الزهراء سيدة نساء العالمين (ع)

الزهراء سيدة نساء العالمين (ع)0%

الزهراء سيدة نساء العالمين (ع) مؤلف:
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 173

الزهراء سيدة نساء العالمين (ع)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف: الصفحات: 173
المشاهدات: 65128
تحميل: 7285

توضيحات:

الزهراء سيدة نساء العالمين (ع)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 173 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 65128 / تحميل: 7285
الحجم الحجم الحجم
الزهراء سيدة نساء العالمين (ع)

الزهراء سيدة نساء العالمين (ع)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( واقعة عرضية )، وتصوروا ما هي الأحداث الأخرى التي خُبّأت خلف هذه الحادثة؟ وما ثورتي وصرختي إلاّ لهذا السبب.

لا تتصوّروا أنّ ( حمايتكم للمظلومين من أمثالي ) توجد الفرقة بين صفوف الأمّة الإسلامية، بل على العكس، فإنّ سكوتكم يثير الغرابة والدهشة، فلو ادّعيتم الضعف والعجز فقد كذبتم، ففيكم العدد والعدة منذ البداية، وهي الآن أكثر، إضافةً إلى ذلك فلماذا تلقون بآيات القرآن الصريحة التي تنص على( أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّة أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ ) (1) خلف ظهوركم؟ وتخافونهم بدل أن تخافوا الله؟

5 - الخلود إلى الدَّعة

بعدها تغوص هذه المعلّمة القديرة في أعماقهم؛ لتستخرج سبب سكوتهم الأصلي، فتشير إلى أنّ المسألة هي أن استولى عليكم حب الدَّعة وطلب الراحة، واستسلمت أجسادكم للاستراحة، فرغم أنّكم شاهدتم بأعينكم تنحية وتبعيد مَن هو أحق وأليق بالخلافة من غيره عنها، إلاّ أنّكم التزمتم جانب الصمت.

نعم، تستمر عجلة الثورة إلى الوقت الذي يحتفظ الأشخاص بالروح الثورية، ولم يخضعوا لميولهم الدنيوية، وإلاّ ركعوا أمام المصاعب والمشاكل، غير مبالين بما يمرّ بهم من حوادث مُرّة، وبالتالي يخبت نور الثورة.

____________________

1. سورة التوبة، آية 13.

١٤١

6 - النكوص عن النصرة

تمتلك هذه السيدة الشجاعة بصيرةً نافذةً في أدق الأمور، فهي تُميط اللثام عن حقائق هامة، فتخاطب طائفة الأنصار في هذا المقطع مشيرةً إلى هذا المعنى: غايتي هي إتمام الحجة عليكم لا غير، فليس لي فيكم أمل يُرتجى، فبعد أن التزمتم الصمت في مسألة ( الخلافة )، كان من الطبيعي أن ترفعوا نفس الشعار في مسألة ( فدك )، لكن التاريخ الإسلامي سيسجّل حديثي لهذا اليوم، وستحكم الأجيال القادمة فيما بيننا، هذا بالإضافة إلى أنّني أردت أن أزيل عن قلبي عُقد الهم، وأزيح غيض صدري؛ حتى يعلم الجميع ما عانيت من الألم.

7 - البِشارة بالعذاب

تشير بطلة الإسلام في هذا المقطع إلى نتيجة أفعالهم، فتقول منبّهةً إيّاهم: أتظنون أنّ ثمن هذا لسكوت، وطلب الراحة ذاك، وهذا الموقف المتفرّج، وهذه اللامبالاة، سيكون رخيصاً بل ستقطفون ثمارها المُرّة في هذه الدنيا على أيدي حكومات جائرة - مثل بني أمية و بني العباس - والتي سوف لن ترحم أعقابكم، ولن تتورع عن هتك القرآن والإسلام.

8 - امتداد إنذار النبي ( صلّى الله عليه وآله )

تقول سيدة النساء فاطمة ( عليها السلام ) نفس ما كان يقوله الأنبياء للمجرمين، حيث تنذرهم:

١٤٢

( إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ) (1) .

أنتم تنتظرون أن يقع بآل بيت النبي ( صلّى الله عليه وآله ) ظلماً أكبر، ونحن ننتظر فيكم عقاب الله المؤلم والمُهلك.

____________________

1. سورة هود، آية 121-122.

١٤٣

١٤٤

الخطبة الثانية لسيدة الإسلام فاطمة الزهراء ( عليها السلام )

١٤٥

١٤٦

الخطبة المؤلمة في نساء المدينة

ألقت سيدة النساء ( عليها السلام ) هذه الخطبة وهي على فراش المرض، ذلك المرض الذي لم تُشفَ منه أبداً، ومنه عرجت روحها الطاهرة.

كانت خطبتها الأُولى في مسجد الرسول ( صلّى الله عليه وآله )، وهي في حالة صحيّة جيدة(1) ، وبحضور جمع من رجال المهاجرين والأنصار، وكانت هذه الخطبة في مقابل نساء المهاجرين والأنصار في داخل بيتها، وعلى فراش المرض.

رغم أنّ المخاطَب قد اختلف، والزمان والمكان قد تغيّرا، والحال قد تردّى، إلاّ أنّ لحن الخطبتين ينمّ وبوضوح عن روحية عالية مملوءة بالعلم والمعرفة، مفعمةٍ بالإيمان وحب الله، يفيض من جنبَيها ألمٌ وحزن، وقد تميّزت كلا الخطبتين بلحن بليغ وساحق وأخّاذ وقاطع وشجاع، لكن لحن الخطبة الثانية التي هي موضوع بحثنا حالياً، كانت أشد تنكيلاً بالظالمين، وأكثر حرقةً وألماً وغماً.

لقد كانت هذه الخطبة التي صدرت من قلب بنت الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) المتألم بمثابة رسالة الهموم والأحزان.

____________________

1. كما ورد شرحه في الخطبة الأُولى، فإنّ ستاراً قد أُسدل ليحجب النساء، ثمّ إنّها كانت تتوسّط جمع النساء اللاتي رافقنها.

١٤٧

الهم الذي نغّص روحها، ونخر عظامها، وأشعل نيران الحرقة في كيانها، ولذلك نرى أنّ خطبتها اتخذت طابعاً ملتهباً دموياً؛ لأنّها نبعت من قلب محترق، فاض بدم الأسى والحسرة.

من عجائب هذه الخطبة، هي أنّ هذه السيدة الجليلة ( عليها السلام ) قد لاقت الكثير من الظلم العنيف، في الفترة الواقعة ما بين وفاة أبيها ( صلّى الله عليه وآله )، واستشهادها ( عليها السلام )، ذلك الظلم الذي كان سبب مرضها العصيب، ورغم أنّ سؤال نساء المدينة عند عيادتها كان يدور حول حالتها الصحية، وعادةً يشكو المريض بعضاً من آلامه إن لم يكن حديثه كله مختصاً بحالته الصحية، رغم ذلك فإنّها لم تورد في حديثها أي كلمة عن حالها ومرضها، بل كان حديثها مُنصبّاً على مسألة غصب الخلافة وظلامة علي ( عليه السلام )، والأخطار التي ستمر بالأمّة الإسلامية نتيجة هذا الانحراف.

عجباً لها، فلم تذكر في حديثها شيئاً عن مرضها، فكل ما قالته كان عن ألم زوجها علي ( عليه السلام )، وعن مشاكل العالم الإسلامي.

نعم... لقد كانت روح الزهراء ( عليها السلام ) أرفع من أن تتكلم عن نفسها وآلامها - رغم أنّها كانت كبيرةً - بل وأجلّ من أن يوصف علو شأنها، فتكلمت فقط عن إمامها وزوجها المحبوب علي ( عليه السلام ) وآلامه.

لم تكن قَلِقةً على نفسها، بل كانت قلقةً على الأمّة الإسلامية ومصيرها المشؤوم والمؤلم.

يفكّر المرء عادةً في آخر لحظات حياته بنفسه ومشاكله وآلامه، لكنّ المدهش أنّ فاطمة ( عليها السلام ) لم تورد على لسانها في هذه الخطبة الطويلة شيئاً من ذلك، ولا حتى بجملة واحدة.

وهذا أكبر دليل على عظمة فاطمة ( عليها السلام )، ومقام تضحيتها وإيثارها.

١٤٨

وفي هذا عِبرة لكل الأحرار الهادفين، ولكل المضحّين والفدائيين في تاريخ البشرية.

بلى فقد كانت دائماً - وإلى آخر لحظة من حياتها الشريفة المملوءة بالآلام والهموم - شمعةً تحترق؛ لتنير لمَن حولها، وتنجّي الضالين منهم، وتدافع عن الحق والعدالة.

تحدّثت في خطبة فدك ( الخطبة الأُولى لسيدة النساء ) عن كلٍّ من التوحيد، النشوء، المعاد، فلسفة الأحكام، والأحداث التي رافقت بعثة النبي ( صلّى الله عليه وآله )، وبركات وجوده، ومسألة غصب الخلافة، ومصير المسلمين، وإن هي تحدثت عن ( فدك ) فذلك؛ لدورها المؤثّر في كونها دعامةً ماليةً لمسألة الخلافة، وكذا سائر مسائل الإسلام السياسية؛ وهذا ما دعا الأعداء إلى تضييق الخناق على آل بيت النبي ( صلّى الله عليه وآله )، وتحطيم قدراتهم بانتزاع ( فدك ) من أيديهم، فأرادت استرجاعها منهم.

لكنَّ سيدة النساء ( عليها السلام ) ركّزت في خطبتها الثانية ( خطبة نساء المهاجرين والأنصار ) حديثها على محور الخلافة والإمامة فقط، وبالرغم من معاناتها للكثير من الظلم والجور، ورغم أنّ الفرصة كانت سانحةً للمطالبة بحقها المغصوب، إلاّ أنّها لم تطالب بأي شيء، بل ولم تنطق بأية شكوى، فكل ما قالته كان عن عليٍّ ( عليه السلام )، وعن الخلافة وعن مصالح المسلمين.

يُعدُّ ( التسليم المطلق ) من المقامات العالية، التي يتحلّى بها أولياء الله، وهذا يعني أن يُسلك إلى الله طريق الحق والعدل، الذي ينسى المرء فيه نفسه، فلا يرى غير الله.

لا يأتمر إلاّ بأمره.

١٤٩

لا يرجو إلاّ رضاه.

لا يفكر إلاّ بما يريده.

فالمرحلة الأُولى هي الإسلام، ثمّ الإيمان، وبعد ذلك الرضا، ومن ثَمَّ يأتي دور التسليم المطلق، ولهذا المعنى يشير الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه الحكيم:

( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) (1) .

ويقول أيضاً:

( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (2) .

ثمّ يقول:

( إنَّما نُطْعِمُكُم لِوَجْهِ اللّه لا نُرِيدُ مِنْكُم جَزاءً وَ لا شُكُوراً ) (3) .

إنّ مقام الإيمان والرضا والتسليم - الذي تتحلّى به هذه السيدة - جعلها تتناسى وتتجاهل آلامها وهمومها المرهقة، وتتحدث عن رضا الله، وعن رسوله ( صلّى الله عليه وآله ) وعن وليّه، وعن مستقبل الإسلام والمسلمين.

ويسرّنا بعد هذه المقدمة القصيرة عن الخطبة وفحواها، أن نتّجه صوب نصها، فنجعلها في خمسة أقسام، لكنّه ينبغي أن نتعرّف أَوّلاً على وثائق وأسناد هذه الخطبة.

____________________

1. سورة الحجرات، آية 14.

2. سورة النساء، آية 65.

3. سورة الدهر، آية 9.

١٥٠

مناقشة أسناد خطبة سيدة النساء ( عليها السلام )

وردت هذه الخطبة في مختلف مصادر العامة والخاصة، سنذكر منها المصادر السبع التالية:

1- كتاب ( الاحتجاج ) للمرحوم ( الشيخ الطبرسي )(1) .

2- كتاب ( كشف الغمة ) المشهور للكتاب ( علي بن عيسى الأربلي ) نقلاً عن كتاب ( الصحيفة )(2) .

3- ( بحار الأنوار ) للمرحوم ( العلاّمة المجلسي ) ينقل هذه الخطبة وبأسناد متعددة(3) .

4- كتاب ( معاني الأخبار ) للمرحوم ( الشيخ الصّدوق ) يورد هذه الخطبة مع ذكر سندها في آخرها، نقلاً عن عبد الله بن حسن عن أُمّه فاطمة بنت الإمام الحسين ( عليه السلام )(4) .

5- وذُكرت في نفس المصدر بسندها عن علي بن أبي طالب ( عليه السلام )(5) .

6- كتاب ( الأمالي ) للمرحوم ( الشيخ الطّوسي ).

7- كتاب ( شرح نهج البلاغة ) للعالم السُنّي المعروف ( ابن أبي الحديد )(6) .

____________________

1. الاحتجاج.

2. كشف الغمة، ج2، ص118.

3. بحار الأنوار، ج43، ص158.

4. عن أحمد بن الحسن القطّان، عن عبد الرحمن محمد الحسيني، عن أبي الطيّب محمد بن الحسين بن حميد، عن أبي عبد الله محمّد بن زكريا، عن محمّد بن الرحمن المهلّبي، عن عبد الله بن محمّد بن سليمان، عن أبيه عن عبد الله بن الحسن.

5. علي بن محمّد المعروف بابن المغيرة القزويني، عن جعفر بن محمّد بن الحسن، عن محمّد بن علي الهاشمي، عن عيسى بن عبد الله بن محمّد بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن جدّه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ).

6. أحمد بن عبد العزيز الجوهري، عن محمّد بن زكريا عن محمّد بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن محمّد بن سليمان، عن أبيه عن عبد الله بن الحسن، عن أُمّه فاطمة بنت الإمام الحسين ( عليه السلام ).

١٥١

على أي حال وكما ذكرنا سابقاً، فقد وردت هذه الخطبة بأسناد متعددة مع ملاحظة اختلاف في نصوصها، وقد اخترنا أقربها للصحة وأكملها، وهو المنقول في ( الاحتجاج ) عن ( سويد بن غفلة )، ( نقل ذلك أيضاً العلاّمة الكبير المجلسي في المجلّد 43 من بحار الأنوار ص 161 )(1) .

وعليه، فإنّ الخطبة المذكورة هي من الخطب التي وردت من مصادر متعددة وبأسناد معتبرة؛ لذا فهي تتمتع بأهمية خاصة.

ولكي نتعرّف على الحقائق التي تضمنتها هذه الخطبة، نتجه صوب متن الخطبة وتفسيرها.

____________________

1. ( سويد بن غفلة ) أو ( عفلة ) على حد قول ( العلاّمة الحلّي ) في ( الخلاصة )، وهو من أولياء أمير المؤمنين علي ( عليه السلام )، واعتبره ( العلاّمة الميرداماد ) ( نقلاً عن المرحوم للمامقاني ) من أولياء وخواص أمير المؤمنين ( عليه السلام )، كما قال ( الذّبي ) في ( المختصر ) عنه بأنّه رجل ثقة، عابد، زاهد، وصاحب مقام رفيع.

١٥٢

القسم الأَوّل

لمّا اعتلت فاطمة ( عليها السلام ) علة الموت، اجتمع إليها نساء المهاجرين والأنصار، يعدنها، فقلنَ لها:

كيف أصبحتِ من علَّتك يا بنة رسول الله؟!

فحمدتْ الله وصَلّت على أبيها ( عليها السلام ) ثمّ قالت:

( أَصحبتُ واللهِ عائفةً لدنياكنَّ، قاليةً لرجالكنَّ، لَفظتُهم بعد أن عجمتهم، وشَنأتهم بعد أن سَبَرتهم.

فقِبحاً لفلول الحدِّ، واللعب بعد الجدّ، وقرع الصفاة، وصدع القناة، وخَطَل الآراء، وزَلَل الأهواء، و( لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ) (1)

لا جرم لقد قلَّدتهم رِبقتها، وحملتهم أوقتها، وشننت عليهم عارها.

فجدعاً وعقراً وبُعداً للقوم الظالمين ).

نظرة عامة:

يعترض الإنسان في طول حياته أياماً وساعات حسّاسةً تكون بمثابة امتحان له، وبالطبع فإنّ الامتحان الإلهي يُربّي في المرء روحه، ويزيد

____________________

1. سورة المائدة، آية80.

١٥٣

فيه المقاومة والشهامة، كما يتم من خلاله كشف قابلياته وتفتّح استعدادته، وأيضاً معرفة المرء حقيقة باطنه.

علماً أنّ المرء قد يشتبه أحياناً في معرفة نفسه، لا كما هو الحال في الامتحان البشري الذي يُقام؛ لكشف عدد من المجاهيل، والتعرّف على بواطن الأفراد من خلال التجربة والتحليل.

وهذه المسألة قد وضحت في هذا القسم من خطبة سيدة الإسلام ( عليها السلام ).

تُظهر الزهراء ( عليها السلام ) نفرتها وانزعاجها الشديدين ممّن ينتهز الفرصة؛ ليسترزق منها مؤنة يومه، أي من المهاجرين والأنصار؛ لأنّهم سكتوا - ليس سكوتهم فحسب - بل على موافقتهم للانحرافات التي حدثت بعد وفاة النبي ( صلّى الله عليه وآله )، فأنذرتهم بأن يحذروا هذا الامتحان الإلهي العظيم.

تذكّرهم بجهادهم الرائع في عصر الرسول ( صلّى الله عليه وآله )، ومن ثمَّ تشبّههم بالسيوف المثلومة، التي فقدت قدرتها في صدِّ الأعداء ودحرهم، وبالرماح التي تهشّمت فأصبحت غير مفيدة لأي شيء.

توبّخ ابنة النبي الكريم ( صلّى الله عليه وآله ) بشدة أولئك الذين سخروا من مبادئ الإسلام، وجعلوها عرضةً لأهوائهم، ومن ثمَّ وجهت لومها وتحقيرها إلى مَن وَهنَ عزمهم، وفقدوا قدراتهم في اتخاذ قرار ضد الانحرافات التي حدثت.

في نهاية هذا القسم تقوم بإنذارهم، بأنّ مسؤولية غصب الخلافة ستُثقل كاهلهم إلى الأبد، وستبقى جباههم موسومة بوصمة العار التي جاءت نتيجةً لسكوتهم، كما أنّ التاريخ الإسلامي سيسجّل هذه الحادثة المؤلمة بمنتهى الأسف.

نعم، فالكثير منهم لم يخرجوا من الامتحان منتصرين، ولم تكن

١٥٤

وجوههم مستبشرة، وكم كان حسناً لو تبيّنت ( حقائق الأمور ) للعيان، حتى تسودَّ وجوه ( الغشاشين )، وكم كان لطيفاً لو أُقيمت مناقل النار؛ ليفضح ( مدلوك الذهب، وسوار الفضة ) باطنه، ويتبيّن للناس حقيقته؛ ليُميزوه عن الذهب الخالص.

١٥٥

القسم الثاني

( وَيحهُم، أنّى زعزعوها عن رواسي الرسالةِ، وقواعد النبوةِ والدلالةِ، ومهبط الروح الأمين، والطبِّين بأمور الدنيا والدين.

( أَلاَّ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) (1)

وما الذي نَقموا من أبي الحسن ( عليه السلام )؟

نَقموا منه واللهِ، نكيرَ سيفهِ، وقلةَ مبالاته بحتفهِ، وشدةَ وطأتهِ، ونَكال وقعتهِ، وتنمُّرَه في ذات الله.

وتاللهِ، لو مالوا عن المحجّة اللائحة، وزالوا عن قبول الحجّة الواضحة، لَردَّهم إليها، وحملهم عليها، ولسار بهم سيراً سَجَحاً، لا يُكْلم خشاشه، ولا يكلّ سائره، ولا يملّ راكبه.

ولأوردهم منهلاً نميراً صافياً رويّاً، تطفح ضفَّتاه، ولا يَترنّق جانباه، ولأصدرهم بِطاناً، ونصح لهم سراً وإعلاناً.

ولم يكن يتحلّى من الدنيا بطائل، ولا يحظى منها بنائل، غيرَ ري الناهل وشِبعة الكافل، وَلَبان لهم الزاهد من الراغب، والصادق من الكاذب ).

( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَات مِنَ السَّماءِ

____________________

1. سورة الزمر، آية 15.

١٥٦

وَالأرضِ وَلكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (1) .

( وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ ) (2) .

التفسير:

المعايير والقيم الإلهية

تحكم المجتمع الإلهي السليم معايير، وقيم إلهيّة في جميع مجالات الحياة، سيما في إشغال المناصب، فلا سبيل للأجنحة ومنتهزي الفرص، والدسائس السياسية، والعصبية القبلية والقومية، وكذا ما يعقده تجّار السوق السياسي من اتفاقات خلف الكواليس في ارتقاء المناصب والتصدّي لمسؤوليتها.

تخاطب سيدة النساء ( عليها السلام ) في هذا القسم نساء المدينة مستفهمةً: لماذا؟ وبأيّ مسوّغ غيّر رجالكنَّ محور الخلافة عن المسير الذي طالما بيّنه الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) في أحاديثه الصريحة الواضحة؟ وما هو نقص أبي الحسن علي بن أبي طالب ( عليه السلام )؟ وهل يفتقد شيئاً من الكمالات اللازمة، روحيةً كانت أم جسديةً؟

بلى، إنّ عيبه هو سيفه الغالب الذي خطف النوم من عيون أعدائه، قدرته اللامتناهية في ميادين القتال، استخفافه بالموت في سوح الوغى، جعلت منه حصناً منيعاً عجز أعداء الإسلام في اختراقه.

فالعذر التافه الذي أُوخذ عليه هو أنّ توجهه لله فقط، فرضاه من رضا الله، كما أنّ غضبه وسخطه لوجه الله فقط.

____________________

1. سورة الأعراف، آية96.

2. سورة الزمر، آية51.

١٥٧

الحقيقة أنّ كلام سيدة النساء ( عليها السلام ) كان بمثابة تذكيرٌ لهم، بأنّ قيم ومفاهيم المحيط الإسلامي قد تغيّرت وتبدلت بعد وفاة النبي الكريم ( صلّى الله عليه وآله )، وبسبب انحراف المزاج السليم لأرواح هذه المجموعة من المهاجرين والأنصار، صار طعم القيم الإسلامية الحقيقية في أعماقهم مرّاً كالحنظل بعد أن كان لذيذاً كالعسل، كما اعتُبرت الشروط التي تشكّل أهم مواصفات القائد الربّاني القاطع الصارم عيباً ونقصاً له.

بعدها تستمر في حديثها منبّهةً إيّاهم، أنّ تنحية عليٍّ ( عليه السلام ) عن الخلافة إنّما هو كفران لنعمة كبيرة، وموهبة إلهية عظيمة، علماً أنّه أعلمُ الناس بآيات القرآن وبحلال الله وحرامه.

فهو أعرف من غيره بالحق والباطل والقادر على الفصل بينهما، ولو آلت إليه زمام الأمور لم يكن ليسمح لورثة الشرك - آل أبي سفيان، وهم أعدى أعداء الإسلام، وأشد المخالفين للقرآن الكريم - أن يطمعوا في الحكومة الإسلامية بهذه السرعة، ويحوّلوها إلى جهاز حكوميٍّ مستبد، وهو أسوأ وأظلم من حكومة كسرى وقيصر والفراعنة.

فإذا كانت أمورهم مودعةً في يد عليٍّ ( عليه السلام ) المقتدرة، لأجلسهم مركب الحق المنيع، ولهداهم بأمان وهدوء ومداراة إلى نبع ماء الحياة، ومن ثمَّ لرواهم من ذلك النبع المتدفّق ماءً عذباً زلالاً، يمنح شاربيه حياةً أزليّة.

إنّ من شروط القائد الربّاني هو حب الخير والعطف على الأمّة، فهل وجدوا أحداً أكثر عطفاً وشفقةً من عليٍّ ( عليه السلام )؟ الشخص الذي كرّس جهده في إشباع الجياع وإرواء العطاشى، يتألم لآلامهم وهمومهم، كما أنّ غمهم يعصر قلبه.

الشرط الآخر في مسألة الخلافة والإمامة، هو الزهد وعدم الاغترار بالدنيا وجاهها ومالها، فإن تعلّق قلب قائد الأمّة بالدنيا صار من السهل

١٥٨

النفوذ إليه من هذا الطريق، ومن ثمَّ تضليله وحرفه عن جادّة الحق.

فهل يوجد في كل الأمّة الإسلامية أزهد بالدنيا من علي ( عليه السلام )؟ الشخص الذي لم يكتنز ذهباً أبداً، ولم يُشيّد لنفسه قصراً، ثيابه بسيطة كثياب غلامه.

وغذاؤه بمستوى غذاء أفقر الناس.

إذا كانت معايير الخلافة هي القدرة الروحية والبدنية، الإخلاص في النية، والزهد والعصمة والتقوى، والعطف على الأمّة، فمَن هو أفضل من أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) الذي يتحلّى بهذه المواصفات؟

وإذا كان النبي ( صلّى الله عليه وآله ) قد نصّب علياً ( عليه السلام ) خليفةً له، مشيراً إلى هذا المعنى مرّات ومرّات عبر عبارات مختلفة الصّيغ، معتبراً إيّاه أليق من الجميع لهذا المقام فهذا لا يقتصر عليه نابل، الله سبحانه وتعالى اعتبره أليق الناس بهذا المنصب.

تقوم سيدة النساء ( عليها السلام ) في نهاية هذا القسم بإنذارهم وتحذيرهم، بأن لا يظّنوا أنّ ثمن هذا الكسل والتقصير، وتقاعسهم في حماية الشخص الأنسب للخلافة سيكون رخيصاً، بل عليهم أن ينتظروا ما سيُخلّفه ذلك التقصير، وذلك التقاعس، ويتذوّقوا نتيجته المرّة، عليهم أن لا يتصوّروا أنّهم يستطيعون النجاة والفرار من قبضة العذاب الإلهي في هذه الدنيا، كلا، أبداً.

بلى، سيحصدون في نهاية الأمر ما زرعوا، وسيُبتلَون بحكومات عنيدة وجبّارة، وفاسدة ومفسدة وظالمة، تفتقد الرحمة، كحكومات بني أميّة وبني العباس، في ذلك اليوم الذي سوف لن يجدوا فيه سبيلاً للفرار، وهم يشعرون بمواجهتهم لعذاب الآخرة.

١٥٩

القسم الثالث

( أَلا هلمَّ فاستمع، وما عشتَ أراك الدهرُ عجباً، وإن تعجب فعجبٌ قولُهم:

ليتَ شعري؟ إلى أي سنادٍ استندوا؟ وعلى أي عمادٍ اعتمدوا؟ وبأيّة عروةٍ تمسّكوا؟ وعلى أية ذريّة أقدموا واحتنكوا؟!

( لَبِئْسَ المَوْلى ولَبِئْسَ العشير ) (1) .

( وبِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ) (2) .

استبدلوا والله الذُّنابى بالقوادم، والعجز بالكاهل، فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنّهم يُحسنون صنعاً( أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ ) (3)

وَيحهم،( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (4)

التفسير:

ترجيح ( المرجوح ) على ( الراجح )

لا يستطيع أيُّ امرئ أن يقبل ترجيح ( المرجوح ) على ( الراجح ) إلاّ مَن يُنكر ( الاستقلال العقلي ). أو بتعبير أوضح فأنّ أي إنسان لا يتردد

____________________

1. سورة الحج، آية 13.

2. سورة الكهف، آية 50.

3. سورة البقرة، آية 12.

4. سورة يونس، آية 35.

١٦٠