أبعاد النهضة الحسينية

أبعاد النهضة الحسينية0%

أبعاد النهضة الحسينية مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 181

أبعاد النهضة الحسينية

مؤلف: عباس الذهبي
تصنيف:

الصفحات: 181
المشاهدات: 58849
تحميل: 6607

توضيحات:

أبعاد النهضة الحسينية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 181 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 58849 / تحميل: 6607
الحجم الحجم الحجم

وبني عبد المطلب، فلم يكن في ذلك اليوم - لا في شرق الأرض ولا في غربها - قوم أشدّ غما من أهل بيت رسول اللّه، ولا أكثر باكيا وباكيةً منهم(١) .

وروى ابن طاووس بإسناد ينتهي بأبي محمد الواقدي وزرارة بن خلج، قالا: « لقينا الحسين بن عليعليهما‌السلام قبل أن يخرج إلى العراق فأخبرناه ضعف الناس بالكوفة وأنّ قلوبهم معه، وسيوفهم عليه فقال:أعلم يقينا أنّ هناك مصرعي ومصرع أصحابي لا ينجو منهم إلاّ ولدي علي »(٢) .

ومع علم الإمامعليه‌السلام بالنتيجة مسبقا، فإنّه تحرك على ضوء الأسباب الواقعية، وأعد لكل شيء عدته.

ثم تجدّد الاتصال بين الإمامعليه‌السلام وعالم الغيب، ولكن - هذه المرّة - بتفاصيل أكثر وأغرب، ففي يوم العاشر من المحرم وقت السحر، خفق الحسينعليه‌السلام برأسه خفقة بعدما أعيته الآلام المرهقة، فاستيقظ، والتفت إلى أصحابه وأهل بيته فقال لهم: «ما أراني إلاّ مقتولاً »، قالوا: وما ذاك يا أبا عبداللّه؟ قال: «رؤيا رأيتها في المنام »، قالوا: وما هي؟ قال: «رأيت كلابا تنهشني أشدُّها عليَّ كلبا أبقع »(٣) .

والأمر الذي يثير العجب والإكبار، أن هذه الاتصالات بالغيب مع تأكيدها للحسينعليه‌السلام - ولأكثر من مرّة - أنه سوف يُقتل، نجد أن الخوف لم

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٤: ٣٢٨ عن مقتل الحسين لمحمّد بن أبي طالب الحسيني الحائري.

(٢) اللهوف: ٣٨ - ٣٩.

(٣) كامل الزيارات / ابن قولويه: ١٥٧، مؤسّسة نشر الفقاهة.

٢١

يأخذ طريقه إلى قلبه، بل ازداد اصرارا على المضي في طريق ذات الشوكة حتى نهاية الشوط، إذ وقف صامدا صمودا اسطوريا، وقف كالطود الشامخ لم تزعزعه الخطوب، ومشى بخطى ثابتة على درب واضح المعالم.

يقول حميد بن مسلم: « فواللّه ما رأيتُ مكثورا(١) قطّ قد قُتل ولدُه وأهل بيته وأصحابه أربط جأشا ولا أمضى جنانا منهعليه‌السلام ، إنْ كانت الرّجّالة لتشدُّ عليه فيشدُّ عليها بسيفه، فتنكشف عن يمينه وشماله انكشاف المِعزى إذا شدَّ فيها الذِّئب »(٢) .

وإن كان هذا يدلُّ على شيء، فهو يشير إلى أن إشارات الغيب زادته قوّةً وصلابةً، ومنحته شحنات معنوية عالية.

وهناك مواقف أخرى أفصح الإمامعليه‌السلام فيها عن مكنون الغيب، وقد اطلع أصحابه وأهل بيته عن ذلك بمنتهى الوضوح والصراحة، فمن المعلوم أنه خاطب بني هاشم قبل خروجه بقوله: «أما بعد، فإنّه من لحق بي منكم استُشهد، ومن تخلّف عنّي لم يبلغ الفتح »(٣) .

والأمر الآخر هنا الذي يثير الاستغراب والدهشة، ويكشف النقاب عن حقيقة اطلاع الحسينعليه‌السلام على معالم الغيب، أنه كشف في حياته عن ملامح ومواصفات قاتله، فعن محمّد بن عمرو بن حسين، قال: « كنا مع الحسين بنهر كربلاء فنظر إلى شمر بن الجوشن، فقال:صدق اللّه ورسوله !

__________________

(١) المكثور: الذي أحاط به الكثير. انظر: الإرشاد ٢: ١١١، هامش ٢.

(٢) الإرشاد ٢: ١١١.

(٣) اللهوف: ٤١.

٢٢

قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : كأني أنظر إلى كلب أبقع يلغ في دماء أهل بيتي ، وكان شمر أبرصا »(١) .

وروى سالم بن أبي حفصة قال: «قال عمر بن سعد للحسينعليه‌السلام : يا أبا عبداللّه، إنَّ قِبَلَنا ناسا سُفهاء، يزعمون أني أقتلُكَ، فقال له الحسينعليه‌السلام :إنّهم ليسوا بسفهاء ولكنّهم حُلمَاء »(٢) .

ضمن هذا السياق تحقق ما أخبر به الإمامعليه‌السلام عمر بن سعد بتبدد آماله بملك الرّي، ودنو نهايته المخزية، وكان الإمامعليه‌السلام قد قال له قبل بدأ القتال: «يا عمر، أنت تقتلني وتزعم أن يوليك الدعي ابن الدعي بلاد الرّي وجرجان، واللّه لا تهنأ بذلك أبدا، عهد معهود، فاصنع ما أنت صانع، فانك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة، ولكأني برأسك على قصبة قد نُصب، يتراماه الصبيان بالكوفة ويتخذونه غرضا بينهم »(٣) .

وبذلك فقد بلغت الصلافة ذروتها عند ابن سعد عندما واجه تحذيرات الإمامعليهما‌السلام الصادقة بالسخرية والاستهزاء.

روي أنّ الحسين بن عليعليهما‌السلام قال لعمر بن سعد: «إنّ ممّا يقرّ لعيني أنّك لا تأكل من برّ العراق بعدي إلاّ قليلاً ، فقال مستهزئا: يا أبا عبداللّه، في الشعير خلف، فكان كما قال، لم يصل إلى الرَّي، وقتله المختار »(٤) .

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق / ابن عساكر ٢٣: ١٩٠، دار الفكر، ١٤١٥ ه، كنز العمّال / المتقي الهندي ١٢: ١٢٨ / ٣٤٣٢٢.

(٢) الإرشاد ٢: ١٣٢.

(٣) مقتل الخوارزمي ٢: ٨.

(٤) مناقب آل أبي طالب ٤: ٦٢، دار الأضواء.

٢٣

ولعلّ أبلغ تعنيف صدر عن الإمامعليه‌السلام بحقّ هذا الشقي هو عندما فُجع (سلام اللّه عليه) بفلذة كبده علي الأكبر، عند ذلك اتجهعليه‌السلام إلى السماء بقلب مفجوع، والدموع تترقرق على لحيته الشريفة، وقال: «قطع اللّه رحمك، ولا بارك لك في أمرك، وسلّط اللّه عليك من يذبحك على فراشك، كما قطعت رحمي، ولم تحفظ قرابتي من رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله »(١) .

ودارت الأيام دورتها، وإذا بابن سعد قد ذُبح على فراشه - كما أخبر الإمام - على يد المختار الثقفي، الذي اقتصّ من قتلة الحسينعليه‌السلام ، وشُوهد الأطفال وهم يعبثون برأسه ويتخذونه غرضا بينهم!.

زد على ذلك، فقد سبر أغوار الغيب وأخبر عن كيفية شهادته، وكيف أن جسده الشريف سيتقطّع إربا إربا في العراء وتصهره الرّمضاء، يروى أنه قبل أن يغادر مكّة، قام خطيبا، فحمد اللّه وأثنى عليه وبيّن مدى اشتياقه لأسلافه واستهانته بالموت، كما كشف عن غطاء الغيب مرّة أخرى، عندما قالعليه‌السلام : «كأني بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا، فيملأن مني أكراشا جوفا وأجربة سغبا، لا محيص عن يوم خط بالقلم »(٢) .

التنبوء بمصير القَتَلة

ولم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، إذ تنبّأ الحسينعليه‌السلام بحالة الذّل والهوان والعار والتشرذم وكذلك السقوط السريع لأعدائه، لقد تصوّر يزيد لعنه اللّه

__________________

(١) مقتل الخوارزمي ٢: ٣٠، منشورات مكتبة المفيد - قم.

(٢) اللهوف: ٣٨.

٢٤

أنه سوف ينام قرير العين وبمل ء جفونه بعد مصرع الحسينعليه‌السلام ، لكنه غفل عن العواقب الوخيمة التي تترتّب على فعله الشنيع في الدارين، فقد عصفت بعرشه رياح الثورات والانتفاضات، وغدت اللَّعنات تطاردهم أينما حلّوا ورحلوا، فتبدّدَ شملهم، وتَمزّقَ حكمهم. وها نحن نورد مجموعة من التنبؤات الحسينية، التي تثبت - بما لا يدع مجالاً للشك - استشفاف الإمامعليه‌السلام لآفاق الغيب، وخاصة ما يؤول إليه حال أعدائه من دمار وعار أبدي. قال لهم: «أعَلَى قتلي تَحاثُّون! أما واللّه لا تقتلون بعدي عبدا من عباد اللّه أسخط عليكم لقتله مني، وأيم اللّه إني لأرجو أن يكرمني اللّه بهوانكم، ثمّ ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون، أما واللّه أن لو قد قتلتموني لقد ألقى اللّه بأسكم بينكم، وسفك دماءكم، ثمّ لا يرضى لكم حتى يُضاعف لكم العذاب الأليم »(١) .

وفي موقف آخر يخترق حجاب الغيب، ويُخبر عن دخائل نفوسهم وما يترسب في قاع وعيهم، فيخبر عن إصرارهم على قتله، وما يترتب عن ذلك من ذّل وهوان يلحق بهم بعد حين، قال: «واللّه لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فاذا فعلوا سلط اللّه عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذلّ فِرق الاُمم »(٢) .

وله قول آخر حول هذا الأمر، قاله لأبي هرة الأزدي عندما أتاه فسلّم عليه ثمّ قال: «يا بن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما الذي أخرجك عن حرم اللّه

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦: ٢٤٦، حوادث سنة إحدى وستين.

(٢) الإرشاد / الشيخ المفيد ٢: ٧٦.

٢٥

وحرم جدّك رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فقال الحسين:ويحك يا أبا هرة، إنّ بني أمية أخذوا مالي فصبرت، وشتموا عرضي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت، وأيم اللّه لتقتلني الفئة الباغية وليلبسهم اللّه ذلاً شاملاً وسيفا قاطعا، وليسلطن اللّه عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من قوم سبأ إذ ملكتهم امرأة فحكمت في أموالهم ودمائهم »(١) .

وعليه فقد أزاح النقاب عن وجه الغيب، وحدد ماذا يحمل رحم الأيام القادمة من أحداث وتطورات هي حُبلى بها، وماذا يحل من انتقام إلهي شامل، وقصاص عادل بأعدائه، قال: «واللّه لا يدع أحدا منهم إلاّ انتقم لي منه قتلة بقتلة، وضربة بضربة، ينتقم لي ولأوليائي ولأهل بيتي وأشياعي منهم »(٢) .

وفي نص آخر خاطبهم مستخدما تشبيها بليغا، قائلاً: «ايم اللّه لا تلبثون بعدها إلاّ كريثما يركب الفرس، حتى تدور بكم دور الرحى، وتقلق بكم قلق المحور، عهدٌ عهده إليَّ أبي عن جدي »(٣) .

وفي رواية قال: «وإنّي زاحف إليهم بهذه الأسرة على كلب العدو وكثرة العدد وخذلة الناصر، ألا وما يلبثون إلاّ كريثما يركب الفرس حتى تدور رحا الحرب وتعلق النحور. عهد عهده إلي أبي عليه‌السلام . فأجمعوا أمركم ثمّ كيدون فلا تنظرون، إني توكلّت على اللّه ربي وربّكم ما من دابّة

__________________

(١) اللهوف: ٤٣ - ٤٤.

(٢) مقتل الحسين / الخوارزمي ٢: ٨ منشورات مكتبة المفيد، قم.

(٣) اللهوف: ٥٩.

٢٦

إلاّ هو آخذ بناصيتها إنّ ربي على صراط مستقيم »(١) .

النص المتقدم يكشف النقاب عن ان علم الحسينعليه‌السلام للغيب هو عن طريق جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهو علم عن ذي علم، ومن الغرائب التي يجدها الباحث حول موضوع البعد الغيبي في النهضة الحسينية أن هناك روايات متواترة ومشهورة تتناقلها الألسن عن المصير المأساوي لحياة الحسينعليه‌السلام ، أفصح عنها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في أكثر من مناسبة، ولأكثر من شخصية، وبصورة مبكرة، أي منذ ميلاد الحسينعليه‌السلام ، ومن الشواهد على ذلك روى الشيخ الطوسي بأسانيد معتبرة إلى الإمام الرِّضاعليه‌السلام عن آبائه، عن اسماء بنت عميس، قالت: لما ولدت فاطمة الحسينعليهما‌السلام كنت أخدمها في نفاسها، فجاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال:هلّمي ابني يا أسماء . فدفعته إليه في خرقة بيضاء، فأخذه وجعله في حجره، وأذّن في أذنه اليمنى، وأقام في اليسرى. قالت: ثم بكى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال:انه سيكون لك حديث، اللّهم العن قاتله، لا تعلمي فاطمة بذلك قالت: ثم وضعه في حجره وقال:يا أبا عبداللّه، عزيزٌ عليَّ - ثم بكى - فقلت: بأبي أنت وأمي، مم بكاؤك في هذا اليوم، وفي اليوم الأول؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :أبكي على ابني هذا، تقتله فئة باغية كافرة من بني أمية، لا أنالهم اللّه شفاعتي يوم القيامة »(٢) . وفي موقف آخر يكرّر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الحقيقة المرّة لأم الفضل، ويفهمها ذلك بالفم الملآن وبالصراحة

__________________

(١) تحف العقول / ابن شعبة البحراني: ٢٤١، مؤسّسة النشر الإسلامي لجماعة المدرسين ط٢ - ١٤٠٤ ه.

(٢) الأمالي / الشيخ الطوسي: ٣٦٧ / ٧٨١، المجلس الثالث عشر.

٢٧

القصوى التي لا تحتمل التأويل، قال لها بأن جبرئيلعليه‌السلام أخبره بقتل الحسينعليه‌السلام على يد أبناء أمته، الأمر الذي حرك سحابةً قاتمةً من الحزن داخل نفسه، فترقرقت الدموع من عينيه.

روي بالإسناد عن أم الفضل لبابة بنت الحارث زوجة العباس بن عبد المطلب قالت: « دخلت على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقلت: يارسول اللّه، إني رأيت حلما منكرا الليلة. قال:وما هو ؟ قلت: إنه شديد. قال:وما هو ؟ قلت: رأيت قطعة من جسدك قُطعت ووضعت في حجري، قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله :رأيت خيرا، ستلد فاطمة - إن شاء اللّه - غلاما يكون في حجرك . قالت: فولدت فاطمة الحسين، فكان في حجري كما قال رسول اللّه، فدخلت يوما على رسول اللّه، فوضعته في حجره، ثم حانت مني التفاتة، فإذا عينا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله تهريقان الدموع. فقلت: يانبي اللّه بأبي أنت وأمي، مالك، ومم بكاؤك؟ فقال:أتاني جبرئيل، فأخبرني أن أمتي ستقتل أبني هذا، وأتاني بتربة من تربته حمراء »(١) .

وروي: «أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان ذات يوم جالسا وحوله علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام فقال لهم: كيف بكم إذا كنتم صرعى وقبوركم شتى؟ فقال له الحسين عليه‌السلام : أنموتُ موتا أو نُقتل؟ فقال: بل تُقتل يا بُنيَّ ظلما، ويقتل أخوك ظلما، وتُشرّد ذراريكم في الأرض، فقال الحسين عليه‌السلام :

__________________

(١) الإرشاد ٢: ١٢٩، ورواه الحاكم في المستدرك ٣: ١٧٦، وإبن عساكر في تاريخ دمشق - ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام : ١٨٣ / ٢٣٢.

٢٨

ومن يقتُلنا يا رسول اللّه؟ قال: شِرار الناس »(١) .

ومن الجدير بالذكر أن أمير المؤمنينعليه‌السلام كان على علم بما يحمله رحم الغيب من مسلسل المآسي الذي سيقاسيه ولده الحسينعليه‌السلام وأهل بيته من بعده، وبأن الأحداث سوف تنفث سمّها، وتبعث بلهبها لتكوي بيت علي بعد رحيل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، عندما يحين الحين ويصرع الحسينعليه‌السلام .

عن هرثمة بن سليم، قال: «غزونا مع عليعليه‌السلام صفين، فلما نزل كربلاء صلَّى بنا، فلما سلّم رفع إليه من تربتها فشمّها ثمّ قال: واها لك يا تربة!ليحشرنّ منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب »(٢) .

وفي رواية الدَّينوري: «أنّ الحسين عليه‌السلام لمّا نزل بكربلاء قال: وما اسم هذا المكان؟ قالوا له: كربلاء. قال: ذات كرب وبلاء. ولقد مرّ أبي بهذا المكان عند مسيره إلى صفين، وأنا معه، فوقف فسأل عنه، فأُخبر باسمه، فقال: هاهنا محطّ ركابهم، وهاهنا مهراق دمائهم. فسئل عن ذلك، فقال: ثقل لآل بيت محمد، ينزلون هاهنا »(٣) .

وها هي كربلاء تكبر مكانتها يوما بعد يوم، وعلى حدّ وصف العقاد: « فهي اليوم حرم يزوره المسلمون للعبرة والذكرى، ويزوره غير المسلمين للنظر والمشاهدة، ولكنّها لو أعطيت حقّها من التنويه والتخليد، لحقّ لها أن تصبح مزارا لكلّ آدمي يعرف لبني نوعه نصيبا من القداسية وحظا من

__________________

(١) الإرشاد ٢: ١٣١.

(٢) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ٣: ١٦٩، دار احياء التراث العربي.

(٣) الأخبار الطوال: ١٨٩.

٢٩

الفضيلة، لأنّنا لا نذكر بقعة من بقاع هذه الأرض يقترن اسمها بجملة من الفضائل والمناقب أسمى وألزم لنوع الإنسان من تلك التي اقترنت باسم كربلاء، بعد مصرع الحسين »(١) .

وليس أمير المؤمنينعليه‌السلام وحده من آل البيتعليهم‌السلام من اطَّلع على هذا السرِّ المقدَّس؛ سرّ شهادة الحسينعليه‌السلام ، فهو وعدٌ غير مكذوب، يتوارثه أهل البيتعليهم‌السلام ، ورد عن الامام الصادقعليه‌السلام : أنه قال: «دخل الحسين يوما على أخيه الحسن عليهما‌السلام ، فلمّا نظر إليه بكى، فقال: ما يُبكيك؟ قال: أبكي لما يُصنع بك. فقال الحسن عليه‌السلام : إن الذي يُؤتى إليّ سُمّ يدسّ إليّ فاُقتل به. ولكن لايوم كيومك يا أبا عبداللّه، يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل، يدَّعون أنهم من أمة جدنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وينتحلون الإسلام، فيجتمعون على قتلك وسفك دمك، وانتهاك حرمتك، وسبي ذراريك ونسائك، وانتهاب ثقلك، فعندها يحلّ اللّه ببني أميّة اللعنة، وتمطر السماء دما ورمادا، ويبكي عليك كلّ شيء حتى الوحوش والحيتان في البحار »(٢) .

لهذا فإننا لا نبالغ إذا ما قلنا بأن واقعة الطفّ هي تخطيط غيبي وسر إلهي عظيم، فقد لوحظت فيها آثار الغيب وبصماته بصورة جليّة، حتى بعد مصرع الحسينعليه‌السلام من خلال الكرامات التي انكشفت للأعداء قبل الأصدقاء، فهذا مسروق بن وائل الحضرمي، الذي كان يطمح في الحصول

__________________

(١) المجموعة الكاملة - الحسين أبو الشهداء ٢: ٢٣٧.

(٢) اللهوف: ١٨ - ١٩.

٣٠

على رأس الحسينعليه‌السلام لكي يصيب منزلةً عند ابن زياد، فجأة تخلّى عن القتال، وترك الجيش عندما رأى بأم عينيه ما حَّل بابن حوزة، هذا الشقي الذي نادى على الحسينعليه‌السلام بعدما حفر خندقا وأشعل فيه نارا لحماية مؤخرة جيشه من غدر الأعداء، قال اللَّعين: «يا حسين أبشر تعجّلت النار في الدنيا قبل الآخرة قال:ويحك أنا ! قال: نعم. قال:ولي ربّ رحيم، وشفاعة نبي مطاع كريم، اللهم إن كان عندك كاذبا فحزه إلى النار . قال: فما هو إلاّ أن ثنى عنان فرسه فوثب فرمى به، وبقيت رجله في الركاب، ونفر الفرس فجعل يضرب برأسه كلّ حجر وشجر حتى مات. وفي رواية: «اللهم حزّه إلى النار، وأذقه حرّها في الدنيا قبل مصيره إلى الآخرة »، فسقط عن فرسه في الخندق، وكان فيه نار. فسجد الحسينعليه‌السلام (١) .

وعندما لاحظ مسروق الحضرمي تلك الدعوة المستجابة والكرامة الباهرة، تخلّى عن القتال، وفرّ بجلده من ساعته وهو يسرّ لصاحبه: « لقد رأيت من أهل هذا البيت شيئا لا أقاتلهم أبدا »(٢) .

ومن الذين لمسوا الآثار الغيبية وأدركوا الغضبة الإلهية، رجل من بني دارم، كان يقول: « قتلت رجلاً من أصحاب الحسين، وما نمت ليلة منذ قتلته إلاّ أتاني في منامي آت فينطلق بي إلى جهنّم، فيقذف بي فيها حتى أُصْبِح. فسمعت بذلك جارة له فقالت: ما يدعنا ننام الليل »(٣) .

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤: ٥٦ - ٥٧.

(٢) انظر: تاريخ الطبري ٦: ٢٣٢، حوادث سنة إحدى وستّين.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٤: ٥٨.

٣١

ممّا تقدّم تبيّن أنّ الإمامعليه‌السلام قد كشف عن بعض ما خطه قلم الغيب من حوادث يوم الطفّ وما أعقبه من آثار.

* * *

٣٢

ثانيا: البعد العبادي

إنّ نهضة الإمام الحسينعليه‌السلام كانت تكليفا إلهيّا، ووظيفة شرعية، وعبادة عالية، لا تقاس بها عبادة من العبادات، وكذلك أفعال سائر الأئمّةعليهم‌السلام وتروكهم، وجميع أفعالهم وحركاتهم.

ويظهر البعد العبادي جليّا في نهضة عاشوراء من خلال صلاة الإمام الحسينعليه‌السلام في كربلاء تحت أسنّة الحراب، وإكثاره من الدعاء والاستغفار، وتمسّكه بالقرآن تلاوةً وعملاً من خلال محاوراته وسلوكه.

صلاة الحسينعليه‌السلام في كربلاء:

ما أكثر الأحاديث التي تُظهر فضل وفضيلة الصلاة، وكونها عمود الدين، وأحبّ الأعمال إلى اللّه عزّوجلّ، وهي آخر وصايا الأنبياء، وقد أشاد القرآن قبل ذلك بمكانتها، وذمَّ أقواما لاستهانتهم بها، فقال عزَّ من قائل:( فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ *الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ ) (١) ، يعني أنّهم غافلون استهانوا بأوقاتها، وقال الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : «وليكن أكثر همّك الصلاة، فإنّها رأس الإسلام بعد الإقرار بالدين »(٢) . فالصلاة التي يقف فيها الإنسان بين يدي جبار السماوات والأرض تُعطي زخما روحيا يزيد من قوّته على تحدّي معاناة الحياة ومواجهة ما يأتي به الدهر من صروف.

والصلاة - إضافة إلى ذلك - هي معراج المؤمن اليومي إلى عالم

__________________

(١) سورة الماعون: ١٠٧ / ٤ - ٥.

(٢) تحف العقول / ابن شعبة الحرّاني: ٢٦.

٣٣

الملكوت، يحطم من خلالها كل القيود والحواجز، التي يضعها الاشرار أو التي تأتي بها الاقدار.

ثم ان الصلاة هي واحة الحرية في صحراء الاستبداد، فمن خلال نافذتها الواسعة يدخل الإنسان عالما ليس فيه حدود ولاسدود. وهي أيضا بمثابة صمام الأمان للإيمان، تنهى عن الفحشاء والمنكر اللذين يفسدان الإيمان كما يفسد الخل العسل.

وقد اعترف كبار المفكرين بدور الصلاة في مواجهة أعباء الحياة، ومنهم الكسيس كاريل؛ هو من ألمع الأطباء الغربيين وحائز على جائزة نوبل. يقول في كتابه ( الإنسان ذلك المجهول ): إن الصلاة هي أعظم طاقة مولدة للنشاط الإنساني عُرفت حتى الآن.

ولقد عرف المسلمون قيمة الصلاة والقوة الدافعة التي هي سر من أسرارها الكثيرة، وتمكن الإسلام من أن يخلق رجالاً من طراز خاص يتمتعون بشخصيات قوية ورصينة كالسبيكة الصُلبة التي يصعب اختراقها، نقلتهم العبادة والصلاة خارج أسوار الذات كلما عصفت بهم أزمة أو انتابهم بلاء، كانوا يعتصمون بصلاتهم ويتزودون من زادها الروحي مثل مائدة شهية يقترب منها الإنسان عندما يشعر بالحاجة إلى الطعام.

وأبرز مصداق - باتفاق المسلمين - لتلك الشخصيات، التي أدركت ما للصلاة من قوة معنوية كبيرة، هم أهل البيتعليهم‌السلام الذين يجسدون المثل الأعلى في الالتزام الديني، كانوا يُولون الصلاة عناية فائقة، لإدراكهم الواعي والعميق لأبعادها وأسرارها وفضيلتها، وتفاعلهم معها وانفعالهم

٣٤

بها، تقول كتب السيرة بأن أهل البيتعليهم‌السلام عندما يدخلون الصلاة يرتعدون ارتعاد المحموم، ويرتجفون كريشة في مهب الريح، ويقفون في الصلاة بكل خضوع وخشوع.

وعندما ننتخب الحسينعليه‌السلام - وهو أحد أقطاب آل البيتعليهم‌السلام - نموذجا لمعرفة مدى صلتهم بالصلاة، حينئذ نرى عجبا، نرى هذه الشخصية الكبيرة تنصهر تماما في بوتقة الصلاة، على الرغم من المعاناة التي كان يقاسيها، والمأساة التي نسجت من حوله خيوطها السوداء في كربلاء.

كان - مع ذلك - عندما يقف للصلاة ينسى ما حوله ومَن حوله، مما دعا العرفاء الذين نظروا إلى النهضة الحسينية من زاويتها العرفانية أو ما فوق العقلية أن يطلقوا عليها تسمية مدرسة العشق.

ففي تلك الليلة العصيبة، ليلة العاشر من المحرم، اجتمعت كل الظروف والعوامل التي تبعث على اليأس والوهن والضعف، تراه يبدأ خطبته في مثل هذه الظروف بروح مختلفة تماما، فجمع الحسينعليه‌السلام أصحابه عند قرب المساء. قال علي بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام : «فدنوت منه لأسمع ما يقول لهم، وأنا إذ ذاك مريض، فسمعت أبي يقول لأصحابه: أُثني على اللّه أحسن الثناء، وأحمدُهُ على السراء والضراء، اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة وعلّمتنا القرآن وفقّهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعا وأبصارا وأفئدة، فاجعلنا من الشاكرين »(١) .

إذا « في ظل تلك الظروف الصعبة والعسيرة، ترى الحسينعليه‌السلام ينطق

__________________

(١) الإرشاد ٢: ٩١.

٣٥

بالرّضا والتسليم للظروف والعوامل الموضوعية، لماذا؟ لأنه يعيش ظروفا معنوية عالية. إنه موحّد للّه عقيديا وعمليا، وعابد وساجد للّه »(١) .

هذا الثبات المنقطع النظير هو ثمرة يانعة من ثمار العبادة والصلاة اللتين جعلتا وجهه يتلألأ كالبدر كلما سقط شهيد جديد من أهل بيته أو أصحابه، حتى ان هذا الأمر قد أذهل أعداءه وكانوا يتجنّبون التقرّب إليه لشدّة سطوع الأنوار المنبعثة من محيّاه وقسمات وجهه، وكان وجهه يزداد إشراقا كلما ازدحمت الخطوب وتكاثر الأعداء المحيطون به. حتى أن أحدهم أبدى دهشته وإعجابه بقوله: « واللّه ما رأيت مكثورا قط قُتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشا، ولا أمضى جَنانا منهعليه‌السلام ، إنْ كانت الرّجّالة لتشدُّ عليه فيشدُّ عليها بسيفه، فتنكشف عن يمينه وشماله انكشاف المِعزى إذا شدَّ فيها الذئب »(٢) .

أجل كان رابط الجأش، علما بانه كان يقاتل وهو في أشد حالات العطش. ما هو السر يا ترى؟. لا يمكن تفسير ذلك وفق المقاييس المادية، وانما يمكن إرجاعها إلى الزخم المعنوي الهائل الذي يحصل عليه الحسينعليه‌السلام من خلال جسر الصلاة التي أخذت تُغذي بمائها المعنوي عروقه اليابسة وشفاهه الذابلة، كما يُغذي ماء الحياة العود اليابس.

خصوصا وانه لم ينس أو يتناس الصلاة، حتى في أحرج ساعاته قدوة بأبيه عليعليه‌السلام الذي لم يؤخر صلاته المفروضة في أحرج ساعات الحرب،

__________________

(١) انظر: الملحمة الحسينية / الشهيد مرتضى المطهري: ٣ / ٢١.

(٢) الإرشاد ٢: ١١١.

٣٦

وخاصة في ليلة الهرير يوم صفين. فصفّ قدميه لوجه اللّه مصلّيا، والحرب قائمة على قدم وساق من حوله، ولما لاموه عليها، بيّن لهم أن حربه من حيث الأساس هي لإقامة الصلاة، التي تنهى - في جوهرها - عن المنكر والبغي، وكان ابنه الحسينعليه‌السلام ينسج على منواله، والشبل من ذاك الأسد.

لقد اهتم بإقامة الصلاة في ذلك الوقت العصيب عندما صاح مؤذنه أبو ثمامة الصيداوي، وصلى بأصحابه، ولكن صلاة الخوف قصرا وسهام الأعداء تترى عليه بالرغم من استمهاله إياهم لإقامتها!

أيخشى الإمامعليه‌السلام قتله في الصلاة وقد مضى أبوه قتيلاً في محرابه؟ أم يخشى الموت صحبه وهم يتسابقون إليه تسابق الجياع إلى القصاع، ويحبّذون الموت دونه لوجه اللّه وفي سبيل رسوله؟ يقول الشهرستاني: « لقد كانت صلاة الحسينعليه‌السلام من أصدق مظاهر إخلاصه للّه وتمسّكه بالشريعة »(١) .

صلاة تحت الحِراب

يقول الرّواة: « لما حلَّ وقت صلاة الظهر يوم العاشر من المحرم، أمر الحسينعليه‌السلام زهير بن القين وسعيد بن عبد اللّه الحنفي، أن يتقدّما أمامه بنصف ممن تخلّف معه، ثم صلى بهم صلاة الخوف، فوصل إلى الحسينعليه‌السلام سهم، فتقدّم سعيد بن عبد اللّه الحنفي ووقف يقيه بنفسه حتى سقط إلى الأرض وهو يقول: اللهمَّ العنهم لعن عاد وثمود، اللهمَّ أبلغ نبيك عنّي

__________________

(١) نهضة الحسين / هبة الدين الشهرستاني: ١٢٤.

٣٧

السلام وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح، فاني أردت ثوابك في نصر ذرية نبيك، ثم قضى نحبه رضوان اللّه عليه، فوُجد به ثلاثة عشر سهما سوى ما به من ضرب السيوف وطعن الرماح »(١) .

علما بأن الحسينعليه‌السلام حاول ليلة العاشر من المحرم تأجيل القتال عندما بدأ جيش العدو يزحف باتجاه معسكره، فأرسل أخاه العباس بن علي (سلام اللّه عليه)، ليتفاوض مع القوم حتى يُرجئوا القتال إلى الغد، ولم يكن ذلك خوفا من الموت أو خدعةً من أجل البحث عن مخرج، بل لكي يجد متسعا إضافيا من الوقت يصلّي فيه لربه ويُكثر من الدعاء والإنابة إليه، فقد قال لأخيه العباس ( سلام اللّه عليه ): «ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخرهم إلى الغُدوة وتدفعهم عنّا العشيّة، لعلنا نصلّي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلمُ أني قد أُحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه والدُّعاء والاستغفار »(٢) .

لقد أظهر الحسينعليه‌السلام بلسان الحال بأن الصلاة هي أثمن ما في الحياة، وبأنّ لها نكهة خاصة في الظروف غير الطبيعية، حيث تُزوّد الإنسان المقهور بشحنات من النور، ودفقات من الحرارة الروحية، فتشد من عزيمته وتخفف من وطأة الخطوب عنه.

والمفارقة العجيبة التي حصلت في واقعة الطف، أن الحسينعليه‌السلام الذي صلى الظهر - كما أسلفنا - صلاة الخوف، كان أعداؤه يخافون من صلاته،

__________________

(١) اللهوف: ٦٦.

(٢) الإرشاد ٢: ٩٠ - ٩١.

٣٨

لأنهم وجدوا فيها سلاحا فعالاً لتأجيج المشاعر وصحوة الضمائر عند مرتزقتهم، لذلك حاولوا بشتى السبل والحيل أن يمنعوه من إقامة شعائر الصلاة، لولا المعارضة التي أبداها بعض قادة وجنود الجيش الأموي، وخشيتهم من انقلاب الأوضاع لغير صالحهم، لا نقول هذا الكلام جزافا وانما نستند إلى أقوال الرّواة الذين نقلوا بان الحسينعليه‌السلام عندما طلب من أخيه العباس إرجاء أو تأجيل القتال إلى الغد، فقد توقف عمر بن سعد ولم يُبد أي موافقة على هذا الطلب، ولكن بعد المعارضة القوية والاستهجان الذي قُوبل به من قبل بعض أفراد قواته أذعن لهذا الطلب المشروع، ووافق على مضض، وخاصة عندما احتج عليه عمرو بن الحجاج الزبيدي الذي قال مستنكرا ومستهجنا: «واللّه لو أنهم من الترك والديلم وسألونا مثل ذلك لأجبناهم، فكيف وهم من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ! فأجابوهم إلى ذلك »(١) .

فكانت صلاة الإمام وعبادته الصادقة عندما تقدّم الصفوف بسيماه الملائكي وهو يضع على رأسه عمامة رسول اللّه المعروفة بالسحاب، كانت تشكل عامل جذب لبعض النفوس الخيرة المتحيرة، التي التبست عليها الأمور، وكانت تراقب سلوكيات المعسكرين لكي تتعرف على ملامح الحق ودلائل الصدق، فوجدت في الحسينعليه‌السلام وأصحابه سيماء الإيمان والصلاح والحرص على حقن الدماء، لذلك انجذبت إلى جبهة الحسينعليه‌السلام كما ينجذب الفراش نحو النور.

ويروى أنّ أصحاب الحسينعليه‌السلام باتوا ليلة عاشوراء ولهم دوي كدوي

__________________

(١) اللهوف: ٥٤.

٣٩

النحل، ما بين راكع وساجد وقائم وقاعد، ومن أجل تلك المظاهر الإيمانية النقية تأثّر البعض من الطرف المقابل وانضمّ إلى معسكر الحق.

يقول الرواة: « عبر عليهم - أي على أصحاب الحسينعليه‌السلام - في تلك الليلة من عسكر عمر بن سعد اثنان وثلاثون رجلاً »(١) .

وفي ظل هذه الأجواء، فاننا لا نتجاوز الحقيقة إذا ما قلنا بأن القيادة اليزيدية سعت إلى عرقلة ومنع تلك المظاهر العبادية بشتى الأساليب وأقسى التدابير، وعند استقرائنا لتلك الاجراءات وجدنا أن الوثائق التاريخية تؤيد وتؤكد بأن هذه القيادة قد اتبعت أسلوبين أساسيين، هما:

الأول: أسلوب التشكيك

من خلال الإدعاء بأن صلاة الحسينعليه‌السلام لا تقبل لأنه - حسب زعمهم - قد شقَّ عصا الطاعة، وفارق الجماعة، ورفض البيعة ليزيد بن معاوية، وقد برزت تلك المزاعم الواهية بصورة علنية عندما استأذنهم الإمامعليه‌السلام لأداء فريضة صلاة الظهر، وطلب منهم أن يمهلوه حتى نهاية الصلاة، فقال له الحصين وهو أحد أقطاب الجيش اليزيدي: انها لا تُقبل منك!. فردّ عليه الصحابي الجليل حبيب بن مظاهر الأسدي وقال له: زعمت انها لا تقبل من آل رسول اللّه، وتُقبل منك يا حمار!(٢) ، فحمل الحصين عليه، فخرج إليه حبيب بن مظاهر وضرب وجه فرس الحصين بالسيف فشبَّ به الفرس، ووقع عنه، فحمل أصحابه وجعل حبيب يحمل

__________________

(١) انظر: اللهوف: ٥٧.

(٢) انظر: تاريخ الطبري ٦: ٢٣٧، حوادث سنة احدى وستّين.

٤٠