الزهراء سيدة نساء العالمين (ع)

الزهراء سيدة نساء العالمين (ع)22%

الزهراء سيدة نساء العالمين (ع) مؤلف:
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 173

الزهراء سيدة نساء العالمين (ع)
  • البداية
  • السابق
  • 173 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 67871 / تحميل: 8084
الحجم الحجم الحجم
الزهراء سيدة نساء العالمين (ع)

الزهراء سيدة نساء العالمين (ع)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

الخطبة التاريخية لسيدة الإسلام فاطمة الزهراء ( عليها السلام )

ساد العالم الإسلامي بعد وفاة الرسول هزّة عنيفة، وكان محور هذه العاصفة يدور حول منصب ( الخلافة )، ثمّ انتقل إلى كلِّ ما يرتبط بهذا المنصب، منها قرار مصادرة أرض ( فدك )، التي وهبها الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) لابنته فاطمة ( عليها السلام ) استناداً إلى مصالح مهمة، فقد صودرت من قِبل النظام الحاكم(١) .

لاحظت فاطمة ( عليها السلام ) أنّ هذا التجاوز الواضح، وما رافقه من تجاهل

____________________

١. ( فدك ) كما قلنا هي واحدة من القرى المعمورة، التي تقع على أطراف المدينة المنوّرة، ويسكنها جمع من اليهود، وهم كسائر يهود المدينة وخيبر في التآمر على الإسلام.

في السنة السابعة للهجرة وبعد أن تساقطت قلاع خيبر الواحدة تلو الأخرى أمام جنود الإسلام، وبعد أن تحطّمت قدرة اليهود المركزية، لجأ سكان ( فدك ) للصلح مع النبي ( صلّى الله عليه وآله )، والتسليم له، فقد أعطوه نصف الأرض والبساتين، واحتفظوا بالنصف الآخر.

قام الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) في حياته - طبقاً لِما نقله مؤرخو ومفسرو الشيعة والسنّة - بإعطاء فدك لفاطمة ( صلّى الله عليه وآله )، لكنّ غاصبي الحكومة الإسلامية بعد الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) قاموا بمصادرة تلك الأرض؛ استناداً إلى حجج باطلة، ومن ثَمَّ ضمها إلى بيت المال - وفي الواقع ضمّها إلى أموالهم ومنافعهم الشخصية - خوفاً من نموّ القدرة الاقتصادية لزوجة أمير المؤمنين علي ( عليه السلام )، وبالتالي منافستهم سياسياً على الخلافة، علماً أنّهم عمدوا إلى تشتيت أصحاب علي ( عليه السلام ).

إنِّ قصة فدك والحوادث المختلفة الأخرى، التي جرت في صدر الإسلام والمرحلة التي تلت ذلك، لهي من أغمِّ وأشدِّ ما أفرزه التاريخ الإسلامي ألماً وعبرةً ومآسياً، وهذا ما ورد تفصيله في فصل من هذا الكتاب وبشكل منفصل.

١٠١

للأحكام الإسلامية في هذا الأمر، سيجرف الأمّة الإسلامية إلى انحراف كبير عن تعاليم الإسلام وسُنة الرسول الكريم ( صلّى الله عليه وآله )، والاندفاع نحو تقاليد الجاهلية، من ناحية أخرى فإنّها مقدمة لفرض، إقامة جبرية على عليٍّ أمير المؤمنين ( عليه السلام )، ومحاصرته وأصحابه اقتصادياً؛ لذا بدأت بالدفاع عن حقها أمام غاصبي ( فدك )، وطالبت بكل وجودها بإعادة حقها السليب، لكن النظام الحاكم رفض أداء حقها؛ بحجة باطلة وحديث موضوع ( نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ).

أقبلت سيدة نساء العالمين مع لُمة من نساء بني هاشم إلى مسجد النبي ( صلّى الله عليه وآله )؛ لتعلن عن رأيها وظلامتها أمام جمهور المسلمين، وسادات المهاجرين والأنصار؛ حتى تتمَّ حجتها، وتكشف حجج هذا الغصب العجيب والمصادرة الظالمة من قِبل جهاز النظام، إضافةً إلى فضح صفوف المدافعين عن سياسة التجاوز، وتمييزهم عن الأمناء الحقيقيين للإسلام.

غير مكترثة للضجة المفتعلة بهذا الخصوص، وما ستفرزه هذه الفضيحة الكبيرة من نتائج، فقد استمرت في تصميمها، واحتجت على ( غصب فدك ) من خلال خطبة غرّاء، ألقتها أمام المهاجرين في المسجد، مزيلةً الستار عن كثير من الحقايق.

كانت هذه الخطبة بمثابة تحذير مروّع لأولئك الذين سعوا إلى حرف الحكومة الإسلامية، وخلافة الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) عن مسيرها الحقيقي، وتضييع تلك الجهود التي تحمّلها لأكثر من عقدين.

كانت خطبتها ( ناقوس الخطر ) لأولئك الذين ينبض قلبهم بعشق الإسلام، ويخافون على مستقبل هذا الدين الطاهر.

١٠٢

و ( الإنذار العنيف ) لأولئك الغافلين عن تغلغل المنافقين، ونفوذهم في الجهاز السياسي بعد الرسول ( صلّى الله عليه وآله )، والمتجاهلين لأعمالهم المبطّنة.

( الصرخة الأليمة ) في حماية عليٍّ أمير المؤمنين ( عليه السلام )، ووصي رسول ربّ العالمين ( صلّى الله عليه وآله )، حيث تجاهل بعض السياسيين كلَّ ما ورد فيه من آيات قرآنية وتوصيات للرسول ( صلّى الله عليه وآله ).

( إحقاق الحق المهضوم )؛ لتوعية كل مَن غُصب حقه، وهو يفضّل المسالمة والسكوت على الانتفاضة والتصدي.

( الصيحة المؤثرة ) التي دوّى صداها في كلَّ مكان، وبقيت آثارها على مر العصور والقرون.

( الزلزال العميق ) الذي أيقظ أمواجه المتلاطمة تلك الأرواح النائمة - ولو مؤقتاً - وأظهر لها طريق الحق.

وأخيراً فقد كانت ( الصاعقة المميتة ) التي حلّت على رؤوس أعداء الإسلام وأخذتهم بغتةً، أمّا عمق التحليلات التي أوردتها الصديقة الطاهرة، بشأن أعقد المسائل المرتبطة بالتوحيد والمبدأ والمعاد، فإنّما تكشف عن بعد نظرها وسعة رؤيتها ( عليها السلام ).

إنّ ما تضمّنته خطبة ابنة الرسول الكريم ( صلّى الله عليه وآله ) من تفسير للقضايا العقائدية والسياسية والاجتماعية، لهو دليل واضح ودامغ على أنّ تلك الصدّيقة ليست متعلقةً بزمان دون آخر.

الملاحم الثورية التي جرت على لسان فاطمة ( عليها السلام ) في هذه الخطبة، تدل على أنّها سيدة فدائية مجاهدة، وزعيمة صالحة للمقاتلين في سبيل الله، والمجاهدين في سبيل الحق.

إنّ لحن سيدة النساء في هذه الخطبة الذي ينفذ إلى أعماق روح

١٠٣

الإنسان وقلبه، يبيّن حقيقةً مهمةً، وهي أنّها محدّثة بليغة، وخطيبة مقتدرة، كزوجها أمير المؤمنين علي ( عليه السلام )، فقد كانت هذه الخطبة الغرّاء على غِرار خُطب علي ( عليه السلام ) في نهج البلاغة، وسارت معها جنباً إلى جنب حتى أظهرت الأيام، أنّ ابنتها زينب قد ورثت ذلك من أبيها وأمّها معاً، حيث ألقت بخطبها في سوق الكوفة ومجلس يزيد الرعب في نفوس بني أميّة المجرمين، وزلزلت أركان دار الإمارة، ونثرت بذور الثورة في قلوب أهل الكوفة والشام ضد هذه الحكومة الجائرة الجبارة.

أفرزت خطبة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) العديد من الدروس، فما بيّنته في أدق مسائل الفلسفة وأسرار الأحكام، وتحليل تاريخي سياسي للإسلام، ومقارنة بين العرب في زمن الجاهلية وبين حياتهم بعد ظهور الإسلام، تعتبر دروساً عظيمة المعنى، يستفيد منها كل مَن يسير على خُطى الحقِّ مجاهداً في سبيل الله.

والأهم من ذلك، إنَّ فاطمة ( عليها السلام ) أفصحت عن موقف آل بيت النبِّي ( صلّى الله عليه وآله ) بالنسبة إلى النظام الحاكم، وبرّأت ساحة الإسلام المقدسة من الظلم والجور، الذي ارتُكب باسم الإسلام، ولو انحصرت فائدة الخطبة في هذا الأمر، لكان كافياً!

١٠٤

أسانيد ووثائق الخطبة

تُعد هذه الخطبة واحدةً من الخطب المشهورة، التي نقلها كبار علماء الشيعة والسنة بسلسلة كبيرة من الأسانيد المعتبرة، خلافاً لِما يتصوِّره البعض من أنّها ضعيفة أو حتى عديمة السند، ومن بين المصادر التي أوردت هذه الخطبة هي:

١ - أورد عالم أهل السُنّة المشهور ابن أبي الحديد المعتزلي، في توضيح رسالة ( عثمان بن حنيف ) في الفصل الأَوّل من ( شرح نهج البلاغة )، وثائقَ مختلفةً عن خطبة سيدة الإسلام فاطمة ( عليها السلام )، ويصرّح قائلاً بأنّ الأسانيد التي أوردتها لهذه الخطبة ليست مأخوذةً من أيٍّ من كتب الشيعة.

ثمّ يشير إلى كتاب ( السقيفة ) لـ ( أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري )، الذي يُعدُّ واحداً من كبار محدثي أهل السُنّة، بأنّه نقل هذه الخطبة في كتابه من عدة طرق - وأورد ابن أبي الحديد جميع تلك الطرق في شرح نهج البلاغة، ولغرض الاختصار فقد صرفنا النظر عن ذكرها - بعدها يضيف، عندما عزمت الحكومة على غصب ( فدك )، أقبلت

١٠٥

فاطمة ( عليها السلام ) إلى المسجد، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله، وهناك ألقت خطبتها الغرّاء.

ثمّ ينقل ابن أبي الحديد تلك الخطبة المشهورة والمعروفة، وإن كان هنالك اختلاف طفيف في عبارات هذه الخطبة في بعض النقول.

٢ - أورد ( علي بن عيسى الأربلي ) هذه الخطبة في كتاب ( كشف الغمّة )، نقلاً عن كتاب ( السقيفة ) لأبي بكر أحمد بن عبد العزيز.

٣ - أشار ( المسعودي ) في ( مروج الذهب ) إلى الخطبة بشكل إجمالي.

٤ - ( السيد المرتضى ) العالم والمجاهد الشيعي الكبير أورد هذه الخطبة في كتابه ( الشافي )، نقلاً عن عائشة زوجة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ).

٥ - ذكر المحدّث المعروف ( المرحوم الصدوق ) مقتطفات منها في كتاب ( علل الشرائع ).

٦ - روى الفقيه المحدّث المرحوم الشيخ ( المفيد ) قسماً من هذه الخطبة.

٧ - أورد ( السيد بن طاووس ) قسماً منها في كتاب ( الطرائف )، نقلاً عن كتاب ( المناقب ) لـ ( أحمد بن موسى بن مردويه الأصفهاني )، وهو من مشاهير أهل السُنّة الذي نقلها بدوره عن عائشة.

٨ - وأوردها المرحوم ( الطبرسي ) صاحب كتاب ( الاحتجاج ) بصورة مرسَلة(١) .

على كل حال، فإنّ هذه الخطبة التاريخية هي واحدة من خطب أهل البيت ( عليهم السلام ) المعروفة، وطبقاً لِما نقل فإنَّ كثيراً من الشيعة المخلصين

____________________

١. بحار الأنوار: العلاّمة المجلسي، ج٨، ص١٠٨ الطبعة القديمة.

١٠٦

أوصوا أبناءهم بحفظ هذه الخطبة؛ حتى لا يستقر عليها غبار النسيان بمرور الزمن، ولا تكون محطّاً للتجاهل والتصغير من قِبل الأعداء المغرضين.

والأُولى أن يحفظها اليوم جيل الشباب الشجاع، وينقلها لأجيال الغد.

١٠٧

المحاور السبعة لخطبة فاطمة الزهراء ( عليها السلام )

تتضمن هذه الخطبة الغرّاء التي قلّ نظيرها سبعة محاور، وتدور حول سبعة مباحث، ينشد كل منها هدف واضح، ويجب دراسة كلٍّ منها بصورة مستقلة.

المحور الأَوّل:

تحليل عميق ومختصر لمسائل التوحيد، وصفات الخالق، وأسمائه الحسنى، وهدف الخِلقة.

المحور الثاني:

التذكير بمنزلة الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) السامية، وصفاته ومسؤولياته وأهدافه.

المحور الثالث:

التحدّث عن أهمية القرآن المجيد، وعمق تعاليم الإسلام، وفلسفة الأحكام وأسرارها، والإرشادات والنصائح في هذا المجال.

المحور الرابع:

من خلال تعريف نفسها، تقوم سيدة النساء ( عليها السلام ) بالإفصاح عن خدمات أبيها رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) لهذه الأمّة، وهنا تذكّرهم فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) بعصر الجاهلية القريب؛ ليكون لهم عبرةً، ومن ثَمّ مقارنته مع وضعهم بعد الإسلام، واتخاذ درس من هذا الاختلاف والتغيير.

١٠٨

المحور الخامس:

تُفصح عن الأحداث التي تلت وفاة الرسول الكريم ( صلّى الله عليه وآله )، وسعي حزب المنافقين لمحو الإسلام.

المحور السادس:

تتحدث عن الحجج الواهية التي اتّخذوها ذريعةً في غصب ( فدك )، ومن ثَمّ تفنيد تلك الحجج.

المحور السابع:

ومن أجل أن تُتِمَّ حجتها تقوم سيدة النساء ( عليها السلام ) باستنصار الأنصار، وأصحاب الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) المخلصين، وتنهي خطبتها ببشارتهم بالعذاب الإلهي.

١٠٩

المحور الأَوّل

توحيد الله وصفاته، وهدف التكوين

النص:

( الحمدُ للهِ على ما أَنعم، وله الشكرُ على ما أَلهم، والثناءُ بما قدّم، من عموم نِعمٍ ابتدأها، وسبوغ آلاءٍ أسداها، وتمام مِنَنٍ والاها!

جمَّ عن الإحصاء عددُها، ونأى عن الجزاء أمدُها، وتفاوتَ عن الإدراك أبدُها، ونَدَبهم لاستزادتها بالشكرِ لاتصالِها، واستحمد إلى الخلائق بإجزالِها، وثنّى بالندبِ إلى أمثالِها.

وأشهدُ أن لا إله إلاّ الله، وحده لا شريك له، كلمةٌ جعلَ الإخلاصَ تأويلَها، وضمّنَ القلوبَ موصولَها، وأنارَ في الفكر معقولَها.

الممتنع من الأبصارِ رؤيتُه، ومن الألسنِ صفتُه، ومن الأوهام كيفيتُه.

ابتدعَ الأشياءَ لا من شيءٍ كان قَبلها، وأنشأها بلا احتذاءِ أَمثلةٍ امتثلها.

كوّنها بقدرتهِ، وذرأها بمشيئتهِ، من غير حاجةٍ منه إلى تكوينِها، ولا فائدةٍ له في تصويرها؛ إلاّ تثبيتاً لحكمته، وتنبيهاً على طاعته، وإظهاراً لقدرته، وتعبّداً لبريته، وإعزازاً لدعوته، ثمّ جعلَ الثوابَ على طاعتهِ، ووضعَ العقابَ على معصيتهِ؛ ذيادةً لعباده عن نقمته، وحياشةً لهم إلى جنته ).

١١٠

المناقشة:

في القسم الأَوّل للخطبة عدد من المسائل المهمة الجديرة بالبحث:

١ - الالتفات إلى الحقيقة التي نعيشها، وهي أنَّ نِعَمَ الله جلّ وعلا، قد أحاطت بكلِّ وجودنا حتى غرقنا فيها، وهذا الأمر يحيي فينا حسَّ الشكر والثناء، بل ويجرّنا إلى معرفة ذاته الطاهرة.

وهذا ما يعتمد عليه علماء علم الكلام - العقائد - تحت عنوان ( وجوب شكر المنعم )، في مسألة وجوب معرفة الله سبحانه وتعالى.

٢ - إذا كان الله سبحانه وتعالى قد دعا عباده إلى شكر نِعمه، فليس ذلك من باب الحاجة له ؛ بل ليكتسب العباد من خلاله - الشكر - لياقةً أكبر ودرجةً أعلى، وبالتالي تشملهم نِعم أوفر.

٣ - إنّ العباد عاجزون عن أداء حق الشكر لله؛ لأنّ التوفيق للشكر هو نعمةٌ بحد ذاته، كما أنّ آلات الشكر من - فكر، ويد، ولسان - هي أيضاً من نِعم الله؛ لذا ليس لهم إلاّ الاعتراف بالعجز. ( وكيف أؤدي حق شكرك، وشكرك يحتاج إلى شكر ).

٤ - الإخلاص هو روح التوحيد، تطهير الروح من دَنس الشرك بالله، ومنح القلب كرهينة لحبه، والخضوع والخنوع لأمره، وخلاصة القول، تجاهل ونبذ كل ما لا يُرضي الله، ونسيان كل شيء سواه.

٥ - في الواقع أنّ التوحيد قد أُودع في فطرة الإنسان منذ البدء، ويشع هذا النور الإلهي في أعماق كل إنسان، وكل واحد منهم يسمع من باطنه نداء ( الله اكبر )؛ ولهذا فعندما يتضاعف البلاء، وتتمزّق أستار الغفلة، يظهر هذا الإشعاع بوضوح أكثر من أي وقت آخر، وينجذب الجميع لا إرادياً نحو أنفسهم مردّدين ( لا إله إلا هو ).

١١١

٦ - لا يمكن درك كُنه ذاته حتى بالتفكّر العميق؛ حيث:

( كُلّما مَيّزتُمُوهُ بأوْهامِكمْ في أدَقّ مَعانِيهِ، مخلوقٌ مصنوع مثلُكُم مردُودٌ إليْكُم )(١) كما لا يمكن معرفة كُنه صفاته؛ لذا يجب أن نعترف جميعاً بأنّه:

( وَما عَرَفُناكَ حَقَّ معرفَتِكَ )(٢) .

( ما عَبْدناكَ حَقَّ عِبادَتِكَ )(٣) .

٧ - تُعد مسألة الخلق والتكوين البدائي واحدةً من المسائل المهمة، فلم تكن هناك مادةٌ مصنوعةٌ من قبل، حتى يخلق الله منها هذا العالم، بل إنّ الخلق والتكوين قد تمّ من العدم، وقد اختصت هذه الخلقة بذاته الطاهرة، حتى صعب على البعض تصور ذلك.

٨ - المسألة المهمة الأخرى في أمر الخلق والتكوين ، هي أنّ المصوّرين يعتمدون دائماً في تصويرهم ورسوماتهم على ما يستلهمونه من الطبيعة، وأحياناً يقومون بخلط أشكال مختلفة؛ ليُبدعوا في صنع شكل جديد، أمّا الله سبحانه وتعالى فهو المبدع الذي صوّر العالم، وجسّمه دون تحضير مسبق أو تمثيل قبلي.

٩ - البحث المهم الآخر في هذا المحور من الخطبة التاريخية لسيدة النساء ( عليها السلام )، هو الغنى المطلق لله عن كل شيء .

من البديهي أنّ الوجود اللامتناهي من جميع النواحي للذات المقدّسة، يجعلها غنيّةً مطلقةً عن كلّ نوع من أنواع الحاجة؛ لأنّ ( الحاجة ) تدل على ( النقص )، والنقص ينحصر في الموجودات التي يمكن تصوّرها،

____________________

١. أربعين الشيخ البهائي، وبحار الأنوار ( للعلاّمة المجلسي )، ج٦٩، ص٢٩٣-٢٩٢.

٢. أربعين الشيخ البهائي، وبحار الأنوار ( للعلاّمة المجلسي )،ج٦٩، ص٢٩٣-٢٩٢.

٣. مستدرك الوسائل المحدّث النوري، ج١، ص١٦.

١١٢

لا في ذات الحق الغير متناهية.

١٠ - وأخيراً فإنّ المسألة المهمة الأخرى التي طُرحت في هذا المحور، هي ( هدف الخلق )، حيث تلخّص سيدة الإسلام ذلك في جُمل قصيرة عظيمة المعنى:

أ - تبيين وتوضيح الحكمة الإلهية اللامتناهية.

ب - دعوة العباد إلى طاعته.

ج - الإشارة إلى قدرته المطلقة.

د - دعوة العباد إلى عبوديته.

هـ - منح أنبيائه القوة.

هذه هي الأهداف التي بيّنتها فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) في مسألة الخلق، والمُلفت للنظر أنّ هذه الأهداف ملازمة لبعضها البعض، فعندما يرى العبد آثار حكمة الخالق وقدرته في عالم الوجود الواسع ينقاد إلى طاعته، ويتوجه إلى عبوديته، وينعقد بمدارج كماله.

ومن ناحية أخرى، يكون للأنبياء نفوذ أكثر وأعمق في قلوب الناس، عندما يكون حديثهم مرتكزاً على نظام خلق عالم الوجود، فتسهل عليهم مسألة الهداية.

وعليه فلم يخلق الله الكون حتى يستفيد، بل إنّ الهدف هو أن يجود على العباد، فإرادته في أن ينتهجوا سبيل الهداية، فدعاهم إلى قربه، وليسيروا على نهجه، فيستحقوا المزيد من كرمه ولطفه.

١١٣

المحور الثاني

منزلة الرسول الكريم ( صلّى الله عليه وآله ) السامية، خصائصهُ وأهدافه

النصّ:

( وأشهدُ أنّ أبي محمداً عبدُه ورسولُه، اختارهُ وانتجبهُ قَبل أنْ أرسلَه، وسمّاه قبل أنْ اجتبله، واصطفاه قبل أنْ ابتعثه، إذ الخلائقُ بالغيب مكنونةٌ، وبسترِ الأهاويلِ مصونةٌ، وبنهايةِ العدم مقرونةٌ.

علماً من الله تعالى بمآيل ( بمآل ) الأمورِ، وإحاطةً بحوادثِ الدهورِ، ومعرفةً بمواقعِ المقدورِ.

ابتعثه اللهُ إتماماً لأمرهِ، وعزيمةً على إمضاءِ حكمهِ، وإنفاذاً لمقاديرِ حتمهِ.

فرأى الأُمم فِرَقاً في أديانِها، عُكّفاً على نيرانِها، ( و ) عابدةً لأوثانِها، مُنكِرةً للهِ مع عرفانِها.

فأنارَ اللهُ بمحمد ( صلّى الله عليه وآله ) ظُلَمَها، وكشفَ عن القلوبِ بُهَمِها، وجلى عن الأَبصارِ غُمَمَها.

وقامَ في الناس بالهدايةِ، وأنقذَهم من الغواية، وبصَّرهم من العماية.

وهداهم إلى الدينِ القويمِ، ودعاهم إلى الطريقِ المستقيمِ، ثمّ قبضَهُ اللهُ

١١٤

إليه قبضَ رأفةٍ واختيارٍ، ورغبةٍ وإيثارٍ، فمحمدٌ ( صلّى الله عليه وآله ) عن ( مِنْ ) تعبِ هذه الدار في راحةٍ، قد حُفّ بالملائكة الأبرارِ، ورضوان الربِّ الغفّارِ، ومجاورةِ المَلِك الجبّارِ.

صلّى الله على أبي نبيِّه وأمينِهِ على الوحي، وصفيِّه وخيرته من الخَلقِ ورضيِّه، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته ).

التفسير:

تشير مولاتنا فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) في هذا المحور من خطبتها، إلى جزء من المسائل المهمة المتعلّقة بشخص رسول الله ( صلّى الله عليه وآله )، منها:

١- تتحدّث عبارتها الأُولى عن جوهر ذات الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) المقدّسة، الشيء الذي أُشير إليه في سائر الأحاديث الإسلامية أيضاً، وهنا يبرز بحث مهمٌ، وهو هل تختلف النشأة التكوينية للرسول ( صلّى الله عليه وآله ) كلياً عن الآخرين؟ وإذا كان كذلك فإنّ عصمته تكون جزءً من مستلزمات تلك الذات، وليس في هذا من فضل.

وإذا كان جوهره لا يختلف عن الآخرين، إذاً، فما الهدف الذي تبغيه مولاتنا من وراء هذه التعابير؟.

الحقيقة هي أنّ ميزات ومواهب الأنبياء والأئمة تنقسم إلى قسمين، فبعضها ذاتية، وبعضها الآخر مُكتسَبة، وبالتدقيق في هذا التركيب الخاص فقد أجيب على كثير من التساؤلات.

وبتعبير آخر، فإنّ الربّ الحكيم الذي حمّل نبيه أعباء تلك المهمة العظيمة، منحه استعدادات ذاتية، فقد أعطاه جوهراً ممتازاً، ذكاءً متوقّداً، إرادةً حديديةً، عزماً راسخاً، وعلماً وفيراً، وتشخيصاً صائباً، وإلاّ فلن

١١٥

يتمكن شخصٌ ضعيفٌ من القيام بهذه الرسالة الكبيرة، وسينتفي غرضها.

وهذا الأمر لا يتّصف إلاّ بالعدالة، فقوة عضلات الساعد تفوق بكثير قوة عضلات جفن العين؛ لأنّ وظيفة الأخيرة رفع وخفض جفن العين، في حين وظيفة الأخرى رفع الأحمال العظيمة، وإنجاز الأعمال الثقيلة، وخلاف ذلك هو خلافٌ للعدالة.

ومع هذا، فإنّ الجوهر الذاتي للرسول ( صلّى الله عليه وآله ) لم يَسلب منه الإرادة والاختيار، فهو أيضاً له القدرة على المعصية ( والعياذ بالله )، علماً أنّه لا يرتكب المعصية.

لا تتعجب، فالكثير من الناس العاديين يتمتعون بنفس هذه الحالة بالنسبة لبعض المعاصي، فمثلاً يستطيع كل امرئ أن يظهر عارياً كما ولدته أُمّه أمام جمع من الناس، أو أنّ له القدرة على النوم عارياً في ثلوج ليلة شتاء قارصة، ولكن في نفس الوقت لا تصدر هذه الأفعال إلاّ من المجانين.

يتمتع الأنبياء والأئمة المعصومون بنفس هذه الحالة بالنسبة لجميع المعاصي.

وهذا يُلفت النظر إلى المسؤولية الكبيرة التي يتحمّلها المعصومون تجاه جوهرهم الطاهر، فلا يُقبل منهم أبداً ترك العمل بالأَولى.

وتعبير فاطمة ( عليها السلام ) الذي تقول فيه ( عِلماً من الله تعالى بمآيل، الأمور وإحاطةً بحوادث الدهور ) إنّما يُشير إلى تلك النقطة، وهي أنّ الله يعلم بثقل الرسالة التي ستُلقى على عاتق النبي ( صلّى الله عليه وآله )؛ لذا جعل جوهره بهذا المستوى الممتاز.

٢ - جاء الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) لإتمام الأوامر الإلهية، وتنفيذ أوامره التكوينية.

١١٦

تشير هذه العبارة إلى مسألة ختم النبوة بالرسول الكريم ( صلّى الله عليه وآله )، وهي أيضاً إشارة إلى مسألة إتمام المواهب التكوينية عن طريق التشريع والأحكام الإلهية.

٣ - تُعرّج ابنة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) في هذا المقطع من حديثها، على الوضع المأساوي للأُمم قبل بعث الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) ، وكيفية ابتلائهم بظُلمة الخرافات، المجوس في تعظيمهم للنار، والعرب في عبادتهم للأصنام، وسائر المِلل في ابتلائها بنوع من الانحراف والتفرقة.

وما أعظم قولها ( مُنكِرَةً للهِ مع عرفانِه )، الذي تشير فيه إلى مسألة ( التوحيد الفطري ) المكنون في كل البشر.

٤ - تشير ( عليها السلام ) في قسم آخر من بيانها الرائع إلى بركات وجود النبي ( ص ) وآثار قيامه ، وكيف أبعدَ عن أفقِ أفكارهم سُحب الأوهام السوداء المظلمة، وأزال عن قلوبهم صدأ الجهل والخرافات، ومزّقَ الغشاوة التي حجبت أبصارهم عن مشاهدة الحق، ودعاهم إلى ( الصراط المستقيم )، والحد الأوسط الذي يفصل بين الإفراط والتفريط.

ومن أجل فهم ودرك عمق هذا الحديث، يجب إجراء مقارنة دقيقة بين وضع الناس في عصر الجاهلية ووضعهم بعد ظهور الإسلام، حتى يتّضح الواقع الذي بيّنته سيدة الإسلام ( عليها السلام ) في خطبتها.

٥ - من المسائل التي يجدر الإشارة إليها في هذا المقطع من خطبة سيدة النساء ( عليها السلام ) التاريخية، هي الموت الكريم - أو العزيز - للرسول ( صلّى الله عليه وآله ):

ذلك الذي كُبّلت روحه المتألقة بقيود الجسد في هذه الدنيا الفانية، وبعد أن أدّى الرسالة، وأتمَّ المسؤولية، كسّر تلك القيود محلّقاً نحو الحبيب، مرفرفاً في فنائه، آخذاً مكانه بين ملائكة السماء المقرّبين.

١١٧

المحور الثالث

كتاب الله وفلسفة الأحكام

النص:

ثمّ التفتت ( عليها السلام ) إلى أهل المجلس وقالت:

( أَنتم عبادَ الله نُصْبَ أمرهِ ونهيهِ، وحَمَلةُ دينهِ ووحيهِ، وأُمناءُ اللهِ على أنفسكِم، وبُلغاؤه إلى الأُممِ.

وزعيم حقِّ له فيكم، وعهدٌ قدّمه إليكم.

وبقيةٌ استخلفها عليكم، كتاب اللهِ الناطق، والقرآن الصادق، والنور الساطع، والضياء اللامع، بيِّنةٌ بصائرُه، منكشفةٌ سرائرُه، متجلّيةٌ ظواهرُه، مغتبطٌ به أشياعُه، قائدٌ إلى الرضوان اتِّباعُه، مؤدٍّ إلى النجاة استماعُه، به تُنال حجج الله المنوَّرة، وعزائمه المفسرّة، ومحارمه المحذّرة، وبيِّناته الجالية، وبراهينه الكافية، وفضائله المندوبة، ورُخصه الموهوبة، وشرايعه ( شرائعه ) المكتوبة.

فجعل اللهُ الإيمانَ تطهيراً لكم من الشرك، والصلاةَ تنزيهاً لكم عن الكِبْر، والزكاةَ تزكيةً للنفس، ونماءً في الرزق، والصيامَ تثبيتاً للإخلاص، والحجَّ تشييداً للدين، والعدلَ تنسيقاً للقلوب، وطاعتَنا نظاماً للملّة، وإمامتَنا أماناً من الفُرقة ( للفُرقة )، والجهادَ عزّاً للإسلام، والصبرَ معونةً

١١٨

على استيجاب الأجر، والأمرَ بالمعروف مصلحةً للعامة، وبرَّ الوالدين وقايةً من السخط، وصلةَ الأرحام مَنماةً للعدد، والقصاصَ حقناً للدماء، والوفاءَ بالنذر تعريضاً للمغفرة، وتوفيةَ المكاييل والموازين تغييراً للبخس، والنهيَ عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس، واجتنابَ القذفِ حجاباً عن اللعنة، وتركَ السرقة إيجاباً للعفة، وحرَّم اللهُ(١) الشركَ إخلاصاً له بالرُّبوبية.

فـ( اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُسْلِمُونَ ) (٢)

وأَطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، فإنّه( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) )(٣) .

التفسير:

تُشير سيدة الإسلام ( عليها السلام ) في هذا القسم من الخطبة إلى أمور مهمة أيضاً، منها:

١ - تُعد مسؤولية المسلمين، في إبلاغ الرسالة ونشر الإسلام في العالم، والدفاع عن قوانين وتعاليم وقيم الدين الحنيف، من المسؤوليات الخطيرة، التي لو تقاعس المسلمون عن أدائها كان حقّا عليهم أن ينتظروا العقاب والجزاء الإلهي، وأن يُطردوا من ساحة رحمته الواسعة.

٢ - نبّهت إلى عظمة القرآن على أنّه كتاب ناطق، ونور جلي، وضوء مشع، حارب وبشدة ظلمات الجهل، والتعصب والخرافات.

ذلك الكتاب الذي ظاهره الجمال والنور، وباطنه العِبرة والمعنى

____________________

١. جاء في نسخة أخرى ( حرّم الشرك ).

٢. سورة آل عمران، آية ١٠٢.

٣. سورة فاطر، آية ٢٨.

١١٩

الغزير، وأدلته مقنعة منجية.

ذلك القائد الذي يضمن لتابعيه النجاة؛ حيث دعاهم إلى جنة أزلية.

فهو قائد النجاة الذي بيَّن بمنطقه الفصيح أدلة التوحيد، وثبّت مبادئ العقيدة ببراهينه النيّرة، وأفصحَ عن البرامج العملية، التي يحتاجها المرء في طريق تكامل الإنسانية، فشخّص ( المباح ) من ( المحظور )، ( الجيد ) من ( الرديء )، و ( الحق ) من ( الباطل ).

٣ - أبدعت في تبيان فلسفة الأحكام من خلال عبارات قصيرة، فبدأت بالإيمان حتى الوفاء بالنذر، ومن التوحيد حتى ترك البَخس في الميزان، فوصفت كلاً منها بجملة ومقولة، فما أحلى تعبيرها ( فجعلَ اللهُ الإيمانَ تطهيراً لكم من الشركِ ).

يتضح من هذا التعبير، أنَّ حقيقة معرفة الله وتوحيده مكنونة في فطرة الإنسان؛ لهذا جاء الإسلام ليطهّره من الملوّثات العرضية، التي تنتج عن طريق الشرك، كما تُغسل الثياب البيض بعد اتساخها؛ ليظهر لونها الأصلي.

شرّع الله ( الصلاة )؛ ليوطّن بها روح التواضع في الناس، ويسحب المتكبرين من منصة الغرور، عن طريق الركوع والسجود، والدعاء في حضرة الخالق.

( الزكاة ) تكون سبباً في تحرير روح الإنسان من أسر الدنيا، وتعلّقه بزخرفها وأموالها، وتنمية ثروات الأمّة، من خلال تعزيز البنية المالية للمحرومين.

( الصيام ) يجعل الإنسان مسيطراً على هوى نفسه، ويثبّت فيه روح الإخلاص، ويضفي على أغصان وجوده براعم وزهور التقوى.

١٢٠

( الحجُّ ) ذلك التجمع الإسلامي العظيم الذي تثبت فيه أُسس الإسلام، وتُعزّز فيه قدرات المسلمين في شتى المجالات الفكرية والعلمية والعسكرية والسياسية.

( العدالة الاجتماعية ) تغسل الأحقاد من القلوب، وتزيل الاضطرابات، وتقر التنظيم، وعن طريق قبول قيادة الهداة المعصومين يمنح الله المسلمين نظاماً اجتماعياً سالماً منتهجاً خط التوحيد، ويبعد عنهم النفاق والتفرقة.

كذلك في مسائل الجهاد والصبر والاستقامة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما يتعلق بمسائل القصاص، والالتزام بالتعهدات، ومحاربة مَن يبخس الميزان، وطهارة الحجور من الفجور، وترك شرب الخمر، فقد أشارت سيدتنا إلى كل ذلك مبيّنةً آثار وعلاج كلٍّ منها.

4 - تعود سيدة الإسلام ( عليها السلام ) مرةً أخرى إلى مسألة مسؤولية المسلمين تجاه القرآن المجيد والإسلام، وتدعوهم إلى التقوى، مذكّرةً إيّاهم بعواقب الأمور، حيث تصرُّ عليهم بمراقبة أعمالهم؛ حتى يودّعوا دار الفناء وهم مسلمون!.

كونوا على حَذر، واعملوا ما يجعلكم تموتوا مسلمين، نوّروا أرواحكم وقلوبكم بنور العلم والمعرفة؛ لأنّ العلماء فقط يشعرون بالمسؤولية، ويخافون الله سائرين على خطّ التقوى.

١٢١

المحور الرابع

إعلان موقفها من النظام الحاكم

النص:

ثمّ قالت: ( أيّها الناس، اعلموا أنِّي فاطمة، وأَبي محمّد ( صلّى الله عليه وآله )، أقولُ عوداً وبدءً ولا أقول غلطاً، ولا أفعلُ ما أفعلُ شططاً.

( لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُم عَزيزٌ عَلَيْه ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَليْكُم بالمُؤْمِنينَ رَءُوفٌ رَحيمٌ ) (1) .

فإن تُعزّوه وتعرفوه تجدوه أبي دون نساءِكم، وأخا ابن عمِّي دون رجالِكم، ولنِعم المعزّى إليه ( صلّى الله عليه وآله ).

فبلّغَ بالرسالة صادعاً بالنذارة، مائلاً عن مَدرجة المشركينَ، ضارباً ثَبَجهم، آخذاً بأكظامهم، داعياً إلى سبيل ربِّه بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ، يكسر الأصنامَ وينكت الهامَ، حتى انهزم الجمعُ وولّوا الدُبرَ، حتى تفرّى الليلُ عن صبحهِ، وأسفر الحقُّ عن مَحضهِ، ونطقَ زعيمُ الدين، وخرست شقاشقُ الشياطين، وطاح وشيظُ النفاق، وانحلّت عُقدُ الكفرِ والشقاق، وفُهتم بكلمة الإخلاص في نفر من البيض الخِماص.

____________________

1. سورة البراءة، آية 129.

١٢٢

وكنتم على شفا حفرةٍ من النارِ، مُذقة الشارب، ونُهزة الطامعِ، وقُبسة العجلانِ، وموطئ الأقدامِ، تشربون الطرْقَ، وتقتاتون الورقَ، أذلةً خاسئين، تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم.

فأنقذكم اللهُ تبارك وتعالى بمحمدٍ ( صلّى الله عليه وآله ) بعد اللُتيّا والتي، بعد أن مُنيَ ببُهَم الرجالِ، وذؤبان العربِ، ومَرَدة أهلِ الكتابِ، كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها اللهُ، أو نَجَم قَرنُ للشيطان، أو فغرت فاغرةٌ من المشركينَ قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ صِماخها بأخمصه، ويُخمد لهبَها بسيفهِ، مكدوداً في ذاتِ اللهِ، مجتهداً في أمرِ اللّهِ، قريباً من رسولِ اللّهِ، مشمّراً ناصحاً، مُجدّاً كادحاً، وأنتم في رفاهيةِ من العيشِ، وادعونَ فاكهونَ آمنونَ، تتربّصون بنا الدوائر، وتتوكّفون الأخبارَ، وتنكصون عند النزالِ، وتفرّون عند القتال ).

التفسير:

تضمن هذا القسم أيضاً حقائق كبيرة:

1 - بضعة النبي

تقوم بكشف هويتها للحاضرين قبل كلِّ شيء، وتُفرغ ما بأيديهم من حجج وأعذار؛ حتى لا يدّعي أحد، بأنّي لم أعرف بنت النبي ( صلّى الله عليه وآله )، وإلاّ سارعت لنصرتها.

تركّز بشكل خاص على نسبتها للنبي ( صلّى الله عليه وآله )، وتتكلم عن ارتباطها بعلي ( عليه السلام )، ثمّ تؤكّد على أنّ ما أنطق به هو عين الحقيقة، لا أتحدث جزافاً، ولا ينطق لساني بغير حساب ولو بكلمة، فاستمعوا جيداً لِما أقول، وعوا مسؤوليتكم العظيمة تجاه هذه الحادثة.

١٢٣

2 - الألم العميق

بعدها تذكّر بعلاقة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) بهم وكيف كان يتألم لآلامهم، وأنّه كان شريكاً لهم في غمومهم، مستندةً على الصفات الخمسة التي وصف القرآن المجيد نبيه بها في إحدى آياته الشريفة:

( لَقد جاءَكُم رَسولٌ مِن أنفسِكُمْ عزيزٌ عليهِ ما عِنتُّمْ حَريصٌ عليْكُم بالمؤمنينَ رءوفٌ رحيمٌ ) (1) .

تلك الصفات التي شاهدها، وعرفها الأصحاب في رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ).

3 - الجهود الشاقّة للنبي ( صلّى الله عليه وآله )

ثمّ تذكّر بالمعاناة الجسيمة التي مرت بالرسول ( صلّى الله عليه وآله )، وكيف أنّه قام منفرداً بإبلاغ رسالة ربّه العظيمة، دون أن يجد الانحراف سبيلاً إلى نفسه، مرّغ أنوف المتعنّتين بالتراب، وحطّم أدمغة المتكبرين، وكان سلاحه المنطق والدليل والموعظة والحكمة لمَن طلب الحق واستقصى عنه، إلى أن كسر شوكة المشركين، ودمّر معابد الأصنام، وتفرَّق أعداء الله، فانزالت الظلمات وشعَّ النور، وفرّت الخفافيش، وتمكن جمع من الناس أن يردّدوا نغمة التوحيد ( لا إله إلاّ الله ) علناً في ديار الكفر.

4 - الماضي المشين

تقوم فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) بتذكيرهم بذلك اليوم الذي كانوا فيه مجموعةً

____________________

1. سورة البراءة، آية 129.

١٢٤

مؤمنةً صغيرةً، تتصارع في وسط طوفان صعب وموحش، فمن ناحية تداعب وسوسات مراحل الشرك وعبادة الأصنام مخيلاتكم أحياناً، وتجرّكم إلى شفا جرف نار جهنم، ومن ناحية أخرى فإنّ أعداءكم الأقوياء الظالمين، قد أحاطوكم من كلِّ جانب، يتربّصون بكم الدوائر؛ ليسحقوكم بأيديهم وأرجلهم بطرفة عين، وكنتم تحت حصار رهيب، ليس لكم إلا الماء الآسِن والغذاء الرديء، تخافون مصيركم المجهول.

لكن، شاء الله أن يكسر أسنان هؤلاء الذئاب المصّاصين للدماء، ويضرب رؤوس هذه الأفاعي بالحجر، ويسلّط هذه الفئة القليلة المستضعفة عليها، وهو على ما يشاء قدير فعّال لِما يريد.

لم يمضِ وقت حتى خمدت نيران الفتن، وسكنت الأعاصير، وفرّت العفاريت، واختفى اللصوص وقطّاع الطرق - الذين كانوا يستفيدون من ظلمات ليالي الجاهلية - بعد أن أشرق العالم بنور شمس الإسلام.

نعم، ذكّرت فاطمة ( عليها السلام ) الحاضرين بتلك اللحظات الحسّاسة، التي أثقلت كاهل المؤمنين، وجعلت يومهم كقَرن من الزمان؛ حتى لا يتناسوا نِعَمَ الله الجزيلة، ولا ينكروا المواهب الإلهية، ويسعون في استمرارية وديمومة هذا الخط الإلهي والرسالي العظيم، ولا يستسلموا لِما يروّجه ويحيكه الأعداء.

5 - خدمات علي ( عليه السلام )

تذكّر ابنة النبي ( صلّى الله عليه وآله ) في وسط حديثها بما قدّمه أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) من خدمات لهذه الأمّة، وكيف أنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله ) كان يرسله لمواجهة الحوادث الخطرة والتصدي لها، وهو يقوم لها مؤثراً بنفسه، مضحّياً

١٢٥

وفدائياً، فينقضُّ على الفتن فيخمدها ويعود منتصراً، أهوى برؤوس المتكبرين إلى الأرض بسيفه، ومرّغ هامات الطواغيت بالتراب، وكان ناصراً ومساعداً للرسول ( صلّى الله عليه وآله )، وحامياً ومدافعاً في كلِّ مكان.

نعم، فمثل هذا الفرد العظيم يستطيع أن يُديم خطَّ هذه الثورة الكبيرة، ويمنع عنه الانحراف.

١٢٦

المحور الخامس

الردّة بعد النبي ( صلّى الله عليه وآله )

النص:

( فلمّا اختارَ اللهُ لنبيهِ ( صلّى الله عليه وآله ) دارَ أنبيائه ومأوى أصفيائه، ظهر فيكم حَسيكَةُ النفاق، وسَمَل جلبابُ الدينِ، ونطقَ كاظمُ الغاوين، ونبغَ خاملُ الأقلّينَ، وهَدرَ فنيقُ المبطلينَ، فخَطَر في عرصاتِكم، وأطلعَ الشيطانُ رأسَه من مَغرزهِ، هاتفاً بكم، فألفاكم لدعوتهِ مستجيبينَ، وللغِرة فيه ملاحظينَ، ثمّ استنهضكم فوجدَكم خِفافاً، وأَحمشَكم فألفاكم غِضاباً، فوَسمتم غيرَ إبلِكم، وأوردتم غيرَ شربِكم، هذا والعهدُ قريبٌ، والكَلمُ رحيبٌ، والجرحُ لمّا يَندمل، والرسولُ لمّا يُقبر، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة،( أَلا في الفِتْنَةِ سَقَطوا وإنَّ جَهَنَّمَ لُحيطَةٌ بالْكافِرينَ ) (1) فهيهات منكم، وكيف بكم؟ وأنَّى تؤفكون؟ وكتاب الله بين أظهركم، أمورُه ظاهرةٌ، وأحكامُه زاهرةٌ، وأَعلامُه باهرةٌ، وزواجرُه لائحةٌ، وأوامرُه واضحةٌ، قد خلّفتموه وراء ظهوركم، أَرغبةً عنه تريدون؟ أم بغيره تحكمونَ؟( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ) .

( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) )(2) .

____________________

1. سورة التوبة، آية 49.

2. سورة آل عمران، آية 85.

١٢٧

التفسير:

1 - التآمر والانحراف

تشير سيدة الإسلام ( عليها السلام ) في هذا القسم من خطبتها إلى بقايا أحزاب الجاهلية والمنافقين، الذين ضُيِّقَ الخناق عليهم في زمن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله )، فأخفوا رؤوسهم في جحورها، واختبأوا في أوكارهم.

وفجأةً خرجت حشرات الأرض هذه من جحورها بعد وفاة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله )، وظهرت الخفافيش التي توارت عن الأنظار؛ بسبب هيبة وجود النبي ( صلّى الله عليه وآله )، وأصبحت تعبث في الميدان، وبدأت التحركات المشكوكة، وعادت خطوط الانحراف تظهر من جديد، ودخل المتلاعبون بالسياسة ساحة المعركة.

2 - تلبية البعض لدعوة الشيطان

من هنا تبدأ حسرة بنت النبي ( صلّى الله عليه وآله ) العميقة؛ بسبب تلبية جمع غفير لدعوة الشيطان، سائرين خلف أصوات البوم المشؤومة، فأصبحوا آلةً بيد حزب الشيطان والمنافقين الذين عُميت قلوبهم، ورغم أنّ كفن الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) لم يزل مبتلاًّ، ولم يزل صوت أذان مؤذّنه يدوّي في المسجد، وصرخة تكبيره ترن في القلوب، حتى ظهرت حركات الردّة، باستثناء البسطاء ومريضي القلوب؛ لأنّ مجموعةً قد اتخذت من التقية حجةً لسكوتهم؛ خوفاً من أنّ الكلام يوقع الفرقة والاختلاف بين الجمع، وصاروا متفرجين لهذا المشهد، أو موافقين لأحداثه، حتى لا يبرز اختلاف، في حين أنّ موقفهم هذا، هو السبب في ذلك الانشقاق والانحراف الكبيرينِ!.

١٢٨

3 - الاعتصام بالقرآن

ثمّ يصرخ المنادي الإلهي المتمثّل بفاطمة الزهراء ( عليها السلام ) بهم منبّهةً:

أين أنتم؟ وإلى أين تولّون؟ أيّها الضالون، فإنّها تذكّرهم بحديث أبيها ( صلّى الله عليه وآله ): ( إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فمَن جعله أَمامه قاده إلى الجنة، ومَن تركه ساقه إلى النار ).

تصيح بهم بأن لا تتركوا القرآن، فأوامره ونواهيه واضحة، وإرشاداته في مسألة الخلافة بعد النبي ( صلّى الله عليه وآله ) بائنة، كما أشار إلى ما سيحصل بعد فاته، خلاصة القول، إنّه لم يُبقِ شيئاً إلاّ وأظهر خفاياه.

4 - إنذار أصحاب النبي ( صلّى الله عليه وآله )

سيدة الإسلام ( عليها السلام ) صرخة الزمان المدوّية، تحذّرهم قائلةً: إن تركتم تراث النبي ( صلّى الله عليه وآله ) العظيم ( القرآن ) وتمسكتم بغيره، وقدّمتم أفكاركم العاجزة على تعاليم الإسلام، وجعلتم أنفسكم حُكّاماً على القرآن، بذريعة المصلحة وخوف الفتنة، لا محتكمين لأوامره، عندها سيصيبكم الضرر الأكبر والخسران المبين.

سوف لن تخمد نار الفتنة فيكم، وستُبلَون بما تخافونه، وستختفي روح الإسلام من بينكم، فلن يبقى سوى القشر دون اللب، والمظهر دون المحتوى.

١٢٩

المحور السادس

قصة غصب فدك وحجج الغاصبين وتفنيدها

النص:

( ثمّ لمْ تلبثوا إلاّ ريثَ ( إلى ريث ) أن تسكن نفرتُها، وَيَسلس قيادُها، ثمّ أخذتم تُورُونَ وَقْدَتَها، وتهيّجون جمرتَها، وتستجيبون لهتافِ الشيطان الغوي، وإطفاءِ أنوارِ الدينِ الجلي، وإخماد سُننِ النبي الصفي.

تُسرّون حَسواً في ارتغاءٍ، وتمشون لأهله وَوُلده في الخَمَر والضّراء، ونصبرُ منكم على مِثلِ حزِّ المُدى، ووخزِ السِّنان في الحشا.

وأنتم الآن أتزعمونَ أن لا إرث لنا؟

( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) ؟(1)

أَفلا تعلمونَ؟ بلى تجلّى لكم كالشمس الضاحية أنّي ابنته.

أيّها المسلمون، أَأُغلبُ على إرثي؟ يا بنَ أبي قحافة، أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئتَ شيئاً فريّاً.

أفعلى عَمدٍ تركتم كتابَ الله، ونبذتموه وراءَ ظهورِكم؟ إذ يقول:

____________________

1. سورة المائدة، آية 5.

١٣٠

( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ) (1) .

وقال فيما اقتصّ من خبرِ يحيى بن زكريا إذ قال:

( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) (2)

وقال:

( وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ) (3)

وقال:

( يُوصِيكُمُ اللهُ في أَوْلادِكُم لِلذّكَرِ مِثلُ حَظِّ الأنثَيَيْنِ ) (4)

وقال:

( إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) (5)

وزعمتم أن لا حظوةَ لي ولا إرث من أبي؟ ولا رحِم بيننا؟ أَفخصّكم اللهُ بآيةٍ أخرج منها أبي؟ أَم هل تقولون إنّ أهلَ ملّتينِ لا يتوارثان؟ أَوَ لستُ أنا وأبي من أهل ملّة واحدة؟ أم أنتم أعلمُ بخصوصِ القرانِ وعمومهِ من أبي وابن عمي؟

فدونَكَها مخطومةً مرحولةً، تلقاك يوم حشرك، فنِعمَ الحَكم الله، والزعيم محمد ( صلّى الله عليه وآله )، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، ولا ينفعكم إذ تندمون،

( لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) (6) .

____________________

1. سورة النّمل، آية 16.

2. سورة مريم، آية 5 - 6.

3. سورة الأنفال، آية 75.

4. سورة النساء، آية 11.

5. سورة البقرة، آية 180.

6. سورة الأنعام، آية 67.

١٣١

( مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ) )(1) .

التفسير:

1 - إحياء المذهب الجاهلي

بلغ حديث فاطمة ( عليها السلام ) أَوجه في هذا القسم، مُدلاًّ على ألم وهيجان شديدينِ، فحرقة قلبها متأتية من ظهور أحكام الجاهلية مرةً أخرى؛ حيث إنّ الأنثى لم تكن لتورّث في زمن الجاهلية، أمّا الإسلام فقد أبطل ذلك بعد مجيئه مقراً بحصة وسهم جميع الأقارب في إرث المسلم، استناداً إلى ذلك، فإنّ الموضوع لم يكن مقتصراً على مسألة ( فدك ) فحسب، بل إنّ المهم في الدرجة الأُولى، هو خطر إحياء سُنن الجاهلية، ومحو سُنن الإسلام؛ لذا قامت في هذا القسم بتوجيه اللوم الشديد لهم، مكثّفةً حملاتها عليهم.

الأعجب من كل ذلك، هو تعجيلهم في إنجاز هذا العمل بشكل أدرك معه الجميع أنّ مسألة ( غصب فدك ) لم تكن مسألةً عادية، فقد سعوا إلى هذا الغصب قبل أن يُحكموا قبضتهم على الخلافة، وبتعبير آخر فإنّهم فكّروا بذلك قبل أن تغيب شمس ذلك اليوم، وهذه نقطة مهمة في فهم عمق هذه المؤامرة الكبيرة.

2 - أدلة الخصم

أشارت بضعة النبي ( صلّى الله عليه وآله ) في هذه الخطبة البارعة، والحاكمة العالمة،

____________________

1. سورة هود، آية 39.

١٣٢

بصورة ضمنيّة إلى دلائلهم في ذلك الغصب، حيث ادّعوا أنّ الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) قال: ( نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ).

بعدها قامت بالرد على تلك الحجج بأجوبة منطقية وقاطعة، مستدلةً بشواهد من عموم القرآن وخصوصه، فتثبت ومن خلال عدد من آيات الكتاب زيف هذا الحديث الموضوع، الذي يجب ضربه بعرض الحائط.

3 - فاطمة ( عليها السلام ) تقطع جميع الأعذار

لقد استخدمت هذه العالمة الكبيرة حربة الاستدلال في هجومها على خصمها، بشكل لم تُبقِ له سبيلاً للفرار.

تقول ( عليها السلام ) إذا كان عذركم هو الحديث الموضوع ( نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ).

فإنّ الرد عليه هو ما نصّت به آيات القرآن التي ذكرتها لكم، وإذا كان عذركم منعنا إرثنا، فاعلموا أنّ جميع الأبناء يرثون آباءهم وأمهاتهم في الإسلام، باستثناء مَن لم يكن على دين ومذهب أبيه، بمعنى أنّ الأبناء الكَفَرة(1) لا يرثون من أب وأمٍّ مسلمينِ، فهل تعتقدون باختلاف ديني ومذهبي عن دين ومذهب والدي؟!!.

وإذا كانت رواسب الجاهلية وأحكامها التي تنص على عدم توريث البنات قد علُقت في أذهانكم، فإنّ هذه الخرافات قد تعطّلت، ولا سبيل للعودة إلى ليالي الظلمة بعد بزوغ الفجر.

____________________

1. الكافر، كلُّ مَن دانَ بغير الإسلام.

١٣٣

4 - هل أنتم أعلم بالقرآن أم أهل بيت الوحي ( عليهم السلام )؟

تُغلق فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) هذا الطريق عليهم أيضاً، حيث يقولون نحن نفهم من القرآن كذا وكذا، فتخاطبهم بالقول: أي مكان من القرآن؟ وبأي تفسير؟ ومَن هو أجدر وأليق لهذا الأمر من ابن عمي علي ( عليه السلام )، الذي تربّى في أحضان الوحي، وهو من كُتّابه، كما أنّه سمع القرآن وتفسيره من شفتي الرسول ( صلّى الله عليه وآله )؟.

الحقيقة هي أنّ القرآن قد نزل في بيتنا و ( أهل البيت أدرى بما في البيت ).

خلاصة القول، تشير إلى قضية وراثة سليمان لأبيه داود، وإرث يحيى ( عليه السلام ) من أبيه زكريا ( عليه السلام )، الذين كانوا جميعاً من الأنبياء الكبار، وتقول ( عليها السلام ) - على خلاف هذه الرواية الموضوعة - يصرّح القران بأنّ كلاًّ من الأبناء قد ورث أباه، ونعلم جيداً أنّ كل رواية تخالف القرآن يسقط اعتبارها.

وتستدل أيضاً بعموم القرآن، حيث تنص الآية الشريفة( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُم لِلْذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثَيَيْنِ ) (1) ، وكذلك( وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ) ،(2) فتستفهم قائلةً: هل يمكن لخبر الواحد المخالف لعموم القرآن وخصوصه، أن يكون ذا قيمة وأهمية ولو بمقدار سَمِّ الخِياط في محكمة العدل الإسلامي؟.

بعدها تعدّد جميع الطرق التي تمنع وتحجب الإرث، ومن ثَمَّ تقوم بتفنيدها.

____________________

1. سورة النساء، آية 11.

2. سورة الأنفال، آية 75.

١٣٤

5 - التريث والتربّص

لكي لا يتصور الحاضرون أنّ تمسّكها بفدك نابعٌ من كونه متصفاً بصفة مادية دنيوية، لا بصفة إلهية، فقد أضافت هذه السيدة المجاهدة قائلةً: ( الآن وبعد أن آل الحل إلى ما آل فخذوها طُرّةً، وافعلوا ما بدا لكم، لكن اعلموا أنّكم ستقفون في محكمة عظيمة تختلف عن سائر المحاكم الدنيوية، فالله ( سبحانه وتعالى ) هو الحاكم فيها، والرسول ( صلّى الله عليه وآله )هو المدعي عليكم في تلك المحكمة، وموعدها يوم القيامة ( يوم البروز ) يوم تتضح كل خافية ).

فإن أعددتم جواباً لذلك اليوم فتوكّلوا على الله، وإلاّ فاستعدوا للجزاء الإلهي.

حينها ستندمون حتماً على ما فعلتم، ولكن سوف لن ينفعكم هذا الندم أبداً؛ لأنّ ملف الأعمال قد أُغلق، ولا سبيل للرجوع إلى الماضي.

١٣٥

المحور السابع

طلب نصرة الأنصار

النص:

ثمّ رمت بطرفها نحو الأنصار فقالت:

( يا معشرَ الفتيةِ ( النقيبة )، وأعضادَ الملّةِ، وحَضَنةَ الإسلامِ، ما هذه الغَميزة في حقي، والسِّنَة عن ظلامتي؟.

أَما كان رسولُ اللهِ ( صلّى الله عليه وآله ) أبي يقول: ( المرءُ يُحفظ في وُلده ).

سَرعان ما أحدثتم، وَعَجلان ذا إهالة، ولكم طاقةٌ بما أُحاول، وقوةٌ على ما أطلبُ وأزاولُ.

أتقولونَ ماتَ محمّد ( صلّى الله عليه وآله )؟ فخطبٌ جليلٌ استوسع وهنُه، واستنهر فتقُه، وانفتق رتقُه.

وأَظلمت الأرضُ لغيبتهِ، وكُسفت النجومُ لمصيبتهِ، وأَكدَت الآمال، وخشعت الجبالُ، وأضيع الحريم، وأُزيلت الحُرمة عند مماتهِ.

فتلك واللهِ النازلة الكبرى، والمصيبة العظمى، لا مثلها نازلةٌ، ولا بائقةٌ عاجلةٌ، أعلن بها كتاب الله - جلَّ ثناؤه - في أفنيتكم، وفي مُمساكم ومُصبَحِكم، هتافاً وصراخاً وتلاوةً وألحاناً، ولقبله ما حلّ بأنبياء الله

١٣٦

ورسله حكمٌ فصلٌ، وقضاءٌ حتمٌ.

( وَمَا مُحمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ) (1) .

إيهاً بني قيلة! أَأُهضمُ تراث أبي، وأنتم بمرأى مني ومسمع، ومنتدىً ومجمع؟ تلبسكم الدعوة وتشملكم الخَبرة، وأنتم ذو العددِ والعدةِ، والأداةِ والقوةِ، وعندكم السلاح والجُنة، توافيكم الدعوةُ فلا تجيبونَ، وتأتيكم الصرخةُ فلا تغيثون ( تعينون )، وأنتم موصوفون بالكفاحِ، معروفون بالخيرِ والصلاحِ، والنُخبة التي انتُخبت، والخِيَرة التي اختيرت.

قاتلتم العربَ، وتحملتم الكدَ والتعبَ، وناطحتم الأُممَ، وكافحتم البُهَم، لا نبرح أو تبرحون، نأمركم فتأتمرون، حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام، ودرَّ حَلبُ الأيامِ، وخضعت نُعرةُ الشرك، وسكنت فورة الإفك، وخمدت نيرانُ الكفرِ، وهدأت دعوةُ الهرجِ، واستوثق ( واستوسق ) نظامُ الدينِ، فأنّى جُرتم بعد البيان؟ وأسررتم بعد الإعلان؟ ونكصتم بعد الإقدام؟ وأشركتم بعد الإيمان؟

( أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (2) .

أَلا قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخَفضِ، وأبعدتم مَن هو أحق بالبسط والقبض،

____________________

1. سورة آل عمران، آية 144.

2. سورة التوبة، آية 13.

١٣٧

قد خلوتم بالدَّعة، ونجوتم من الضيقِ بالسعة، فمَجَجتم ما وعيتم، ودَسعتم الذي تسوَّغتم.

فـ( إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ) (1) .

أَلا وقد قلتُ ما قلتُ على معرفة مني بالخَذلَة التي خامَرتكم، والغَدْرَة التي استشعرتها قلوبُكم، ولكنّها فَيضَة النفس، ونَفثَة الغيض ( الغيظ )، وخَوَر القناة، وبَثّة الصدر، وتَقدِمَة الحجّة.

فدونكُمُوها فاحتَقبوها دَبِرة الظهر، نقيبةَ ( نَقِبة ) الخُفّ، باقيةَ العار، موسومةً بغضب الله وشَنار الأبدِ، موصولةً بنار الله الموقدة، التي تطّلع على الأفئدة، فبعين الله ما تفعلون.

( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَب يَنقَلِبُونَ ) (2)

وأنا ابنةُ نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فاعملوا( إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ) )(3)

التفسير:

1 - دور الأنصار الفاعل في تحقيق أهداف الإسلام

تُشيد سيدة الإسلام ( عليها السلام ) في هذا القسم من حديثها بطائفة الأنصار، مُوصفةً إيّاهم بالمجموعة المختارة، وساعد الإسلام القوي، وحامي الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) المخلص، كما أظهرت لهم الشكر والثناء؛ بسبب ما بذلوه في خدمة الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) منذ دخوله المدينة، وما تحمَّلوه من عناء ومصاعب

____________________

1. سورة إبراهيم، آية 8.

2. سورة الشعراء، آية 227.

3. سورة هُود، آية 121-122.

١٣٨

قبل ذلك في سبيل الإسلام.

نعم، كان للأنصار دورٌ مؤثّرٌ في تقدّم الإسلام في الحرب والسلم وفي جميع مراحله، وبالرغم من ذلك فقد كانوا أقلّ توقعاً وطمعاً من المهاجرين، وربَما طوى تاريخ الإسلام مسيراً أفضل فيما لو صُيِّرت لهم الأمور، ممّا لا شك ولا ريب أنّ في المهاجرين أشخاصاً مخلصين، لم يتوانوا أبداً في إيثارهم وتضحياتهم، لكن تغلغل المتلاعبين بالسياسة في أوساطهم قد قلب الوضع كلياً.

2 - هجوم فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) على الأنصار

لكن سخط سيدة الإسلام ( عليها السلام ) عليهم، هو لماذا التزمت هذه السواعد القوية وأصحاب الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) القدماء الصمت في مقابل الظلم؟ الذي حلّ بآل بيته، فقد أقروا بسكوتهم صحة تلك المظالم، ولم يراعوا ذمة النبي ( صلّى الله عليه وآله ) في أهل بيته، والأهم من ذلك مؤازرتهم للغاصبين، وموقفهم الشائن المساعد من تغيير محور الخلافة بعد اشتباك قصير راموا فيه تحقيق مصالحهم، حيث قبضوا ثمناً لذلك السكوت، وذلك ذنبٌ لا يغتفر!

3 - موت النبي ( صلّى الله عليه وآله ) لا يعني موت الإسلام

بيّن القرآن المجيد من ناحية، والرسول الكريم ( صلّى الله عليه وآله ) من ناحية أخرى، حقيقةً مهمةً، أَلا وهي أنّ الإسلام لا يعتمد على شخص معيّن، فهو دين أزلي مستمرٌّ إلى يوم القيامة، ولا ينتهي بوفاة النبي الكريم ( صلّى الله عليه وآله )؛ لأنّه كان ثورةً قائمةً على أساس ديني، دينٌ إلهي سماوي، الدين الذي يُؤمّن

١٣٩

احتياجات الناس على مر العصور، فلابدّ لهذا الدين أن يبقى ويدوم.

ولكن رغم كل ذلك، فإنّ قسماً من الناس ممّن ينقصه بُعد النظر وتهمّه المظاهر، يتصور أنّ الضربة المُوجعة والمصيبة المؤلمة، التي ألمَّت بالعالم الإسلامي بعد وفاة النبي ( صلّى الله عليه وآله )، والفراغ الذي نتج عن فقد المحيط الإسلامي لهذا القائد العظيم، قد أودى بحياة الإسلام، وانطوت أيامه وأحداثه، ممّا حدا بهم ذلك إلى غلق شفاههم في مقابل تلك النعرات الجاهلية.

تصرخ فاطمة ( عليها السلام ) مذكّرةً إيّاهم بآيات القرآن، التي تتحدث عن أزلية وبقاء الإسلام، تُنبّه الغافلين وتوقظهم من غفلتهم، وتُعرّف المسلمين مسؤولياتهم الثقيلة في تلك المرحلة الحسّاسة.

4 - الصمت في مقابل تعطيل الأحكام الإسلامية

توبّخُ في مقطع آخر من حديثها ( عليها السلام ) الأنصار بشدّة، بأنّ سكوتكم على أحداث ( فدك )، الأحداث التي تُعد حلقةً من سلسلة انحرافات متواصلة، وشرارةً من شعلة متوهّجة، وقطرةً من تيار جارف، سيؤدي ذلك في النهاية إلى إحياء الطيف المنافي للإسلام.

يُظهر الناس حيرتهم متسائلين: إذا كان صحيحاً ما يقال من أنّ قانون الإسلام هو الحق، فلِمَ لا يسري حكمه على أقرب أقرباء النبي ( صلّى الله عليه وآله )؟ فعندما يسحقوا مثل هذا الحكم الصريح، وأنتم تقرّون ذلك بسكوتكم، صار من السهل عليهم أن يسحقوا سائر الأحكام الإسلامية.

يجب أن تنظروا لهذه المسألة على أنّها ( عمليةٌ مدبّرة )، لا بعنوان أنّه

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173