء يكون بعيداً عن الأرضِ لا يهتدي به الساري ، لأنّه لا يعلم به المشرق من المغرب ولا الجنوب من الشمال ، فإذا زال ، تبيَّن بزواله جانب المغرب من المشرق(٣)

وأمّا المُقسَم عليه ، فهو قوله سبحانه :( ما ضَلَّ صاحِبكُمْ وَما غوى * وما ينطق عن الهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحيٌ يُوحى )

جمع سبحانه هناك بين الضلال والغَيِّ فنفاهما عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والقرآنُ يستعمل الضلالة في مقابل الهدى ، يقول سبحانه :( يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذا اهْتَدَيْتُمْ ) (٤)

ــــــــــــــــ

(١) النجم : ٤٩

(٢) انظر الميزان : ١٩/٢٧ ، مجمع البيان : ٥/١٧٢

(٣) تفسير الفخر الرازي : ٢٨/٢٧٩

(٤) المائدة : ١٠٥

٧١

كما يستعمل الغَيّ في مقابل الرُشد ، يقول سبحانه :( وَإِنْ يَرَوا سَبيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخذوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوا سَبيلَ الغَىِّ يَتَّخِذُوهُ سَبيلاً ) (١)

والمُهمُّ بيان الفرق بين الضلالةِ والغواية ، فنقول :

ذكرَ الرازي : أنّ الضلال أن لا يجد السالك إلى مقصَده طريقاً أصلاً ، والغِواية أن لا يكون له طريق مُستقيم إلى المقصَد يدلّك على هذا أنّك تقول للمؤمن الّذي ليس على طريق السَداد : إنّه سَفيه غير رشيد ، ولا تقول إنّه ضالّ ، والضالّ كالكافر ، والغاوي كالفاسق(٢)

وإلى ذلك يرجع ما يقول الراغب : الغيّ جهلٌ من اعتقادٍ فاسد ، وذلك أنّ الجهل قد يكون من كون الإنسان غير معتقد اعتقاداً لا صالحاً ولا فاسداً ، وقد يكون من اعتقاد شيء ، وهذا النحو الثاني يُقال له : غَيّ(٣)

وعلى هذا ، فالآية بصَدَد بيان نفي الضلالة والغَي عن النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وردّ كلّ نوع من أنواع الانحراف والجهل والضلال والخطأ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ليردّ به التُهم المُوجّهة إليه من جانب أعدائه

وأمّا بيان الصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه فواضح ، لما ذكرنا من أنّ النجم عند الهوى والميل يهتدي به الساري ، كما أنّ النبي يهتدي به الناس ، أي : بقوله وفعله وتقريره

فكما أنّه لا خطأ في هداية النجم لأنّها هداية تكوينيّة ، وهكذا لا خطأ في هداية الوحي المُوحى إليه ، ولذلك قال :( إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى )

ــــــــــــــــ

(١) الأعراف : ١٤٦

(٢) تفسير الفخر الرازي : ٢٨/٢٨٠

(٣) مفردات الراغب : ٣٦٩

٧٢

الفصل السابع : القسم بمواقع النجوم

حَلَفَ سبحانه وتعالى في سورة الواقعة بمواقع النجوم وقال :( فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُوم * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظيم * إِنَّهُ لَقُرآنٌ كَرِيم * فِي كِتابٍ مَكْنُون * لا يَمَسُّهُ إِلاّ المُطَهَّرُون ) (١)

تفسير الآيات :

المُراد من مواقع النجوم مساقِطها حيث تغيب

قال الراغب : الوقوع : ثبوت الشيء وسقوطه ، يُقال : وقع الطائر وقوعاً ، وعلى ذلك يراد منه مطالِعها ومَغاربها ، يقال : مواقع الغَيث أي : مَساقِطه(٢)

ويدلُّ على أنّ المراد هو مطالع النجوم ومغاربها ، أنّ اللّه سبحانه يُقسِم بالنجوم وطلوعها وجَريها وغروبها ، إذ فيها وفي حالاتها الثلاث آية وعبرة ودلالة ، كما في قوله تعالى :( فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الجَوارِ الكُنَّس ) (٣) ، وقال :( وَالنَّجْم إِذا هَوى ) ، وقال :( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِب )

ــــــــــــــــ

(١) الواقعة : ٧٥ـ ٧٩

(٢) مفردات الراغب : ٥٣٠ ، مادَّة وَقَعَ

(٣) التكوير : ١٥ـ ١٦ .

٧٣

ويرجح هذا القول أيضاً : أنّ النجوم حيث وقعت في القرآن ، فالمراد منها الكواكب ، كقوله تعالى :( وَإدْبار النُّجوم ) (١) ، وقوله :( وَالشَّمْسُ وَالْقَمرُ وَالنُّجُوم ) (٢)

وأمّا المُقسَم عليه : فهو قوله سبحانه :( إِنَّهُ لَقُرآنٌ كَريم * في كِتابٍ مَكْنُون * لا يَمَسُّهُ إِلاّ الْمُطَّهَرُون )

وصفَ القرآن بصفاتٍ أربع :

أ ـ ( لقُرآنٌ كَريم ) والكريم هو البَهيّ الكثير الخير العظيم النفع ، وهو من كلّ شيء أحسنه وأفضله ، فاللّه سبحانه كريم ، وفعله ـ أعني القرآن ـ مثله

وقال الأزهري : الكريم : اسم جامع لما يُحمَد ، فاللّه كريم يُحمَد فِعاله ، والقرآن كريم يُحمَد ؛ لما فيه من الهدى والبيان والعلم والحكمة

ب ـ( في كتابٍ مَكنُون ) ولعلّ المراد منه هو اللوح المحفوظ ، بشهادة قوله :( بَلْ هُوَ قُرآنٌ مَجيد * في لَوحٍ مَحْفُوظ ) (٣) ويُحتمَل أن يكون المراد الكتاب الّذي بأيدي الملائكة ، قال سبحانه :( في صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرةٍ * بِأَيدِي سَفَرَةٍ * كِرامٍ بَررَةٍ ) (٤)

ج ـ( لا يَمَسُّه إِلاّ المُطهَّرون ) فلو رجع الضمير إلى قوله :( لقُرآنٌ كَريم ) ، كما هو المتبادَر ، لأنّ الآيات بصَدَد وصفه وبيان منزلته ، فلا يمسّ المصحف إلاّ طاهر ، فيكون الإخبار بمعنى الإنشاء ، كما في قوله سبحانه :( وَالمُطلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوء ) (٥)

ــــــــــــــــ

(١) الطور : ٤٩

(٢) الحجّ : ١٨

(٣) البروج : ٢١ ـ ٢٢

(٤) عبس : ١٣ ـ ١٦

(٥) البقرة : ٢٢٨

٧٤

ولو قيل برجوع الضمير إلى ( كتابٍ مَكنُون ) ، فيكون المعنى لا يمسّ الكتاب المَكنون إلاّ المطهَّرون

وربّما يُؤيَّد هذا الوجه بأنّ الآية سيقت تنزيهاً للقرآن من أن ينزل به الشياطين ، وأنّ محلّه لا يصل إليه ، فلا يمسّه إلاّ المطهّرون ، فيستحيل على أخابثِ خلق اللّه وأنجسِهم أن يصلوا إليه أو يَمسُّوه ، قال تعالى :( وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطين * وَما يَنْبَغي لَهُمْ وَما يَسْتَطيعُون ) (١)

د ـ( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمين ) وهذا هو الّذي يُركِّز عليه القرآن في مواقف مختلفة ، وأنّه كتاب اللّه وليس من صنع البشر

وأمّا الصِلة بين القَسَمِ والمُقسَم به فهو واضح ؛ فلاَنّ النجوم بمواقعها ـ أي طلوعها وغروبها ـ يهتدي بها البشر في ظلمات البرِّ والبحر ، فالقرآن الكريم كذلك ، يهتدي به الإنسان في ظلمات الجهل والغَي ، فالنجوم مصابيح حسّية في عالم المادَّة ، كما أنّ آيات القرآن مصابيح معنويَّة في عالم المُجرَّدات

إكمال :

إنّه سبحانه قال :( فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُوم ) ، فالمراد منه القَسَم بلا شكّ ، بشهادة أنّه قال بعده :( وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظيم ) ، فلو كان معنى الآية هو نفي القَسَم ، فلا يُناسب ما بعده ؛ حيث يصفه بأنّه حلف عظيم

وقد اختلف المفسِّرون في هذه الآيات ونظائرها إلى أقوال :

١ ـ ( لا ) زائدة ، مثلها قوله سبحانه :( لئلاّ يَعْلَم )

٢ ـ أصلها ( لأُقسِمُ ) بلام التأكيد ، فلمّا أُشبعَت فتحتها صارت ( لا ) كما في الوقف

٣ ـ ( لا ) نافية ، بمعنى نفي المعنى الموجود في ذهن المُخاطَب ، ثُمّ الابتداء بالقَسَمِ ، كما نقول : لا واللّه ، لا صحَّة لقول الكفّار ، أُقسِم عليه

ــــــــــــــــ

(١) الشعراء : ٢١٠ـ٢١١

٧٥

ثُمّ إنّه سبحانه يصف هذا القَسَم بكونه عظيماً ، كما في قوله :( وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ) ، فقوله : ( عظيم ) وصف ( القَسَم ) ، أُخِّر لحفظِ فواصل الآيات

وهذا القَسَم هو القَسَم الوحيد الّذي وصفه سبحانه بأنّه عظيم

فالحديث هنا هو حديث على الأبعاد ، أبعاد النجوم عنّا وعن بعضها البعض ، في مجرّتنا وفي كلّ المَجرّات

ولأنّها كلّها تتحرَّك ، فإنّ الحديث عن مواقعها يصير أيضاً حديثاً على مداراتها ، وحركاتها الأُخرى العديدة ، وسرعاتها ، وعلى علاقاتها بالنجوم الأُخرى ، وعلى القوى العظيمة والحسابات المُعقَّدة الّتي وضعت كلّ نجم في موقعه الخاصّ به ، وحفظته في علاقات متوازنة دقيقة مُحكمَة ، فهي لا يعتريها الاضطراب ، ولا تتغيَّر سُنَنها وقوانينها ، وهي لا تسير خَبطَ عَشواء ، أو في مساراتٍ متقاطعةٍ أو متعارضة ، بل هي تسير كلّها بتساوق وتناغم ، وانسجام وانتظام تامّين دائمين ، آيات على قدرة القادر سبحانه(١)

يقول الفلكيُّون : إنّ من هذه النجوم والكواكب ـ الّتي تزيد على عدَّة بلايين نجم ـ ما يمكن روَيته بالعين المُجرَّدة ، وما لا يُرى إلاّ بالمجاهر والأجهزة ، وما يمكن أن تَحسَّ به الأجهزة دون أن تراه

هذه كلّها تسبحُ في الفلك الغامض ، ولا يوجد أيّ احتمال أن يقترب مجال مغناطيسي لنجمٍ من مجال نجمٍ آخر ، أو يصطدم كوكب بآخر ، إلاّ كما يُحتمَل تصادم مركب في البحر الأبيض المتوسّط بآخر في المحيط الهادي ، يسيران في اتّجاه واحد وبسرعة واحدة ، وهو احتمال بعيد ، وبعيداً جداً ، إن لم يكن مستحيلاً(٢)

ــــــــــــــــ

(١) أسرار الكون في القرآن : ١٩٢

(٢) اللّه والعلم الحديث : ٢٤

٧٦

الفصل الثامن : القَسَمُ بالسماءِ ذات الحُبُك

حَلَفَ سبحانه في سورة الذاريات بأُمورٍ خمسة ، وجعل للأربعة الأُوَل جواباً خاصّاً ، كما جعل للخامس من الأقسام جواباً آخر ، وبما أنّ المُقسَم عليه مُتعدِّد ؛ فصلنا القَسَم الخامس عن الأقسام الأربعة ، وعقدنا له فصلاً في ضمن فصول القَسَمِ المُفرَد

قال سبحانه :( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ) (١)

ترى أنّه ذكر للأقسام الأربعة جواباً خاصاً ، أعني قوله :( إِنّما تُوعَدُون لَصادِق * وانّ الدِّين لواقِع )

ثُمّ شرع بحلفٍ آخر ، وقال :( وَالسَّماءِ ذات الحُبُكِ * إِنَّكُم لَفِي قَولٍ مُختَلِف ) (٢)

فهناك قَسَم خامس وهو : ( والسماء ذات الحُبُك ) ، وله جواب خاصّ لا يمتّ لجواب الأقسام الأربعة ، وهو قوله :( إِنَّكُمْ لَفي قولٍ مختلِف )

ــــــــــــــــ

(١) الذاريات : ١ـ ٦

(٢) الذاريات : ٧ـ ٨

٧٧

تفسير الآيات :

الحُبُك : جمع الحِباك ، كالكتب جمع كتاب ، تُستعمَل تارة في الطرائق ، كالطرائق الّتي تُرى في السماء ، وأُخرى في الشَعْرِ المجعد ، وثالثة في حُسن أثرِ الصنعة في الشيء واستوائه

قال الراغب :( والسَّماء ذات الحُبُك ) أي : ذات الطرائق ، فمن الناس مَن تصوّر منها الطرائق المحسوسة بالنجوم والمجرّة

ولعلّ المراد منه هو المعنى الأوّل ، أي : السماء ذات الطرائق المختلفة ، ويؤيّده جواب القَسَم ، وهو اختلاف الناس وتشتُّت طرائقهم ، كما في قوله :( إنّكم لفي قولٍ مختلِف )

وربّما يحتمل أنّ المراد هو المعنى الثالث ، أي : أُقسم بالسماء ذات الحُسنِ والزينة ، نظير قوله تعالى :( إِنّا زَيَّنا السَّماءَ الدُّنيا بزِينةٍ الكَواكِب ) .(١)

ولكنّه لا يناسبه الجواب ، إذ لا يصحّ أن يحلفَ حالِف بالأمواج الجميلة الّتي ترتَسِم بالسُحب أو بالمجرّات العظيمة ، الّتي تبدو كأنّها تجاعيد الشَعْرِ على صفحة السماء ، ثُمّ يقول :( إِنّكم لفي قولٍ مختلِف ) ، أي : إنّكم متناقضون في الكلام

وعلى كلّ حال ، فالمُقسَم عليه هو : التركيز على أنّهم متناقضون في الكلام ، فتارة ينسبون عقائدهم إلى آبائهم وأسلافهم ، فينكرون المعاد ، وأُخرى يستبعدون إحياء الموتى بعد صيرورتهم عظاماً رميم ، وثالثة يرفضون القرآن والدعوة النبويّة ويصفونه بأنّه قول شاعر ، أو ساحر ، أو مجنون ، أو ممّا علّمه بشر ، أو هي من أساطير الأوَّلين

وهذا الاختلاف دليل على بطلان ادّعائكم ، إذ لا تعتمدون على دليلٍ خاصّ ، فانّ تناقض المُدَّعي في كلامه أقوى دليل على بطلانه ونفاقه

ــــــــــــــــ

(١) الصافّات : ٦

٧٨

ثُمّ إنّه سبحانه يقول : إنّ الإعراض عن الإيمان بالمعاد ليس أمراً مختصَّاً بشخصٍ أو بطائفة ، بل هو شيمة كلّ مُخالِف للحقِّ يقول :( يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ) . (١)

والأفْك : الصَرف ، والضمير في ( عنه ) يرجع إلى الكتاب ، من حيث اشتماله على وعد البأس والجزاء ، أي : يُصرَف عن القرآن من صُرف وخالفَ الحقّ

وأمّا الصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه فقد ظهر ممّا ذكرنا ؛ لما عرفتَ من أنّ معنى الحُبُك هو الطرائق المختلفة المتنوِّعة ، فناسب أن يحلفَ به سبحانه على اختلافهم وتشتّت آرائهم ، في إنكارهم نبوّة النبي ورسالته ، والكتاب الّذي أُنزل معه ، والمعاد الّذي يدعو إليه

ــــــــــــــــ

(١) الذاريات : ٩

٧٩

القسم الثاني : القَسَم المُتَعدِّد

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : القَسَم في سورة الصافّات

حلف سبحانه بالملائكة في السور الأربع التالية :

١ ـ الصافّات ، ٢ ـ الذاريات ، ٣ ـ المُرسلات ، ٤ ـ النازعات

وليس المُقسَم به هو لفظ المَلَكِ أو الملائكة ، وإنّما هو الصِفات البارزة للملائكة ، وأفعالها ، وإليك الآيات :

١ ـ( وَالصّافاتِ صَفّاً * فَالزّاجراتِ زَجْراً * فَالتّالياتِ ذِكراً *إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحد ) .(١)

٢ ـ( والذّارِياتِ ذَرْواً * فَالحامِلاتِ وِقْراً * فَالجارِياتِ يُسراً * فَالمُقَسِّماتِ أَمْراً * إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادق * وَانَّ الدِّين لواقع ) (٢)

٣ ـ( وَالْمُرسَلات عُرفاً * فَالعاصِفاتِ عَصْفاً * وَالنّاشراتِ نَشْراً * فالفارِقات فَرقاً * فالمُلقِياتِ ذِكراً * عُذراً أَو نُذراً * إنّما تُوعَدُونَ لَواقِع ) (٣)

ــــــــــــــــ

(١) الصافّات : ١ـ٤

(٢) الذاريات : ١ـ٦

(٣) المُرسَلات : ١ـ٧

٨٠

وجواب ذلك: أنَّه سيأتي في مستقبل البحث - أيضاً - أنَّ ما يُعلنه المهدي في دولته، مهما كان جديداً وعميقاً ومُفصَّلاً، إلاَّ أنَّه يتعدَّى مستوى التطبيقات والتنظيمات للمجتمع الذي يحكمه، بالشكل الذي لا يكون خارجاً بأيِّ حال على التشريعات والمفاهيم الرئيسية في الإسلام ولا مضادَّاً لها، ومن الواضح أنَّ شجب العنصرية بكل أشكالها من واضحات الإسلام ونصِّ الكتاب والسنَّة.

إذاً؛ فمن غير المـُحتمل أن يقوم الإمام المهدي (ع) بتغيير ذلك.

المستوى الثاني: إنَّ دعوة المهدي (ع) ودولته عالمية، كما هو ضروري الوضوح لكل مُعترف به من المسلمين، وسيأتي التعرُّض للنصوص الدالَّة على ذلك بصراحة.

والدعوة العالمية على طول الخطِّ مُنافية مع العنصرية؛ ولذا نرى سائر المبادئ في التاريخ، ممَّن طمعت بالاستيلاء العقائدي على العالم، تقفُ من العنصرية موقفاً، سلبيَّاً، وتعتبرها نظرة ضيِّقة لا ترقى إلى أُسلوبها الواسع وأُفقها الرَّحب.

وحيث كانت دعوة المهدي (ع) عالمية؛ إذاً، فهي تُنافي العنصرية كأيِّ دعوة عالمية أُخرى، بمعنى أنَّه بمجرد أن يتَّخذ بعض شعارات العنصرية، فإنَّ دائرة دعوته ستكون ضيِّقة، وسيتعذَّر عليه بأيِّ حال، أن تبقى دعوته عالمية، وهذا خلاف الضرورة والتواتر عن دعوة المهدي (ع)، وسيُخلُّ بتأسيس الدولة العالمية، وهو خلاف ما استهدفه هذا القائد العظيم في ظهوره، والغرض الأساسي الذي وجِد التخطيط الإلهي من أجله.

وقد يخطر في الذهن: أنَّ ما دلَّ عليه الدليل القطعي، بالضرورة والتواتر هو استيلاء المهدي (ع) على العالم بأجمعه واتِّساع رقعته، وهذا لا يُنافي الاعتراف من قِبله ببعض أشكال العنصريَّة.

والجواب على ذلك: أنَّ استيلاء الإمام المهدي (ع) على العالم، إن كان غزواً عسكرياً مُجرَّداً، فهذا الذي قاله السائل صحيح؛ فإنَّ الغزو العسكري المـُجرَّد لأجل الحصول على السلطة، يُناسب مع الاعتقاد بالعنصرية، ومع رفضها فلا يكون مُجرَّد الاستيلاء على العالم دليلاً على شجب العنصرية.

إلاَّ أنَّ استيلاء الإمام المهدي (ع) على العالم ليس مُجرَّد غزو عسكري، بل هو دعوة عقائدية وأطروحة عادلة، يريد نشرها وتطبيقها على البشرية أجمعين، وتربية البشر على أساسها تربية صالحة؛ لتتحقَّق العبادة المحضة لله عزَّ وجلَّ على وجه الأرض، كما هو الغرض الأساسي من الخَلق ومن اليوم الموعود.

٨١

والدعوة إذا كانت عالمية هذا الشكل، فإنَّها تكون مُنافية للعنصرية بالمرَّة؛ وذلك بعد الالتفات إلى مجموع أمرين:

الأمر الأول: إنَّ التطبيق الحقيقي للعدل والتربية العادلة، لا يمكن إتمامه إلاَّ بجوٍّ من الانسجام والتقبُّل النفسي للفرد والجماعة؛ لكي تترسَّخ القواعد الأساسية والسلوك الصالح في عالم الحياة، وأمَّا مع جوِّ الانزجار والتأفُّف والتباعد، فلا يمكن أن تنال البشرية مثل تلك النتائج الصالحة، ومن ثُمَّ لا يمكن تطبيق العبادة الكاملة على تلك الجماعة؛ فيكون مُخلاَّ ًبالغرض الأساسي لخَلق البشرية.

الأمر الثاني: إنَّ الاعتراف بالعنصرية بأيِّ شَكل من أشكالها، يعني أنَّ العنصر الآخر، الذي لم يُعترَف به من البشر، وقام النظام على الالتزام بتسافله وخسَّته أمام العنصر المـُفضَّل، إنَّ هذا العنصر سوف يشعر بالغربة في ذلك النظام، وبالتعقيد النفسي والانزجار والتأفُّف تجاهه، بطبيعة الحال.

ونحن إذا لاحظنا العالم ككلّ، لم نجد أيَّ عنصر من العناصر التي يتبنَّاها العنصريُّون يُشكِّل أكثرية في العالم، وإنَّما يُشكِّل الأقلِّية على طول الخطِّ - وهذا يعني بكل وضوح - أنَّ الدولة العالمية لو تبنَّت أيَّ عنصر من العناصر، وفضَّلته على غيره، فإنَّها تتبنَّى مصالح الأقلِّية من شعبها، وتعتبر أكثريَّتهم من الجنس الأخسِّ الأدنى.

إذاً؛ فستحسُّ الأكثرية بالتعقُّد والانزجار تجاه تلك الدولة، بحكم كونهم محكومين بالخساسة والتسافُل في نظامها؛ وبالتالي ستتعذًَّر تربيتهم الصالحة المطلوبة، ويكون الغرض من أصل الخليقة مُتخلِّفاً وفاشلاً.

وباستحالة تخلُّف هذا الغرض، نعرف لزوم كون الدولة العالمية المهدوية سلبيَّة تجاه العناصر البشرية، وحيادية تجاه التفاضل بينها، ومُلْغِيَة لها كأساس للتفاضل تماماً... توصُّلاً إلى التربية العادلة للبشرية أجمعين

وقد يخطر في الذهن: إنَّ الفكر الحديث قد طوَّر مفهوم العنصرية، فقد أصبحت لا تعني تفضيل عنصر على عنصر، وإنَّما كل ما تعنيه هو الاهتمام بمصالح مجموعة مُعيَّنة مشتركة في اللغة أو الوطن، وغير ذلك، انطلاقاً من اشتراكها بالمصالح والتاريخ والآمال، وهذا لا يتضمَّن تفضيلاً لأحد.

وجواب ذلك: إنَّه بغضِّ النظر عن أنَّ هذا التطوير لا يخرج بالفكرة عن التحديد والأنانية، ومن ثُمَّ عن العناصر نفسها... بغضِّ النظر عن ذلك، فإنَّها أوضح بُعْدَاً

٨٢

عن الفكرة العالمية المهدوية من العنصرية نفسها؛ لأنَّ المفروض فيها الاهتمام بمجموعة مُعيَّنة لا بمجموع البشر... ومن الواضح إلى حدِّ الضرورة أنَّ الدولة العالميَّة تهتمُّ بمصالح وتربية وآمال مجموع البشر، لا بمجموعة مُعيَّنة مهما كانت صفتها.

وقد يخطر في الذهن: أنَّ هذا الاتِّجاه لا يصحُّ في الدولة العالمية، ولكنَّها قد تُعطي للشعوب أو العناصر المـُختلفة الاهتمام بصفاتها تلك، من دون أن يكون للحُكم المركزي نفسه تركيز على جهة دون جهة.

وجواب ذلك: إنَّ هذا غير مُحتمل أيضاً؛ لمـُخالفة هذا الاتِّجاه مع العدل الكامل من عدَّة جهات، أوضحها ما يحدث بين العناصر المـُختلفة من التشاحن والتعاقد، نتيجةً لحُرِّيَّة التفاخر والتركيز العنصري... الأمر الذي يُنافي - كل المـُنافات - مع العدل الكامل.

نعم، قد تبقى اتِّجاهات فرديَّة مُتفرِّقة، ناشئة من ( لا شعور ما قبل الظهور ) تتضمَّن الإحساس بأهمِّيَّة العنصر أو الطبقة... ولكنَّها تذوب تدريجياً تحت التربية المركَّزة والمـُستمرَّة، التي تقوم بها الدولة العالمية طبقاً للأطروحة العادلة الكاملة.

المـُستوى الثالث: الاستدلال بما وردنا من الأخبار الدالَّة على نفي العنصرية، وعلى وجود الفكرة المـُنفتحة والمـُتعادلة من هذه الناحية في دولة المهدي (ع).

وهي على أنحاء:

النحو الأول: ما دلَّ على أنَّ حُكم المهدي (ع) يكون قاسياً وشديداً على العرب... باعتبار فشل أكثرهم في التمحيص الإلهي حال الغيبة، وتقصيرهم تجاه الشريعة الإسلامية، فلو كان الإمام المهدي (ع) عنصرياً لكان يميل إلى أبناء لُغته، على كل حال.

والأخبار بذلك مُتظافرة لدى الفريقين:

فمنها: ما أخرجه البخاري(١) عن زينب بنت جحش، أنَّها قالت: استيقظ النبي (ص) من النوم مُحمرَّاً وجهه يقول: ( لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب من شرٍّ قد اقترب...! ) الحديث.

وتأسُّف النبي (ص) وتحذيره منصبٌّ على انحراف العرب وخروجهم على شريعته،

____________________

(١) انظر صحيح البخاري ج٩ ص٦٠.

٨٣

بقرينة الحديث الذي يليه، والذي يقول فيه:

( فإنّي لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع المطر )(١) .

ورواه الترمذي(٢) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه ابن ماجة في سُننه(٣) .

وأخرج ابن ماجة(٤) ، عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله (ص): ( تكون فتنة تستنظف العرب قتلاها في النار، اللسان فيها أشدُّ من وقع السيف ).

وفيه دلالة واضحة على فشل العرب في التمحيص، في عصر الفتن والانحراف خلال الغيبة الكبرى، وهو ما حدث فعلاً، وحيث نعلم موقف الإمام المهدي (ع) من كل فاشل في التمحيص - كما سيأتي مُفصَّلاً - نعرف موقفه من هؤلاء العرب الفاشلين.

ومنها: ما أخرجه النعماني في الغيبة(٥) : عن أبي بصير، قال: قال أبو جعفر (ع): ( يقوم القائم بأمر جديد، وكتاب جديد، وقضاء جديد، على العرب شديد، ليس شأنه إلاَّ السيف... ولا تأخذه في الله لومة لائم ).

وفي حديث آخر(٦) ، عن أبي عبد الله (ع)، أنَّه قال: ( إذا خرج القائم لم يكن بينه وبين العرب وقريش إلاَّ السيف... ) الحديث.

إلى غير ذلك من الأحاديث، الدالَّة على أنَّ الميزان الصحيح في نظر القائد المهدي (ع) هو الإيمان والنجاح في التمحيص، وليس هو اللغة ولا القبلية، فهو لا يميل إلى أهل لغته ( العرب ) ولا إلى قبيلته ( قريش ) بل يأخذهم أخذاً شديداً نحو طاعة الله تعالى، ويُعاقبهم على ما سلف منهم من الذنوب.

____________________

(١) المصدر والصفحة.

(٢) انظر الجامع الصحيح للترمذي ج٣ ص٣٢٥.

(٣) انظر ج٢ ص١٣٠٥منه.

(٤) المصدر ص١٣١٢.

(٥) ص١٢٢.

(٦) المصدر والصفحة.

٨٤

وفي هذه أحاديث عديدة، اقتصرنا منها على مقدار النموذج.

النحو الثاني: ما دلَّ من الأخبار على أنَّ أصحابه المـُمحَّصين الخاصِّين، الذين يجتمعون إليه، ويُحاربون بين يديه ليسوا من عنصر واحد، بل هم من مُختلَف بُلدان العالم.

فمن ذلك:

ما أخرجه الشيخ في الغيبة(١) ، عن أبي بصير، عن عبد الله يقول فيه (ع) عن أصحاب القائم (ع ): ( فيتوافون من الآفاق ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً، عدَّة أهل بدر ).

أقول: وفيه دلالة على ورودهم إليه من مُختلف البلدان في العالم.

وما أخرجه النعماني في غيبته(٢) ، بإسناده عن علي (ع) يقول فيه: ( ثمَّ يجتمعون قزعاً كقزع الخريف من القبائل، ما بين الواحد والاثنين، والثلاثة والأربعة، والخمسة والستَّة، والثمانية والتسعة والعشرة ).

أقول: وهو نصٌّ في عدم التمييز بين القبائل والأنساب في أصحابه، وإنَّما الميزان هو عُمق الإخلاص وقوَّة الإيمان والإرادة.

وأخرج(٣) في خبر آخر، عن الإمام الباقر (ع) وقال: ( أصحاب القائم ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً، من أولاد العجم بعضهم ).

أقول: والمراد بالعجم غير العرب لا خصوص الفرس، كما هو معروف في اللغة.

فليس الميزان هو اللغة أو الدم أو العنصر، وإلاَّ لم يقبل المهدي (ع) القائم في أصحابه إلاَّ العرب، بل الميزان أمور أُخرى أوسع وأعمق.

النحو الثالث: ما دلَّ من الأخبار على مُشاركة غير العرب في حُكم العالم، وهداية الناس تحت ظلِّ دولة المهدي (ع).

____________________

(١) ص٢٨٤ وما بعدها.

(٢) غيبة النعماني ص١٦٨.

(٣) المصدر ص١٧٠.

٨٥

فمن ذلك: ما رواه النعماني في غيبته، بسنده عن الأصبغ بن نباته قال: سمعت علياً (ع) يقول: ( كأنِّي بالعجم فساطيطهم في مسجد الكوفة، يُعلِّمون الناس القرآن، كما أُنزل ).

أقول: وهذا إمَّا يحدث في دولة المهدي (ع)؛ لأنَّهم إنَّما يعلمون القرآن على أساس مُعانيه الواقعية، مأخوذة من الإمام المهدي (ع ) نفسه، وإمَّا قبل ذلك، فهو مُتعذِّر بطبيعة الحال.

المستوى الرابع: في الاستدلال على موقف المهدي (ع) من العنصرية.

إنَّنا نضمُّ فكرتين اثنتين واضحتين، تُنتِجان نتيجةً واضحةً.

الفكرة الأُولى: إنَّ الإمام المهدي (ع) يسير بسيرة النبي (ص)، ويُطبِّق منهجه على المـُجتمع والحياة، وهو ما سبق أن أقمنا عليه الدليل.

الفكرة الثانية: إنَّ سيرة النبي (ص) في أصحابه ومجتمعه، كانت بالضرورة على نفي العنصرية وشجبها بكل أشكالها، وإعلان عقيدة الإسلام ونظامه عاماً عالمياً لكل الناس، وقد جمع في أصحابه بين عبيد المـُجتمع وأحراره، وبين عربه وعجمه، وبين مختلف القبائل، وراسل ملوك العالم في عصره يدعوهم إلى الإسلام، وكلُّهم لم يكونوا عرباً، وإنَّ أشهر أصحابه من غير العرب سلمان الفارسي، وبلال، وصهيب الحبشيان... وهناك الكثير وغيرهم.

وأودُّ بهذه المناسبة أن أروي ما أخرجه الترمذي(١) ، عن أبي هريرة، قال: كنَّا عند رسول الله (ص) حين أُنزلت سورة الجمعة فتلاها، فلما بلغ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ... ) (٢) ، قال له رجل: يا رسول الله، مَن هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟

فلم يُكلِّمه.

قال: وسلمان الفارسي فينا.

قال: فوضع رسول الله (ص) يده على سلمان، فقال: ( والذي نفسي بيده، لو كان الإيمان بالثُّريَّا لتناوله رجل من هؤلاء ).

قال الترمذي: هذا حديث حَسَن، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي (ص).

____________________

(١) انظر الجامع الصحيح: ج٥ ص٣٨٣.

(٢) الجمعة: ٦٢/ ٣.

٨٦

أقول: وهو يدلُّ - بوضوح - على مشاركة غير العرب بالإيمان العميق، عقيدة وتطبيقاً... إذا كان المراد جعل سلمان الفارسي (رض) مُمثِّلاً لهم، مع احتمال أن يكون المراد جعله مُمثِّلاً لمستوى معُيَّن في الإخلاص و التفكير، ويكون قوله (ص): ( رجال من هؤلاء... ). يعني مَن كان مُتَّصفاً بذلك المستوى.

وعلى أيِّ حال، فإنَّ المـُلاحّظ أنَّ هذا الخبر غير دالٍّ بالمرَّة على أنَّ سلمان الفارسي من الآخرين الذين لم يلحقوا بهم، المذكورين في الآية الكريمة، بل هو دالٌّ على العكس، كما هو واضح لمَن يُفكِّر، وأمَّا السؤال عن معنى الآية، فقد أعرض النبي (ص) عن جوابه.

وعلى أيِّ حال، فما دامت دولة النبي (ص) خالية من العنصرية، إذاً فستكون دولة المهدي (ع) كذلك؛ لأنَّه يستنُّ بسنَّته، ويسير بسيرته.

الجهة الرابعة: نظام الدولة المهدوية، هل هو مُشابه لبعض الأنظمة السابقة عليه، كالرأسمالية أو الاشتراكية أو غيرهما، أولا؟

والذي ينبغي الجزم به أساساً هو النفي المطلق، وأنَّ شيئاً من الأنظمة السابقة على الظهور، لا تصدق على نظام المهدي ولا تشمله.

والدليل الحسِّي التطبيقي، سوف لن يظهر، إلاَّ بعد الظهور، حين يتمُّ تطبيق نظام الإمام المهدي (ع) ودولته العالمية، ويكون في الإمكان مُقارنته بالأنظمة السابقة عليه مُقارنةً حسِّيَّة، وهذا لا يتمُّ في العصر الحاضر بطبيعة الحال.

ولكنَّنا نستطيع - طبقاً للأدلة التالية - الجزم بأنَّ نظام المهدي (ع) مُباين ومُغاير تماماً مع أيِّ نظام سابق عليه، وذلك باعتبار الأدلة التالية:

الدليل الأول: أنَّنا عرفنا أنَّ الإمام المهدي (ع ) سوف يُطبِّق الإسلام، بصفته الأطروحة العادلة الكاملة... وقد تمَّ البرهان في بحوث الفكر الإسلامي على مغايرة نظام الإسلام لسائر الأنظمة الأُخرى، وأنَّه أطروحة مُستقلَّة لحلِّ مشاكل البشرية لا تمتُّ إلى الحلول الأُخرى بصِلَةٍ.

ولا مجال لسرد تلك الأدلة في هذا التاريخ - بطبيعة الحال - إلاَّ أنَّها تُنتِج بعد التسليم بصحتها مُغايرة نظام الإمام المهدي (ع) للأنظمة السابقة عليه... لأنَّ نظامه هو الإسلام المـُغاير لتلك الأنظمة.

٨٧

الدليل الثاني: إنَّنا ننطلق من فكرة الحديث النبوي المتواتر، القائل:( إنَّ المهدي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما مُلِئت ظلماً وجوراً... ) ، ننطلق منه إلى النتيجة المطلوبة، فإنَّنا قلنا - في تاريخ الغيبة الكبرى(١) -: إنَّ البشرية عامة والأمَّة الإسلامية خاصة، لا بدَّ أن تمرَّ بظروف صعبة وقاسية من الظلم والجور والانحراف... لكي تتمخَّض في نهاية المطاف عن عدد من المـُخلصين المـُمحَّصين، يكفي للقيام بمسؤولية الدولة المهدوية، ونتيجة لتلك الظروف ( تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً )، وبجهود هؤلاء المـُخلصين تحت قيادة الإمام المهدي (ع) ( تمتلئ الأرض قسطاً وعدلاً ).

وإذا تساءلنا عن أسباب هذه الظروف، تكشفت لنا خلال التاريخ المـُعاصر والسابق، عن سلسلة مُتَّصلة ومُتواصلة من الأسباب الكبيرة... التي من أهمِّها أساليب الحُكم الفردي الدكتاتوري، التي مورست خلال التاريخ، وجود الكيان الرأسمالي الأوروبي - الأمريكي وما تبعه من الاستعمار بشكليه القديم والحديث - وما لاقى منه العالم بشكل عام، والأمَّة الإسلامية بشكل خاص من بلايا وأضرار، وكذلك مُحاولة فرض الحلول المـُدعاة لمشاكل العالم على الشعوب عن طريق الغزو الفكري للعالم(٢) ، كما قامت به الشيوعية، وهي تُعلن إيمانها بحق تقرير المصير للشعوب، فيبدو موقفها مُتهافتاً غريباً.

ولئن كان الرأي العام العالمي، قد أُحيط علماً - بحسب التجربة التاريخية القاسية التي عاشوها - بالأضرار الناتجة عن الحُكم الفردي والاستعمار الرأسمالي، فإنَّ الأعوام الآتية كفيلة بكشف ما في النظام الشيوعي من هنات ونقاط ضعف، ومُنطلقاً من ذلك نستطيع أن نُعمِّم، ونقول: إنَّ أيَّ نظام وضعي بشري المولد، موجود قبل الظهور، يُمثِّل في واقعه أهمَّ أسباب الظلم والانحراف في العالم، إن كان بدوره ناتجاً عن ظلم وانحراف سابقين... ومعه فستكون المـُهمَّة الرئيسية للإمام المهدي (ع) الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، أن يقوم بتغيير هذه الأنظمة والقضاء على جذورها وتفاصيلها.

الدليل الثالث: إنَّ سائر الأنظمة والقوانين الوضعية، قائمة على المادية وإسقاط العنصر الإلهي عن نظر الاعتبار، إمَّا بالصراحة، كالشيوعية والوجودية، أو بالخفاء كالرأسمالية، والفاشية، والنازية، والقوانين الرومانية، والجرمانية، ومُتفرَّعاتها الحديثة؛ فأنَّها

____________________

(١) انظر ص٢٤٦ وما بعدها.

(٢) بل قامت الشيوعية بالغزو العسكري المـُباشر، كما حدث في تشيكوسلوفاكيا عام ١٩٦٩ وفي إنغولا هذا العام أعني ١٩٧٦.

٨٨

قائمة على أساس دنيوي مادِّي صرف، لا أثر للروح أو لله تعالى فيه.

وقد علمنا أنَّ نظام المهدي (ع) سيقوم على ربط الإنسان بربِّه، وتربيته لجسمه وروحه، والربط بين هذه العناصر ربطاً عادلاً وعميقاً، وستكون كل القوانين المـُطبَّقة قوانين إلهيَّة إسلامية، حتى إنَّ المهدي (ع) نفسه إنَّما يكون واجب الإطاعة باعتباره أحد أئمة المسلمين المخوَّلين من قِبل الله تعالى للحُكم والتقنين والتطبيق.

إذاً؛ فسوف لن يكون في دولة المهدي مجال للمادِّية بشكليها الصريح والخفي، وسوف يتمُّ القضاء عليها قضاء تامَّاً.

الدليل الرابع: الانطلاق من زاوية أُخرى من القواعد التي فهمناها عن فكرة المهدي... وقد أشرنا إليها في التاريخ السابق(١) .

وهي: أنَّ التخطيط الإلهي قائم على اكتساح التمحيص الدقيق للأفراد والمبادئ، وبذلك ينكشف بشكل حسِّي مُبرهَن ومُدعم بالتجارب الكثيرة والمريرة، عن فشل كل دعوة تدِّعي لنفسها حلَّ مشاكل العالم وتذليل مصاعبه، حتى ما إذا انكشفت وبانَ زيفُها ونقاط الضعف فيها وأيَّست البشرية من أن تضع حلَّها لنفسها... انبثق الأمل في أنفسها من جديد إلى حلٍّ جديد ونظام جديد يُنقذها من وهْدَتِها، ويُخرجها من ورطتها، وهذا الأمل إحساس نفسي مُجمل، لا زال في طريق التربية في نفوس البشر، كما هو المحسوس الآن بالوجدان، ولا زالت الحوادث وما ينكشف من مساوئ الأنظمة والفلسفات الوضعية تؤيِّده وتدعمه.

وهو أمل مُجمل، لا يُشير - على التعيين - إلى الإسلام، أو إلى نظام المهدي (ع)، ولكنَّ الله تعالى يكون قد أعدَّ لخلقه الإنقاذ الحقيقي والعدل الكامل، على يد القائد المهدي (ع) ومُخلصيه، فإذا رأت البشرية نظامه وعدله، فإنَّها ستؤمِن بكل وضوح بأفضليَّته على كلِّ التجارب والمـُدَّعيات السابقة التي مرَّت بها، وأنَّه الحلُّ الأساسي الذي يُنقذها من ورطتها، وبالتالي هو الصورة الحقيقية لذلك الأمل المـُجمل، وقد أُشير إلى هذا التخطيط في المصادر الخاصة، في بعض الأخبار، كالخبر الذي رواه الشيخ المفيد في الإرشاد(٢) ، والطبرسي في أعلام الورى(٣) ، والذي يقول فيه:

____________________

(١) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص٢٤٩ وما بعدها.

(٢) انظر ص ٣٤٤.

(٣) انظر ص ٤٣٢.

٨٩

( إنَّ دولتنا آخر الدول، ولم يبقَ أهل بيت لهم دولة إلاَّ ملكوا قبلنا، لئلا يقولوا إذا رأوا سيرتنا: إذا ملكنا سرنا بمثل سيرة هؤلاء، وهو قوله تعالى:( ... وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) ).

وليس المراد بحكم (... أهل بيت لهم دولة... ) حُكم ( الأُسَر ) أو القبائل، بل المراد بهم الجماعة الذين يتَّخذون أيدولوجية مُعيَّنة في دولتهم، بقرينة قوله في الحديث: (... إذا ملكنا سرنا بمثل سيرة هؤلاء... )، فإنَّ مَن يقول ذلك إنَّما هم مثل تلك الجماعة، لا الحاكم القبلي، وهو يخلو حكمه من أيِّ هدف اجتماعي أو عادل، بحيث لا يكون قابلاً للمـُقارنة أساساً، وإنَّما عَبَّر الحديث الشريف بهذا التعبير بقانون:( كَلِّمْ الناس على قدر عقولهم ) .

وفي رواية أُخرى(١) ، عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (ع)، وأنَّه قال: ( ما يكون هذا الأمر - يعني دولة المهدي (ع) - حتى لا يبقى صنف من الناس إلاَّ وقد ولَّوا من الناس - يعني باشروا الحُكم فيهم - حتى لا يقول قائل: إنَّا لو ولِّينا لعدلنا. ثمَّ يقوم القائم بالحق والعدل ).

أقول: لأنَّهم لو قالوا ذلك بعد ظهور القائم المهدي (ع) فإنَّ جوابهم يكون واضحاً، وهو: أنَّكم حكمتم وفُضِّلتم في حلِّ مشاكل العالم، بل كان حُكمكم وظلمكم من جملة مشاكله وويلاته.

إذاً؛ فالتخطيط قائم على كشف الحلول المـُدَّعاة للعالم أمام الرأي العام العالمي، قبل تولِّي دولة العدل للحُكم ومُمارستها إيَّاه في الخارج... وإعطاء روح اليأس من تلك الحلول عالمياً، بشكل لا يؤمل معه وجود حلٍّ بشري جديد... كما هو المفهوم من الحصر الموجود في هذه الأخبار (... حتى لا يبقى صنف من الناس إلاَّ قد ولوا من الناس... )، المـُستفاد من الاستثناء بعد النفي.

وهذا معناه - بكل بساطة وصراحة - تنافي نظام دولة المهدي (ع) مع النُّظُم السابقة، وقيامها على إنقاضها وبعد انكشاف زيفها وبطلانها، وهل من المـُحتمل أن يتَّبع القائد المهدي - في دولة العدل المطلق - إحدى النُّظم التي بانَ زيفها وفشلها.

إذاً؛ فقد تبرهن عدم أخذ الإمام المهدي (ع) في دولته بشيء من النُّظم السابقة على ظهوره، واستغنائه بالعدل الإلهي المـُعدُّ لتطبيقه في دولته.

____________________

(١) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ٣٨٩ نقلاً عن غيبة النعماني.

٩٠

وسوف يشعر الرأي العام العالمي - بكل وضوح - بهذا الاستغناء، فإنَّ مَن يتَّخذ أحد هذه المبادئ الحاضرة مذهباً له وطريقة في الحياة، يستهدف - لا محالة - إمَّا الهدف الشخصي في الحصول على المال والشهرة و السعادة، أو الهدف العام في الدفاع عن الفقراء والمـُضطهَدين باعتقاده، وكلا هذين الهدفين يتحقَّق بأجلى مظاهره في دولة المهدي (ع)، على ما سمعناه مجملاً من كَثرة المال لدى كل الأفراد في عصره، وما سنسمعه من سائر التفاصيل في مُستقبل البحث.

إذاً؛ يكون بإمكان الهادفين في العالم أن يُحقِّقوا النتائج الجيِّدة، التي يعتقدونها لأهدافهم بنظام المهدي (ع)، ويتخلَّصوا - في نفس الوقت - من نقاط الضعف التي كانت فيها.

وبالنتيجة؛ فالعنوان العام لأيدولوجية دولة المهدي (ع) وهو الإسلام، بصفته النظام العادل الكامل، كما جاء به النبي الأعظم (ص)، ولا يمتُّ إلى النُّظم السابقة عليه بصِلَة.

٩١

٩٢

الفصل الخامس

التخطيط الإلهي لما بعد الظهور

كما يوجد لعصر ما قبل الظهور تخطيطه العام - وهو الذي شرحناه مُفصَّلاً في التاريخ السابق - يوجد لعصر ما بعد الظهور تخطيطه أيضاً.

وهذا القسم هو محلُّ الحديث الآن، فأنَّ التخطيط الإلهي العام لتكامل البشرية، لا يكون مُنقطعاً بحصول نتيجة التخطيط السابق، بل يكون مواكباً مع البشرية إلى نهايتها، بمقدار استحقاقها في وضعها العادل الجديد... وسيهدف عندئذ نتيجةً أبعد تمتُّ إلى عميق العدل والتربية البشرية بصِلَة.

فهذا التخطيط، وهو الامتداد الطبيعي السابق والموافق - أيضاً - للموازين الثابتة في الفلسفة الإسلامية القائلة: بأنَّ الله تعالى يُفيض نعمة الكمال على كلِّ موجود بقدر استحقاقه، فإذا كانت درجته من الكمال دانية كان استحقاقه مُنحصِراً في الرتبة الكمالية التي فوقها مباشرة، وإذا كانت درجة الموجود عالية في الكمال، كان استحقاقه لدرجة أعلى من الكمال مُتحقِّقاً، والله تعالى كريم مطلق، فيُفيض عليه الكمال الجديد، فإنَّه سيستحقُّ رُتبة أُخرى، وهكذا يسير في طريق الكمال اللا نهائي.

وإذا طبّقنا ذلك على محلِّ الكلام، نقول: إنَّ البشرية بعد اجتماع شرائط الظهور - طِبقاً للتخطيط السابق - تكون مُستحقَّةً لدرجة جديدة من الكمال، وهو تطبيق العدل الكامل فيها، بواسطة ظهور المهدي (ع).

وبتطبيق العدل تكون البشرية قد بلغت درجة أعلى من الكمال، تستحقُّ بعدها درجة أعلى، وهو عمق هذا العدل وترسُّخه، إلى أن تصل إلى استحقاق صفة ( العصمة ) حيث يوجد المجتمع المعصوم، كما سوف نُشير في مستقبل البحث.

٩٣

وبهذا يتبرهن فلسفيَّاً ما بعد الظهور...

إلاَّ أنَّ إنتاج هذا التخطيط لنتائجه النهائية، منوط ببقاء البشرية مدَّة كافية من الدهر؛ لكي تتربَّى على عُمق العدل ورسوخه، ولكي نصل في نهاية المطاف إلى الكمال الإنساني الأعلى.

وأمَّا إذا انتهت حياة البشرية جميعها، وقامت القيامة خلال زمن قصير ينسدُّ باب الترقِّي والتكامل بطبيعة الحال.

ومن هنا ينفتح احتمالان:

الاحتمال الأول: قصر عمر البشرية بعد الظهور، وتَحقُّق اليوم الموعود.

الاحتمال الثاني: بقاء البشرية لفترة طويلة من الدهر بعد ذلك.

ولكل من الاحتمالين مرجِّحاته - على ما سنذكر - على حين لم يكن للاحتمال الأول وجود في التخطيط السابق، باعتبار ضرورة إنتاجه لليوم الموعود، وذلك لأكثر من دليل:

الدليل الأول: كونه وعداً إلهيَّاً، والله لا يُخلف الميعاد؛ وذلك في قوله عز وجل:( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُم... ) (١)

الدليل الثاني: كونه غرضاً أصلياً في خَلق البشرية، ومن المـُستحيل أن يزول الشيء من الكون قبل أن يستوفي غرضه، وقد سبق في التاريخ السابق(٢) أن برهنَّا على كونه غرضاً، وسيأتي في الكتاب الآتي تركيزه بشكل أوسع وأعمق.

وهذا هو الذي أشارت إليه الأخبار من الفريقين.

فمنها: ما أخرجه النعماني في الغيبة(٣) ، بسنده إلى أبي هاشم الجعفري، قال: كنَّا عند أبي جعفر محمد بن علي الرضا (ع)، فجرى ذِكْرُ السفياني، وما جاء في الرواية من أنَّ أمره المحتوم. فقلت لأبي جعفر (ع): هل يبدو لله في المحتوم؟

قال: ( نعم ).

قلنا له: فنخاف أن يبدو في القائم.

فقال: ( إن القائم من الميعاد، والله لا يُخالف الميعاد ).

____________________

(١) النور: ٢٤/٥٥.

(٢) تأريخ الغيبة الكبرى ص٢٢٥.

(٣) ص١٤٢.

٩٤

ومنها: ما أخرجه أبو داود(١) ، عن زر، عن عبد الله، عن النبي (ص) قال: ( لو لم يبقَ من الدنيا إلاَّ يوم لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً منِّي - أو من أهل بيتي - يواطئ اسمه اسمي... ) الحديث.

وأخرج أيضاً(٢) ، عن علي (ع)، عن النبي (ص): ( قال: لو لم يبقَ من الدهر إلاَّ يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي... ) الحديث.

وهذه التأكيدات في الأخبار كثيرة ومُتضافرة، وكلّها دالّة على ضرورة تمخُّض التخطيط الإلهي السابق عن وجود اليوم الموعود، وعدم فناء البشرية قبله.

وأمَّا بالنسبة إلى التخطيط الموجود بعد الظهور، حيث يكون الوعد قد تحقَّق، والغرض الأساسي من خلق البشرية قد أُنجِز، فقد يبدو أنَّه لا حاجة لبقاء البشرية بعد ذلك، ولا دليل عليه.

وستأتي مُناقشة ذلك مُفصَّلة في القسم الثالث من هذا التاريخ، غير أنَّ الصحيح هو طول عمر البشرية؛ لأجل دليلين رئيسين:

الدليل الأول: أنَّنا فهمنا في التاريخ السابق(٣) من قوله تعالى:( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ... ) (٤) ، فهمنا: أنَّ الغرض الأساسي من خَلق البشرية هو إيجاد العبادة الكاملة في ربوعها، وفهمنا هناك(٥) من العبادة الكاملة وجود المجتمع الصالح، والدولة العالمية الصالحة.

فلو أنَّنا اقتصرنا على هذا المقدار من الفَهْم، لكان الغرض من خَلق البشرية مُتحقِّقاً بمُجرَّد تأسيس المهدي (ع) لدولته العالمية العادلة، ومعه؛ فقد يخطر في الذهن: أنَّ المقصود هو إيجاد هذا النوع العالي من العبادة، ولو في فترة قصيرة من الزمن، فلا بقى أيُّ دليل على استمرار البشرية بعد ذلك ردحاً طويلاً من الزمن، إن لم يكن ذلك مُستحيلاً؛ لأنَّ بقاء الشيء بعد استيفاء لأغراضه مُحال في الحكمة المـُطلقة.

____________________

(١) ج٢ ص٤٢.

(٢) المصدر والصفحة.

(٣) تاريخ الغيبة الكبرى ص٢٣٥.

(٤) الذاريات: ٥١/٥٦.

(٥) ص٢٢٤.

٩٥

لكنَّنا نريد في هذا الدليل أن نخطو خطوةً جديدةً في فهم هذه الآية، وهي: إنَّ المعنى الذي ذكرناه للعبادة، وإن كان مُهمَّاً ورئيسياً جدَّاً... إلاَّ أنَّه ليس نهائياً بحال، بل هناك مراتب أعلى من العبادة، تكون تلك المرتبة الأُولى مقدِّمة لها، وإعداداً لإيجادها، وكلُّها مُمكنة الحصول من البشريَّة، واتِّصفاها بها في المدى الطويل، كما سيتَّضح عند استعراضها.

وبطبيعة الحال، كما تصوَّرنا مرتبة من العبادة مُمكنة للبشرية، كانت مُندرجة في مدلول الآية الكريمة، لعدم وضع الآية أيَّ تحديد على مفهوم العبادة، فيكون إيرادها مُطلقة، دليلاً على إيراد العبادة المطلقة.

إذاً؛ فالغرض الأساسي من خلق البشرية أبعد بكثير من مُجرَّد وجود الدولة العالمية، وإنَّما وجِدت هذه الدولة العظيمة، وخُطِّطَ لها في تاريخ البشرية الطويل، من أجل هدف أعلى وأمامها، ويكفينا الآن أن نُعبِّر عنه بـ(العبادة المطلقة ) لخالق الكون، حتى يأتي في مُستقبل البحث ما يُلقي الأضواء الكافية على هذا المفهوم.

إذاً؛ فوجود الدولة العالمية، لا يعني نَجاز الغرض الأقصى من خلق البشرية، وتحقُّقه في عالم الوجود، بل هو لم يوجد بتأسيس هذه الدولة، ولا زال أمام البشرية الكثير لكي تصل إليه.

إذاً؛ فلا معنى لقُصر عُمر البشرية بعد تأسيس هذه الدولة، بل لا بدَّ أن تبقى حتى تستوفي غرضها الأعمق؛ إذ يستحيل تخلُّف الأغراض في الحكمة الإلهية الأزلية.

الدليل الثاني: أنَّه يُستبعد أن يكون زمان النتيجة أقصر بكثير من زمان المـُقدِّمات.

فإنَّنا عرفنا كم من الزمان يستغرق إعداد البشرية لليوم الموعود... وهو كل عمرها منذ أول وجودها إلى حين نَجاز ذلك اليوم العظيم، وهو ما لا يقلُّ عن عِدَّة الآف من السنين، إن لم يكن أكثر من ذلك، كما عليه أنصار الفكر الحديث، وقد استوعبت هذه المدَّة ملايين الحوادث من تضحيات البشرية وآلامها ومظالمها، ومن جهود الأنبياء والأولياء والمصلحين والشهداء، ومن ظروف التمحيص الإلهي، وما أدَّته البشرية من خيرات، وما ارتكبته من جرائم، فإنَّ كل ذلك، كان مُقدِّمة لليوم الموعود، وإعداداً لحصول شرائطه المطلوبة التي لا يمكن تحقُّقه بدونه، كما عرفنا من التخطيط الإلهي السابق على الظهور.

وقد عرضنا ذلك في التاريخ السابق مُفصَّلاً.

____________________

(١) انظر الفصل الخاص بالتخطيط الإلهي ص٢٣٣.

٩٦

فهل من المعقول أن تستمرَّ المقدَّمات آلافاً من السنين، ثمَّ لا تكون النتيجة غير تسع سنوات أو أقلَّ، كما تدَّعي الفكرة التقليدية، إنَّ هذا في غاية البُعد بحكم العقل؛ فإنَّه يعني بكل وضوح استخدام الأجيال البشرية المـُتطاولة في سبيل إسعاد جيل أو نصف جيل!! إنَّ هذا قبيح عقلاً ومُستحيل في الحكمة المطلقة الأزلية.

وتبقى هذه الاستحالة سارية المفعول، ما لم تصل النتائج - أعني أجيال ما بعد الظهور - إلى حدٍّ من الكثرة، بحيث تكون التضحية بالأجيال السابقة في سبيلها، من قبيل التضحية بالمصلحة الخاصة في سبيل المصلحة العامة، أو بالمصلحة القليلة في سبيل المصلحة الكبيرة، فليكن القارئ مُتذكِّراً لذلك، حتى يأتي موضع الحاجة منه وإيضاحه.

وإذا تمَّ البرهان على طول عمر البشرية بعد الظهور، وعدم وصولها إلى هدفها الأسمى بمُجرَّد حصوله.

إذاً؛ فمن اللازم التخطيط لهذا الهدف خلال هذا العمر، إذ لا يوجد شيء مُهمل في هذا الكون، ولا بدَّ من إعداد البشرية بالشكل الذي يُمكنها الوصول إلى ذلك الهدف، كما كانت قد أُعدَّت للتشرُّف بلقاء اليوم الموعود.

ومعه؛ يكون قد تبرهن هذا التخطيط وثبت ثبوتاً كاملاً، ولا بدَّ لنا فيما يلي أن نُعطي المؤدَّى العام لهذا التخطيط، فنتعرَّف على صياغته وخطواته، كما تعرَّفنا على صياغة وخطوات التخطيط السابق عليه.

ما بين التخطيطن:

إذا كان المقصود من التخطيط الإلهي السابق، هو التوصُّل إلى ظهور المهدي (ع) وحسب.

إذاً، يكون هذا التخطيط مُنتهياً في لحظة الظهور.

إلاَّ أنَّ التخطيط الجديد سوف لن يبدأ بلحظة الظهور بطبيعة الحال؛ لأنَّ تخطيط للعالم الذي تمَّ فيه تطبيق العدل للسير باتِّجاه (العبادة المطلقة)، وهذا التطبيق لا يتمُّ في اللحظة الأُولى... بل يحتاج إلى جهود عميقة وواسعة من قِبَل القائد المهدي (ع) وأصحابه المـُخلصين، في غزو العالم عسكرياً وثقافياً، والسيطرة عليه تماماً، فإذا تمَّت وأثمرت هذه الجهود، يكون التخطيط قد بدأ.

ومن ثُمَّ نواجه في فَهْم الموقف ثلاث أُطروحات مُحتملة:

الأُطروحة الأُولى: أنَّ هناك ما بين التخطيطين، فترة من الزمن محدودة، ذات تخطيط خاص بها، يستهدف سيطرة القائد المهدي (ع) على العالم، واستتباب الدولة العالمية

٩٧

العادلة...

حتى ما إذا أثمرت جهوده، وتمَّ تطبيق العدل الكامل على العالم، كان أول يوم لذلك، وأول يوم لتطبيق العام الجديد.

الأُطروحة الثانية: إنَّ الأُطروحة الأُولى لا تخلو من تسامح في التصوُّر؛ فإنَّ ظهور الإمام المهدي (ع) لم يُخطَّط لإيجاده بمُجرَّده، بل خُطِّط له من أجل تأسيس الدولة العالمية العادلة، وقد كانت شرائط الظهور التي عرفناها، وبرهنَّا عليها في التاريخ السابق(١) .

شرائط لهذا الهدف... وإنَّما كانت شرائط للظهور نفسه، باعتبار كونه المـُقدّمة الرئيسية الأخيرة له أيضاً.

إذاً؛ فإنتاج التخطيط السابق كاملاً لا يكون إلاَّ بتأسيس الدولة العالمية، ومعه تكون جهود الإمام المهدي (ع) وأصحابه للسيطرة على العالم داخلة في التخطيط السابق نفسه، باعتبارها الحلقة الأخيرة لهذه النتيجة الكبيرة

فإذا تمَّ تطبيق العدل وتأسيس الدولة العادلة، يكون التخطيط السابق قد انتهى.

وبلحظة البدء بتطبيق العدل تكون بداية التخطيط الثاني، ولا يكون بين التخطيطين فاصل زماني ملموس.

الأُطروحة الثالثة: إنَّ فترة السيطرة على العالم بالعدل والجهود المبذولة في هذا السبيل، داخلة في التخطيط الجديد، لا في التخطيط السابق.

وذلك بأن نفترض أنَّ الهدف من التخطيط السابق هو الظهور نفسه، بصفته كاشفاً عن القائد العالمي المؤسِّس لدولة العدل الكبرى، بهذا ينتهي هذا التخطيط عند الظهور، ولا معنى لبقائه بعد تحقُّق نتيجته.

ويبدأ التخطيط الجديد من حين الظهور فصاعداً، وتكون فترة السيطرة على العالم بالعدل مُندرجة فيه، باعتبارها مُقدِّمة لهدفه، فإنَّه يستهدف إيجاد (العبادة المطلقة) في ربوع البشرية، وهذا الهدف يحتاج إلى مُقدِّمته الرئيسية، وهي إيجاد الدولة العالمية العادلة، وهذه الدولة تحتاج إلى السيطرة على العالم بطبيعة الحال في أول تأسيسها، ومن هنا تكون الجهود المبذولة في هذه السيطرة واقعة في هدف التخطيط الثاني، فتكون مندرجة فيه. وبالرغم من أنَّ ما عرضناه خلال الأطروحة الثانية كافٍ للقول: بأنَّها هي

____________________

(١) تأريخ الغيبة الكبرى ص٤٧٦ وما بعدها.

٩٨

الصحيحة، وإلاَّ أنَّ نتيجة هذا البحث تبدو وكأنَّها مجرد اصطلاح؛ فإنَّه سواء كانت فترة السيطرة على العالم بالعدل مُندرجة في التخطيط السابق أم في التخطيط اللاحق، فإنَّها واقعة في خطِّ تكامل البشرية العام الذي لا بدَّ منه باستمرار، وإنَّما عقدنا هذا البحث لأجل إيضاح جوانب الفكرة لا أكثر.

٩٩

الأُسُس العامة

لتخطيط ما بعد الظهور

إذا أردنا التعرُّف على أُسس وتفاصيل التخطيط العام لما بعد الظهور، لا بدَّ لنا من التفاتة إلى ما سبق أن قلناه في التمهيد، من أنَّه يتعذَّر على الباحث الذي يعيش الفترة السابقة على الظهور أن يُدرك العُمق الحقيقي للاتِّجاهات القانونية والفكرية العميقة، التي تكون سائدة بعد الظهور، وعند تطبيق العدل الكامل على العالم.

ومن هنا؛ ينبغي أن تبقى التفاصيل والتفريعات مصونة في الغيب إلى حين تحقُّقها، وإنَّما غاية جُهد الباحث أن يُدرك الخطوط العريضة، والقضايا العامَّة المهمَّة التي يمكن الاطِّلاع عليها في حدود الثقافة الإسلامية الموجودة في العصر الحاضر.

وبذلك نعرف إحدى نقاط الاختلاف بين التخطيطين، فإنَّ التخطيط الإلهي السابق مُتَّخذ للسير بالبشرية الماضية والحاضرة إلى نتائجها المطلوبة...

وبتعبير أوضح: أنَّنا - بحسب وجودنا في هذا الزمن - نعيش التخطيط الساري المفعول فيه.

ومن هنا يكون اطِّلاعنا على تفاصيل هذا التخطيط مُمكناً ومتيسِّراً إلى حدٍّ كبير، عن طريق القواعد العامة المعروفة، وعن طريق ما هو مُشاهد بالوجدان ممَّا قد تحقَّق من حلقاته وتفاصيله، كما سبق أن عرضنا ذلك مُفصَّلاً في التاريخ السابق.

وأمَّا تخطيط ما بعد الظهور، فيحتوي على عدِّة نقاط ضعف في التعرُّف عليه:

أولاً: بُعْدنا الزماني عنه، بحيث لا يمكن مُشاهدته بالوجدان، ولا أن يصل منه شاهد عيان.

ثانياً: إنَّنا نقتصر - في الغالب - في التعرُّف عليه على القواعد العامة، وهي لا تُعطي إلاَّ العموميات، ولا يمكنها الوصول إلى التفاصيل.

ثالثاً: إنَّنا نجهل القوانين الجديدة والنُّظم التي ستكون مُعلنة في ذلك العصر، الأمر

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679