مصارع الشهداء و مقاتل السعداء

مصارع الشهداء و مقاتل السعداء0%

مصارع الشهداء و مقاتل السعداء مؤلف:
المحقق: الشيخ علي آل كوثر
الناشر: مجمع إحياء الثقافة الإسلاميّة
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 385

مصارع الشهداء و مقاتل السعداء

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ سلمان بن عبد الله آل عصفور
المحقق: الشيخ علي آل كوثر
الناشر: مجمع إحياء الثقافة الإسلاميّة
تصنيف: الصفحات: 385
المشاهدات: 34877
تحميل: 5760

توضيحات:

مصارع الشهداء و مقاتل السعداء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 385 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 34877 / تحميل: 5760
الحجم الحجم الحجم
مصارع الشهداء و مقاتل السعداء

مصارع الشهداء و مقاتل السعداء

مؤلف:
الناشر: مجمع إحياء الثقافة الإسلاميّة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

المصرع الرابع

وهو مصرع الحسن صلوات الله وسلامه عليه

تنافسوا يا ذوي العقول في المراتب العالية، وتفاخروا بإدراك المفاخر في المنازل السامية، وتيقّنوا أنّه لا يهب الله(١) المراتب إلاّ لمن له أهليّة حلولها، ولا يسكن رفيع الجنان إلاّ من هو قابل لنزولها، فهي دار تنافس فيها الموحّدون وتسابق عليها المتّقون، وهي مسكن المساكين لا مأوى الجبّارين، ومحلّ العارفين لا منزل الجاهلين، وسيب الملك الأفضل يناله الأمثل فالأمثل.

ليس ينال القرب إلاّ فتىً

أرقّ طول الليل أجفانه

كالسيف لا يفري الطلى حدّه

إلاّ إذا فارق أجفانه

فكلّ من أشرقت عليه الهداية نورها، وأزاحت عنه غشاوة الشكوك وديجورها، طوّقت العناية جيده بأطواق الوداد، وقيّدت أقدامه بأغلال الإنقياد، وصرفت بصر معرفته تلقاء جمال المحبوب، وأصمّت أذن بصيرته عن سماع غير نداء المطلوب.

فلهذه المرتبة الجليلة سمت نفوس العارفين، وعلى إدراك هذه المنزلة النبيلة تفاخرت أرباب اليقين، ولذلك التذّوا بعناق البيض البواتر في تشاجر المضامير، وكرهوا إلتزام بيض المناحر في ساميات المقاصير، وضاجعوا ميل الرماح، وتجافوا عن مغازلة الخود الرداح، فكان صرف السموم القتّالة في لهامهم، صرف

__________________

(١) هذا هو الظاهر، وفي النسخة: « وتيقّنوا إنّما يهب الله ».

٦١

القرقف(١) الزلال حال ممساهم.

وهذا شأن الحبّ وفتكاته، وديدن العشق وسطواته.

وكذا العُلى لا يستباح نكاحها

إلاّ بحيث تطلق الأعمار

ما النّاس سوى قوم عرفوك

وغيرهم السمج الهمج

دخلوا فقراء إلى الدنيا

وكما دخلوا منها خرجوا

يا مدّعياً لطريقتهم

أقصر فطريقك منعوج

تهوى ليلى وتنام الليل

وحقّك ذا طلب سمج

روي في كتابالمجالس عن سلمان الفارسي أنّه قال: ولدت فاطمة الزهراء بالحسنعليهما‌السلام في يوم الثلثاء نصف رمضان سنة ثلاث من الهجرة في المدينة، وجاءت به إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في اليوم السابع من مولده، ملفوفاً في خرقة من حرير الجنة، فسمّاه حسناً، وعقّ كبشاً أملحاً، وأعطى القابلة وركاً وديناراً، وحلق رأسه، وطلاه بالخلوق، وتصدّق بوزن الشعر ورقاً(٢) .

وروى جماعة، منهم أحمد بن صالح التميمي، عن عبد الله بن عيسى، عن جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام أنه كان يقول:« كان الحسن بن علي عليهما‌السلام أشبه النّاس برسول الله خلقاً وخُلقاً وهدياً وسمتاً » (٣) .

__________________

(١) القرقف: الخمر، والماء البارد الصافي. ( المعجم الوسيط ).

(٢) ورواه الشيخ المفيد في الإرشاد: ٢: ٥ في تاريخ ولادتهعليه‌السلام ، وعنه المجلسي في البحار: ٤٣: ٢٥٠ ح ٢٦.

ورواه الكليني في الكافي: ٦: ٣٣ بعدّة أسانيد، والصدوق في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢: ٢٩ ح ٥ من الباب ٣١، والإربلي في كشف الغمّة: ٢: ١٤١ في ولادته عليه‌السلام ، وفي ص ١٧٢ في علمه عليه‌السلام ، وعلي بن يوسف بن المطهر الحلي في العدد القويّة: ص ٢٩ برقم ١٦، والطبرسي في إعلام الورى: ٢ ص ٢٠٥ في الباب الأوّل في ذكر الحسن بن علي عليهما‌السلام .

(٣) ورواه الشيخ المفيد في الإرشاد: ٢: ٥ في تاريخ ولادتهعليه‌السلام ، وفي آخره: « روى ذلك

٦٢

وفي الأمالي أيضاً عن سعيد بن [ ال‍ ] مسيّب، عن ابن عبّاس قال: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان جالساً ذات يوم وعنده عليّ وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ، فقال:« اللهمّ إنّك تعلم إنّهم أهل بيتي وأعزّ الخلق عَلَيّ، فأحبب من أحبّهم وأبغض من أبغضهم، ووال من والاهم وعاد من عاداهم، وأعن من أعانهم، واجعلهم مطهّرين من كلّ رجس معصومين من كلّ ذنب، وأيّدهم بروح القدس » .

ثمّ التفت إلى عليّعليه‌السلام وذكر حديثاً طويلاً إلى أن قال:« فأمّا الحسن والحسين فإنّهما إبناي وريحانتاي، وهما سيّدا شباب أهل الجنّة، فليكونا أشدّ عليك من سمعك وبصرك » .

ثمّ رفع يده إلى السماء وقال:« اللهمّ أشهد أنّي محبّ لمن أحبّهما، ومبغض لمن أبغضهما » .

وروي في إرشاد المفيد أنّ فاطمةعليها‌السلام دخلت على أبيها في شكواه فقالت:« يا أبت، هذان ابناك الحسن والحسين، فورّثهما شيئاً » . فقال لها:« أما الحسن فله هديي وسؤددي، و [ أما الحسين فإنّ له ] جودي وشجاعتي (١) »

__________________

جماعة، منهم: معمّر، عن الزهري، عن أنس بن مالك قال: لم يكن أحد أشبه برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الحسن بن عليعليهما‌السلام ». ورواه عنه المجلسي في البحار: ٤٣: ٣٣٨ ح ١٠.

ورواه الإربلي في كشف الغمّة: ٢: ١٤٢ في ولادتهعليه‌السلام ، والطبرسي في إعلام الورى: ص ٢١١، وعلي بن يوسف بن المطهر الحلّي في العدد القوية: ص ٢٩ برقم ١٦.

ورواه البخاري في صحيحه: ٥: ٣٣، والترمذي في السنن: ٥: ٦٥٩ ح ٣٧٧٦، وابن عساكر في ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام من تاريخ دمشق: ص ٢٨ ح ٤٨ وقبله وبعده، والحاكم النيسابوري في المستدرك: ٣: ١٦٨.

(١) رواه المفيد في الإرشاد: ٢: ٦ بإسناده عن أبي رافع قال: أتت فاطمة بابنيها الحسن والحسين إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في شكواه الّتي توفّي فيها، فقالت: يا رسول الله، هذان ابناك ورّثهما شيئاً. فقال: فأمّا الحسن فإنّ له هديي وسؤددي، وأما الحسين فإنّ له جودي

٦٣

وروي في الكتاب المذكور بإسناده عن حذيفة بن اليمان قال: بينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في جبل ـ أظنّه حراء أو غيره ـ ومعه أبوبكر وعمر وعثمان وعليّ وجماعة من المهاجرين والأنصار، وأنس حاضر لهذا الحديث، وحذيفة يحدّث به، إذ أقبل الحسن بن عليعليهما‌السلام يمشي على هدوء ووقار، فنظر إليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال:« إنّ جبرائيل يهديه، وميكائيل يسدّده، وهو ولدي، والظاهر من نفسي، وضلع من أضلاعي، هذا سبطي وقرّة عيني، بأبي هو » .

وقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقمنا معه وهو يقول:« أنت تفّاحتي، وأنت حبيبي ومهجة قلبي » . فأخذ بيده فمشى معه حتّى جلس، وجلسنا حوله ننظر إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يرفع بصره عنه، ثمّ قال:« إنّه يكون بعدي هادياً مهدياً، هذا هدية من ربّ العالمين لينبئ عنّي، ويعرف الناس آثاري، ويحيي سنّتي، ويتولّي أموري في فعله، ينظر الله إليه فيرحمه، رحم الله من عرف له ذلك، وبرّني فيه، وأكرمني فيه » .

فما قطع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كلامه حتّى أقبل إلينا أعرابي يجرّ هراوة له، فلمّا نظر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إليه قال:« قد جاءكم رجل يكلّمكم بكلام غليظ تقشعرّ منه جلودكم، وإنّه يسألكم عن أموره، وإنّ لكلامه جفوة » .

فجاء الأعرابي فلم يسلّم وقال: أيّكم محمّد. قلنا: وما تريد؟

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« مهلاً » .

فقال: يا محمّد، لقد كنت أبغضك ولم أرك، والآن فقد ازددت لك بغضاً!

__________________

وشجاعتي.

ورواه الصدوق في الخصال: ص ٧٧ ح ١٢٢ و١٢٣، والخوارزمي في مقتل الحسين عليه‌السلام : ١: ١٠٥، وابن عساكر في ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام من تاريخ دمشق: ص ١٢٣ ح ١٩٧، والكنجي في كفاية الطالب: ص ٤٢٤ باب ٨، وابن حجر لفي الإصابة: ٤: ٣١٦، والطبرسي في إعلام الورى: ص ٢١٠، والإربلي في كشف الغمّة: ٢: ١٤٢ عند ذكر ولادة الحسن عليه‌السلام ، والفتال النيسابوري في روضة الواعظين: ص ١٣٥، والعلاّمة المجلسي في البحار: ٤٣: ٢٦٣ ح ١٠.

٦٤

قال: فتبسّم رسول الله وغضبنا لذلك وأردنا بالأعرابي إرادة، فأومأ إلينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن اسكتوا، فقال الأعرابي: يا محمّد، إنك تزعم أنك نبيّ، وأنّك قد كذبت على الأنبياء! فهات من برهانك شيئاً.

فقال له:« يا أعرابي، وما يدريك » ؟

قال: فخبّرني ببرهانك.

قال:« إن أحببت خبّرك عضو من أعضائي فيكون ذلك آكد لبرهاني » .

قال: أو يتكلّم العضو.

قال:« نعم، يا حسن قم » .

فازدرى الأعربي نفسه فقال: هو ما يأتي به ويقيم لنا صبيّاً ليكلّمني.

قال:« إنّك ستجده عالماً بما تريد » .

فابتدره الحسنعليه‌السلام وقال:« مهلاً يا أعرابي.

ما سألت غبيّاً سألت وابن غبيّ

بل فقيهاً إذاً وأنت الجهول

إن تكن قد جهلت يأويك قدري

فلديّ الجواب يا ذا السؤال

ولديّ العلوم من عالم الغيب

وارثاً أسدى إلى الرسول(١)

لقد بسطت لسانك، وعدوت طورك، وخادعتك نفسك، غير أنّك لا تبرح حتّى تؤمن إن شاء الله تعالى » .

فتبسّم الأعرابي وقال: هيه.

فقال الحسنعليه‌السلام :« نعم، اجتمعتم في نادي قومك وتذاكرتم ما جرى بينكم

__________________

( ) أي احتقره الأعرابي لصغر سنّه.

(١) في العدد القويّة بدل البيتين الأخيرتين:

فإن تك قد جهلت فإنّ عندي

شفاء الجهل ما سئل السؤول

وبحراً لا تفسّحه الدواني

تراثاً كان أورثه الرسول

٦٥

على جهل وخرق منكم، فزعمتم أنّ محمّداً لصبور(١) والعرب قاطبة تبغضه ولا طالب له بثاره، وزعمت أنّك قاتله، وكان في قومك مؤونته، فحملت نفسك على ذلك، وقد أخذت قناتك بيدك تؤمّه تريد قتله، فعسر عليك مسلكك وعمي عليك بصرك، وأبيت إلاّ ذلك، فأتينا خوفاً من أن يشتهر أمرك، وإنّك إنّما جئتنا بخير يراد بك.

وأنبّئك عن سفرك، خرجت في ليلة طخياء إذ عصفت ريح شديدة اشتدّ منها ظلماؤها وأظلمت سماؤها وأعصر سحابها، فبقيت مُحر نجماً كالأشقر إن تقدّم نحر وإن تأخّر عقر، لا تسمع لواطي حسّاً ولا لنافخ نار جرساً، تراكمت عليك غيومها، وتوارت عنك نجومها، فلا تهتدي بنجم طالع، ولا بعلم لامع، تقطع محجة، وتهبط لجّة، في ديمومة قفر، بعيدة العقر، مجحّفة بالسفر، إذا علوت مصعداً ازددت بعداً، الريح تخطفك، والشوك تخبطك، في ريح عاصف، وبرق خاطف، قد أوحشك آكامها، وقطعتك سلامها، فأبصرت فإذا أنت عندنا، فقرّت عينك وظهر دينك(٢) ، وذهب أنينك » .

قال: من أين قلت يا غلام هذا، كأنّك قد كشفت عن سوائد قلبي، ولقد كنت كأنّك شاهدتني، وما خفي عليك شيء من أمري، وكأنه علم الغيب!

ثمّ قال له: وما الإسلام؟

فقال الحسنعليه‌السلام :« الله أكبر، أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله » .

فأسلم وحسن إسلامه، وعلّمه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله شيئاً من القرآن، فقال: يا رسول الله، أرجع إلى قومي فأعرّفهم ذلك، فأذن له، فانصرف ورجع ومعه من

__________________

(١) لعل الصحيح: « لصنبور »، والصنبور بمعنى الأبتر ومن لا عقب له، وأصل الصنبور سعفة تنبت في جذع النخلة لا في الأرض، وقيل: هي النخلة المنفردة الّتي يدقّ أسفلها. أراد أنّه إذا قطع انقطع ذكره كما يذهب أثر الصنبور، لأنّه لا عقبل له. ( هامش العدد القويّة ).

(٢) في العدد القوية: « رينك ».

٦٦

قومه جماعة، فدخلوا في الإسلام.

فكان النّاس إذا نظروا إلى الحسنعليه‌السلام قالوا: لقد أعطي ما لم يعط أحد من النّاس(١) .

فلا بدع ولا عجب، ولا غرو ولا مستغرب، فهو غصن أيكة النبوّة، ومصباح عرصة الفتوّة، وثمرة شجرة الرسالة ورذاذ(٢) سحاب الدلالة، وأصل الفخر والجلال، ومظهر الشرف والكمال، وينبوع عين اللاهوت، وجذوة مقام الناسوت، ومسند صدر الملكوت، وصدر مسند الدسوت، ولله درّ من قال من الرجال:

صبراً على مضض الزمان فإنّما

شيم الزمان قطيعة الأمجاد

نصبت حبائله لآل محمّد

فاغتالهم صرعى بكلّ بلاد

بانوا فعادوني الغرام وعادني

طول السقام وملّني عوّادي

رحلوا فلا طيف الخيال مواصل

جفني ولا جفت الهموم وسادي

ويلاه ما للدهر فوّق سهمه

نحوي وهزّ عليّ كلّ حداد

أترى درى أن كنت من أضداده

حتّى استشار فكان من أضدادي

فهنيئاً لمن فاز بمعلّى ولاهم، ومرئياً لمن نهل من حياض هواهم، فهم والله الجنن الواقية، من النار الحامية، وحبّهم والله الوسائل الوثيقة، لدخول الجنان الأنيقة، بهم تمّت النعم وكمل الدين المحترم، وبهم عرف الواجب، وميّز السنون والراتب، وفي أبياتهم نزل القرآن، وتحت أسجفتهم تلي وحي الرحمان، وبهم تاب الله على آدم إذ عصاه، وأعاده لجنة المأوى واجتباه.

__________________

(١) رواه رضي الدين علي بن يوسف بن المطهر الحلي في العدد القويّة: ص ٤٢ ح ٦٠ من اليوم الخامس عشر، وعنه المجلسي في البحار: ٤٣: ٣٣٣ ح ٥ من الباب ١٦ من تاريخ الإمام الحسنعليه‌السلام : « باب مكارم أخلاقه وعلمه وفضلهعليه‌السلام ».

(٢) الرّذاذ: المطر الضعيف أو الساكن الدائم الصغير القطر كأنّه الغبار. ( المعجم الوسيط )

٦٧

روي في كتابالاحتجاج أنّه وفد الحسن بن عليعليه‌السلام على معاوية، فحضر مجلسه وإذا عنده جماعة من بني أميّة، وهم مروان بن الحكم والمغيرة بن شعبة والوليد بن عقبة وعتبة بن أبي سفيان لعنهم الله أجمعين، ففخر كلّ واحد على بني هاشم وذكروا أشياء إساءة للحسنعليه‌السلام ، وبلغت منه مبلغاً عظيماً فقال الحسنعليه‌السلام :« أنا شعبة من خير الشعب، آبائي أكرم العرب، لنا الفخر والنسب، والسماحة عند الحسب، من خير شجرة، أنبتت فروعاً نامية، وأثماراً زاكية، وأبداناً قائمة، فيها أصل الإسلام، وعلَم النبوّة، فعلَونا حين شمخ بنا الفخر، واستطلنا حين امتنع بنا العزّ، بحور زاخرة لا تُنزف، وجبال شامخة لا تقهر » .

فقال مروان: مدحت نفسك وشمخت بأنفك، هيهات يا حسن، نحن والله الملوك السادة، والأعزّة القادة، لا تبجحنّ، فليس لك عزّ مثل عزّنا ولا فخر كفخرنا. ثمّ أنشأ يقول:

شفينا أنفسنا طابت وقورا

فنالت عزّها في من يلينا

وأبنا(١) بالعدالة حيث أُبنا

وأبنا بالملوك مقرّنينا

ثمّ تكلّم المغيرة بن شعبة فقال: نصحت لأبيك فلم يقبل النصح، لولا كراهيّة قطع القرابة لكنت في جملة أهل الشام، فكان يعلم أبوك أنّي أصدر الورّاد عن مناهلها بزعارة(٢) قيس وحلم ثقيف وتجاربها للأمور على القبائل.

فتكلّم الحسنعليه‌السلام فقال:« يا مروان، أجبناً وخوراً، وضعفاً وعجزاً؟ أتزعم أنّي مدحت نفسي وأنا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وشمخت بأنفي وأنا سيّد شباب أهل الجنة، إنّما يبذخ ويتكبّر ويلك من يريد رفع نفسه، ويتبجّح (٣) من يريد الاستطالة، فأمّا نحن فأهل بيت الرحمة، ومعدن الكرامة، وموضع الخيرة، وكنز

__________________

(١) من آب يؤب: أي رجع.

(٢) الزعارة ـ بتشديد الراء ـ: شراس الخلق، والزعرور: سيّئ الخلق. ( الصحاح: ٢: ٦٧ ).

(٣) البجح: الفرح، وبجحته فتبجح: أي فرحته ففرح. ( مجمع البحرين ).

٦٨

الإيمان، ورُمح الإسلام، وسيف الدين، إلاّ تصمت ـ ثكلتك أمّك ـ قبل أن أرميك بالهوائل، وأسمك بميسم تستغني به عن اسمك؟

فأمّا إيابك بالنهاب والملوك، أفي اليوم الّذي ولّيت فيه مهزوماً وانجحرت مذعوراً فكانت غنيمتك هزيمتك، وغدرك بطلحة حين غدوت به فقتلته، قبحاً لك ما أغلظ جلدة وجهك »!

فنكّس مروان رأسه، وبقي المغيرة مبهوتاً، فالتفت إليه الحسنعليه‌السلام فقال: « [ يا ] أعور ثقيف، ما أنت من قريش فأفاخرك، أجهلتني ويحك وأنا ابن خير الإماء وسيّدة النساء، غذانا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله  بعلم الله تبارك وتعالى، فعلّمنا تأويل القرآن ومشكلات الأحكام، لنا العزّة الغلبا، والكلمة العليا، والفخر والسنا، وأنت من قوم لم يثبت لهم في الجاهلية نسب، ولا لهم في الإسلام نصيب، عبد آبق، ما له والافتخار عند مصادمة الليوث ومجاحشة الأقران، نحن السادة، ونحن المذاويد القادة، نحمي الذمار، وننفي عن ساحاتنا العار، وأنا ابن نجيبات الأبكار.

ثمّ أشرت وزعمت [ إلى ] وصيّ خير الأنبياء، وكان هو بعجزك أبصر، وبخورك(١) أعلم، وكنت للردّ عليك منه أهلاً، لو غرك(٢) في صدرك، وبدوّ(٣) الغدر في عينك، هيهات لم يكن ليتّخذ المضلّين عضداً.

وزعمت [ لو ] أنّك كنت بصفين بزعارة قيس وحلم ثقيف، فبما ذا ثكلتك أمّك بالعجز(٤) عند المقامات؟ وفرارك عند المجاحشات؟ أما والله لو التفّت عليك من أمير المؤمنين عليه‌السلام الأشاجع (٥) ، لعلمت أنه لم تمنعه منك الموانع، ولقامت عليك

__________________

(١) الخور: الضعف.

(٢) الوَغَر ـ محركة ـ: الحقد والضغن، والعداوة والتوقّد من الغيظ. ( مجمع البحرين ).

(٣) بدا بُدُوّاً وبداءاً وبُدوءاً وبَداءةً: ظهر.

(٤) في المصدر: « أبعجزك ».

(٥) الأشاجع: هي مفاصل الأصابع، واحدها أشجع. ( النهاية: ٢: ٤٤٧ ).

٦٩

المرنّات(١) الهوالع(٢) .

وأما زعارة قيس، فما أنت وقيساً؟ إنما أنت عبد آبق [ فثقف ] فتسمّى(٣) ثقيفاً، فاحتل لنفسك من غيرها، فلست من رجالها، أنت بمعالجة الشرك(٤) وموالج الزرائب(٥) أعرف منك بالحروب.

فأمّا الحلم، فأيّ الحلم عند العبيد القيون، ثمّ تمنّيت لقاء أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فذاك والله من قد عرفت أسد باسل، وسمّ قاتل، لا تقاومه الأبالسة عند الطعن والمخالسة(٦) ، فكيف ترومه الضبعان، وتتناوله الجعلان، بمشيتها القهقرى.

وأمّا وصلتك فمنكولة، وقرابتك فمجهولة، وما رحمك منه إلاّ كبنات الماء من خشفان الضبا، بل أنت أبعد منه نسباً ».

فوثب المغيرة، والحسنعليه‌السلام يقول:« عذرنا من بني أميّة أن تجاوزنا بعد مناطقة القيون ومفاخرة العبيد » .

فقال معاوية: ارجع يا مغيرة، هؤلاء بنو عبد مناف، لا تقاومهم الصناديد، ولا تفاخرهم المذاويد. ثمّ أقسم على الحسنعليه‌السلام بالسكوت، فسكت(٧) .

إن فارقت بيضهم في يوم ملحمة

أجفانها غمدت في الهام والقمم

متى سموا صهوات الجرد حقّ بهم

مديح نظم قديم في نظيرهم

كأنّهم في ظهور الخيل نبت ربى

من شدّة الحزم لا من شدّة الحزم

من آل هاشم من سادوا الأنام ومن

شادوا عماد المعالي في بيوتهم

__________________

(١) الرنين: الصوت، والمرنّات: البواكي الصائحات عند المصيبة. ( النهاية: ٣: ٢٧١ ).

(٢) الهلع: العجزع. ( المصباح: ٢: ٣٥٣ ).

(٣) في المصدر: « فسمّي ».

(٤) الشرك ـ بالتحريك ـ: حبالة الصائد. ( مجمع البحرين ).

(٥) الزرب والزريبة: حصيرة للغنم من خشب. ( الصحاح: ١: ١٤٢ ).

(٦) الخلسة: ما يؤخذ سلباً ومكابرة.

(٧) رواه الطبرسي في الاحتجاج: ج ٢ ص ٤٥ رقم ١٥١، وعنه المجلسي في البحار: ٤٤: ٩٣ باب ٢٠ ح ٨.

٧٠

أن يتركوا حقّهم طوعاً لسيّدهم

فصاحب الأمر قاض في حقوقهم

فسوف يولى العدا ضرباً بمخدمة

ويخضب الأرض من جاري نجيعهم

فتشتفي أنفس قد مسّها نصب

من النواصب من عرب ومن عجم

وفي كتاب الإرشاد للمفيد مرسلاً قال: روي أنّه لمّا استقرّ الصلح بين الحسنعليه‌السلام وبين معاوية ـ لعنه الله ـ، خرج الحسنعليه‌السلام إلى المدينة، كاظماً غيظه، لازماً منزله، منتظراً لأمر ربه عزّ وجلّ، إلى أن تمّ لمعاوية عشر سنين من إمارته، وعزم للبيعة على ابنه يزيد، فسعى ذلك العجل الرجيم في إطفاء نائرة الحسنعليه‌السلام من الوجود، فبذل في ذلك المجهود، وتبدّل بالنحوس عن السعود، وأظهر تلك الأغلال والحقود، فبلغ به الرأي الفاسد المبعد من رحمة الله والمطرود، حيث لم يتمكّن من قتلهعليه‌السلام جهراً لما جرى من الإيمان والعهود، بأن يقتله سرّاً، وأن يزهق نفسه المقدّسة غدراً، فدسّ إلى جعيدة بنت الأشعث بن قيس ـ كما في أشهر الروايات ـ العطاء والوعود، وفي بعض رواياته أنّها جون بنت الأشعث الكندي، وهي ابنة أمّ فروة أخت أبي بكر بن أبي قحافة، وكانت زوجة الحسنعليه‌السلام ، وأرسل لها من يحملها على سمّه، وضمن لها أن يزوّجها بابنه يزيد، وبذل لها عشرة آلاف ديناراً ويزيد وأقطاع عشرة ضياع من سقي سورا وسواد الكوفة ومنّاها، ما تطلب وتريد(١) .

وكان هذا الأمر من معاوية العنيد بعد أشياء عديدة قد دسّها في إهلاك الحسنعليه‌السلام ، مثل ما روي أنّه وجّه لرجل من الموصل يدّعي المحبة لأهل البيتعليهم‌السلام بعد انصراف الحسن من عنده كيساً فيه ثلاثة آلاف ديناراً وقارورة من السمّ، وقال: إذا اغتنمت الفرصة فاجعل هذا السمّ في مطبوخ أو مشروب وأطعمه الحسن ليهلك ونستريح منه. ففعل، فمرض

__________________

(١) انظر الإرشاد للمفيد: ٢: ١٥.

٧١

الحسنعليه‌السلام من ذلك أيّاماً وشافاه الله تعالى، فأرسل الملعون كتاباً إلى معاوية وذكر فيه أنّ قد سقيت الحسن السمّ ثلاث مرّات فلم يؤثر فيه، وإنّي انتظر أمرك، فأرسل له في المرّة الثالثة قارورة مملوءة من السمّ القتّال، وكتب له في ظهر المكتوب: أيّها الصاحب الوفيّ، قد أرسلنا لك سماً لو وضع منه قطرة في البحر المحيط لهلك جميع الحيتان، فاجتهد أن تعطيه شيئاً منه.

وكم له معه من الغوائل التي قد تناقلتها الأواخر والأوائل، وكم لاقى منه من العناء القاتل، والمبالغة في إطفاء هذا النور المضيء والسحاب الهاطل، ولا لوم عليه في ذلك، فإنّ قبح عنصره الماحل المنطوي على أعظم القبائح والرذائل قد انهله هذه المناهل.

روى السيّد المرتضى في كتابعيون المعجزات (١) بعض الروايات المرسلة عن الأئمّة الهداة أنّ سبب مفارقة أبي محمّد الحسنعليه‌السلام دار الدنيا وانتقاله إلى دار الكرامات(٢) أنّ معاوية بذل لجعيدة بنت الأشعث ما بذل من عشرة آلاف دينار وقطعات(٣) كثيرة من شعاب سورا وحمل لها(٤) ذلك السمّ القاتل، فجعلته في طعام، فجاء وهو صائم مقبلاً للإفطار، فلما وضعته بين يديه قال:« إنّا لله وإنّا إليه راجعون، والحمد لله على لقاء سيد المرسلين، وأبي سيّد الوصيين، وأمي سيّدة نساء العالمين، وعمّي جعفر الطيار في الجنة، وحمزة سيد الشهداء » (٥) .

__________________

(١) بل الكتاب للشيخ حسين عبد الوهاب من علماء القرن الخامس.

(٢) في المصدر « الكرامة ».

(٣) في المصدر: « قطاعات ».

(٤) في المصدر: « من شعب سور وسوار الكوفة وحمل إليها ».

(٥) رواه الشيخ حسين بن عبد الوهاب في عيون المعجزات: ص ٦٨، وعنه المجلسي في البحار: ٤٤: ١٤٠ ح ٧.

وروى القسم الأوّل منه ابن شهر آشوب في المناقب: ٤: ٣٤ في عنوان: « فصل في تواريخه وأحواله عليه‌السلام ».

٧٢

وقد سمعت من الأخبار أنّه كانعليه‌السلام عالماً بما يؤل أمره إليه كما وقع لأخيه وأبيه من قبل ذلك، وذلك بوصيّة وأمر من الله قدم عليها، وبادر بالوصول إليها، ولله درّ من قال:

إرث البتول ونحلة الهادي لها

غصباً وعبرتها تسحّ وتسجم

وغدا مهاجرها وأنصاريها

كلّ له في ذاك سهم يُسهم

والمرتضى أرداه في محرابه

بيمين أشقاها الحسام اللهذم

فتكلّم الحسن الزكي في حقّه

فغدا بمطلقة الأذيّة يكلم

فلذاك سالم مكرهاً حتّى قضى

بالسمّ وهو المستظام المسلم

وإذا جرى ذكر الحسين تحدّرت

عيني بما فيها أسرّ وأكتم

ما كان أدهى يومه وأمرّه

فلطعمه حتّى القيامة علقم

يوم به سلّ الضلال سيوفه

فغدت تطبّق في الهدى وتصمم

يوم به كبت الجياد من الوجى

فانصاع ذوبلها يعضّ ويكدم

يوم به هبل يقهقه ضاحكا

والبيت يبكي والمقام وزمزم

يوم نسيم الكفر فيه زعازع

وزعازع الإسلام فيه تسنّم

فشوهاً لها من وجوه تعفّرت جباهها على ربوات النفاق، وتعساً لها من قلوب تقلّبت على تلعات الشقاق، وواهاً لها من نفوس اغمدت البيض الرقاق في نحور خلفاء الملك الخلاق، وهيأت وألجمت الجرد العتاق لقتال أرباب الاشفاق، ورمت بدور الإتفاق في منازل الخسف والمحاق، فكم من نفس أغالوها بالزهاق وأودعوها تحت الطباق، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

روى الكليني في روضته، والنعماني في غيبته بأسانيدهما إلى المفضل بن عمر، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال:« لمّا حضرت الحسن الوفاة قال: يا قنبر، انظر هل ترى وراء بابك مؤمناً من غير آل محمّد » .

فقال: الله ورسوله وابن رسوله أعلم [ به منّي ].

٧٣

فقال:« امض فادع لي (١) محمّد بن علي » ، يعني ابن الحنفيّة.

قال: فأتيته، فلمّا دخلت عليه قال: هل حدث إلاّ خير؟ فقلت: أجب أبا محمّد. فعجّل حتّى عن شسع نعله فلم يسوّه، فخرج معي يَعدو، فلمّا قام بين يديه سلّم عليه فقال له الحسنعليه‌السلام : « اجلس، فليس يغيب مثلك عن سماع كلام تحيى به الأموات وتموت به الأحياء، كونوا أوعية العلم ومصابيح الدجى(٢) ، فإنّ ضوء النهار بعضه أضوء من بعض، أما علمت أن الله عزّ وجلّ جعل ولد إبراهيم أئمّة وفضّل بعضهم على بعض، وآتى داود زبوراً، وقد علمت بما استأثر محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

يا محمّد بن علي، إنّي أخاف عليك الحسد، وإنّما وصف الله تعالى به الكافرين فقال:( كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ ) (٣) ، ولم يجعل الله للشيطان عليك سلطاناً.

يا محمّد بن علي، إلاّ أخبرك بما سمعت من أبيكعليه‌السلام فيك » ؟

قال: بلى.

قال: سمعت أباك يقول يوم البصرة: « من أحبّ أن يبرّني في الدنيا والآخرة فليبرّ محمّداً.

يا محمّد بن علي، لو شئت أن أخبرك وأنت نطفة في ظهر أبيك لأخبرتك.

يا محمّد بن علي، إن الحسينعليه‌السلام بعد وفاة نفسي، ومفارقة روحي جسمي، إمام من بعدي، وعند الله تعالى في كتابه الماضي (٤) وراثة [ من ] النبي أصافها [ الله عزّ وجلّ له ] في وراثة أبيه وأمّه، علم الله أنكم خير خلقه فاصطفى منكم محمّداً واختار محمّد عليّاً واختارني عليّ عليه‌السلام للإمامة (٥) ، واخترت أنا الحسين عليه‌السلام » .

__________________

(١) في الكافي: « فقال: ادع لي ».

(٢) في الكافي: « الهدى ».

(٣) سورة البقرة: ٢: ١٠٩.

(٤) في الكافي: « وعند الله جلّ اسمه في الكتاب الماضي ».

(٥) في الكافي: « بالإمامة ».

٧٤

فقال له محمّد: أنت إمامي، وأنت وسيلتي إلى محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والله لوددت أنّ نفسي ذهبت قبل أن أسمع منك هذا الكلام، على وإنّ في رأسي كلاماً لا تنزفه الدلاء، ولا تغيّره بعد الرياح(١) كالكتاب المعجم في الرقّ المنمنم، أهمّ بإبدائه فأجدني سبقت إليه سبق الكتاب المنزل وما جائت به الرسل، وإنّه لكلام يكلّ به لسان الناطق ويد الكاتب [ حتّى لا يجد قلماً ويؤتوا بالقرطاس حمماً ]، ولا يبلغ فضلك وكذلك الله يجزي المحسنين، ولا قوّة إلاّ بالله.

الحسين أعلمنا علماً، وأثقلنا حلماً، وأقربنا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله رحماً، كان إماماً قبل أن يخلق، وقرأ الوحي قبل أن ينطق، ولو علم الله أحداً خيراً منّا ما اصطفى محمّداً، فلمّا اختار [ الله ] محمّد واختار محمّد عليّاً إماماً واختارك عليّ بعده واخترت الحسينعليه‌السلام بعدك، سلّمنا ورضينا بما هو الرضا وبما نسلم به من المشكلات(٢) .(٣)

وفي كتابالنصوص والمعجزات بإسناده عن جنادة بن أمية قال: دخلت على الحسن بن علي بن [ أبي ] طالبعليه‌السلام في مرضه الذي توفّي فيه، وبين يديه طشت يقذف فيه الدم ويخرج كبده قطعة قطعة من السمّ الّذي سقاه معاوية، فقلت: يا مولاي، ما لك لا تعالج نفسك؟ فقال:« يا عبد الله، بماذا أعالج الموت » ؟ قلت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

ثمّ التفت إليّ وقال:« والله لقد عهد إلينا (٤) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ هذا الأمر يملكه

__________________

(١) في الكافي: « نغمة الرياح ».

(٢) في الكافي: « ورضينا من هو بغيره يرضى وكنّا نسلم به من مشكلات أمرنا ».

(٣) أصول الكافي: ٣٠١ ح ٢ باب الإشارة والنصّ على الحسين بن عليعليه‌السلام من كتاب الحجّة، مع اختلاف في بعض الألفاظ، وجميع ما بين المعقوفات منه.

ورواه الطبرسي في إعلام الورى: ص ٢١٤ في الفصل الثاني من ذكر السبط الشهيد أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام ، وعنه المجلسي في البحار: ٤٤: ١٧٤ ح ٢ من الباب ٢٤.

(٤) في المصدر: « والله إنّه لعهد عهده إلينا ».

٧٥

اثنا عشر إماماً من ولد عليّ وفاطمة، ما منّا إلاّ مسموم أو مقتول » . ثمّ رفعت الطشت وبكى صلوات الله عليه.

قال: فقلت: عِظني يا ابن رسول الله.

قال: « نعم، استعدّ لسفرك، وحصِّل زادك قبل حلول أجلك، واعلم أنك تطلب الدنيا والموت يطلبك، ولا تحمل همّ يومك الّذي لم يأت على يومك الّذي أنت فيه، واعلم أنّك لا تكسب من المال شيئاً فوق قوتك إلاّ كنت فيه خازناً لغيرك، واعلم أنّ في حلالها حساباً وفي حرامها عقاباً وفي الشبهات عتاباً، فأنزل الدنيا بمنزلة الميتة خذ منها ما يكفيك، فإن كان ذلك حلالاً كنت قد زهدت فيها، وإن كان حراماً لم يكن فيه وزر فكنت قد أخذت(١) كما أخذت من الميتة فإن كان العتاب فإن العتاب يسير.

واعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً.

وإذا أردت عزّاً بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان، فأخرج من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعة الله عزّ وجلّ، وإن(٢) نازعتك إلى صحبة الرجال حاجة فاصحب مَن إذا صحبته زانك، وإذا خذمته صانك، وإذا أردت منه معونةً أعانك، وإن قلت صدّق قولك، وإن صُلت شدّ صولتك (٣) ، وإن مددت يدك بفضل مدّها، وإن بدت عنك ثلمة سدّها، وإن رأى منك حسنة عدّها، وإن سألته أعطاك، وإن سكتّ عنه ابتداك، وإن نزلت إحدى الملمّات بك ساواك (٤) ، من لا يأتيك منه البوائق ولا تختلف منه عليك الطرائق، ولا يخذلك عند الحقائق، وإن تنازعتما منقسماً آثرك على نفسه » .

قال: ثمّ انقطع نفسه، فاصفرّ لونه حتّى خشيت عليه، ودخل الحسينعليه‌السلام

__________________

(١) في بعض نسخ المصدر: « لم يكن فيه وزر فأخذت كما أخذت من الميتة ».

(٢) في المصدر: « وإذا ».

(٣) في المصدر: « صولك ».

(٤) في بعض نسخ المصدر: « واسا لك ».

٧٦

والأسود بن أبي الأسود، فانكبّ عليه حتّى قبّل رأسه وبين عينيه ثمّ قعد عنده، فتسارّا جميعاً، فقال الأسود: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، إنّ الحسنعليه‌السلام قد نعيت إليه نفسه.

وتوفّيصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الخميس في آخر صفر سنة خمسين من الهجرة، وله سبع وأربعون سنة، ودفن بالبقيع(١) .

فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، فيا لها مصائب أقرحت عيون الدين، وأحرقت قلوب المؤمنين، وألبست محمّد المصطفى ثياب الكئابة، واركبت علي المرتضى شوامس المناح والصبابة، وأمطرت فاطمة أمطار الرزايا القاصمة، فعلى مصاب السبط المسموم، والشهيد المظلوم، فلتقد فلذ القلوب بنصال البلايا والكروب، وتتجافا النفوس عن لذّة المطعوم والمضروب، أو لا تكونون يا ذوي البصائر، كمن فطرت سيوف الرزء الفاقر، منه الحشا والمرائر، وتضرّم قبس الحزن الساعر، في خبايا الضمائر، فرثاه بما سنح له من الأشعار، ولله درّه من شاعر.

__________________

(١) ورواه الخزّاز القمي في كفاية الأثر: ص ٢٢٦ باب من جاء عن الحسنعليه‌السلام ، وعنه المجلسي في البحار: ٤٤: ١٣٨ ح ٦.

٧٧

المصرع الخامس

وهو مصرع الحسينعليه‌السلام

عرّجوا يا ذوي الأذهان الوقّادة على مراقي الفكر، وأدلجوا يا أولي البصائر النقادة في ليالي العبر، وأوتروا سهام الأفكار النفادة من قسيّ النظر، وتدرّعوا دروع الإدراكات الورّادة عند اعتكار عثير التصور، وامتطوا قرى القرائح المدّادة في مضامير الخبر، وهزوّا ذوابل العقل الميّادة، واطعنوا بها صدور الورد والصدر، وتصوّروا تكوين النوع الإنساني وإيجاده في عالم القضاء والقدر، وتيقّنوا أنّ الله أوجده وإن شاء أعاده، فلا عين ولا أثر، وأنّ ليس في وجوده لله نفع ولا استفادة، ولا يناله من عدمه نقص ولا ضرر، ركبّ فيه القوى جسماً رأى استعداده، وأبانه في أحسن الصور، كأنّه بما يعمّه نفعه ليرى انقياده، بما له به أمر، ذرأه فبرأه، واختاره وأراده، ثمّ كوّن وصوّر، لقّنه قول « بلى » عند جواب استفهام « ألست بربّك »؟ وكان ذلك ارفاده وبها نال الظفر.

روي أنّ الحكيم المطلق لمّا أخرج الوجود الإنساني من كتم العدم إلى فضاء الوجود وطرز قامة ذاته بخلع الإفضال والجود، وأفاض عليه رواشح البقاء اللطيف، وقيّد جوارحه بقيد التكاليف، رتّب أفراده بحسب القابليّة، كما اقتضته الحكمة الإلهيّة، فأردف كل رتبة بتكليف يوازيها، وقرن كلّ درجة ببليّة تساويها، ليحصل بذلك التمييز بين الغثّ والسمين، ويتبيّن فيما هنالك الصدق من المين، حفّ كلّ مرتبة جليلة بمصيبة مهولة، وحذا كلّ درجة نبيلة بفادحة ثقيلة، كلّ ذلك امتحاناً لمن أبرأ واختباراً لمن أنشأ،( أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ) (١) .

__________________

(١) سورة القيامة: ٧٥: ٣٦.

٧٨

فلمّا قام عمود الإمتحان، واستوت صفوف نوع الإنسان، وأفردت الدرجات على قدر القابليّات، بين نبيّ رسول، ومرسل مأمول، وإمام عادل، ومقتد كامل، ومنحسر عن درجته، وعاشق لرتبته، أبصر الجميع مرتبة سامية، ودرجة رفيعة عالية، هي دون مقام الربوبيّة، وفوق حدّ العبوديّة، لم تنلها يد لامس، ولا سمت إليها نفس هاجس، قد طمحت نحوها أبصار الصدّيقين، وانعطفت إليها قلوب المرسلين، لقربها من الحضرة الأحديّة، وسموّها على الرتب الإنسانيّة، إلاّ إنّ بحيالها مصائب جمّة، وبإزائها فوادح ملمّة، لا طاقة لبشر على تحمّل بعضها، ولا قوّة لمخلوق على أداء فرضها، فمن ذلك هجر المأوى وغلبة الأعداء، وأسر العيال، وإظماء الأطفال، وقتل الأصحاب، وذبح الأحباب، وتحمّل أعباء المصائب، والصبر على فواقر النوائب، وسفك دماء الأولاد، وحمل رؤوس الإخوان على الصعاد، وهتك خدور الصون عن الحلائل، وسماع استغاثة النساء العقائل، وسبي محجّبات البنات، وسلب مصونات الأخوات، وتشهيرهنّ على عُجف البوازل وتطوافهنّ في المرابع والمنازل، وتعريض جسد فرد واحد لمئة وعشرين ألف مجالد، وكرع كؤوس الإصطلام، وتحمّل ألم ألف وتسع مئة وخمسين نوع من الكُلام، ونصب النفس العزيزة غرضاً الحداد النصال، وتصبير المهجة الزكية هدفاً للبلايا في النزال، وقطع الوريدين باثنى عشرة ضربة بماضي الحدّين، وخلع قميص البقاء، شائقاً للقاء، ملتذّا برحيق الجراح، رائياً في ذلك غاية الأفراح.

فلمّا نظرت الأنبياء والصدّيقون، والأولياء والمتّقون، إلى ما حفّت به تلك المنزلة الرفيعة من الأرزاء الفظيعة، تأخّر كلّ متقدّم، وتفسكل كلّ سابق القدم، فإذا النداء من قبل الربّ الجليل، والملك النبيل:« يا عبادي، من الطالب لهذه المرتبة الجليلة، والعاشق لهذه المنزلة النبيلة » ؟ فصمت كل ناطق، وسلا كلّ عاشق، فأتى النداء ثانية:« ألا نبيّ مرسل؟ ألا وليّ مبجّل، يتحمّل هذه البليّة، ويفوز بسموّ هذه المرتبة العليّة، فيشري نفسه ابتغاء مرضاتنا، ويكون شفيع

٧٩

جميع العصاة من بريّاتنا » ؟ فإذا الحسينعليه‌السلام قد قام من بين البريّات، وتقدّم للجواب دون جميع الكائنات والموجودات.

وإذا بالحسين نجل علي

نور انسان مقلة الطهر طاها

قائلاً ما لها سواي كفيل

هذه ذمّة عَلَيّ وفاها

فلمّا قبل الحسينعليه‌السلام ذلك العهد الملزم، وألزم نفسه ذلك القضاء المبرم، توّج يافوخ آدم بتاج الإيجاد الثاني، وزيّنت قامته بخلعة البقاء الروحاني، فهنالك نادى الشيطان في أعوانه، وصرخ في أتباعه وأقرانه، وقال: « إنّ الحسين قد تقبّل عهداً إن وفا به كان حريّاً أن يشفع في جميع نوع الإنسان، ويدخل جميع العصاة الجنان ». وما زال منتظراً لليوم الموعود والأجل المحدود، ولله درّ من قال:

محيط البلايا مستدير على المجد

فلا مجد إلاّ للصبور على الجهد

ولولا وقوع المجد في مركز البلا

لداس ذراه أخمص الحرّ والعبد

وما امتازت الأشراف في طبقاتها

من الفضل إلاّ بالتفاوت في الجدّ

اذا اشتدّت البلوى تضاعف أجرها

ومن ثمّ فاقت كربلاء على أحد

وإن لفّ برد الفضل بدراً وكربلا

جميعاً ثوت بدر بحاشية البُرد

لأصحاب بدر من وراء ظهورهم

ظهير يغطّي ساحة الجزر بالمدّ

ومزن مواعيد الإله بنصره

عليهم هطول ودقها مخمد الوقد

إذا أرعدت في الروع منهم كتيبة

تألّق برق النصر في ذلك الرعد

وليسوا كأنصار الحسين بكربلا

فإنّهم في كلّ ذلك بالضدّ

روي في كتابالخرائج والجرائح بإسناده عن المقداد بن الأسود الكندي قال: قال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« إنّ للحسين معرفة مكتومة في باطن المؤمنين، سل أمّه عنها » .

فأتيت بيت فاطمةعليها‌السلام ووقفت بالباب، فأتت حمامة وقالت: يا أخا كندة.

٨٠