الزهراء سيدة نساء العالمين (ع)

الزهراء سيدة نساء العالمين (ع)33%

الزهراء سيدة نساء العالمين (ع) مؤلف:
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 173

الزهراء سيدة نساء العالمين (ع)
  • البداية
  • السابق
  • 173 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 67877 / تحميل: 8085
الحجم الحجم الحجم
الزهراء سيدة نساء العالمين (ع)

الزهراء سيدة نساء العالمين (ع)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

في المعركة التي جرت في اليوم القادم(١) .

في معركة الأحزاب التي هي من أهمِّ الغزوات الإسلامية، وفي أحداث فتح مكة عندما انتصر جنود الإسلام على آخر متراس للمشركين، والسيطرة على البيت العتيق، وتخليصه من الأصنام التي كانت تلوّثه، نرى أيضاً فاطمة ( عليها السلام )واقفةً إلى جانب أبيها، ففي الخندق تُقبل عليه بأقراص من الخبز معدودة بعد أن بقى أياماً بدون طعام، وفي الفتح المبين نراها تضرب له خيمته وتُهيّئ له ماءً ليستحم ويغتسل، حتى يزيل عن جسده المبارك غبار الطريق، ويرتدي ثياباً نظيفة يخرج بها إلى المسجد الحرام.

____________________

١ - حدثت غزوة ( حمراء الأسد ) عندما عاد المشركون من وسط الطريق صوب المدينة بعد معركة ( أحد )؛ حتى يُكملوا ضربتهم التي وجّهوها إلى المسلمين، لكنّ اللّه أراد أن يرجعوا خائبين، لذا فقد ألقى سبحانه وتعالى الرعب في قلوبهم عندما واجهوا المسلمين، حتى المجروحين منهم، فتراجعوا عن عزمهم.

٢١

فاطمة ( عليها السلام ) زوجة أمير المؤمنين علي ( عليه السلام )

( لو لم يُخلق عليٌّ لم يكن لفاطمة كفوٌ )(١) .

الزواج الذي عُقد في ملكوت السموات

كمالات فاطمة الرفيعة من ناحية، وكونها بنت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) من ناحية أخرى، شرف نسبها من ناحية ثالثة، كان سبباً في سعي الكثير من كبار أصحاب الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) لخطبتها، إلاّ أنّ الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) رفض تزويجها، وغالباً ما يكرّر قوله:

( أمرها إلى ربِّها! )

الأعجب من ذلك خطبة ( عبد الرحمن بن عوف )، ذلك الرجل الثري الذي كان ينظر إلى الأمور من زاوية مادية، على ضوء التقاليد والأعراف الجاهلية، فكان يعتقد بأنّ المهر الغالي دليل على عِظم موقع المرأة ومكانتها.

فعن أنس بن مالك قال:

ورد عبد الرحمن بن عوف الزهري، وعثمان بن عفان إلى النبي ( صلّى الله عليه وآله )، فقال له عبد الرحمن يا رسول الله، تزوّجني فاطمة ابنتك، وقد بذلت لها من الصداق مِئة ناقة سوداء زرق الأعين، كلها قباطي مصر، وعشرة آلاف

____________________

١. كنوز الحقائق، ص١٢٤.

٢٢

دينار - ولم يكن من أصحاب رسول الله أيسر من عبد الرحمن وعثمان - وقال عثمان: وأنا أبذل ذلك، وأنا أَقدم من عبد الرحمن إسلاماً.

فغضب النبي ( صلّى الله عليه وآله ) من مقالتهما، فتناول كفاً من الحصى فحصب به عبد الرحمن وقال له: ( إنّك تهوّل عليّ بمالك؟ ) فتحوّل الحصى دراً، فقوّمت درّة من تلك الدرر فإذا هي تفي بكلِّ ما يملكه عبد الرحمن(١) .

بلى... يجب أن تُشخّص وتُطبّق المُثل الإسلامية في زواج فاطمة ( عليها السلام )، ويتعرّف المجتمع الإسلامي على القيم والمعايير الإسلامية السامية، وتُسحق السُنن البالية من عهد الجاهلية.

وبينما كان حديث زواج فاطمة يدور على ألسن أهل المدينة، إذ ذيع فجأةً أنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) لن يزوّجها من غير علي بن أبي طالب ( عليه السلام ).

علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) الذي خلت يده من المال، ومن كلِّ ثروة دنيوية، ولم يكن يتحلى بأيٍّ من الميزات التي تُقيم لها الجاهلية وزناً، لكنّه كان يتمتع بإيمان وقيم إسلامية أصلية، تملأ كيانه من مفرق رأسه إلى أخمص قدميه.

وعندما تحقّق القوم علموا أنَّ وحياً سماوياً قد أمر الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) بعقد هذا الزواج التاريخي المبارك، إضافةً إلى أنّه ( صلّى الله عليه وآله ) قال:

( أتاني مَلَك فقال: يا محمد، إنّ الله يقرؤك السلام، ويقول لك: إنّي قد زوّجت فاطمة ابنتك من عليٍّ ابن أبى طالب في الملأ الأعلى، فزوّجها منه في الأرض )(٢) .

____________________

١- تذكرة الخواص، ص٣٠٦، استخرجتها من كتاب ( فاطمة الزهراء بهجة وقلب المصطفى ) ص٤٦٢.

٢- ذخائر العقبى، ص٣١.

٢٣

عندما دخل أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله )، وقد أخذ الحياء منه مأخذه، جلس بين يديه ( عليه السلام ) ولم يستطع التكلّم؛ لجلالة وهيبة صاحب الرسالة ( عليه السلام ) فقال له ( عليه السلام ):

ما جاء بك؟ ألك حاجة؟ فسكت أمير المؤمنين ( عليه السلام )، فقال ( عليه السلام ): لعلك جئت تخطب فاطمة؟

فقال علي ( عليه السلام ): نعم، فقال الرسول ( صلّى الله عليه وآله ):يا علي! لقد سبقك آخرون خطبتها مني، وإنّي كلما عرضت الأمر عليها لم تظهر موافقتها، دعني أحدّثها في شأنك.

صحيح أنّ هذا الزواج قد عُقد في السماء ويجب أن يتم، إلاّ أنّ احترام حرية المرأة في اختيار زوجها عموماً، وشخصية فاطمة ( عليها السلام ) خصوصاً تُحتّم على الرسول ( صلّى الله عليه وآله )، أن يتشاور مع فاطمة ( عليها السلام ) في هذا الأمر قبل البتّ فيه.

بعدها ذهب النبّي ( صلّى الله عليه وآله ) لفاطمة ( عليها السلام ) وقال لها: إنّ علي بن أبي طالب ممّن قد عرفتِ قرابته وفضله في الإسلام، وإنّي سألت ربّي أن يزوّجك خير خلقه وأحبهم إليه، وقد ذكر من أمرك شيئاً، فما ترين؟ فسكتت، فخرج رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) وهو يقول:

الله أكبر! سكوتها إقرارها

بعدها تمّ عقد القران بواسطة الرسول ( صلّى الله عليه وآله ).

مهر فاطمة:

والآن، لنرى ما هو مهر فاطمة؟

ممّا لا شك فيه أنّ زواج أفضل رجال العالم بسيدة نساء العالم وابنة

٢٤

رسول الله ( صلّى الله عليه وآله )، يجب أن يكون مثلاً رائعاً، مثالاً لكلَّ العصور والأزمنة؛ لذا توجه الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) إلى أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) بالقول:

( يا أبا الحسن فهل معك شيء أزوّجك به؟ فقال علي ( عليه السلام ):

فداك أبي وأمي والله ما يخفى عليك من أمري شيء، أَملك سيفي، درعي، وناضحي، وما أملك شيئاً غير هذا، فقال له رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ): يا علي، أمّا سيفك فلا غنى بك عنه، تجاهد به في سبيل الله، وتقاتل به أعداء الله، وناضحك تنضح به على نخلك وأهلك، وتحمل عليه رحلك في سفرك، ولكنّي قد زوّجتك بالدرع ورضيت بها منك )(١) .

ونقرأ في رواية أخرى أنّ الزهراء ( عليها السلام ) طلبت من أبيها ( عليه السلام )، أن يكون مهرها الشفاعة في المذنبين من أمّة محمد ( صلّى الله عليه وآله )، فنزل جبرئيل ( عليه السلام ) على الرسول ( عليه السلام ) مخبراً بتلبية الله سبحانه وتعالى لطلب فاطمة ( عليه السلام )(٢) .

ربّما أنّ أغلى قيمة ذكرها التاريخ لهذا الدرع كانت خمسمِئة درهم هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نقرأ في الحديث أنّ فاطمة ( عليه السلام ) سألت النبي ( صلّى الله عليه وآله )، أن يكون صداقها الشفاعة لأمّته يوم القيامة، فنزل جبريل ( عليه السلام )، ومعه رقعة من حرير مكتوب عليها: جعل الله مهر فاطمة الزهراء شفاعة المذنبين من أمّة أبيها(٣) .

نعم، وبهذا الشكل يجب أن تُحطّم القيم الخاطئة، لتحلَّ محلها القيم الأصيلة، وهكذا يجب أن تكون سير وأعراف ذوي الإيمان من الرجال والنساء، وعلى هذا النهج تكون حياة القادة الحقيقيين لعباد الله ( عزّ وجل ).

____________________

١- إحقاق الحق، ج١٠، ص٣٥٨

٢- أخبار الدّول، ص٨٨.

٣- إحقاق الحق، ج١٠، ص٣٦٧.

٢٥

جهاز فاطمة ( عليها السلام ):

المهر، الجهاز، ومراسم الزفاف هي المشاكل الكبرى الثلاث التي تواجه العوائل بشأن الزواج، وهي المشاكل التي تطغى أحياناً على الحياة الزوجية فتجعل الزوجين يعيشان الأَمرّين طيلة عمرهما.

وبسبب هذه الأمور الثلاثة نلاحظ أحياناً نشوء مشاجرات لفظية، وأخرى نزاعات دموية، وما أكثر ما أُضيع من الأموال في هذه المجال؛ بسبب التظاهر والتفاخر والمنافسة الطفولية والقبيحة بين العوائل.

والمؤسف أنّ ترسّبات الأفكار الجاهلية ما زالت عالقةً في أذهان مَن يدّعون تمسكهم بالإسلام الحنيف.

ولكن يجب أن يكون جهاز سيدة الإسلام كما هو مهرها مثالاً نموذجياً للجميع.

وكما أمر رسول الله فقد بيع الدرع بأربعمِئة وسبعين درهماً، ثمّ جاء علي ( عليه السلام ) بالمهر إلى الرسول، قسّم الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) المال إلى ثلاثة أقسام، حيث قبض قبضةً منه ودفعه إلى بلال وقال له: ابتع لفاطمة طيباً، ثمّ قبض بكلتا يديه مقداراً من ذلك المال ودفعه إلى جماعة قائلاً لهم: اشتروا به ما يصلح فاطمة من ثياب وأثاث للبيت، ودفع مبلغاً آخراً لأمِّ أيمن لتشتري به أمتعةً إلى البيت.

من الواضح أنّ جهاز العرس الذي يُهيّأ بهذا القدر من المال، لا بدَّ أن يكون بسيطاً رخيص الثمن.

وقد ذكرت كتب التاريخ أنّ جهاز سيدة نساء العالمين قد تكوَّن من ثمانية عشر نوعاً من الحاجيات، كلّها من ذلك المال، ونذكر هنا أهمّها:

قطيفة سوداء خيبرية

٢٦

قميص بسبعة دراهم

سرير مزمّل بشريط

أربع مرافق من أُدم الطائف، حشوها أذخر(١)

ستر من صوف حصير هجير

رحى يدوية

سقاء من أدم

مخضب من نحاس

قعب للبن وشن للماء

جرّة خضراء... وأمثال ذلك

نعم هكذا كان جهاز سيدة نساء العالمين.

مراسم الزفاف:

أجرى نبيّ الرحمة احتفالاً لهذا الزواج الذي اختاره الله سبحانه وتعالى، ولهذه العائلة التي كان لها الدور الأهم في تاريخ الإسلام، والتي انحدر منها النسل الطيب وأئمة الهدى، خلفاء الله في أرضه، فأغضبت مراسم الاحتفال تلك أعداء المسلمين، ورفعت رأس الموالين عالياً، وجعلت الخصوم يفكرون بمعنى الإسلام.

حضرت كلُّ من ( أمّ أيمن ) و ( أمّ سلمة ) وهما امرأتان ذواتا منزلة رفيعة في الإسلام، كما كانتا شغفتين بفاطمة الزهراء، عند رسول الله بيت عائشة مع باقي زوجاته، فأحدقن به وقلن: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله، وقد اجتمعنا لأمر لو أنَّ خديجة في الأحياء لقرّت بذلك عينها.

____________________

١- أذخر، نبات طيّب الرّائحة.

٢٧

قالت ( أمّ سلمة ): فلمّا ذكرنا خديجة بكى رسول الله ثمّ قال: ( خديجة وأين مثل خديجة، صدّقتني حين كذَّبني الناس، ووازرتني على دين الله، وأعانتني عليه بمالها، إنّ الله عز وجلّ أمرني أن أبشّر خديجة ببيت في الجنة من قصب ( الزمرد ) لا صخب فيه ولانصب ).

قالت ( أمّ سلمة ): فقلنا: فديناك بآبائنا وأمّهاتنا يا رسول الله، إنّك لم تذكر من خديجة أمراً إلاّ وقد كانت كذلك غير أنّها قد مضت إلى ربّها، فهنّأها الله بذلك وجمع بيننا وبينها في درجات جنته ورضوانه ورحمته، يا رسول الله، وهذا أخوك في الدنيا، وابن عمّك في النسب علي بن أبى طالب، يجب أن تدخل عليه زوجته فاطمة، وتجمع بها شمله.

فقال: ( يا أمّ سلمة، فما بال علي ( عليه السلام ) لا يسألني ذلك؟ ) فقلت: يمنعه الحياء منك يا رسول الله.

قالت ( أمّ أيمن ): فقال لي رسول الله: ( انطلقي إلى عليِّ فأتيني به، فخرجت من عند رسول الله فإذا عليّ ينتظرني؛ ليسألني عن جواب رسول الله، فلمّا رآني قال: ما وراءك يا أمّ أيمن؟ قلت: أجب رسول الله.

قال علي: فدخلت عليه وقمن أزواجه فدخلن البيت، وجلست بين يديه مطرقاً نحو الأرض حياءً منه، فقال أتحبُّ أن تدخل عليك زوجتك؟ فقلت وأنا مطرق: نعم فداك أبي وأمي، فقال: نعم وكرامة يا أبا الحسن أدخلها عليك في ليلتنا هذه، أو في ليلة غد إن شاء الله، فقمت فرحاً مسروراً، وأمر أزواجه أن يزيّنَ فاطمة ويطيّبنَها ويفرشنَ لها بيتاً؛ ليُدخلنَها على بعلها، ففعلنَ ذلك.

وأخذ رسول الله من الدراهم التي سلّمها إلى ( أمّ سلمة ) عشرة دراهم فدفعها إليّ وقال: اشترِ سمناً وتمراً وأقطاً، فاشتريت وأقبلت به إلى

٢٨

رسول الله، فحسر عن ذراعيه ودعا بسفرة من أدم، وجعل يشدخ التمر والسمن، ويخلطهما بالأقط حتى اتخذه حيساً.

ثمَّ قال: يا علي، ادعُ مَن أحببت، فخرجت إلى المسجد وأصحاب رسول الله متوافرون، فقلت: أجيبوا رسول الله، فقاموا جميعاً وأقبلوا نحو النبي، فأخبرته بأنّ القوم كثير، فجلّل السفرة بمنديل، وقال: ادخل عليَّ عشرة بعد عشرة، ففعلت، وجعلوا يأكلون ويخرجون ولا ينقص الطعام، حتى لقد أكل من ذلك الحيس سبعمِئة رجل وامرأة ببركة النبي.

قالت ( أمّ سلمة ): ثمّ دعا بابنته فاطمة، ودعا بعليِّ، فأخذ عليّاً بيمينه وفاطمة بشماله، وجعلهما إلى صدره، فقبّل بين أعينهما، ودفع فاطمة إلى عليٍّ وقال: يا علي نِعمَ الزوجة زوجتك، ثمّ أقبل على فاطمة وقال: يا فاطمة نِعمَ البعل بعلك، ثمَّ قام يمشي بينهما حتى أدخلهما بيتهما الذي هُيئ لهما، ثمّ خرج من عندهما فأخذ بعضادتي الباب فقال: طهّركما الله وطهّر نسلكما، أنا سِلمٌ لمَن سالمكما، وحرب لمَن حاربكما، أستودعكما الله واستخلفه عليكم(١) .

ليعتبر عشاق الدنيا وذوو الإيمان الضعيف، المتأثرون بزخارف هذا العالم المادي، الذين يرون كرامة وجلال العائلة في التشريفات القاصمة للظهر، التي تُقام في العرس، وليستلهموا من هذا البناء التربوي للإنسان، الذي يُعدّ ثروةً وكنزاً لسعادة كلٍّ من الشباب والشابات، وليتفحّصوا صفحات التاريخ، ويشاهدوا بأعينهم كيف طبّقت تعاليم الإسلام أحداث ( خطبة ) و( مهر ) و( جهاز ) و( مراسم حفلة زواج ) سيدة النساء فاطمة الزهراء ( عليه السلام ).

____________________

١. بحار الأنوار، ج٤٣، ( تاريخ الزهراء ) ص ١٣١-١٣٢.

٢٩

فاطمة ( عليها السلام ) بعد رحيل أبيها ( صلّى الله عليه وآله )

( ما زالت بعد أبيها معصّبة الرأس، باكية العين، محترقة القلب )(١) .

انقضت الفترة السعيدة من حياة سيدة النساء فاطمة الزهراء بسرعة؛ وذلك بوفاة النبيّ الكريم، رغم أنّها لم تذق معنى السعادة في أيٍّ من مراحل حياتها؛ بسبب الضغوط والحروب والمؤامرات التي حاكها الأعداء ضد الإسلام والرسول، ممّا سلب روح الزهراء الهدوء والطمأنينة.

وبارتحاله إلى الرفيق الأعلى بدأت رياح الظلم والمصاعب تهب على آل بيته الميامين، فظهرت من جديد أحقاد بدر وخيبر وحُنين، التي دُفنت في عصر الرسول الأمين تحت التراب، وثار المنافقون والأحزاب؛ لينتقموا من الإسلام ومن آل بيت محمد، وخصوصاً ابنته فاطمة الزهراء، التي كانت تمثّل مركز الدائرة، التي صُوّبت نحوها سهام الأعداء المسمومة.

ألم فراق أبيها من ناحية، مظلومية أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) المؤلمة من ناحية أخرى، المؤامرات التي حاكها أعداء الإسلام من ناحية ثالثة.

وقلق فاطمة على مستقبل المسلمين وكيفية الحفاظ على تعاليم القران.

____________________

١. المناقب، ج٣، ص٣٦٢.

٣٠

اجتمعت هذه الأمور مع بعضها لتعكّر صفوها وتدمي قلبها، لكن فاطمة أخفت همها وغمها عن زوجها؛ مخافة أن يتسع جرحه ومعاناته من ظلم الأمّة له، لهذا كانت تذهب إلى قبر أبيها لتبثَّ إليه آلامها وأحزانها، وما آل إليه حالها، فقد قالت ذات مرّة: ( يا أبتاه بقيت والهةً وحيرانةً فريدة، قد انخمد صوتي وانقطع ظهري وتنغّص عيشي )، ومرةً أخرى نراها تقول:

قُل للمُغيّبِ تَحتَ أطباقِ الثّرى

إن كُنتَ تَسمَعُ صَرخَتي وَنِدائيا

صُبّتْ عَليَّ مَصائِبٌ لَوْ أنَّها

صُبّتْ عَلى الأيام صِرنَ لَيَالِيا

قدْ كُنْتُ ذاتَ حِمىً بِظلِّ مُحمّد

لا أخْشَى مِن ضَيمَ وكان حماً لِيا

فاليومْ أخشعُ لِلذّلِيلِ وَأتَّقي

ضَيْمي وَأدْفَعُ ظالِمي برِدائِيا

إذا بَكَتْ قُمْريّة في لَيلِها

شَجَناً عَلى غُصْن بَكيتُ صَباحيا

فلأَجْعَلنَّ الحُزنَ بِعَدَكَ مُؤنِسي

وَلأجْعَلَنَّ الدّمْعَ فِيكَ وِشاحِيا

ماذا عَلى مَنْ شَمَّ تُربةَ أحمد

أنْ لا يَشُمَّ مَدى الزّمانِ غَوالِيا

لماذا بكت فاطمة بهذا الشكل؟

لِمَ كلُّ هذا الجزع؟

لماذا عدم الارتياح هذا، كأنّها الحرمل على النار؟

لماذا؟

لنسمع منها جوابها على هذه التساؤلات.

تقول أمّ سلمة:

بعد وفاة الرسول الكريم ذهبت لزيارة وتفقّد حال سيدة الإسلام فاطمة الزهراء، فلخّصت لي حالها بهذه الجمل العميقة:

أصبحت بين كمدٍ وكرب

٣١

فَقد النبي وظلم الوصي

هُتكَ والله حجابه...

ولكنّها أحقاد بدرية

وترات أحدية

كانت عليها قلوب النفاق مكتمنةً(١) .

ورغم ذلك لم يخفَ على أحد ما تحمّلته في سبيل، الدفاع عن الحرمة العلوية المقدّسة، وحماية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.

فبالرغم من قصر حياتها بعد أبيها، حيث استجاب الله سبحانه وتعالى دعاءها، ولبّت بدورها نداء الباري ( عزّ وجلّ )، لتنتقل إلى جوار ربّها وتسارع لرؤية أبيها، بالرغم من ذلك، فقد بذلت كلَّ ما في وسعها من فداء وتضحية في الدفاع عن الإسلام، والتذكير بحق أمير المؤمنين علي.

صلّى الله عليكِ يا بنتَ رسول الله ورحمة الله وبركاته.

____________________

١. مناقب ابن شهر آشوب، ج٢، ص٢٢٥.

٣٢

فضائل الزهراء ( عليها السلام )

يجدر بالذكر هنا أنّ كل الأحاديث المذكورة في هذا القسم، والتي تصل الأربعين حديثاً، قد نُقلت من مصادر أهل السنّة المشهورة والمعروفة مع ذكر أدلتها.

٣٣

٣٤

منزلة فاطمة ( عليها السلام )

يتبادر إلى ذهن البعض - من الذين يجهلون أو يتجاهلون الحقائق - أنّ الفضائل الكريمة المذكورة لأهل بيت النبوّة، ومنزلتهم السامية، إنّما تعزى إلى حسن ظنِّ مواليهم وتعلّقهم الشديد بآل محمّد.

فلأنّهم يعشقون آل البيت؛ لذا فهم لا يرون الأمور إلاّ من هذا المنظار، فكل ما يُروى عنهم من فضيلة يؤمن بها المَوالي، دون أن يعيروا أهميةً لسندها ومدى صحتها.

ولرفع سوء الظَّنِّ من أولئك البعض، ولزيادة اطمئنان المحبين والموالين، فسوف نلجأ إلى مصادر المذاهب الأخرى المشهورة، وكتبهم المعروفة لننقل ما جاء فيها من أحاديث وفضائل عن أهل بيت النبوّة.

لقد ذكرنا من قبل فضائل سيدة النساء فاطمة الزهراء من خلال شرح موجز لحياتها المباركة، وغايتنا في هذا القسم من الكتاب أن نطّلع على المقام المعنوي الرفيع لبنت رسول الله، ومن ( خلال كتب أهل السُنّة المشهورة ).

وقبل الدخول في صلب هذا البحث، نرى من اللازم أن نذكر بعض النقاط المهمة:

١- من الظريف أنّ معظم المناقب والفضائل التي ذُكرت في كتب

٣٥

الشيعة عن فاطمة الزهراء، قد ذكرها أهل العامة في كتبهم المشهورة أيضاً، إلاّ القليل منها، والتي ذُكرت في مصادر الشيعة المعتبرة دون أن ترد في كتب الآخرين.

٢- لم يُنقل في هذا القسم من الكتاب الذي بين يديك أي رواية عن كتب الشيعة، كما اقتصرنا على كتب الحديث والتاريخ المشهورة والمعتمدة من بين جميع كتب ومصادر العامة.

٣- من المثير للدهشة، تلك العاصفة الهوجاء التي حلت بالأمّة الإسلامية بعد وفاة رسول الله بسبب الخلافة، والتي كانت تستبطن حرف مسار الخلافة عن آل بيت محمد إلى أشخاص آخرين، فبعد أن نصَّبهم الله سبحانه وتعالى خلفاءً للنبيِّ في حياته، قام هؤلاء الأشخاص بتنحيتهم عنها والاستيلاء على مسند الخلافة بعد وفاته.

إقصاء أهل البيت سبّب أن قام الحكّام بمحو فضائلهم ومناقبهم، وبالتالي محو ما يُثبت أولويتهم وأحقيتهم بخلافة رسول الله محمد، بالإضافة إلى أنّ إثبات تلك الفضائل والمناقب ستدعو الجميع للتساؤل، ما معنى أن يتصّدى الآخرون لهذا الأمر، وأهل بيت النبوة يتمتعون بهذه المنزلة وهذا المقام؟!

لِمَ لا نقدّم مَن قدّمه الله تعالى والرسول؟

ولماذا يُحرم المسلمون من بحر علوم هؤلاء؟

لماذا... ولماذا؟

لذا يتضح لنا أنّ محو أو تجاهل تلك الفضائل كان جزءً من خططهم السياسية، وقد بلغت هذه المسألة أوجها في عصر حكومة ( بني أميّة ) و ( بني العباس )، ولم يكن في السر أو في الخفية بل علناً وأمام الملأ، ولم

٣٦

يكتفوا بمحو فضائل أهل البيت فحسب، بل وبدأوا بإثبات فضيلة الآخرين من خلال نشر أحاديث وروايات موضوعة كاذبة، حتى وصل بهم الأمر إلى شراء بعض الصحابة - أو أشباه الصحابة - لهذا العمل القبيح، وأجزلوا لهم العطاء.

فلقد رُوي أنَّ معاوية سلّم لسمرة بن جندب مِئة ألف درهم؛ حتى يروي أنّ الآيتين الشريفتين التاليتين قد نزلتا في علي بن أبي طالب وهما:

( وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ ) (١) .

وأنَّ الآية التالية:

( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ ) (٢)

قد نزلت في عبد الرحمن بن ملجم.

فلم يقبل، فبذل له مِئتي ألف درهم، فلم يقبل، فبذل له ثلاثمِئة ألف، فلم يقبل، فبذل له أربعمِئة ألف، فقبل وروى ذلك.

وبهذا الشكل أصبح ذكر مناقب وفضائل آل البيت ممنوعاً على المنابر وفي المجالس، بل ويُعدُّ جرماً سياسياً في رأي النظام الحاكم، ومَن يخالف فقد حلّ عليه غضب النظام، فيُسجن في بئر مظلم، أو يقطعوا لسانه أو يصلبوه.

____________________

١. سورة البقرة، آية ٢٠٤، ٢٠٥.

٢. سورة البقرة، آية٢٠٧.

٣٧

بعد ما جاء معاوية إلى المدينة، حذّر الصحابي والمفسّر المعروف ( ابن عباس )، الذي كانت له مكانة خاصة في المجتمع الإسلامي، من ذكر فضائل عليِّ بن أبي طالب قال ابن عباس لمعاوية:

أتمنع قراءة القران؟ ( يعنى أنّي أتلو الآيات التي وردت في حقِّ علي ).

قال: اقرأ القران ولكن لا تفسر آياته!

لقد قدّر في مثل هذه الظروف أن تُمحى فضائل آل البيت، لاسيما أنّ وسائل الإعلام آنذاك كانت مقتصرةً على هذه المنابر وخطب الصلاة.

ولكن العجيب أنّ فضائل ومناقب آل بيت النبي لم تختفِ، رغم الجوِّ المشحون الذي صنعه المنافقون، وإنّما ملأت كتب الصديق والعدو أيضاً، والأعجب من ذلك أن نشاهد من بين تلك الوثائق التي تدل على فضائلهم، اعترافات صريحة لأشخاص مثل ( معاوية ) و ( عمرو بن العاص )، وبعض الخلفاء المتقدمين، يثبتون بها تلك الفضائل والمناقب، التي كان يتمتع بها آل البيت، علماً أنّ هذه الاعترافات قد أَرّختها أيدي مؤرخيهم على صفحات التاريخ!

وما ذلك إلاّ دليل على مشيئة الله في فضح المنافقين، وإعجاز كبير لأهل بيت العصمة.

٤- أظهر الساعون في محو فضائل آل بيت الرسول الكثير من التعصّب؛ حيث لم يكتفوا بتشويه سمعة أمير المؤمنين علي وأبنائه الكرام، ودرج أسمائهم في القائمة السوداء لأولئك الحاقدين، وإنّما سعوا إلى هدم وتحطيم مكانتهم الاجتماعية، والأَمرّ من ذلك أنّهم عمدوا إلى إلحاق الأذى والإساءة، بكل مَن له علاقة بآل بيت محمد أياً كان نوعها.

فلماذا يصر البعض على رغم الآثار والدلائل التاريخية التي تشير إلى

٣٨

إيمان أبي طالب عم وحامي الرسول بأنّه مات كافراً و مشركاً؟! زاعمين أنّ الآية الشريفة.

( وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْئَوْنَ عَنْهُ ) (١) قد نزلت فيه!

لا لشيء سوى أنّه والد أمير المؤمنين علي.

ولماذا إصرارهم على أنّ ( أبا ذر الغفاري ) ذلك الرجل الشجاع، ذو ( مذهب اشتراكي )، حيث يتهمونه في كتبهم بأنّه يحمل عقائد اشتراكية؟!

ليس إلاّ... كونه من خُلّص أصحاب أمير المؤمنين، ومن المعترضين على الخليفة الثالث في مسألة إتلاف وهدر مال المسلمين.

وهناك الكثير من مثل هذه التساؤلات.

فيا ترى بعد هذه المعاداة، أَلا يعجب المرء من وجود كلِّ هذه الفضائل والمناقب لآل البيت في كتب مخالفيهم؟ أَليس من المعجزة أن تعبر أحاديث تحكي فضائل آل محمد عصوراً وأزمنةً، حارب فيها الحكّام محبي آل البيت بشتى الطرق، حتى أنّهم كانوا يعتبرون تسمية المولود باسم علي جرماً لا يُغتفر؟!

٥ - المثير للدهشة أنّ حذف تلك الفضائل لم يكن منحصراً بالقرون الأُولى للإسلام، أو بعصر بني أمية وبني العباس فقط، ففي العصر الحاضر الذي يُسمّى ( عصر المطالعات والدراسات التاريخية الدقيقة )، حيث طبع الكتب الإسلامية، ونشرها في مختلف الدول الإسلامية؛ لذا فإنّ أيّ تغيير أو تحريف أو حذف للحقائق يسبّب فضيحةً كبيرةً، رغم ذلك نرى

____________________

١ - سورة الأنعام آية ٢٦ ( نقرأ شرحاً مفصّلاً عن هذه التهمة الكبيرة، والدلائل التي تشير إلى بطلانها ) في المجلّد الخامس من ( تفسير الأمثل ) من ص ١٩١ وما بعدها.

٣٩

محقّقون متعصبون! ( إن أمكن الجمع بين التحقيق والتعصّب )، قد انتهجوا نفس أسلوب الأمويين والعباسيين في حذف وتغيير وتحريف الحقائق، ممّا حدا بالعلاّمة ( الأميني ) وهو المحقّق الإسلامي الكبير إلى أن يذكر في كتابه ( الغدير ) بعضاً من النماذج، منها كيف أنّ المؤرّخ المعروف ( الطبري ) حرّف الحديث المربوط بقصة يوم الدار، وتفسير آية( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) ، واستعداد علي للوقوف بجانب رسول الله، وإعلانه بوصاية ووزارة علي من بعده، حرّف كل ذلك رغم سند الحديث المعتبر عند كلِّ المذاهب.

والأسوأ من ذلك ما فعله ( محمد حسين هيكل )، حيث نقل الحديث في الطبعة الأُولى من تاريخه، ثمَّ حذف القسم الأهم من الحديث في الطبعة التالية(١) .

والآن وكما قلنا آنفاً فإنّنا سنذكر مناقب فاطمة الزهراء ومقامها الرفيع، من خلال الأحاديث التي نقلتها كتب العامة المشهورة، وكما ذكرنا أيضاً فسوف لن ننقل أي حديث من مصادر وطرق الشيعة ( رغم أنّها معتبرة جداً ومن الدرجة الأُولى )، فنخلي الميدان لأحاديث الآخرين؛ حتى يتبيّن أنّ تألّق هذه السيدة لا يمكن أن يخفيه الستار الذي ألقاه الحاقدون.

يتمّ التركيز هنا على عشر مباحث تعتبر محاور أصلية للموضوع وأنّ الزهراء:

١- إنّها سيدة نساء العالمين.

٢- حوراء إنسية.

____________________

١. انظر الغدير، ج٢، ص ٢٨٧-٢٩٠.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وهذه النظرية اختارها ابن البطريق (ت ٥٣٣ ـ ٦٠٠ هـ)(١) ، ووافقه عليها غيره .

وإذا ثبت أنّ معنى المولى هو الأولى بالشيء ، يكون ذلك هو المراد من آية الولاية ؛ لأنّه المعنى الوحداني والأصل للفظ الولي ، وتختلف الموارد بحسبها ، فيكون مفاد آية الولاية مفاد قوله تعالى :( النّبِيّ أَوْلَى‏ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) (٢) ، الأولى بالتصرّف ، ويشهد لذلك ما نقله ابن منظور في لسان العرب ، عن ابن الأثر قوله : ( وكأن الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل ، وما لم يجتمع ذلك فيها لم ينطلق عليه اسم الوالي )(٣) ، وقريب من هذا المعنى ما ذكره بعض اللغويين في معاجمهم اللغوية .

الاستدلال على المستوى القرآني :

إنّ الآية المباركة :( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا ) تضمّنت دلالات وافرة لإثبات المطلوب ، ومراعاة للاختصار نكتفي بالإشارة المفهمة لبعض منها :

١ – إنّ صيغة التعبير في الآية الشريفة جعلت الولاية بمعنى واحد ، حيث قال :( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ و ) فلو كانت ولاية الله تعالى تختلف عن ولاية( الّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) لكان الأنسب في التعبير أن تفرد بالذكر ولاية أخرى للمؤمنين ؛ لكي تحول

ـــــــــــــ

(١) عمدة عيون الأخبار ، ابن البطريق : ص ١١٤ ـ ١١٥ .

(٢) الأحزاب : ٦ .

(٣) لسان العرب : ابن منظور : ج ١٥ ص ٤٠٧ ؛ النهاية في غريب الحديث ، ابن الأثير : ج ٥ ص ٢٢٧ .

٦١

دون وقوع الالتباس ، نظير قوله تعالى :( قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (١) ، فكرّر لفظ الإيمان في الموضعين ؛ بسبب تكرّر معنى الإيمان وتغايره فيهما .

إذن لابد أن تكون الولاية في الآية المباركة بمعنى واحد في جميع الموارد التي ذكرت فيها ، وهي الأصالة لله تعالى ، وبالتبع لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وللذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون .

وولاية الله تعالى في الآية المباركة ولاية عامّة وشاملة لولاية التصرف ، والتدبير ، والنصرة وغيرها ، قال تعالى حكاية عن نبيّه يوسفعليه‌السلام :( أنت وليّي في الدّنيا والآخرة ) (٢) ، وقال عزّ وجلّ :( فَمَا لَهُ مِن وَلِيّ مِن بَعْدِهِ ) (٣) ، وغيرها من الآيات الدالة على ذلك .

٢ ـ إنّ الولاية التي هي بالأصل لله عزّ وجلّ جعلها لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتبع ، فلرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الولاية العامّة على الأمة ، من الحكم فيهم ، والقضاء في جميع شؤونهم ، وعلى الأمة التسليم والطاعة المطلقة بلا ضيق أو حرج ، كما في قوله تعالى :( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ ) (٤) ، وقوله تعالى :( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (٥) .

خصوصاً وإنّنا لا نجد القرآن يعدّ النبي ناصراً للمؤمنين ولا في آية واحدة .

ـــــــــــــ

(١) التوبة : ٦١ .

(٢) يوسف : ١٠١ .

(٣) الشورى : ٤٤ .

(٤) النساء : ٥٩ .

(٥) الأحزاب : ٣٦ .

٦٢

وهذا المعنى من الولاية الثابتة لله تعالى ورسوله ، عُطفت عليه ولاية :( الذين آمنوا ) ، وهذا يعني أنّ الولاية في الجميع واحدة ؛ لوحدة السياق وهي ثابتة لله عزّ وجلّ بالأصالة ، ولرسوله وللذين آمنوا بالتبع والتفضّل والامتنان .

إذن الولاية الثابتة في الآية لعليعليه‌السلام هي ولاية التصرّف ، وإنّ معنى الولي في الآية تعني الأولى بالتصرّف ، وممّا يؤكّد ذلك مجيء لفظ ( وليّكم ) مفرداً ونسب إلى الجميع بمعنى واحد ، والوجه الذي ذكره المفسّرون لذلك هو أنّ الولاية ذات معنى واحد ، لله تعالى أصالة ولغيره بالتبع .

الاستدلال على المستوى الروائي :

هناك عدّة من القرائن والشواهد الروائية لإثبات المطلوب :

أوّلاً : لو كانت الولاية الثابتة لعلي بن أبي طالبعليه‌السلام بمعنى النصرة ، لما وجد فيها مزيد عناية ومزيّة ومدح لعليعليه‌السلام ؛ لأنّها موجودة بين جميع المؤمنين :( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضَهُمْ أَولِياءُ بَعْضٍ ) (١) ، وعليعليه‌السلام كان متصفاً بهذه المحبّة والنصرة للمؤمنين منذ أن رضع ثدي الإيمان مع صنوه المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولكن لو أمعنّا النظر في الروايات الواردة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقيب

ـــــــــــــ

(١) التوبة : ٧١ .

٦٣

نزول آية الولاية ، لوجدنا أنها تثبت مويّة ومنقبة عظيمة لعليعليه‌السلام ، ففي الرواية أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال بعد نزول الآية :( الحمد لله الذي أتمّ لعلي نعمه ، وهيّأ لعلي بفضل الله إيّاه ) (١) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد نزول الآية أيضاً :( مَن كنت مولاه فعلي مولاه ، اللّهمّ والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ) (٢) ، إذاً في الآية الكريمة مزيد عناية تفترق عن تولّي المؤمنين بعضهم لبعض ، وليس تلك المزيّة العظيمة إلاّ ولاية التصرّف والإمرة .

ثانياً : إنّ الولاية التي خصّها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليعليه‌السلام يوم غدير خم ، هي ولاية تدبير وتصرّف ؛ لأنّها نفس ولاية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا ما نلمسه من كيفية إعلان الولاية من قِبلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث قال :( ألست أولى بكم من أنفسكم ) ، وهذه الولاية ـ التي هي ولاية تصرّف ـ هي نفسها الولاية التي تثبتها الآية الشريفة :( إنّما وليّكم ... ) لعليعليه‌السلام .

من هنا نجد أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقّب ـ بعد نزول آية الولاية في حقّ عليعليه‌السلام ـ بقوله :( مَن كنت مولاه فعلي مولاه اللّهم والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ) ،

ـــــــــــــ

(١) الدر المنثور ، السيوطي : ج ٣ ص ١٠٦ .

(٢) مسند أحمد : ج ١ ص ٨٤ ، ص ١١٨ ، ص ١١٩ ، ص ١٥٢ ، ص ٣٣١ ، ج ٤ ص ٢٨١ ، ص ٣٧٠ ، ص ٣٧٢ ، ج ٥ ص ٣٤٧ ، ص ٣٦٦ ، ص ٣٧٠ ، سنن ابن ماجه : ج ١ ، ص ٤٣ ح ١١٦ ؛ الترمذي : ج ٥ ص ٢٩٧ ؛ المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٠٩ ـ ١١٦ ، ص ١٣٤ ، ص ٣٧١ ، ص ٥٣٣ ؛ مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٧ ص ١٧ ، ج ٩ ص ١٠٤ ـ ص ١٠٨ ص ١٦٤ ؛ وقال فيه : ( عن سعيد بن وهب رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ) ؛ فتح الباري : ج ٧ ص ٦١؛ وقال فيه : ( فقد أخرجه الترمذي والنسائي وهو كثير الطرق جداً ، وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد ، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان ) ؛ صحيح ابن حبان : ج ١٥ ص ٣٧٦ وما بعد ، وغير ذلك من المصادر الكثيرة جداً ؛ فراجع .

٦٤

وهذا يكشف عن كون الولاية ولاية تصرّف ، لا سيّما إذا أخذنا بنظر الاعتبار ذلك الحشد المتنوع من الروايات الذي يؤكّد على علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، ويقرن طاعته بطاعة الله ورسوله ، كل ذلك يكشف عن أن ولايتهعليه‌السلام هي ولاية التصرّف ، وأنّه الأولى بالتصرّف ؛ لذا قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حق عليعليه‌السلام :( مَن أطاعني فقد أطاع الله ، ومَن عصاني فقد عصى الله ، ومَن أطاعك فقد أطاعني ، ومَن عصاك فقد عصاني ) ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(١) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( مَن يريد أن يحيا حياتي ويموت موتي ويسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي ؛ فليتولّ علي بن أبي طالب فإنّه لن يخرجكم من هدى ولن يدخلكم في ضلالة ) ، قال الحاكم أيضاً : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(٢) .

وعن عبد الرحمان بن عثمان قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو آخذ بضبع علي بن أبي طالب ، وهو يقول : (هذا أمير البررة ، قاتل الفجرة ، منصور مَن نصره مخذول مَن خذله ، ثم مدّ بها صوته ) ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(٣) .

وغيرها الكثير من الروايات التي تشاركها بالمضمون ذاته .

ثالثاً : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب من الله تعالى أن يشدّ عضده بأخيه

ـــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج٣ ص ١٢٨ ، تاريخ مدينة دمشق : ابن عساكر : ٤٢ : ص ٣٠٧ .

(٢) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٢٨ ـ ١٢٩ .

(٣) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٢٩ .

٦٥

عليعليه‌السلام ، كما شدّ الله تعالى عضد موسىعليه‌السلام بأخيه هارونعليه‌السلام ، فنزلت الآية :( إنّما وليّكم ) بشرى لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بجعل عليعليه‌السلام وليّاً وخليفة من بعده ، وهذا يدلل على أنّ الولاية لعليعليه‌السلام لم تكن مجرّد نصرة ومحبّة ، بل كانت ولاية أولوية بالأمر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما هو الحال في هارونعليه‌السلام ، باعتبار أولويته بالأمر والإمرة بعد موسىعليه‌السلام ، عندما خلّفه في قومه .

رابعاً : احتجاج أمير المؤمنينعليه‌السلام على أولويته بالأمر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بآية الولاية ، حيث قالعليه‌السلام مخاطباً لجمع من الصحابة في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أنشدكم الله : أتعلمون حيث نزلت : ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) ، وحيث نزلت : ( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، وحيث نزلت : ( وَلَمْ يَتّخِذُوا مِن دُونِ اللهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ) ، قال الناس : يا رسول الله : أخاصّة في بعض المؤمنين ، أم عامة لجميعهم ؟ فأمر الله عزّ وجل نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعلمهم ولاة أمرهم ، وأن يفسّر لهم من الولاية ما فسّر لهم من صلاتهم ، وزكاتهم ، وحجّهم ، فنصبني للناس بغدير خم ) (١) وهذا يكشف عن كون المراد بالآية هو الأولى .

وبذلك يتحصّل أنّ معنى الولي هو الأولى بالتصرّف ، وأنّ الآية بصدد جعل الولاية لعليعليه‌السلام بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ـــــــــــــ

(١) المناقب ، ابن المغازلي الشافعي : ص ٢٢٢ ، فرائد السمطين : ج ١ ص ٣١٢ ، ينابيع المودّة للقندوزي : ج ١ ص ٣٤٦ ، شواهد التنزيل ، الحسكاني : ج ٢ ص ٢٩٥ ، فرائد السمطين : ج ١ ص ٣١٢ .

٦٦

كيف تستدلّ الشيعة بشأن النزول ؟

الشبهة :

الشيعة يستدلّون بشأن نزول آية الولاية على الإمامة ؟

الجواب :

بعد أن أطبقت الأمّة وأجمع المحدّثون والمفسّرون على نزول الآية المباركة في الإمام عليعليه‌السلام مع صراحة الآية في إثبات الولاية ، ومباركة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للإمام عليعليه‌السلام بقوله :( الحمد لله الذي أتمّ لعلي النعمة ) ، لا يبقى أي مجال لمثل هذه التشكيكات والشبهات ، سواء كان الاستدلال بالآية استدلالاً مباشراً ، أم كان عن طريق شأن النزول ، الذي هو عبارة عن الأحاديث المتواترة والصحيحة والصريحة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي أمرنا الله تعالى بالتمسّك بها بقوله :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (١) ، وعليه فلا ينبغي التهاون والتقليل من شأن هذه الأحاديث القطعيّة ، كما يظهر ذلك من كلام صاحب الشبهة .

ويمكن أن نحقق استيعاباً جيداً لمسألة ولاية علي بن أبي طالبعليه‌السلام ؛ وذلك من خلال الآيات القرآنية والنصوص النبوية التي تعرّضت لبيان هذا المعنى ، فضلاً عمّا أشاعته آية الولاية من مناخ سائد حيال هذه المسألة ، من تقديم التهاني والتبريكات من قِبل الصحابة إلى عليعليه‌السلام الصحابة وإنشاد الشعر والمديح بهذه المناسبة العظيمة ، وهذا يكفي لسدّ كل منافذ الريب والتشكيك ، ومعالجة ما يطرأ على الأذهان من التباسات .

ـــــــــــــ

(١) الحشر : ٧ .

٦٧

الخلاصة

لا مجال لمثل هذه التشكيكات ، بعد أن أجمعت الأمة على نزول الآية في شأن عليعليه‌السلام ، وسواء كان الاستدلال بالآية ذاتها أم من طريق شأن النزول الثابت قطعاً كونه بخصوص عليعليه‌السلام فهو يثبت المطلوب ، ولا معنى للإصغاء لمثل هذه الأوهام .

المعروف أنّ عليّاً فقير فكيف يتصدّق ؟

الشبهة :

إنّ علياً كان فقيراً فكيف يتصدّق بالخاتم إيتاءً للزكاة ؟

الجواب :

ما أكثر المدّعيات التي تُرفع من دون أي دليل ولا برهان يدعمها ، ومن أغرب المدّعيات التي تُثار للتشكيك في صحّة نزول آية الولاية في الإمام عليعليه‌السلام هذا الإشكال الآنف الذكر ، إلا أنّنا توخّياً لدرء مثل هذه التشكيكات التي تطرأ على بعض الأذهان نقول :

أوّلاً : إنّ لفظ الزكاة لغةً شامل لكل إنفاق لوجه الله تعالى ، ونلمس هذا المعنى في عدّة من الآيات المباركة ، وكقوله تعالى:( وَأَوْصَانِي بِالصّلاَةِ وَالزّكَاةِ مَادُمْتُ حَيّاً ) (١) ، وكذا ما قاله القرآن بحق إبراهيم وإسحاق ويعقوبعليهم‌السلام :( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزّكَاةِ ) (٢) ، وغيرها من الآيات التي تشاركها في المضمون ، ومن المعلوم أنّه ليس في شرائعهمعليهم‌السلام الزكاة المالية المصطلحة في الإسلام .

ـــــــــــــ

(١) مريم : ٣١ .

(٢) الأنبياء : ٧٣ .

٦٨

ومن هنا فقد استعمل القرآن لفظ الزكاة في الآية الشريفة بمعناها اللغوي الشامل لكل إنفاق لوجه الله تعالى أي الزكاة المستحبّة ( زكاة تطوّع ) ؛ ولذا نرى أنّ الجصاص ـ في أحكام القرآن ـ فهم أنّ المراد بالزكاة في الآية ، هي زكاة التطوّع ، حيث قال : ( قوله تعالى :( وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، يدلّ على أنّ صدقة التطوّع تسمّى زكاة ؛ لأنّ عليّاً تصدّق بخاتمه تطوّعاً ، وهو نظير قوله تعالى :( وَما آتَيْتُم مِن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ) (١) .

ثانياً : لو فرضنا أنّ المراد من الزكاة في الآية هي الزكاة الواجبة ، فليس من الغريب أن يمتلك الإمام عليعليه‌السلام أوّل نصاب من مال الزكاة وهو مقدار (٢٠٠ درهم) ، ومَن ملك ذلك لا يعدّ غنيّاً ، ولا يُطلق عليه اسم الغني شرعاً .

ثالثاً : بعد أن ثبت نزول الآية في الإمام عليعليه‌السلام بإجماع الأمة واتفاق المفسّرين والمحدّثين ، ولم ينكر أحد على الإمام عليعليه‌السلام تصدّقه بالخاتم ، وإنّما الكل فهم المزيّة والكرامة لهعليه‌السلام لا يبقى أي مجال للإنكار والتشكيك .

ومن هنا نلاحظ أنّ الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بادر المباركة للإمام عليعليه‌السلام عقيب نزول الآية الكريمة ، وقام الشعراء بإنشاء القصائد الطافحة بالمديح والثناء على الإمام عليعليه‌السلام ، كل ذلك نتيجة طبيعية للمناخ الذي أشاعته الآية في أوساط المسلمين ، من إثبات الولاية للإمام عليعليه‌السلام ، فإذا ثبت نزول الآية في الإمام عليعليه‌السلام بالدلائل والبيّنات القاطعة لا معنى للاستنكار والتشكيك ، خصوصاً وأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حمد الله على هذه النعمة التي اتمّها لعليعليه‌السلام ، وبارك الصحابة بأقوالهم وأشعارهم للإمام عليعليه‌السلام تلك المنقبة .

ـــــــــــــ

(١) أحكام القرآن ، الجصاص : ج ٢ ص ٥٥٨ .

٦٩

الخلاصة

١ – إنّ لفظ الزكاة شامل لكلّ إنفاق لوجه الله تعالى واستعملها القرآن بذلك .

٢ ـ لو سلّمنا أنّ لفظ الزكاة في الآية استعمل في الزكاة الواجبة التي هي أقلّ نصابها ٢٠٠ درهم ، فإنّ مَن يملك هذا المبلغ لا يُعدّ غنيّاً شرعاً .

٣ – قام الإجماع على نزول آية الولاية في حق الإمام عليعليه‌السلام ، ولم ينكر أحد آنذاك ما استنكره صاحب الشبهة ، بل أنشد الشعر والمديح والثناء على الإمام عليعليه‌السلام ، مع مباركة الصحابة .

آية البلاغ تدلّ على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبلّغ سابقاً

الشبهة :

إنّ استدلال الشيعة بآية البلاغ على الإمامة يبطل كل الاستدلالات السابقة التي يستدلّون بها ؛ لأنّ آية البلاغ مدنية ، فتدل على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبلّغ سابقاً .

الجواب :

أوّلاً : لابد أن نفهم كيفية تعاطي الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المفاهيم والمبادئ الإسلامية المهمّة التي تمثّل الأساس في منظومة الدين الإسلامي ، والتي ينبغي التأكيد عليها من قِبلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر من غيرها ، ومن جملة المفاهيم الأساسية هي الإمامة ، حيث نلمس غاية الانسجام ومنتهى الملائمة بين جميع البيانات السابقة لإثبات الإمامة والتنصيص عليها ، فكل تلك المواقف والبيانات كانت تتناسب مع خطورة وأهميّة مبدأ كمبدأ الإمامة والولاية بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلابد من تأسيسه وتشييد أركانه وجعله وعياً إسلامياً عاماً ، وآية البلاغ جاءت ضمن ذلك السياق وتلك الخلفية ، فهي نزلت في ذلك الظرف لتحمل في طيّاتها العديد من الأمور المهمّة التي تتعلّق بحقيقة الإمامة ، منها :

٧٠

١ ـ أنّها جاءت لتصرّح بقضية مهمة جداً ، وهي أنّ ترك تنصيب علي بن أبي طالبعليه‌السلام للولاية مساوق لترك تبليغ الرسالة بأكملها ، وهذا ما يتجلّى واضحاً عند التأمّل في الآية :( وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ ) (١) ، وعلى ضوء ذلك تعرف السر في نزول هذه الآية المباركة في أواخر حياة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث تكشف عن أهمية الإمامة والولاية في المنظومة الدينية ، ومن هذا المنطلق يظهر لك سبب ذلك الحشد المتنوّع من النصوص القرآنية والروائية التي تؤكّد على ضرورة وأهمية موقع الإمامة في الإسلام بأجمعه ؛ ذلك لكي ينطلق الإسلام في قيادة جديدة تكون في جميع مجالاتها وآفاقها امتداداً للقيادة النبوية ، لتبقى المسيرة مستمرة والرسالة محفوظة .

وممّا يؤكّد أهمية الإمامة والولاية هو ما نجده واضحاً في أقوال الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد تبليغ مقام الولاية وتعيين الولي للناس ، حيث قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( فليبلّغ الشاهد الغائب ) (٢) ، فإنّ اهتمامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشديد في إيصال خطابه الشريف إلى جميع المسلمين يكشف عن خطورة الأمر ، وأنّه ممّا تتوقّف عليه ديمومة الإسلام .

بالإضافة إلى ما يكتنف الآية المباركة من القرائن الحالية الكثيرة والواضحة الدالة على أهمية هذا الأمر ، وتأثيره المباشر على مسيرة الإسلام ، كنزولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حرّ الهجير والسماء صافية ، والمسلمون واقفون على الحصباء والرمضاء التي كادت تتوقّد من حرارة الشمس ، حتى أنّه نقل الرواة من حفّاظ الحديث وأئمّة التاريخ أنّه لشدّة الحر وضع بعض الناس ثوبه على رأسه ، وبعضهم استظلّ بمركبه ، وبعضهم استظلّ بالصخور ، ونحو ذلك .

ـــــــــــــ

(١) المائدة : ٦٧ .

(٢) كما جاء ذلك في أكثر المصادر الروائية والتفسيرية التي نقلت حديث الغدير ، وقد ذكر ابن حجر أنها (قد بلغت التواتر) ، لسان الميزان ، ابن حجر العسقلاني : ج ١ ص ٣ .

٧١

وكذلك أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برجوع مَن تقدّم ، وتقدّم مَن تأخّر .

مضافاً إلى حضور ذلك الجمع الغفير من الصحابة والمسلمين الذين حضروا لأداء مناسك الحج من سائر أطراف البلاد الإسلامية ، وغير ذلك من الأمور التي تدل على خطورة الأمر وأهميته .

٢ ـ إنّ آية البلاغ التي بلّغها الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أواخر حياته ، جاءت تحمل في طيّاتها الإشارة إلى قضية مهمة جداً في الدين الإسلامي ، وهي تحديد معالم أطروحة الإمامة في الإسلام ، مؤكّدة على أنّ الإمامة شاملة لكل الأبعاد القيادية السياسية منها والحكومية والمرجعية وغيرها ، وأنّ منصب الخلافة والحكومة يمثّل أحد أبعاد الإمامة ، وهذا هو موضع النزاع مع أتباع مدرسة الخلفاء ، حيث إنّهم يختزلون دور الإمام في الحاكمية فقط ، فإذا لم يستلم الحكومة لا يكون إماماً ، على خلاف معتقد الشيعة الإمامية الاثني عشرية ، التي تعتقد أنّ منصب الحاكمية يمثّل أحد أبعاد الإمامة لا جميعها .

٣ ـ إنّ آية البلاغ جاء تبليغها بصيغة الإعلان الرسمي للولاية والإمامة والتتويج العام للإمام عليعليه‌السلام أمام المسلمين ، ويشهد لذلك كيفية التبليغ ، حيث جمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس وأمر أن يردّ مَن تقدم منهم ومَن تأخّر عنهم في ذلك المكان ، وجمعت لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقتاب الإبل وارتقاها آخذاً بيد أخيه عليعليه‌السلام معمّماً له أمام الملأ صادعاً بإبلاغ الولاية ، ثم إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب بنفسه البيعة من الناس لعليعليه‌السلام ، وبادر الناس لبيعتهعليه‌السلام وسلّموا عليه بإمرة

٧٢

المؤمنين ، وهنّأوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّاًعليه‌السلام ، وأوّل مَن تقدّم بالتهنئة والبخبخة ، أبو بكر ثم عمر بن الخطاب وعثمان و...(١) ، وقد روى الطبري في كتابه الولاية بإسناده عن زيد بن أرقم أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( قولوا أعطيناك على ذلك عهداً من أنفسنا ، وميثاقاً بألسنتنا ، وصفقة بأيدينا ، نؤدّيه إلى أولادنا وأهلنا لا نبتغي بذلك بدلا ) (٢) .

ثم استئذان حسان بن ثابت من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لنظم أبيات في الواقعة تدل على أنّه لم يفهم من الحديث غير معنى الخلافة والولاية .

وكذلك يؤكّد كل ما قلناه احتجاج أمير المؤمنين عليعليه‌السلام بحديث الغدير في مواضع عديدة ، حيث كان يحتج على أولئك الذين تركوا وصيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقولهعليه‌السلام : (أنشدكم بالله أمنكم مَن نصّبه رسول الله يوم غدير خُم للولاية غيري ؟ قالوا : اللهم ، لا ) ، وفي موضع آخر ( قال :أنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مَن كنت مولاه ، فعلي مولاه ، اللّهمّ والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ، وانصر مَن نصره ، ليبلغ الشاهد الغائب ، غيري ؟ قالوا : اللّهمّ ، لا )(٣) .

ـــــــــــــ

(١) مسند أحمد : ج ٤ ص ٢٨١ ؛ المعيار والموازنة ، الإسكافي : ص ٢١٢ ؛ المعجم الكبير ، الطبراني : ج ٥ ص ٢٠٣ ؛ فيض القدير شرح الجامع الصغير : ج ٦ ص ٢٨٢ ح ١٢٠ ؛ تذكرة الخواص ، ابن الجوزي : ص ٣٦ ؛ نظم درر السمطين : ص ١٠٩ ؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١٣ ص ١٣٤ ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ٥ ص ٨ ؛ المصنف لابن أبي شيبة الكوفي : ج ٧ ص ٥٠٣ ؛ شواهد التنزيل : الحاكم الحسكاني : ج ١ ص ٢٠٠ ؛ ثمار القلوب : ص ٦٣٧ ؛ وغيرها .

(٢) كتاب الولاية : محمد بن جرير الطبري : ص ٢١٤ ـ ٢١٦ .

(٣) انظر : مسند أحمد : ج ١ ص ٨٤ ؛ ج ٤ ص ٣٧٠ ؛ ج ٥ ص ٣٧٠ ؛ مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٩ ص ١٠٤ ، ص ١٠٧ ؛ المصنف ، أبي شيبة الكوفي : ج ٧ ص ٤٩٩ ؛ كتاب السنّة : عمرو بن أبي عاصم : ص ٥٩١ ، ص ٥٩٣ ؛ خصائص أمير المؤمنين ، النسائي : ص ٩٦ ؛ مسند أبي يعلى : ج ١ ص ٤٢٨ ـ ٤٢٩ ح ٥٦٧ ؛ ج ١١ ص ٣٠٧ ح ٦٤٢٣ ؛ المعجم الصغير : الطبراني : ج ١ ص ٦٤ ـ ٦٥ ؛ المعجم الأوسط : ج ٢ ص ٣٢٤ ؛ المعجم الكبير : ج ٥ ص ١٧١ ؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١١ ص ٣٣٢ ؛ الصواعق المحرقة ، ابن حجر الهيتمي : ص ١٩٥ ؛ وغيرها .

٧٣

٤ ـ لم يكتف الله تبارك وتعالى بكل البيانات السابقة من النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أنزل في ولاية عليعليه‌السلام تلك الآيات الكريمة تتلى على مرّ الأجيال بكرةً وعشيّاً ؛ ليكون المسلمون على ذكر من هذه القضية في كل حين ، وليعرفوا رشدهم والمرجع الذي يجب عليهم أن يأخذوا عنه معالم دينهم ويتبعوه في قيادته .

٥ ـ لو اقتصر في تبليغ الإمامة على تلك البيانات الخاصة للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمقتصرة على حضور بعض الصحابة ؛ لضاعت وأصبحت روايات ضعافاً ، ولما وصلت إلينا بشكل واضح ومتواتر كما جاءتنا آيات وروايات البلاغ ؛ وذلك بسبب منع تدوين حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عهد الخلفاء ، ولتولّي بني أمية وأعداء أهل البيتعليه‌السلام تدوين الحديث فيما بعد .

الخلاصة

أوّلاً : إنّ تعاطي القرآن الكريم والرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المفاهيم الأساسية في الإسلام ـ كالإمامة ـ يختلف عن غيرها من المفاهيم الأخرى ؛ ولذا نجد أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكّد عليها مراراً وشيّد أركانها ، مستثمراً كل مناسبة يمكن استثمارها في ذلك ، ومن هنا نلتمس أسباب كثرة البيانات والتصريحات المتكرّرة من الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وذلك لكي يكون الاهتمام والتبليغ متناسباً مع أهمية ذلك الأمر ؛ ولذا نرى الانسجام والملائمة بين التبليغات النبوية ، والآيات القرآنية الواردة في هذا الصدد ، وبالخصوص آية البلاغ التي جاءت ضمن الاهتمامات القرآنية بمسألة الإمامة ، وقد حملت آية البلاغ العديد من المعطيات المهمة في مسألة الإمامة ، منها:

١ ـ إنّ الآية المباركة جاءت لتبيّن أنّ ترك تنصيب الإمام عليعليه‌السلام للولاية مساوق لترك تبليغ الرسالة بأجمعها ، كما هو واضح من قوله تعالى :( وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ ... ) وممّا يؤكّد أهمية هذا التبليغ للإمامة ملاحظة الظروف التي رافقت عملية التبليغ من شدّة الحرّ ، وأمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برجوع المتقدّم ولحوق المتأخّر ، والجمع الغفير الذي حضرها ، كل ذلك يدل على أهمية الأمر وخطورته .

٧٤

٢ ـ إنّ تبليغ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للآية في أواخر حياته جاء مؤكّداً على بيان أطروحة الإمامة في الإسلام ، وأنّها شاملة لكل الأبعاد القيادية السياسية والدينية والحقوقية والقضائية ، وأنّ منصب الخلافة والحكومة يمثّل أحد أبعاد الإمامة ، وهذا هو محل النزاع بين السنّة والشيعة ، حيث إنّ السنّة يختزلون دور الإمام في الحاكمية فقط .

٣ ـ إنّ آية البلاغ جاءت بصيغة الإعلان الرسمي لولاية الإمام عليعليه‌السلام كما هو واضح من خلال عملية التنصيب وطريقته ومباركة الصحابة له بالولاية وإنشاء الشعر ونحوها ، وكذلك احتجاجهعليه‌السلام بحديث الغدير في مناسبات عديدة على أحقّيّتهعليه‌السلام في الخلافة .

ثانياً : إنّ الله تعالى لم يقتصر على أمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتبليغ لولاية الإمام عليعليه‌السلام ، بل هنالك عدّة من الآيات جاءت مؤكّدة لتلك الولاية لتتلى بكرةً وعشياً على مرّ الأجيال ، وتكون شاهدة وحجّة عليهم .

ثالثاً : لو اقتصر في تبليغ الولاية على البيانات الخاصة المقتصرة على حضور بعض الصحابة ، سوف يُعرّضها ذلك للضياع ، لا سيّما مع ملاحظة منع تدوين السنّة ، أو تكون من الأخبار الضعاف ، ولذا كان تبليغها في واقعة الغدير كفيلاً بأن يجعلها تصل إلى حدّ التواتر وإجماع المسلمين ، الذي لا يمكن تجاوزه .

لا وجود لاسم علي في القرآن

الشبهة :

إنّ القرآن الكريم لم ينص على إمامة عليعليهم‌السلام وإلاّ لذكر اسمه فيه .

٧٥

تمهيد:

لكي تكون الإجابة واضحة لابد من الالتفات إلى نقطتين أساسيتين ، هما :

الأُولى : القرآن تبيان لكل شيء

لا ريب أن القرآن هو الكتاب المنزل لهداية الناس فيه تبيان كل شيء ، والسنّة النبوية مفصّلة ومبيّنة له ، قال تعالى :( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ ) (١) ، فأحدهما مكمّل للآخر ، والإسلام كلّه ، من عقائد وأحكام وسائر علومه وأُصوله موجود في القرآن الكريم ، أمّا شرحه وتفسيره وتجسيده ، فنجده في سنّة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خلال حديثه وسيرته المباركة ؛ ولذا نجد أنّ الله تعالى قرن طاعته بطاعة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما في قوله تعالى :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) (٢) ، وقوله عزّ وجلّ :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ) (٣) ، وكذلك قرن معصية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعصيته تعالى ، حيث

ـــــــــــــ

(١) النحل : ٤٤ .

(٢) النساء : ٥٩ .

(٣) الأنفال : ٢٠ .

٧٦

قال :( وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنّ لَهُ نَارَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فَيهَا أَبَداً ) (١) ، وقوله تعالى :( فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّي بَرِي‏ءٌ مّمّا تَعْمَلُونَ ) (٢) ، وقال تعالى أيضاً :( فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّى‏ يُحَكّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُوا تَسْلِيماً ) (٣) ، وغيرها من الآيات الكريمة .

الثانية : يجب اتباع ما أمر به الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

إنّ الله تعالى لم يجعل الخيرة للمؤمنين فيما يقضي الله ورسوله به ، كما في قوله تعالى :( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً مّبِيناً ) (٤) ، وبيّن الله تعالى أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّة على الخلق في قوله وفعله ، وأنّ الله جعله إماماً يقتدى به ، فقال تعالى :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٥) ، وقال أيضاً :( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) (٦) ، وهذه مفردة مهمة جداً يجب الالتفات إليها جيداً .

وهناك روايات كثيرة متضافرة تؤكّد وتحث على الأخذ بسنّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتنهى عن الإعراض عن سنّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاكتفاء بالقرآن وحده ، وكان ذلك رائجاً ومعرفاً في أقوال الصحابة وتعاملهم ، من ذلك ما ورد في صحيح البخاري عن علقمة ، عن عبد الله قال : ( لعن الله الواشمات

ـــــــــــــ

(١) الجن : ٢٣ .

(٢) الشعراء : ٢١٦ .

(٣) النساء : ٦٥ .

(٤) الأحزاب : ٣٦ .

(٥) الحشر : ٧ .

(٦) النجم : ٣ ـ ٤ .

٧٧

الموتشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن ، المغيّرات خلق الله ، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها : أم يعقوب ، فجاءت فقالت : إنّه بلغني أنّك لعنت كيت وكيت ، فقال : ومالي لا ألعن مَن لعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومَن هو في كتاب الله ، فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول ، قال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه ، أما قرأت :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (١) ؟ قالت : بلى ، قال : فإنّه قد نهى عنه )(٢) ، وكذا وردت هذه الرواية بنصها في صحيح مسلم(٣) .

ومن الروايات التي وردت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا المجال ، ما جاء في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه ، ومسند أحمد عن أبي عبد الله بن أبي رافع عن أبيه أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري ممّا أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا ندري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ) (٤) ، وفي مسند أحمد بلفظ( ما أجد هذا في كتاب الله ) (٥) .

ومنها ما ورد في مسند أحمد أيضاً ، عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا أعرفنّ أحداً منكم أتاه عنّي حديث وهو متكئ في أريكته ،

ـــــــــــــ

(١) الحشر : ٧ .

(٢) صحيح البخاري : ج ٣ ص ٢٨٤ ح ٤٨٨٦ .

(٣) صحيح مسلم : ج ٣ ص ١٦٧٨ ح ٢١٢٥ باب تحريم فعال الواصلة والمستوصلة .

(٤) انظر : سنن أبي داود السجستاني ، باب لزوم السنّة : ج ٤ ص ٢٠٥ ح ٤٦٠٥ ؛ سنن الترمذي : ج ٤ ص ١٤٤ ح ٢٨٠١ ، كتاب العلم ؛ باب ما نهى عنه ؛ سنن ابن ماجه ، المقدّمة : ج ١ ص ٦ ـ ٧ ، باب تعظيم حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتغليظ على مَن عارضه .

(٥) مسند أحمد : ج ٦ ص ٨ .

٧٨

فيقول : أتلوا عليّ به قرآناً ) (١) ، وقال حسان بن ثابت ، كما في مقدّمة الدارمي : ( كان جبريل ينزل على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسنّة كما ينزل عليه بالقرآن )(٢) ، إلى غير ذلك من الروايات والأقوال ، وإنّما هذه نبذة عمّا ورد في الحثّ على الأخذ بسنّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنهي عن مخالفته والتشديد على مَن يهمل السنّة بحجة الاكتفاء بكتاب الله .

وعلى هذا الأساس يتضح أنّ جميع أحكام الإسلام موجودة في القرآن الكريم ، إلاّ أنّه لا يمكن معرفة تفاصيلها والوقوف على حقائقها من دون الرجوع إلى سنّة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّنا في إقامة الصلاة ـ مثلاً ـ لا نعرف كيف نصلّي من دون أن نأخذ من حديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيفيّتها وشروطها وعدد ركعاتها وسجداتها وأذكارها ومبطلاتها ، وكذلك في الحج ، حيث لا يمكن أداء مناسكه من دون الرجوع إلى سنّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستيضاح شروطه وواجباته ومواقيته وأشواط الطواف وصلاته ، وتفاصيل السعي والتقصير وسائر مناسك الحج الأخرى .

إذن لابدّ من الرجوع إلى القرآن والسنّة النبوية معاً لأخذ تعاليم الإسلام منهما ، أمّا مَن أراد الاكتفاء بالقرآن وحده دون السنّة ، فأدنى ما نقول بحقّه : إنّه جاهل بما ورد في القرآن نفسه ، الذي يدعو لإطاعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٣) ، وقد قال الألباني في هذا المجال : ( فحذار أيّها المسلم أن تحاول فهم القرآن مستقلاً

ـــــــــــــ

(١) مسند أحمد : ج ٢ ص ٣٦٧ ؛ سنن ابن ماجه ، المقدمة : ج ١ ص ٩ ـ ١٠ ح ٢١ ، باب تعظيم حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتغليظ على مَن عارضه .

(٢) سنن الدارمي ، المقدّمة : ج ١ ص ١٤٥ ، باب السنّة قاضية على كتاب الله .

(٣) الحشر : ٧ .

٧٩

عن السنّة ، فإنّك لن تستطيع ذلك ولو كنت في اللغة سيبويه زمانك )(١) ، فمقولة حسبنا كتاب الله مقولة مخالفة لصريح القرآن الكريم .

الجواب :

بعد تلك الإطلالة السريعة نقول لصاحب الشبهة بأنّ عدم ذكر اسم عليعليه‌السلام صريحاً في القرآن يرجع إلى الأسباب التالية :

أوّلاً : عدم ذكر الاسم لحكمة إلهيّة

إنّ عدم ذكر اسم علي في القرآن لعلّه لحكمة إلهية خفيت علينا ، إذ ما قيمة عقولنا كي تحيط بكل جوانب الحكم والمصالح الإلهية ، فكم من الأمور التي قد خفيت أو أُخفيت علينا مصالحها ، قال تعالى :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) (٢) ، والاعتراض على حكم الله تعالى خلاف التسليم والخضوع لأمره عزّ وجلّ .

ثانياً : الرسول الأكرم نصّ على إمامة عليعليه‌السلام

إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نصّ على إمامة علي أمير المؤمنينعليه‌السلام باسمه الصريح كما في حديث الغدير المتواتر ، وحديث الدار ، وحديث المنزلة ، وغيرها في مواطن كثيرة جداً ، فإذا ثبت هذا بشكل قاطع عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو القرآن الناطق الذي لا ينطق عن الهوى ، وقد أقام الحجّة علينا بأنّ الإمام بعده عليعليه‌السلام تثبت إمامته بلا ريب ، وإذا لم يذكر القرآن اسم عليّ

ـــــــــــــ

(١) صفة صلاة النبي ، الألباني : ص ١٧١ .

(٢) المائدة : ١٠١ .

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173